صوت و فیلم

صوت:
,

فهرست مطالب

الجلسة الثانیة والثلاثون: الأُسس الفلسفیّة للحقوق الجزائیّة فی الإسلام

تاریخ: 
چهارشنبه, 28 مهر, 1389

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 3 تشرین الثانی 2010م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

الأُسس الفلسفیّة للحقوق الجزائیّة فی الإسلام

«... وَالْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاء»1
تلونا فی المحاضرات السابقة مقاطع من خطبة الزهراء (سلام الله علیها) وقد وصلنا إلى العبارة التی تقول فیها (علیها السلام): «وَالْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاء»؛ ومعناها أنّ الله عزّ وجلّ قد سنّ القصاص للحیلولة دون إراقة الدماء. ومن أجل توضیح هذه المسألة أودّ أن اُشیر إلى إحدى المسائل المتعلّقة بفلسفة الحقوق.
إنّ من جملة المسائل المطروحة فی المدارس الحقوقیّة المختلفة فی العالم هی: ما هی الحكمة من تشریع القوانین الجزائیّة؟ وحیث إنّ بعض الحاضرین قد لا یكونون محیطین بهذه المباحث فلا بأس بتقدیم مقدّمة للموضوع.
من المسلّمات أنّ البشر بحاجة إلى قانون من أجل حفظ مصالح الحیاة الاجتماعیّة، وإنّ انعدام الضابط الذی ینظّم سلوك البشر یؤدّی إلى الإخلال فی نظم حیاتهم. فأصل هذه المسألة بدیهیّ أو شبه بدیهیّ ویندر العثور على مَن یشكّك فیه. لكنّ المشكلة لن تُحَلّ بمجرّد وضع القانون؛ ذلك أنّ القوانین بحدّ ذاتها لا تضمن تنفیذها. ولهذا فمن أجل تأمین المصلحة المنشودة من تلك القوانین یضطرّ المشرِّع إلى وضع قوانین اُخرى تكون مشرفة على القوانین السابقة قائلاً: «إذا خالف أحد تلك القوانین فلابدّ من معاقبته». أمّا إذا کانت الطائفة الثانیة من القوانین – حالها حال الطائفة الاولى – مجرّد حبر على ورق فستواجه نفس الإشكال السابق. من هذا المنطلق لابدّ من توفّر ضامن قویّ لتنفیذ هذه المجموعة من القوانین كی تُفرض العقوبة على المتجاوز فرضاً.
فمن سمات الطائفة الاُولى من القوانین انّها لا تُفرض بالقوّة. فهی لا تتخطّى حدّ القول مثلا: المعاملة التجاریّة الفلانیّة باطلة، الارتشاء ممنوع، رفع أسعار السلع ممنوع، وهكذا. غیر أنّ الطائفة الثانیة تقول: إذا خالف أحد تلك القوانین فتجب معاقبته. وهذه العقوبة یجب أن تكون إجباریّة وتنفَّذ من قِبل قوّة قاهرة. بل إنّ من جملة أدلّة ضرورة الحكومة - أساساً - هی هذه المسألة. فإن افتقرت هذه القوانین إلى ما یضمن تنفیذها فلن تتعدّى حدّ المواعظ والنصائح الأخلاقیّة. إذن لابدّ أن تكون للحكومة سلطة تكفل تنفیذ القوانین الجزائیّة. وبهذه المقدمة تثبت ضرورة وجود القوانین الجزائیّة.

بعض الآراء حول فلسفة الحقوق الجزائیّة
1. الانتقام

لكن ما هی الحكمة من وراء وضع القوانین الجزائیّة؟ هل هذه القوانین هی قوانین ثابتة یاترى؟ وإلى أیّ حدّ یجب أن تكون متشدّدة، وإلى أیّ مدىً یتعیّن أن تكون متساهلة؟ هذه المسائل تتعلّق بفلسفة الحقوق الجزائیّة. فمن النظریّات المطروحة فی باب فلسفة حقوق الجزاء هی أنّ الحكمة من وضع القوانین الجزائیّة هی الانتقام من المخالف؛ أی: عندما یقرّ المجتمع مجموعة من القوانین فإنّ المخالف لهذه القوانین یوجّه - فی الحقیقة - إهانة للمجتمع، ومشرِّعی القانون، والمتصدّین لهذا الأمر ولمصالح الامّة، وهو الأمر الذی یثیر سخط سائر أفراد المجتمع، ونتیجة لذلك یعمد اولئك الذین یؤمّن القانون مصالحهم إلى الانتقام من المخالف. ومن هنا فإنّ فلسفة الحقوق الجزائیّة هی الانتقام ممّن یخالف القانون.

