صوت و فیلم

صوت:
,

فهرست مطالب

الجلسة الثالثة: الوحدة حول محور الحق

تاریخ: 
يكشنبه, 24 مرداد, 1389

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 15 آب 2010م الموافق للیلة الخامسة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

الوحدة حول محور الحقّ

تقویة الحقّ هو هدفنا من الوحدة

لقد طرحنا فی المحاضرتین الماضیتین مباحث حول الوحدة والاتّحاد، قلنا فیها إنّ قیمة الوحدة منوطة بقیمة الهدف الذی اوجدت من أجله. فإن كان هدف الوحدة هو تحقّق حقٍّ ما فسیكون لحفظ هذه الوحدة من القیمة بمقدار ما لذلك الحقّ منها، وعلى العكس؛ فإن اُنجزت الوحدة فی سبیل إبطال حقّ أو تحقّق باطل، فلن تكون عدیمة القیمة فحسب، بل سیكون لها من القیمة السلبیّة ما یعادل القیمة السلبیّة لذلك الباطل.
الملاحظة الاُخرى التی تستحقّ الاهتمام هنا هی أنّ الاتّحاد والانسجام إنّما یتیسّران على صعید السلوك، وإلاّ فمن غیر الممكن أن نؤسّس مبنانا على اتّباع الغیر فیما یتعلّق بالفكر والعقیدة والإیمان؛ بالضبط كما أنّه لا معنى للإكراه فی الدین، سواء كان حقّا أم باطلاً. وإذا اتّفق أن حصل الإكراه فإنّه سیكون على إنجاز عمل أو تركه؛ فغایة ما یستطیع المُكرِه فعله هو منع المقابل من العمل بما یعتقد به، أو إكراهه على القیام بما یخالف مقتضى اعتقاده. فقصّة یاسر وسمیّة وعمّار هی أنّهم قد اُكرهوا من قبل المشركین على التبرّی من الإسلام؛ لكنّه لم یتمكّن المشرکون من سلبهم ما یعتقدون به. فیاسر وسمیّة قد صمدا وقاوما ولم یبدیا استعداداً لإظهار البراءة من الإسلام، فعمد المشركون بدورهم إلى قتلهم. أمّا عمّار فقد أظهر البراءة باللسان فأنقذ حیاته؛ لكنّه كان فی غایة الاضطراب من أنّ فعله هل كان صحیحاً أم لا. وقد أتى رسول الله (صلّى الله علیه وآله) وهو فی حالة الاضطراب تلك فقال له: «أخشى أن أكون قد هلكت»، وروى للنبیّ (صلّى الله علیه وآله) ما جرى، فنزلت الآیة الكریمة: «مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِیمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِیمَانِ»1. فقال رسول الله (صلّى الله علیه وآله) ما مضمونه: «حسناً فعلت؛ فقد عملت بالتقیّة وأنقذت حیاتك من دون أن یطرأ على إیمانك أیّ شكّ أو اضطراب».
فلا یمكن تغییر العقیدة القلبیّة من أجل الآخرین أو فی سبیل حفظ الوحدة، فهذا أمر مستحیل. فالعقیدة والإیمان یتبعان مبادئ خاصّة؛ إن وُجدت تلك المبادئ وُجد الإیمان، وإن فُقِدت فُقِد. إنّ ما یدور حوله موضوع بحثنا هو الانسجام فی «السلوك» من أجل حفظ الوحدة والاتّحاد. فالسلوك والتصرّف إنّما یقعان موضوعاً للتقیّة والائتلاف العملیّ. فمن الممكن أن یكون هذا الائتلاف صحیحاً فی مواطن معیّنة إذا كانت الغایة منه تحقیق هدف سام وقیّم.
توجد فی الإسلام سلسلة من الأحكام تتْبَع عناوین خاصّة یُطلق علیها فی الفقه «العناوین الثانویّة»، حیث تسمّى الأحكام التی یتمّ إثباتها تبعاً لها ﺑ«الأحكام الثانویّة». لقد وردت أغلب تلك العناوین فی النصوص القرآنیّة والروائیّة؛ وكمثال على ذلك الاضطرار؛ كما فی قوله تعالى: «إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَیْكُمُ الْمَیْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِیرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَیْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَیْهِ»2؛ أی إنّ الذی یدفعه الاضطرار إلى تناول الطعام الحرام من دون أن یكون ظالماً أو معتدیاً فإنّه لا إثم