صوت و فیلم

صوت:
,

فهرست مطالب

الجلسة السادسة والاربعون: عصارة المباحث السابقة

تاریخ: 
چهارشنبه, 11 اسفند, 1389

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 6 نیسان 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

عصارة المباحث السابقة

الحمد لله الذی تفضّل علیّ بالتوفیق للحضور فی هذا المحفل النورانیّ لأكون فی خدمة الإخوة الأعزّاء. موضوع بحثنا هو خطبة السیّدة الزهراء (سلام الله علیها)، وأنا أرى من الضروریّ فی بدایة العام الإیرانیّ الجدید أن نمرّ بعجالة على ذلك القسم من الخطبة الذی تمّ بحثه خلال المحاضرات الماضیة.
تبدأ الخطبة بالعبارة التالیة: «الْحَمْدُ للهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى مَا أَلْهَم». فالأنبیاء والأولیاء وعلماء الدین یستهلّون خطبهم بحمد الله والثناء علیه. لكنّ صفات الله تعالى ونعماءه التی تُستهلّ بها الخطبة تكون عادةً متناسبة مع الهدف الذی اُنشئت الخطبة من أجله. وفی هذه الخطبة المباركة أیضاً ذُكرت أوصاف خاصّة یمكن من خلال التأمّل فیها التوصّل إلى بعض الحِكَم من وراء تنظیم المقاطع المختلفة للخطبة. وعلى أقلّ تقدیر فإنّ ذكرها یساعدنا أكثر على الوقوف على أهمّیة الخطبة والهدف من إنشائها.

