صوت و فیلم

صوت:
,

فهرست مطالب

الجلسة الثانیة والخمسون: آیات خطبة الزهراء سلام الله علیها

تاریخ: 
چهارشنبه, 21 ارديبهشت, 1390

بسم الله الرحمـٰن الرحیم

هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 18 أیار 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.

آیات خطبة الزهراء (سلام الله علیها)

قوم ناكرون للجمیل

وصلنا فی المحاضرات السالفة إلى المقطع الأخیر من خطبة الزهراء (سلام الله علیها) حیث قد دار حوار طویل بینها (علیها السلام) وبین من كان یسمّى بالخلیفة الأوّل، وقد استشهدت الزهراء فی أجوبتها اللاذعة بآیات من الذكر الحكیم. حتّى قال أبو بكر فی نهایة المطاف: «إنّنی لم أتربّع على كرسیّ الخلافة إلاّ بمشورة الناس فهم الذین أمّرونی علیهم، وإذا كنت قد تصرّفت بعِقار فدك فلم یكن ذلك إلاّ بموافقة الرعیّة. فهذه أنت وهؤلاء الناس، وإن شئتِ اعملی بما یقولون». فردّت علیه الزهراء (علیها السلام) ردّاً عنیفاً، ثمّ التفتت ثانیة إلى المسلمین وقالت لهم:
«مَعَاشِرَ المُسْلِمِین الْمُسْرِعَةَ إِلَى قِیلِ الْبَاطِلِ، الْمُغْضِیَةَ عَلَى الْفِعْلِ الْقَبِیحِ الْخَاسِرِ أَفَلا تَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ «أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها»1، كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَا أَسَأْتُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَأَخَذَ بِسَمْعِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ، وَلَبِئْسَ مَا تَأَوَّلْتُمْ، وَسَاءَ مَا بِهِ أَشَرْتُمْ، وَشَرَّ مَا مِنْهُ اغْتَصَبْتُمْ، لَتَجِدُنَّ وَاللهِ مَحْمِلَهُ ثَقِیلاً، وَغِبَّهُ وَبِیلاً، إِذَا كُشِفَ لَكُمُ الْغِطَاءُ، وَبَانَ مَا وَرَاءَهُ بإورائه الضَّرَّاءُ، وَبَدَا لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَحْتَسِبُوُنَ «وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ»2؛ أی: یا معاشر المسلمین المسرعة إلى الكلام الباطل والمغضیة بطرفها والمتسامحة عن الفعل القبیح والخاسر. ألا تتدبّرون فی كلمات القرآن الكریم أم إنّ قلوبكم موصدة ومقفلة؟! لا بل إنّ قبیح فعالكم قد أظْلَمَ قلوبكم فسلبكم الله سمعَكم وأبصاركم. فبئسما فسّرتم به آیات الباری عزّ وجلّ، وما أسوأ ما أشرتم إلیه من رأی! وأیّ عوضٍ سیّئ تلقّیتم نتیجة فعلتكم هذه! فبالله اُقسم إنّ عبء عملكم هذا سیكون علیكم عظیماً، وثقله كبیراً، وستؤولون إلى أسوأ العواقب. وعندما یحین الیوم الذی یُكشف فیه الغطاء عن أعمالكم ویظهر ما خفی تحته من أفعالكم ستظهر لكم من الله تعالى من البلایا والشدائد ما لم تكونوا تحتسبون وسیخسر حینئذ أهل الباطل خسراناً شدیداً.
ومن الجلیّ - جریاً على القاعدة - فإنّه عندما یترك المتصدّی للخلافة الأمر إلى الناس ویقول: إنّنی قد عملت برأیهم، فلابدّ أن یُبدی الناس - إذا كان لدیهم شعور بالمسؤولیّة – معارضة لذلك لاسیّما وأنّ الزهراء (سلام الله علیها) قد اشتكت منهم غیر مرّة بسبب عدم نصرتهم للحقّ. لكنّ الناس - مع ذلك كلّه - أصرّوا على التزام الصمت ولم ینبسوا ببنت شفة. ولهذا فقد توجّهت (سلام الله علیها) بخطابها إلى الناس معترضة على قبولهم بالكلام الباطل وغضّ الطرف والتسامح عن مخالفة الحقّ؟! قائلة لهم: اعلموا أنّكم ستتورّطون بتبعات وعواقب هذا العمل وستندمون یوماً على فعلتكم هذه حیث لن یجدی الندم نفعاً.

