هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 3 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
أحمد الله سبحانه وتعالى على أن تفضّل علیّ مرّة اُخرى بتوفیق الحضور فی هذا المحفل النورانیّ لأتحدّث إلیكم أیّها الأعزّاء حول وصایا أهل بیت العصمة والطهارة (سلام الله علیهم أجمعین). لقد ارتأیت أن أتطرّق فی هذا الشهر الفضیل شهر رمضان المبارك - وبمقدار ما یمدّنی الله به من توفیق وعون - إلى روایة ینقلها أحد خواصّ أصحاب أئمّتنا الأطهار (علیهم السلام).
لم یكن كلّ من أدرك أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین) من الصحابة متساوین من حیث المعرفة والإیمان والولایة. فقد كان أهل البیت (علیهم السلام) یحدّثون بعض أصحابهم بمباحث واُمور من دون أن یجیزوا لهم روایتها لغیرهم. ومن بین أصحاب سرّ الأئمّة الأطهار (صلوات الله علیهم) هو جابر بن یزید الجُعفی. فقد رُوی عنه أنّه قال: سمعت خمسین ألف حدیث عن الإمامین الباقر والصادق (علیهما السلام) من دون یجیزوا لی حتّى نقل واحد منها: «رُوِّیتُ خمسین ألف حدیث ما سمعه أحد منّی»1. ونستطیع إجمالاً أن نستخلص هذه النتیجة من أمثال هذه الروایات وهی أنّه لا ینبغی البوح بأیّ مبحث حقّ لأیّ أحد، لأنّ طاقة الأشخاص وقدرتهم على التحمّل متفاوتة. فقد تقتضی المسائل الاجتماعیّة أحیاناً أن لا یُكشَف عن جمیع الاُمور. وعلى أیّة حال فإنّ الأحادیث التی اُجیز جابر بنقلها تتمتّع بمیزات خاصّة من بین سائر الأحادیث، بل إنّ لحن الروایات المنقولة عنه یختلف عن لحن الكثیر من غیرها من الروایات؛ فهی تنطوی على ملاحظات ألطف، وأعمق وهی أغزر مضموناً ومحتوىً. فإنْ منّ الباری عزّ وجلّ علینا بالتوفیق فسنتأمّل سویّة فی هذه اللیالی الشریفة طلباً للتبرّك والتقرّب إلى الله تعالى فی إحدى روایات كتاب «تحف العقول» التی یرویها جابر عن الإمام محمّد الباقر (صلوات الله علیه).
جاءت فی كتاب «تحف العقول» ضمن باب الأحادیث المرویّة عن الإمام الباقر (علیه السلام) هذه الروایة: «یَا جَابِرُ... أُوصِیكَ بِخَمْسٍ: إِنْ ظُلِمْتَ فَلا تَظْلِمْ، وَإِنْ خَانُوكَ فَلا تَخُنْ، وَإِنْ كُذِّبْتَ فَلا تَغْضَبْ، وَإِنْ مُدِحْتَ فَلا تَفْرَحْ، وَإِنْ ذُمِمْتَ فَلا تَجْزَعْ»2.
فلنبدأ أوّلاً بتوضیح الجملة الاُولى عبر طرح السؤال التالی: ما هو مفهوم الظلم أساساً؟ وما الذی یدفع الإنسان للظلم؟ وحیث إنّ البحث الأدبیّ واللغویّ قد یكون مملاًّ فسنشیر إلیه إشارة مقتضبة.
الظلم لغةً هو تجاوز الحدّ. وهذا المعنى یقودنا إلى فرض مسبق وهو أنّ الإنسان موجود ضمن حیّز وقد عُیِّنت لهذا الحیّز حدود، وإنّما تُستخدم لفظة «الظلم» عندما یحاول المرء تجاوز هذا الحدّ بحیث لا یتقیّد به. أمّا عرفاً فالظلم یُعرَّف عادة بأنّه: التعدّی على حقوق الآخرین. والفرض القائم فی هذه الحالة هو وجود الإنسان فی مقابل شخص أو أشخاص لهم حقوق وعلیه مراعاتها، فإن لم یراع حقوق الآخرین وتعدّى علیها قیل: ظَلَم فلانٌ.
والعدل یقع فی مقابل الظلـم، وهو مراعاة الحقوق. إذن فالمفترض فی مثل هذه الألفاظ هو ضرورة اعتقاد الإنسان بأنّه ثمّة فی حیاته، ولاسیّما ضمن نطاق الأفعال الاختیاریّة، حدود وعلیه الالتزام بها؛ فیتعیّن علیه أداء الحقوق لأصحابها أو عدم التجاوز علیها. وهناك العدید من الآیات القرآنیّة التی تتناول موضوع العدل والظلم تؤیّد ما قدّمناه من توضیح لفظیّ؛ فمثلاً عندما یبیّن الله سبحانه وتعالى بعض الحقوق فی الآیة المرقّمة 229 من سورة البقرة، فهو یقول بعد ذلك مباشرة: «تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوهَا»3؛ أی الحدود التی عیّنها وحدّدها الله سبحانه وتعالى ویجب أن لا تتخطّوها، والذی یتخطّى هذه الحدود فهو ظالم. حتّى الباری عزّ وجلّ نفسه فهو یضع نفسه منّا - من أجل التفاهم معنا - موضع مَن له حقّ علینا وینبّهنا بأنّ عدم مراعاتنا لهذا الحقّ یجعلنا فی زمرة الظالمین له. فمعنى قوله تعالى: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِیمٌ»4 هو أنّ لله حقّاً علینا وهو أن لا نعبد إلا إیّاه، فإن نحن لم نراع هذا الحقّ واخترنا غیره معبوداً (كالهوى مثلاً وفقاً لقوله تعالى: «أَفَرَءَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلـٰهَهُ هَوَاهُ»5 فإنّ اختیارنا هذا هو بمثابة التجاوز على حقّ الله تعالى والظلم له، وهو ظلم عظیم للغایة؛ ذلك أنّه كلّما كان الطرف المقابل أعظم شأناً وحقّه أكبر فإنّ الظلم الناجم من عدم مراعاتنا لحقّه یكون أعظم وأخطر. ومن هنا نستنتج أنّ للظلم مراتبَ مختلفةً. فهل یوجد من هو أعظم من الله جلّ شأنه یا ترى؟ وهل من حقّ هو أكبر من حقّ الله تعالى؟ إذن فإنّ الظلم الواقع على الله یكون أعظم أنماط الظلم قاطبة. وهذا التعبیر یحكی عمّا لا نهایة له من اللطف والكرم الإلهیّین وهو أن یتكلّم بلساننا ویضع نفسه موضع صاحب الحقّ علینا وأنّ علینا مراعاة هذا الحقّ وأنّنا سنكون فی عداد الظالمین إذا لم نراعه.
أمّا السؤال الذی یتبادر إلى الذهن هنا فهو: لماذا یظلم الإنسان أصلاً؟ وما الدافع الذی یدفعه إلى الظلم؟ فالإنسان العاقل یفهم أنّ أساس هذا العالم قائم على العدل، وأنّ لكلّ امرئ حقّاً، وأنّ الحقوق إذا رُوعیت فسیعیش الإنسان عیش السعداء وستتحقّق الأهداف المرجوّة من الخلقة، وأنّه إذا لم تُراعَ تلك الحدود فلن تتحقّق غایة الخلقة على النحو المطلوب ولن نصل إلى سعادتنا المنشودة. إذن فلماذا یبادر الإنسان إلى الظلم مع كلّ ذلك؟
عندما نتأمّل قلیلاً فی دوافعنا ونمعن النظر بعض الشیء فی أفراد المجتمع والحوادث التی جرت وتجری فی المجتمع على مرّ التاریخ فسنصل إلى نتیجة مفادها أنّه ثمّة عامل داخلیّ لدى أغلب البشر یدفعهم إلى عدم القناعة بحقوقهم والمیل إلى التعدّی بحیث یزید عن المقدار المحدّد لهم. بل إنّ بعض الناس یمیلون إلى الفكرة القائلة: ما الداعی لأن نقرّ لغیرنا بالحقوق ونتقیّد بمراعاة تلك الحدود أساساً؟! وسیزداد تعجبّنا من طرح أمثال هذه المسائل عندما نشاهد أنّ بعض كبار فلاسفة العالم یمیلون إلى هذه النزعة؛ فهؤلاء یعتقدون بأنّ على الإنسان فی هذا العالم أن یبذل قصارى جهده للظفر باللذّات وأن یستحوذ على كلّ ما من شأنه أن یوفّر له أسباب اللذّة حتّى وإن اضطرّ إلى أخذه من أفواه الآخرین بالقوّة، أمّا الذین لا حول لهم ولا قوّة ولیس بمقدورهم دفع الظلم عن أنفسهم فی هذه المعمعة فهم محكومون بالفناء ولابدّ أن یحذفوا من الوجود كی لا یبقى فی نهایة المطاف إلاّ القویّ. أصحاب هذه النظریّة یرون أنّ الظلم هو حقّ من حقوقهم وهم یقولون: علینا أن نلتذّ ما وجدنا إلى ذلك سبیلاً. وبعیداً عن هؤلاء فهناك غیرهم مَن یساوره الشكّ فی تعیین الحدود والحقوق. فهؤلاء یقبلون فی الجملة بضرورة الاعتراف بحقٍّ مّا للآخرین لكنّهم یشكّكون فی مقدار هذا الحقّ وحدوده.
وعلى أیّ حال فإنّ الإنسان - تارةً جرّاء الجهل، وتارةً اُخرى بسبب الغفلة عن نظام هذا العالم وعن سعادته فی الدنیا والآخرة - یلهث وراء رغباته الفانیة ویمهّد المقدّمات لظلم الآخرین. لكنّ الجهل والغفلة لا یكون لهما أیّ دور - تارة ثالثة - فترى المرء یظلم عن وعی وعلم، وذلك حینما تمنعه تعلّقاته ورغباته الدنیویّة عن الاعتراف بحقوق الآخرین. فأغلب الذین یسعون عبر طرق شتّى إلى استغلال الآخرین والانتفاع منهم الى أقصى درجات الانتفاع ستتبلور فی نفوسهم شیئا فشیئاً ملَكَة الطمع فی التسلّط والسیطرة على كلّ شیء. وعلى الرغم من علمهم فی بادئ الأمر بأنّ هذا عمل خاطئ وقبیح من الناحیة الأخلاقیّة، غیر أنّهم ینساقون تدریجیّاً إلى ظروف ینسون فیها مراعاة الأخلاق. فأیّ موجود عجیب هذا الإنسان؛ فقد ینطلق فی طریق بنیّة صالحة أحیاناً لكنّه یُساق شیئاً فشیئاً إلى حیث لم یكن یخطر على باله فی بدایة الطریق، ثمّ لا یصدّق بعد فترة أنّه قد ارتكب كلّ هذه الأخطاء، بل ولا یستطیع التراجع - أحیاناً اُخرى - عن مسیره المنحرف حتّى وإن أفهموه أنّه قد أخطأ الطریق. وأنصع مثال على ذلك هو فرعون الذی بلغ به التعالی والغرور إلى حدّ القول: «أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَىٰ»6 بكلّ صراحة ووقاحة. أجل فإنّ البعض، ومن أجل الاستمتاع بحیاتهم والالتذاذ بها غایة اللذّة، یسعون منذ البدایة إلى التعدّی على حقوق الآخرین. وهذا النمط من الظلم معروف وإنّ قبحه یُعدّ من بدیهیّات العقل العملیّ، فقد لا نعثر فی أحكام العقل على ما هو أوضح قبحاً من الظلم وأشدّ حسناً من العدل.
إذن یصبح من الجلیّ ممّا تقدّم أنّ الذی عناه الإمام الباقر (سلام الله علیه) فی وصیّته الخاصّة لجابر لیس هو الظلم بهذا المعنى، وهو (علیه السلام) لم یقصد بوصیّته القول: «یا جابر! لا تظلم»، فكلّ عاقل یفهم بأنّه لا ینبغی له أن یظلم، بل لقد أراد (صلوات الله علیه) بنصیحته لجابر أنّه - بعیداً عن الدوافع التی تتولّد لدى الظالمین العادیّین إلى الظلم - قد تطرأ على المرء أحیاناً بعض الظروف الاجتماعیّة التی تحفّز لدیه دافعاً مضاعفاً للظلم؛ بمعنى أنّه قد یُدفَع الإنسان إلى الظلم دفعاً نتیجة لعوامل هی غیر الهوى والمحرّضات النفسیّة والشخصیّة.
والعامل الذی من شأنه أن یضاعف فی نفس المرء الدافع لممارسة الظلم هو ظلم الآخرین له؛ إذ یشقّ على الإنسان كثیراً أن یشاهد كیف أنّ الشخص المقابل یظلمه ویتعدّى علیه. وهذا یولّد سبباً مضاعفاً للظلم وإنّ ظرفاً كهذا یتطلّب من المرء عزماً أكبر وجدّیة أشدّ لاجتناب ممارسة الظلم. ونورد هنا بضع موارد یمكن فیها لظلم الآخرین للمرء أن یشكّل محفّزاً له على الظلم:
1. الظلم الفاحش من قبل الآخرین بلا عذر أو ذریعة
إنّ من جملة ما یقوّی عند الإنسان الدافع للظلم هو عندما یعمد الطرف المقابل إلى إهانته وسلبه حقّه علناً من دون أیّ ذریعة أو حجّة، لاسیّما إذا قیل له بكلّ وقاحة: «لقد مارسنا هذا الظلم بحقّك؛ فإن شئت فافعل كلّ ما یحلو لك»! فعندما یُسرق مال أحد بلا سبب فسیستاء كثیراً وقد یكون استیاؤه أحیاناً من الشدّة بحیث یسلب النوم من عینیه. وإذا أضفنا إلى هذا الظرف العصیب وساوسَ الشیطان وإملاءاته فهو قد یدفع المرء إلى التفكیر بظلم الآخرین من أجل الانتقام. فشخص كهذا قد لا یفكّر بالظلم فی الظروف العادیّة قطّ، لكنّه من الممكن، فی مثل هذه الحالة، أن یتّخذ القرار بظلم الآخرین.
2. شیوع الظلم
وقد یُجَرّ الإنسان أحیاناً اُخرى إلى ارتكاب ظلم معیّن إذا شاع هذا الظلم فی المجتمع وصار یمارَس بشكل علنیّ. فعندما یُرتكَب فی المجتمع فعل مستهجَن علناً لمرّة واحدة فسیزول قبح هذا العمل بالتدریج ویبدأ بالتفشّی بین عدد كبیر من أفراد المجتمع. فالرشوة - على سبیل المثال - هی من أقبح الأموال وأكثرها خسّة، لكنّها إذا تفشّت فی مجتمعٍ مّا فستتّخذ عنوان الهدیّة، والحقّ، والجزاء فیزول قبحها تدریجیّاً. إذن فإنّ ظروفاً من هذا القبیل ستشكّل عاملاً إضافیّاً لتشجیع الإنسان على ارتكاب هذا اللون من الظلم.
3. ساعة القصاص
الموطن الآخر الذی یمكن أن یكون فیه ظلم الآخرین لنا محرّضاً إیّانا على الظلم هو ساعة القصاص. فنحن نعلم فی الجملة أنّه إذا سلب أحدٌ منّا حقّاً فیمكننا أن نقتصّ منه، وهو عمل یجیزه العقل والشرع معاً، وقد صرّح القرآن الكریم بجوازه أیضاً بقوله: «وَلَكُمْ فِی الْقِصَاصِ حَیَوٰةٌ یَا أُوْلِی الأَلْبَابِ»7. ولـمّا كان القصاص حقّاً فقد یوسوس الشیطان للإنسان قائلاً: «علیك أن تُنزِل بمن ظلمك أقسى العقوبة، وهو بأن تؤدّبه بأشدّ من حدّ القصاص»! ففی هذه الحالة قد لا یكون المرء دقیقاً فی إنزاله القصاص بمن ظلمه فیتجاوز الحدّ مرتكباً بذلك ظلماً بحقّ خصمه. فالقصاص حقّ ولیس ظلماً، لكنّ التجاوز عن الحقّ هو الظلم بعینه. فلیس من حقّنا – مثلاً - أن نقابل من لطَمَنا على خدّنا ظلماً بأن نتسبّب فی جرح بدنه إلى درجة دخوله المستشفى. فالقرآن الكریم یقول لنا: «إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ»8؛ فإن رغبتم فی عملیّة القصاص أن تقابلوا الخصم بالمثل فلابدّ أن تُنزلوا به عین العقوبة التی أنزلها هو بكم.
إذن یبدو لنا حسب ما تقدّم من أمثلة أنّه بغضّ النظر عن الدافع الابتدائیّ للظلم – الذی نأمل أن یكون جمیع المؤمنین قد قمعوه فی أنفسهم وأن لا یفكّروا فی أیّ حال من الأحوال بظلم الآخرین – فقد تقع أحیاناً بعض الاُمور الخاصّة ممّا یقوّی دافع الإنسان للظلم. وفی مثل هذه المواطن یكون المرء بحاجة ماسّة إلى واعظ - هو غیر حكم العقل وأوامر الشرع - یقول له: «خُذ حذرك! فإنّك وإنْ كنت مصوناً من الظلم فی الظروف العادیّة فهذه الظروف هی ظروف خاصّة ویتحتّم علیك فیها أن تحذر من خداع الشیطان. فإن ظَلَمك أحد فلا تظلمه! وإن استوفیت حقّ القصاص فلا تتجاوز حقّك! وإذا رأیت أنّ شكلاً من أشكال الظلم تفشّى فی المجتمع فاحذر من أن تتلوّث به»! ففی مثل هذه المواطن یحتاج المرء إلى تنبیه مضاعف.
وهناك مسألة اُخرى تُطرَح فی هذا المجال وهی: أساساً عندما یكون لدى المرء حقّ القصاص وباستطاعته المقابلة بالمثل فهل من الأفضل أن یستوفی حقّه بالكامل أم أن یعفو؟ وهل الانتقام – وهو مجاز شرعاً - هو الأرجح فی هذه الحالة أم العفو والصفح؟ قد یُقال هنا: إنّه لیست جمیع الموارد متساویة؛ فقد یكون تنفیذ القصاص أحیاناً مطلوباً أكثر من العفو وقد یكون العكس هو الصحیح أحیاناً اُخرى. وسنتحدّث فی المحاضرة القادمة بعض الشیء عن هذا الموضوع.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. مستدرك الوسائل، ج12، ص298؛ وبحار الأنوار، ج2، ص69.
2. تحف العقول، ص284.
3. سورة البقرة، الآیة 229.
4. سورة لقمان، الآیة 13.
5. سورة الجاثیة، الآیة 23.
6. سورة النازعات، الآیة 24.
7. سورة البقرة، الآیة 179.
8. سورة النحل، الآیة 126.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 4 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«یَا جَابِرُ... أُوصِیكَ بِخَمْسٍ: إِنْ ظُلِمْتَ فَلا تَظْلِمْ، وَإِنْ خَانُوكَ فَلا تَخُنْ، وَإِنْ كُذِّبْتَ فَلا تَغْضَبْ، وَإِنْ مُدِحْتَ فَلا تَفْرَحْ، وَإِنْ ذُمِمْتَ فَلا تَجْزَعْ أو فَلا تَحْزَنْ»1.
لقد تأمّلنا بالأمس فی الحدیث المرویّ عن أبی جعفر الباقر (علیه السلام) والذی یخاطب به جابر بن یزید الجعفیّ وهو من أصحاب سرّ الإمام (سلام الله علیه)، حیث یقول فی مطلعه: «إِنْ ظُلِمْتَ فَلا تَظْلِمْ». وقد ذكرنا أنّ الملاحظة التی تتضمّنها هذه الروایة هی أنّه مضافاً إلى الدوافع العادیّة التی تدفع الإنسان للتعدّی على حقوق الآخرین فقد تطرأ بعض الحالات الاستثنائیّة التی تقوّی فی نفس المرء الدافع إلى ممارسة الظلم وهی عندما یتعرّض هو للظلم، حیث سیحاول إنزال الظلم بالآخرین بصور مختلفة. فهنا نرى أنّ الإمام (علیه السلام) ینبّه جابر ویحذّره من ممارسة الظلم فی مواقف من هذا القبیل.
ذكرنا فی ختام المحاضرة الماضیة أنّ الأصل الذی مفاده: أنّ الإنسان یستطیع استیفاء حقّه إذا سُلب منه، هو أصل صحیح تماماً، ولیس ثمّة شكّ أو ریب على الإطلاق فی صحّته من الناحیة الحقوقیّة. بَید أنّ هناك قیماً أخلاقیّة تُطرح إلى جانب هذا الأصل تستحقّ منّا التأمّل ولابدّ من التمعّن فی تشخیص مواردها.
لقد عیّن الإسلام للناس سلسلة من الحقوق ووضع فی مقابلها مجموعة من التكالیف، وأعطى لكلّ امرئ الحقّ لاستیفاء حقوقه، وكلّف الآخرین بمراعاة تلك الحقوق، وأوجب علیهم الرجوع إلى المحاكم الشرعیّة عند النزاع، وكلّف القضاة باستیفاء حقّ المظلوم وإعطائه له. وهذه القوانین إنّما سُنّت من أجل تنظیم العلاقات الاجتماعیّة كی یُحال دون التعدّی والظلم ما وُجِد إلى ذلك سبیل، وینعم أفراد المجتمع بعیش رغید وهادئ نسبیّاً لیستطیعوا المضیّ فی مسیرة تكاملهم. وإلى جانب تلك الأحكام الحقوقیّة یطرح الإسلام طائفة من المسائل الأخلاقیّة التی لها مقتضیات اُخرى.
وفی الكتب التی یصنّفها بنو البشر یتمّ فی العادة طرح المسائل الحقوقیّة فی كتب الحقوق والمسائل الأخلاقیّة فی كتب الأخلاق، أمّا القرآن الكریم فنجد أنّه یتناول كلتا الطائفتین من المسائل جبنا إلى جنب؛ ذلك أنّ القرآن هو كتاب تربویّ یعتنی بكافّة الأبعاد الوجودیّة للبشر. فنلاحظ أنّه فی نفس الوقت الذی یطرح فیه القرآن الكریم قضیّة حقوقیّة فهو ینوّه ببُعد أخلاقیّ لا یخلو التنویه به من تأثیر حتّى على تنظیم العلاقات الحقوقیّة نفسها. فعلى سبیل المثال حینما یتناول القرآن الكریم أحكام الطلاق فهو یقول بین طیّات تلك الأحكام الحقوقیّة: «وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِیرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»2؛ أی إنّ الله خبیر بما تضمرونه فی قلوبكم، فلا تحاولوا سلب الآخرین حقّهم؛ ذلك أنّه إذا انصبّ اهتمام المرء على القانون الحقوقیّ فقط فستفوته الكثیر من القیم الأخلاقیّة.
وكذا بالنسبة للأحكام المتعلّقة بالمال والعِرض فإنّه إذا تمّ التجاوز على حقّ أحد فستثبت له حقوق من جملتها حقّ القصاص، لكن هناك سلسلة من القیم الأخلاقیّة قد وُضعت فی نفس هذه الموارد ینبغی لهذا الشخص أن لا یغفل عنها. ومن هذا المنطلق یقول عزّ وجلّ فی كتابه العزیز: «وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ»3؛ أی: صحیح أنّ حقّكم فی القصاص ممّن ظلمكم محفوظ، لكنّكم إن عفوتم فهو أفضل لكم وأعظم ثواباً.
لكنّ تنفیذ القیم الأخلاقیّة وتطبیقها على أرض الواقع فی موارد من هذا القبیل قد یصبح أمراً مبهماً أحیاناً؛ فقد یُطرح هنا السؤال التالی: عندما یتمتّع المرء بحقّ من الناحیة الحقوقیّة فهل یُفَضّل له - من الناحیة الأخلاقیّة - أن یتجاوز عن خصمه ویتنازل عن حقّه أم لا؟ والحقیقة هی أنّ الحكم فی هذه القضیّة یختلف باختلاف الموارد.
ولنبدأ بحثنا من هذه القضیّة وهی: ما هو تكلیفنا تجاه الشخص الذی یحاول سرقة مالٍ لنا بالقوّة؟ ممّا لا شكّ فیه أن لنا الحقّ بدایةً فی مقاومة السارق وأن لا ندعه یسرق مالنا. فإذا كان الاستسلام والخنوع أمامه علامة على التقاعس وعدم الكفاءة فالإسلام یرفض هذه الروح، لأنّه یرید من المسلم أن یكون شجاعاً وصلباً وأن لا یستسلم أمام العدوّ بسرعة. بل لقد جاء فی الخبر: «مَن قُتِل دون مظلَمَتِه فهو شهید»4؛ أی: إذا قاوم المرء ما وقع علیه من ظلم فقُتل فهو بحكم الشهید. فالإسلام لا یرضى لنا الخضوع والخنوع أمام الظلم، لأنّ الركون إلى الراحة والدعة والتقاعس والاتّصاف بعدم الأهلیّة والكفاءة لیست من شأن المؤمن. لكنّه قد تشغل الإنسان أحیاناً أعمال أكثر أهمّیة بحیث إنّ انهماكه بقضیّة استیفاء حقّه الحقوقیّ وتضییع وقته فی التردّد على المحاكم سیشغله عن الاهتمام بتكالیفه الأكثر أهمّیة. إذن فمن العقلانیّة - فی مثل هذه المواطن - أن یتغاضى المرء عن حقّه إذا علم أنّ فی السعی وراءه ضرراً فادحاً. لكنّه إذا استطاع استرجاع حقّه فی مجلس واحد من دون بذل المزید من المؤونة فینبغی له القیام بذلك؛ ذلك أنّ الركون إلى التقاعس والدعة مرفوض شرعاً فی الأخلاق الإسلامیّة. فالبعض ومن أجل تبریر تقاعسهم ومیلهم إلى الراحة یقول: «أسلمته إلى الله»! فلا قیمة لعمل كهذا وهو لا یعدو كونه تبریراً محضاً للتقاعس وعدم الأهلیّة.
وقد یكون المرء - أحیاناً اُخرى - قادراً على استرجاع ماله من خصمه لكن عندما یتبیّن له أنّه إنسان محتاج یعیش عیشة ضنكاً فإنّه یتنازل عن حقّه لهذا السبب. فصورة العمل هی واحدة فی الظاهر فی جمیع الموارد التی یتنازل فیها الإنسان عن حقّه؛ لكنّ هذه الصورة الواحدة یمكن أن تتحقّق بنیّات ودوافع مختلفة. فتارةً قد یشكّل هذا العمل عبادة عظیمة جدّاً؛ وهو - مثلاً - عندما یرى المرء أنّ خصمه یعیش حیاة فقر ومسكنة حقیقیّة وأنّ فقره ومسكنته هما اللذان ساقاه إلى هذا المآل، فهو بتجاوزه عنه ومساعدته إیّاه سینتشله من وادی السرقة من جهة وسیُصلح حیاته من جهة اُخرى، وهی لعمری من أعظم العبادات ومن مصادیق قوله جلّ وعلا: «وَمَنْ أَحْیَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْیَا النَّاسَ جَمِیعاً»5.
وقد یشعر المرء - تارة اُخرى - أنّ تنازله عن حقّه سیسهم فی تأدیب الخصم لاسیّما إذا علم الأخیر بأنّ الشخص قادر على انتزاع حقّه منه لكنّه لا یفعل ذلك مراعاةً لحاله ووضعه. فإن كان القصد من التنازل هو تأدیب الطرف المقابل فسیكون مصداقاً للآیة الشریفة: «ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ السَّیِّئَةَ»6، أو مصداقاً لقوله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِی بَیْنَكَ وَبَیْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ»7. وأمثال هذا النمط من الصفح والتجاوز یلاحَظ بوفرة فی سیرة أئمّتنا الأطهار (صلوات الله علیهم أجمعین). فهذا شكل من أشكال الأعمال التربویّة وهو لیس من منطلق التقاعس وعدم الكفاءة، بل یُعَدّ أیضاً عبادة قیّمة جدّاً.
لكنّ المرء – تارةً ثالثة - إذا تجاوز عن خصمه وصفح عنه فسیجعله أكثر جرأةً وتعدّیاً من ذی قبل الأمر الذی سیجرّه تدریجیّاً إلى ارتكاب جرائم أكبر وأبشع. فالعفو والتسامح غیر محبّذین فی مثل هذه الحالات، بل لابدّ هنا من المعاقبة، أو جرّه إلى المحاكم وتسلیمه لحكم المحكمة إذا لزم الأمر كی یتأدّب هو من ناحیة، ویشاهد الآخرون عاقبة السلوك الفاسد والمشین من ناحیة اخرى.
إذن فالعفو والصفح لیسا مطلوبین دائماً، بل إنّهما یكونان محبّذین فی الحالات التالیة: أوّلاً: عندما یكون الحقّ متعلّقاً بالشخص نفسه ولیس بغیره؛ فلا یحقّ لرئیس المصرف مثلاً أن یعفو عن موظّف مختلس. ثانیاً: أن لا یكون العفو سبباً فی التجرّؤ على ارتكاب الجرم وتفشّیه. ومن هنا فقد تحدّثت روایات عدیدة عن أنّ البركة فی تنفیذ حدّ واحد من حدود الله یفوق بركة هطول المطر لأربعین یوماً بلیالیها: «حدّ یُقام فی الأرض أزكى فیها من مطر أربعین لیلة وأیّامه»8. فلولا المصالح المذكورة فی تنفیذ الحدود لم یكن الله عزّ وجلّ لیسنّ قوانین الجزاء. كما أنّ تنفیذ القوانین الجزائیّة لیست بحاجة إلى مُدَّع خاصّ، بل إنّ المدّعی العامّ كاف لیدّعی على المجرم ویدینه بالإخلال بأمن المجتمع، أو تخطّی حدود الله؟
إذن على المرء إجمالاً أن یقیس أیّهما أكثر نفعاً لنفس الشخص الخاطئ ولسائر المسلمین؛ هل هو العفو عنه أم تنفیذ العقوبة بحقّه؟ بالطبع هذا القیاس لا یكون دقیقاً دائماً، وهو لیس من اختصاص أیّ أحد، لكن لابدّ من تحقّقه على أیّة حال.
الوصیة الثانیة التی یوصی بها الإمام الباقر (علیه السلام) جابر هی: «وَإِنْ خَانُوكَ فَلا تَخُنْ»؛ أی: إذا خانك الناس فلا تبادرهم بالخیانة. والخیانة بالطبع هی إحدى مصادیق الظلم، لكنّ ذكرها بالخصوص هو من باب الاهتمام ببعض مصادیق الظلم التی قد لا تتبادر إلى الذهن.
یُستخدم مصطلح الخیانة فی الأصل فی موارد خیانة الأمانة. فالله عزّ وجلّ یقول فی كتابه الكریم: «إِنَّ اللهَ یَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا»9، لكنّه یوجد من یخون الأمانة على الرغم من هذا الأمر الإلهیّ؛ أی عوضاً عن أداء الأمانة إلى أصحابها فهو ینكرها أو ینقص منها أو یقصّر فی حفظها وصیانتها، وهذا من مصادیق الخیانة. فأكثر الأمثلة شیوعاً للخیانة هی خیانة الأمانة، وبناء علیه یكون معنى الروایة: «إذا خانك الآخرون بعدم أداء المال الذی ائتمنته عندهم أو بتضییعه فلا تقابلهم بنفس الاُسلوب».
لكن قد یتّسع مفهوم الخیانة لیشمل الخیانة لكلّ تعهّد والتزام. فقد یتعهّد شخصان أو فریقان ببعض الاُمور فلا یفی أحد الطرفین بهذا التعهّد ویخون العهد. وهذا لا یُعَدّ اصطلاحاً خیانةً للأمانة، بل هو خیانة للتعهّد المبرَم مع الآخرین.
وهذان المفهومان (وهما: أداء الأمانة، والوفاء بالعهد) هما من أكثر القیم التی تشكّل قوام الحیاة الاجتماعیّة عمومیّةً. فحتّى لو لم یكن لجماعة من الناس أیّ دین تدین به أو مذهب عقائدیّ خاصّ، ولم یكونوا أصحاب أیّ مدرسة أخلاقیّة، أو تابعین لأیّ حكیم أو شخصیّة عظیمة لكنّهم یریدون أن یهنأوا بحیاة اجتماعیّة مریحة مع بعضهم فإنّه یتحتّم علیهم مراعاة هذین الأمرین. فالذین وقّعوا صلح الحدیبیّة مع النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) كانوا عبَدة أوثان، لكنّ جلوسهم مع النبیّ واستعدادهم لأن یوقّعوا وثیقة صلح معه (صلّى الله علیه وآله) یعنی أنّهم یقولون فی قرارة أنفسهم: إنّنا ملتزمون بهذا العقد. یقول القرآن الكریم فی هذا المجال: «فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِیمُواْ لَهُمْ»10، فطالما التزم الذین أبرمتم معهم عهداً بهذا العهد فلا تنكثوه أنتم. فإذا نكثوا هم العهد من جانبهم فمن حقّكم حینئذ أن تنكثوه أنتم ولا تلتزموا به؛ لكن ما داموا أوفیاء به فأنتم أولى منهم بالوفاء به.
القیمة الثانیة التی تقوم الحیاة الاجتماعیّة علیها هی أداء الأمانة. یقول الإمام زین العابدین (علیه السلام): «لو أنّ قاتل أبی الحسین بن علیّ بن أبی طالب (علیهما السلام) ائتمننی على السیف الذی قتله به لأدّیته إلیه»11. بالطبع إنّ للمرء أن یرفض قبول الأمانة ابتداءً، لكنّه إذا قبلها فعلَیه أن یبذل قصارى جهده فی الحفاظ علیها وردّها إلى صاحبها. فهذان العاملان هما من أكثر الاُصول الأخلاقیّة عمومیّةً واستحكاماً فی حیاة البشر الاجتماعیّة. فمصداق الخیانة یتحقّق فی مثل هذه الموارد وهی تعنی هنا سحق هذین الأصلین اللذّین یتمسّك بهما جمیع العقلاء من البشر.
قلنا إنّ الخیانة تتعلّق بالعقد المبرَم بین طرفین وعندما لا یراعی أحد الطرفین ما تعاقدا علیه فإنّه سیحتفظ الطرف الآخر بحقّ المقابلة بالمثل. والسؤال الوارد هنا هو: هل إنّ الإمام الباقر (علیه السلام) أشار إلى هذه الاُمور فی وصیّته: «وَإِنْ خَانُوكَ فَلا تَخُنْ»؟ على الأقوى أنّه (علیه السلام) لم یُرد هذا المعنى؛ ذلك أنّه عندما ینقض أحد الطرفین العقد فإنّه لا یعود هناك فی ذمّة الطرف الآخر عقدٌ كی یُعدّ عدم الالتزام به خیانة. بل إنّ مراده هو عین ما ذكرنا بالنسبة للوصیّة الاُولى: «إِنْ ظُلِمْتَ فَلا تَظْلِمْ»، وهو أنّه عندما یقع على المرء ظلم فسیتولّد فی نفسه دافع أكبر لمقابلة الطرف المقابل بما یزید عن المِثْل، فیكون قد ظلم. فهذه الوصیّة تتضمّن تحذیراً للإنسان فی المواطن التی یجد فی نفسه حافزاً أكبر للظلم. وكذا الأمر فی الخیانة، فعندما یتعرّض المرء لخیانة فإنّه یتولّد فی داخله دافع لتخطّی حدود الحقّ. إذن فإنّ عبارة: «وَإِنْ خَانُوكَ فَلا تَخُنْ» تمثّل هی الاخرى إنذاراً للإنسان بأن لا یتعدّى على حدود الحقّ فی مثل هذه المواقف. فی حین أنّه لیس ثمّة ما یوجب الالتزام والتمّسك بذلك العقد الذی اُلغی بخیانة الطرف المقابل. بالطبع قد یبقى الإنسان ملتزماً بعهده حتّى فی مثل هذه المواطن رعایةً منه لأمر أخلاقیّ أو تربویّ وهو أن یلقّن الطرف المقابل درساً وینبّهه لخطئه، كما مرّ بیانه فی مسألة العفو والصفح. فإن طُرحت أمثال هذه الاُمور فستشكّل موارد استثنائیّة قد تكون مطلوبة بعناوین اُخرى.
الوصیّتان الاُولَیان ترتبطان بالمسائل العملیّة والسلوكیّة أكثر من غیرها. لكن قد تقع أحیاناً بعض الامور التی تثیر غضب الإنسان وتمهّد الأرضیّة لارتكابه المعصیة. والمثال على هذه الامور هو عندما یقول المرء لأحد شیئاً خدمةً له، أو لأجل إصلاحه أو إرشاده لا یحدوه لذلك سوى الخیر والحرص على مصالح ذلك الشخص، لكنّ ذلك الشخص یردّ طالب الخیر هذا باتّهامه بالكذب قائلاً له: «إنّك تكذب، وتضمر نیّات سیّئة»! وأوضح مثال على هذا السلوك هو ما صنعه الكفّار مع الأنبیاء. فالكلام الذی أتى به أنبیاء الله (صلوات الله علیهم أجمعین) للبشر هو الأكثر صدقاً والأوفر فائدة والأعظم أثراً من بین كلّ ما یمكن أن یقدّمه بشر لبشر طلباً لنجاته نجاةً أبدیّة. لكنّنا نجد أنّ القرآن الكریم یصرّح بأنّه ما من نبیّ أرسلناه إلاّ وكذّبه قومه، بل واستهزأوا به أیضاً. فالناس العادیّون یستاءون كثیراً فی مواطن كهذه وتُثار حفیظتهم بل وقد ینجرّون إلى الدخول فی مشاجرات ویبدر منهم سلوك مشین أیضاً. إذن فمن المناسب هنا أن یبادر مَن هم مِن أمثال الإمام الباقر (علیه السلام) لنصیحة جابر بالقول: «إِنْ كُذِّبْتَ فَلا تَغْضَبْ»، فعندما لا یكون ثمّة قصد غیر طلب الخیر للآخرین وإنّ الطرف الآخر لا یقدر ذلك حقّ قدره فیتعیّن على الذین ینتهجون نهج الأنبیاء أن یستعدّوا للسیطرة على أنفسهم ومشاعرهم عندما یواجَهون بتكذیب المعارضین وأن لا یغضبوا. فإذا لم یُعِدّ المرء نفسه مسبقاً لمواجهة مثل هذه السلوكیّات فسوف لن یتمالك نفسه ویخرج عن حالته السویّة، لكنّه إذا لقّن نفسه قبل الولوج فی هذا المیدان فسوف لن یشقّ علیه كثیراً تكذیب المكذّبین ومعارضة المعارضین. فإذا أحبّ المرء نصیحة الآخرین طلباً لخیرهم فلیحدّث نفسه قائلاً: «إذا كُذِّبتُ فعلیّ أن لا أعبأ بكلامهم. فإنّ على عاتقی مهمّة وقد أدّیتها؛ وإنّ على الطرف المقابل تكلیفاً وهو مخیّر بین أن یعمل أو لا یعمل به، فهو الذی یتحمّل فی النهایة مسؤولیّة فعله، ولا أتحمّل أنا أیّ مسؤولیّة»، وعندها لن یغضب فی مقابل إساءة الآخرین له. وهذه هی الوصیّة الثالثة التی وجّهها الإمام (علیه السلام) إلى جابر.