2. مجرّد الردع

أمّا النظریة الاخرى فتقول: إنّ أهمّ حكمة لوضع القوانین الجزائیّة هی الردع؛ أی إن المخالف للقانون یعاقب كی یرتدع الآخرون فیحول ذلك دون شیوع الفساد فی المجتمع. إذن فالغایة من القانون الجزائیّ أصلاً هی الوقوف أمام شیوع ظاهرة مخالفة القانون. فالعلّة من قول الإسلام مثلاً: اقطعوا ید السارق هی عندما یشاهد الناس ید السارق المقطوعة فانّه یزول من نفوسهم الدافع والمحفّز إلى السرقة.
هذه الاُسس ومثیلاتها من الأُسس المطروحة فی هذا المجال لها لوازم وتبعات یمكن أن تشاهد الیوم فی أجواء جامعات العالم ولا نستثنی منها كلّیات الحقوق فی جمهوریّتنا الإسلامیّة الثوریّة، حیث من نتائج أمثال هذه النظریّات خلْق اُناس یلقون بقوانین الإسلام وأحكامه وراء ظهورهم بل ویُظهرون مخالفتهم لها أحیاناً. وكنموذج على ما قلنا كتب أحدهم مقالة فی هذا الموضوع (من المؤكّد أنّ أكثركم سیعرفه لو نطقت باسمه ویندهش من كتابة شخص كهذا لمثل هذا الكلام) یقول فیها: «الأصل فی قوانین الجزاء هو الردع. ولهذا علینا فی كلّ زمان أن نبحث عن السبل التی تكون أنجع من غیرها فی الوقوف بوجه الذنب والجریمة. ففی زمان النبیّ (صلّى الله علیه وآله) كانت الطریقة المثلى للحدّ من السرقة هی قطع ید السارق. لكنّ ظروف المجتمع قد اختلفت الیوم ومن الممكن أن تكون ثمّة طرق اُخرى للحیلولة دون شیوع ظاهرة السرقة؛ أی من الممكن تأمین فلسفة هذا القانون من طرق اخرى. إذن علینا أن نفكّر بالسبل والأسالیب التی تكون أكثر تناسباً مع ثقافتنا وظروف مجتمعنا»! أقول هذا لتعلموا أنّ القضیّة بالغة الجدّیة، فمنذ الأیّام الاولى للثورة كان هناك من یطلق مثل هذه النداءات ومن جملتهم جماعة المنافقین2 التی كانت تعلن بشكل رسمیّ وبكلّ صراحة عن مثل هذه الآراء.

الاُسس الفلسفیّة للحقوق الجزائیّة من وجهة النظر الإسلامیّة

أ) الاُسس المتّصلة بعلم الإلهیّات
السؤال المطروح هنا هو: ما هی فلسفة الحقوق الجزائیّة من وجهة نظر الإسلام حقّاً؟ إنّ كلّ ما هو مطروح فی المدارس الفلسفیّة فی العالم لا یأخذ بنظر الاعتبار سوى حیاة الإنسان فی هذه الدنیا وما لها من آثار ولوازم. فنحن لا نعثر الیوم فی أیّ من مدارس فلسفة الحقوق فی العالم على ما یشیر الى الله أو الآخرة. فالأصل فی هذه المدارس هو ضمان الأمن والرفاهیة فی الحیاة الدنیا ولا شیء آخر على الإطلاق.
لكنّنا نمتلك - وفقاً للإسلام - فلسفة حقوق خاصّة بنا ولسنا مضطرّین للأخذ باُسس أیّ واحدة من المدارس الحقوقیّة فی العالم. ولهذه المسائل اُسس یتعلّق بعضها بعلم الإلهیّات ویرتبط بعضها الآخر بمعرفة الإنسان.
إنّ أكثر اُصول الإسلام أساسیّة هو الاعتقاد بالله الواحد وضرورة الامتثال لأوامره، وإنّ محلّ إثبات هذا الأصل هو علم الكلام والفلسفة؛ أمّا فیما یتعلّق باُسس الحقوق الإسلامیّة فیؤخذ هذا الأصل على أنّه أصل موضوع، وإنّ جمیع الاُصول ترتبط به بشكل أو بآخر.