علیه؛ بمعنى أنّ الحكم الأوّلی قد رُفع بواسطة الاضطرار. وهذا هو ما یُطلق علیه بالحكم الثانویّ. ویقول عزّ من قائل فی آیة اُخرى: «لاَ یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـٰفِرِینَ أَوْلِیَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ وَمَنْ یَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَیْسَ مِنَ اللهِ فِی شَیْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً»3؛ فالله عزّ وجلّ لا یُجیز أن تكون لكم مع الكفّار علاقات ودّیة، اللهمّ إلاّ أن تحذروهم وتتّقوهم. فالتقاة هنا بمعنى التقیّة. وإنّ التقوى, والتقیّة، والتقاة هی كلّها اسم مصدر من الفعل «اتّقى» وهی تشترك فی معنى واحد. وهذا أیضاً هو عنوان ثانویّ وله حكم ثانویّ.
جاء فی مبانینا الفقهیّة أنّ التقیّة تكون ضروریّة أحیاناً حتّى بین المسلمین أنفسهم. فقصّة عمّار كانت تقیّة مع المشركین؛ لكنّ أحادیثنا تخبرنا بأنّ هذا النمط من التقیّة جارٍ حتّى بین المسلمین أنفسهم، وهو عندما یختلف المسلمون فیما بینهم ویشتدّ هذا الخلاف إلى درجة أنّ المسلم إذا لم یتّبع المسلم الآخر فی العمل فإنّ حیاته تصبح عرضة للخطر. فموضوع ما رُوی عن جمیع المعصومین (صلوات الله علیهم أجمعین) من أنّ: «التقیّة دینی ودین آبائی»4 هو هذا بالتحدید. فحقیقة هذه المسألة هی أنّ أمر الإنسان یدور بین أن یأتی بفریضة كما یأتی بها أفراد فرقة معیّنة؛ كأن یصلّی متكتّفاً ویحافظ على حیاته، وبین أن یأتی بها طبقاً للحكم الأوّلی ویعرّض حیاته للخطر. فی مثل هذه المسائل تتزاحم مصلحة العناوین الثانویّة مع مصلحة الحكم الأوّلی فیأتی الشارع المقدّس لیعتبر أنّ تلك المصلحة المانعة من العمل بالحكم الأوّلی أهمّ؛ ومن هذا المنطلق یقول: علیك أن تغضّ الطرف عن الحكم الأوّلی وتعمل بالحكم الثانویّ. وهذه هی عین التقیّة التی أفتى بها جمیع الفقهاء والتی نعرفها جمیعاً.
كما أنّ عندنا لوناً آخر من التقیّة وهو ما أكّد علیه الإمام الراحل (رضوان الله تعالى علیه) بالخصوص وأفتى به فقهاء آخرون أیضاً وهی «التقیّة المداراتیّة»؛ وبیانها أنّ حیاة المرء أحیاناً لا تكون فی خطر إذا طبّق دینه حسب ما یملیه علیه مذهبه، لكنّ مصلحة اجتماعیّة إسلامیّة هی التی تصبح فی معرض الخطر؛ إذ قد یتفشّى الافتراء، وتسود العداوة، والضغینة، ویحصل التشتّت بین صفوف المسلمین فیستغلّ الأعداء هذا الوضع وتذهب عزّة المجتمع الإسلامیّ ومصالحه أدراج الریاح. لقد بیّن الإمام الراحل (رضوان الله علیه) الكثیر من الاستدلالات على هذه المسألة، وتحلیلها هو أنّه فی هذه القضیّة یقع تزاحم بین مصلحة الحكم الأوّلی ومصلحة اجتماعیّة تتمثّل فی حفظ عزّة المسلمین واقتدارهم فی مقابل العدوّ. لقد طرح الإمام الخمینیّ (رحمة الله علیه) استدلالات مفادها أنّ الكثیر من روایات التقیّة تصبّ فی هذا الوادی، ولیست جمیعها متعلّقة ﺑ«التقیّة الخوفیّة».
اتّضح لحدّ الآن أنّ قیمة التقیّة، أی قیمة العمل بالحكم الثانویّ إنّما تستند إلى المصلحة التی ینطوی علیها الحكم الثانویّ؛ وعلیه فإن أدّت التقیّة إلى تضییع مصلحة أقوى فهی غیر جائزة. یقول الإمام الراحل (رضوان الله تعالى علیه) فی هذا الباب: التقیّة بشقّیها الخوفیّ والمداراتیّـ لا تكون مشروعة إلاّ إذا لم تؤدّ إلى تفویت مصلحة أقوى. فقد كان تعبیره فی هذا المجال هو: «التقیّة لا تكون فی مهامّ الاُمور»؛ وبناءً على ذلك فإذا تعرّضت حیاة النبیّ أو الإمام المعصوم للخطر، أو خیف من خطر الهجوم على بیت الله الحرام فلا