وفّقنا الله وإیّاكم للعمل بها إن شاء الله
1. تحف العقول، ص284.
2. سورة المائدة، الآیة 8.
3. سورة البقرة، الآیة 237.
4. وسائل الشیعة، ج15، ص121.
5. سورة المائدة، الآیة 32.
6. سورة «المؤمنون»، الآیة 96.
7. سورة فصّلت، الآیة 34.
8. الكافی، ج7، ص174.
9. سورة النساء، الآیة 58.
10. سورة التوبة، الآیة 7.
11. الأمالی للصدوق، ص246.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 5 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
تناولنا فی الأمس معاً جانباً من حدیث للإمام الباقر (علیه السلام) مرویّ عن جابر بن یزید الجعفی وقدّمنا بعض التوضیحات الموجزة بخصوصه. وقد بلغنا إلى حیث یقول (علیه السلام): «وَإِنْ مُدِحْتَ فَلا تَفْرَحْ، وَإِنْ ذُمِمْتَ فَلا تَجْزَعْ فَلا تَحْزَنْ».
یحبّ الإنسان بطبیعته أن یكون حسن السمعة وأن یذكره الناس بالمزایا والصفات الإنسانیّة المثلى، ویكره – فی المقابل - أن یذمّه الآخرون وینتقصوا من شأنه فی غیابه. فهل ینبغی للإنسان أن یفرح من مدیح الآخرین ویستاء من ذمّهم له؟ وهل یتعیّن علیه یا ترى أن یأتی بما یوجب ثناء الناس علیه من الأفعال، وینتهی عمّا یدفعهم لذمّه وملامته؟ أم إنّ علیه أن یخفی محاسنه عن الناس ویظهر عیوبه لهم؟
الإنسان فی العادة یرغب أن یكون محبوباً عند الناس وأن لا ینتبه أحد لنقائصه وعیوبه. أمّا الروایات فهی تحذّر المرء من التظاهر أمام الناس وكشف حسناته لهم كی لا یوجب ذلك الریاء، وهی تحضّه أیضاً على عدم فسح المجال لهم لیمدحوه؛ فقد جاء فی الحدیث المعروف ما نصّه: «اُحثُوا التراب فی وجوه المدّاحین»1 یعنی لا تعطوا هؤلاء الأشخاص الفرصة لاغرائكم بالمدیح.
قد یبدو الجمع بین كلّ هذه الاُمور أمراً صعباً فی بادئ الأمر؛ فمن ناحیة یتعیّن على الإنسان أن یخفی محاسنه ویبدی مساوءه، ومن ناحیة اُخرى فإنّ الله عزّ وجلّ لا یرضى بإفشاء أسرار عبده. فكیف یمكن الجمع بین هاتین الحالتین یا ترى؟
بصرف النظر عن الأدلّة التعبّدیة فإنّه یمكن النظر إلى القضیّة برؤیة عقلیّة؛ وهی أنّ حیاتنا الاجتماعیّة نحن البشر إنّما تقوم على العلاقات الاجتماعیّة. فلولا علاقات المرء مع الآخرین لما استمرّت حیاته المادّیة من جهة ولما ترقّى معنویّاً من جهة اخرى. إذ أنّ شیئاً من الـتأمّل یقود كلّ امرئ إلى اكتشاف حقیقة أنّنا معاشر البشر لا نستطیع تلبیة حاجاتنا الشخصیّة بمفردنا ولا تستمرّ حیاتنا إلا بمساعدة الآخرین.
إنّ من النعم الإلهیّة الكبرى التی مَنّ الله بها علینا هی ستره لعیوبنا؛ فلو انكشفت عیوب الناس واطّلع كلٌّ على نقائص الآخرین وسیّئاتهم وقبائحهم لما بادل أحد أحداً المحبّة؛ فقد جاء فی الخبر: «لو تكاشفتم ما تدافنتم»2؛ أی لو كُشف عن أعمالكم لما أقدم أحد على دفن جنائزكم. إذن فمن نِعَمِ الله جلّ شأنه علینا هی ستره على عیوبنا، بل وحتّى انّه سبحانه لا یجیز لنا من الناحیة الشرعیّة أن نبوح بسیّئاتنا للآخرین.
یسعى بعض المنتمین إلى فِرق المتصوّفة – ممّن یسمّون بالملامتیّة – ومن أجل أن لا یصابوا بآفة الریاء، إلى إفشاء ذنوبهم ومساوئهم والقیام بما یوجب سوء ظنّ الآخرین بهم معتبرین ذلك وسیلة لقتل النفس وقمع الهوى. لكنّ تصرّفاً كهذا یُعدّ شكلاً من أشكال كفران النعمة. فالله لا یحبّ أن تُفشى أسرار وعیوب عبده أمام الآخرین فیسیء العباد الظنّ ببعضهم البعض، لأنّ ذلك یضرّ بمصالح المجتمع. وهذا اُسلوب مبتدَع ابتدعه بعض المتصوّفة ظنّاً منهم أنّهم یعملون خیراً؛ والحال أنّ الأصل هو فی ستر العیوب وهی نعمة إلهیّة منّ بها الله عزّ وجلّ على عباده لیتمكّنوا من الإفادة من النعم والبركات الاجتماعیّة على نحو أفضل.
وجمیعنا تقریباً یحظى بهذه النعمة وعلینا أن نشكر الباری تعالى علیها. فعندما یكون للمرء وجاهة وسمعة طیّبة فی المجتمع یحترمه الناس ویحسنون به الظنّ الأمر الذی یتیح له فرصة الانتفاع من معونة الآخرین ضمن إطار الحیاة الاجتماعیّة المشتركة. وهذه نعمة إلهیّة عظیمة وهی تتطلّب منّا شكراً أیضاً.
لكنّ المشكلة تكمن فی أنّ هذه المسألة تتّخذ طابع الإفراط أحیاناً فتكون مطلوبة بذاتها بالنسبة للإنسان، وهو عندما لا یكون المرء إنساناً صالحاً لكنّه یحبّ أن یعرفه الناس بالصلاح وینسبون إلیه ما لم یأت به من الصالحات. فهذه حالة تتّسم بالإفراط وهی صفة ذمیمة ترجع إلى حبّ الذات وحبّ السمعة، وهذا هو ما أشار إلیه الإمام (سلام الله علیه) فی هذه الروایة. فالقرآن الكریم یقول فی ذمّ الكافرین وضعیفی الإیمان من الناس: «وَیُحِبُّونَ أَن یُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ یَفْعَلُواْ»3. فبعض الأشخاص مثلاً عندما یترشّحون للانتخابات ومن أجل أن یحوزوا على أكبر قدر من أصوات الناس یكونون شدیدی الولع بإطراء الآخرین ومدیحهم لهم على اُمور لا أساس لها من الصحّة، بل وقد یكونون متّصفین بما یخالف ذلك أیضاً. وهی لصفة ذمیمة جدّاً أن یفرح المرء بأن یمدحه الآخرون مدیحاً لیس فی محلّه.
وبالرجوع إلى النقطة الاولى (وهی نعمة كون الله ستّار العیوب) إذا التفت الإنسان إلى أنّ الله قد أسبغ علیه هذه النعمة ففرح بها وشكر الله علیها فهی صفة ممدوحة. لكنّه إذا رغب فی قرارة قلبه بأن یكون محبوباً عند الناس من دون التفاته إلى ما تفضّل الله علیه به وأن تكون محبوبیّته عند الناس هی الأصل، فإنّ هذه الصفة - وفقاً للرؤیة الإلهیّة والتوحیدیّة - صفة ذمیمة.
هذه الحالة بالطبع لا تُعدّ مذمومة فی الأنظمة الأخلاقیّة غیر الإلهیّة. فعندما یراد تعریف الحَسَن والقبیح فی هذه الأنظمة یقال: إنّ الفعل الحسن هو كلّ ما یثنی علیه العقلاء، والفعل القبیح هو كلّ ما یذمّونه. وهذا الأصل یلقی فی ذهن الإنسان عن غیر وعی منه أنّه: ینبغی لك أن تأخذ كلام الآخرین بالحسبان، وأن تصنع ما یجعل الناس تطری علیك، وأن لا تفعل ما یدفعهم إلى ذمّك وملامتك.
وقد یكون حكم الناس هو الذی یعیّن مناط الحَسَن والقبیح فی بعض الأنظمة الأخلاقیّة البشریّة وهم یطلقون علیه بالطبع حكم العقلاء. وناهیك عن الإشكالات الفنّیة على هذا الأصل من حیث إنّه ما هو المراد من العقل والعقلاء وما یستلزمه هذا القول من تعریفات دوریّة، فإنّ النتیجة التربویّة لهذا الأساس الأخلاقیّ هی أنّه یربّی إنساناً لا یهمّه سوى كلام الناس. وكذا فإنّ من لوازمه هو أنّ المعمول به فی المدارس ذات النزعة المادّیة والشخصیّة هو قولهم: «إنّ الحسن عند الناس لن یبقى حسناً إلى الأبد، بل قد یتغیّر رأیهم فیه. فقد یرون الشیء حسناً فی زمن من الأزمنة، لكنّهم یرونه قبیحاً بعد حین. ویُعلَم من ذلك أنّ میزان الحسن والقبح لیس أصیلاً بل هو وضعیّ. ومن هنا فإنّ الحسَن فی كلّ زمان هو ما یحبّه أكثر الناس فی ذلك الزمان»! وإذا بنینا أساسنا الفكریّ على هذا الكلام فإنّ جمیع الاُسس الأخلاقیّة تمسی فی مهبّ الریح، ولن یكون ثمّة شیء حسن بشكل مطلق؛ وهذا تعریف غیر أخلاقیّ ومتسامح جدّاً للحسن والقبح والخیر والشرّ الأخلاقیّین؛ أی إنّه لیس بتعریف حقیقیّ. لكن هذا النمط من التسامح من شأنه أن یجرّ بالتدریج إلى محو الأخلاق من أساسها.
أمّا فی المدارس الإلهیّة والرؤى التوحیدیّة فإنّ من المذموم أن یشعر الإنسان بالاستقلالیّة فی مقابل الله سبحانه وتعالى، وإنّ كلّ طریق یقود الإنسان إلى هذه النهایة یُعدّ خطیراً. من هنا فإنّ جمیع الحسنات والكمالات فی المدارس الإلهیّة تنسب إلى الله عزّ وجلّ، وإنّ ملاك حسنات المرء یعود إلى عبودیّته لله الواحد. لهذا فإنّ الشخص المؤمن الموحّد لا یعتقد لنفسه بالأصالة فی مقابل الباری تعالى أبداً؛ فشعاره دائماً: «على الناس أن یعبدوا الله وحده ویحبّوه». وإنّه إنْ طلب حبّ الناس له فسیكون ذلك فی ضوء حبّهم لله؛ بمعنى أنّه یعلم أنّ علّة حبّ الناس له هی أنّهم یشاهدون بعضاً من نور صفات الله الحمیدة فیه، أمّا غیر المؤمن فإنّ نفسه وذاته هی المناط دائماً. فهو یرید أن یحبّه الناس هو؛ من دون أن یكون حبّهم لله أو عدم حبّهم له مهمّاً بالنسبة له. وإنّ المؤمن - انطلاقاً من نظرة الأخلاق التوحیدیّة – یحبّ أن یكون محبوباً لدى الآخرین كی یشكّل ذلك وسیلة لتقرّبهم إلى الله؛ لأنّ فطرة الإنسان تحبّ كلّ خیر وحسن. وهذه النظرة تُعدّ فی الواقع فضیلة.
عندما قدم قائد الثورة الإسلامیّة إلى مدینة قمّ المقدّسة وأثناء حضوره فی أحد المجالس بالغ الحاضرون فی المجلس فی إظهار عواطف المودّة ومشاعر المحبّة لشخصه بل إنّ بعضهم كان یبكی شوقاً ولهفة إلیه. وحینما وصل إلیه الدور فی الكلام وبعد أن استهلّ كلامه ببسم الله الرحمن الرحیم قال: «أحمد الله تعالى على أن أفهَمَنی أنّ محبّة الناس هذه لیست هی لشخصی؛ بل هی أمارة على ما یكنّونه من حبّ للدین». أجل فهناك من یفرح لحبّ الناس له لأنّ حبّاً كهذا یكون سبباً فی إشاعة دین الله فی الأرض. فإن لم یصل فهم أحد إلى إدراك أمثال مَن یحمل مثل هذه الصفات فلا ینبغی له القول: «هذا كذب، فالإسلام یرید أن یربّی اُناساً یتساوى عندهم مدح الناس لهم وعدم مدحهم».
إذا شئنا أن نعرف كیف نحارب آفة حبّ الذات فی أنفسنا كی لا نفرح كثیراً من مدیح الآخرین، فعلینا أن نفهم أنّ ما یبدیه الناس من مدیح وثناء ینقسم إلى عدّة أقسام: الأوّل هو المدیح الذی لا یمتّ للشخص الممدوح بأیّ صلة، وإنّ فرحه به هو لون من ألوان الفرح الزائف؛ كأن یقال: «فلان من أهل المدینة الفلانیّة التی أنجبت الكثیر من العلماء»! أو أن یقال: «كان جدّه من كبار علماء عصره». فأیّ صلة لمثل هذا الإطراء بهذا الشخص؟! وأی مدیح یكون له بهذا الكلام؟! فمحاربة هذا النمط من الوساوس لیس بالأمر المعضل جدّاً، وسیفهم الإنسان بقلیل من التأمّل والتفكّر أنّه لا علاقة له بهذه الألوان من الإطراء.
والقسم الثانی هو مدح المرء بسبب ما وهبه الله من مواهب وصفات؛ كأن یُثنى على امرئ لما اُوتی من تناسق فی الجسم وما وُهب من الإمكانیّات الجسدیّة. وللمرء أن یفرح قلیلاً بهذا المدیح، لكن علیه التفكیر أوّلاً بقضیّة أنّه لیس هو الذی حصل بنفسه على هذا الجسم وهذه الإمكانیّات، بل إنّ الله جلّ وعلا هو المتفضّل بها علیه وإنّ علیه فی مقابلها تكلیف الإفادة من هذه النعمة على أحسن وجه. ثمّ إنّ علیه ثانیاً أن یلتفت إلى هذه النقطة وهی: هل إنّ كلّ مَن مُنح هذه الإمكانیّات والجمال فهو عزیز عند الله؟! فلربّما كان هناك من هم أقلّ منه إمكانیّة بكثیر وقد ظفروا بحسن العاقبة، ولربّما وُجد مَن یفوقه بالإمكانیّات والجمال فأصبح سبباً فی ضلالة جماعة من الناس. فهذه الفضائل لا تشكّل سبباً وجیهاً لتفاخر المرء بنفسه.
أمّا ذلك القسم من المدیح الذی تصعب مجابهته فهو إطراء الآخرین على ما یقوم به الإنسان من الأعمال الاختیاریّة الحسنة وما یظفر به من كمالات بسببها؛ كأن یكون قد جدّ فی طلب العلم، وعبد الله، وقدّم الخدمات للعباد، أو كان سبباً فی نجاة اُمّة من الضلالة، أو امتلك صفات أخلاقیّة حسنة دفعته لإنجاز صالح الأعمال، كما لو اتّصف بالسخاء أو الصفح والتجاوز. فالمرء یدرك أنّ تلك الكمالات من نفسه. وفی مثل هذه الحالات یفرح المرء كثیراً من إطراء الآخرین ممّا یفسح المجال لوسوسة الشیطان له. ففی القسمین السابقین لا یكون للشیطان دور كبیر، أمّا هنا فإنّ مقارعة الشیطان والوقوف بوجهه یكون أشدّ عسراً وصعوبة؛ ذلك أنّ الإنسان قد قام بهذه الاُمور باختیاره حقّاً، وقد نال نتائجها أیضاً. وهنا ینبغی للمرء من أجل الخلاص من شرّ وساوس الشیطان أن یتنبّه إلى أربعة اُمور؛ فعلیه أوّلاً أن یعلم أن القسم الأعظم ممّا قام به من أعمال حسنة إنّما هو ببركة توفیق الله له وأنّه تعالى هو الذی هیّأ له المقدّمات لذلك. فلو فكّر المرء ملیّاً فی ذلك لوجد أنّ دور إرادته فی كلّ ما یقوم به قد یكون أقلّ من واحد بالمائة، فكم من الوسائل والأسباب قد وفّرها الباری عزّ وجلّ من أجل أن تكون للمرء هذه الإرادة! ثانیاً علیه الالتفات إلى قضیّة مهمّة وهی أنّه من غیر المعلوم أنّ هذه النعمة التی استمرّ الله تعالى فی إعطائه إیّاها إلى هذه اللحظة ستستمرّ بعد ساعة من الآن، فمن یدری أنّ العلم الذی یمتلكه الإنسان سیبقى إلى ما بعد ساعة. فالقرآن الكریم یقول: «وَمِنكُم مَّن یُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَیْلا یَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَیْئاً»4؛ فقد یمتدّ عمر الإنسان إلى أتعس مراحله من الشیخوخة حتّى أنّه لا یعود یعلم شیئاً بعد ما كان عالماً ومطّلعاً. فالذین یبتلون بمرض الآلزایمر فی الكبر قد لا یعرفون حتّى أبناءهم. فإن كانت لدینا نعمة فهی باقیة بإرداة الله عزّ وجلّ وهو إن لم یُرِد لم نبق متمتّعین بها. النقطة الثالثة هی أنّ على الإنسان أن یقلق من مآله وعاقبته. إنّهم لكثیرون اُولئك الذین عاشوا عمراً طویلاً وهم یتمتّعون بطیب السمعة بین الناس وقدّموا خدمات جلیلة لكنّ عاقبتهم كانت الكفر! ومن هنا فلیس للإنسان أن یفخر بأیّ كمال أو یطمئنّ به. أمّا النقطة الرابعة التی ینبغی الالتفات إلیها فهی أنّ الفرح من تملّق الآخرین وكلامهم المعسول قد یوقع الإنسان فی فخّ الریاء ویشكّل مقدّمة لسقوطه. ومن هنا یقول الإمام الباقر (علیه السلام) لجابر: «إذا تعرّضت للمدیح والإطراء فلا تفرح ولا تشعر بالنشوة كثیراً»!
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. نهج الفصاحة، ص170.
2. بحار الأنوار، ج74، ص385.
3. سورة آل عمران، الآیة 188.
4. سورة الحجّ، الآیة 5.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 6 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
تحدّثنا فی اللیالی الماضیة حول روایة من كتاب تحف العقول عن الإمام الباقر (علیه السلام) یقول فیها لجابر: «یَا جَابِرُ... أُوصِیكَ بِخَمْسٍ: إِنْ ظُلِمْتَ فَلا تَظْلِمْ، وَإِنْ خَانُوكَ فَلا تَخُنْ، وَإِنْ كُذِّبْتَ فَلا تَغْضَبْ، وَإِنْ مُدِحْتَ فَلا تَفْرَحْ»1 وقد قدّمنا بحدود ما وفّقنا الله توضیحاً لهذه الجمل الأربع. أمّا وصیّة الإمام (علیه السلام) الخامسة فهی: «وَإِنْ ذُمِمْتَ فَلا تَجْزَعْ»، وقد وضّح الإمام (سلام الله علیه) الجملة الأخیرة فقال: «وَإِنْ ذُمِمْتَ فَلا تَجْزَعْ، وَفَكِّرْ فِیمَا قِیلَ فِیكَ؛ فَإِنْ عَرَفْتَ مِنْ نَفْسِكَ مَا قِیلَ فِیكَ فَسُقُوطُكَ مِنْ عَیْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ غَضَبِكَ مِنَ الْحَقِّ أَعْظَمُ عَلَیْكَ مُصِیبَةً مِمَّا خِفْتَ مِنْ سُقُوطِكَ مِنْ أَعْیُنِ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى خِلافِ مَا قِیلَ فِیكَ فَثَوَابٌ اكْتَسَبْتَهُ مِنْ غَیْرِ أَنْ یَتْعَبَ بَدَنُكَ»، أی: إذا واجهك أحد بسوء الكلام فلا تجزع! وفكّر فیما إذا كان ما قیل فیك حقّاً أم باطلاً؟ فإن كان حقّاً فلا تنزعج؛ لأنّك إذا انزعجت فإنّما تنزعج من أمر هو حقّ، وهذا یُسقطك من عین الله، فانّه لا قیمة عند الله تعالى لمن یستاء وینزعج من الحقّ. وأمّا إذا كان ما قیل فیك باطلاً فاعلم أنّ ثواباً سیُكتب لك فی صحیفة أعمالك إزاء هذا الذمّ بلا جهد ولا تعب، وهذا أیضاً لیس ممّا یدعو إلى الانزعاج.
نلاحظ أنّ الإمام (علیه السلام) لم یضف على النصائح الأربع السابقة شیئاً لكنّه لم یكتف فی الخامسة بقوله: «وَإِنْ ذُمِمْتَ فَلا تَجْزَعْ» بل أردفها بالتوضیح. فما فرق هذه الجملة عن سابقاتها؟ ولماذا اكتفى فی الجمل الأربع السابقة بذكر النصیحة من دون توضیح؟
وفقاً للظاهر وفیما یتّصل بالمدیح فإنّ المرء لا یتوقّع أن یمتدحه الجمیع، بل ولا یرى لنفسه مثل هذا الحقّ. أمّا بخصوص الذمّ، فهو لا ینتظر أن یذمّه أو یقرّعه أحد. فالمدح بذاته لیس عیباً، خصوصاً إذا كان من أجل التعریف بالحقّ والإعانة على طریق الصواب. فلا یكون مدح امرئ مذموماً إلاّ إذا اتّخذ طابع التملّق والإطراء الزائف. أمّا فیما یتعلّق بالذمّ فالإنسان یرى أنّ من حقّه أن لا یذمّه الآخرون وهو بشكل طبیعیّ یستاء عند التعرّض للملامة. ومن هنا فإنّ إهانة الآخرین، والاستهزاء بهم، ونسبة العیوب الیهم، وغیبتهم، ورمیهم بمختلف التهم حرام. فانزعاج الإنسان من هذا الأمر یرجع إلى شعوره بأنّ حقّاً قد سُلب منه؛ كما هو الحال فیما یتعلّق بسائر الحقوق، فعندما یُغتصب من المرء حقّ فإنّه - بشكل طبیعی - یستاء، وكذا إذا اُسیء إلیه بقول لاسیّما إذا كان ذلك بحضور الآخرین. وبناءً على ذلك تحتاج النصیحة الخامسة إلى مزید من التأكید على أنّه: حذار فی مثل هذه المواطن من أن تغضب وتثور! ومن هذا المنطلق فقد وضّح (علیه السلام) لجابر فی هذا المورد كیفیّة كبح سَورة الغضب بقوله: «إذا ذمّك أحد ففكّر بالأمر وقُل لنفسك: هل إنّ ما یقوله صحیح؟ وهل أنا هكذا حقّاً»؟
یتّصف الإنسان - بشكل طبیعیّ - بحبّ الذات ولا یرغب فی أن یرى فی نفسه نقصاً، أو عیباً، أو ذنباً. وحتّى عندما یرتكب المعصیة فی العلن فهو یختلق لنفسه المبرّرات ویحاول إقناعها بأنّه یمتلك الحقّ فی هذا التصرّف، أو عندما یكون غیر مطّلع على أمر وقد سُئل عنه فهو یحاول الإجابة بشكل لا یَشعر معه المقابلُ بجهله، كی لا یقول صراحة: لا أعلم! وهذا السلوك یدلّ على أنّ الإنسان بطبیعته شدید الحبّ لنفسه، ولا یودّ أن یقف على عیوبه. ولذا فعندما یعیبه أحدٌ مّا فإنّ أوّل ما یتبادر إلى ذهنه هو أنّ هذا الشخص یكذب وأنّنی بریء من هذا العیب. فكثیراً ما توجد فی المرء عیوب تكون غائبة عن باله؛ لأنّ من جملة حیل النفس – التی تُعدّ موجوداً عجیباً إلى أبعد الحدود - هی سترها لعیوب الإنسان ونقائصه حتّى عن نفسه، فهی أحیاناً تجعل الأمر مشتبهاً على الإنسان نفسه فتُظهر نفسه له بشكل لا یصدّق معه أنّه إنسان سیّئ. ومن هنا یقول أبو جعفر الباقر (علیه السلام): «فَكِّرْ فِیمَا قِیلَ فِیكَ»؛ أی إنّ وجود هذا العیب فیك أو عدمه مبهم بعض الشیء حتّى بالنسبة لك وقد لا تصدّق بوجوده من دون تفكیر وتأمّل. فإنّ الكثیر من الرذائل كالحسد، والتكبّر، والأنانیة موجودة، وإن كانت بمراتب ضعیفة، عند كثیر من الناس لكنّهم غیر مصدّقین بذلك.
ویتابع (علیه السلام) فیقول: «إذا وصلت بتفكیرك إلى نتیجة تقول إنّ هذا العیب موجود فیك فعلاً، لكنّك كنت تخفیه ولا تحبّ أن یُعلن على الملأ، فإنّ ما فعله هذا الشخص – بغضّ النظر عن كونه قد ارتكب محرّماً وسیعاقَب علیه – قد بیّن لك حقیقةً. فهل علیك - یا ترى - أن تضجر وتغضب من اكتشافك للحقیقة؟! فإن أنت فعلت ذلك كان فعلك أسوأ من سابقه؛ لأنّه إذا علم الإنسان بعیبه فأنكره، كان إنكاره هذا عن عمد وسیؤدّی إلى سقوطه من عین الله أكثر من ذی قبل، وسوف لن ینظر الله إلیه نظرة لطف ورحمة. فلماذا تخاف من الذمّ إذن؟ هل تخاف أن یسیء الناس الظنّ بك، فتسقط من أعینهم وتفقد سمعتك ووجاهتك بینهم؟ هل تخشى من أن تشكّل هذه الإساءة مانعاً من استمرارك فی أعمال الخیر فلا تستطیع بعدئذ أن تقدّم ما كنت تقدّم من خدمات للعباد؟ أم إنّك تخاف من أن تُحرم من خدمة الناس ومساعدتهم لك؟ لكن أیّهما أسوأ: أن تسقط من أعین الناس أو تسقط من عین الله عزّ وجلّ؟ فمَن هم الناس فی مقابل الله تعالى كی یعیرهم الإنسان كلّ هذه الأهمّیة؟ فالمهمّ هو أن لا یسقط المرء من عین الباری عزّ وجلّ. فإنّك إن غضبت فی هذا المقام فستسقط من عین الله تعالى وستُبتلى بأسوأ ممّا خفت منه.
أمّا إذا قادك تفكیرك إلى أنّه لا أساس لكلّ هذه الإساءات، سواء أكان المسیء مخطئاً فی الفهم، أو تعمّد الإساءة كذباً، فإنّه سیُكتب لك فی صحیفة أعمالك ثوابٌ فی كلتا الحالتین. ولیس فی ذلك ما یثیر الاستیاء والانزعاج. بل إنْ ذمّوك بما هو لیس فیك فعلیك أن تفرح لظفرك بثواب من غیر تعب ولا نصَب، بل إنّ ذلك ممّا یوجب الشكر أیضاً.
ثمّ یرفع الإمام (علیه السلام) وتیرة كلامه متابعاً بالقول: «وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ لا تَكُونُ لَنَا وَلِیّاً حَتَّى لَوِ اجْتَمَعَ عَلَیْكَ أَهْلُ مِصْرِكَ وَقَالُوا إِنَّكَ رَجُلُ سَوْءٍ لَمْ یَحْزُنْكَ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالُوا إِنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ لَمْ یَسُرَّكَ ذَلِكَ».
كان جابر من خواصّ أصحاب الإمام الباقر (علیه السلام) وكان شدید الرغبة فی الانخراط فی زمرة أولیاء أهل البیت (علیهم السلام) وأصحاب المقام الرفیع المتمثّل بالولایة. یقول الإمام (علیه السلام) فی هذا الصدد: «إنّ هذا المقام الذی تطلبه وتنشده لا یُنال بسهولة ویُسر؛ بل إنّ له شروطاً وإنّ علیك الاستعداد لبلوغه. فاعلم أنّك لن تنال ولایتنا أهل البیت ما لم تتزیّن بهذه السجیّة وهی أنّه لو اجتمع جمیع أهل مدینتك الذین عشت معهم وترعرعت بینهم وقابلوك ببذیء الكلام ورفعوا ضدّك الشعارات فلا ینبغی حتّى أن تحزن لذلك، وعلى العكس فلو اجتمع جمیع أهالی تلك المدینة یوماً من الأیّام وصاروا یهتفون باسم جابر وبحیاته وشهدوا جمیعاً على أنّك رجل فی قمّة الصلاح والتقوى فلا ینبغی أن تفرح لذلك؛ أی لابدّ أن یكون وضعك الروحیّ والنفسیّ ثابتاً، سواء شَتَمَك جمیع أهل مِصرك أم امتدحوك؛ فلا تحزن لذاك ولا تفرح لهذا.
فما هو التكلیف إذن؟ یجیب الإمام (علیه السلام): «وَلَكِنِ اعْرِضْ نَفْسَكَ عَلَى مَا فِی كِتَابِ اللهِ؛ فَإِنْ كُنْتَ سَالِكاً سَبِیلَهُ، زَاهِداً فِی تَزْهِیدِهِ، رَاغِباً فِی تَرْغِیبِهِ، خَائِفاً مِنْ تَخْوِیفِهِ فَاثْبُتْ وَأَبْشِرْ فَإِنَّهُ لا یَضُرُّكَ مَا قِیلَ فِیكَ، وَإِنْ كُنْتَ مُبَایِناً لِلْقُرْآنِ فَمَاذَا الَّذِی یَغُرُّكَ مِنْ نَفْسِكَ»؛ فاعرض نفسك على محتوى القرآن! وانظر فیما إذا كنت كما یرید القرآن أم لا من دون الاكتراث لإهانات الناس وإطرائهم فإذا كنت كما یرید القرآن الكریم فاشكر الله على ذلك! وإن لم تكن كذلك فاسعَ فی إصلاح نفسك وإزالة عیوبها! فإن رغبت فی أن تكون من أهل ولایتنا أهل البیت فتحلَّ بهذه السجایا.
یقول الإمام الباقر (صلوات الله علیه) فی حدیث آخر حول الموضوع ذاته: «یَا جَابِرُ! لا تَذْهَبَنَّ بِكَ الْمَذَاهِبُ، حَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ یَقُولَ أُحِبُّ عَلِیّاً وَأَتَوَلاّهُ ثُمَّ لا یَكُونَ مَعَ ذَلِكَ فَعَّالاً»2؛ فإذا ظنّ الرجل أنّه یكون من موالینا أهل البیت بإظهاره الحبّ لأمیر المؤمنین (صلوات الله علیه) فسنبادر إلى سؤاله: هل انّ مقام علیّ (علیه السلام) عند الله أعلى أم مقام محمّد (صلّى الله علیه وآله)؟ فمن الواضح أنّ مقام رسول الله (صلّى الله علیه وآله) أعلى من مقام علیّ (علیه السلام): «فَلَوْ قَالَ: إِنِّی أُحِبُّ رَسُولَ اللهِ، فَرَسُولُ اللهِ (صلّى الله علیه وآله) خَیْرٌ مِنْ عَلِیٍّ (علیه السلام)» لكنّ أصحاب الفریق الآخر یقولون: إنّنا نحبّ محمّداً (صلّى الله علیه وآله)؛ إذن لابدّ أن یُقَدَّم هؤلاء علیكم لأنّهم یحبّون مَن هو مقامه أرفع من مقام علیّ (علیه السلام). إذن فمن أراد أن یكون من أهل الولایة فانّه یتعیّن علیه أن یكون تابعاً للإمام (علیه السلام) بالقول والفعل، أی ینبغی أن تكون محبّة الإمام فی قلوبكم وآثار هذه المحبّة ظاهرة فی سلوككم، فمجرّد الكلام والادّعاء لا یجدی نفعاً.
إذن، فماذا نصنع؟ یجیب (سلام الله علیه): «مَنْ كَانَ للهِ مُطِیعاً فَهُوَ لَنَا وَلِیٌّ، وَمَنْ كَانَ للهِ عَاصِیاً فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ»3. فالذین یعصون الله عزّ وجلّ فهم إنّما یعادوننا أهل البیت ولیسوا من أولیائنا. فإن كانوا أولیاءنا فینبغی أن تماثل سیرتُهم سیرتَنا وأن یتّبعونا.
وبطبیعة الحال فإنّ للولایة مراتبَ وإنّ هذه المرتبة التی یذكرها الإمام الباقر (سلام الله علیه) وهی «اتّباعنا حذو النعل بالنعل» هی المرتبة العلیا من مراتب الولایة وهی المرتبة التی كان یسعى لنیلها مَن هم من أمثال جابر. فإنّه لمثل هذا الرجل - الذی علّمه الإمام (علیه السلام) خمسین ألف حدیث لا یحقّ له نقل واحدٍ منها – یُقال: «إذا أحببت أن تنال ولایتنا فلیكن القرآن میزان عملك، لا كلام الناس».
اللهمّ إنّا نقسم علیك بحقّ محمّد وآل محمّد (صلواتك علیهم أجمعین) أن تمنّ علینا بحقیقة الولایة وأن توفّقنا للسیر على نهج أهل بیت نبیّك (صلوات الله علیهم أجمعین) بالقول والعمل.
1. تحف العقول، ص284.
2. الكافی، ج2، ص74.
3. نفس المصدر السابق.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 7 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ لا تَكُونُ لَنَا وَلِیّاً حَتَّى لَوِ اجْتَمَعَ عَلَیْكَ أَهْلُ مِصْرِكَ وَقَالُوا إِنَّكَ رَجُلُ سَوْءٍ لَمْ یَحْزُنْكَ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالُوا إِنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ لَمْ یَسُرَّكَ ذَلِكَ، وَلَكِنِ اعْرِضْ نَفْسَكَ عَلَى مَا فِی كِتَابِ اللهِ فَإِنْ كُنْتَ سَالِكاً سَبِیلَهُ، زَاهِداً فِی تَزْهِیدِهِ، رَاغِباً فِی تَرْغِیبِهِ، خَائِفاً مِنْ تَخْوِیفِهِ فَاثْبُتْ وَأَبْشِرْ فَإِنَّهُ لا یَضُرُّكَ مَا قِیلَ فِیكَ، وَإِنْ كُنْتَ مُبَایِناً لِلْقُرْآنِ فَمَاذَا الَّذِی یَغُرُّكَ مِنْ نَفْسِكَ»
مررنا فی اللیلة الماضیة على هذا القول للإمام (علیه السلام) وقدّمنا له توضیحاً مختصراً كانت حصیلته أنّ الولایة الكاملة لأهل البیت (علیهم السلام) منوطة بأن ینتهج المرء سبیلاً لا یعتقد فیه بالأصالة لأیّ قیمة ما عدا رضا الله عزّ وجلّ ورضا أولیائه. فلا یكون إرضاؤه لأبویه، أو رفاقه، أو زوجه أو أولاده، ...الخ بما ینافی رضا الله تعالى أوّلاً، وأن یكون سعیه لإرضائهم راجعاً لكون الله یطلب منه ذلك ثانیاً؛ أی إنّه یحترم أبویه، ویعامل أولاده برأفة لأنّ الله أمره بذلك، وأن لا یكون لحكم الناس أیّ أثر على فرحه أو حزنه.
یقول (سلام الله علیه): اعرض نفسك على القرآن الكریم، فإن كنت سالكاً سبیله، وكانت حالاتك مطابقة لأوامر الله تعالى؛ فإن قال لك: خفْ، فأنت تخاف، وإذا قال لك: تقدّم، فانّك تتقدّم، وعندما یقول لك: قف، فأنت تقف، وحینما یقول لك: أَحِبّ، فأنت تُحبّ، وإن قال لك: ابغض، فانّك تبغض، وبشكل عامّ إذا لم تكن لدیك حاجة أصیلة، فاثبت على وضعك هذا وأبشر، واعلم أنّه لن یضرّك كلّ ما قاله ویقوله الناس فیك من القول السیّئ. أمّا إذا كنت تقف فی الجهة المعاكسة للقرآن تماماً ولا یوافق سلوكُك تعالیمَ القرآن، وكنت متعلّقاً بلذائذ الدنیا عندما یقول لك القرآن: «كن راغباً عنها»، وینتابك التقاعس والكسل حینما یقول لك: تسابقوا من أجل نعم الجنّة: «وَفِی ذَٰلِكَ فَلْیَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ»1، فكیف – والحال هذه – تخدع نفسك وترضى عنها؟! فإذا كنت تستاء إذا عابك الناس فاعلم أنّك مملوء بالعیوب من قمّة رأسك إلى أخمص قدمیك. فلماذا كلّ هذا الإعجاب بالنفس والرضا عنها؟!