ب) الاُسس المتّصلة بمعرفة الإنسان
كذلك فإنّنا مالم نعرّف الإنسان ونتعرّف على أسباب كماله ونقصه، وسعادته وشقائه فلن یكون باستطاعتنا الخوض فیما یتعلّق بواجباته، وصلاحیّاته، وحقوقه. فبالنسبة لما یرتبط باُسس معرفة الإنسان فنحن لا نعتقد أنّ الإنسان هو مجرّد موجود تلده اُمّه ثمّ ینتهی به المطاف عند دفنه فی قبره. فعمر الإنسان – فی واقع الأمر - لا نهایة له، والحیاة الدنیا لا تمثّل إلاّ جزءاً یسیراً من عمر ابن آدم وهی بمثابة الطور الجنینیّ الثانی له. فعندما تنعقد نطفة الإنسان یقضی فترة تسعة أشهر فی بطن أمّه لا یملك خلالها أیّ اختیار من نفسه. ثمّ یقضی بعدها طوراً جنینیّاً آخر یستمرّ حوالی 90 سنة أو أقلّ من ذلك أو أکثر، ویتحتّم علیه فی هذا الطور أن یبنی نفسه بنفسه. وبعد هذه المرحلة تكون حیاته الحقیقیّة قد بدأت للتوّ وهی ما یعبّر عنه القرآن الكریم بقوله: «یَقُولُ یَالَیْتَنِی قَدَّمْتُ لِحَیَاتِی»3، أو قوله: «وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِیَ الْحَیَوَانُ»4. ومن هذا المنطلق فإنّ الحیاة الدنیا هی مقدّمة لحیاة الإنسان الأبدیّة.
إنّ رؤیة كهذه إلى الإنسان من شأنها أن تترك بصماتها على ما ینظّم حیاته من أنظمة الحقوق، والأخلاق، والقیم، وما شابهها، كما أنّه لو اعتقد امرؤ بأنّ حیاة الإنسان لا تتعدّى هذه الحیاة الدنیا: «مَا هِیَ إلاّ حَیَاتُنَا الدُّنْیَا نَمُوتُ وَنَحْیَا وَمَا یُهْلِكُنَا إلاّ الدَّهْرُ»5 فسیُلقی هذا الاعتقاد أیضاً بظلاله على نظام الحقوق، والأخلاق، والقیم، وما إلى ذلك.
حسب الرؤیة الإسلامیّة فإنّ الله قد خلق البشر من أجل أن یصلوا إلى حیث الكمال، وهو ما لا یحصل إلا عن طریق الاختیار. وهذا یحتّم وجود سبیلین؛ أحدهما سبیل الكمال، والآخر سبیل السقوط. فقد خلق الله الإنسان فی هذا العالم كی یواجه مفترق طریقین ویختار طریقه هو بنفسه. فمن خواصّ هذا العالم هو أنّ الإنسان یواجه فیه دوماً مفترق طریقین أو طرق عدیدة، ویتعیّن علیه حینها ان ینتخب إمّا طریق الحلال وإمّا طریق الحرام. إذ یقول القرآن الكریم: لیست فلسفة وجود الإنسان فی هذه الحیاة الدنیا سوى ما ذكرنا: «خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَیَوٰةَ لِیَبْلُوَكُمْ أَیُّكمُ‏ْ أَحْسَنُ عَمَلاً»6.
إذن كیف یهیّئ الله تعالى – والحال هذه – للناس مناخاً للتكامل؟ والجواب هو: لابدّ أن یهدیهم ویعرّفهم بالحسن والقبیح من الأعمال والامور. فلولا هدایة الباری عزّ وجلّ للناس فإنّ معظمهم، بل لعلّ جمیعهم سیضلّون سبیلهم. ومن جملة ألوان الهدایة الإلهیّة هی هذه القوانین التشریعیّة التی تبیّن أیّ الأعمال جائزة، وأیّها واجبة، وأیّها ممنوعة ومحرّمة.
فالأصل فی رؤیتنا الكونیّة یتلخّص فی أنّه إذا خالف امرؤ هذه القوانین فإنّه سیتعرّض للعقاب فی العالم الآخر. فالدنیا هی دار امتحان، أمّا العقاب والثواب فإنّهما فی العالم الآخر. لكنّ الله سبحانه وتعالى وانطلاقاً من رحمته الواسعة فقد سنّ سنّة اُخرى مفادها أنّ بعض الذنوب تكون بحیث إذا تعرّض مرتكبها إلى جزء من العقوبة فی الدنیا، فسیكون ذلك سبباً للرحمة بالنسبة له وأحیاناً بالنسبة للآخرین أیضاً. فالقرآن الكریم یقول: «وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِیبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَیْدِیكُمْ وَیَعْفُواْ عَن كَثِیرٍ»7. أمّا جواب الباری عزّ وجلّ على السؤال القائل: لماذا یجعل الله فی الحیاة الدنیا كلّ هذه المصائب والمحن؟ فهو: «لِیُذیقَهُمْ بَعْضَ الَّذِی عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ»8؛ أی إنّنا نذیقهم بعض آثار ما اقترفوه فی الحیاة الدنیا لعلّهم، أو لعلّ الآخرین، یتّعضون فیقلعون عن ذنوبهم.
إذن فلیست الحكمة من جعل الله تعالى عقوبة بعض الذنوب فی الدنیا هی الانتقام من الآخرین، كما أنّها لیست لمجرّد ردعهم بل هی من أجل تنبیه المذنبین وغیرهم إلى مدى الضرر الذی یصیب المرء جرّاء عمله القبیح. فهذه العقوبة من شأنها أن تشكّل رادعاً لهم وللآخرین عن ارتكاب المعصیة.