تجوز التقیّة حینئذ. فحفظ النفس فی هذه الحالة سوف یؤدّی إلى تضییع مصلحة أقوى. لقد قال الإمام (رحمة الله علیه) أثناء أحداث مقارعة الطاغوت: «الیوم التقیّة حرام ولو بلغ ما بلغ!» وحكمه هذا كان ینطلق من رؤیته بأنّ الإسلام كان فی خطر. فهل قیمة أنفسنا أعظم یا ترى، أم قیمة الإسلام؟! فهو (رحمه الله) كان قد شخّص أنّ الإسلام فی خطر، ومن هذا المنطلق قال: «التقیّة حرام ولو بلغ ما بلغ». فإذا كان لابدّ فی سبیل حفظ الإسلام أن یُقتل المئات بل الآلاف من البشر فلیقتلوا لیبقی الإسلام مصوناً.
كلّ ذلك یرجع إلى أنّ نفس التقیّة لیس لها قیمة بحدّ ذاتها، بل قیمة التقیّة ترتبط بتلك النتیجة المترتّبة علیها. فلو قُدّر أن تكون نتیجة التقیّة هی التفریط بشیء هو أعظم من أنفسنا، ووحدتنا, فما قیمة هذه التقیّة حینئذ؟! بطبیعة الحال یجب أن یُعهد بتشخیص مثل هذه الاُمور إلى الفقیه العالم بزمانه والمدرك لظروف المجتمع. فهو الذی یمكنه الحكم بأنّ التقیّة لم تعد جائزة. وعلى أیّ حال فإنّه یوجد فی الدین الإسلامیّ شیء من هذا القبیل؛ وهو أن یثبت حكم بعنوان كونه حكماً أوّلیاً ثمّ تعرض مصلحة أقوى فیترتّب على الموضوع، من أجل حفظ هذه المصلحة الأهمّ، عنوان ثانویّ یتغیّر الحكم على اساسه. هذه المسألة لها مصادیقها أیضاً فی المسائل الاجتماعیّة التی من جملتها التقیّة؛ وتأسیساً على ذلك فإن أدّت التقیّة إلى فناء أصل التشیّع وطوى النسیان حقیقة التشیّع، شیئاً فشیئاً، بسبب امتناعنا نحن عن الدفاع عن معارف هذا المذهب، فإنّه لن یعود للتقیّة معنى هنا. فهل أرواحنا أعزّ وأغلى من حقیقة التشیّع یا ترى؟! بالطبع إذا كان هناك خطران، یهدّد أحدهما أصل الإسلام ولا یهدّد الآخر سوى مذهب التشیّع، فعندئذ، لابدّ من غضّ الطرف كاملاً عن مذهب التشیّع وبذل كافّة الجهود من أجل أن یبقى أصل الإسلام والقرآن مصونین؛ لكنّ هذا الفرض یندر جدّاً تحقّقه ولیس من المعلوم أنّه هل سیتحقّق یوماً أم لا.
إذن فلا یتصورنّ أحد أنّ نفس الوحدة هی قیمة مطلقة وأنّه یتعیّن حفظ الاتّحاد مهما كان الثمن وفی أی بقعة من الأرض. نفهم من ذلك أنّ الوحدة مع اُولئك الذین سلكوا طریق الباطل وهم ینادون الآن بالوحدة من أجل المحافظة على كیانهم وتقویة موقفهم بعد أن خسروا المعركة السیاسیّة ویعانون الآن من ضعف شدید، أقول إنّ الوحدة مع هؤلاء لا قیمة لها. فأمثال هؤلاء یقولون: «من أجل الحفاظ على الوحدة علیكم باتّباعنا! فالوحدة هی الأصل، وبما أنّنا لا نتّبعكم، فإنّه یتعیّن علیكم أنتم اتّباعنا فی سبیل حفظ الوحدة!». فأیّ قیمة لوحدة كهذه؟ بل یجب أن ننظر إلى ماهیّة الثمرة التی سنجنیها من هذه الوحدة. فهل نتیجتها أنّ الحقّ هو الذی سیسود ویقوى، أم الباطل؟ إذن فقیمة الوحدة والاتّحاد ـ وهمااللذان یعنیان الانسجام على الصعید العملیّـ تتّخذ طابع الوسیلة؛ بمعنى أنّها تتبَع الهدف المترتّب على تلك الوحدة. فلو كانت النتیجة المترتّبة على هذه الوحدة مضرّة فضلاً عن كونها غیر مجدیة، فإنّ وحدة كهذه لن تكون غیر ذات قیمة فحسب، بل ستكون لها قیمة سلبیّة أیضاً. ومن هنا فإنّ علینا أن ننظر ملیّاً أیّ ثمرة ستُجنى من تركنا لأداء تكلیفنا ومماشاتنا لسلوكیّات وتصرّفات الآخرین؟ فهل إنّ مصلحة تلك النتیجة هی أقوى، وأقرب إلى الحقّ، وأعزّ للمجتمع الإسلامیّ، أم إنّ الأمر لیس على هذه الشاكلة فبهذه الوحدة سیتلاشى الحقّ تدریجیّاً، فلا یعود الناس یعرفونه، وتزول المُثُل، وتفسد المعتقدات؟ فإنْ أدّت الوحدة إلى تضعیف الحقّ فلیس لها قیمة تذكر.