هذا المقطع من كلام الإمام (علیه السلام) ینطوی على مبحث رفیع المستوى وصعب المنال للغایة. ومن الواضح أنّه (علیه السلام) قد أسدى هذا النصح لجابر إذ وجد فیه الاستعداد لتقبّله؛ أمّا أمثالنا فقد نصاب بالیأس عندما نسمع مثل هذا الكلام ونقول: بما أنّنا لا نستطیع أن نكون كذلك فلن نُعَدّ من أصحاب ولایة أهل البیت (علیهم السلام). ولعلّ هذا الشیء هو الذی جعل الإمام (علیه السلام) یُتبِع حدیثه هذا ببیان عامّ تربویّ مشبّهاً المؤمن فی هذه الدنیا بالمصارع الذی یتصارع مع نفسه ویحاول التغلّب علیها، فتارةً تعلو همّته وتقوى إرادته فیوفَّق بعون من الله عزّ وجلّ فی الغلبة على النفس وصرعها، وتارةً اُخرى تصرعه النفس وتطرحه أرضاً. فأبطال المصارعة لم یصبحوا أبطالاً بین لیلة وضحاها، بل إنّهم قد عكفوا على التمرین لفترات طویلة وصُرِعوا وصَرَعوا مراراً حتّى بلغوا هذه المرحلة، وإنّه لیس أمام كلّ مَن یرغب فی الوصول إلى هذا المستوى سوى هذا الدرب. وكذا المؤمن فهو فی حالة مصارعة مع نفسه؛ فقد تتغلّب علیه النفس أحیاناً وتصرعه أرضاً، لكن لا ینبغی أن ییأس ویقول: «إنّنی لن أستطیع التغلّب على نفسی. فأنا غارق لا محالة، ولا فرق إن غرقت بین شبر من الماء ومائة شبر»! لكن الأمر لیس بهذه الصورة، فكلّما قلّت المسافة التی تفصلنا عن سطح الماء كان أفضل، وحتّى المقدار القلیل یكون ذا أهمّیة أیضاً. فإن صُرعت أرضاً مرّةً فانهض وواصل النزال مع نفسك بهمّة أصلب وعزیمة أشدّ رسوخاً وتوكّل على الله تعالى، وستنتصر فی المرّة الثانیة. فالدنیا حلبة مصارعة، وعلى كلّ امرئ أن یصارع فیها نفسه باستمرار.
یشیر الإمام (سلام الله علیه) فی هذا المقطع إلى التفاتات تربویّة قیّمة، فیقول: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ مَعْنِیٌّ بِمُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ لِیَغْلِبَهَا عَلَى هَوَاهَا»؛ فدیدن المؤمن واهتماماته هی فی جهاد نفسه «فَمَرَّةً یُقِیمُ أَوَدَهَا وَیُخَالِفُ هَوَاهَا فِی مَحَبَّةِ الله»؛ فهو یتمكّن أحیاناً من تقویم اعوجاجاتها وانحرافاتها ویخالف هواها فی سبیل محبّة الله عزّ وجلّ. وهذه العبارة تحتوی على ملاحظة جدیرة بالاهتمام؛ فلو أنّه (علیه السلام) لم یقل: «فِی مَحَبَّةِ الله» لكانت العبارة تامّة، فلماذا أضاف هذا الجار والمجرور؟ الجواب: هذا الجار والمجرور هو لتبیین سبیل شیّق للتغلّب على الهوى بحیث یتمكّن المرء بسلوكه من التغلّب على هواه من جانب والشعور باللذّة من جانب آخر. فإن عثر الإنسان على هذا السبیل وعرف قدره فسیجد أنّه سبیل قیّم إلى أبعد الحدود.
نقرأ فی المناجاة الشعبانیّة: «إلهی لم یكن لی حولٌ فأنتقلَ به عن معصیتك إلاّ فی وقت أیقظتنی لمحبّتك وكما أردتَ أن أكونَ كنتُ»2، فمخالفة النفس تكون أیسر إذا كانت محفوفة بجوّ من المحبّة. فالطفل المتعلّق كثیراً بأبویه عندما یزداد عبثه وإیذاؤه للآخرین ولا یصغی لتوجیهات أبویه تقول له اُمّه: «إذا كنت تحبّنی فلا تفعل ذلك». فإن كان النهج المتّبَع فی تربیته صحیحاً وكانت عواطفه مشبعة فسیشكّل هذا الكلام أفضل رادع یردعه عن ممارسة الأعمال القبیحة. فإن كان قلب الإنسان عامراً حقّاً بمحبّة الله تعالى، وكان یدرك أنّ الله أحبّ من أیّ محبوب، وأنّ كلّ سبب للمحبّة هو فی الواقع شعاع من الفیوضات اللامتناهیة له عزّ وجلّ، فإنّه سیترك القبیح بكلّ سهولة ویسر إذا قال له ربّه: «إذا كنت تحبّنی فلا تفعل ذلك». لكنّ السؤال الذی یتبادر إلى الذهن هنا هو: هل یقول الله مثل هذا القول؟ والجواب: نعم، فعندما یقول الباری جلّت آلاؤه فی كتابه العزیز: «إِنَّ اللهَ لا یُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ»3، أو یقول: «اللهُ یُحِبُّ الصَّابِرِینَ»4 فهو فی الحقیقة یستخدم النهج التربویّ ذاته؛ فكأنّه یقول: إذا كنت تحبّنی فلا تتكبّر، و: إذا كنت تحبّنی فكن من الصابرین. فهذه الطریقة هی من أفضل السبل التی یمكن أن یسلكها المرء لترك المعصیة. ومن هنا فإنّ ذكر الإمام (علیه السلام) لهذه العبارة: «فِی مَحَبَّةِ الله» یتضمّن – فی حقیقة الأمر – إشارة لهذه الطریقة المثلى.
«وَمَرَّةً تَصْرَعُهُ نَفْسُهُ فَیَتَّبِعُ هَوَاهَا»: أی یتّبع ما تهوى وتحبّ. ففی نزال المصارعة هذا تتغلّب النفس على الإنسان حیناً فتصرعه، ویغلبها هو طوراً فیطرحها أرضاً. فعندما یذوق الشخص المتفلّت من الالتزامات الدینیّة طعم المعصیة مرّة تراه یلهث وراءها بولع وشغف فی كلّ مرّة. أمّا المؤمن فهو لیس بهذه الصورة، والمؤمن المفتَرَض هنا هو ذلك الإنسان الذی یكون فی حالة صراع مع نفسه وهو یحاول صرعها على الدوام لكنّه یخفق من باب الصدفة فی هذا النزال فتصرعه نفسه. فالله فی هذه الحالة یمدّ له ید العون ولا یدعه یُسحَق تحت سطوة نفسه تقدیراً لما اتّصف به من الإیمان والتقوى.
«فَیَنْعَشُهُ اللهُ فَیَنْتَعِشُ، وَیُقِیلُ اللهُ عَثْرَتَهُ فَیَتَذَكَّرُ، وَیَفْزَعُ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْمَخَافَةِ فَیَزْدَادُ بَصِیرَةً وَمَعْرِفَةً لِمَا زِیدَ فِیهِ مِنَ الْخَوْفِ»؛ فشخص كهذا یساعده الله على الوقوف على قدمیه مرّة اخرى لیستمرّ فی النزال مع النفس، ویغضّ جلّ وعلا طرفه عن عثراته، وهو (هذا الإنسان) بدوره یتذكّر ویتنبّه بأنّه قد اقترف خطأ عظیماً. وفی إثر الخوف الناشئ من هذه الحالة یزید الله فی بصیرته ومعرفته، فتراه لذلك یستأنف النزال بقوّة أشدّ وعزیمة أكبر.
الالتفاتة التربویّة الاُخرى التی ینطوی علیها هذا الكلام هی أنّ المرء فی هذا النزال لیس أنّه لا ینبغی أن یتسلّل الیأس إلى قلبه إذا سقط أرضاً فحسب، بل لابدّ أن یحدوه الأمل بتنامی قوّته أیضاً. فعلیه أن یتوجّه إلى الله بعد سقوطه ویلجأ إلیه بالتوبة والإنابة، قائلاً له: «إلهی! أخشى أن اُصرع إنْ أنا اتّكلت على قدرتی. فكن أنت معینی وحافظی». هذا الالتفات إلى الباری عزّ وجلّ والخوف من سخطه یبعث على تقویة روح الإنسان وتعزیز إرادته الأمر الذی یضفی كمالاً إلى كماله. ولعلّ المراد من قوله تعالى: «یُبَدِّلُ اللهُ سَیِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ»5 هو أنّ الإنسان إذا تاب بعد ارتكاب الخطیئة، فإنّ نفس هذه الحالة المتمثّلة بالإنابة واللجوء إلى الله هی ضرب من ضروب العبادة وهی حالة لم تكن موجودة لدیه قبل اقتراف الذنب. فمضافاً إلى أنّ حالة التضرّع والتوسّل هذه تساعد على محو عمله السابق، فإنّها تضفی علیه كمالاً مضاعفاً، أی إنّها تُزوّده بقدرة أكبر على اكتساب النورانیّة.
ثمّ یستدلّ الإمام (سلام الله علیه) بآیة من الذكر الحكیم فیقول: وَذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ یَقُولُ: «إِنَّ الَّذِینَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّیْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ»6. فالمؤمن الذی تبدُر منه زلّة فی حین من الأحیان لا یُعدّ من أتباع الشیطان ولیس ثمّة شیطان مُقیَّض له بحیث یكون قرینه ورفیقه. فما یُستفاد من الآیات القرآنیّة هو أنّ العلاقة بین الشیطان والناس لا تكون بشكل واحد؛ فبعض الناس یتجسّد الشیطان فیهم بالكامل، وبعضٌ یكونون قرناء الشیطان أی یصبح الشیطان رفیقاً دائمیّاً لهم، أمّا البعض الآخر فلا یوجد شیطان قرین أو مُوَكَّل بهم بشكل مستمرّ، بل إنّ الشیاطین التی تطوف وتدور على نحو متواصل تمیل علیهم إذا رأت ضالّتها فیهم؛ وهو قوله تعالى: «إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّیْطَانِ» وهذا المیل من قبل الشیطان على المرء یمثّل تلك الزلّة التی تنتاب الإنسان فی حین من الأحیان. وبمجرّد أن یرتكب اُناس كهؤلاء الخطیئة فانّهم ینتبهون إلى قبیح فعلهم، فإذا التفتوا إلى العقاب الذی ینتظرهم جرّاء هذا الفعل فانّ بصیرتهم تتفتّح: «فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ».
یقول عزّ من قائل: «إِنَّمَا یَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»7. إذن هناك تناسب بین الخشیة والعلم؛ فكلّما زاد علم المرء بالله، وبصفاته، وبحكمته، وبأهدافه، ازداد الخوف فی قلبه؛ أی زاد شعوره بالحقارة والضعف فی مقابل بارئه والخوف من سقوطه من عین الله عزّ وجلّ. فإذا تنامت هذه الحالة فی نفسه كثُر لجوؤه إلى الله تعالى وتضاعف لذلك لطف الله به، فتراه یطوی مراتب الكمال الواحدة تلو الاُخرى حتّى یصل إلى أعلاها.
إذن لابدّ أن یكون خوفكم جدّیاً؛ فكثیرون هم الذین یدّعون الخوف من الله ومن عذابه بَیْد أنّ خوفهم لا یتّسم بالجدّیة. فالناس فی العادة یخشون محن الحیاة الدنیا وعذابها وهم لهذا السبب یبذلون قُصارى جهودهم فی سبیل الخلاص منها. فإذا كانت خشیتنا من عذاب الله عزّ وجلّ خشیة حقیقیّة فلابدّ أن یكون حذرنا أشدّ. فإذا كان خوف المرء خوفاً جدّیاً فهو حتماً سیزید فی بصیرته: «فَیَزْدَادُ بَصِیرَةً وَمَعْرِفَةً لِمَا زِیدَ فِیهِ مِنَ الْخَوْفِ».
الإنسان المؤمن هو باستمرار فی حالة صراع مع نفسه وإنّ الله ناصره فی هذا النزال وهو لا یتخلّى عنه بتاتاً. فإن زلّ وسقط أرضاً، فإنّ الله لمعرفته بأنّه من أهل الإیمان وأنّه قد عزم على عدم اقتراف المعصیة سیمدّ إلیه یده ویُنهِضه لیستأنف النزال من جدید. ففی كلّ مرّة یُصرع فیها أرضاً تزداد قوّته وتتضاعف منعته أمام خصمه حتّى یبلغ حدّاً یستطیع معه الدخول فی نطاق ولایة أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین). فبعد أن أشار إمامنا الباقر (علیه السلام) إلى تلك الشروط الصعبة، استدرك فذكر هذه الملاحظات كی لا ییأس الآخرون من العثور على سبیل الوصول إلى الكمال المتمثّل بالولایة. فلا ینبغی للإنسان المؤمن أن ینتابه الیأس نتیجة مصارعة النفس أو السقوط أرضاً، بل ینبغی أن تكون عزیمته أكثر رسوخاً، وخوفه أشدّ كی یزید الله جلّ شأنه فی بصیرته.
زاد الله تعالى فی بصیرتنا أجمعین.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. سورة المطفّفین، الآیة 26.
2. إقبال الأعمال، ص686.
3. سورة لقمان، الآیة 18؛ وانظر سورة الحدید، الآیة 23.
4. سورة آل عمران، الآیة 146.
5. سورة الفرقان، الآیة 70.
6. سورة الأعراف، الآیة 201.
7. سورة فاطر، الآیة 28.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 8 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«یَا جَابِرُ اسْتَكْثِرْ لِنَفْسِكَ مِنَ اللهِ قَلِیلَ الرِّزْقِ تَخَلُّصاً إِلَى الشُّكْرِ وَاسْتَقْلِلْ مِنْ نَفْسِكَ كَثِیرَ الطَّاعَةِ للهِ إِزْرَاءً عَلَى النَّفْسِ وَتَعَرُّضاً لِلْعَفْو»1
وصلنا فی تأمّلنا لحدیث جابر إلى حیث تطرّق الإمام الباقر (علیه السلام) – بعد بیانه لأوج مقام ولایة أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین) - إلى طرح تعالیم وتوجیهات عملیّة تعین على التحلّی بالفضائل والوصول - فی النهایة - إلى هذا المقام السامی. لكنّه (سلام الله علیه) یمهّد فی البدایة لهذا المبحث بالقول: لا تتوقعنّ أنّك لن تزلّ وتتعثّر فی هذا المضمار وأنّ جمیع أعمالك ستكون صحیحة لا غبار علیها، فالمهمّ فی أوّل الطریق هو أن تبذل قصارى جهدك لترسیخ إیمانك والتحلّی بملَكة التقوى. وبعد ذلك سیأتی دور مقارعة النفس؛ فكن دائماً فی حال صراع معها واثبت على هذا النهج حتّى آخر عمرك. فی هذا المضمار قد ینتصر المرء على النفس حیناً وقد تغلبه هی حیناً آخر لكن لا ینبغی لمثل هذه المسائل أن تُضعف من عزیمة الإنسان المؤمن وتحدّ من إرادته، بل یتعیّن علیه أنّه كلّما سقط أرضاً أن یصبح تصمیمه على مواصلة النزال أكثر جدّیة وقوّة.
ویحتاج المؤمن فی هذا المسیر إلى معرفة المزید من التعالیم والتوجیهات العملیّة والتنفیذیّة. إنّ القسم الأعظم من المعارف الأخلاقیّة یختصّ ببیان الفضائل الأخلاقیّة ومراتبها المختلفة التی على رأسها التوحید (وهو العبودیّة للحقّ سبحانه وتعالى). أمّا القسم الآخر - الذی یتّخذ غالباً الطابع العملیّ – فهو یهتمّ بتبیین أفضل السبل وأیسرها لاكتساب تلك الفضائل كی یكون وصول سالك طریق الحقّ إلى مقصده أكثر سهولة وأمناً، كالمرشد الذی یرشد المبتدئین إلى أسهل السبل وأكثرها أمناً لبلوغ القمّة. فالذین سبق لهم سلوك هذه السبل هم أكثر الناس قدرةً على مساعدة المرء فیها، ومن هذا المنطلق یؤكّد عظماؤنا عادةً على التفتیش عن اُستاذ فی الأخلاق؛ فإنّ من فوائد الاُستاذ هو انتفاع المتتلمذ على یده من تجربته الممتدّة على مدى عمر كامل من المساعی والجهود المضنیة.
وكذا الحال بالنسبة لأحادیث أئمّتنا الأطهار (صلوات الله علیهم أجمعین) فی قسم المعارف الأخلاقیّة فإنّ جانباً منها مكرَّس لتبیین السبل العملیّة للوصول إلى المقصد. فكلّنا یعلم – مثلاً - أنّ واحدة من القیم الأخلاقیّة المهمّة هی «الشكر»: «قَلِیلٌ مِنْ عِبادِیَ الشَّكُورُ»2، لكنّ السؤال المطروح هنا هو: كیف یمكن للمرء أن یكون شكوراً وأن یظفر بالدافع إلى الشكر؟ فمن عادتنا جمیعاً أن نقول بعد تناول الطعام: «الحمد لله». هذا العمل وإن اعتُبر شكراً لله وأنّه حسن جدّاً، لكنّه لیس كافیاً. فماذا نصنع لنكون اُناساً شكورین؟
والإمام الباقر (علیه السلام) یشیر فی موطنین على الأقل فی وصایاه لجابر إلى هذه المسألة، ولـمّا كان هذان الموطنان مرتبطین مع بعضهما فسأذكرهما سویّة.
تحظى مسألة الشكر فی النظرة القرآنیّة بأهمّیة بالغة. فما یطلبه الله تعالى منّا یفوق بكثیر الاكتفاء بقول: «الحمد لله» بعد تناول الطعام. لقد شاهدتُ مرّة كتاباً ضخماً نسبیّاً جُمعت فیه الأحادیث التی تتحدّث عن الصبر والشكر، وهذا دلیل على الأهمّیة القصوى التی تحظى بها هذه المسألة. إذن علینا أن نفهم أنّ الشكر لیس من المفاهیم العادیّة حتّى ننظر الیه نظرة عابرة.
الملاحظة الاُخرى التی تتعلّق بأهمّیة مسألة الشكر هی أنّ علماء الكلام وعند خوضهم فی المباحث الكلامیّة أو البحث المتّصل بإثبات وجود الله تعالى فإنّهم عادة ما یطرحون هذا السؤال: ما هی ضرورة الخوض فی أمثال هذه المباحث؟ إذ أنّ هناك البعض - وأخصّ بالذكر اُولئك المنبهرین بالثقافة الغربیّة - ممّن یطرح الشبهة القائلة: ما هی حاجتنا أساساً للتطرّق إلى مسألة: هل یوجد فی هذا الكون إله أم لا؟ فإن كنّا ملتزمین بعدم الكذب، وعدم الخیانة، وعدم ممارسة الظلم، ونسعى لأن نكون اُناساً صالحین، فإن كان یوجد إله فلابدّ أنّه یحبّ الإنسان الصالح، وإن لم یكن فالبحث مضیعة للوقت.
فكیف نستطیع تحفیز الإنسان على البحث فی مسألة أصل وجود الله تعالى وصفاته؟ فنحن لا نستطیع أن نقول لبعضهم: كان الأنبیاء یعدّون البحث فی هذا الموضوع أمراً واجباً! لأنّه لا یؤمن بنبیّ أساساً. إذن السبیل الوحید لذلك هو الإفادة من قوّة العقل، فالعقل هو الذی ینبغی أن یحكم بوجوب البحث من أجل معرفة الله. یقول المتكلّمون فی هذا الصدد: «إنّ أهمّ دلیل عقلیّ على وجوب معرفة الله سبحانه هو وجوب شكر الـمُنعِم». فالعقل یقول: «یتعیّن أن تعرفَ الذی أغدق علیك نعماً جمّة، لأنّه من الضروریّ أن تشكر مَن أنعم علیك». بمعنى أنّهم یعتبرون هذا الدلیل أكثر الاُمور التی تُلزِم الإنسان بالسعی لمعرفة الله بدیهیّةً. إذن فمسألة الشكر هی على هذا القدر من الأهمّیة.
ومع ذلك نرى أنّ الحافز الذی یدفع الناس إلى الشكر ضعیف. فهذا الإمام الصادق (علیه السلام) یقول فی حدیث له حول أقسام العبادات: «إنّ الناس یعبدون الله عزّ وجلّ على ثلاثة أوجه؛ فطبقة یعبدونه رغبة إلى ثوابه فتلك عبادة الحُرَصاء وهو الطمع، وآخرون یعبدونه خوفاً من النار فتلك عبادة العبید وهی الرهبة، ولكنّی أعبده حبّاً له فتلك عبادة الكرام وهو الأمن...»3. أمثال هذه الروایات تشیر إلى أنّنا نفتقد فی العادة الحافز القویّ إلى الشكر. فلماذا لا نقدر النعم العظیمة التی أسبغها الله علینا حقّ قدرها؟ ولماذا ینعدم الدافع إلى الشكر لدینا؟ كم مرّة طوال الیوم واللیلة نتذكّر أنّه ینبغی علینا أن نشكر الله عزّ وجلّ؟
فالله عزّ وجلّ ولما یتّصف به من لطف منقطع النظیر بعباده یحاول عبر طرق شتّى أن یوجد فی أنفسنا الدافع إلى الشكر، وإنّ من أنجع السبل التی یستخدمها القرآن الكریم لهذا الغرض هو قوله: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِیدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِی لَشَدِیدٌ»4، فالشكر هو من بواعث رفع درجات الإنسان والسموّ بإنسانیّته، وهذا هو سبب التأكید على هذا الأمر كلّ هذا التأكید.
فی هذه الروایة یقدّم الإمام (علیه السلام) لجابر طریقة لإیجاد الدافع إلى الشكر عند الإنسان. فهو یشیر فی حدیثه هنا إلى أنّ علّة شحّة شكرنا هی عدم التفاتنا إلى آلاء الله وأنعمه علینا بشكل جیّد. فنحن نتدلّل - بعض الشیء - على الله، ونرى أنفسنا مستحقّین وأصحاب حقّ، ونتوقّع منه عزّ وجلّ أن یمنّ علینا بأكثر بكثیر ممّا أسبغ علینا إلى الآن من النعم. بل إنّنا أحیاناً، وجرّاء وجود بعض النقائص، لا نُعرض عن الشكر فحسب، بل تتولّد لدینا حالة الشكوى والتذمّر أیضاً. إذن یتحتّم علینا أن نبذل غایة المجهود لمعرفة النعم الإلهیّة حقّ المعرفة وأن نفكّر حتّى بنعم الله الصغیرة علینا وندرك أهمّیتها. فلا ینبغی استقلال رزق الباری عزّ وجلّ واستكثار أعمالنا. فنحن معاشر البشر نأمل عادةً أن نحوز على ما عند أكثر بنی البشر تنعّماً، ونعاتب الله على أن أعطى لفلان نعمةً ولم یعطنی إیّاها. أمّا من جانب آخر فنحن نرى أنّ الأعمال التی ننجزها نحن جبّارة وقیّمة، ونحدّث أنفسنا بأنّنا نصلّی ونصوم ونؤدّی ما أوجبه الله علینا من تكالیف، فما هو المطلوب منّا ونحن نأتی بكل ّهذه العبادات؟!
الإشكال الذی نعانی منه یكمن فی هاتین النقطتین، وعلینا كسر هذه المعادلة؛ فمن ناحیة یتحتّم علینا التفكیر بنعم الله الصغیرة؛ فینبغی لنا – مثلاً - التفكیر بما هیّئه الباری عزّ وجلّ من كمّ هائل من الأسباب والوسائل كی یوفّر لنا رغیف خبز واحد. فكما یقول الشاعر:
سُحبٌ، ریاحٌ، وأفلاكٌ، وشمسُ ضحىً تعاضدنَ فی جلب الرغیف، وتَغفلُ؟!5
فلقد وظّف الله سبحانه وتعالى جمیع نعم الكون كی تحصل أنت على الرغیف ولا تنتابك الغفلة، وكذلك الحال مع سائر النعم الإلهیّة. فالغفلة – مع بالغ الأسف – تحول دون إدراك المرء لعظمة آلاء الله عزّ وجلّ. فكم قد أسبغ الله علینا من النعم من أجل عملیّة النطق البسیطة؟ فلكی یتفوّه الإنسان ببضع كلمات لابدّ أن یعمل الجهاز التنفسیّ بشكل صحیح فی سحب الهواء ودفعه، وینبغی أن یكون للمرء حنجرة وأوتار صوتیّة سالمة، ویجب أن یؤدّی كلّ من اللسان والأسنان والفم وظائفه على النحو الصحیح، وإلاّ فلن نستطیع مهما بذلنا من جهد أن ننطق بكلمة واحدة. فی أحد الاجتماعات نقل قائد الثورة المعظّم (حفظه الله) أنّ طبیباً قال له: «أتعلم أنّه لابدّ أن تتظافر جهود بضعة ملیارات من خلایا جسم الإنسان من أجل تحریك إصبع واحد من أصابع یده؟ ولولا هذا التعاون والتنسیق فی العمل لا یمكن لهذا الإصبع أن یتحرّك». فهل فكّرنا إلى الآن كم هی نعمة عظیمة أن نكون قادرین على تحریك إصبع من أصابعنا؟ إنّنی أنصح الإخوة من الشباب أن تكون لهم بعض المطالعات فی علم الفسلجة البشریّة وعلم الأحیاء، فهی تعلّم الإنسان الكثیر.
على أیّة حال فمن أجل أن یتولّد فی أنفسنا دافع إلى الشكر، فنشكر الله شكراً یوصلنا إلى كمال الإنسانیّة ویجعلنا من المحبوبین عند الله جلّ وعلا، فإنّ علینا القیام بأمرین: الأوّل: أن نحاول جهدنا الوقوف على أنعم الله ونعرفها حقّ معرفتها ونستعظمها. فلا نكوننّ ممّن لا تملأ عیونهم سوى القصور الفارهة وما یُعدّ للطواغیت وفراعنة العصر من شتّى صنوف الطعام والشراب، ولا نرى للطعام الذی نتناوله نحن مقداراً یستحقّ علیه الشكر. فإن أحببنا أن یتولّد فی أنفسنا حافزٌ إلى شكر المولى المتعال فیتعیّن أن نطیل التفكیر حتّى فی نعم الله الطفیفة علینا والوقوف على أهمّیتها بالنسبة لنا. على أنّ ما ذكرناه لا یتعدّى نطاق النعم الطبیعیّة التی یتنعّم بها المؤمن والكافر على حدّ سواء، فما بالكم بنعمة العقل، ونعمة هدایة الأنبیاء، ونعمة معرفة الإسلام، ونعمة ولایة أهل بیت العصمة والطهارة (علیهم السلام)؟ فما كنّا لنصنع لو لم توجد هذه النعم؟
إذن هل من اللائق، مع وجود كلّ هذه الآلاء والنعم، أن نشتكی ونعاتب الله على بعض النقائص؟! إنّ عملاً كهذا یُسقط الإنسان من أریكة القیم الإنسانیّة. بالطبع إنّ الله عزّ وجلّ یصفح عن الكثیر من هذه الأنماط من الكفران وعدم الشكر، لعلمه بضعفنا، أمّا فیما یتعلّق بأولیاء الله فإنّهم یحاسَبون حتّى على صغائر الزلاّت والعثرات ویشاهدون تبعاتها على الفور.
من ناحیة اُخرى ومن أجل إیجاد هذا الدافع، علینا أن نرى عباداتنا غایة فی الضآلة وقلّة المقدار. بالطبع هذا الأمر أیضاً یحتاج إلى خطّة خاصّة؛ فكیف لی وقد صُمت لثلاثین یوماً أن اعتبر عملی هذا عدیم القیمة؟! وعلى فرض أنّنا نؤدّی صلاة اللیل طوال العام، فكیف یتسنّى لنا أن نعدّ هذه العبادة قلیلة؟
الاستقلال والاستكثار هنا أمر نسبیّ؛ بمعنى أنّ المقدار المطلق للشیء ثابت فی كلّ حال، لكنّنا عندما نقارنه بغیره نقول: إنّه قلیل أو كثیر. فإنّك إذا أردت شراء سلعة قیمتها ألف دینار فدفعت للبائع ثمانمائة دینار فقط، سیقول لك على الفور: هذا قلیل؛ ومعناه: إن ما دفعته ثمناً لهذه السلعة هو قلیل بالقیاس الى الحقیقیّة لها، لا أنّ الثمانمائة دینار قلیلة بذاتها. فإن علمنا كم أنّ الله سبحانه وتعالى متفضّل علینا، فإنّنا سنعتبر عباداتنا قلیلة حتّى وإن قضینا العمر بأكمله فی عبادته.
عندما عوتب الإمام زین العابدین (سلام الله علیه) على كثرة عبادته وبكائه بین یدی الله مع أنّ الله قد جعله فی عداد المعصومین، قال (علیه السلام): «من یقدر على عبادة علیّ بن أبی طالب (علیه السلام)»6؛ فقد استقلّ عبادته عندما قاسها بعبادة جدّه علیّ بن أبی طالب (علیه السلام). فمن أجل أن نستقلّ عباداتنا فما علینا إلاّ أن نقیسها بطاعة عباد الله الصالحین المخلَصین من حیث الكمّ والكیف وعندها سنخجل من أنفسنا. فلو أراد المرء أن یقدّم فاكهة لأحدهم كهدیّة فهل سیقدّمها بكلّ راحة بال ومن دون أدنى خجل إذا كان ما یقرب من تسعین بالمائة من هذه الفاكهة فاسداً ومتعفّناً؟ فإذا كنّا لا نلتفت إلاّ إلى عشرة بالمائة من صلواتنا فهی كالهدیّة التی فسد تسعون بالمائة منها، ألا ینبغی لنا والحال هذه أن نقدّمها بین بدی الباری عزّ وجلّ بمنتهى الخجل والحیاء؟!
إذن فمن أجل إیجاد الدافع إلى الشكر أوّلاً، وبغیة التمكّن من تأدیة شكر الله تعالى ثانیاً علینا من جانب أن نطیل التفكیر والتأمّل بأهمّیة وكثرة ما یغدق علینا تعالى من رزق ونعم جمّة، ولابدّ من جانب آخر أن نَعدّ ما نأتی به من العبادات قلیلاً وناقصاً.
ومن هذا المنطلق یقول الإمام الباقر (سلام الله علیه): «یَا جَابِرُ اسْتَكْثِرْ لِنَفْسِكَ مِنَ اللهِ قَلِیلَ الرِّزْقِ تَخَلُّصاً إِلَى الشُّكْرِ»؛ أی: استكثر ما یعطیك الله تعالى من رزق قلیل. ولا یعنی هذا أن تعدّ رغیف الخبز الواحد مائة رغیف! فهذا الكلام یدعو إلى السخریة. فقوله: «استكثر» یعنی: انظر كم أسبغ الله علیك من النعم على الرغم من عدم استحقاقك وشحّة نفسك. «وَاسْتَقْلِلْ مِنْ نَفْسِكَ كَثِیرَ الطَّاعَةِ للهِ إِزْرَاءً عَلَى النَّفْسِ»؛ ومن ناحیة اخرى استقلل ما تؤدّیه من العبادة والطاعة! فأیّ قیمة ومقدار لهذه العبادة فی مقابل ما أغدقه الله علیك من عظیم النعم، وما یؤدّیه أولیاؤه بین یدیه من جسیم الطاعة. فلنقارن آلاء الباری علینا بعدم أهلیّتنا وكثرة معاصینا كی نراها جسیمة ضخمة؛ ولنستقلل عباداتنا من الناحیة الاخرى؛ ذلك أنّ النفس تحبّ أن یكون لها شأن ومنزلة وعلینا مقارعتها وقمعها. یقول إمامنا (علیه السلام) فی هذا الصدد: «من أجل قمع أنفسكم قولوا لها: هذه العبادات لا قیمة لها»؛ ذلك أنّ مقدارها بالقیاس لطاعات أولیاء الله قلیل أوّلاً، ولا یعلم أنّها ستقبل أم لا ثانیاً. إنّه لیتعیّن الاستغفار من العبادة المأتیّ بها من دون حضور قلب فما بالكم بأن نولیها أهمّیة ونعطیها قیمة!
هذه الطریقة هی السبیل الذی یمكننا بسلوكه أن نحظى بالدافع إلى الشكر ونكون فی عداد الشاكرین: «تخلُّصاً إلى الشكر»، وأن نتغلّب على النفس، ولا ندعها تنتصر علینا وتصرعنا.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. تحف العقول، ص285.
2. سورة سبأ، الآیة 13.
3. بحار الأنوار، ج67، ص17.
4. سورة إبراهیم، الآیة 7.
5. ترجمة شعریّة لبیت بالفارسیّة للشاعر الإیرانیّ سعدی الشیرازیّ یقول فیه: «ابر و باد و مه و خورشید و فلک در کارند تا تو نانی به کف آری و به غفلت نخوری».
6. شرح رسالة الحقوق للإمام زین العابدین (علیه السلام)، ص305.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 9 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَتَخَلَّصْ إِلَى عَظِیمِ الشُّكْرِ بِاسْتِكْثَارِ قَلِیلِ الرِّزْقِ وَاسْتِقْلالِ كَثِیرِ الطَّاعَةِ، وَاسْتَجْلِبْ زِیَادَةَ النِّعَمِ بِعَظِیمِ الشُّكْرِ، وَتَوَسَّلْ إِلَى عَظِیمِ الشُّكْرِ بِخَوْفِ زَوَالِ النِّعَمِ»1
استعرضنا فی المحاضرة الماضیة فقرة من حدیث جابر یوصیه فیها الإمام الباقر (علیه السلام) بالقول: «یا جابر! استكثر لنفسك من الله قلیل الرزق تخلّصاً إلى الشكر، واستقلل من نفسك كثیر الطاعة لله إزراءً على النفس وتعرُّضاً للعفو»؛ أی فلیكن رزق الله القلیل إلیك فی نظرك كثیراً وعبادتك الكثیرة لله قلیلة كی تستطیع شكر الله تعالى. وقد ذكرتُ حینها أنّ عبارة مشابهة لهذه العبارة جاءت فی أواخر الروایة وهی التی تلوتها علیكم فی مستهلّ الكلام. وقد ذكرنا أنّ الإمام (سلام الله علیه) فی الواقع یرید أن یبیّن هنا طریقة لاستنهاض الدافع إلى الشكر فی أنفسنا. فخلاصة القول: إنّ الهدف من إسباغ النعم كافّة هو الشكر. لكنّه قد جرت العادة عندنا أنّ جلّ ما نصنعه إذا أردنا شكر الله تعالى هو أن نقول: الشكر لله! لكنّنا إذا أمعنّا النظر فی هذا الشكر وجدناه عاریاً عن اللیاقة. إذن فمن أجل أن یكون شكرنا لائقاً فلابدّ من مراعاة أمرین؛ الأوّل هو أن نعرف آلاء الله حقّ معرفتها ولا نستقلّها. ولابدّ هنا من التفكّر ملیّاً بأنّه كم من النعم التی هیّئها ورتّبها الباری تعالى كی یصل هذا الرزق إلى أیدینا؟ والثانی هو أن نستقلّ عباداتنا ولا نقیم لها وزناً.
وقد ذكرنا أیضاً أنّ الله عزّ وجلّ، ولكی یحثّنا على الشكر وجنی جزیل ثماره وعظیم نتائجه، فقد اعتمد أسالیب اُخرى من جملتها الوعد بزیادة الرزق عند الشكر والإنذار – فی المقابل – بزوال النعمة فی حال عدمه. فهو یشیر فی ختام العبارة المذكورة أیضاً إلى نقطتین مهمّتین: «واستجلب زیادة النعم بعظیم الشكر»؛ أی: إذا شئت نیل المزید من النعم فأكثر من الشكر، ولیكن شكراً عظیماً أیضاً. ومن أجل أن تُوفَّق إلى تأدیة عظیم الشكر علیك أن تفكّر فی أنّك إن لم تشكر فستزول منك النعم. وهذان العاملان یُعَدّان من أكبر العناصر المحفّزة للإنسان؛ فكلّ امرئ یسعى لنیل المزید من النعم، وهذا یدلّنا على أنّ الازدیاد فی النعم هو من الاُمور التی تحظى بقیمة عظمى لدى الإنسان. وعلى العكس، فإنّ شحّة النعم یعتبر بلاء عظیماً له. إذن فالالتفات إلى هاتین النقطتین یحثّنا على شكر الله تعالى بما یستحقّه من الشكر. وبالطبع فإنّ الله لیس بحاجة لشكرنا، وإنّ سرّ إصراره على هذه المسألة هو رغبته جلّ وعلا فی أن ینالنا نحن النفعُ من ذلك.
على أیّة حال فإنّ موضوع هاتین العبارتین مترابط وقد ارتأیتُ أن أضمّهما فی بحث واحد حتّى وإن كان بینهما فاصل.
یتابع الإمام الباقر (علیه السلام) حدیثه فیقول: «وَادْفَعْ عَنْ نَفْسِكَ حَاضِرَ الشَّرِّ بِحَاضِرِ الْعِلْمِ، وَاسْتَعْمِلْ حَاضِرَ الْعِلْمِ بِخَالِصِ الْعَمَلِ، وَتَحَرَّزْ فِی خَالِصِ الْعَمَلِ مِنْ عَظِیمِ الْغَفْلَةِ بِشِدَّةِ التَّیَقُّظِ، وَاسْتَجْلِبْ شِدَّةَ التَّیَقُّظِ بِصِدْقِ الْخَوْفِ». الإمام (علیه السلام) یركّز فی هذه الوصایا الأخیرة على نقطة جوهریّة وهی: أنّك إذا استثمرت ما هو بحوزتك فی الوقت الحاضر فستحصل على النتیجة المطلوبة؛ فإن خفت من أن یصیبك شرّ فاستخدم ما فی جعبتك من علم؛ أی حاول أن تحسن العمل بما تعلم. فعمل الإنسان عن ریاء وعُجب وتظاهر وما إلى ذلك لیس هو عملاً بما یعلم، بل هو عمل مخالف للعلم؛ ذلك أنّ العلم یقول له: لابدّ أن یكون عملك خالصاً. ومن أجل أن تكون قادراً على الإخلاص فی عملك فاسْعَ أن تكون یقظاً تمام الیقظة فی جوف اللیل، وأن تتجنّب الغفلة لأنّ الغفلة تقود إلى الریاء فی العمل. وبغیة الحفاظ على حالة الیقظة فإنّ علیك أن تجتهد فی أن یكون خوفك خوفاً صادقاً! ولوجود الترابط بین هذه الجمل فساُحاول التعرّض إلیها ضمن تحلیل واحد.