فلسفة الحقوق الجزائیّة وفق الرؤیة الإسلامیّة

ومن هنا فإنّ فلسفة حقوق الجزاء فی الإسلام تنبثق من المبانی والاُسس القائلة: كما أنّ معاقبة المخالفین ستخفّف – من ناحیة - من شدّة العقاب الذی سیواجهونه فی الآخرة على فعلتهم، فإنّهم – من ناحیة اخرى - سیشاهدون ویشاهد الآخرون أیضاً الآثار السیّئة لهذا العمل فلا یعودون لمثله بعد ذلك: «نَكَالاً لِّمَا بَیْنَ یَدَیْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِینَ»9.
فالله عزّ وجلّ ومن باب رحمته الواسعة یُری جانباً من نتائج الأعمال فی هذا العالم كی یرتدع المسیء عند مشاهدة آثار سیّئاته ویتشجّع المحسن لفعل المزید من الخیر عند مشاهدة حسناته: «وَءَاتَیْنَاهُ أَجْرَهُ فِی الدُّنْیَا وَإِنَّهُ فِی الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِین»10.
ووفقاً لهذه الرؤیة الإلهیّة تتبیّن فلسفة حقوق الجزاء. لكنّ المنجذبین إلى الغرب والذین لا یستطیعون المقاومة أمام أفكار الغربیّین یطرحون اُسساً اخرى فیقولون: «إنّ فلسفة هذه القوانین تنحصر فی الردع؛ إذن كیفما حصل الردع فهو حسن ولیس من الضروریّ أن یكون عن طریق قوانین الجزاء الإسلامیّة!». أمّا نحن فنعتقد بضرورة تبیین فلسفة حقوق الجزاء حسب وجهة النظر الإسلامیّة عبر أخذ اُسس علم معرفة الوجود ومعرفة الإنسان بالحسبان، لا أن نقلّد الاُسس الغربیّة تقلیداً أعمى وهی اُسس مرتكزة على المادّیة ومحوریّة الفرد أو اللذّة.