أعظم خدمة للبشریّة

بالإضافة إلى حمد الله عزّ وجلّ والثناء علیه فقد احتوت هذه الخطبة الشریفة على ثلاث مباحث جوهریّة توالت فی إثر بعضها، ألا وهی التوحید، والنبوّة، والمعاد التی هی - فی الحقیقة - أساس الدین. فقد ذُكرت فی بدایة الخطبة، وبطراز خاصّ، الشهادةُ بوحدانیّة الله تعالى. فالتوحید ینهض بدور أساسیّ وجوهریّ فی سعادة البشر وإنّ الشهادة بالتوحید تمثّل - فی واقع الأمر - اعترافاً بهذه النعمة الإلهیّة العظیمة وهی أنّ الله جلّت آلاؤه قد منّ علینا بأكثر عوامل السعادة أصالةً، ممّا لو لم یكن لما كانت باقی الامور ذات فائدة. وبطبیعة الحال فإنّ للتوحید مراتب وشؤوناً مختلفة.
ولا یبتعد الاهتمام بهذه المسألة عن كونه مناسباً مع هدف الخطبة. فكان بإمكان السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) أن تقول: «أشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شریك له». غیر أنّ ذكر هذه الأوصاف والتأكید على أنّ سعادة الإنسان مبنیّة على هذا الاعتقاد إنّما هی مقدّمة للمبحث الذی مفاده أنّ العمل الذی قام به أبی رسول الله (صلّى الله علیه وآله) من أجل المجتمع البشریّ، حیث أنقذهم من الشرك والضلالة وكافّة الشرور، كان عملاً جذریّاً وغایة فی العظمة، ولیس من الممكن مقارنته مع عمل أیّ إنسان آخر؛ ذلك أنّ الشیء الذی بذله (صلّى الله علیه وآله) للاُمّة ووضعه فی متناولها هو أهمّ العوامل وأكثرها أصالة وجوهریّة لسعادة البشر قاطبة إلى یوم القیامة. إذن فالخدمة التی قدّمها الرسول الأعظم (صلّى الله علیه وآله) للمجتمع البشریّ بشكل عامّ والامّة الإسلامیّة ومخاطَبی السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) بشكل خاصّ كانت أنّه عرّفهم بالتوحید وأنقذهم من الشرك والضلال.
من هنا فإنّ هذا المقطع من خطبة فاطمة الزهراء (علیها السلام) یمثّل مقدّمة لبیان قیمة ما قدّمه أبوها (صلّى الله علیه وآله) من خدمات. فأهمّیة التوحید تتجلّى من خلال هذه المقدّمة، لأنّه عندما یفهم المتلقّی أنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) قد بذل مثل هذه الخدمة للبشریّة فإنّه سیدرك مقدار ما لفعله (صلّى الله علیه وآله) من قیمة وما لمعاناته وجهوده فی هذا المضمار من خطورة.
وقد تمّ التركیز فی أثناء الشهادة بالتوحید على صفتین إلهیّتین هما: الربوبیّة التكوینیّة لله تعالى؛ بمعنى أنّ الله قد تلطّف على البشر بنعمة الحیاة، ونعمة الوجود وما یستلزمه الوجود من لوازم. فإنّ كلّ ما یعود إلى الامور التكوینیّة وما ینتفع الناس به یقع ضمن إطار هذه المجموعة؛ ومن جملة هذه النعم هی أنّه جلّ شأنه وفّر فی البیئة المحیطة بالإنسان ما یناسبه من أجل نموّه وحیاته. وهذا اللون من الربوبیّة یشمل جمیع الكائنات والموجودات. أمّا ما یستقطب أهمّیة أكبر بالنسبة للإنسان فهو الربوبیّة التشریعیّة وهدایة البشر. إذ أنّ ما یوجب سعادة المرء فی الدنیا والآخرة هو اكتشاف السبیل القویم للحیاة وهی مهمّة كانت من نصیب الأنبیاء (علیهم السلام). ومن هذا المنطلق فقد عرّجت (علیها السلام) بعد الشهادة بالتوحید على الشهادة بالرسالة مشیرة، فی هذا المقام، إلى عظمة نعمة الأنبیاء، خصوصاً النبیّ الخاتم (صلّى الله علیه وآله) . وهنا تذكر مولاتنا فاطمة (سلام الله علیها) الجهود والأعباء التی قاساها وتحمّلها الرسول الأكرم (صلّى الله علیه