مباینة علیّ (علیه السلام) وقوعٌ فی الفتنة

تحتوی هذه الجمل على التفاتات قیّمة لا تختصّ بذلك الزمن وأهله بل یمكننا نحن أیضاً أن نستلهم منها الدروس والعبر فی زماننا هذا.
لقد اقتبست مولاتنا الزهراء (علیها السلام) فی هذا المقطع عدداً من آیات القرآن الكریم. فإذا تصوّرنا الموقف وجدنا امرأة تقف فی محكمة رسمیّة مدّعیة غصب مالها من غیر سبب، وهی فی صدد ذكر آیات من القرآن الكریم لإثبات مدّعاها، فبأیّ آیة یمكنها أن تستشهد لذلك؟ وفقاً للقاعدة فإنّه یتعیّن عیلها أن تستشهد بآیات من قبیل: «لا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَیْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ»3، أو قوله تعالى: «لا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَیْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ»4. لكن لأیّ سبب تخاطبهم (سلام الله علیها) بالقول: «أأصبحتم كفّاراً وتركتم دین الله سبحانه وتعالى؟ أتریدون سلوك سبیل النار الخالدة»؟!
من المسَلّم أنّ فاطمة الزهراء (علیها السلام) لا تقول قولاً اعتباطیّاً أو من دون تمحیص وتأمّل، وإنّ الآیات التی تلتها خلال هذه الخطبة الشریفة عجیبة للغایة. فعندما أشارت فی بدایة الخطبة إلى واقعة السقیفة وتغییر وجهة الخلافة قالت: یزعم أهل السقیفة أنّهم عجّلوا فی تعیین خلیفة الرسول تفادیاً لوقوع الفتنة وحدوث الفوضى فی الاُمّة، لكن: «أَلا فِی الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَةٌ بِالْكَافِرِینَ»5؛ فهؤلاء هم أساساً فی قلب الفتنة وإنّ جهنّم محیطة بهم من كلّ جانب. ثمّ تقول متابعةً: أتریدون بحكمكم هذا أن تبتغوا دیناً غیر الإسلام؟! «وَمَن یَبْتَغِ غَیْرَ الإِسْلامِ دِیناً فَلَن یُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِی الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِینَ»6. فهذه الآیة إنّما تنفع كجواب لاُولئك المنادین بالتعدّدیة الدینیّة والقائلین بأنّ جمیع الأدیان حسنة ولا یهمّ بأیّها نتدیّن، لكنّ بأیّ حجّة تقتبس الزهراء (سلام الله علیها) هذه الآیة فی مقام المطالبة بحقّها المغتصَب؟ ولماذا استشهدت بقوله تعالى: «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِیَّةِ یَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ یُوقِنُونَ»7؟ أی: «أتریدون إحیاء أحكام الجاهلیّة؟! فأیّ حكم هو أفضل من حكم الله؟ أم تریدون التخلّی عن حكمه عزّ وجلّ»؟! فهل ادّعى القوم ذلك یا ترى؟ كلاّ، فلم یظهر ذلك من كلامهم إطلاقاً، بل كان أبو بكر یحاول جهده الحفاظ على احترام فاطمة، لكنّها (سلام الله علیها) كانت تردّ علیه ردوداً عنیفة لاذعة. فمن جملة الآیات التی استشهدت بها (علیها السلام) هی الآیة التاسعة والثلاثون من سورة هود التی یقول فیها تعالى: «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن یَأْتِیهِ عَذَابٌ یُخْزِیهِ وَیَحِلُّ عَلَیْهِ عَذَابٌ مُّقِیمٌ»، والقرآن الكریم یستخدم هذا الاسلوب فی القول حینما یخاطب الكفّار والمشركین. لكنّ الزهراء كانت تخاطب بنفس هذه اللهجة اُناساً یقیمون الصلاة وشخصاً بایعه الناس خلیفةً لرسول الله (صلّى الله علیه وآله)، فأیّ حكمة من وراء ذلك یا ترى؟