التعصّب وعدم مراعاة الأدب ممنوعان

الآن إذا تمّ التوصّل إلى نتیجة مفادها أنّ للوحدة مصلحة أقوى، فماذا نصنع؟ فی هذه الحالة لابدّ من تغییر بعض سلوكیّاتنا. فما ینبغی الالتفات إلیه هنا هو أنّ تصرّفاتنا الاجتماعیّة یجب أن تتّخذ منحى بحیث لا تثیر باقی الفرق الإسلامیّة ضدّ التشیّع، ولا تجعلهم ینظرون إلى الشیعة نظرة سیئة، ولا تؤدّی إلى تنامی حقدهم على التشیّع وعدائهم له. فلا یجوز أن یؤدّی سلوكنا إلى تعریض أرواح بعض الشیعة للخطر. لا ینبغی أن نقوم بفعل أو نتفوّه بكلام من شأنه أن یؤجّج مشاعرهم، بل یتعیّن علینا أیضاً إذا لزم الأمرـ أن نعمل وفقاً لفتاواهم فی تصرّفاتنا الفقهیّة. یقول الإمام الخمینیّ (قدّس سرّه) استناداً لبعض الروایات: «إنّ المشاركة فی صلوات جماعة المخالفین لنا فی المذهب والصلاة فی صفوفهم الاُولى هی كالصلاة فی المسجد الحرام خلف الإمام المعصوم (علیه السلام)». وهو لم یتطرّق هنا إلى إعادة هذه الصلاة. وهذه هی التقیّة المداراتیّة التی كان الإمام الراحل یؤكّد علیها. وعلى الرغم من أنّ بعض الفقهاء لم یذكروا هذه التقیّة أو لم یعیروها كبیر اهتمام، لكنّه (رحمة الله علیه) اهتمّ بهذه القضیّة اهتماماً بالغاً.