وآله) فی سبیل أداء هذه الرسالة الإلهیّة وإیصال هذه الربوبیّة التشریعیّة لله عزّ وجلّ إلى حیّز العینیّة بالنسبة لأهل العالم. فلولا بعث الله سبحانه وتعالى للأنبیاء، لاسیّما النبیّ الخاتم (صلّى الله علیه وآله)، لما تمكّن الناس من تشخیص الصراط المستقیم. ولولا هذه الهدایة وهذه النعمة لبقی الناس فی مستوى الحیوانات، بل وأخسّ منهم أیضاً؛ فالقرآن یصرحّ بأنّ بعض الناس هم أخسّ من البهائم: «أُوْلَـٰئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ»1، ووفقاً لصریح القرآن الكریم أیضاً فإنّ: «شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِینَ كَفَرُواْ»2. إذن فإنّ الذی یستطیع أن ینقذ الإنسان من قعر هذا الحضیض هو الموجودات المقدّسة المتمثّلة بالأنبیاء عامّة وبخاتمهم خاصّة وما جاءوا به (صلوات الله علیهم أجمعین) من تعالیم.
فتذكیر الزهراء (سلام الله علیها) بهذه النقاط من شأنه أن ینبّه الناس إلى ما بذله أبوها من جهود ویقودهم إلى إدراك أنّه أیّ حقّ عظیم لرسول الله (صلّى الله علیه وآله) فی رقابهم. إذن فذكر سمات الرسول الأكرم (صلّى الله علیه وآله) وما كان لجهوده وأتعابه من تأثیر على هدایة الناس ونجاتهم من الضلالة یتناسب هو الآخر مع هدف الخطبة؛ فسیّدتنا فاطمة (علیها السلام) إنّما تذكر ذلك لتقول فیما بعد: «هذا الرجل الذی قدّم كلّ تلك التضحیات كان أبی؛ وهو الذی كان له حقّ علیكم، وأنا ابنته الوحیدة». ثمّ تقول: «فبعد أن أدّى أبی رسالته على أتمّ وجه فضّل الله تعالى أن یقبضه إلى جواره وجوار ملائكته المقرّبین على أن یبقیه فی هذه الدنیا: «ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ إِلَیْهِ قَبْضَ رَأْفَةٍ وَاخْتِیَارٍ، وَرَغْبَةٍ وَإِیْثَارٍ فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ عَنْ تَعَبِ هَذِهِ الدَّارِ فِی رَاحَةٍ، قَدْ حُفَّ بِالْمَلائِكَةِ الأَبْرَارِ، وَرِضْوَانِ الرَّبِّ الْغَفَّارِ، وَمُجَاوَرَةِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ». وهذا المقطع یذكّر بهذه الالتفاتة وهی أنّ الله عزّ وجلّ، وإن اقتضت مشیئته هدایة الناس وإنقاذهم من الضلالة بواسطة أنبیائه (علیهم السلام)، غیر أنّ سنّة الله التكوینیّة لا تقتضی بقاء النبیّ بین ظهرانی الناس إلى الأبد. فالنبیّ إنسان حاله حال سائر الناس وإنّ ظروف وقوانین الحیاة فی هذا العالم حاكمة ومهیمنة علیه أیضاً، وهو المبحث الذی یولیه القرآن الكریم تأكیداً واهتماماً أیضاً. فالنبیّ یحمل رسالة إلهیّة یتعیّن علیه إبلاغها إلى الناس، أمّا فی المرحلة التالیة فالناس هم الذین یتحتّم علیهم النهوض بمسؤولیّة المحافظة على هذه الرسالة الإلهیّة.
وفی أثناء المباحث الآنفة الذكر تشیر الزهراء (سلام الله علیها) أیضاً إلى قضیّة أنّ النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) ومن خلال تبیینه سبیل السعادة وطریق الشقاء للناس فقد نبّههم إلى نتائج أعمالهم الأبدیّة وأنذرهم بأنّ الحیاة لا تقتصر على فترة العیش الدنیویّ القصیرة الأمد فتنتهی بانتهائها، بل إنّ أعماركم القصیرة هذه هی مقدّمة لنیل السعادة السرمدیّة أو الشقاء الأبدیّ.
وبهذه المقاطع من الخطبة قد تمّ تقریر هذه الاُصول الثلاثة المتمثّلة بالتوحید، والنبوّة، والمعاد مع ذكر بعض الأوصاف الخاصّة بما یتناسب مع الهدف الذی ترمی إلیه الخطبة.