ترك علیّ (علیه السلام) عودةٌ إلى الجاهلیّة

وكذا الحال عندما تشتكی فاطمة (سلام الله علیها) من عدم نصرة المسلمین فنراها تقول، من باب التبریر: لعلّكم ظننتم أنّ الأمر قد انتهى برحیل النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وأنّكم تستطیعون بعد رحیله أن تفعلوا ما تشاءون، فی حین أنّه: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِیْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن یَنقَلِبْ عَلَى‏ عَقِبَیْهِ فَلَن یَضُرَّ اللهَ شَیْئاً وَسَیَجْزِی اللهُ الشَّاكِرِینَ»8. وهذه آیة عجیبة تستحقّ الوقوف عندها والتأمّل فی سبب استشهاد فاطمة الزهراء (علیها السلام) بها فی هذا المقام بالذات. یقول الباریّ عزّ وجلّ فی هذه الآیة: «أفینبغی أن تتخلّوا عن دین الله تعالى وتنكصوا على أعقابكم إذا مات رسول الله (صلّى الله علیه وآله) أو قُتل؟! إنّكم إن فعلتم ذلك فلن تضرّوا اللهَ سبحانه فی شیء، أمّا إذا شكرتم نعمة ربّكم فسیثیبكم الله على شكركم». ترید الزهراء (علیها السلام) من خلال ذكر هذه الآیة فی مجلس كهذا أن تقول: إذا ظننتم أنّكم غیر مسؤولین عن الدفاع عنّا وحمایتنا بعد رحیل النبیّ (صلّى الله علیه وآله) فستكونون مصداقاً لهذه الآیة وعلیكم أن تعلموا أنّكم بفعلتكم هذه لن تتسبّبوا بأیّ ضرر لله جلّ شأنه بل إنّكم أنتم الذین ستخسرون. ثمّ تُتبع ذلك بذكر قوله تعالى: «وَقَالَ مُوسَىٰ إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِی الأَرْضِ جَمِیعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِیٌّ حَمِیدٌ»9؛ فإنّكم إن كفرتم أیّها المسلمون وكلّ سكان المعمورة فلن تضرّوا الله قید أنمُلة ولن ینال كبریاءَه أیُّ غبار. فلماذا تسوق بضعة الرسول (سلام الله علیها) هذه الآیة فی هذا الموطن بالذات؟ أكان فی المجلس من ینوی التخلّی عن دینه یا ترى؟!