نحن غالباً ما نسعى إلى اكتشاف السبیل التی تؤمّن لنا سعادتنا وكمالنا، ونظنّ أنّ اكتشاف سبیل كهذه هو بمثابة وصفة سحریّة وسرّ خفیّ علینا التجوال فی أقطار العالم وأكنافه كی نعثر على خبیر یعرف كیف یحرّر لنا هذه الوصفة الفریدة. لكنّ تفكیرنا بهذه الطریقة یدفعنا إلى التقاعس عن التوجّه نحو قمّة الكمال والقناعة بما أصبناه وما هو متوفّر بأیدینا. فهمّة المرء تقضی فی بدایة الطریق أن ینال المقامات العالیة، لكنّه عندما یشاهد أنّ الأمر لیس بالسهولة التی یتصوّر فإنّه یتراجع شیئاً فشیئاً حتّى یصرف نظره عن الأمر كلّیاً.
ومن أجل إلغاء هذا النمط من التفكیر سعت الروایات إلى التأكید على عدم تكثیف المساعی فی كثرة طلب العلم؛ بل أن یركّز الإنسان سعیه فی العمل بالمقدار الذی لدیه من علم. یقول النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) فی هذا المجال: «مَن عمل بما یعلم وَرّثه الله علمَ ما لم یعلم»2. إذن فالمهمّ هو أن یستفید المرء ممّا بحوزته من العلم قبل أن یذهب إلى طلب غیره. بالطبع انّ المراد من العلم هنا هو العلوم التی ترتبط ارتباطاً مباشراً بالأعمال العبادیّة وطاعة الله عزّ وجلّ.
فنحن نحبّ أن نعلم كلّ شیء؛ نودّ أن نعلم كیف وصل الأئمّة (صلوات الله علیهم أجمعین) وأولیاء الله المقرّبون إلى ما وصلوا الیه من مقامات عالیة؟ وما هی سلسلة المقامات والسبیل الموصلة إلیه؟ فهذا هو حبّ الاستطلاع الذی غرسه الله تعالى فی قلوب البشر وهو عامل مهمّ فی دفع الإنسان إلى طلب العلم. لكنّ الأفضل من ذلك هو أن یعمل المرء بما تعلّمه. فشكر العلم یكون فی العمل به. ألسنا نرغب فی أن نقوم بما یجعلنا نشكر الله شكراً عظیماً كی یزیدنا من نعمه؟ فهذه الالتفاتة تمثّل بحدّ ذاتها علماً من العلوم وإنّ شكرها یكون فی العمل بموجبها. ولهذا یقول الإمام الباقر (علیه السلام): «حاول جهدك أن تعمل بما اُوتیت من علم، على أن یكون عملك خالصاً».
لكن كیف السبیل إلى إخلاص العمل؟ فلو وقف العبد وحیداً فی مسجد أو صحراء یعبد ربّه من دون أن یراه أحد لما وجد فی نفسه ما یحرّضه على الریاء، فالدافع للریاء لا یتولّد لدى المرء إلاّ إذا علم بأنّ شخصاً یراقب عمله؛ لأنّ «الریاء» یعنی إظهار العمل للآخرین. فإذا تولّد فی نفس المرء حافز على الریاء فستراه یحدّث نفسه: «إذا قمت بعملی بالكیفیّة التی ترضی فلاناً من الناس فإنّنی سأحظى بمكانة مرموقة عنده وأقطف ثمار هذه المكانة. إذن من الأفضل أن اُصلّی صلاة لائقة أمامه»! غافلاً عن أنّ هذه النیّة تبطل صلاته؛ فلقد أغفَلَ ربّه إرضاءً للناس، وهذا من موجبات سخط الباری عزّ وجلّ.
إنّ ما یوجب خروج العمل عن حالة الإخلاص هو الغفلة عن مقام المعبود ولوازم ذلك المقام. فأوّل أثر للنیّة المشوبة هو ذهاب العبادة، بل وقد یُسجَّل له ذنب فی صحیفة أعماله أیضاً. إذن فمن أجل أن یصبح عملنا خالصاً یتعیّن علینا المحافظة على هذه الیقظة حتّى لا تعرض الغفلة علینا.
ومن أجل حفظ هذه الیقظة فإنّ علینا الالتفات دوماً إلى هذه النقطة وهی: مَن هو الذی نتعامل معه؟ یجب أن نتنبّه باستمرار إلى أنّ تعاملنا هو مع الله سبحانه، وأنّ خلقه لا یقدرون على فعل أیّ شیء لنا: «وَإِن یَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن یُرِدْكَ بِخَیْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ»3. إذن فما الذی یدفعنی إلى التفكیر بالناس والتظاهر أمامهم بالعبادة والزهد والتقوى؟! ینبغی لهذه القضیّة أن تكون حاضرة فی أذهاننا دائماً. بالطبع إنّه عمل شاقّ ویحتاج إلى تمرین متواصل، ونادراً ما یُكلّل بالنجاح، فمشاغل الدنیا تجرّ الإنسان إلى الغفلة بین الفینة والاخرى. لكنّنا إذا تمكنّا من تقویة الخوف من الله فی نفوسنا وجعله خوفاً صادقاً فإنّنا سننجوا من الریاء والغفلة.
وهنا تكمن المشكلة! فخوفنا من الله لا یتّصف بالعمق، فهو لا یتعدّى كونه ادّعاءً سطحیّاً. فعندما یكون خوف المرء من أمرٍ مّا جدّیاً تراه یتوخّى الحذر الشدید لئلاّ یُبتلى به. فلو قیل: هناك فی الطریق سلك كهربائیّ مجرّد من غلافه ملقىً على الأرض وهو موصول بالكهرباء ومن وَطَأه سیُصعَق، فسوف یتّخذ الجمیع جانب الحیطة والحذر حتّى وإن كان احتمال كونه مكهرباً واحداً بالمائة فقط، حذراً من الإصابة بالصعقة الكهربائیّة. فإذا كان المرء یخاف من جهنّم ومن سقوطه من عین الله تعالى بقدر خوفه من سلك الكهرباء فسوف یكون یقظاً باستمرار كی لا یأتی بما یثیر غضب الباری جلّ وعلا وسخطه علیه.
یقول الإمام (سلام الله علیه): «إذا أردت المحافظة على هذه الیقظة فی سبیل عدم الابتلاء بالریاء والتحایل وطلب السمعة وكلّ ما یبطل العبادة فلابدّ أن یكون خوفك خوفاً صادقاً». وهنا یتبادر السؤال التالی إلى الذهن: كیف نجعل خوفنا صادقاً؟ وللإجابة على هذا السؤال یتعیّن الالتفات إلى قضیّة أنّه من أجل القیام بأیّ فعل فإننا نحن مَن ینبغی أن یقرّر القیام به، ومن ثمّ نُقدِم علیه بإرادتنا بعد التفكیر والتأمّل. فإنّ عرْضَ خطّة للطریق لا یعنی أنّ العمل سیُنجَز وینتهی كلّ شیء، بل إنّ تقدیم الخطّة هو من أجل الإرشاد إلى الطریق الصحیح وتبیین مراحله كی یتمكّن المرء من التقدّم إلى المرحلة التالیة بسهولة أكبر، أمّا الذی یتّخذ القرار ویُقدِم على العمل للحصول على نتائجه فهو الإنسان نفسه: «وَأَن لَّیْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَىٰ»4.
فمن أجل صیانة هذه الیقظة علینا تقویة الخوف فی أنفسنا، وإطالة التفكیر فی كلام الله تعالى وفی أنّه: هل هذه الصورة التی ترسمها الآیات القرآنیّة عن عاقبة أهل المعصیة جدّیة؟ فابن آدم دائماً یرجّح دفع الضرر على استجلاب النفع. فلو دار الأمر بین أن یدفع عن نفسه مرضاً عضالاً وبین أن یحظى بجسم رشیق وجمیل فهو سیرجّح دفع الضرر. فدفع الضرر هو من أهمّ العوامل المؤثّرة فی أفعالنا الاختیاریّة. وحتّى القرآن الكریم فإنّه یختار لأنبیاء الله تعالى صفة المنذرین؛ حینما یقول: «أَلَمْ یَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ یَتْلُونَ عَلَیْكُمْ ءَایَاتِ رَبِّكُمْ وَیُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ یَوْمِكُمْ هَـٰذَا»5، أو: «لِیُنْذِرَ یَوْمَ التَّلاقِ»6. فصحیح أنّ الأنبیاء (علیهم السلام) كانوا مبشّرین ومنذرین فی آن معاً، لكنّ صفة «المنذر» قد اُطلقت علیهم بشكل مطلق، خلافاً لصفة «البشیر» فهی لم تكن صفة مطلقة لهم؛ ذلك أنّ تأثیر الإنذار فی عمل المرء یفوق تأثیر أیّ شیء آخر. طبعاً قد یُقدِم الإنسان على تعریض نفسه لضرر بسیط من أجل خیر ونفع أعظم، لكنّه إذا تساوى عنده الضرر والنفع فإنّه یفضّل دفع الضرر على جلب النفع. ولا یتحقّق دفع الضرر إلاّ إذا خاف المرء من شیء مّا وعندها فقط سیسعى إلى دفع ضرره عنه، فإن لم یشعر بالخوف منه فإنّه لا یحاول دفع ضرره؛ فلو لم یخش الإنسان المرضَ فإنّه لن یراعی لوازم الصحّة والسلامة وسوف یُبتلى بالمرض لامحالة.
إذن فالخطوة الاُولى هی أن نسعى لتحصیل الخوف الصادق. أمّا السبیل إلى هذا الخوف فهو التفكّر فی كلمات القرآن الكریم وتعابیر الروایات الشریفة التی تذكّر بما للذنوب والسلوكیّات المنحرفة من تبعات سوء، ومحاولة تجسید هذه التبعات أمام أنظارنا ولو قلیلاً. فهذا النمط من الخوف یبعث على تیقّظ الإنسان وعدم غفلته، وإنّ عدم الغفلة یدفعه إلى الإخلاص فی عمله، والإنسان المخلص یستفید من علمه على نحو أفضل ویؤدّی شكر هذا العلم، وحینئذ سیزید الله فی علمه، وهكذا تتواصل هذه السلسلة؛ بمعنى أنّه: كلّما عمل بما لدیه من المعلومات ازداد علمه. وإنّ العلم الأكثر یقتضی عملاً أكثر وأفضل، وهكذا تستمرّ هذه العجلة فی الدوران حتّى یصل المرء إلى مقامات القرب من الله عزّ وجلّ.
ومن هذا المنطلق یقول أبو جعفر (علیه السلام): «وَادْفَعْ عَنْ نَفْسِكَ حَاضِرَ الشَّرِّ بِحَاضِرِ الْعِلْمِ، وَاسْتَعْمِلْ حَاضِرَ الْعِلْمِ بِخَالِصِ الْعَمَلِ، وَتَحَرَّزْ فِی خَالِصِ الْعَمَلِ مِنْ عَظِیمِ الْغَفْلَةِ بِشِدَّةِ التَّیَقُّظِ، وَاسْتَجْلِبْ شِدَّةَ التَّیَقُّظِ بِصِدْقِ الْخَوْفِ». ولعلّ التأكید هنا على كلمة «حاضر» هو من أجل أن لا یظنّ الإنسان أنّ علیه الجدّ والمثابرة لسنوات طوال من أجل طلب العلم وعندذاك فقط یمكنه العمل بهذا العلم، بل إنّه إذا استفاد من نفس هذا العلم الذی بحوزته فی الوقت الحاضر فإنّه سیدفع الشرّ عنه. ثمّ یقول (علیه السلام): إنّ الإفادة من العلم هی أن تعمل به بكلّ إخلاص، وإنّ ما یبعث على تبدّد الإخلاص هی الغفلة. فبغیة صیانة النفس من الغفلة ینبغی للمرء الاجتهاد فی أن یكون فی حالة یقظة تامّة، أمّا المفتاح لهذه الیقظة التامّة والمستمرّة فهو الخوف الصادق. فلابدّ أن تصدّق بما جاء فی الآیات والروایات من ذكر أشكال العذاب كی تستثیر هذه الیقظة فی نفسك. لكنّك إن لم تحمل هذا الأمر على محمل الجدّ فستصاب بالغفلة وستُبتلى فی إثرها بالریاء أیضاً.
ومن ثمّ یأتی الإمام (علیه السلام) بعبارة یكتنفها بعض الغموض، الذی قد یكون بسبب خطأ حصل فی النسخ، وهی: «وَاحْذَرْ خَفِیَّ التَّزَیُّنِ بِحَاضِرِ الْحَیَاةِ». المعنى الذی أفهمه أنا من العبارة هو أنّ الإمام الباقر (سلام الله علیه) یشیر هنا استكمالاً لموضوع الخوف الصادق إلى آفة هذا النمط من الخوف. فإنّ من الاُمور التی تجعل المرء لا یحمل ألوان الإنذار على محمل الجدّ هی معاشرة محبّی الدنیا. فإنّ معاشرة اُولئك الذین لا یفتأون یتّحدثون عن ملذّات الدنیا، وعن صعود أسعار المادّیات ونزولها، وعن الأفلام، وما شابه ذلك ولا ینقطعون عن التفكیر فی التزیّن بزینة الدنیا وزخارفها هی من العوامل التی تخلی قلب الإنسان من الخوف، فلا یصبح بعد ذلك من اُولئك الذین تضطرب وترتعش قلوبهم لذكر الله عزّ وجلّ، بل قد یبلغ مرحلة لا یحبّ معها سماع اسم الباری المتعال! فأنا اُفسّر جملة: «وَاحْذَرْ خَفِیَّ التَّزَیُّنِ» بهذه الصورة: احذر ممّن همّته التزیّن بالحیاة الدنیا. فمعاشرة أمثال هؤلاء تبعث على فقدان الخوف الصادق وإزالة التیقّظ من قلب الإنسان، والله العالم.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. تحف العقول، ص285.
2. بحار الأنوار، ج40، ص128.
3. سورة یونس، الآیة 107.
4. سورة النجم، الآیة 39.
5. سورة الزمر، الآیة 71.
6. سورة غافر، الآیة 15.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 10 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَتَوَقَّ مُجَازَفَةَ الْهَوَى بِدَلالَةِ الْعَقْلِ، وَقِفْ عِنْدَ غَلَبَةِ الْهَوَى بِاسْتِرْشَاءِ الْعِلْمِ، وَاسْتَبْقِ خَالِصَ الأَعْمَالِ لِیَوْمِ الْجَزَاء»1
كنّا نستعرض معاً حدیثاً عن الإمام الباقر (صلوات الله علیه) یخاطب فیه جابر بن یزید الجعفیّ وقد وصلنا إلى الفقرة التی یقول فیها (علیه السلام) ما مضمونه: المؤمن فی هذا العالم هو فی صراع مع نفسه؛ فتارة یغلبها ویصرعها، وتارة هی التی تنتصر علیه فتطرحه أرضاً. لكنّه عندما یقال: إنّنا فی صراع مع النفس یتبادر إلى الذهن السؤال التالی: ما الذی یتعیّن علینا فعله فی هذا الصراع كی نقلّل من احتمال سقوطنا أرضاً، أو أن لا نُصرع أرضاً على الإطلاق؟ ولعلّ هذا هو السبب الذی دفع الإمام (علیه السلام) إلى إلحاق كلامه بالقول: من أجل أن لا تباغتك نفسك فإنّ علیك الاستعانة بالعقل. فإنّ من أبرز الفنون التی یستخدمها المصارع فی نزاله هو محاولته إغفال خصمه عن الحركة الفنّیة التی یهمّ بالقیام بها فیصرعه أرضاً وهو فی غفلة عنه، لأنّ الخصم لا یستطیع فی هذه الحالة أن یتنبّأ بدقّة بما یروم القیام به من حركة. وكلّما كان المصارع أكثر حنكة ومهارة كانت حركاته القادمة أكثر خفاءً على خصمه. وإنّ نفسَ ابن آدم تستخدم عین هذا الاسلوب.
تختلف معانی مصطلحات «النفس»، و«العقل»، و«الهوى» بحسب موضع استخدامها. ففی العرف لها معانٍ معروفة مستقاة من القرآن والسنّة. كما أنّ لها فی العلوم العقلیّة مدلولات اُخرى لا تتطابق بشكل دقیق مع مصطلحاتها القرآنیّة. بل إنّ كلمة «العقل» فی العلوم العقلیّة هی بمثابة مشترك لفظیّ؛ ذلك أنّ لها فیها بضعة مدلولات لا تربط بعضها ببعض علاقة واضحة؛ فالعقل تارة هو الموجود المجرّد التامّ، واخرى هو الـمُدرِك للكلّیات، وثالثة هو القوّة التی تدرك القضایا البدیهیّة، ورابعة هو القوّة التی تستخرج من القضایا البدیهیّة قضایا نظریّة، وأخیراً هو القوّة الحاكمة فی الأحكام العملیّة والتی تمیّز بین الخیر والشرّ. وكذا الحال تقریباً بالنسبة لمصطلح «النفس»؛ فالنفس فی الاصطلاح الفلسفیّ مرادفة للروح إلى حدٍّ مّا. على أیّة حال لابدّ أن نتجنّب الخلط بین هذه المصطلحات، وأن لا نساوی – على سبیل المثال – بین المصطلحات العقلیّة وما هو مستخدَم فی المحاورات العرفیّة.
ومن المعروف أنّ العقل فی علم الأخلاق یقع فی مقابل النفس. أمّا فی الفلسفة فإنّه لا یقال على الإطلاق: إنّ العقل والنفس هما فی حالة حرب ونزاع فیما بینهما. إذن فصراع الإنسان مع النفس هو مصطلح أخلاقیّ. لكنّ هذه التعابیر تُستخدم أیضاً فی المحاورات العرفیّة.
أمّا موضوع بحثنا فعندما یقال: إنّ الإنسان فی صراع مع نفسه، فهل یعنی ذلك أنّ هناك موجودین؛ أحدهما النفس والآخر الإنسان؟ وهل إنّ نفسی - یا ترى - شخص أجنبیّ عنّی كی تصارعنی؟ من هو «أنا»؟ ولندع الخوض فی توضیح هذه المصطلحات جانباً، لأنّ بحثنا یتناول المصطلحات العرفیّة والأخلاقیّة.
على أیّة حال فنحن نقرّ بأنّ لدینا عدوّاً داخلیّاً. لأنّ من جملة التعبیرات المشهورة فی الأحادیث هو: «أعدَى عدوّك نفسُك التی بین جَنبَیك»2. إذ تظهر فی وجودنا میول ونزعات مختلفة یمكن تقسیمها بشكل عامّ إلى مجموعتین: 1. النزعات التی یكون المیل الأوّلیّ فیها إلى الصعود والرُقیّ. 2. النزعات التی یكون المیل الأوّلیّ فیها إلى النزول والتسافل. والمجموعة الثانیة هی نزعات حیوانیّة نشترك فیها مع جمیع الحیوانات. ویُطلق على مجموع هذه المیول، أو بتعبیر آخر: على ذلك الجزء من كیاننا الذی تُنسب إلیه تلك المیول، مصطلح «النفس». كما أنّ لنا فی المقابل میولاً اخرى سامیة؛ كحبّ الحقیقة، وحبّ الكمال، وأمثال ذلك، وإنّ الذین یتمتّعون بصفاء الباطن یدركون میلهم إلى التقرّب إلى الله تعالى. ویطلق على أمثال هذه الامور، التی تدعو الإنسان إلى الرُقیّ والتسامی والتقرّب من الله عزّ وجلّ، اسم «العقل» فی مقابل تلك العوامل الحیوانیّة. فهذان المصطلحان هما مصطلحان أخلاقیّان، وفی حقیقة الأمر إنّهما هما اللّذان یتصارعان ویتقاتلان مع بعضهما البعض. بالطبع إنّ ما جاء فی هذه الروایة یختلف بعض الشیء عن هذا المصطلح الأخلاقیّ. فهنا تصوّر الروایة الـ «أنا» فی حالة صراع مع نفسه. فهی لا تقول: العقل یصارع النفس، بل تقول: إنّك أنت فی صراع مع النفس ولابدّ من أن تستخدم العقل. إذن فالمطروح هنا هو ثلاثة امور: 1. «الأنا» التی تتّخذ القرارات، 2. أهواء النفس، 3. العقل.
ولعلّ بإمكاننا القول من أجل تطبیق ذلك مع الاصطلاحات العقلیّة: إنّ كلّ تلك الامور ترجع إلى قوى موجود واحد. فكلّ امرئ هو موجود واحد لیس أكثر وإنّ لهذا الموجود قوى ومراتب وجودیّة مختلفة وهو یكتسب أسماء متنوّعة بحسب القوى المختلفة. وقد ینشأ بین هذه الحاجات تعارض وتضادّ، وعندها سیقال: ثمّة قوّتان تتصارعان مع بعضهما. وفی مثل هذه الحالات یحصل الصراع بین النفس والعقل، وبین الإنسان والنفس. وعلینا الحذر فی هذا الصراع لئلاّ نؤخَذ على حین غرّة. فنشاط النفس یكمن فی حثّنا على إشباع غرائزها. فلیس هناك قاعدة خاصّة لما تریده النفس وتطلبه فی كلّ آن، بل یعتمد ذلك على ظروف معیّنة من قبیل أعمالنا وسلوكیّاتنا، وطبیعة البیئة المحیطة بنا، والحالة الفسلجیّة لنا. إذ لابدّ من تفاعل العدید من العوامل مع بعضها البعض من أجل أن ینشأ عند الإنسان میل معیّن نحو أمر ما. بل إنّ الإنسان نفسه لا یسعه التنبّؤ بشكل دقیق بما ستطلبه نفسه بعد حین. ومن هذا المنطلق فإنّ فعل النفس - كما تعبّر الروایة – یُبنى على المجازفة؛ أی الجزاف، خلافاً للأحكام العقلیّة التی تكون دائماً ضمن ضوابط معیّنة. فإنّ للعقل حكماً فی كلّ موضوع، بل إنّه یقضی حتّى فی التضادّ بین حكمین من أحكامه، وكلّ ذلك یكون قابلاً للتدوین.
علینا أن نعلم أنّ الشیء الوحید الذی باستطاعته أن یجعلنا نصمد أمام النفس ونأمن مباغتتها هو الإفادة من قوّة العقل. ومن أجل الإفادة من العقل لابدّ لنا أن نعلم أنّ العقل قابل للتقویة. إذن یتحتّم علینا الإحاطة بأحكام العقل واستخدامه فی مواجهة المیول النفسانیّة؛ تلك المیول التی استجاب لها طیلة فترة العمر، أو التی یستطیع حَدْسها انطلاقاً من تجاربه السابقة إذا لم یكن قد استجاب لها لحدّ الآن. وهذه توجیهات عامّة من شأنها أن تعیینا على عدم التفاجؤ فی المواجهة مع النفس. على سبیل المثال هناك قاعدة عقلیّة عامّة تقول: إذا كنت تسیر على حافّة الوادی فإنّ احتمال سقوطك فیه یكون كبیراً. فإن أردتّ تجنّب السقوط فلابدّ أن تبتعد عن حافّة الوادی قلیلاً! بمعنى: إذا كنت ترغب فی عدم التورّط فی ارتكاب المعصیة فعلیك الابتعاد بعض الشیء عن مواطنها، وذلك باجتناب بعض الامور غیر المحرّمة أیضاً؛ فمثلاً: علیك تجنّب النظرة الاُولى كی لا تقع فی النظرة المحرّمة.
لكنّ هذا الحكم العامّ للعقل لا یكون مجدیاً فی كلّ حال؛ فقد یطرأ أحیاناً أمر لا یستطیع المرء عندها أن یتّخذ قراراً حاسماً فیما إذا كان لابدّ من الإقدام علیه أم لا. فمضافاً إلى الإفادة من قوّة العقل فإنّه یتعیّن علینا فی مثل هذه الحالات تحصیل العلم بهذه الامور كی نعلم ما إذا كان الأمر واجباً أو محرّماً، ونقف على حدود وجوبه وحرمته. فالغیبة للآخرین على سبیل المثال تكون أمراً حراماً تارةً، ومباحاً حیناً، وواجباً طوراً. إذن علینا أن نحیط علماً بجمیع تلك الحدود. ومن هذا المنطلق یقول (سلام الله علیه) فی الجملة التالیة: «قِفْ عِنْدَ غَلَبَةِ الْهَوَى بِاسْتِرْشَاءِ الْعِلْمِ»؛ فإن غلبتك نفسك وفرضت علیك میلاً إلى أمر معیّن، فعلیك - من أجل أن لا تقع فی الخطیئة - أن تعلم على وجه الدقّة هل كانت إجابة النفس فیما تطلب جائزة أم محرّمة؟ إذ لیست تلبیة كلّ میل من میول النفس محرّمة. فلدینا الكثیر من المباحات المنسجمة مع أهواء النفس ورغباتها. فالتمتّع بالأماكن الطبیعیّة الخلاّبة والمشی على ساحل البحر وما إلى ذلك هی من المباحات الموافقة لهوى النفس. إذن بالإضافة إلى امتلاك قوّة العقل وتقویة هذا الجانب لابدّ من الإفادة من العلم والتفقّه بموارد الحلال والحرام ومواطن السقوط والصعود. وهذا التوجیه یتمّم التوجیهات التی سبقته. فعندما قال (علیه السلام): «علیك الإفادة ممّا لدیك من علم حاضر لدفع الشرور، ومن أجل الإفادة من العلم لابدّ من الإتیان بالعمل الخالص»؛ كان كلامه عن العلاقة بین العلم والعمل. لكنّه (علیه السلام) عندما یقول: «كی لا تخسر المعركة مع النفس فإنّ علیك استخدام العلم» فإنّه یتبادر إلى الذهن السؤال التالی: لقد قلنا سابقاً: إنّ الإفادة من العلم تكون بالعمل الخالص؛ ولكن ما فائدة العمل الخالص؟ وهنا یشیر الإمام (سلام الله علیه) إلى مبدأ جوهریّ للغایة. فالحقیقة هی أنّنا لا نهتمّ كما ینبغی بالدین ومعارفه، ولا نعدّ الدین ضروریّاً أو نعیر للعمل بأحكامه أهمّیة تُذكَر، فضلاً عن اهتمامنا بالعمل الخالص الخالی من أیّ شائبة!
یقول البعض: لیس من الضروریّ أن یكون المرء متدیّناً، بل حسبه أن یكون إنساناً صالحاً! وهم یقصدون من الصلاح هنا الصلاح الأخلاقیّ؛ أی أن یكون حسَن الخلق، صادق القول، ...الخ. وهنا یأتی سؤال مفاده: ما هی العلاقة بین الدین والأخلاق؟ فإنّ من المسائل البالغة الأهمّیة والمطروحة على مستویات عالیة فی الأوساط الفلسفیّة العالمیّة هی مسألة ماهیّة العلاقة بین الأخلاق والدین. فالبعض یقول: إنّ للأخلاق علاقةً مباشرة بالدین؛ فلا یمكن أن یكون المرء متخلّقاً من دون اعتقاد راسخ بالدین. والبعض الآخر یقول فی المقابل: إنّ الأخلاق العلمانیّة أمر ممكن؛ إذ من الممكن أن یكون المرء حسن الخلق بعیداً عن أیّ التزام دینیّ.
إنّ تصوّرنا عن الدین والصلاح هو تصوّر خاطئ فی العادة. فعندما یقال لنا: «كونوا اُناساً صالحین» فقلّما یتبادر إلى أذهاننا أنّ ذلك یعنی العمل على ترسیخ معتقداتنا الدینیّة والاهتمام بأعمالنا العبادیّة، ونظنّ أنّ المراد من هذه الجملة هو السعی باتّجاه تحسین أخلاقیّاتنا العامّة. فإن كنّا نرغب حقّاً فی إصدار حكم صائب بخصوص هذه المسائل فلابدّ أن یكون تفكیرنا فیها أكثر عمقاً وشمولیّة. علینا أن نطیل التأمّل فی أقسام الدین المختلفة وكیفیّة ارتباطها مع بعضها البعض؛ كالعلاقة بین المعتقدات والأخلاق، وبین الأخلاق والفقه، ...الخ.
ومن الممكن أن یتبادر إلى الذهن فی مقابل التوصیة بالعمل الصالح السؤال التالی: لماذا یعتبر هوى النفس سیّئاً أساساً؟ فما هو الإشكال فی أن یرغب الإنسان فی تناول طعام لذیذ ومحلّل شرعاً فی نفس الوقت؟ ومَن قال إنّ هوى النفس (وهو ما تطلبه النفس وتمیل إلیه) هو أمر سیّئ؟ ومَن الذی أوصانا حقیقةً بأن نأتی بكلّ عمل خالصاً لوجه الله؟ فما الذی سیحصل إن لم نخلص فی العمل؟ وما العیب فی أن یساعد المرء فقیراً مثلاً ثمّ یحبّ أن یذكره الناس بهذا العمل؟
إنّ هذه الامور تبدو بسیطة وسطحیّة للوهلة الاُولى لكنّها – فی واقع الأمر – تعكس مدى كون ثقافتنا معرّضة للخطر نتیجة الاختلاط مع الثقافات الإلحادیّة المعادیة. فنحن نلاحظ من ناحیة أن الانصیاع لهوى النفس ونزواتها وفقاً للمنطق القرآنیّ هو فی عداد الشرك، وأنّ الثقافة الإسلامیّة تَعدّ الهوى من الاُمور الخطیرة جدّاً التی یتحتّم اجتنابها، لكنّنا نشاهد – من الناحیة الاخرى – أنّ هناك ثقافة تدبّ شیئاً فشیئاً فی أجیالنا المعاصرة تحسّن صورة اتّباع الهوى وتزیل قبح هذا العمل وتحرّض المرء على الردّ على مَن یأمره بالمعروف وینهاه عن المنكر بعبارة: «إنّنی اُحبّ ذلك». هذه الكلمة جاءتنا من الثقافة الغربیّة وهی تُلقَّن للأطفال من خلال الأفلام والبرامج المختلفة. بل حتّى أنّ عبارة: «فی أمان الله» مثلاً أخذت تُحذَف بالتدریج من ثقافتنا.
هذه النزعات الإلحادیّة هی من منجزات عصر الحداثة وما تلا هذا العصر الذی ینادی بضرورة مطالبة الإنسان بحقّه والكفّ عن العمل على أداء الواجب، ویقول: «لقد سعى الإنسان فی طریق أداء التكلیف بما فیه الكفایة والآن علیه المطالبة بحقوقه». هذه الثقافة أمست تتغلغل بهدوء حتّى فی أوساط المسلمین والمتدیّنین فلم نعد نشاهد الیوم من یبنی أمره على العمل بما علیه من واجب إلاّ القلیل.
فإذا أردنا إیجاد حلّ لهذه المسائل فعلینا سبر غور عللها وجذورها وطرح أسئلة من قبیل: أیّ شیء هو أنا؟ ما هی حیاتی الحقیقیّة؟ ما هی اللذّة؟ وهل هی مقتصرة على الطعام والنوم وما إلى ذلك؟ هل هناك حیاة اخرى غیر الحیاة الدنیا؟ هل ثمّة لذائذ اخرى غیر تلك؟ فالذین لا تتخطّى حدود وجودهم الحدود الحیوانیّة لا یرون اللذّة إلاّ فی إشباع البطن والشهوات. لكنّه یوجد فی نفس هذه الحیاة الدنیا من ذاق لذائذ من نمط آخر وهو یصرّح بالشكل القاطع: «لو جُمعت جمیع لذائذ العالم فإنّها لا تقاس بهذه اللذّة». كما أنّهم یقولون من ناحیة اخرى: إنّ الحیاة الدنیا برمّتها لا تساوی قیاساً بالحیاة الأصلیّة أكثر من رمشة عین، وإنّ الحیاة الأصلیّة تبدأ بعد الموت. فالیوم هو یوم العمل، إذ لن یكون هناك مجال للعمل غداً. فإن نحن عملنا على ترسیخ هذه المعتقدات فی أنفسنا فإنّ الكثیر من الإشكالات والمسائل ستُحلّ بصورة سهلة.
«وَاسْتَبْقِ خَالِصَ الأَعْمَالِ لِیَوْمِ الْجَزَاء». ذكرنا أنّ شكر العلم یكون بالعمل به. لكن لابدّ من إنجاز هذا العمل بحیث یكون مفیداً یوم القیامة. ولعلّ فی كلمة «استبق» إشارةً إلى أنّ بعض أعمال الخیر تُنجَز بشكل صحیح فی حینها لكنّها تبطل فیما بعد. ومن هنا یقول عزّ من قائل فی كتابه العزیز: «لا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَىٰ»3؛ فقد یُنجز العمل الصالح فی وقت معیّن لكنّه یبطل بعمل آخر بعد حین. فهناك من العوامل ما یُبطل أعمال عمر بأكمله فی لحظة واحدة، كالارتداد مثلاً.
إذن فعندما نهمّ بالقیام بفعل خیر فإنّه لابدّ أوّلاً أن نعلم هل كان هذا العمل عملاً صالحاً، وأن نقوم به بالكیفیّة التی ترضی الله عزّ وجلّ. ثانیاً: أن تكون نیّاتنا سلیمة خالصة من الشوائب. ثالثاً: أن نحذر لئلا نأتی بفعل یُبطل ذلك العمل.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. تحف العقول، ص285.
2. عدّة الداعی، ص314؛ وبحار الأنوار، ج67، ص64.
3. سورة البقرة، الآیة 264.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 11 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَٱنْزِلْ سَاحَةَ القَنَاعَةِ بِاتِّقَاءِ الحِرْصِ، وَادْفَعْ عَظِیمَ الحِرْصِ بِإِیثَارِ القناعةِ، وَاسْتَجْلِبْ حَلاوَةَ الزَّهَادَةِ بِقصر الأَمَل»1
یتابع الإمام الباقر (سلام الله علیه) حدیثه الشریف الذی یوصی به جابر فیقول: علیك بالنزول إلى ساحة القناعة عن طریق تجنّب الحرص، وأن تدفع عنك عظیم الحرص من خلال انتهاج القناعة والزهد، وتظفر بحلاوة الزهد بتقصیر الأمل.
تطرح هذه الجمل الثلاث، المرتبطة مع بعضها البعض إلى حدّ ما، بضعة مفاهیم أخلاقیّة نعرفها جمیعاً ألا وهی: القناعة فی مقابل الحرص، والزهد فی مقابل التعلّق بالدنیا، وقصر الأمل فی مقابل طول الأمل. أمّا من حیث المفهوم والتطبیق فیكتنفها شیء من الإبهام.
فالقناعة تعنی اكتفاء المرء بما یملك وبما یتوفّر لدیه. لكنّ السؤال هو: هل یتعیّن على المرء أن یكتفی دائماً وفی جمیع الأحوال بما لدیه فیندرج ذلك ضمن إطار القناعة المطلوبة؟ ألا ینبغی للإنسان الكدّ والسعی من أجل توفیر لقمة عیشه واستمرار حیاته؟ هل إنّ الجدّ والمثابرة من أجل تطویر الجانب الاقتصادیّ وغیره من الجوانب هو أمر غیر محبَّذ یا ترى؟ أینبغی للمرء أن یقنع دائماً بالخبز والجبن ویشكر الله تعالى على هذه النعمة؟
أمّا الحرص - فی المقابل - فهو من المفاهیم المضادّة للقیمة بل إنّه عُدّ فی بعض الروایات ركناً من أركان الكفر. فإن كان الحرص مذموماً إلى هذا الحدّ فهل یعنی ذلك أنّه ینبغی على المرء أن یتّصف دائماً بهبوط الهمّة وأن لا یسعى فی طلب المهمّات من الامور؟ فالأشخاص المتقاعسون یفسّرون أمثال هذه المفاهیم بهذه الكیفیّة عادة. ولأنّهم متكاسلون ولا یطیقون العمل كثیراً فإنّهم یقولون: «نحن قانعون، وغیر حریصین»! وهم فی الحقیقة یحاولون تبریر تقاعسهم عبر هذه المفاهیم.
السؤال الآخر هو: كیف یمكن الجمع بین مفهوم قِصَر الأمل ومفهوم علوّ الهمّة المحبوب عند الله سبحانه وتعالى؟ وما هو مصداق كلّ منهما؟ هذه الأسئلة تفصح عمّا یكتنف هذه الجمل الثلاث من إبهام، وسنقدّم بتوفیق من الله تعالى توضیحاً موجزاً لها.
لابدّ أساساً من التفریق بین أمرین؛ الأوّل هو تعلّق القلب بلذائذ الحیاة الدنیا وزخارفها وجعلها هدفاً، وهو عین «حبّ الدنیا» المذموم الذی یعدّه الحدیث الشریف رأس كلّ خطیئة: «حبّ الدنیا رأس كلّ خطیئة»2، والثانی هو السعی والعمل من أجل تعمیر الأرض.