تعطیل بیان الحقیقة هو أیضاً ممنوع

السؤال الآخر الذی یتبادر إلى الذهن فی هذا المجال هو أنّه: هل المراد من التقیّة ومنع إثارة مشاعر الآخرین هو أن لا نخوض فی بحث علمیّ حول هذا الموضوع أیضاً؟ والجواب هو أنّ هذا الأمر غیر مقبول لدى العقلاء! أجل، هو مقبول لدى الصهاینة. فقد سنّوا فی بضع دول أوروبّیة قانوناً یعتبر التشكیك فی قضیّة محرقة الیهود (الهولوكوست) جرماً. فإن قال أحدهم إنّه لم یتمّ قتل الیهود جماعیّاً فی ألمانیا النازیّة، أو حاول التشكیك فی هذه القضیّة فإنّه سیتعرّض للمساءلة والعقوبة؛ ومن هذا المنطلق فإنّه إذا زعم أحد أنّ البحث فی مسألة حقّانیة الشیعة هو جُرم، فتلك نزعة صهیونیّة لیس غیر. فالبحث العلمیّ حول أیّ مذهب أو قومیّة لیس ممنوعاً، لأنّ البحث هو فعل العقلاء. فالعاقل هو الذی یسعى إلى معرفة الحقّ والباطل كی یقبل بالحقّ ویرفض الباطل.
وبناءً على ما مرّ فنحن نقول: إنّنا على استعداد للبحث والتحقیق فی المذاهب السنّیة المختلفة، ومتّى ما ثبت أنّ أحد مذاهب أهل السنّة هو حقّ فإنّنی شخصیّاً اُعلن فی حضوركم وأمام كلّ من یسمعنی لاحقاً وأعدكم بأنّنی سوف اُغیّر مذهبی وأصیر سنّیاً. فنحن نتّبع الحقّ؛ فایّ أمر توصّلنا إلى أنّه حقّ فسنحترمه ونقدّسه، ونحن نتوقّع من الآخرین أن یتعاملوا بالمثل. فهلمّوا إلى البحث والتحقیق، فإن وُجدت فی مذهبنا اُمور صحیحة مدعومة بأدلّة متقنة فاقبلوا بها؛ حیث إنّه: «وَإِنَّا أَوْ إِیَّاكُمْ لَعَلَىٰ‏ هُدًى أَوْ فِی ضَلاَلٍ مُّبِینٍ»5؛ كما أنّه إذا وجد فی مذهبكم ما هو صحیح فسنقبل به من جانبنا. فهذا أمر معقول وهو سیجابَه باستحسان العقلاء أینما طُرح. فمثلما أنّ مكتباتنا تزخر بكتبكم، فلتفسحوا أنتم المجال لانتشار كتب الشیعة فی البلدان السنّیة، لاسیّما فی العربیّة السعودیّة، كی یطالعها طلاب الحقّ. فما لم یتمّ إثبات واحد من هذین المذهبین فلنحاول الجلوس معاً على طاولة البحث مع مراعاة الأدب وفی بیئة ملؤها الهدوء والوئام، فهذا نوع من التكتیك. فالكلّ یعلم أنّه لن یقبل أحد برأی غیره من خلال الكلام الفظّ وتبادل الشتائم والكلام البذیء.
تأسیساً على هذا، فإنّ فی أعناقنا واجبین؛ الواجب الأوّل هو واجب علمیّ، فلابدّ لنا من إثبات اُسس التشیّع فی جوّ علمیّ وبحثیّ؛ وذلك لاعتقادنا بأنّ الإسلام الحقیقیّ یمثّله التشیّع، وأنّ ما قبِل به أهل البیت (علیهم السلام) وطبّقوه عملیّاً هو عین ما قاله وفعله نبیّ الإسلام (صلّى الله علیه وآله). ونحن نودّ أن ینتفع الآخرون من مائدة الكرم الإلهیّ تلك لئلاّ یُحرَموه فیضلّوا. فلولا التضحیات التی قدّمها علماء الشیعة على مرّ القرون الماضیة لم تكن معارف أهل البیت (علیهم السلام) لتصل إلى أیدینا. فلو أنّنا دوّنا تاریخ تلك المساعی لأصبحت