اقتراف الذنب إخلال بمنظومة المعرفة

وعندما طُرح بحث كون فدك إرثاً ورُدّ على الزهراء (سلام الله علیها) بالقول: إنّ الأنبیاء لا یورّثون، قالت (علیها السلام): «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِیلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ»10؛ وهی تقصد بهذا القول: لیست القضیّة أنّ الأمر قد التبس علیكم وأنّكم حقّاً لا تعلمون أنّ النبیّ یورّث أیضاً، حاله فی ذلك حال بقیّة الناس، بل إنّكم قد أعددتم هذا السیناریو بأنفسكم لتنفّذوا ما تحبّون على أرض الواقع، وما علَیّ إلاّ أن أصبر حتّى تتحقّق إرادة الله عزّ وجلّ.
وفی المقطع الذی ذكرناه الیوم من الخطبة تستشهد الصدّیقة الطاهرة (علیها السلام) بالآیة الرابعة والعشرین من سورة محمّد (صلّى الله علیه وآله)، ومن ثمّ تقتبس مفاهیم الآیة الرابعة عشرة من سورة المطفّفین وتوردها بصیغة الخطاب، والآیة هی: «كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ یَكْسِبُونَ». فمن الحقائق التی یؤكّد علیها القرآن الكریم هی أنّ الأعمال القبیحة للإنسان تؤدّی به بشكل تدریجیّ إلى عدم إدراك الحقّ وضعف الإیمان حتّى ینتهی إلى الكفر؛ كما تصرحّ الآیة الثالثة والعشرین من سورة الجاثیة فتقول: «أَفَرَءَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن یَهْدِیهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ»؛ أی: إذا أصبح الهوى هو معبود المرء من خلال إذعانه لأهواء نفسه فإنّ الله سیعمی بصره ویصمّ سمعه ویضلّه إن كان من أهل العلم والفهم ویجعل على بصره غشاوة وفی سمعه وقراً. فمَن الذی یستطیع هدایة مثل هذا الإنسان؟ إنّ شخصاً كهذا لا یكون قابلاً للهدایة على الإطلاق. ومثل هذا المضمون موجود أیضاً فی الآیة الرابعة عشرة من سورة المطفّفین حیث یقول عزّ من قائل: «كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ یَكْسِبُونَ»؛ فإنّ سیّئات من كانوا یواجهون الله عزّ وجلّ بالخطایا والمعصیة وقبائحهم قد تجمّعت كالصدأ فی بواطنهم وتراكمت كالرین والطین على مرآة قلوبهم فلم تعد تعكس أیّ نور.
تخاطب الزهراء (علیها السلام) المسلمین قائلة: لقد اتّبعتم ما أملَتْه علیكم أهواؤكم ونزواتكم فجئتم بأعمال أدّت إلى اسوداد قلوبكم، ونتیجة لذلك لم تعودوا تدركون شیئاً. لكن سیكشف الله یوماً الغطاء عمّا خفی من أعمالكم ویُظهر ما لم تكونوا تحتسبون، وحینذاك ستفهمون أیّ خطیئة عظیمة اجترحتم: «فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْیَوْمَ حَدِیدٌ»11. والسؤال المـُلِحّ هنا هو: ما الذی دفع الزهراء (سلام الله علیها) فی مجلس كهذا إلى الاستشهاد بهذه الآیات التی یخاطب الله فیها الكفّار والمشركین؟ والسبب هو أنّها (علیها السلام) كانت تشاهد، بما اُوتیَتْ من البصیرة الثاقبة واطّلاعها على الحقائق، أنّ ما بدأ بالظهور من انحراف عن مسیر الحقّ سوف لن ینتهی إلاّ إلى الكفر والشرك: «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِینَ أَسَاؤُواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بِآیَاتِ اللهِ وَكَانُواْ بِهَا یَسْتَهْزِؤُونَ»12.
لقد كنتُ على معرفة بطالب جامعیّ متدیّن. وعندما ذهب هذا الطالب إلى لندن لطلب العلم سمع أنّ بعض أفران الخبز هناك تدهن الفرن بزیت الخنزیر لتسهیل عملیّة إخراج الخبز منها. فأخذ یبحث عن فرن یستعمل الزیت النباتیّ كی یطمئنّ من حلّیة الخبز الذی یتناوله. فهل تصدّقون أنّ هذا الشخص نفسه قد وصل به الأمر فیما بعد إلى إنكار أصل الدین والوحی والنبوّة وكلّ شیء. فلیست القضیّة أنّ كلّ فاسق كان فاسقاً منذ البدایة. بطبیعة الحال یوجد من هو فاسد من البدایة، لكنّ القرآن الكریم یقول: «وَاتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ الَّذِی ءَاتَیْنَاهُ ءَایَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّیْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِینَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ»13؛ فقد كان یوجد اُناس آتیناهم من النعم الجمّة والمعارف العمیقة وقد كانوا صالحین منذ بدایة أعمارهم ومستجابی الدعوة، لكنّهم بدأوا شیئاً فشیئاً بالمیل والركون إلى أهوائهم حتّى أصبحوا كالكلاب. فلقد بلغ الأمر بالمسلمین - الذین قاتلوا مع النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وصاحبوه - أن توبّخهم الزهراء (سلام الله علیها) وتعنّفهم بهذه الصورة. لماذا؟ ذلك أنّها (علیها السلام) كانت ترى أنّه لن تكون لهذا الزیغ والانحراف عن الحقّ من عاقبة سوى الكفر. فإن نحن بنینا أمرنا على عدم الاكتراث لأحكام الله عزّ وجلّ وأصبحنا تدریجیّاً نمیل إلى القول: «أجل، الإسلام والنزعة الإسلامیّة أمر جیّد، لكنّ زمان هذه المواضیع قد ولّى من غیر عودة وقد حلّ محلّها زمان القومیّة والقیم الإنسانیّة»! فلا ننتظرنّ إلاّ عاقبة من هذا القبیل.