الولایة، نظام للملّة ووقایة من الفُرقة

عندما تصل الزهراء (سلام الله علیها) إلى هذا المقطع من البحث تقوم بمتابعة خطبتها عبر توجیه خطابها إلى الحضور مباشرة. وهذا الاُسلوب فی الكلام ینطوی – بحدّ ذاته – على طابع بلاغیّ وهو كفیل بأن یلفت انتباه المخاطب ویُفهِمه بأنّ للمتكلّم - من الآن فصاعداً - كلاماً خاصّاً معه.
تقول الزهراء (علیها السلام) هنا: «أیّها الناس! أنتم تعلمون مدى الجهود التی بذلها أبی والمعاناة التی قاساها فی سبیل نشر دین الله سبحانه وتعالى وهدایتكم إلى الصراط المستقیم». فهی (علیها السلام) ترمی بتذكیر الناس بمیزات رسول الله (صلّى الله علیه وآله) إلى انتشالهم من غیاهب غفلتهم من جانب وإثارة عواطفهم من أجل أن تمهّد فی نفوسهم الأرضیّة لقبول كلامها من جانب آخر، وهذا أیضاً من الأسالیب البلاغیّة ومن الطرق التی یمكن استخدامها للتأثیر على الآخرین. فمولاتنا (علیها السلام) أرادت بهذا الاُسلوب أن تنبّههم إلى أنّ الدور الآن فی الحفاظ على تراث رسول الله (صلّى الله علیه وآله)، المتمثّل بالقرآن الكریم والدین الإسلامیّ الحنیف، هو دوركم. وهی بهذه المناسبة تشیر إلى بعض حِكَم الأحكام وفلسفة التشریعات الإلهیّة. وهذا المقطع یحمل التفاتة تُعَدّ هی الاخرى ذات تأثیر على ما ستنتهی إلیه الخطبة من استنتاج؛ ففی خضمّ سَرْد العلل من وراء تشریع بعض الأحكام كالصلاة، والزكاة، وغیرها تقول فاطمة الزهراء (سلام الله علیها): «وَطَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ، وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً مِنَ الْفُرْقَة». إذ أنّ لكلٍّ من الأحكام الإلهیّة توجد مصالح، وأنّ أحد تلك الأحكام هو طاعتنا أهل البیت (علیهم السلام)؛ وذلك لقوله عزّ من قائل: «أَطِیعُواْ اللهَ وَأَطِیعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِی الأَمْرِ مِنكُم»3 وإنّ لهذا التشریع الإلهیّ أیضاً حكمة مهمّة لا ینبغی الغفلة عنها وهی تنظیم ملّة الإسلام، أی الدین الإسلامیّ المقدّس. فلولا إمامتنا لم یكن دین الإسلام لینتظم. ولو احتمل أحدهم أنّ ذكر سائر الأحكام هو من باب المقدّمة من أجل تعیین منزلة الإمامة فلا یكون احتماله مستبعَداً؛ بمعنى أنّ ذكر كلّ هذه المجموعة هو من أجل معرفة هذا العنصر. فهی (علیها السلام) ترید أن تقول: «لقد أنزل الله علیكم هذا الدین وسلّمكم رسول الله (صلّى الله علیه وآله) هذه الأمانة وإنّ من واجبكم حفظ هذه الأمانة بأحسن ما یكون الحفظ». ولأجل ذلك فإنّها (علیها السلام) - بعد سردها لهذه الملاحظات وفی ختام هذا المقطع – تعرّج على وصیّة القوم بالتقوى؛ أی: ما دامت هذه المسؤولیّة ملقاة على عواتقكم فاعلموا أنّكم إن تهاونتم فی حملها ولم تراعوا التقوى فستذهب جهود أبی وهذا الهدف الإلهیّ أدراج الریاح. فقد كان الهدف من الرسالة هو أن تتمكّنوا من وجدان سبیل السعادة لتكون ملّة الإسلام التی تهب الحیاة هی الآمرة الناهیة فیكم، فإذا لم تراعوا هذه المسائل فإنّه لن یمضی أكثر من جیل واحد حتّى لا یبقى من الإسلام إلا أثر بعد عین.