موسوعة ضخمة. فقد قاموا بجمع تلك المعارف من الكتب المخطوطة التی عثروا علیها فی مكتبات مختلفة حول العالم وحفظوها وقدّموها لنا جاهزة. لقد رُویت فی هذا الباب قصص عجیبة. منذ بضع سنوات كانت لی رحلة إلى الهند وقد طرق سمعی هناك قصّة تثیر العجب، مفادها أنّ أحد علماء الشیعة كان منهمكاً فی تصنیف كتاب، وفی خضمّ بحثه ومن أجل إثبات حقّانیة التشیّع وإبطال بعض آراء المخالفین احتاج إلى كتاب نادر لم تكن توجد منه إلاّ نسخة واحدة كانت فی مكتبة عالم سنّی. فطلب منه بأدب أن یعیره ذلك الكتاب فلم یقبل. فترك العالم الشیعیّ مدینته قاصداً بلدة العالم السنّی ودخلها على هیئة عامل. ولمّا كان للعالم السنّی منزلة مرموقة بین أهل مدینته وبطانة ضخمة، جاء الشیعیّ قائلاً لهم بتواضع: أنا غریب ولیس لی مورد أتكسّب منه قوت یومی، فأذنوا لی بالخدمة عندكم؛ أكنس الدار، وأغسل الأوانی، فأحصل على لقمة أسدّ بها رمقی. فترحّموا علیه وقبلوه خادماً فی الدار. فخدم فی الدار مدّة أحسن ما تكون الخدمة حتّى أحبّه صاحب الدار كثیراً. وبعد مدّة من الزمن طلب من صاحب الدار أن یأذن له باستعمال المكتبة، فأذن له الأخیر لشدّة ما تعلّق قلبه به. فأخذ یذهب كلّ یوم فی جوف اللیل لیستنسخ جزءاً من الكتاب على ضوء شمعة حتّى انتهى من استنساخه بعد أشهر. فذهب إلى صاحب الدار وطلب منه السماح بالسفر إلى وطنه بحجّة الاشتیاق إلى الأهل والأحبّة. وفی نهایة المطاف تمكّن من وداعهم بأیّ ثمن وترك تلك البلدة بصحبة الكتاب. وبعد وصوله إلى بلدته كتب رسالة إلى صاحب المكتبة شرح فیها قصّته وطلب منه أن یُبریء على ذلك. وعلى الرغم ممّا انتاب صاحب المكتبة من غضب شدید لكنّه من فرط تعجّبه من علوّ همّة الرجل فقد كتب إلیه: إنّك لم تحسن التصرّف فی فعل ذلك من دون إذن منّی؛ لكنّنی عفوت عنك لما لك من همّة عالیة.
وهذا اُنموذج بسیط على ما أنجزه علماء الشیعة على مرّ العصور فی مجال العمل الثقافیّ كی ننعم أنا وأنتم الیوم بمعرفة السیّدة الزهراء (سلام الله علیها). فلولا تلك الجهود لتخیّلنا أنّ نزاعاً كان قد نشب فی صدر الإسلام بین بضعة أشخاص ولا أثر له فی الوقت الحاضر. ولولا تلك التضحیات لما كنّا نحن الیوم قد سمعنا باسم الإمام الحسین (علیه السلام)؛ لولا ذلك لطُمس الحقّ ولأصبح الهدف الأساسیّ من الدین فی طیّ النسیان. لهذا فإنّه من غیر المبرَّر بتاتاً أن یُترك العمل العلمیّ والبحثیّ ویعطّل.