السرّ وراء اختیار فاطمة (سلام الله علیها) لهذه الآیات

لم یكن أحد بعد رسول الله (صلّى الله علیه وآله) لیتمكّن من المحافظة على الإسلام إلا أن یكون أشبه الناس به (صلّى الله علیه وآله) وإنّ الله جلّ وعلا قد مَنّ على المسلمین إذ خلق إنساناً كهذا وعرّفهم به؛ أمّا المسلمون فقد تخلّوا وابتعدوا عنه وقد شكّل هذا التصرّف نقطة الانطلاقة على طریق الباطل. ولهذا فقد وصل الأمر بهؤلاء المسلمین إلى قتل سبط الرسول الأعظم فی كربلاء أبشع قتلة. فإنّ كون المرء مصلّیاً وصائماً لا یشكّل بالضرورة دلیلاً على كونه إنساناً صالحاً من جمیع النواحی، بل لابدّ من النظر إلى عقائده. فإن قال: «أجل، لقد قال الله إنّ علیّاً هو الولیّ بعد رسول الله، لكنّنا نرى الصلاح فی أن یتصدّى شخص آخر للخلافة»، فهذا یعنی أنّه قد جعل نفسه فی عرض وجود الله عزّ وجلّ! فهذا الإمام الصادق (علیه السلام) یقول فیمن یردّ حكم نائب المعصوم: «فإذا حَكَم بحُكْمنا فلم یقبله منه فإنّما استخفّ بحكم الله وعلینا ردّ، والرادّ علینا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله»14، فكیف یكون الردّ على كلام هذا الشخص مؤدّیاً إلى الشرك بالله؟ وذلك لأنّه یحكم بحكم الله تعالى، ومن هنا فإنّ الذی یخالف كلامه فهو یضع كلامه فی عرض كلام الله ویقول: قانون الله قانون، وقانونی هو قانون أیضاً! وهذا هو معنى الشرك.
إذن فإنّ ما وجّهته فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) من تهدیدات وتوبیخات للقوم هو من أجل أن تقول لنا: حذار من الانفصال عن محور الحقّ. إذ أنّ علیّاً مع الحقّ والحقّ مع علیّ15، فمباینة علیّ (علیه السلام) یعنی الزیغ والانحراف وهی تقود فی نهایة المطاف إلى الكفر. إذن علینا أن نقدِر نعمة الولایة حقّ قدرها. فلقد جهد علماؤنا الأعلام لمدّة 1400 سنةً للحفاظ على مذهب التشیّع من أجل أن یصل إلینا، ولقد أمَرَنا أئمّتنا الأطهار (علیهم السلام) من أجل صیانة هذه النعمة والوقوف أمام الانحراف عن سبیل الحقّ بالقول: «علیكم بالرجوع إلى حَمَلة علومنا فی زمان غیبتنا. فهؤلاء هم الحكّام علیكم ولهم الولایة علیكم أیضاً». فولایة الفقیه لم تصل إلى أیدینا بسهولة، وهی لا تعنی المحبّة والاُلفة فحسب؛ فبعض أهل السنّة یقول: «إنّ معنى كلام النبیّ (صلّى الله علیه وآله) عندما قال: «من كنت مولاه فهذا علیّ مولاه»16 هو: مَن كان یحبّنی وكنتُ أحبّه فلیحبّ علیّاً أیضاً. ونحن نحبّ علیّاً». فكم عانى صاحب كتاب «العبقات» وصاحب كتاب «الغدیر» وأمثالهما كی یثبتوا أنّ المراد من المولى لیس هو المحبّة فحسب، بل الولایة؛ بمعنى أنّ طاعة علیّ (علیه السلام) هی فرض علیكم.
وقد یبادر البعض فی زماننا أیضاً إلى القول: إنّ ولایة الفقیه تعنی أنّ علینا أن نحبّ الفقهاء. والحال أنّها تعنی أنّ طاعة الولیّ الفقیه هی واجبة تماماً كطاعة المعصوم (علیه السلام). لذا فإنّ من المناسب فی المرحلة الاُولى أن نؤمن نحن بهذه المسألة، لنعمد فی المرحلة الثانیة إلى رفع ما علق فی أذهان الآخرین من شبهات حولها.

وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله


1. سورة محمّد (صلّى الله علیه وآله)، الآیة 24.

2. سورة غافر، الآیة 78.

3. سورة النساء، الآیة 29.

4. سورة البقرة، الآیة 188.

5. سورة التوبة، الآیة 49.

6. سورة آل عمران، الآیة 85.

7. سورة المائدة، الآیة 50.

8. سورة آل عمران، الآیة 144.

9. سورة إبراهیم، الآیة 8.

10. سورة یوسف، الآیة 18.

11. سورة ق، الآیة 22.

12. سورة الروم، الآیة 10.

13. سورة الأعراف، الآیتان 175 و 176.

14. الكافی، ج1، ص67.

15. قال رسول الله (صلّى الله علیه وآله): «علیّ مع الحقّ والحقّ مع علیّ» (بحار الأنوار، ج10، ص432).

16. الكافی، ج1، ص420.

 

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...