فالشخص الذی یجعل من لذّات الدنیا غرضاً یقصده فهو لن یعیر للشؤون المعنویّة والاخرویّة أهمّیة تُذكر. بل وحتّى المعتقدون بالآخرة وبالقضایا المعنویّة فإنّهم - من الناحیة العملیّة - یقدّمون الامور الدنیویّة فی كثیر من المواطن. وقد عَدّت الآیات والروایات هذا النمط من حبّ الدنیا علامة على الكفر؛ إذ یقول عزّ من قائل: «وَوَیْلٌ لِّلْكَافِرِینَ مِنْ عَذَابٍ شَدِیدٍ * الَّذِینَ یَسْتَحِبُّونَ الْحَیَوٰةَ الدُّنْیَا عَلَى الآخِرَةِ»3. فالذین یرجّحون الحیاة الدنیا على الآخرة إنّما یعانون – فی واقع الأمر - من مشكلة فی إیمانهم. وبشكل عامّ فإنّ البحث الذی تناول الاهتمام بلذّات الدنیا یختلف عن ذلك الذی یتناول السعی فی امور الدنیا، بما فی ذلك العمل، وكسب الرزق، وتعمیر الأرض، والنهوض بالمستوى العلمیّ، وما إلى ذلك. فنحن نعلم أنّ الذی یتصدّر قائمة زُهّاد العالم الإسلامیّ بعد رسول الله (صلّى الله علیه وآله) هو أمیر المؤمنین علیّ (صلوات الله علیه). فلو طالعنا قصّة زهد علیّ بن أبی طالب (علیه السلام) ألف مرّة لوجدنا فیها فی كلّ مرّة ما هو جدید. فعن عبد الله بن عبّاس قال: دخلتُ على أمیر المؤمنین (علیه السلام) بذی قار وقد كان یقود جیشاً فی حرب وهو یخصف نعله، فقال لی: «ما قیمة هذه النعل»؟ فقلتُ: لا قیمة لها. فقال (علیه السلام): «والله لهی أحبّ إلیّ من إمرتكم إلاّ أن اُقیم حقّاً أو أدفع باطلاً»4. لكنّ نفس هذا الرجل الذی كان یُعدّ رمزاً للزهد فی العالم قد حفر بیدیه عدّة قنوات ماء. فقد كان یحمل المعول ویحفر الأرض حتّى إذا بلغ الماء أوقف البئر للفقراء. ولا زالت هناك فی أطراف المدینة آبار تسمّى «آبار علیّ (علیه السلام)» وهی معروفة بین الناس. وكان یحمل نوى التمر على ظهره ویزرعها نواة نواة. حتّى إذا نبتت سقاها بنفسه حتّى تكبر وتصبح نخلات باسقات، فإن آتت ثمارها وقفها لفقراء الرعیّة. فلیس هناك أدنى تنافٍ بین أعمال علیّ (علیه السلام) هذه وزهده فی امور الدنیا وعزوفه عنها، لأنّه كان یقوم بذلك بدافع أنّ الله عزّ وجلّ یحبّ هذا العمل. فمن جملة ما كلّف سبحانه وتعالى به الإنسانَ هو تعمیر الأرض وزراعتها. فالله لا یحبّ أن تبقى الأرض بائرة وأن تجفّ أشجارها ویموت زرعها. فهو جلّ وعلا یقول فی محكم كتابه العزیز: «هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِیهَا»5؛ أی هو الذی خلقكم أیّها الناس من الأرض وأوكل إلیكم عمارتها.
فقد كان علیّ (علیه السلام) یكدّ ویكدح فإذا أنتج عملُه وأثمر زرعُه وهبه إلى الفقراء من الرعیّة. لكنّنا فی العادة نسمّی أنفسنا زاهدین وقانعین عندما لا یسعنا فعل شیء أو حینما لا یكون لدینا المزاج والطاقة للقیام بعملٍ ما. إذن لابدّ أن نحذر من خداع أنفسنا، فإنّ من سجایا ابن آدم ومیزاته هی قدرته حتّى على خداع نفسه. فقد یكون ملتفتاً إلى الحقیقة فی بادئ الأمر لكنّه یتغافل عنها ثمّ - شیئاً فشیئاً - یصدّق الأمر.
إذن فبذل الجهود والقیام بالنشاطات والعمل هی من الواجبات التی طالب الله تعالى الإنسان َبها ویتعیّن على الأخیر إنجازها. أمّا الزهد والقناعة فهما من متعلّقات قلب الإنسان، فلا ینبغی أن یتعلّق قلبه بالدنیا. فعندما یحتّم التكلیف علیه بذل ماله ینبغی له أن یبذله ویتخلّى عنه بكلّ یسر وسهولة، لا أن یكون مثل ذلك الرجل الذی أوصى ذویه بأن یكبّلوا یدیه ورجلیه عندما یهمّون بدفع خمس أمواله! فالمهمّ هو أن لا یكبّلنا التعلّق بالدنیا وبلذّاتها.
إنّ من أفضل السبل لانتشال القلب من التعلّق بالدنیا هو إنفاق الإنسان ممّا یحبّ فی سبیل الله. فالقرآن الكریم یقول فی هذا الصدد: «لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ»6؛ فإن رغبتم بالظفر بالبرّ والخیر فإنّ الطریقة الوحیدة لذلك هی أن تنفقوا من الامور التی تحبّونها فی سبیل الله وإلاّ فلن تنالوا هذا البرّ. فالزهد هو غیر العمل والإنتاج وتعمیر الأرض وتلبیة حوائج الناس والنهوض بمستوى اقتصاد البلاد من أجل الوقوف بوجه الكفّار والمحافظة على عزّة الإسلام ومَنَعَته؛ ذلك أنّ الامور المذكورة هی واجبات جعلها الله عزّ وجلّ فی رقابنا.
إنّ طول الأمل هو من الامور المذمومة بشدّة فی الأخلاق الإسلامیّة. فقد روی عن أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب (علیه السلام): «إنّ أخوف ما أخاف علیكم اثنان: اتّباع الهوى وطول الأمل»7. فهو (علیه السلام ) یخاف على المسلمین من أمرین: أوّلهما الانصیاع وراء أهواء النفس ونزواتها. لكنّه من الضروریّ التنویه هنا بأنّه لیس كلّ ما یطلب القلب فهو سیّئ ومحرّم؛ فقد یمیل قلب المرء إلى شیء هو ممّا یوجبه الشرع أیضاً. أمّا مفهوم الهوى المستعمَل فی الأخلاق فهو ذلك الذی یخالف الشرع والعقل؛ وهو أن یمیل القلب إلى ما تهواه النفس ولیس إلى ما یرضا به الله ویحبّه، وهو أمر غایة فی الخطورة. وثانیهما: طول الأمل. فهو (صلّى الله علیه وآله) طبیب خبیر بأمراض الاُمّة وعللها وعارف بما یمكن أن یفسد علیها دنیاها وعقباها.
لكنّ المهمّ هنا هو أن نعرف: ما هو المقصود بطول الأمل؟ فهل طالب العلوم الدینیّة الذی یطمح فی أن یصبح فی المستقبل شخصیّة علمیّة مرموقة هو من المبتلین بطول الأمل؟ أم إنّ الشخص الذی دخل مجال التصنیع ویحدوه أمل فی أن یصبح یوماً مخترعاً بارزاً وصانعاً لا یدانیه أحد فی صناعته هو الآخر یشكو من صفة الأمل المذموم؟ فلولا تلك الآمال والطموحات لخبت شعلة الحیاة وسكن نشاطها ولم یرتق المجتمع سلّم السموّ والتكامل. ولو قنع التلمیذ باجتیاز المرحلة الابتدائیّة ولم یطمح فی أن یصبح استاذ جامعة، أو عالماً، أو فیلسوفاً، أو مرجعاً فی التقلید فإنّه لن یهتمّ بالدرس والمذاكرة. فالأمل فی اللغة هو الرجاء والترقّب وهو لیس بالأمر السیّئ. فالأمل والرجاء مفهومان متقاربان جدّاً فی المعنى، ولولا وجودهما فی حیاة البشر لما اُنجزت أیّ فعّالیّة أو نشاط. أمّا مصطلح «الأمل» وفقاً للمفهوم الأخلاقیّ فهو عبارة عن الأمانی العریضة التی تعیق المرء عن العمل بتكالیفه الشرعیّة والقیام بالأعمال القیّمة، ولیس تلك الطموحات التی تحضّ المرء على بلوغ الكمال ودرجة القرب من الله عزّ وجلّ؛ كأن یتمنّى المرء أن یصبح أثرى أثریاء العالم أو أن یصبح بطلاً ریاضیّاً مشهوراً یشار إلیه بالبنان. فأمثال تلك الأمانی والآمال تقف حجر عثرة أمام قیام المرء بواجباته الدینیّة وهی لذلك تصنَّف ضمن لائحة الآمال المذمومة. أمّا من وجهة نظر الأخلاق والثقافة الإسلامیّة فإنّ الآمال والطموحات التی تبلغ بالمرء درجات الكمال والقرب من الله عزّ وجلّ فهی تندرج فی إطار «علوّ الهمّة». فلیس من الأمانی السیّئة أن یطمح الإنسان فی أن یترقّى فی مضمار التقوى والعلم والصناعة والإدارة لیتمكّن من خلال ذلك من إسداء خدمة إلى شعبه واُمّته، أو أن یحدوه الأمل فی أن یملك من الثروة ما یمكّنه من الإنفاق على جمیع فقراء مدینته؛ هذا بشرط أن یتوفّر طریق معقول للوصول إلى تلك الآمال والطموحات. فإن كنّا نعلم أنّ مقدار 99 بالمائة من هذه الآمال هو غیر قابل للتحقّق فلن تكون طموحاتنا إلاّ ضرباً من نسج الخیال، أمّا إذا كان ثمّة سبیل معقول لتحقّقها على أرض الواقع وهدفٌ یرتضیه العقل والشرع من ورائها وأنّ احتمال تحقّقها یصل إلى نسبة خمسین بالمائة على الأقلّ فإنّها حینئذ من الآمال المعقولة التی لا غبار علیها.
واستناداً إلى التوضیح المقدّم لهذه المفاهیم نعود الآن إلى كلام الإمام (علیه السلام) لنجد أنّه یسوق تعبیراً حول القناعة هو غایة فی البداعة والجمال. فالبحث أساساً كان یدور حول كون المؤمن فی هذه الدنیا فی حال صراع مع نفسه وهو (علیه السلام) فی صدد أن یبیّن له سبل تجنّب السقوط أرضاً والسعی للغلبة على خصمه، وإنّ أحد هذه السبل هو القناعة. لكنّ الإمام (علیه السلام) یستخدم للقناعة هنا تعبیراً ملؤه الوقار والاحترام فیقول: «انزل ساحة القناعة»؛ فهو یرسم ساحة مباركة ثمّ یقول: حاول أن تلج هذه الساحة! وكأنّه یرید القول: إنّ مسألة القناعة مسألة بالغة الأهمّیة وعلیك أن تنظر إلى القناعة نظرة احترام وتبجیل وأن تبذل غایة الجهد للظفر بها. ثمّ یقول: من أجل أن یتسنّى لك دخول هذه الساحة وأن تصبح إنساناً قانعاً یتحتّم علیك اتّقاء الحرص لأنّه عدوّ القناعة، بل وقد عُدّ فی الخبر من دعائم الكفر؛ بمعنى أنّ الحرص سینتهی بالإنسان الحریص إلى الكفر شاء أم أبى.
لكن ماذا نصنع لنتجنّب الحرص؟ إنّ من الغرائز التی نتّصف بها نحن البشر جمیعاً على وجه التقریب هی أنّنا نحبّ أن نزداد من امور الدنیا مهما كان لدینا منها. وصحیح أنّ سرّ هذا الأمر هو أنّ فطرة الإنسان طالبة للكمال الذی لا نهایة له لكنّ الإنسان یخطئ فی التطبیق فیظنّ أنّ كماله فی شؤون الحیاة المادّیة، فی حین أنّ المطلوب الحقیقیّ هو شیء آخر.
إذن ما الذی نصنع كی لا نسقط فی فخّ الحرص العظیم؟ ویجیبنا الإمام (سلام الله علیه) على هذا السؤال بالقول: «ادْفَعْ عَظِیمَ الحِرْصِ بِإِیثَارِ القَنَاعَةِ»؛ والزهد ببساطة یعنی عدم التعلّق بالدنیا، لكنّه مُرّ المذاق وشاقّ على الإنسان. فمن الصعب على المرء أن یرى أنّ توفیر الغذاء اللذیذ واللباس النفیس وما شابه ذلك هی اُمور میسّرة له وفی متناول یدیه ثمّ یعزف عنها ویقنع بالأشیاء البسیطة. فهو یحبّ دائماً أن یطوّر وضعه المعیشیّ ویرفع من مستواه.
ومن أجل محاربة الحرص یتعیّن على المرء أن یفكّر بهذا الشكل ویسأل نفسه: إلى أیّ مدى أنا متیقّن من بقائی على قید الحیاة؟ إنّنی أستطیع، فی كلّ لحظة من لحظات عمری، أن أجنی ما لا نفاد له ولا حدّ یحدّه من الربح والفائدة؛ فإن قلتُ: «سبحان الله» مرّة واحدة غُرست لی فی الجنّة شجرة تبقى إلى أبد الآبدین. إذن فإنفاق لحظة واحدة فی قول: «سبحان الله» له مثل هذا النفع الأبدیّ. فإن كانت الحال هذه فهل من اللائق أن یمضی الإنسان هذا العمر القیّم فی اقتناء اللباس الأجمل، وشراء البیت الأوسع، وجمع الدخل الأكثر، وما إلى ذلك؟! فقد یندم المرء ویعتصره الغمّ الشدید حتّى فی هذه الدنیا على الأوقات التی أنفقها فی جمع بعض الأموال عندما یشاهد أنّه قد آن أوان رحیله عن هذه الدنیا وستقع أمواله بأیدی ورثته ولن یصیب منها شیء على الإطلاق، بل وقد تصبح سبباً للنزاع والشقاق بین الورثة أیضاً. فما الذی یرمی إلیه الإنسان من جمعه لكلّ هذه الثروة؟ وما الذی سیحصل إذا جمعها؟ إنّ غفلة الإنسان الحریص ورزوحه تحت وطأة أوهامه وتخیّلاته فی أثناء جمع ثروته یبلغان من الشدّة بحیث انّه یستمرّ فی اللهث وراء جمع الثروة على الرغم من كونه غارقاً فیها.
إنّ أنجع السبل لمحاربة الآمال العریضة والطویلة هی أن یفكّر المرء ویتأمّل بعواقب تلك الآمال ولیسأل نفسه: ما الذی سیجلب تحقیق تلك الأمانی البعیدة والطموحات الكبیرة لإنسان لیس له فی هذه الحیاة الدنیا من المهلة إلاّ القلیل ولیس هو فیها أكثر من مسافر؟ فبدلاً من هذه الآمال المذمومة فلیفكّر الإنسان بما یعود على آخرته بالفائدة؛ كأن یبذل جهوداً أكبر على صعید الامور العبادیّة، والسعی فی طلب العلم وتربیة الروح، وإعانة الفقراء، وتقدیم الخدمات ذات النفع العامّ. ففی هذه الحالة یكون قد سعى وراء آمال لا تتعارض مع تكامل إنسانیّته. أمّا إذا انشغل الإنسان باستمرار بالتخطیط لتنمیة ثروته عوضاً عن التفكیر بخدمة الناس والارتقاء بمستوى العلوم سواء الدنیویّة منها أو الاخرویّة (ولو أنّ فائدة الأخیرة تفوق فائدة العلوم الدنیویّة بكثیر) فسیضرّ ذلك بمسیر تكامله، وقد یرتكب فی هذا الطریق أبشع ألوان الظلم وتمتدّ یده - لنیل هذا المأرب - الى ما لیس له من الحقوق.
أعاذنا الله وإیّاكم ووفّقنا الله لما یحبّ ویرضى والسلام علیكم ورحمة الله
1. تحف العقول، ص285.
2. بحار الأنوار، ج51، ص258.
3. سورة إبراهیم، الآیتان 2 و3.
4. نهج البلاغة، مقدّمة الخطبة 33.
5. سورة هود، الآیة 61.
6. سورة آل عمران، الآیة 92.
7. بحار الأنوار، ج74، ص420.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 12 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَاطْلُبْ بَقَاءَ الْعِزِّ بِإِمَاتَةِ الطَّمَعِ، وَادْفَعْ ذُلَّ الطَّمَعِ بِعِزِّ الْیَأْسِ، وَاسْتَجْلِبْ عِزَّ الْیَأْسِ بِبُعْدِ الْهِمَّة»1
كنّا نتأمّل معاً فی حدیث الإمام الباقر (علیه السلام) لجابر بن یزید الجعفیّ وقد تركّز بحثنا السابق حول محاربة الحرص. ونظراً لما یوجد بین الحرص والطمع من علاقة وثیقة فقد أعقبَ (علیه السلام) عبارته بجملة حول الطمع. وحیث إنّ الحدیث یحتوی فی أواخره على بضع فقرات حول الطمع أیضاً فقد رأیت من المناسب استناداً إلى الارتباط المذكور أن نتطرّق إلیها فی بحث الیوم.
الارتباط بین الحرص والطمع واضح؛ فالمناط فی الحرص هو حبّ الزیادة فی الاُمور المادّیة. لكنّ كلمة «الحرص» لها مفهوم عامّ یُستعمل للاُمور الحسنة أیضاً؛ فقد وُصف النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) فی القرآن الكریم بأنّه كان حریصاً على هدایة الناس: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْكُم بِالْمُؤْمِنِینَ رَءُوفٌ رَّحِیمٌ»2. إذن فالمفهوم اللغویّ للحرص لا ینطوی على معنى سلبیّ. فالإنسان المحبّ للتطوّر والتكامل فی أیّ بعد من الأبعاد والذی لا یرى للسیر فی هذا الطریق حدّاً یقف عنده یسمّى حریصاً. لكنّ مصطلح الحرص الشائع فی ثقافتنا ومباحثنا الأخلاقیّة یختصّ بالحرص على زخارف الدنیا، وهو لذلك مذموم. وهذا یذكّرنا ببعض المفاهیم التی ذكرناها فی مباحثنا السابقة مثل «الهوى» الذی یعنی الحبّ؛ فعلى الرغم من أنّ الحبّ عموماً لیس هو بالأمر السیّئ، لكنّ المراد من الهوى هو ما تطلبه النفس خلافاً للعقل والشرع. وهذا – فی الحقیقة – هو استعمال للكلمة فی معنى أخصّ من معناها اللغویّ.
فالحرص فی الأخلاق یعنی حبّ الإنسان للزیادة فی الاُمور المادّیة والدنیویّة؛ فالحریص على الثروة هو الذی لا یكتفی بأیّ مقدار منها، والحریص على الزواج هو الذی لا یقنع بأیّ زوج، والحریص على المنصب والمقام هو الذی لا یكتفی بأیّ منصب ویحاول دائماً الحصول على منصب أعلى منه. وبقرینة أنّ الحرص یصنَّف ضمن الأخلاق الذمیمة فلابدّ من توفّر واحدة من اللوازم التالیة كی یكون مذموماً: فإمّا أن یكون نفس الأمر المطلوب حراماً، أو أن یكون السبیل للوصول إلیه محرّماً، أو أن یحول السعی وراءه بین الإنسان وبین الواجبات والأعمال التی هی أفضل منه. فأنْ یتقیّد شخصٌ - مثلاً - بكسب المال الحلال، بل وأن ینشغل ذهنه منذ الصباح وحتّى المساء فی كیفیّة زیادة دخله، ولا یخلد إلى الرقاد لیلاً إلاّ وهذه الأفكار تعصف بمخیّلته، ویشاهد فی المنام رؤىً لها علاقة بهذا الأمر، فهذه الحالة - بحدّ ذاتها - لیست محرّمة أو مذمومة، لكن من حیث إنّها تزاحم أداء تكالیفه الواجبة وتحول دون سیره فی طریق تكامله، وتعیقه عن طلب العلم والعبادة وخدمة عباد الله وما إلى ذلك فإنّها تكون مذمومة بالعَرَض.
إنّ إحدى نتائج الحرص وأحد السبل التی تؤمَّن المآرب المشوبة بالحرص من خلالها هی أن یقع المرء فی فخّ التفكیر فی التصرّف بأموال الآخرین. فإذا كان شغل الإنسان الشاغل طیلة نهاره ولیله هو كنز المال الذی یجنیه بعرق جبینه وكدّ یمینه فهی صفة ذمیمة؛ لأنّ ذلك سیعیق القیام بالأعمال الاخرى التی هی أفضل منه ویزید تعلّقه بالدنیا. أمّا الطمع فإنّه یتحقّق عندما یبدأ الإنسان بالتفكیر بالتصرّف فی أموال غیره والانتفاع من المال الجاهز. والشیطان یوسوس لابن آدم لیمدّ یده إلى أموال الآخرین عبر طرق شتّى كالتملّق لأرباب الثروة وأصحاب المناصب والجاه أملاً فی الظفر بشیء من دون مقابل. والأسوأ من ذلك هو الاستحواذ على ما فی حوزة الآخرین بالخداع والحیلة. وما الشركات الهرمیّة (أو الشبكیّة) إلاّ نموذجاً لهذا النمط من الأخلاقیّات. كما أنّ من الطرق الاخرى للاستیلاء على أموال الآخرین هی الاختلاس والسرقة.
هذه الفكرة أساساً إنّما تنشأ عندما یحاول المرء الظفر باللذائذ المادّیة من دون جهد وعناء. وهذا هو قوام مفهوم الطمع. فالطمع هو رغبة المرء فی زیادة ممتلكاته المادّیة (وهو ضمن هذا الحدّ لا یخرج عن نطاق الحرص) بید أنّ هذه الزیادة تتمّ عبر الاستحواذ على ممتلكات الآخرین. ومن هنا فإنّ قبح الطمع مضاعف. إذن فالطمع هو شكل من أشكال الحرص؛ لكنّه حرص یحاول المتّصف به جنی الربح والفائدة من أموال الآخرین، وهذا هو منشأ الطمع.
مضافاً إلى أنّ الطمع ینطوی على رذیلتین (هما رذیلة الحرص ورذیلة التصرّف بمال الآخرین ظلماً) فإنّ له عیباً باطنیّاً وهو أنّ الشخص الطمّاع یدرك اتّصافه بهذه الرذیلة فی بادئ الأمر لكنّه یعتادُ علیها شیئاً فشیئاً فیفقد، نتیجة لهذه العادة، واحدة من مطالبات الفطرة البشریّة. ولتوضیح هذا المعنى لابدّ من مقدّمة:
فإنّ للإنسان منذ ولادته حاجات متعدّدة وهی تقع ضمن أقسام مختلفة فیما بینها. فقسم منها حاجات جسمانیّة؛ كالحاجة إلى الطعام، والمسكن، والزوج، وما إلى ذلك. والقسم الثانی هی الحاجات النفسیّة وهی ألطف من سابقتها؛ كالحاجة إلى أن یكون محترماً فی المجتمع وغیر محتقَر عند الناس. وهذه الحاجة تظهر لدى الأطفال مبكّراً؛ فالأطفال یحبّون أن یكونوا أعزّاء لدى والدیهم؛ ومن هنا فإنّ إعراض الأبوین عنهم هو أشدّ إیلاماً لهم من العقاب الجسدیّ.
ومن الحاجات الاُخرى هی حبّ الاستقلال الذی یبكّر فی الظهور عند الأطفال أیضاً. فعندما یبدأ الطفل بالخطو مثلاً فهو یحبّ أن یخطو لوحده وأن یفلت یده من قبضة أبیه أو اُمّه عند السیر فی الطریق. فالطفل یشعر بالحاجة إلى الاستقلال والوقوف على قدمیه بنفسه. وهذه صفة حسنة للغایة. إذن فمن المسلّمات أنّ للمرء حاجات ومطالبات اخرى غیر تلك الفسلجیّة والبدنیّة. فمن جملة الحاجات الروحیّة للإنسان هی حبّه الوقوف على قدمیه والاستقلال عن الآخرین. أمّا صفة «الطمع» الذمیمة فإنّها تكون فی مقابل هذه الحالة تماماً؛ فالإنسان المبتلى بالطمع یسعى لتأمین ما لیس بحوزته من أموال الآخرین حتّى وإن اضطرّه ذلك إلى السرقة أو التحایل. وهذا یدلّ على أنّ مثل هذا الإنسان یرجّح لذّته الجسدیّة على لذّة الاستقلال والعزّة والكرامة الذاتیّة وهو مستعدّ لتحمّل ذلّ الحاجة إلى الآخرین والتبعیّة لهم فی سبیل الازدیاد فی المال والثروة، وهو - فی هذه الحالة – إنّما یهبط بفهمه وإدراكه إلى مستوى هو أدنى من مستوى الطفل الذی لیس له من العمر أكثر من سنتین أو ثلاث سنوات، لأنّ الأخیر یدرك حاجته إلى الاستقلال، ویحظى فی المقابل بما یتعلّق بطبیعته الحیوانیّة، وهذا هو ضرب من ضروب الذلّة.
فالطمع لا یكون بمعزل عن الذلّ أبداً. ومن هنا یقول الإمام الباقر (علیه السلام): «واطلب بقاء العزّ بإماتة الطمع» فأنت أساساً طالبٌ للعزّ والغنى. فإذا رغبت بالإبقاء على عزّك فعلیك أن تقتل الطمع، وإن لم تفعل ذلك أمسیت ذلیلاً لهذا المطلب الشیطانیّ. لكنّ السؤال هنا هو: كیف یمكن إزهاق روح الطمع؟ یقول الإمام (علیه السلام) جواباً على ذلك: «وادفع ذلّ الطمع بعزّ الیأس»؛ فعلیك أن تلقّن نفسك وتربّیها على الیأس ممّا فی أیدی الناس. فالذی یتعوّد على أخذ مساعدة الآخرین، بما فیهم الأبوان والأخ والاُخت والجار ...الخ فسوف یتعوّد بالتدریج على جنی النفع من الآخرین والتطفّل علیهم، وهو بذلك یسلب نفسه استقلاله وكرامته ویشعر بالحقارة ویفرّط بالثقة بنفسه، والشخص العدیم الثقة بنفسه سوف یبتلَى بأصناف العُقَد والأمراض النفسیّة وهو لا یرى لنفسه هویّة أو قیمة.
نُقل عن أحوال المرحوم العلاّمة الطباطبائیّ (رضوان الله تعالى علیه) أنّه قال: «منذ أن بدأتُ بطلب العلوم الدینیّة بشكل جدّی حاولت أن لا أطرح ما یعرض لی فی درسی من معضلات علمیّة على استاذی وأن أجتهد فی حلّها بنفسی عبر التأمّل والمطالعة». فالذی یُكثر من الاستفسار من الآخرین لحلّ ما یعترضه من المشاكل سیصاب بخمول الذهن. لكنّه إذا عزم على حلّ إشكالاته بنفسه مهما أمكن فسیصبح ذهنه وقّاداً وخلاّقاً ودقیقاً. فإنّ من جملة آفات الحیاة المعتمدة على المكائن والدراسة الآلیّة هی تقویض قدرة الذهن. فعلى المدرّسین والمعلّمین أن یحفّزوا فی طلاّبهم روح الاعتماد على النفس والثقة بها، أو أن یقوّوا – على الأقلّ - اعتمادهم على أنفسهم جنباً إلى جنب مع الإفادة من التقنیة الحدیثة والوسائل التعلیمیّة المساعدة.
على أیّة حال فإنّ من بین حاجاتنا الفطریّة هو إحساسنا بالعزّة وإنّ الطمع هو عدوّ هذا الإحساس. فالطمع یُشعر الإنسان دائماً بتبعیّته للآخرین وتطفّله علیهم ویمحق فی نفسه العزّ والكرامة. یقول الإمام (علیه السلام) هنا: «یتعیّن علیك – من أجل إبادة الطمع وإماتته - أن تلقّن نفسك الیأس من مساعدة الآخرین فی جمیع أعمالك وأفعالك». ولا ریب أنّ اكتساب هذه الصفة یحتاج إلى تمرین عملیّ أیضاً. فإن كنتُ بحاجة إلى المال فعلیّ أن أعمل واُؤمّن حوائجی واكسب رزقی بنفسی كی لا أمدّ ید الحاجة إلى أبی أو إلى غیره.
لقد كانت هذه السجایا والطباع فی غابر الأیّام شائعة جدّاً لدى شبّان ذلك العصر، أمّا الیوم فنحن نشاهد – للأسف الشدید – أمارات تدلّ على عكس ذلك. فالشباب فی الماضی كانوا یخجلون أشدّ الخجل من طلب شیء من آبائهم. ففی أوائل مراحل دراستی الحوزویّة كانت الكتب الدراسیّة صعبة المنال جدّاً وقد احتجتُ للقیام ببحث معیّن لجزء من أحد الكتب المعروفة (وهو شرح النظام) حتّى حصلتُ علیه بشقّ الأنفس، لكنّه كان غیر مجلّد ویحتاج إلى تجلید، فأعطانی اُستاذی حینها نفقة تجلیده. لكنّنی لن أنسى أبداً كم أنّنی شعرت بالخجل والحیاء من أن یقوم شخص آخر بدفع نفقة تجلید الكتاب. هذا النمط من الأخلاقیّات قلّماً یُلاحظ الیوم بین شبّاننا وهو أمر سیّئ للغایة. فالطمع هو ذلٌّ حاضر ومدفوع الثمن نقداً وإن كان فی مال الوالد.
إذن فمن أجل أن ننجو من ذلّ الطمع علینا أن نلقّن أنفسنا بأن لا نقبل المساعدة من أحد، أو أن نیأس من مساعدة الآخرین لنا وعلینا أن نسعى بأنفسنا لتولّی اُمورنا وإنجاز أعمالنا الشخصیّة. بهذه الصورة سننجو من ذلّ الطمع ونقف على أرجلنا ویصبح كلّ واحد منّا سیّداً على نفسه؛ حیث: «وادفع ذلّ الطمع بعزّ الیأس». فالله سبحانه وتعالى قد أودع فی كیان المرء الشعورَ بالاستقلال كی یَثبُت ویقف على قدمیه بنفسه.
إذن ماذا نصنع كی نقوّی حالة الیأس من الآخرین فی نفوسنا؛ أی أن نبنی أمرنا على أنّه ما من أحد یمدّ إلینا ید العون وعلینا أن نؤمّن ما نحتاجه بأنفسنا؟ یقول إمامنا الباقر (علیه السلام) فی هذا الصدد: «واستجلب عزّ الیأس بِبعد الهِمّة»؛ أی: إذا أردت أن تشعر بعدم الحاجة إلى الآخرین فعلیك أن تتّصف بعلوّ الهمّة! فإنّ لعلوّ الهمّة مكانة رفیعة فی الثقافة الإسلامیّة والله جلّ وعلا یحبّ أصحاب الهمم العالیة. فالإنسان ذو الهمّة العالیة یحسّ بالعار من مساعدة الآخرین له، أمّا الإنسان ذو الهمّة المنحطّة فلا یفكّر إلاّ بإشباع بطنه وتلبیة غرائزه الحیوانیّة وهو على استعداد لتحقیر نفسه فی سبیلها. لكنّ الشرف الإنسانیّ لا ینسجم مع هذه الروح المتمثّلة بدناءة الهمّة، فما بالك بالشرف الإسلامیّ.
ولابدّ من أجل إتمام البحث من ذكر هذه الملاحظة وهی أنّ ما طُرح لحدّ الآن إنّما یتّصل بالعلاقات التی تربط الناس ببعضهم والتی غالباً ما تظهر نتائجها فی الاُمور الدنیویّة والمادّیة. فالطمّاع إنّما یطمع بمال الآخرین، والحریص إنّما یحرص على جمع المال أو ما یشبهه، وإذا یئس فإنّما ییأس من معونة الناس. إذن فنحن - فی جوّ كهذا - إنّما نقیس العلاقات التی تربط بین مختلف البشر، وإنّ الحدیث عن كون «الثقة بالنفس» محبّذة عند علماء النفس، وهو ما یعبَّر عنه فی علم الأخلاق بـ «عزّة النفس» إنّما یتمّ ضمن هذا النطاق. أمّا الأخلاق الإسلامیّة فهی تتخطّى هذه الحدود؛ إذ لابدّ لها أن تسیر باتّجاه التوحید وأن لا تبقى محصورة ضمن هذه القیود. إذن ففی حیّز الأخلاق التوحیدیّة یتعیّن القول: على الرغم من أنّ الإنسان ینبغی أن لا یشعر بالحاجة إلى غیره من البشر، لكن یتحتّم علیه أن یعتقد بأنّ كلّ وجوده هو بحاجة إلى الله تعالى. ففی ذات الوقت الذی یحسّ المؤمن بعدم الاعتماد على الآخرین فإنّ كلّ توكّله یكون على الله عزّ وجلّ.
فالثقة بالنفس والاعتماد علیها هو عملة ذات وجهین؛ وجه سلبیّ ووجه إیجابیّ. فثقة المرء بنفسه تكون مطلوبة عندما لا یكون متّكلاً على الآخرین. والسؤال هنا هو: إذن فبأیّ شخص نثق وعلى مَن نتّكل؟ والجواب على هذا السؤال بما ینسجم مع الأخلاق العامّة هو: كن واثقاً بنفسك. أمّا وفقاً للأخلاق التوحیدیّة فیُقال: ینبغی أن لا یكون اعتمادك إلاّ على الله وأن لا تنظر إلى نفسك على الإطلاق؛ بل إنّ أولیاء الله یَصِلون إلى درجة لا یعتمدون فیها حتّى على الملائكة، كما حصل فی قصّة إبراهیم الخلیل (علیه السلام). فعندما أرادوا قذفه فی النار أتاه جبرئیل (علیه السلام) فقال له: «هل لك من حاجة»؟ فقال: «أمّا إلیك فلا»3؛ فإنّ لی حاجة لكنّ حاجتی إلى الله فحسب. ومن هنا فقد وصل إبراهیم (علیه السلام) بعد مقامی النبوّة والرسالة إلى مقام «الخُلّة» فأصبح خلیل الله سبحانه.
إذن علینا أن نحفظ مثل هذه الروحیّة فی أنفسنا وهی أنّ المرء لیس فقط لا ینبغی أن یتّكل على غیره من البشر، بل علیه أن لا یعتمد حتّى على جبرئیل والملائكة، ولیقل: إنّنی عبدٌ ولیَ ربّ، ولا یلبّی حاجتی إلاّ ربّی. فما الذی بمقدور الآخرین صنعه؟!
إذن لا ینبغی أن نخلط بین مبحث الثقة بالنفس والاعتماد علیها المطروح فی علم النفس وبین التوكّل على الله تعالى. فنطاق هذین الموضوعین مختلف؛ ذلك أنّ قضیّة الثقة بالنفس محصورة فی حدود القیم الإنسانیّة العامّة، لكن عندما یدور الكلام حول القیم التوحیدیّة فلابدّ أن یحُلّ التوكّل على الله والاعتماد علیه محلّ الثقة بالنفس.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. تحف العقول، ص286.
2. سورة التوبة، الآیة 128.
3. بحار الأنوار، ج11، ص62.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 13 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَسُدَّ سَبِیلَ العُجْبِ بِمَعرِفَةِ النَّفس»1
بعد أن شبّه الإمام (علیه السلام) حیاة الإنسان بحلبة مصارعة بدأ یسرد ألوان الفنون والحیل التی تستخدمها النفس لصَرْع الإنسان، ثمّ راح یبیّن سبل الوقایة من تلك المكائد وطرق علاج تلك الآفات التی قد طرحنا قسماً منها فی المحاضرات الماضیة بما آتانا الله تعالى من توفیق. وإنّ من الآفات الاُخرى التی توقع المرء فی أشراك الشیطان وتعرقل مسیرته على طریق السعادة بل وتجرّه أیضاً إلى الابتلاء بغیرها من الآفات فهو العُجْب والرضا عن النفس.
تمتدّ جذور هذه المسألة إلى حبّ الذات. وحبّ الذات هو من لوازم وجود الإنسان ومن المستحیل أن یوجَد موجود ذو شعور لا یحبّ ذاته. لكنّه عندما یوفّق اللهُ الإنسانَ للقیام بأمر على أحسن وجه وبنیّة صالحة ویبلغ به النتیجة المرجوّة یأتی الشیطان لیوسوس له بأنّك - حقیقةً - شخص ممیَّز جدّاً. فإذا أتى المرء بعبادة مثلاً أوحى الشیطان له بقیاس نفسه بأهل المعاصی قائلاً له: «انظر كیف أنّ الآخرین مبتلون بالمعاصی والشهوات وغلبة الهوى فی حین أنّك – والحمد لله – من أهل العبادة ومصون من الذنوب. فإنّك مفضَّل كلّ التفضیل على الآخرین»! ثمّ یحاول شیئاً شیئاً استدراجه إلى مقارنة نفسه بأهل العبادة ویكشف له عن اُولئك العُبّاد المتورّطین ببعض الزلاّت والسیّئات. وفیما یتعلّق بسائر امور الخیر والصلاح كطلب العلم، والتدریس، والخطابة، والإنفاق، ومثیلاتها فهو یبذل غایة وسعه ویوسوس له بأنّك تفوق الكثیر من أقرانك ومن یماثلونك فی أعمال الصلاح بالفضل والامتیاز.
یتعامل الناس مع هذه الوساوس بطریقتین: فقسم یسارعون إلى تذكیر أنفسهم - بعد تعرّضهم لهذه الوساوس - بأنّ كلّ تلك الحسنات هی من أنعم الله علینا وأنّ كلّ واحدة منها تُثقل كاهلنا بمزید من الدَّین تجاه الله تعالى. فإن صلّیتُ بحضور قلب تعیّن علی المزید من الشكر لله حیث وفّقنی لحضور القلب. فهو الذی منّ علیّ بسلامة البدن، والإیمان، والعقل، وإرشادات أهل المعرفة كی اُوفَّق إلى أداء الصلاة. أمّا وقد وفّقنی الآن لحضور القلب فی الصلاة فذلك من دواعی شكری المضاعف له. وقد جاء فی الخبر أنّ المعصومین (صلوات الله علیهم أجمعین) عندما كانوا یذكرون نعمة من نعم الله تعالى كانوا یحمدون الله بألسنتهم ویطأطئون رؤوسهم علامة على تعظیمه عزّ وجلّ. وهذا لون من ألوان التعاطی مع نعم الله جلّ وعلا وأعماله الحسنة وتفضّلاته، وهذا الصنف من الناس نادرون بطبیعة الحال. وفّقنا الله تعالى - إن شاء الله - لأن نتأسّى بأئمّتنا المعصومین (صلوات الله علیهم أجمعین) ونتعوّد بالتدریج تذكّر ألطاف الله عزّ وجلّ أثناء التعامل مع نعمائه ونرى أنّ الدَّین الذی فی رقابنا تجاهه أشدّ وأعمق؛ «قُل لا تَمُنُّواْ عَلَیَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ یَمُنُّ عَلَیْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِیمَانِ»2؛ فهذا هو متقضى الأدب الاسلامیّ والأخلاق التوحیدیّة.
أمّا القسم الآخر – الذی یشكّل القسم الأعظم من البشر – فإنّهم عندما یرون فی أنفسهم امتیازاً عن الآخرین فإنّهم یتفاخرون ویختالون قائلین: نعم، نحن هكذا! وهذه هی حالة العُجْب. فالشیطان یتسلّل إلى نفس الانسان من هذه الثغرة ویصرعه أرضاً بقوّة شدیدة حتّى أنّه یبقى مترنّحاً لمدّة من الزمن.