اختلاف الحدود والتعزیرات عن الدیّات والقصاص

ومن الضروریّ هنا أیضاً الالتفات إلى مقدّمة اخرى اُشیر إلیها على عجل. إذ یمكن تقسیم التجاوزات على القانون بشكل عامّ إلى قسمین: قسم یرتبط بحقوق الآخرین، وقسم یتّصل بحقوق الله تعالى؛ أی إنّ المرء بارتكابه للأخیرة سیخرج عن نطاق عبودیّة الله عزّ وجلّ، حتّى كأنّه یعلن الحرب على الله تبارك وتعالى. وبعبارة اخرى، فالمخالفة إمّا هی تجاوز على حقوق الناس، أو اعتداء على حقّ الله. فبالنسبة للمخالفات المتّصلة بحقّ الله فلقد وُضعت أحكام ثانویّة اُطلق علیها الحدود والتعزیرات. والمقصود من الثانویّة هنا هو أنّها أحكام ناظرة إلى أحكام اخرى وهذا هو مصطلح خاصّ. كما وسُمّیت الأحكام الموضوعة فیما یرتبط بحقوق الناس من مخالفات بالقصاص والدیّات. فهذان البابان یشبه أحدهما الآخر إلاّ أنّ هناك فرقاً بین الاثنین. ففی القصاص إذا تنازل صاحب الحقّ عن حقّه فإنّه لا یُنَفّذ الحكم. أمّا الأحكام الجزائیّة الخاصّة بالتجاوز على حقّ الله، كشرب الخمر والزنا على سبیل المثال، فالاعتداء فیها لم یَطَل حقّ أحد كی یتنازل عن حقّه ویعفو عن المذنب. وحتّى إذا عفى المعتدَى علیه عن المذنب فلیس للقاضی أن یعفو عنه، بل علیه أن ینفّذ حكم الله تعالى. فحقّ الله یتمثّل بالمصالح العامّة للمجتمع الإسلامیّ ولیس ثمّة مُدّعٍ خاصّ له. فالله فی هذه الحالة هو الذی یصدر حكمه، وإنّ حكم الله قطعیّ. فكلام السیّدة الزهراء (علیها السلام) ناظر إلى المخالفات المتّصلة بالاعتداء على حقّ الناس ولیس إلى جمیع الأحكام الجزائیّة.
تقول مولاتنا فاطمة (علیها السلام): «وَالْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاء». فكلّنا على یقین بأنّه إذا طالب ولیّ الدم بإعدام القاتل، وحُكم على الأخیر فی المحكمة بالإعدام، ونُفّذ هذا الحكم بحضور جمع من الناس فإنّ ذلك لا محالة سیحدّ من نسبة عالیة من جرائم القتل. فعندما یعاقب مجرم مّا فی إحدى المؤسّسات أو أحد أجهزة الدولة فستبقى تلك المؤسّسة أو ذلك الجهاز مصوناً من الجریمة لمدّة طویلة من الزمن. وكذا فإنّ جریمة قتل النفس البریئة ضمن البیئة الاجتماعیّة العریضة یُعدّ فی نظر القرآن الكریم بمثابة قتل الناس جمیعاً؛ إذ یقول عزّ وجلّ: «مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَیْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِی الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِیعاً»11. فالجرح العمیق الذی یسبّبه ذنب عظیم كهذا لا یمكن مداواته بإیداع المذنب فی السجن.

القصاص حافظ للحیاة

یتفوّه البعض بسفسطة فی هذا المجال مفادها: «إنّ عقوبة الإعدام تتنافى مع كرامة الإنسان وحقّه فی الحیاة»! لكنّ هذا الكلام لا یعدو كونه كلاماً فارغاً فالكلّ یعلم أنّه لابدّ من أجل الحفاظ على أمن المجتمع من القصاص من القاتل فذلك سیحافظ على حیاة الآخرین. یقول القرآن الكریم فی هذا الصدد: «وَلَكُمْ فِی الْقِصَاصِ حَیَوٰةٌ یَا أُوْلِی الأَلْبَابِ»12. فلو كان لكم ذرّة من عقل (والخطاب لقائلی هذا القول) لفهمتم أنّ قانون القصاص إنّما شُرّع لحفظ أرواحكم. فإن كنتم تقیمون وزناً لحیاة الإنسان فإنّ السبیل لحفظ حیاة الإنسان هو القصاص؛ ذلك أنه إذا لم یُقتل القاتل فسیُقتل فی المستقبل المئات من الأبریاء وتُقترف الآلاف من الجرائم.
نعم، إنّ للإنسان كرامةً مادام مراعیاً للحقوق. لكنّ الذی یعلن حرباً على الله عزّ وجلّ فهو أخسّ وأدنى قیمة حتّى من الحیوان؛ إذ یقول عزّ من قائل: «إِنَّ الَّذینَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِینَ فِی نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِینَ فِیهَا أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِیَّةِ»13؛ أی: أخسّ المخلوقات. فأیّ كرامة لأمثال هؤلاء؟ فالذی یعلن الحرب على الله تعالى إنّما یعتدی على مصالح العباد جمیعاً. فأیّ كرامة لمثل هذا الإنسان؟ وبناءً على ذلك فإن من یرى قیمة للحیاة الآدمیّة فلابدّ أن یدعم قانون القصاص، وما قول سیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) حینما قالت: وجعل «الْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاء» إلا من هذا المنطلق.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین


1. بحار الأنوار، ج29، ص223.

2. جرت عادة الإیرانیّین على إطلاق هذه التسمیة على ما یُعرف بمنظّمة مجاهدی خَلْق الإرهابیّة.

3. سورة الفجر، الآیة 24.

4. سورة العنكبوت، الآیة 64.

5. سورة الجاثیة، الآیة 24.

6. سورة الملك، الآیة 2.

7. سورة الشورى، الآیة 30.

8. سورة الروم، الآیة 41.

9. سورة البقرة، الآیة 66.

10. سورة العنكبوت، الآیة 27.

11. سورة المائدة، الآیة 32.

12. سورة البقرة، الآیة 179.

13. سورة البیّنة، الآیة 6.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...