ومن أجل أن تثیر (علیها السلام) فی أذهان الناس قضیّة اخرى فی نفس هذا السیاق قد غابت عنهم فإنّها تتوجّه إلیهم بالخطاب مرّة اخرى فتقول: «إذا كان أبی قد تحمّل شدید المعاناة وبذل قصارى الجهود من أجل هدایتكم فاعلموا أنّه لم یفعل هذا لوحده. فإنّ الشخص الذی كان ناصر أبی فی كلّ المحن والشدائد والذی كان النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) یلجأ إلیه فی طلب النصرة والمعونة لحلّ كلّ معضلة كان هو ابن عمّی علیّ بن أبی طالب (علیه السلام)؛ «... وَبَعْدَ أَنْ مُنِیَ بِبُهَمِ الرِّجَالِ، وَذُؤْبَانِ الْعَرَبِ، وَمَرَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ «كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ»، أَوْ نَجَمَ قَرْنٌ لِلشَّیْطَانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِینَ، قَذَفَ أَخَاهُ فِی لَهَوَاتِهَا». فأنتم تعلمون أنّه لولا علیّ لما انتظم أمر الإسلام. إذن فكما أنّكم مدینون للنبیّ لتلّقیه الوحی من الله عزّ وجلّ وإبلاغه إلیكم، فإنّكم مدینون لزوجی أیضاً لمساعیه من أجل ثبات هذا الدین».
ثمّ تقول: «وأنتم أیضاً قد اعتنقتم الإسلام ابتداءً فی حیاة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) ثمّ نهضتم لنصرته، لكن أصابتكم الغفلة بمجرّد رحیله وسلكتم سبیل الانحطاط؛ «فَلَمَّا اخْتَارَ اللهُ لِنَبِیِّهِ دَارَ أَنْبِیَائِهِ، وَمَأْوَى أَصْفِیَائِهِ، ظَهَرَ فِیكُمْ حَسِیكَةُ النِّفَاق». وحینذاك أخرج الشیطانُ - الذی كان كامناً لكم - رأسَه من جُحره خِلسةً لیتبیّن أحوال مجتمعكم فرآكم مهیّئین للضلالة؛ «أَطْلَعَ الشَّیْطَانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرَزِهِ هَاتِفاً بِكُمْ، فَأَلْفَاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجِیبِینَ، وَلِلْغِرَّةِ فِیهِ مُلاحِظِینَ، ثُمَّ اسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُمْ خِفَافاً، وَأَحْمَشَكُمْ فَأَلْفَاكُمْ غِضَاباً»». ولقد بیّنت الصدّیقة الطاهرة (سلام الله علیها) هذا المبحث باُسلوب هو غایة فی الأدب والبلاغة سبق أن قمت بتوضیحه بحدود فهمی وبما توفّر لدیّ من وقت. فهذه الالتفاتة كانت الموطّئة للإشارة لهذا المبحث وهو: «لقد تهیّأت أرضیّة الزیغ عن مسیر الإسلام منذ الیوم الأوّل لوفاة النبیّ الكریم (صلّى الله علیه وآله) ولقد كان ذلك نتیجة غفلتكم وجهلكم وسباتكم الأمر الذی مكّن الشیطان من التسلّط علیكم وحرفكم عن الطریق القویم».
ومن الضروریّ - إذا سنحت لنا الفرصة یوماً - أن نتطرّق إلى هذه القضیّة ونتحدّث عنها وهی: كیف یتسنّى لاولئك الذین تحمّلوا كلّ تلك الأعباء والمحن أن ینقضوا ما قطعوا على أنفسهم مع رسول الله من عهد فی نفس الیوم الذی فارق (صلّى الله علیه وآله) فیه الدنیا وجنازته لم تزل مطروحة على الأرض لم تُجَهّز بعد؟! حقّاً إنّها لمسألة غامضة، تكتنفها الأسرار لكنّها فی نفس الوقت تحمل دروساً وعبراً أیضاً. فهذا الامتحان غیر مخصوص بهؤلاء القوم، إذ لعلّه یجری علینا أیضاً ببعض مراتبه ودرجاته. لاحظوا أنّنا عندما خطونا فی الطریق الصحیح كیف أنّ الله قد منّ علینا بالهدایة وتفضّل علینا بأن أمّر علینا قائداً حكیماً كی نعرف الطریق ولا نحید عنه، لكن لا ینبغی أن ینتابنا الغرور فنظنّ أنّ سعادتنا أصبحت مضمونة! فمادام الإنسان حیّاً یستنشق هواء هذه الدنیا فإنّه عرضة للمخاطر. فحذار أن نغترّ بأنفسنا ونطمئنّ من مستقبلنا، بل علینا أن نلجأ إلى الله ونسأله حُسن العاقبة والحفظ فی كلّ الأحوال والمراحل. بالطبع هذا بشرط أن لا نقصّر على صعید العمل بما هو ضمن حدود فهمنا واستیعابنا.