فالعُجب هو آفة ذمیمة للغایة وهو یقترن غالباً بالغرور. فالإنسان الـمُعجَب بنفسه لا یقیم وزناً للآخرین ویعتقد أنّ كلّ ما یفهمه ویدركه هو غایة ما توصّل إلیه العقل البشریّ من العلم الصحیح وما من أحد غیره یفهم ما یفهمه هو، وهو ینكر على الآخرین كلّ ما یطرحونه خلافاً لرأیه بل ولا یرى فیه ما یستحقّ الإصغاء إلیه أساساً، وهكذا یُبتلى بالغرور. وإنّ من أهمّ العوامل التی تسوق المرء إلى جهنّم هو الغرور الذی یكون منشؤه العُجب.
لكن ما هو السبیل إلى معالجة هذه الآفة الخطیرة؟ بالطبع إنّ كلّ شخص یدّعی بعض الامتیازات لنفسه. فالانسان الذی لا یدّعی أیّ امتیاز لنفسه فهو متورّط بشكل من أشكال الكفران وعدم إدراك آلاء الله عزّ وجلّ. فلقد خصّ الله تعالى كلّ شخص بامتیاز خاصّ. لكنّ الانسان إذا لم یعمد إلى ترویض صفة حبّ الذات فی نفسه فسوف تقوده إلى ما ذكرنا من الآثار.
إنّ أنجع طریقة لعلاج العُجب هی أن یلتفت الانسان أكثر إلى نقائصه. یقول أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی هذا الصدد: «ما لابن آدم والعُجب! وأوّله نطفة مذرة، وآخره جیفة قذرة، وهو بین ذلك یحمل العذَرة»3؛ فإنّ بدایته ماء فاسد، ونهایته جیفة متعفّنة قذرة وهو بینهما یحمل القاذورات والفضلات. فما الذی یمكن أن یتفاخر به موجود كهذا؟ إذن فهی أفضل طریقة یتخلّص بها المرء من العُجب وحبّ النفس والغرور والكبر. وقد أشار القرآن الكریم فی بضعة مواطن إشارة لطیفة إلى هذا الموضوع؛ فقال عزّ من قائل: «أَوَلَمْ یَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِیمٌ مُّبِینٌ»4؛ أی فإذا هو یخاصمنا ویتفوّه بالكلام علینا (ینكر المعتقدات الصحیحة ویجادل فی أحكامنا).
یقول الإمام محمّد الباقر (سلام الله علیه) فی هذا الحدیث: «سُدّ سبیل العُجب بمعرفة النفس»؛ فإذا أردت إغلاق باب العُجب بوجهك فما علیك إلاّ أن تعرف نفسك. ولقد طُرحت قضیّة «معرفة النفس» فی أدبنا الدینیّ بصور مختلفة، وقد أورد المرحوم العلاّمة الطباطبائیّ (رضوان الله تعالى علیه) فی الجزء السادس من تفسیره «المیزان» فی ذیل تفسیر الآیة الشریفة: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ ءَامَنُواْ عَلَیْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا یَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَیْتُمْ»5 مباحث عمیقة وقیّمة للغایة تحت عنوان «معرفة النفس». لكنّه یظهر أنّ المراد من معرفة النفس فی هذا الحدیث الشریف هو معنىً أكثر بساطة. وهو یشبه كلام أمیر المؤمنین (علیه السلام) حینما قال: «اعرف نفسك؛ وتأمّل فی ما كنت علیه فی أوّل أمرك، وما أنت علیه الآن، وما الذی ستكون علیه نهایتك»؟ فمن شأن هذا التأمّل أن یعینك على عدم الابتلاء بالعُجب والغرور. بالطبع قد یكون لهذا الكلام زوایا وأبعاد مختلفة وإنّ معرفة كلّ زاویة وبُعد من معرفة النفس تكون ذات أثر فی نفی العُجْب بمعنى من المعانی. لكنّنا هنا نحاول تحلیل الروایة فی مستواها العامّ. فالذی یفتخر بنفسه ویستولی علیه العُجْب لالتزامه بصلاة اللیل أو لدراسة علوم أهل البیت (علیهم السلام) لبضع سنین، ...الخ فإنّ علیه أن یفكّر بأنّه: إذا قاموا بمراجعة صحیفة أعماله فكم بالمائة من أعماله التی أتى بها كانت فی سبیل الله ولمرضاته؟ وأیّ العلوم التی اكتسبها كانت غایته من ورائها رضا الله فحسب؟ وأیّ المواعظ التی وعظ بها كان قد أراد بها وجه الله لیس غیر؟ ما الذی سیصنع إذا شُطب بالخطّ الأحمر على كلّ تلك الأعمال التی كان یتفاخر بها؟!
إذن فأفضل سبیل لصیانة الانسان من العُجب والغرور هو التفكیر بمبدئه ومآله ووجوده الدنیویّ. فإذا نظر الانسان إلى نفسه انطلاقاً من هذه الرؤیة فسیجد أنّ بدایة حیاته كانت نطفة سابحة فی ماء نتن وأنّه یتعیّن علیه القول فی كلّ ما اُضیف إلى هذا الماء: إنّه الله سبحانه وتعالى الذی تفضّل علیّ بذلك؛ فهو الذی منحنی السمع والبصر والقلب والأعصاب والدماغ والكبد والرئة والید والرجل ...الخ. وبهذه الكیفیّة سیتضاعف الدَین الذی فی رقابنا لله یوماً بعد آخر وسنكون باستمرار أشدّ امتناناً له وحیاءً منه فنحدّث أنفسنا: ماذا وأین كنّا وكم أسبغ علینا الله تعالى من الكرامات حتّى وُلِدنا؟ كیف هیّأ لنا أرضیّة النموّ والرشد ومنّ علینا بالعقل والإیمان وحبانا بالاحترام والعزّ بین أفراد المجتمع. إذ لا یمكن قیاس أیّ واحدة من هذه النعم بملایین بل بملیارات الجواهر والحُلِیّ. إذن فما الذی نملك أمام كلّ هذا الدَّین الذی فی رقابنا لنقدّمه لله عزّ وجلّ سوى أن نركع بین یدیه خاضعین ونقول: «ما عبدناك حقّ عبادتك، وما عرفناك حقّ معرفتك»6. وهذا الكلام - بالطبع - قاله أكمل عباد الله تعالى، وإنّه لحریّ بنا أن نخجل حتّى من النطق بهذه العبارة.
علاوة على ذلك فإنّ كلّ ما أضفاه الله على هذه النطفة فإنّه قد أودعه أمانة لدینا وهو قادر على سلبه منّا فی أیّ لحظة شاء. وحتّى لو كان المرء أعلم علماء دهره فمن الممكن أن تطوی صفحةُ النسیان علمَه فی لحظة واحدة فینتهی كلّ شیء. فقد یُنسی الله عبده أمراً لم یكن یخطر على باله یوماً أنّه سینساه وذلك إرشاداً وتنبیهاً له ولیعلم أنّ وجود جمیع معلوماته هو بیده سبحانه.
ینقل المرحوم آیة الله بهجت (رضوان الله تعالى علیه): «أنّ المرحوم الشیخ محمّد حسین الاصفهانیّ الغرویّ (الذی كان یُكنّ له آیة الله بهجت مودّة وإخلاصاً عظیمین لمكانته العلمیّة من ناحیة ولمقاماته المعنویّة من ناحیة اخرى وكان محبوباً جدّاً عنده) كان یقدّم درساً یشارك فیه علماء كبار من أمثال المرحوم المیلانیّ، والمرحوم الطباطبائیّ، والمرحوم الشیخ علی محمّد البروجردیّ. وقد حدث مرّة أنّه قد كرّر مباحث درسه لثلاثة أیّام متتالیة. ولـمّا كان الشیخ البروجردیّ أكثر قرباً منه فقد سأله عن حكمة عمله هذا فقال: مرّت ثلاثة أیّام وذهنی جامد بحیث لم تخطر ببالی أیّة فكرة جدیدة». ویفسّر آیة الله بهجت هذه الحادثة بقوله: «لقد أراد الله أن یفهمه: كم أنت بحاجة إلى الله، بل إنّ التفضّل بكلّ علم جدید هو بیده سبحانه». إذن فإدراك هذه الحقیقة، وهی: مدى حاجة العبد إلى الله، كانت أنفع له ولطلاّبه من أیّ درس آخر.
فقد یسلب اللهُ عبدَه نعمة أنعمها علیه لأنّه قد ارتكب بعض الأخطاء التافهة كی یفهمه بأنّ هذه النعمة لیست هی من عندك فلا تغترّ بنفسك. وهذا التصرّف هو شكل من أشكال التأدیب الذی یستعمله الله تعالى بحقّ خالص عباده. فقد یؤدّبهم أحیاناً بمؤاخذتهم على أتفه الأخطاء فیحرمهم من بعض ما حباهم به من النعم. فلقد غفل نبیّ الله یوسف (علیه السلام) لحظة عن ذكر الله عندما كان فی السجن (وفقاً للتفسیر المعروف) فطلب ممّن كان من المقرّر أن یُطلق سراحه أن یذكره عند الملك ویطلب منه تحریره من السجن: «وَقَالَ لِلَّذِی ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِی عِندَ رَبِّكَ»7، لكنّه وبعد أن اُطلق سراحه نسی یوسف (علیه السلام) تماماً. ووفقاً لبعض الروایات فإنّ علّة هذا النسیان وطول لبث یوسف (علیه السلام) فی السجن هو أنّ الله أراد أن یفهم یوسف أنّك قد أخطأت إذ رجوت غیر الله.
كما أنّ الله قد حبس نبیّه یونس (علیه السلام) مدّة فی بطن الحوت لتركه الأَولى. فلقد دعى قومه إلى الهدى مدّة طویلة من الزمن وتحمّل منهم ألوان الأذى والجفاء. لكنّه بمجرّد أن ظهرت أمارات العذاب تركهم وغادر البلدة ولم یصبر حتّى اللحظة الأخیرة ولم یبق إلى جوارهم. فنحن نقرأ الآیة: «وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً»8 كلّ لیلة فی صلاة الغفیلة، ولعلّ علّة استحباب قراءة هذه الآیة فی كلّ لیلة هی أن لا ننسى هذه القصّة ولكی نعلم أنّ الله لا یجامل أحداً، فحتّى نبیّه قد یعاقبه بسبب تقصیر بسیط وحتّى أنّه لیس بتكلیف شرعیّ.
یقول عزّ من قائل فی كتابه العزیز مخاطباً نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله): «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ»9؛ أی: فاصبر وانتظر أمر ربّك ولا تكن كصاحب الحوت یونس (علیه السلام). إذن هكذا یتعاطى الله مع أولیائه جرّاء ما یرتكبونه من زلاّت صغیرة مثل ترك الأَولى وذلك من أجل أن یزكّیهم حتّى من نقاط الضعف الصغیرة تلك، وهو یتعامل مع المؤمنین أیضاً بما یتناسب مع مراتب إیمانهم. فإنّ أحد تفاسیر: «البلاء للولاء»10 هو هذا المعنى؛ ذلك أنّ الله یرید أن یمعن أكثر فی تأدیب من یقابله بمحبّة أشدّ كی یطهّره من النقائص. ولا تُمحى هذه النقائص إلاّ بالبلایا والشدائد. فدرجات الولیّ إنّما تعلو وترتفع بصبره على الشدائد وتحمّله للمكاره.
إذن فمن أجل أن لا نقع فی فخّ العجب والغرور علینا أن نفكّر بما نشكو من نقائص وجودیّة من أوّل خلقنا إلى آخر أعمارنا. فكلّما وقفنا أكثر على ضآلتنا ووضاعتنا كان إدراكنا لعظمة الله وقدرته ووفور نعمته أفضل؛ وعندها سنفهم أنّنا لا نستطیع أداء حقّ شكر آلائه جلّ شأنه، ومن هنا سنرى أنفسنا أقلّ وأحقر. لكنّه - فی المقابل – ستسمو منزلتنا ونزداد عزّاً عند الله. وهذه معادلة صحیحة وهی أنّه كلّما رأى المرء نفسه أكثر ضآلة وحقارة كان عند الله أكثر عزّاً وكرامة.
وقانا الله تعالى من جمیع وساوس الشیطان، خصوصاً العُجب والغرور.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. تحف العقول، ص286.
2. سورة الحجرات، الآیة 17.
3. غرر الحكم، الحكمة 7087.
4. سورة یٰس، الآیة 77.
5. سورة المائدة، الآیة 105.
6. بحار الأنوار، ج68، ص23.
7. سورة یوسف، الآیة 42.
8. سورة الأنبیاء، الآیة 87.
9. سورة القلم، الآیة 48.
10. میزان الحكمة، ج1، ص52.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 14 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَتَخَلَّصْ إِلَى رَاحَةِ النَّفسِ بِصِحَّةِ التَّفوِیضِ»1
لابدّ لتوضیح هذه العبارة من حدیث الإمام الباقر (سلام الله علیه) من عرض مقدّمتین:
لقد وضع الله سبحانه وتعالى لهذا العالم نظاماً خاصّاً فجعل ظواهره تحدث بواسطة أسباب وعلل بحیث لا تخلو أیّ لحظة وأیّ نطاق محدود من تحقّق عدد هائل من الظواهر التی نعجز عن إحصائها. ولقد وضع الله عزّ وجلّ هذه الأسباب تحت تصرّف الإنسان كی یلبّی بها حاجاته ویتمكّن من مواصلة حیاته. ومن هذا المنطلق فإنّه یمكننا القول: إنّ للنظام الدنیویّ هدفین: أحدهما متوسّط والآخر نهائیّ. ولقد هیّأ الباری عزّ وجلّ من أجل ارتباط الإنسان بهذه الأسباب والمسبّبات نظامین؛ أو بعبارة اخرى: فقد نظّم الله تعالى هذا الارتباط من خلال نظامین؛ 1. النظام التكوینیّ، 2. النظام التشریعیّ. فالإنسان – مثلاً – یقوم بإشباع بطنه من خلال توفیر الطعام؛ وهو بهذه الصورة یعمل - عبر الإفادة من النعم الإلهیّة - على جعل حیاته تستمرّ. فالوجه الأوّل للقضیّة هو أنّ على المرء أن یتناول الطعام لیشبع؛ ونحن ضمن هذا النطاق نسعى بشكل طبیعیّ إلى إشباع غرائزنا ولا نفكّر ابتداءً – وفقاً لهذا النظام – بأداء التكلیف. فهذا هو أحد الأنظمة التی أعدّها الله تعالى لهذا الغرض، وإنّ أیّ امرئ یكدّ ویسعى فإنّ بوسعه الإفادة من هذه الأسباب. فلا یشترط الإیمان للإفادة من هذا النظام، كما أنّ الكفر لا یُعدّ مانعاً منه أیضاً: «كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاءِ وَهَـٰؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً»2، وقد یقال أحیاناً لهذا الإعطاء الإلهیّ: الرحمة الرحمانیّة لله تعالى؛ فإنّ جمیع الموجودات تستفید من هذه الرحمة. غیر أنّها لیست الهدف النهائیّ من الخلقة. فمن أجل استغلال هذا النظام لبلوغ أهداف أسمى (مثل تكامل الإنسان) فقد وضع الله عزّ وجلّ نظاماً آخر وهو التكالیف بالنسبة للموجودات المختارة وذوات الشعور، وذلك لكی تكون مؤهّلة عبر أداء تلك التكالیف للظفر برحمة خاصّة. وهذه التكالیف (النظام التشریعیّ) هی فی الحقیقة نظام قد رُكِّب على أساس نظام الأسباب والمسبّبات. فهو یُخبر المزارع، على سبیل المثال: إذا نثرت البذور فی الأرض واعتنیت بها جیّداً فستنبت وتنمو فتؤمّن لك فی نهایة المطاف غذاءك. لكنّه عزّ وجلّ وفی هذه الأثناء یضع فی عنقه واجباً فیقول له: هذه البذور یجب أن تكون ملكك، ولابدّ أن لا تكون الأرض مغصوبة، وهكذا. فلا ینبغی أن نخلط بین نظام التكوین ونظام التشریع.
ما نفهمه نحن ابتداءً من نظام الأسباب والمسبّبات هو استقلال هذه الأسباب فی التأثیر؛ بمعنى أنّنا نظنّ أنّ الماء الذی نشرب هو الذی یرفع العطش، سواء أكان هناك إلٰه أم لم یكن، والحال أنّ الحقیقة لیست كذلك. فإنّ جمیع الأدیان السماویّة وكافّة الأنبیاء والرسل قد جاءوا لإخبارنا بأنّ ما نراه من حیاتنا لا یمثّل إلاّ الطبقة السطحیّة من الحیاة وأنّ لهذه الحیاة باطناً وحقیقة أیضاً هی أسمى بكثیر من هذه الامور؛ «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا»3؛ فلا تخدعنّكم هذه الحیاة الدنیا! فالقرآن الكریم یحرص كلّ الحرص على أن ینبّهنا فی كلّ الأحداث والوقائع «بأنّ الله هو الذی یفعل ذلك». فهو یحاول أن یفهمنا من خلال هذه التعبیرات بأن لا نلتفت إلى الأسباب الظاهریّة فقط. فهذا هو أحد الأهداف العظیمة التی یسعى إلیها الأنبیاء؛ إذ یقول القرآن الكریم لنبیّنا (صلّى الله علیه وآله): «فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ یُرِدْ إِلاّ الْحَیَوٰةَ الدُّنْیَا * ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ»4؛ أی: هذا هو مستواهم العلمیّ (فهو ضحل جدّاً).
1. حبّ الإیمان
إنّ الله جلّ وعلا یسبغ على اولئك الذین لا یستعملون هذا النظام الطافح بالنعم الإلهیّة التی لا تحصى ولا تُعدّ إلاّ من خلال النظام التشریعیّ – یسبغ علیهم نعماً اخرى لیست هی من سنخ الآلاء المادّیة، بل من جنس نورانیّة القلب، والاُنس بالله، وفتح العیون المعنویّة، ومشاهدة الحقائق، وما إلى ذلك. أمّا نحن فعند مقارنتنا لهذه النعم نفهم على الأقلّ أنّ نور الإیمان لا یساوی ظلمة الكفر. فالإنسان الكافر یُبتلى بشكل من أشكال الظلمة والعتمة، أمّا المؤمن فهو یتمتّع بنورانیّة تتناسب مع مستوى إیمانه. فالقرآن الكریم یقول: «فَمَن یُرِدِ اللهُ أَن یَهْدِیَهُ یَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن یُرِدْ أَن یُضِلَّهُ یَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَیِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا یَصَّعَّدُ فِی السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ یَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ»5؛ وسبب الإضلال هنا هو أعمال المرء القبیحة طبعاً. فالكافر یشعر بالضغوط والضیق فی حیاته ویحاول دائماً الفرار من شدّة سأمه من الحیاة، وكأنّه یرید الصعود إلى ما هو أعلى من السماء.
على أیّة حال فإلى جانب النعم المادّیة التی یشترك فیها المؤمن والكافر فقد جعل الله عزّ وجلّ نعماً اُخرى غیرها یمنّ بها على الذین یستخدمون النعم المادّیة على النحو الصحیح. یقول الله فی محكم كتابه العزیز: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ یُؤْتِكُمْ كِفْلَیْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَیَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَیَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِیمٌ»6؛ و«كفلین» یعنی سهمین. فمن النعم العظیمة التی یمنّ بها الله تعالى على عباده المتّقین هی نعمة حبّ الإیمان وبغض الكفر.
2. رزق المرء من حیث لا یحتسب
إذا أحسن المرء الإفادة من أنعم الله جلّ شأنه فسیمنّ الله علیه بلطف آخر وهو أن یسهّل له الإفادة من النعم الدنیویّة. یقول القرآن الكریم: «وَمَن یَتَّقِ اللهَ یَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَیَرْزُقْهُ مِنْ حَیْثُ لا یَحْتَسِبُ»7؛ فالله عزّ وجلّ لا یذر المتّقین یواجهون طریقاً مسدوداً؛ بمعنى أنّ الذین یفیدون من نعم الله ضمن اُطر الأحكام الإلهیّة فمضافاً إلى أنّ الله یمتّعهم بنعم الدنیا وبالنعم المعنویّة فإنّهم لا یصلون فی الشؤون الدنیویّة إلى طریق مسدود. فالله یرزق أمثال هؤلاء لكن طبق نظام لا یخطر ببالهم. وكذا فی البعد الاجتماعیّ فهو یقول: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَیْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»8؛ فحتّى بالنسبة للمجتمع الذی أفراده من الأتقیاء والذین یراعون أحكام الإسلام ویقیمون لها وزناً فإنّ الله ینزل علیهم البركة؛ أی ینیلهم النعم الدنیویّة بشكل أكثر راحة وأشدّ وفرة بكثیر.
إنّ لله نمطاً آخر من أنماط التعامل أیضاً وهو تدبیر الاُمور. فالله عزّ وجلّ یدبّر شؤون عباده المتّقین بطریقة تجعلهم یجنون أفضل النتائج من أعمارهم. وفی المقابل فعلى الرغم ممّا یتجشّمه بعض الناس من سعی حثیث فإنّهم لا یظفرون بمنافع دنیویّة جیّدة ولا یترقّون على الصعید المعنویّ، وهم دائمو التذمّر - فی العادة - من أنّ جمیع اُمورهم متوقّفة ولا تسیر حسب الاصول. أمّا أعمار أهل التقوى فإنّ فیها من البركة ما یحیّر الألباب. یقول المرحوم آیة الله بهجت (رضوان الله تعالى علیه): «كان المرحوم الشیخ محمّد حسین الاصفهانیّ (رضوان الله تعالى علیه) إذا لم یشاهد أحدٌ غیر عبادته ظنّ أن لا شغل له سوى العبادة، وإذا لم ینظر أحد إلاّ إلى أعماله العلمیّة حَسِب أنّه لا وقت له لأیّ عبادة قطّ. فهو رحمه الله لم یترك قراءة زیارة عاشوراء وصلاة جعفر الطیّار حتّى آخر یوم من عمره المبارك». كما ویقول المرحوم الحاج الشیخ محمّد البروجردیّ: «كان المرحوم الحاج الشیخ محمّد حسین یقیم مجلس عزاء اُسبوعیّاً وكان ملتزماً بصبّ الشای وتقدیمه للضیوف وصفّ أحذیتهم بنفسه. وكنت اُلاحظ حین استقباله للضیوف وإنجازه لبقیّة الأعمال أنّه كان باستمرار یردّد مع نفسه ذكراً معیّناً. فنفد صبری ذات یوم فبادرته بالسؤال: أیّ ذكر هذا الذی تصرّ إصراراً شدیداً على تردیده؟ فقال لی بعد تأمّل بسیط: من المستحسن أن یقرأ المرء یومیّاً سورة «إنّا أنزلناه» ألف مرّة»! فهذا هو نموذج العمر المبارك.
كما أنّ لله شكلاً آخر من أشكال التعامل مع المؤمنین وهو أنّه یدبّر اُمورهم طبقاً لهذا التعامل بحیث یجعل الإنسان المتّقی ینفق وقته فی أفضل الأعمال. فالسعی وراء الرزق الحلال بالنسبة للإنسان المؤمن عبادة؛ لكن هناك فرق كبیر بین هذه العبادة والعبادة الخالصة التی لا یكون فیها إلاّ العلاقة مع الله. فعندما یرى الله تعالى أنّ عبده یعشق العبادة حقّاً ویرید أن یأنس به ولا یرغب فی الالتفات إلى غیره، فإنّه یدبّر اُموره على نحو بحیث لا ینفق كثیراً من الوقت فی شؤون الدنیا. فهو یعمل طبقاً لتكلیفه الشرعیّ ألا وهو السعی لكسب الرزق، ویفتح باب دكّانه، ویمارس البیع والشراء بمقدار كفایته من الرزق لكنّ هذه الأعمال كلّها لا تشكّل عائقاً لعبادته. فهذا التدبیر یعجز عقل الإنسان بمفرده عن القیام به. فقد جاء فی دعاء عرفة: «إلهی! أَغنِنی بتدبیرك لی عن تدبیری وباختیارك عن اختیاری»9.
قد یطلب الإنسان أحیاناً مثل هذا الطلب لكنّه بدافع الرغبة فی نیل الدنیا بسهولة وعن طریق التقاعس، ومن أجل ذلك فهو یسأل الله العون والمساعدة كی یصل أسرع إلى مبتغاه. فمثل هذا الشخص إنّما یسعى وراء راحته الدنیویّة. أمّا أولیاء الله فإنّهم یطلبون من الله مثل هذا الطلب لغرض التفرّغ للعبادة والقیام بالأعمال الأهمّ والأفضل. فأمثال هؤلاء لا یحبّون أن یُحجَبوا عن الأعمال المهمّة. إنّهم یرغبون فی أن یكونوا أشدّ انشغالاً بالأعمال التی یحبّها الله أكثر من غیرها. ومن هنا فإنّ الله یتعهّد بتدبیر اُمورهم من جهة ویرفع عنهم البلایا من جهة اُخرى ویقیهم تأثیر كید أعدائهم كی لا یكون عائقاً لأعمالهم من جهة ثالثة. هذا المنهج مخصّص لاولئك الذین یتّكلون على الله من أعماق قلوبهم ویفوّضون اُمورهم إلیه. ففی مثل هذه الحالة یتولّى الله اُمورهم بنفسه.
لقد ذكرت إحدى الروایات10 خواصّ بعض الآیات؛ فقالت على سبیل المثال إنّ «الذكر الیونسیّ» (لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّی كُنْتُ مِنَ الظَّالِمینَ11) ینتشل المرء من الهمّ والغمّ؛ ذلك أنّ نبیّ الله یونس (علیه السلام) بعد أن التقمه الحوت وبقی فی جوفه تضرّع إلى ربّه بهذا الذكر، فقال القرآن بعد ذلك: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّیْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنْجِی الْمُؤْمِنِینَ»12. ثمّ تعرّج نفس هذه الروایة على قول مؤمن آل فرعون حینما قال: «وَأُفَوِّضُ أَمْرِی إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِیرٌ بِالْعِبَادِ»13؛ فیقول القرآن الكریم بعد ذلك: «فَوَقَاهُ اللهُ سَیِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ»14؛ فعندما فوّض أمره إلى الله حفظه الله من مكر الأعداء ومخطّطاتهم الخطیرة التی رسموها له.
نأمل أن نوفّق نحن أیضاً للإفادة من كلام الله هذا والسیر على سیرة أولیائه وأن نجنی ثمار ذلك فی الدنیا والآخرة.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. تحف العقول، ص286.
2. سورة الإسراء، الآیة 20.
3. سورة لقمان، الآیة 33.
4. سورة النجم، الآیتان 29 و30.
5. سورة الأنعام، الآیة 125.
6. سورة الحدید، الآیة 28.
7. سورة الطلاق، الآیتان 2 و3.
8. سورة الأعراف، الآیة 96.
9. بحار الأنوار، ج95، ص226.
10. عن الصادق (علیه السلام) قال: «عجبتُ لمن فزع من أربع كیف لا یفزع إلى أربع؛ عجبت لمن خاف كیف لا یفزع إلى قوله... وعجبتُ لمن اغتمّ كیف لا یفزع إلى قوله: «لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّی كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِینَ» فإنّی سمعت الله عزّ وجلّ یقول بعقبها: «وَنَجَّیْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِی الْمُؤْمِنِینَ»، وعجبت لمن مُكر به كیف لا یفزع إلى قوله: «وَأُفَوِّضُ أَمْرِی إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِیرٌ بِالْعِبادِ» فإنّی سمعت الله عزّ وجلّ یقول بعقبها: «فَوَقاهُ اللهُ سَیِّئاتِ ما مَكَرُوا»، وعجبت...» (أمالی الصدوق، ص6).
11. سورة الأنبیاء، الآیة 87.
12. سورة الأنبیاء، الآیة 88.
13.سورة غافر، الآیة 44.
14. سورة غافر، الآیة 45.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 15 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَتَخَلَّصْ إِلَى رَاحَةِ النَّفسِ بِصِحَّةِ التَّفوِیضِ، وَاطْلُبْ رَاحَةَ الْبَدَنِ بِإِجْمَامِ الْقَلْبِ، وَتَخَلَّصْ إِلَى إِجْمَامِ الْقَلْبِ بِقِلَّةِ الْخَطَأ»1
یلزم هنا - من أجل إتمام بحث المحاضرة السابقة وتوضیح جملة اُخرى من حدیث الإمام (سلام الله علیه) لجابر الجعفیّ - تقدیم مقدّمة، وهی أنّ حیاة أكثر البشر فی هذه الدنیا محفوفة بالمصاعب والمكاره؛ فالقرآن الكریم یقول: «لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِی كَبَدٍ»2؛ أی جعلنا حیاته مقرونة بالمعاناة والمتاعب.
وفقاً للرؤیة المادّیة فإنّه لا یوجد تفسیر واضح لهذه الخصلة الدنیویّة. فالمادّیون یقولون: هذه المصاعب هی من لوازم هذه الدنیا ولا مفرّ منها ولابدّ من تحمّلها. أمّا على أساس الرؤیة التوحیدیّة فإنّ لهذه المكاره تفسیراً عقلانیّاً وهو أنّ هذه الحیاة ومن حیث إنّها مقدّمة للحیاة الاُخرویّة وإنّها الأرضیّة لظهور الطاقات الكامنة لدى البشر وامتحانهم فی كلّ مرحلة من مراحلها فإنّه لابدّ من أن تكون مصحوبة باللذّات والمكاره. ومن هنا یقول القرآن الكریم: «وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَیْرِ فِتْنَةً»3. فإنّ ماهیّة هذا العالم - حسب الرؤیة التوحیدیّة - هی أنّه دار تربیة وتنمیة وهو یشبه إلى حدّ بعید الحیاة الجنینیّة. فلابدّ للنطفة أثناء الحیاة الجنینیّة أن تبقى فی رحم الاُمّ تسعة أشهر كی تنمو وتُعَدّ للولادة. وفی الحیاة الدنیا تتحوّل هذه الفترة التی تستغرق تسعة أشهر إلى تسعین سنة – مثلاً - مع فارق أنّ النموّ فی المراحل الجنینیّة فی الرحم یكون طبیعیّاً وجبریّاً، أمّا فی عالم الدنیا فالإنسان هو اللاعب الذی ینزل إلى الملعب ویتعیّن علیه أن یهیّئ نفسه للحیاة الأبدیّة. ومن الطبیعیّ أن تكون أجواء الامتحان محفوفة بالخیرات والشرور كی ینكشف جوهر كلّ إنسان ویتبیّن مدى استعداده لتحمّل الشدائد فی سبیل مرضاة الله تعالى وغضّ الطرف عن اللذّات الأخسّ من أجل الوصول إلى كمالات أسمى.
إنّ التفات الإنسان العمیق إلى مخاطر الدنیا وشدائدها من شأنه أن یملأ حیاته بالتعاسة والمرارة؛ ذلك أنّه سیحتمل وقوع المصیبة أو الشدّة فی كلّ لحظة. فالذین تشغل هذه الامور أذهانهم كثیراً مّا یصابون بشكل من أشكال التبعثر النفسیّ. وعلى أیّة حال فإنّ حیاة كهذه تكون محفوفة بألوان الاضطراب والقلق إلى حدّ ذهاب الوجودیّین4 إلى القول: «إنّ الاضطراب یقوّم إنسانیّة الإنسان، وإنّ الذی لا یشعر بالاضطراب لیس بإنسان». ومن هذا المنطلق فإنّ علماء النفس یقترحون على المرء من أجل الفرار من المآسی والأمراض النفسیّة الركون إلى التغافل وعدم التفكیر بتلك الاُمور والانشغال باللذّات والكلام والضحك والتسلیة! هذه حصیلة الوصفة التی یصفها علماء النفس من أجل راحة الإنسان. أمّا أنبیاء الله (علیهم السلام) فهم یقدّمون وصفة اُخرى. إنّهم یقولون: «من أجل طرد ما لیس فی محلّه من القلق والاضطراب علیك أن تعرف ماهیّة هذا العالم. علیك أن تعلم أنّ هذا العالم لیس هو إلاّ معبراً مؤقّتاً وهو یشبه المختبر. فمصائب الدنیا وصعابها هی مقدّمة لراحة أبدیّة ولذائذ لا نهایة لها یمكنك الظفر بها. فإن استطعت السیطرة على هذه المصاعب وتوظیفها على النحو الصحیح فستستطیع نیل السعادة الأبدیّة. فنسبة عالم الدنیا إلى عالم الآخرة هو أقلّ من نسبة لمح البصر إلى تعمیر مائة عام. أفیقلق الشخص الذی یعمّر مائة عام كیف ستمرّ علیه لحظة أو مقدار رمشة العین؟! فإن عرف المرء ماهیّة هذا العالم وأمّل نیل السعادة الأبدیّة فی العالم الأبدیّ عبر أداء ما علیه من تكلیف وكیف أنّه سیذهب إلى حیث لا وجود لأیّ شكل من أشكال النَّصَب والمعاناة؛ حیث: «لا یَمَسُّنَا فِیهَا نَصَبٌ وَلا یَمَسُّنَا فِیهَا لُغُوبٌ»5 فسوف یعدّ نفسه لتحمّل الصعوبات العابرة. فلو علم العامل أنّه إذا اجتهد فی عمله من الصباح حتّى المساء فسیحصل على أضعاف الأجرة المتعارفة التی یحصل علیها العمّال، فإن أحبّ الظفر بهذه الاُجرة فستتحوّل صعوبة العمل ومعاناته عنده إلى حلاوة. فهذا أوّل الطریق الذی یرسمه الأنبیاء لدفع اضطراب الإنسان وقلقه. بالطبع إنّ هذا الحلّ لا یمثّل دواء فحسب بل هو بیان لحقیقة. فمن جملة الطرق التی یتّبعها الأنبیاء لعلاج أمراض البشر هی «العلاج بالحقیقة»؛ أی عندما یدرك مخاطبهم الحقیقة فإنّه لا یعود بحاجة إلى الدواء. والآن فلنضمّ المباحث المطروحة فی المحاضرة الماضیة إلى هذه المسألة؛ أی: بالإضافة إلى ذلك فإنّ الله تعالى یخصّ اُولئك الذین یفیدون من هدایته فی حیاتهم بسمات خاصّة حتّى فی الحیاة الدنیا.
إنّ أنجع وصفة فی هذا الباب هی وصفة «التفویض». وهذا ما تبیّنه الجملة الرائعة التی یبتدئ بها كتاب شرح الأمثلة من كتاب «جامع المقدّمات» حیث یقول: «أوّل العلم معرفة الجبّار وآخر العلم تفویض الأمر إلیه»، وهذه أرقى نتیجة یمكن أن یحظى بها الإنسان من معرفة الله. فإذا بلغ المرء هذا المقام فسیكون أكبر همّه هو أداء ما علیه من تكلیف وهو یؤمن بأنّ هناك من یرتّب على ذلك أفضل النتائج ویختار له أحسن الطرق. فهو یعلم عندما یفوّض إلیه أمره أنّه إذا كان المرض أصلح له فسیمرضه وإذا كانت السلامة أفضل له فهو لا یدعه یمرض أو یبقى على مرضه.
هل تفویض المرء أمره إلى الله یعنی أن یخلی كاهله من أیّ مسؤولیّة ویصبح جلیس داره؟ كلا، فكما قد أشرنا فی المحاضرة السابقة فإنّ لدینا نظامین؛ أحدهما هو النظام التكوینیّ (الحقائق الخارجیّة) وهو النظام الذی ینبغی علینا تفویضه إلى الله تعالى. والنظام الآخر هو نظام التشریع الذی عیّن الله فیه ما علینا من واجبات. فمثلاً إذا رأى الله عزّ وجلّ صلاح امرئ فی مرضه، فهذه حقیقة تكوینیّة ولابدّ لهذا الشخص أن یفوّض أمره فیها إلى الله ویرضى بذلك. لكنّ هذا التفویض لا یتنافى مع أداء التكلیف المتمثّل بالذهاب إلى الطبیب والتداوی، والحاصل أنّه ینبغی أن یكون الأمر بالنسبة له سیّان شُفی أم لم یَشف. فإذا كان نبیّ الله إبراهیم (علیه السلام) قد وصف الله تعالى فی ردّه على النمرود بهذا الوصف: «وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ یَشْفینِ»6 (ولم یقل: إذا أمرضنی الله، تأدّباً بأدب العبودیّة) فلا یعنی كلامه هذا أنّ إبراهیم (علیه السلام) لم یكن یذهب إلى الطبیب أو یتناول الدواء أو یعمل بأسباب الاستشفاء، بل كان یرى فی كلّ مكان یداً تدیر الأسباب فجاء لیهدی الناس إلى هذا الاتّجاه. فإذا عثر المرء على هذا المصباح فلن یعود للضجر والحزن معنىً عنده: «أَلا إِنَّ أَوْلِیَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلا هُمْ یَحْزَنُونَ»7. فإنسان كهذا حتّى وإن بلغ الثمانین فسیكون كشابّ ینعم بكامل الحیویّة والراحة والطمأنینة ولا یعتریه أیّ همّ أو غمّ. والمصداق البارز لهذا العبد هو المرحوم آیة الله السیّد بهاء الدینیّ (رضوان الله تعالى علیه). فهذا الرجل لم یصبه أیّ اضطراب أو ارتباك فی خضمّ الحوادث العصیبة التی وقعت من أمثال انتفاضة الخامس عشر من خرداد8 واعتقال الإمام الراحل (رحمة الله علیه) وما إلى ذلك. وعلى الرغم من حبّه العظیم للإمام الراحل (رحمة الله علیه) غیر أنّه لم یفقد توازنه فی هذه الوقائع. كان یشعر بالاطمئنان والهدوء، وهذا نابع من اعتماده على الله تعالى وعلمه بأنّ الله عزّ وجلّ یحبّ الإمام الخمینیّ أكثر من حبّه هو له ألف مرّة وأنّه لن یدعه وحیداً. وحتّى إذا توسّل بعض الشیء فهو من باب التكلیف لیس إلاّ. فالهمّ الوحید لاولئك الذین أوكلوا امورهم إلى الله هو أداء تكلیفهم على أتمّ وجه. ففی أثناء رحلة الإمام الخمینیّ (قدّس سرّه) من باریس إلى إیران سأله أحدهم: «ما هو شعوركم الآن»؟ فكان ردّ الإمام: «لیس لدیّ شعور خاصّ»! ومعنى كلامه هذا هو: أنّنی عبد یؤدّی ما علیه من تكلیف، أمّا النتیجة! فستكون كما یرید الله سبحانه. فإن وصل المرء إلى هذه الدرجة من الإیمان وفوّض أمره إلى الله بهذه الصورة فسیكون مرتاح البال قریر العین.