أمّا الواجب الثانی فهو التحلّی بالسلوك الرصین، لأنّ الفظاظة، وسوء الأدب، وعدم احترام الطرف المقابل لیست من الصواب فی شیء. فهذه التصرّفات من شأنها أن تبعّد الهدف الذی نصبوا إلیه أو أن تنقضه. فهذه هی سبیل الشیطان یبیّنها للإنسان فیعتقد الأخیر أنّ تصرفاً كهذا هو من منطلق الشجاعة. فهل فی الوقت الذی توفّر فیه للشیعة شیء من السلطة وكان الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) یعقد دروساً ضخمة حتّى أنّ علماء السنّة كانوا یحضرون دروسه بوفرة، هل یا ترى كان یتعامل معهم بفظاظة وبعدم احترام؟! كیف كان هؤلاء یجدون فی أنفسهم الاستعداد لحضور درسه (علیه السلام)؟ علینا نحن أن نتعلّم تلك الأسالیب. فعندما تكون هناك حاجة للتقیّة الخوفیّة، یجب أن نعتمدها وعندما تستدعی الضرورة العمل بالتقیّة المداراتیّة، فإنّ علینا العمل وفقاً لها؛ لكنّه لیس لنا، فی أیّ حال من الأحوال، أن نغلق باب البحث والتحقیق وینبغی أن نعلّم الآخرین هذه الثقافة. كما أنّ علینا أن نحترم كتبهم أیضاً. لاحظوا تفسیر المیزان؛ فكما أنّه ینقل فی بحوثه الروائیّة عن الكافی تراه یكتب: فی الدرّ المنثور كذا وكذا... ولا یقیم أیّ فرق فی النقل وفی الاحترام بین المنقول عنهم.
فالعدید من المباحث التی نُفید منها فی إثبات مذهبنا وعقائدنا الفقهیّة ومعتقداتنا الكلامیّة فی مقابل المخالفین لنا إنّما نستقیها من مصادرهم. هذه المصادر أكثر ما تفید فی إقناع الطرف المقابل؛ ذلك أنّ مصادرنا لا تتمتّع عندهم باعتبار یذكر؛ ومن هنا فقد حرص المرحوم صاحب «عبقات الأنوار» ومن بعده صاحب «الغدیر» علی أن یجمعا المباحث الحقّة من كتب أهل السنّة كی لا تبقى فی أیدیهم حجّة. علینا نحن أیضاً أن نتعلّم هذه الطریقة ونكرّرها ولا نفعل ما یثیر مشاعرهم على نحو یشكّل مانعاً من معرفتهم للحقّ. إنّ من واجبنا أن نحفظ معارف أهل البیت (علیهم السلام) من أجل الأجیال القادمة وكلّ البشر وأن ننشرها ما وسعنا ذلك كی تتعرّف البشریّة على تلك الحقائق. ینبغی لنا أن نزیل العقبات من هذا الطریق وأن لا نشكّل نحن مانعاً فی هذا السبیل. فلا ینبغی ان یصدر منّا ما یفقدهم أصل الرغبة فی قراءة كتبنا أو الإصغاء إلى كلامنا. فعمل كهذا لا یمتّ إلى العقل بصلة، كما أنّ تعطیل البحث العلمیّ لیس هو عملاً عقلائیّاً على الإطلاق.
سنتعرّض، بمشیئة الله تعالى، ابتداءً من المحاضرة القادمة إلى البحث حول أفضل مصادر الشیعة وأكثرها مدعاةً للفخر والاعتزاز ألا وهی خطبة السیّدة فاطمة الزهراء (سلام الله علیها)، وسنحاول جهدنا الإفادة من مضامین تلك الخطبة العظیمة التی تأتی من حیث الأهمّیة بعد الوحی القرآنیّ، والتی تُعدّ من حیث الفصاحة والبلاغة، وإتقان المباحث، واُسلوب الاستدلال، والجدال، والمناظرة مجموعة فریدة لعصارة عقائد مذهب التشیّع.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین


1. سورة النحل، الآیة 106.

2. سورة البقرة، الآیة 173.

3. سورة آل عمران، الآیة 28.

4. بحار الأنوار، ج2، ص74.

5. سورة سبأ، الآیة 24.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...