الأخطاء التی لا یمكن تداركها

على أیّة حال فإنّ الزهراء البتول (علیها السلام) توكّد على هذه النقطة وهی: «لقد أصابتكم الآفات منذ اللحظة الاولى لرحیل أبی (صلّى الله علیه وآله)، وإنّ منشأ تلك الآفات هی الغفلة».
فكلّنا یعلم أنّ الإنسان یمكن أن یخطأ أو یزلّ. فما عدا المعصومین (علیهم السلام) وبعض المتربّین فی مدرستهم فإنّ جمیع من سواهم تقریباً مبتلون بارتكاب الخطیئة والمعصیة. لكنّ الخطأ ینقسم - بشكل عامّ - إلى قسمین؛ فتارة قد یتهاون المرء فیرتكب خطأ، لكنّ خطأ كهذا یكون قابلاً للتدارك. فإذا ترك المرء صلاته حتّى خرج وقتها، لكنّه تاب بعدها توبة نصوحاً وقضاها فإنّ خطأه سوف یمحى. أمّا القسم الآخر من الخطأ فإنّه من النوع الذی إذا ابتدأ لا تكون فیه رجعة ویوصَد السبیل أمام تداركه. وفی مثل هذه الحالة لا یحرم المرء نفسه من البركات والرحمات فحسب بل سیقود ذلك إلى انحراف الآخرین وضلالهم أیضاً. من هذا المنطلق علینا نحن طلبة العلوم الدینیّة أن نلتفت إلى هذا الخطر المحدق أكثر من غیرنا. فلو تفوّه الأشخاص العادیّون بكلام خاطئ أو حتّى انتحلوا مذهباً منحرفاً فمن الممكن بعد أن یثوبوا إلى رشدهم ویلتفتوا إلى خطئهم أن یُشمَلوا بلطف الله عزّ وجلّ وعنایته فیتوبوا. أمّا إذا ألقى امرؤ شبهةً أو طرح موضوعاً غیر مدروس أدّى إلى انحراف ضلالة أحد من الناس، وهو ما نشاهد نماذج غیر قلیلة منه فی عالمنا المعاصر، فكیف یتسنّى له یا ترى أن یتدارك خطأه هذا؟! فإذا كتب شخص مقالة مضلّة وقرأها الآلاف فی داخل البلاد وخارجها وأدّت إلى ضلالتهم، فكیف یمكن تقویم هذا الانحراف؟! فعندما تُبثّ شبهةٌ مّا ویصاب دین المرء جرّاءها بالفساد فلا یمكن الوثوق من إمكانیّة تدارك ما فسد. فإلقاء الشبهة أمر غایة فی السهولة، أمّا جبران عواقبها فهو شدید الصعوبة. فكلّما اتّسعت رقعة هذا الزیغ والانحراف فإنّ ذنبه بالنسبة للمتسبّب به سیبقى ویتأصّل: «وَلَیَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ»4. وعلى العكس من ذلك إذا هدى شخص امرأ فسیشاركه فی كلّ عمل خیر یقوم به الأخیر إلى یوم القیامة.
هذا على صعید الفكر والعقیدة. أمّا على صعید العمل فالأخطاء على نوعین أیضاً؛ فبعضها قابل للتدارك وبعضها الآخر غیر قابل لذلك؛ فإذا اُنیطت بالمرء مسؤولیّة اجتماعیّة ثمّ قام - عوضاً عن خدمة أفراد المجتمع – بتضییع حقوقهم، أو بسنّ أو تنفیذ قانون خاطئ فكیف یمكنه جبران ذلك؟ فالصوت الذی نرمیه فی صندوق الانتخابات معناه أنّنا نسلّط شخصاً على رقاب العباد ولابدّ أن نعلم أنّنا سنكون شركاء فیما یناله هذا الشخص من ثواب أو عقاب على أعماله بنسبة ما لنا من دور فی صعوده إلى سدّة الحكم. إذن یتعیّن علینا أن نتعامل مع مثل هذه الامور ببالغ الحساسیّة لاسیّما فیما یرتبط بنا نحن طلبة العلوم الدینیّة؛ أی فیما یتعلّق بالمسائل الفكریّة والعقائدیّة. ینبغی أن نتوخّى الحذر الشدید من أن نقول أو نكتب كلّ ما یتبادر إلى أذهاننا. كما علینا أن نشعر بالمسؤولیّة أیضاً؛ فلو طرأت على دین امرئ شبهة ضَعُف إیمانه بسببها فمَن هو المسؤول عن ذلك یا ترى؟ وكیف یمكن تدارك ذلك؟ فإن كتب أحدٌ مقالة تحتوی على شبهة ثمّ اكتشف خطأه وتدارك الأمر بكتابة جواب على ما كتبه، فهل سیؤثّر ذلك على المخاطَبین؟
وكأنّ الصدّیقة الزهراء (سلام الله علیها) أرادت بكلامها هذا الإشارة إلى هذه النقطة وهی: «لم یكن أثر غفلتكم أنّكم حُرِمتم من تصدّی القیادة الحكیمة والحقیقیّة لمقالید الامور فحسب، بل إنّكم بغفلتكم هذه قد غیّرتم مسیرة الاُمّة الإسلامیّة وحرفتموها عن وُجهتها، فاغتنم الشیطان الفرصة واستغلّ غفلتكم كی یحرفكم عن خطّ الإسلام الصحیح».
وسنتابع هذا البحث فی المحاضرة القادمة إن شاء الله تعالى.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین


1. سورة الأعراف، الآیة 179.

2. سورة الأنفال، الآیة 55.

3. سورة النساء، الآیة 59.

4. سورة العنكبوت، الآیة 13.

 

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...