یقول الإمام الباقر (علیه السلام) هنا: «وَتَخَلَّصْ إِلَى رَاحَةِ النَّفسِ بِصِحَّةِ التَّفوِیضِ»؛ أی إن أردت أن تكون مرتاح البال ومطمئنّاً تماماً ففوّض أمورك إلى الله! كما أنّه (علیه السلام) لم یقل: «تخلّص إلى راحة النفس بالتفویض» بل قال: «بِصِحَّةِ التَّفوِیضِ». ولعلّ ما أراد (علیه السلام) التنویه إلیه هنا هو أنّ الإنسان قد یخدع نفسه أحیاناً فلا یفوّض الأمر إلى الله حقیقة، بل یقول من باب التقاعس: لقد فوّضت الأمر إلى الله. وهذا لیس بالتفویض الصحیح، بل هو تقاعس وعدم لیاقة. فالتفویض الصحیح هو أن یكون المرء قادراً على إنجاز العمل وینجزه فعلاً بدافع التكلیف لكنّه – مع ذلك – یعتمد على الله تعالى ولا تكون النتیجة مهمّة بالنسبة إلیه مهما كانت.
یروى أنّ نبیّ الله موسى (علیه السلام) مرض ذات یوم وعرض مرضه على الله فی مناجاته، فجاءه الخطاب من الله: اذهب إلى الطبیب الفلانی وسیصف لك الدواء الكذائی فتناوله وستشفى. لكنّ موسى (علیه السلام) قام بتحضیر الدواء بنفسه وتناوله فلم یشف. وعندما استفسر من ربّه عن علّة ذلك قال له الباری عزّ وجلّ: ألم آمرك أن تذهب إلى الطبیب الفلانی حتّى یصف لك هذا الدواء بنفسه؟! فإنّك لم تصغ إلى كلامی كما ینبغی. فتنظیم هذه الأسباب والعلل ینطوی على مصالح قد تعجز عقولنا عن إدراكها. فنحن موظّفون بالذهاب إلى الطبیب إذا مرضنا، أمّا الشفاء فهو بید الله جلّ وعلا: «وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ یَشْفینِ».
بالطبع إنّ التفویض هو سبیل لتهدئة الروح وإزالة ما لیس فی محلّه من الاضطرابات والضجر والخوف. وهو لیس بالأمر السهل طبعاً. فشخص مثل جابر والذی اجتاز مراحل جمّة على طریق الكمال هو الذی یمكنه تفویض أمره إلى الله. إذن فالمقصود من «صحّة التفویض» هو التفویض الذی ینبع – حقیقة - من الاعتقاد بالتوحید، ولیس ذلك الذی ینشأ عن التقاعس وعدم اللیاقة.
الحدیث إلى هذا المقطع كان قد تناول راحة النفس. لكنّ بعض أنواع المعاناة وعدم الراحة ترتبط بالبدن بشكل أو بآخر. بالطبع إنّ كلّ ما یكون له طابعٌ إدراكیٌ فهو مرتبط بالروح؛ فحتّى فی عملیّة «الإبصار» فإنّ الروح – فی الحقیقة - هی التی تبصر وتدرك. فمن حیث إنّ العین هی عضو مادّی فلیس لها إدراك، ولا یحصل فیها إلاّ تصوّرٌ عن الشیء، أمّا الإدراك فهو من فعل الروح. فإدراك الراحة، واللذّة، والمعاناة، والألم، وما إلى ذلك هی من وظائف الروح؛ فالروح هی التی تلتذّ أو تتأذّى. أمّا بعض الأمراض فإنّها تحمل صبغةً نفسیّة جسمیّة (سیكوسوماتیا)9، أی تشترك فیها الروح والبدن معاً. لكنّها أحیاناً تبدأ بالروح ثمّ تنعكس على الجسم، أو على العكس أحیاناً اُخرى. فهناك علاقة وطیدة بین الروح والبدن. فعندما یقلق المرء من المستقبل لا یكون لهذا القلق علاقة مباشرة بالجسم ولا تظهر فی أعضائه؛ ولكن هناك أنواع من الخوف والقلق لها علاقة مباشرة بجسم الإنسان. ویقال فی الفرق بین هذین النوعین من القلق والاضطراب: أحدهما معاناة وإرهاق بدنیّ والآخر تعب واضطراب روحیّ. ولعلّ هذا هو السبب الذی دعى الإمام (علیه السلام) إلى القول: «وَتَخَلَّصْ إِلَى رَاحَةِ النَّفسِ بِصِحَّةِ التَّفوِیضِ» ثمّ أتبعه بالقول: «وَاطْلُبْ رَاحَةَ الْبَدَنِ بِإِجْمَامِ الْقَلْبِ». فالاضطرابات التی لها تأثیر مباشر على الجسم سرعان ما یظهر تأثیرها؛ كأن یودّ المرء – على سبیل المثال – قول شیء لكنّه یخطئ فی قوله. فإنّ لأمثال هذه الاضطرابات والاختلالات التی تظهر على البدن عواملَ هی بأیدینا ونستطیع أن نتلافاها. وإنّ من أهمّ آثار هذه الاضطرابات هو شرود الذهن وانعدام التركیز؛ فإذا أراد المطالعة تنقّل ذهنه إلى مائة مكان، وإذا وقف للصلاة تجوّل فكره فی كلّ الوجود. إنّ هذه الحالة المعروفة بشرود الذهن أو تشتّت القلب لهی مصیبة كبرى، لكنّ تعوُّدَنا علیها یجعلنا لا نشعر بمدى الضرر الذی تلحقه بنا. بالطبع هذه الحالة لا تسبّب مشكلة إذا كانت ضمن الحدّ المتعارف؛ لأنّ للإنسان شؤوناً شتّى وله علاقة وارتباط بأشخاص مختلفین. لكنّها أحیاناً تخرج عن الحدّ المتعارف. یقول الإمام (علیه السلام) فی هذا الصدد: «إذا أردت راحة بدنك فحاول أن تركّز جیّداً وتكون حاضر الذهن».
ثمّ یقول (علیه السلام): «وَتَخَلَّصْ إِلَى إِجْمَامِ الْقَلْبِ بِقِلَّةِ الْخَطَأ». وإذا صحّت هذه النسخة فإنّ ما أفهمه من قوله: «قلّة الخطأ» هو «قلّة العصیان»؛ أی إذا شئت أن تكون حاضر الذهن وتمتلك التركیز المتعارف فاسع لأن تقلّل من معاصیك. فإنّ لدینا طرقاً شرعیّة ومعقولة من أجل تلبیة وتأمین حاجاتنا. أمّا إذا انحرف الإنسان عن جادّة الصواب فسیواجه آلاف المنعطفات والمطبّات. فهناك مثلاً حلّ فطریّ لإشباع الغریزة الجنسیّة ألا وهو الزواج. لكنّه عندما یزیغ المرء عن المسیر الصحیح فإنّه سیبتغی سبلاً اُخرى لتلبیة هذه الغریزة: «وَالَّذِینَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ... * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذٰلِكَ فَأُوْلَئكَ هُمُ الْعَادُونَ»10 وإن إنساناً كهذا سیُبتلى بمختلف أشكال الاضطراب والقلق وتشتّت الذهن. فإنّ نظرة واحدة من حرام قد تشغل الذهن لیوم كامل؛ فلا یلتفت المرء إلى صلاته ولا إلى سائر أعماله. أمّا إذا صان نظره فإنّه لا یُبتلى بكلّ هذا الشرود والتشتّت فی الذهن. فهذا التشتّت سببه الخروج عن الجادّة السویّة للفطرة والشرع. فإذا استطاع المرء صیانة نفسه من الوقوع فی الأخطاء وارتكاب المعاصی – ولیس للسعادة الحقیقیّة غیر هذا السبیل – فسیكتشف أنّه سیحظى بالمزید من الراحة والطمأنینة والتركیز وحضور الذهن، وإنّه إذا وقع یوماً فی حبائل الشیطان فسوف یرى أنّه سیُبتلى بكثیر من الشرود والتشتّت فی الذهن إلى درجة أنّه لا یستطیع حتّى إنجاز أعماله العادیّة. فالعبثیّة فی استخدام البصر واللسان والسمع تؤدّی بالإنسان إلى تشتّت ذهنه وإهدار قواه بل وقد تتسبّب فی الإضرار به أیضاً. ومن هنا یقول الإمام الباقر (علیه السلام): «إذا أردت أن تریح بدنك فاسع أن تكون حاضر الذهن ومركّزاً، وإذا شئت أن تكون حاضر الذهن وتتمتّع بالتركیز فحاول أن تقلّل من أخطائك».
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. تحف العقول، ص286.
2. سورة البلد، الآیة 4.
3. سورة الأنبیاء، الآیة 35.
4. الوجودیّون: هم المنادون بالفلسفة الوجودیّة (existentialism) وهی فلسفة معاصرة تؤكّد على حرّیة الفرد ومسؤولیّته.
5. سورة فاطر، الآیة 35.
6. سورة الشعراء، الآیة 80.
7. سورة یونس، الآیة 62.
8. هی انتفاضة «الخامس عشر من خرداد» (الخامس من حزیران) عام 1963 التی راح ضحیّتها زهاء 15 ألفاً من أفراد الشعب الإیرانی والتی تعدّ نقطة تحوّل وبدایة لاتّقاد جذوة كفاح هذا الشعب وانطلاقة ثورته الإسلامیّة.
9. Psychosomatic.
10. سورة «المؤمنون»، الآیات 5-7؛ وسورة المعارج، الآیات 29-31.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 16 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَتَعَرَّضْ لِرِقَّةِ الْقَلْبِ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ فِی الْخَلَوَاتِ»1
استمراراً للحدیث الشریف المنقول عن الإمام الباقر (صلوات الله علیه) والذی یخاطب به جابر بن یزید الجعفیّ یقول (علیه السلام) لجابر: «من أجل الظفر برقّة القلب أكثر من ذكر الله فی الخلوات». ورقّة القلب هی حالة ینفعل فیها الإنسان بسرعة عند مواجهة بعض العوامل المثیرة للأحاسیس والمشاعر، ومن آثارها الظاهریّة ذرف الدموع.
بالطبع إنّ عوامل ذرف الدموع مختلفة. فقد یعتقد البعض أنّ البكاء لا یكون إلاّ نتیجة الخوف، وهو الخوف من نار جهنّم حصراً. بید أنّ للبكاء أنواعاً؛ فقد یبكی المرء نتیجة للفرح المفاجئ والمفرط. فالاُمّ التی فارقت ولدها لسنوات طویلة تبكی عند لقیاه لفرط فرحها. وقد ینجم البكاء عن الحیاء أیضاً؛ فإذا أهان الإنسان امرأً مثلاً فقد یبكی عند مواجهته من شدّة خجله. وقد یكون البكاء أیضاً بسبب الیأس من الحصول على نتیجة. وعلى أیّة حال فإنّه یُقال لحالة الإنفعال فی الإنسان هذه «رقّة القلب» وإنّ أثرها الظاهریّ هو البكاء.
یمكننا تقسیم موارد استعمال كلمة «القلب» فی القرآن الكریم إلى قسمین؛ وبعبارة اُخرى: ما یطلق القرآن الكریم علیه اسم القلب فإنّ له وظیفتین مختلفتین ومشخّصتین: اُولاهما الإدراك والفهم، وثانیتهما الإحساس والعاطفة. فمن الاُمور التی ینسبها القرآن الكریم إلى القلب هی الإدراك والفهم؛ كما فی قوله تعالى: «لَهُمْ قُلُوبٌ لا یَفْقَهُونَ بِهَا»2. فبالالتفات إلى هذه الآیة الشریفة فإنّه لابدّ لكلّ من یمتلك قلباً أن یفهم الأشیاء على نحو جیّد. فالفقه یعنی الفهم. أمّا سیّئو الحظّ من الناس الذین فرّطوا بما لدیهم من طاقات كامنة فمع أنّهم یمتلكون القلب لكنّهم لا یصلون إلى هذه المراحل من الفهم.
أمّا الوظیفة الاُخرى التی ینسبها القرآن الكریم إلى القلب فهی الإحساس والعاطفة. فالحبّ، والبغض، والخوف، والطمأنینة، والرجاء، والیأس، وما إلى ذلك من حالات انفعالیّة تطرأ على الإنسان، سواء الإیجابیّ منها أو السلبیّ، كلّها حالات تُنسب إلى القلب. ویمكننا القول بشكل عامّ: إنّ القلب - وفقاً للمصطلح القرآنیّ - هو مركز للإدراك، ومركز للأحاسیس والعواطف فی نفس الوقت. أمّا «الرقّة» فهی تتعلّق بقسم الأحاسیس والانفعالات. فهناك صنف من الناس یواجهون الأحداث السارّة - التی یُسَرّ لها الناس العادیّون كثیراً - بحالة من عدم الاكتراث واللامبالاة، ویتّصفون بالبرود الشدید عندما یتطلّب الموقف الغضب وحِدّة المزاج عادةً، وفی مجالس العزاء مثلاً لا یذرفون حتّى دمعة واحدة. هذه الحالة یُطلق علیها «قسوة القلب». وإنّ للقرآن الكریم تعبیراً ملفتاً عن هذه الحالة وهو قوله: «إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَمَا یَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا یَشَّقَّقُ فَیَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ»3؛ أمّا قُساة القلوب فإنّ لهم قلوباً لا تنكسر أبداً وانّ لهم أعیناً لا تذرف حتّى دمعة واحدة. وهذه الحالة تمثّل شكلاً من أشكال الشذوذ؛ كأن یكون لامرئ عین لكنّه لا یُبصر. فالعین أداة البصر؛ فإن كانت لا تُبصر عُلِم أنّها مصابة بمرض. وهذا – بالطبع - یختلف عن قوله تعالى: «وَلَهُمْ أَعْیُنٌ لا یُبْصِرُونَ بِهَا»4 فهو هنا یقصد أداة الباصرة الباطنیّة التی لا ترى الحقّ.
فالشخص الذی لا یحترق قلبه على شیء أبداً ولا تذرف عینه دمعة إطلاقاً ولا یطرأ على قلبه تأثّر بتاتاً فإنّ قلبه مریض وهذا المرض یطلق علیه القرآن الكریم «قسوة القلب». وهناك عوامل مختلفة لهذا المرض، لكن ممّا لا شكّ فیه فإنّ للعوامل التربویّة أثراً فی ظهوره. فرقّة القلب تحدث – بشكل طبیعیّ وفی ظروف خاصّة – لكلّ إنسان یمتلك قلباً سلیماً. وبالطبع هناك اختلاف بین الذكر والاُنثى من هذه الناحیة؛ إذ أنّ أحاسیس النساء أقوى من الرجال وقلوبهنّ أرقّ منهم، وهنّ أسرع إلى البكاء مقارنة بالرجال؛ بید أنّه لكلّ جنس نصابه الطبیعیّ ولابدّ من ظهور هذا الأثر ضمن هذا النصاب وهذه الحدود. لكنّ السؤال هنا هو: هل ینبغی - كقیمة أخلاقیّة - أن یكون قلب المرء شدید الرقّة أم قلیلها؟
وفقاً لنظام أخلاقیّ قدیم منقول عن فلاسفة الیونان فإنّ «الاعتدال» هو أساس القیم وإنّ جمیع الصفات تقاس بهذا المیزان. وعلى أساس هذا المعیار فإنّه ینبغی للمرء أن یتّخذ حالة معتدلة؛ فلا یكون قلبه شدید الرقّة إلى درجة الانفجار بالبكاء عند مشاهدة أیّ مشهد، ولا قاسی القلب إلى درجة عدم تأثّره بأیّ حادثة. فمیزان القیمة فی هذا النظام الأخلاقیّ هو الاعتدال، وكلّ ما ینحرف إلى هذا الطرف أو ذاك فهو یُعدّ إفراطاً أو تفریطاً.
أمّا مناط القیمة وفقاً للأخلاق الإلهیّة أو الإسلامیّة فهو أرفع من ذلك بكثیر. ذلك أنّ الصفات القیّمة حسب الأخلاق الإلهیّة هی تلك التی تقرّب الإنسان إلى الله تعالى. أمّا فی الأخلاق الفلسفیّة المذكورة فإنّ العلاقة المذكورة مقطوعة وإنّ الارتباط مع الله غیر مراعىً فیها. وبناء علیه فإنّ رقّة القلب لا تكون ذات قیمة فی الأخلاق الإسلامیّة إلاّ إذا ظهر أثرها فیما یتعلّق بالله عزّ وجلّ وفی القرب منه. فإنّ ما یكون مفیداً للإنسان المؤمن حتماً هو أن لا یكون غیر مبال إذا ذكر عظمة الباری تعالى، أو عفوه وتجاوزه، أو ذكر عذابه. یقول القرآن الكریم فی ذكر إحدى صفاته: «كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِینَ یَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ»5؛ فإنّ من جملة صفات كلام الله هی أنّه إذا سمعه المؤمنون اقشعرّت جلودهم وشعروا برعدة فی أوصالهم. هذه الحالة العاطفیّة هی حالة انفعالیّة یظهر أثرها على الجلد. كما أنّه یقول تعالى فی صفات المؤمنین: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِینَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ»6. فمن خصائص المؤمن هی أنّ قلبه یرتجف إذا ذُكر الله عنده؛ وهی علامة الإیمان. فلابدّ لقلب المؤمن أن یشعر بالحقارة فی مقابل عظمة الباری عزّ وجلّ. بل یتحتّم على المؤمن أن تنتابه حالة الخجل وأن تسیل دموعه عندما یتذكّر أنعم الله علیه لاسیّما عندما یغیثه الله وینصره مع كلّ ما هو علیه من تقصیر وغفلة. فقد جاء فی الدعاء الوارد بعد زیارة الإمام الرضا (صلوات الله علیه) ما نصّه: «ربَّ إنّی استغفرك استغفار حیاء»7؛ فأوّل ما یستغفر العبد ربّه هو الاستغفار الناشئ عن الحیاء؛ فكأنّه یرید أن یقول: إلهی! إنّنی لأستحی أن اُواجهك أساساً. فبمجرّد أن ینوی العبد - مع كلّ أعماله المخزیة وما یتّصف به من عدم الأهلیّة - الجلوس بین یدی ربّه الرؤوف الرحیم الرحمٰن تنحدر دموعه على وجنتیه قبل أن یذكر جهنّم والعذاب. وفی هذه الحالة سیدعوه الله عزّ وجلّ لضیافته ویضیّفه. وكذا عندما یُنذر الله عبده من عذاب الآخرة فعلى الأخیر أن یحمل إنذاره على محمل الجدّ. فعدم الاكتراث لهذه الإنذارات هو عدم اكتراث لله جلّ وعلا. فإن تلا المرء هذه الآیات من دون أن توقع فی قلبه أیّ تأثیر فلیعلم أنّه مصاب بقسوة القلب. فالمؤمن یتأثّر عندما یلتفت إلى هذه الآیات وتجری دموعه من عینیه: «یَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً»، و«وَیَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ یَبْكُونَ وَیَزِیدُهُمْ خُشُوعاً»8؛ فعندما تُتلى آیات القرآن الكریم على المؤمنین الصالحین یهوون بوجوههم على الأرض وتلتصق جباههم بها من أثر الخضوع والخشوع.
على كلّ حال فقد وهب الله الإنسان قلباً كی تظهر هذه الآثار منه فی الوقت المناسب. أمّا إذا اقتصر التفاتنا أثناء قراءة القرآن الكریم، أو حتّى تلاوة آیات العذاب، إلى الصوت والأجهزة الصوتیّة من دون أن ننتبه بتاتاً إلى الهدف من نزول تلك الآیات أو إلى معانیها فسنُبتلى بقسوة القلب.
إذن فرقّة القلب المطلوبة للإنسان المؤمن هی ما یحصل فی مثل هذه الحالات. وبشكل عامّ فإنّ الاتّصاف برقّة القلب من دون الوقوع فی الإفراط والتفریط هی حالة حسنة، لكنّها لا تُعدّ قیمة إسلامیّة إلاّ إذا ارتبطت بالله جلّ وعلا.
فما العلاج إذن إذا ابتُلینا بقسوة القلب؟ یقدّم إمامنا الباقر (علیه السلام) النصح لجابر فی هذا الصدد فیقول: «وَتَعَرَّضْ لِرِقَّةِ الْقَلْبِ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ فِی الْخَلَوَاتِ»؛ فإن أردت حصول الرقّة فی القلب فأكثر من الذكر فی الخلوات. والمراد من الذكر هنا هو ما یكون فی مقابل الغفلة، أو خصوص الالتفات القلبیّ، أو الذكر اللفظیّ المقترن بالالتفات القلبیّ. فلابدّ للقلب من التذكّر.
قد ینشغل الإنسان أحیاناً بما هو خارج عن وجوده إلى درجة الغفلة عن نفسه وعن سعادته وشقائه. یقول القرآن الكریم: «وَكَأَیِّن مِّنْ ءَایَةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ یَمُرُّونَ عَلَیْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ»9. فهناك آیات إلهیّة كثیرة فی هذا الكون لكنّ الناس یمرّون أمامها من دون أن یعیروها أیّ أهمّیة. بل وقد یصل الأمر إلى نسیان حقیقة أنفسهم أیضاً: «نَسُواْ اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ»10. یقال فی علم النفس الحدیث: هناك من یُصاب بنسیان النفس نتیجة تعلّقه بالمال والجاه والأوهام والخیالات. فهو ملتفت إلى كلّ شیء سوى السؤال التالی: أیّ موجود هو؟ من أین أتى وأین هو؟ ما الذی علیه صنعه وإلى أین یتعیّن علیه الذهاب؟ وبتعبیر آخر: یصبح غریباً عن ذاته. ومن علامات الغربة عن الذات هی الخوف من النفس. فعندما یكون المرء وحیداً ینتابه الخوف والوحشة فیحاول التلهّی بشیءٍ مّا. وإذا حُلِّلت هذه الحالة بدقّة فسیُكتشَف أنّ هذا الشخص لا یرید فهم نفسه أو معرفتها أساساً، وسیكون مصداقاً لقوله تعالى: «نَسُواْ اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ». فمع أنّ الإنسان یحبّ نفسه أكثر من أیّ شیء آخر، إلاّ أنّه لا یرید التفكیر فی ذاته. وحالة الغفلة هذه تؤدّی إلى ضعف خصوصیّات القلب؛ فیضعف ویضمحلّ إدراك الإنسان للحقائق ویمتلئ عقله وذهنه بالتفاهات. فهو فی هذه الحالة یفكّر بكلّ شیء إلاّ بنفسه. وتبعاً لتفاهة العقل والذهن تضعف الأحاسیس والعواطف أیضاً فلا یعود یتأثّر كثیرا بأحوال الآخرین. ومن أجل إزالة هذه الحالة، على الإنسان أن یقلّل من التفاته إلى الخارج ویلتفت أكثر إلى داخله وذاته. وهنا توجد مسألتان: الاُولى هی عندما یلتفت المرء إلى نفسه فانّه ینتبه إلى الزاویة التی تفصله عن ربّه. فأصل جمیع كمالات الإنسان یكمن فی تقویة هذه العلاقة، وإنّ تعزیز هذه العلاقة ینتهی إلى القرب من الله عزّ وجلّ. كما أنّ أسمى درجات كمال الإنسان هی فی قربه من ربّه؛ ولذا فعلى الإنسان أن یلتفت إلى هذه العلاقة. المسالة الثانیة هی أن یُبعِد عن نفسه ما یعیق هذا الالتفات. والخلوة هی أفضل فرصة لذلك؛ إذ لا ینبغی أن نتوقّع من المرء التركیز ولیجدَ ذاته وهو بین الناس.
یقول الإمام الباقر (علیه السلام): «إذا أحببت أن تكون رقیق القلب فاسع لأن تطرد الغفلة عنك وذلك عبر كثرة الذكر والالتفات. ومن أجل أن تحافظ على حالة الالتفات وأن لا تسمح للعوامل الخارجیّة بأن تصرفك عن نفسك فكن من أهل الخلوة بالله»! فمن المناسب جدّاً أن یرتّب المرء لنفسه خلال الیوم واللیلة – لاسیّما أثناء اللیل - برنامجاً للخلوة: «إِنَّ نَاشِئَةَ الَّیْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِیلاً»11؛ ففترة اللیل هی أكثر استقامة وثباتاً وتأثیراً. فعلى الإنسان أن یخلو بنفسه فی اللیل ویدرس علاقته بربّه. فكلّما أطال التفكیر فی هذا الأمر ازداد قلبه رقّة. فقد جاء فی الخبر عن رسول الله (صلّى الله علیه وآله): «عوّدوا قلوبَكم الرقّة»12. والتعبیر ﺑ «عوّدوا» هنا ینطوی على التفاتة. فالاُمور البدنیّة تبدأ عادة من القلیل حتّى یتعوّد الإنسان علیها تدریجیّاً فیتمكّن فیما بعد من إنجاز أعمال أضخم. والریاضیّون خیر مثال على ذلك. والقضیّة ذاتها تنطبق على المسائل المعنویّة؛ فإذا رغب المرء فی اكتساب حالة رقّة القلب فی الخلوات فلا ینبغی أن یظنّ أنّه سیتحوّل منذ الیوم الأوّل حتماً إلى واحد من بكّائی العالم، بل علیه أن یعوّد نفسه على هذه الحالة بشكل تدریجیّ. علیه أن یفكّر فی الموضوعات التی توجب خجل وحیاء الإنسان من الله سبحانه. فلو طلب صدیق الإنسان الحمیم منه شیئاً قائلاً: امتنع عن هذا الفعل لأجلی، لكنّ هذا الإنسان فعل ذلك الفعل ظنّاً منه أنّ صدیقه لا ینظر إلیه فاكتشف فجأة أنّه یشاهده، فأیّ حال سیطرأ علیه یا ترى؟ فما بالك بالله العظیم الشأن الذی لا یملك الإنسان شیئاً إلاّ منه وقد طلب من الإنسان أمراً لا یصبّ إلاّ فی صالح الإنسان نفسه ولیس له من أثر علیه تعالى على الإطلاق؛ لكنّ هذا الإنسان نسی ربّه وأصرّ بلا حیاء على ما نهاه الله عنه. فإن التفت إلى أنّ الله حاضر وناظر وهو یراه، فإلى أیّ حدّ ینبغی أن یشعر بالخجل؟! فإذا خلى الإنسان بنفسه وجسّد هذه الحالة فی مخیّلته فإنّ لذلك أثراً عظیماً. إذن علیه أن یمارس هذا التمرین باستمرار ویعوّد نفسه علیه، وعندها ستحصل عنده حالة البكاء والتأوّه والأنین شیئاً فشیئاً.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. تحف العقول، ص285.
2. سورة الأعراف، الآیة 179.
3. سورة البقرة، الآیة 74.
4. سورة الأعراف، الآیة 179.
5. سورة الزمر، الآیة 23.
6. سورة الأنفال، الآیة 2.
7. بحار الأنوار، ج99، ص56.
8. سورة الإسراء، الآیتان 107 و 109.
9. سورة الإسراء، الآیة 105.
10. سورة الحشر، الآیة 19.
11. سورة المزمل، الآیة 6.
12. بحار الأنوار، ج70، ص81.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 17 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَاسْتَجْلِبْ نُورَ الْقَلْبِ بِدَوَامِ الْحُزْنِ»1
یقول الإمام الباقر (علیه السلام) فی هذا المقطع من الحدیث: «علیك الإفادة من دوام الحزن للحصول على نور القلب»! بمعنى: إذا أردتَّ أن یكون قلبك نورانیّاً فاجهد لكی تكون دائم الحزن.
ثمّة أسئلة تتبادر إلى الذهن هنا سنتعرّض للإجابة علیها بمقدار ما سیوفّقنا الله عزّ وجلّ إلیه. من هذه الأسئلة ما یلی: ما هو القلب؟ وما معنى نور القلب؟ ما مراده (علیه السلام) من قوله: «على الإنسان أن یكون دائم الحزن»؟ على ماذا یكون هذا الحزن؟ وهل كلّ حزن هو مطلوب؟ هل یرید الإسلام من الناس أن یعیشوا فی حزن وكآبة مستمرّین، أم یریدهم مسرورین وینعمون بالحیویّة؟ وأخیراً: ما هی العلاقة بین الحزن ونور القلب؟
للقلب - وفقاً للاصطلاح القرآنیّ والروائیّ - بُعدان مختلفان على الأقلّ؛ البعد الإدراكیّ، والبعد الـمَیلیّ. یقول القرآن الكریم فی البعد الإدراكیّ: «فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِی فِی الصُّدُورِ»2. ومن الواضح أنّه لیس المقصود من العمى هنا العمى الظاهریّ، وإلاّ فمن المسلَّم أنّ العین الظاهریّة تعمى، بل یراد منه عمى القلب. إذن فالقرآن الكریم یرى أنّ العمى الحقیقیّ هو عمى القلب. واستناداً إلى هذه الآیة فالقرآن یرى أنّ للقلب عیناً، وهی تكون مفتوحة تارةً فترى الحقائق، وتكون عمیاء تارةً اخرى. وبناء على ما جاء فی كتاب الله العزیز فإنّ إحدى میزات هذه العین هی أنّها إذا أصبحت عمیاء فی الدنیا فإنّ صاحبها سیُحشر أعمى فی مجال عین القلب فی الآخرة3؛ وإنّه لأمر یدعو لشدید الأسف والحسرة أن یُحشر المرء فی مجال یعلم أنّ فیه اُموراً كثیرة تستحقّ الرؤیة لكنّه لا یستطیع مشاهدتها بسبب العمى.
استناداً إلى ما جاء فی الأحادیث الشریفة فإنّ لهذا القلب اُذنا أیضاً، بل ونورانیّة وظلمة كذلك. وللنور فی القرآن الكریم طیف واسع من الاستعمالات؛ فالقرآن الكریم یعبّر عن نفسه بالنور؛ كما فی قوله: «قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِینٌ»4، وهو یعرِّف اللهَ جلّ وعلا بأنّه نور السماوات والأرض: «اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ»5، ویتحدّث فی آیة اُخرى عن النور الذی جُعل للمؤمنین فیقول: «أَوَمَن كَانَ مَیْتاً فَأَحْیَیْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً یَمْشِی بِهِ فِی النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِی الظُّلُمَاتِ لَیْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا»6. وهذا النور هو من نور القلب، وإلاّ فالجمیع – بما فیهم المؤمنون والكفّار – یتمتّعون بالأنوار المادّیة. وهناك آیة اُخرى تقول فی هذا الصدد: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ یُؤْتِكُمْ كِفْلَیْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَیَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَیَغْفِرْ لَكُمْ»7؛ بمعنى أنّكم إذا آمنتم بالنبیّ إیماناً حقیقیّاً فسیجعل الله لكم نوراً یضیء لكم دربكم. وأمثال هؤلاء لا یكونون فی حیرة من أمرهم، بل یشخّصون تكلیفهم فی الوقت المناسب. وهذه المباحث تنبئ عن حقائق لابدّ أن نؤمن بها وأن نعلم بأنّ الله تعالى یسبغ على باطن الإنسان المؤمن من البركة والمعنویّات والكمال ما له حكم النور فی مقابل الظلمة. فلو كان امرؤ یقود سیّارة لیس فیها مصابیح فی طریق محفوفة بالمخاطر وسط ظلام حالك فإنّه لا یمضی علیه وقت طویل حتّى یهلك. وكذا الطریق التی على باطن الإنسان أن یقطعها صوب الحقیقة فإنّها بحاجة إلى النور وإنّ الله یَهَب هذا النور لبعض عباده. لكنّ بعض الناس یقتل الاستعداد الكامن فی داخله لانبعاث هذا النور ویفرّط باستحقاقه للظفر به فتكون النتیجة أنّه یتیه فی غیاهب الظلمات.
یُعلم بالرجوع إلى الآیات الآنفة الذكر أنّ مراد أبی جعفر الباقر (علیه السلام) من نور القلب هو إمّا عین هذه الحقیقة التی تشیر إلیها الآیات الشریفة المذكورة أو شیء من هذا القبیل. وإنّ من آثار نورانیّة القلب هو أن یتمكّن المرء من التمییز بین الحقّ والباطل، وهذه القدرة على التمییز هی غایة فی النفاسة والقیمة بالنسبة للإنسان المؤمن. وهنا یبیّن الإمام (سلام الله علیه) لجابر طریقاً للظفر بهذه النورانیّة فیقول: «واستجلِب نور القلب بدوام الحزن»!
هل ینبغی للمرء یا ترى أن یكون حزیناً باستمرار؟ بالطبع فإنّ الإنسان الحزین لا یتمتّع بالحیویّة المطلوبة لممارسة العمل والنشاطات المختلفة؛ إذن فهل یرید الله عزّ وجلّ أن یبنی مجتمعاً یسیطر الحزن على جمیع أفراده؟ إنّ كلّ الجهود التی تُبذل فی الثقافة العالمیّة المعاصرة تهدف إلى خلق حالة من البهجة والسرور للبشر. وإنّ العلوم الإنسانیّة – لاسیّما علم النفس – تؤكّد على ضرورة تنشئة إنسان مبتهج. وكأنّ وجود الحزن والغمّ والأسى فی وجود الإنسان هو أمر غیر نافع ومنحرف. هذا ما تذهب إلیه الثقافة العالمیّة. فهل یتحتّم علینا أن نتّخذ فی مقابل هذه الثقافة موقفاً مناهضاً فنقول: نحن لا نحبّذ الفرح والسرور بتاتاً، فالبهجة أمر سیّئ، وعلى الإنسان أن یعیش فی حزن وأسىً دائمین؟!
العلوم الإنسانیّة المتوفّرة حالیّاً، ونخصّ بالذكر منها علم النفس، هی بقایا لعلم النفس السلوكیّ الأمریكیّ والغربیّ. فجمیع هذه العلوم مبنیّة على الاُصول والمبادئ المادّیة، وكما قال قائد الثورة المعظّم مراراً: إنّها مبنیّة على الاُسس المناهضة للإسلام ولیس الاُسس غیر الإسلامیّة. فإن قلنا: إنّ الإسلام یدعو إلى الفرح، قالو: إنّكم إذن تذهبون إلى ما نذهب إلیه نحن. وإذا قلنا: الإسلام یثنی على الحزن ویتعیّن على الإنسان أن یكون دائم الحزن، فهذا خلاف الفطرة تماماً. فهل خُلِقنا لنكون حزینین یا ترى؟!
إذن لابدّ من أجل حلّ هذه المسألة أن نبدأ من جذورها، فنقول: ما هو الحزن أساساً، وكم هو عدد أنواعه؟ كیف ینشأ الحزن؟ وهل كلّ حزن هو محبَّذ؟ أم إنّ كلّ حزن هو غیر محبَّذ؟ ما هو الحزن الذی تمتدحه هذه الروایة وتعدّه من عوامل نورانیّة القلب؟ وهل یتنافى هذا الحزن مع أشكال السرور الاُخرى؟
أوّلاً استناداً إلى الرؤیة الإلهیّة والتوحیدیّة فإنّه ما من شیء إطلاقاً أودعه الله فی وجود الإنسان بحیث یكون لغواً بل لابدّ أنّه ینطوی على حكمة. فقد خلق الله للإنسان الضحك كما خلق له البكاء وإنّ كلاًّ منهما مطلوب فی محلّه المناسب وضروریّ ومفید أیضاً للإنسان. وجلّ المشكلة یكمن فی أنّه: ما هو محلّهما المناسب؟ فالشهوة - على سبیل المثال - تدفع بالإنسان فی الظروف العادیّة إلى حدّ الحیوانیّة، غیر أنّها إذا انعدمت انقرض النسل البشریّ بالكامل. لذا فإنّ وجود الشهوة نعمة ولابدّ أن تُستعمل فی محلّها المناسب ولا ینبغی استخدامها بشكل غیر مناسب. إذن فوجود الحالات المتضادّة فی الإنسان مفید وضروریّ ویتعیّن علیه استخدامها فی سبیل تكامله. فالقرآن الكریم یستخدم اُسلوب الوعد والوعید لدعوة الإنسان إلى الصالحات؛ فیقول مثلاً: «لا یَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ»8؛ أی: إنّ الذین یمتثلون لأوامر الله تعالى سوف لن یُبتلوا بالحزن فی یوم القیامة. ویُعلم من هذه الآیة ونظائرها أنّ حالة الحزن لیست مطلوبة ومحبَّذة دائماً. وفی المقابل فإنّ إدخال السرور إلى قلب المؤمن قد عُدّ أمراً حسناً ومحبَّذاً؛ ممّا یُفهم منه أنّ السرور والفرح للمؤمن هو أمر مطلوب حتّى فی الدنیا.
إذن كیف لنا – بالإلتفات إلى ما مرّ - أن نجمع بین هذا المبحث والأحادیث التی تمتدح الحزن؟ طبقاً للمدارس غیر التوحیدیّة فإنّ أهداف الحیاة تنحصر فی النتائج الدنیویّة دائماً وإنّ الأشیاء الـمُرضیة للإنسان هی التی تشكّل الغایة من العیش. وانطلاقاً من هذه الرؤیة فإنّ غایة ما یوصی به علماء النفس كمنهج للحیاة هو أن یكون المرء فی بهجة مستمرّة وأن یعرف جیّداً كیف یوفّر أسباب السعادة لنفسه. والقرآن الكریم یقول على لسان هؤلاء: «إِنْ هِیَ إِلاّ حَیَاتُنَا الدُّنْیَا»9. ومن البدیهیّ أنّ المرء عندما لا یفكّر إلاّ بالحیاة الدنیا فإنّه لن یطلب من اُمور الدنیا ما یجلب له الهمّ والحزن، لأنّ ضالّته فیها هی السعادة والراحة.
لكنّه وفقاً للرؤیة التوحیدیّة فإنّ كلّ ما فی الدنیا یُنظَر له كأداة ولا یكون هدفاً بذاته. فحُسن وقبح الاُمور الدنیویّة یرتبط بما تتركه من أثر على الحیاة الأبدیّة. وإنّ كلّ الاُمور الدنیویّة لها أثر – بشكل أو بآخر - فی سعادة المرء الأبدیّة ولیس منها ما هو لغوٌ على الإطلاق، بشرط أن تُستخدم فی موضعها المناسب. فإذا شعرنا بالسرور أو أحسسنا بالحزن فی المحلّ المناسب فسیؤثّر ذلك على سعادتنا الأبدیّة. إذن فكلّ واحد من السرور والحزن محبَّذ بشرط أن یكون فی الموضع المناسب؛ فلا حزن هذه الدنیا غیر محبَّذ ذاتاً ولا بهجتها. ومن هنا یقول القرآن الكریم بخصوص من یجعل من سرور هذه الدنیا هدفاً ویعدّه أصلاً: «إِنَّ اللهَ لا یُحِبُّ الْفَرِحِینَ»10؛ أی إنّ الله لا یحبّ الذین لا یفكّرون إلاّ بالفرح والسرور الدنیویّین. ومن هنا فإنْ وُجد نوع من البهجة بحیث یكون وسطاً بین الحالتین ولا یؤثّر على سعادتنا لا بالسلب ولا بالإیجاب، فهی بهجة مباحة. أمّا إذا كان السرور أو الحزن مؤثّراً فی سعادتنا الأبدیّة ومن النوع الذی یقرّبنا إلى رضا الله فهو مطلوب ومُستحبّ.
الحزن الناجم عن ضیاع اللذائذ الدنیویّة لیس محبّذاً بتاتاً ولا یؤدّی إلى سعادة الإنسان، بل یقف حجر عثرة فی طریق سعادته. فالإنسان الحزین یفتقر إلى القوّة على ممارسة أیّ عمل أو نشاط ولا تحصل له حالة حضور القلب أثناء العبادة. ولا ریب أنّ حزناً كهذا لا یطلبه الإسلام ولم یوصِ به أبداً. لكن ما حكم الحزن على الآخرة؟
هناك عوامل مختلفة من شأنها أن تورث الحزن من أجل الآخرة؛ فتفكیر المرء بمضیّ عمره وتفریطه بالفُرَص، وتفكیره بأضرار المعاصی على آخرته، وبالحرمان من مقامات أولیاء الله الرفیعة یجعله فی حزن عمیق. هذا النمط من الحزن یدفع الإنسان إلى تجنید طاقاته للإفادة ممّا تبقّى من الفرص ومعرفة قدر عمره والعمل للآخرة أفضل من ذی قبل. فهل یمكننا أن نقول إنّ حزناً كهذا لیس مطلوباً؟ فاغتمام الإنسان بسبب ذنوبه وعقوباتها سیدفعه إلى بذل قصارى جهده للتكفیر عنها وتركها. فمثل هذا الحزن محبّذ لأنّه یقود إلى عمل أكثر ونشاط أكبر، وهو لا یشبه الحزن على الاُمور الدنیویّة الذی یورث الاكتئاب والتعاسة، بل إنّه یشكّل عاملاً لرقیّ الإنسان وسموّه.
فإذا حزن المرء الیوم على تفویت فرصة فسیدفعه حزنه هذا غداً إلى الإفادة بشكل أفضل من عمره. فإن تكرّر هذا الحزن فی یوم غد أیضاً فسیكون سبباً لاستعداده فی الیوم الذی یلیه. فإذا استمرّ هذا الحزن ما دام المرء على قید الحیاة فسیكون مدعاةً لأن یستفید أكثر من كلّ یوم من عمره وینال المزید من الكمالات. لهذا فكلّما زاد حزن الإنسان على ماضیه ازداد نشاطه ورقیّه وتكامله. إذن فالمقصود من «دوام الحزن» هو هذا الحزن. بطبیعة الحال إذا رحل المؤمن عن هذه الدنیا فلن ینتابه أیّ حزن؛ إذ یقول عزّ من قائل: «إِنَّ الَّذِینَ قَالُواْ رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَیْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخَافُواْ وَلا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِی كُنتُمْ تُوعَدُونَ»11؛ فالملائكة تتنزّل على أمثال هؤلاء فی ساعة الموت أو لربّما قبل هذه الساعة قائلة لهم ذلك وأنّكم من الآن فصاعداً ستكونون فی سرور تامّ وطمأنینة كاملة. فالمؤمن لا یغتمّ على ترك الدنیا، لأنّه یرى نعماً أعظم قد هیّأها الله تعالى له.
یقول العلیّ القدیر: إنّ الحكمة من تذكیرنا إیّاكم بوجود القضاء والقدر وقولنا: كلّ ما یقع إنّما هو مكتوب فی كتاب: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِیبَةٍ فِی الأَرْضِ وَلا فِی أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِی كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا»12 - الحكمة من ذلك هی: «لِكَیْلا تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَاكُمْ»13. نفهم من ذلك أنّه لا قیمة لفرح الدنیا وحزنها، إلاّ أن یكون وسیلة لسعادة الإنسان فی الآخرة.
الحزن من أجل الآخرة لا یتنافى بتاتاً مع باقی المسرّات. فإنّ من میزات الإنسان أنّه خُلق بهذه الصورة بحیث من الممكن أن یكون حزیناً وفرحاً فی آن واحد، وهو أمر عجیب. فمن حیث إنّ الإمام الحسین (علیه السلام) قد بلغ أعلى المقامات بشهادته فنحن فرحون، لكنّ ذلك لا یتنافى مع حزننا ولطمنا على رؤوسنا وصدورنا على ما نزل به وبأهل بیته (علیهم السلام) من المصائب. بل وإنّنا مسرورون من بكائنا علیهم أیضاً. وهذا الأمر لیدعو إلى العجب حقّاً؛ وهو أن یبكی الإنسان ثمّ یفرح لبكائه؛ فهو فرِح لأنّ الله سبحانه قد وفّقه لإحیاء عزاء أبی عبد الله الحسین (علیه السلام).
فالحزن من أجل الآخرة لا یتنافى على الإطلاق مع المسرّات التی یرضاها الله جلّ وعلا. فالذی ینجز تكالیفه الدنیویّة فإنّه سیشعر فی أعماق قلبه بالحزن حتّى فی المواقف التی تستلزم السرور والبهجة واللذّة الدنیویّة، وحزنه هذا نابع من حرمانه من التمتّع بالمزید من الكمالات الاُخرویّة التی نالها أولیاء الله.
أمّا السؤال الأخیر فهو: ما العلاقة التی تربط دوام الحزن بنور القلب؟ لقد علمنا بأنّ البُعد الإدراكیّ لقلب الإنسان قد تصیبه العتمة أحیاناً، وقد یصل إعتامه إلى درجة عمى القلب أیضاً. والعلّة من وراء هذه العتمة والظلمة هی ارتكاب المعاصی والغفلة، وإنّ روح جمیع هذه الاُمور تكمن فی حبّ الدنیا. أمّا إذا كان الإنسان ذاكراً للموت وحزیناً بسبب تفریطه بالفرصة تلو الفرصة فإنّ هذه الحالة ستغلق الباب أمام وساوس الشیطان وتفتح عین قلبه واُذنه وتجعل قلبه نورانیّاً. فآفة نور القلب هی حبّ الدنیا والتدنّس بالآثام واللذائذ الدنیویّة. والمراد من الدنیا هنا هو كلّ ما لا یحبّه الله عزّ وجلّ؛ وإلاّ فإنّ من لذائذ الدنیا ما هو واجب ویُثاب المرء علیه أیضاً.
إذن فدوام الحزن إنّما یزید من نورانیّة القلب من جهة أنّه یحفظ الإنسان من وساوس الشیطان.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. تحف العقول، ص286.
2. سورة الحجّ، الآیة 46.
3. «وَمَن كَانَ فِی هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِی الآخِرَةِ أَعْمَىٰ» (سورة الإسراء، الآیة 72).
4. سورة المائدة، الآیة 15.
5. سورة النور، الآیة 35.
6. سورة الأنعام، الآیة 122.
7. سورة الحدید، الآیة 28.
8. سورة الأنبیاء، الآیة 103.
9. سورة الأنعام، الآیة 29.
10. سورة القصص، الآیة 76.
11. سورة فصّلت، الآیة 30.
12. سورة الحدید، الآیة 22.
13. سورة الحدید، الآیة 23.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 18 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَتَحَرَّزْ مِنْ إِبْلِیسَ بِالْخَوْفِ الصَّادِقِ وَإِیَّاكَ وَالرَّجَاءَ الْكَاذِبَ فَإِنَّهُ یُوقِعُكَ فِی الْخَوْفِ الصَّادِقِ»1
إنّ من جملة المفاهیم التی تمّ التأكید علیها فی تعالیم الأنبیاء، لاسیّما القرآن الكریم ومن بعده روایات أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین)، وطُرحت حولها مباحث عدیدة هو مفهوم «الخوف» وفی مقابله مفهوم «الرجاء». وشبیه بالبحث الذی أوردناه حول الحزن فهناك بحث حول الخوف أیضاً. فقد أسلفنا إنّ الحزن - وفقاً للثقافة العالمیّة - هو أمر لا قیمة له ولا یتمتّع بأیّ مكانة بین القیم الإنسانیّة وإنّ علماء النفس یبذلون غایة وسعهم لإبعاد الإنسان عن كلّ ما یورثه الغمّ والحزن. وهناك حول الخوف ما یشبه هذا الكلام أیضاً. فقد شاهدتُّ یوماً یافطة كُتب علیها نقلاً عن علیّ أمیر المؤمنین (علیه السلام) قوله: «أعظم الذنوب الخوف»! ولا أدری ما هو مصدر هذا الحدیث، بید أنّه من المعروف أنّ الخوف مذموم فی علم النفس. كما أنّهم یؤكّدون فی العلوم التربویّة على ضرورة تربیة الطفل بحیث لا یخاف من أیّ شیء. وقد تكون لهذا الكلام صحّة فی الجملة؛ لكنّه مبهم. فإنّنا نشاهد فی المقابل بأنّ الخوف والخشیة وما یعادلهما تُذكر فی القرآن الكریم بعنوان كونها قیماً إیجابیّة ویتمّ التأكید على ضرورتها أیضاً. وبغضّ النظر عن الآیات التی تأتی على ذكر الخوف بصراحة فكلّما ذُكرت كلمة التقوى ومشتقّاتها تقریباً فإنّه یندرج فیها مفهوم الخوف أیضاً. فالوقایة تعنی حفظ النفس والتقوى هی أن یحفظ الإنسان نفسه من الخطر. فعندما یحاول الإنسان حفظ نفسه من شیءٍ مّا فذلك لأنّه یخشى ضرره، ومن هنا فإنّ كلمة «التقوى» تتعدّى أحیاناً إلى یوم القیامة كما فی قوله: «وَاتَّقُواْ یَوْماً تُرْجَعُونَ فِیهِ إِلَى اللهِ»2، كما قد استخدم «الخوف» فی آیة اُخرى لیعطی نفس المعنى أیضاً؛ وهو قوله: «یَخَافُونَ یَوْماً تَتَقَلَّبُ فِیهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ»3. وعلى أیّة حال فلیس ثمّة من شكّ فی أنّ للخوف والخشیة وما یشابههما منزلة خاصّة فی التعالیم الإسلامیّة.
وهنا یُطرح السؤال التالی: هل هناك تضادّ بین مفاهیم القرآن الكریم والمفاهیم العلمیّة المطروحة فی علم النفس؟ إذ یقول علماء النفس: یتعیّن على الإنسان أن یحاول أن لا یخاف من أیّ شیء. لكنّه هناك – فی المقابل - تأكید مبرم فی القرآن والسنّة على ضرورة الخوف من الله، ومن یوم القیامة، ومن العذاب الإلهیّ. فكیف لنا أن نجمع بین الاثنین؟
المقدّمة التی قدّمتها فی المحاضرة السابقة تنفع هنا أیضاً. فقد قلنا: إنّ ما خلقه الله تعالى فی وجود الإنسان لیس لغواً. فالخوف هو أیضاً حالة شعوریّة وانفعالیّة فی كیان الإنسان ولیس هو من قبیل اللغو، ولابدّ أن یُستخدم فی موضع معیّن. لكنّ المهمّ هو أن نفهم أین نستخدمه وممّن، أو من أیّ شیء یجب، علینا أن نخاف؟
وهنا نضیف مقدّمة اُخرى وهی أنّه لیس فی الله سبحانه وتعالى - ذاتاً - ما یوجب الخوف منه. فالله یتّصف بمنتهى الرأفة والرحمة. فالخوف من الله إذن یرجع لأنّه سبحانه لا یدع أعمالنا الاختیاریّة القبیحة من دون عقاب، طبعاً بشرط أن یكون الذنب كبیراً وأنّ صاحبه لم یتُب منه بل ویصرّ علیه أیضاً و...الخ. إذن فالخوف من الله عزّ وجلّ هو - فی الحقیقة - خوف من عقابه وعذابه. كما أنّ العذاب الإلهیّ لا یأتی عبثاً أیضاً فهو فی الحقیقة بمثابة ردّ نتیجة أعمال الشخص القبیحة له. فإنّ علّة ما یحیق بالإنسان من أشكال المصائب والمحن والحرمان والعذاب فی الدنیا والآخرة هی الذنوب التی یقترفها نفس الإنسان. إذن فما ینبغی أن نخاف منه - أصالةً - هو نفس ذنوبنا وخطایانا. ومن هنا فقد جاء فی الخبر: «لا یَرجوَنّ أحد منكم إلاّ ربّه ولا یخافنّ إلاّ ذنبه»4. ولهذا فإنّ زمان العقاب ومكانه یكون مخیفاً أیضاً. ومن هنا فإنّنا نقول تارة: نحن نخاف الله، ونقول تارة اُخرى: نحن نخاف من یوم القیامة، ونقول تارة ثالثة: نحن نخاف من جهنّم. وإنّ مآل جمیع ذلك فی الحقیقة إلى خوفنا من ذنوب أنفسنا.
یظنّ البعض أنّ للخوف والجُبْن نفس المعنى، فی حین أنّ الجبن هو صفة أخلاقیّة فی وجود الإنسان تجعله لا یجرؤ على الإقدام على مهمّات الاُمور. وهی صفة قبیحة تقع فی مقابل الشجاعة. أمّا الخوف فیغطّی طیفاً واسعاً من حالات الإنسان؛ فمرتبة من مراتب الخوف تكون غیر اختیاریّة، وهی ما یطلق علیها علماء النفس حالة انعكاسیّة؛ كأن ینتفض المرء عند سماعه لصوت عالٍ ومفاجئ. وهی حالة غیر اختیاریّة وغیر مذمومة إطلاقاً ولا یتعلّق بها أمر ولا نهی. أمّا المرتبة التی تلیها فإنّ لاختیار المرء وشعوره وتحلیله الذهنیّ أثراً طفیفاً فی ظهورها على الرغم من أنّها تحدث بسرعة فائقة، ویتعلّق بها الأمر والنهی أیضاً. یقول القرآن الكریم عندما واجه نبیّ الله موسى (علیه السلام) سحر السحرة: «فَأَوْجَسَ فِی نَفْسِهِ خِیفَةً مُّوسَىٰ»5. وقد جاء فی الخبر أنّ خوف موسى (علیه السلام) هذا كان من أن یرتعب الناس من هذا السحر فیضیع الحقّ. فإن كان الأمر كذلك فإنّ هذا الخوف كان قد حصل بعد تفكیر وتأمّل. وقد تصل مراتب الخوف إلى درجة توشك روحُ المرء فیها على الانفصال عن جسده. وكلمة الخوف تطلق على كلّ هذه المراتب.
هل الخوف هو حالة حسنة یا ترى؟ كما سبق أن قلنا فی المحاضرة الماضیة فإنّه لیس لأیّ من الخوف أو الحزن أو السرور حُسن أو قُبح من الناحیة الأخلاقیّة بذاته؛ بل إنّ الأمر یرتبط بالحال التی یظهر فیها وبالعامل المسبّب له وبكمّیته وكیفیّته. فالإنسان بشكل طبیعیّ یقلق عندما یشعر بالخطر أو یصیبه الضرر فتنتابه حالة من الخوف. فهذه الحالة فی حدّ ذاتها لیست هی فضیلة ولا رذیلة أخلاقیّة. لكنّه إذا تغلّبت هذه الحالة على المرء وأصبحت حالة ثابتة فیه وصار یخشى باستمرار من أن تُسلب منه النعمة الفلانیّة أو یفقد كرامته واحترامه عند الناس أو یُطرد من منصبه أو ما إلى ذلك فهی حالة سیّئة تعیقه عن أداء واجباته وتجعله دائم الاضطراب. أمّا إذا كان الخوف مساعداً على تكامل الإنسان روحیّاً ومعنویّاً وتقریبه إلى الله فهو خوف حسن. وهذه هی الحكمة من وجود الخوف عند الإنسان؛ وهی أن یحفظ المرءَ من الأخطار ویحول بینه وبین الوقوع فی أشراك الشیاطین والأعداء. فإنّ ما یحظى بأهمّیة عند المؤمن هو السعادة الأبدیّة، ولیس الاُمور الدنیویّة. إذن فخوف المؤمن یكون من تبعات أعماله فی عالم القیامة والتی تتجسّد فی جهنّم؛ فهو لذلك یخاف منها.
لكنّ الخوف من العذاب هو أوطأ مراتب الخوف عند المؤمن. فللمؤمنین - حسب مراتب إیمانهم ومعرفتهم - أشكال اُخرى من الخوف هی أعظم قیمة بكثیر من هذا الخوف؛ كالخوف من السقوط من عین الله تعالى. فالذین یشكون من ضحالة فی المعرفة لا یعرفون قیمة لطف الباری عزّ وجلّ، ولذا لا یحظى هذا الأمر بأهمّیة عندهم. فعندما یرید القرآن الكریم أن یوضّح عاقبة أهل الشقاء فإنّه یقول: «وَلا یَنظُرُ إِلَیْهِمْ یَوْمَ الْقِیَامَةِ»6. فهل فكّرنا یوماً بأنّه ما الذی سیحصل إذا لم ینظر الله إلینا یوم القیامة؟ وهل یتمتّع هذا الأمر بأهمّیة عندنا أساساً، أم إنّ المهمّ عندنا هو الحصول على نعم الجنّة؟ فالأطفال الذین یتمتّعون بفطرة سلیمة یدركون هذا النمط من العذاب؛ فإنّ أقسى أنواع العذاب للطفل هو أن تستاء اُمّه منه فلا تلتفت إلیه، لكنّ قلیلی المعرفة من الناس لا یدركون مثل هذه العلاقة مع الله، فكیف لهم أن یعرفوا ما الذی سیحصل إذا استاء الله منهم. لكنّه فی الیوم الذی یكونون فیه بحاجة لمثل هذه النظرة فسیدركون مدى شدّة العذاب الناجم من حرمانهم منها. فبعض عباد الله یخشون استیاء الله منهم وعدم تحدّثه إلیهم، ولا یخافون من جهنّم. وهذا أیضاً نمط من أنماط الخوف من الله. فكلّ مَن حاز حبّ الله فی قلبه كان خوفه من استیاء الله أكثر، وحتّى إذا كان متنعّماً بألطاف الله تعالى فإنّه یخشى انقطاع تلك الألطاف.
فإذا أمعنّا النظر فی أحوالنا وسلوكیّاتنا الاختیاریّة فسنلاحظ أنّ العامل من وراء حركاتنا ونشاطاتنا الاختیاریّة هو إمّا خوف الضرر أو رجاء النفع. وإنّ اختلاف الناس فی سلوكیّاتهم ناشئ عن اختلافهم فی تشخیص الضرر أو النفع؛ وإلاّ فأیّ تصرّف یقوم به أیّ امرئ فإنّ الغایة منه هو دفع ضرر ما عن نفسه أو جلب نفع ما لها. فلابدّ أن یكون أحد هذین العاملین الاختیاریّین مؤثّراً فی جمیع أفعالنا الاختیاریّة. حتّى العاشق فإنّه یشعر - بسبب سلوكه مع معشوقه - بلذّة عقلانیّة ولطیفة فی روحه وهو یسعى عن غیر وعی وراء هذه اللذّة. إذن فهو أیضاً یفتّش عن لذّة نفسه من خلال عدّة وسائط.
إذن فسلوكنا الاختیاریّ هو إمّا لدفع ضرر أو لكسب فائدة. فعندما نحتمل وجود الضرر تصدر منّا ردّة فعل طبیعیّة لهذا الاحتمال تدعى «الخوف». فالخوف إذن هو حالة طبیعیّة تحصل عند احتمال الضرر، ولا نكاد نجد فی عالم الطبیعة إنساناً لا یكون الضرر محتملاً بالنسبة له. أمّا بالنسبة للمؤمن فهناك أضرار أهمّ من تلك وهی الأضرار الاُخرویّة. ومن هنا فإنّ من أهمّ العوامل التی تدفعنا للمضیّ فی طریق الكمال هو الالتفات إلى الأضرار التی تهدّد سعادتنا الأبدیّة. فالالتفات إلى هذه الأضرار یوجب الخوف؛ وهو حالة الانفعال التی تحصل للإنسان فی مقابل احتمال الضرر. وإنّ تأكید القرآن الكریم على مفاهیم من قبیل الخوف، والخشیة، والتقوى، والوجل، والرهبة، وأمثالها ثمّ الإطراء علیها بأشكال شتّى یأتی من باب أنّ هذه الحالات هی أهمّ العوامل لحركة الإنسان التكاملیّة. وبالطبع فإنّ هذه الحالات تقترن برجاء النفع أیضاً، وإنّ كلا العاملین مهمّ؛ غیر أنّ تأثیر الخوف یفوق تأثیر الرجاء. نفهم من ذلك أنّ الخوف یُعدّ عاملاً مهمّاً من عوامل السعادة؛ هذا – بالطبع – إذا كان الخوف من الأخطار المعتنى بها، ولیس ثمّة من ضرر یمكن أن یُعتنى به بالنسبة للمؤمن أشدّ من الأخطار الاخرویّة؛ وهی الأخطار المتعلّقة بالساحة الإلهیّة المقدّسة. ومن هنا فلابدّ من تقویة هذا الخوف.
إنّ أفضل آثار الخوف من الأضرار الاُخرویّة هو حفظ المرء فی مقابل الشیطان. فعندما یرید الشیطان أن یوسوس للإنسان ویدفعه إلى اقتراف المعصیة فإنّه یزیّنها فی نظره بحیث یظنّ الإنسان أنّ فیها ألفَ درجة من اللذّة. وإنّ العامل الوحید الذی یمكنه جعل المرء یصمد فی وجه تزیینات الشیطان ویجعلها غیر ذات أثر علیه هو حالة الخوف من التبعات السیّئة للذنب التی تتمثّل، بالدرجة الاُولى، فی العذاب الاُخرویّ والحرمان من رضوان الباری عزّ وجلّ والسقوط من عین الله. فإن أردنا أن لا نقع فی أشراك الشیطان إلاّ قلیلاً، أو أن لا نقع على الإطلاق إن شاء الله، فإنّه یتعیّن علینا السعی وراء حالة الخوف الحقیقیّ. فإنّنا نتظاهر بالقول: إنّنا نخاف الله، لكنّنا عندما نتأمّل فی الموضوع جیّداً نلاحظ أنّ خوفنا من الله لیس جدّیاً. ومن ناحیة اُخرى فنحن ندّعی رجاء رحمة الله تعالى. فبعض المذنبین یقولون تبریراً لأعمالهم القبیحة: «إنّ رحمة الله واسعة وسیغفر لنا. نحن نرجو رحمة الله»! ونفس هذه التبریرات هی من تسویلات الشیطان أیضاً. فطالما أكّد النبیّ الأعظم وأئمّة أهل بیت العصمة والطهارة (صلوات الله علیهم أجمعین) على أنّ العدید من أشكال الخوف التی تدّعونها لیست هی من نوع الخوف الصادق، كما أنّ العدید من ألوان رجائكم لیست من صنف الرجاء الحقیقیّ، ولابدّ أن تجتهدوا لیكون خوفكم ورجاؤكم صادقین. فإذا كان المرء یخشى شیئاً فسیحاول الابتعاد عنه. فنحن نقول: إنّنا نخشى عذاب الله، لكنّنا نسعى لاقتراف الخطیئة. فأیّ خوف هذا؟! إنّه خوف كاذب. ومن جانب آخر فإنّنا ندّعی رجاء رحمة الله سبحانه. لكنّ الذی یرجو شیئاً فإنّه یحاول أن یبلغه بسرعة. وكلّما زاد رجاء المرء بشیءٍ مّا فسیزداد سعیه للوصول إلیه. لكنّنا إذا لم نسع وراء أمر ما فذلك بسبب استبعادنا لحصول النتیجة منه. فلو كنّا نأمل حقیقةً أنّه سیعطی النتیجة المرجوّة فسنبذل جهدنا للوصول إلیه بسرعة. فالذی یدّعی الرجاء ثمّ لا یمارس العبادة فهو یكذب؛ فكیف یبذل غایة المجهود لبلوغ الامور الاخرى التی یُرجى نیلها فی الدنیا فی حین أنّه لا یبذل أدنى جهد للظفر برحمة الله تعالى على الرغم من قوله: إنّنی أرجو رحمة ربّی؟! إذن فادّعاؤه هذا لا یعدو كونه كذباً.
یقول الإمام الباقر (سلام الله علیه) لجابر: «وتحرّز من إبلیس بالخوف الصادق وإیّاك والرجاء الكاذب فإنّه یوقعك فی الخوف الصادق»؛ فإن رُمتَ أن تُصان من شرّ الشیطان فعلیك بالخوف الصادق وتجنّب الرجاء الكاذب! لأنّه یوقعك فی موقف یستدعی منك الخوف الصادق. فإذا كان للمرء رجاء كاذب فی شیء؛ كأن یقول: إنّنی أرجو رحمة الله، ثمّ لا یسعى لكسبها، فسیوقعه هذا الرجاء الكاذب فی فخّ المعصیة التی ستجعله فی موقف یستلزم منه خوفاً صادقاً، أی العذاب. وقد تكرّرت عبارة: «الخوف الصادق» فی هذا المقطع مرّتین مع فارق بسیط بین الاثنین. فعندما یقول (علیه السلام): «وتحرّز من إبلیس بالخوف الصادق» فهو یقصد: حاول أن تستشعر خوفاً جدّیاً، وعندما یقول: «وإیّاك والرجاء الكاذب فإنّه یوقعك فی الخوف الصادق» فهو یرید: أنّ رجاءك الكاذب سیوقعك فی فخّ الخطیئة التی ستجعلك فی موقف یتطلّب منك خوفاً صادقاً. وكأنّ كلمة: «موقف» هی مقدّرة قبل عبارة: «الخوف الصادق» وقد حُذفت.
أعاذنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. تحف العقول، ص286.
2. سورة البقرة، الآیة 281.
3. سورة النور، الآیة 37.
4. نهج البلاغة، الحكمة 82.
5. سورة طٰه، الآیة 67.
6. سورة آل عمران، الآیة 77.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 19 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
نعزّی صاحب العصر والزمان (أرواحنا فداه) ومحبّی أهل البیت (علیهم السلام) جمیعاً بمناسبة استشهاد مولى الموحّدین أمیر المؤمنین (صلوات الله علیه وعلى أولاده المعصومین) ونسأل الله العلیّ القدیر ببركة هذه اللیالی العظیمة بحقّ أمیر المؤمنین (علیه السلام) أن تشملنا جمیعاً شفاعته یوم القیامة.
یقول الإمام الباقر (صلوات الله علیه) استمراراً لتوصیاته لجابر بین یزید الجعفیّ: «وَتَزَیَّنْ للهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالصِّدْقِ فِی الأَعْمَالِ وَتَحَبَّبْ إِلَیْهِ بِتَعْجِیلِ الإِنْتِقَالِ»1. ولتوضیح هذا المبحث لابدّ من مقدّمة.
إنّ من جملة حاجات الإنسان الفطریّة والتی تظهر فی فترة الطفولة هی حاجته إلى محبّة الآخرین. فالإنسان یحبّ أن یودّه الآخرون ویبدوا اهتماماً به. فأوّل من یتعرّف علیه الطفل ضمن محیط الاُسرة هما أبواه ولذا فهو یحاول أن یفعل ما یجلب انتباههما نحوه لیفوز أكثر بمحبّتهما. ثمّ یسعى فی المراحل التالیة من عمره أن یكون محبوباً بین أترابه فی محیط اللعب ولدى معلّمه فی المدرسة. وعندما یدخل إلى المجتمع فمضافاً إلى رغبته فی أن یحبّه الجمیع فهو یحاول جلب اهتمام أصحاب المناصب الأعلى به. وهذه حاجة فطریّة لدى الإنسان. أمّا الحكمة من هذه الرغبات الفطریّة - بالالتفات إلى ما بینّاه آنفاً من مراحل - فهی جلب انتباه الإنسان فی نهایة المطاف إلى الله عزّ وجلّ وإثارة رغبته فی أن یكون محبوباً عنده تعالى. لأنّه كلّما تعرّف المرء على أصحاب مناصب ومقامات أعلى أحبّ أن یكون محبوباً لدیهم، وهذا یستلزم أن تتولّد لدیه الرغبة فی أن یكون محبوباً عند الله إذا عرفه. وهو تدبیر أودعه الله جلّ وعلا فی خلقة الإنسان. فعندما یدرك المرء عظمة الله ویفهم مدى قیمة أن یكون محبوباً عنده فسیسقط الآخرون من عینه ولا یبقى فی مقابل العظمة الإلهیّة غیر المحدودة ما یستحقّ العرض إلاّ إذا كان ضمن شعاع الله عزّ وجلّ. وهذا یذكّرنا بقصّة غلام دون البلوغ عندما سأله رسول الله (صلّى الله علیه وآله) عمّا إذا كان یحبّه هو النبیّ أكثر أم الله؟ فأجاب: «الله الله الله یا رسول الله لیس هذا لك ولا لأحد فإنّما أحببتُكَ لحبّ الله»2. فإذا عرف المرءُ حقیقةَ عظمة الباری عزّ وجلّ فإنّ كلّ شیء سیفقد بریقه فی مقابلها ولن یكون لأیّ شیء قیمة إلاّ فی شعاع لطفه وعنایاته جلّ وعلا. ونحن أیضاً علینا أن نحبّ الله أكثر من أیّ شیء ومن أیّ أحد آخر وأن نبذل ما بوسعنا كی یحبّنا أكثر من أیّ شخص آخر. فإن لم یحبّنا الله فما جدوى محبّة الآخرین لنا یا ترى؟! فحبّ الآخرین لنا إمّا أن یكون فی حدود التسلیة أو یشكّل آفة ستتبهعا عواقب غیر محبّذة. وعلى أیّة حال فإنّ اتّجاه هذه المحبّة الفطریّة یكون نحو الله تعالى.
المقدّمة الاُخرى هی: قد یسعنا الادّعاء بأنّ جمیع المساعی التی یبذلها الإنسان لیكون محبوباً عند الآخرین إنّما تتلخّص فی قسمین: الأوّل التزیّن فی المظهر بحیث إذا رآه الطرف المقابل أحبّه ولم یشمئزّ منه. فلو ظهر المرء بمظهر فوضویّ وبدن أو لباس متّسخ وفاحت منه رائحة نتنة فلن یرغب أحد فی النظر إلیه فضلاً عن أن یحبّه. ولعلّ من جملة أسرار الآداب التی یذكرها الشرع عند الحضور فی بیئة اجتماعیّة هی عدم نفور الآخرین عند رؤیتهم للإنسان المؤمن.
لكنّ المظهر المزیّن والمرتّب لا یكفی لوحده لجلب محبوبیّة الآخرین. فمن أجل أن یصبح المرء محبوباً عند أحدٍ مّا فإنّه یحاول - مضافاً إلى اعتنائه بمظهره أن ینظّم سلوكه وتصرّفاته بشكل یجلب اهتمام الطرف المقابل نحوه كی لا یظنّ أنّه إنسان كسول متطفّل ولیس فی نیّته إلاّ استغلاله؛ بل إنّه یحاول أن یولّد فی نفسه انطباعاً بأنّه شخص ذو قیمة. وهذان الأمران یعملان بشكل طبیعیّ على جلب محبّة الآخرین.
فإذا أحببنا أن نكون أعزّاء عند الله تعالى فهل یتعیّن علینا أن نصفّف شعرنا ونشذّب لحیتنا مثلاً؟! كلاّ، فمن أجل أن نصبح محبوبین عند الله علینا أن نعثر على ما یناسبه جلّ وعلا من زینة؛ زینة یحبّها الله إذا نظر إلیها وتكون متماشیة مع ذوقه. یقول رسول الله (صلّى الله علیه وآله) فی حدیث شریف: «إنّ الله تبارك وتعالى لا ینظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ینظر إلى قلوبكم»3؛ فهو لا ینظر إلى نظافة وأناقة هندامكم بل إلى قلوبكم لیرى ما إذا كانت طاهرة ونورانیّة أم مدنّسة ومتعفّنة.
یقول الإمام الباقر لجابر: «تزیّن لله عزّ وجلّ بالصدق فی الأعمال»؛ فإن أحببت أن تتزیّن أمام الله سبحانه وأن تفعل ما یرغّبه فی النظر إلیك فعلیك أن تكون صادقاً فی أعمالك وأن تضع المكر والخدیعة مع الله جانباً. فمن المسلّم أنّ الناس یُخدعون بصور شتّى منها التملّق، والكذب، والوعد، والوعید، وما إلى ذلك. فالمخادعون یستخدمون كلّ ما هو قیّم فی المجتمع من أجل خداع الآخرین. بید أنّه من غیر الممكن من خلال هذه الأعمال النفوذ إلى حضرة الباری عزّ وجلّ؛ والسبب هو: «إِنَّ اللهَ عَلِیمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»4؛ فالله یعلم بما یختلج فی أعماق القلوب. فبمجرّد أن تخطر فی أذهاننا فكرة فإنّه عزّ وجلّ یكون حاضراً هناك ومطّلعاً على ما خطر فیها؛ ولهذا فمن المستحیل أن نخدعه. لكن ثمّة بعض الناس من یحاول خداع الله سبحانه؛ كما فی قوله: «یُخَادِعُونَ اللهَ»5 ویتصرّف بصورة توحی كأنّ الله لابدّ أن یصدّق كلامه ویقبله بكلّ بساطة فی حین أنّه محشوّ بالأكاذیب. إذن فإنّ الزینة التی یحبّ الله جلّ شأنه أن یراها فی سلوكیّاتنا هی الصدق.
كلمة: «الصدق» فی العربیّة، ولاسیّما فی القرآن، لا تُستخدم لقول الصدق فحسب، بل تستعمل للإنشاء، والوعد: «رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللهَ عَلَیْهِ»6، وغیرهما.
فإنّ لأعمالنا لساناً أیضاً وهی تتكلّم وتُظهر ما یجری فی خُلدنا. فقد لا یرغب الشخص نفسه فی أن یعلن هذا الكلام لكنّ تصرّفاته تفصح للآخرین عن المراد منها وما تعنی. ویقال فی مثل هذه الحالات: «لم یصدّق عملُه قولَه»؛ بمعنى أنّ هناك تناقضاً بین لسان العمل ولسان القول. إذن كلمة: «الصدق» تستعمل فی جمیع هذه الموارد. ومن هذا المنطلق یقول الإمام (علیه السلام): «تزیّن لله عزّ وجلّ بالصدق فی الأعمال»؛ أی كن صادقاً فی سلوكك وتزیّن لله بهذا العمل. وبالطبع فإنّ السلوك – بمعنى من المعانی – یشمل القول أیضاً؛ لأنّ القول هو الآخر عمل یصدر من الإنسان.
وبطبیعة الحال فكما ینبغی أن نكون صادقین مع الله، فلابدّ أن نكون صادقین مع الناس أیضاً، ولاسیّما مع المؤمنین، ولا ننتهج معهم اُسلوب الخداع والحیلة والنفاق. فالنفاق قد یصل أحیاناً إلى حدّ المعصیة، لكنّه یصل أحیاناً اُخرى إلى حدّ الكفر أیضاً؛ فالله تعالى یقول: «إِنَّ الْمُنَافِقِینَ فِی الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ»7. فحال المنافق عند الله تعالى هو أسوأ من حال الكافر؛ لأنّ المنافق، علاوة على الكفر، یلجأ إلى الخداع والحیلة وما یشابههما. فمن أجل أن لا یسقط الإنسان فی هذه المرتبة من النفاق فعلیه أن یحذر من الابتلاء بدرجاته الأضعف أیضاً. فإذا أراد الإنسان أن لا تزلّ قدمه فلا ینبغی أن یقترب من حافّة الوادی. وإنّ اجتناب المرتبة الاُولى من النفاق هی أن یحاول الإنسان أن یحمل أیّ عهد قطعه مع الله تعالى على محمل الجدّ حتّى وإن لم ینطق به بلسانه؛ فلا ینبغی أن ننسى ما قطعنا على أنفسنا مع الله من وعود، فهو عمل غایة فی القبح. وفی المرتبة التالیة فإنّه یتعیّن علیه الوفاء بالعهود التی یُعدّ الوفاء بها واجباً، وهو عندما ینطق بهذا العهد بلسانه كأن یعقد نذراً بقوله: «لله علیّ نذر أن أفعل كذا وكذا». فإنّ قبح مخالفة العهد فی مثل هذه الموارد أشدّ. أمّا المراتب الأعلى من ذلك فهی عندما یعطی الإنسان لله ولرسوله عهداً بأن یفدی نفسه وماله فی سبیل الله لكنّه ینكث عهده ویتراجع عن بیعته فیما بعد. فأیّ عمل هو أقبح من ذلك؟
یستخدم الله تعالى بخصوص مَن عاهد الله ثمّ نكث عهده معه مصطلح «الكذب» فیقول: إنّ بعض ضعیفی الإیمان من الناس قد قطعوا عهداً مع الله بأنّه إذا أعطاهم ثروة فإنّهم سیتصدّقون بنسبة كبیرة منها إلى الفقراء ویبذلونها فی أعمال الخیر. فأعطاهم الله الثروة لكنّهم لم یفوا بعهدهم: «وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ ءَاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِینَ * فَلَمَّا ءَاتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ»8. وعندها قال الله عزّ وجلّ: «فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِی قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ یَوْمِ یَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ یَكْذِبُونَ»9. فنتیجة خُلفهم للوعد مع الله تعالى وكذبهم فیما عاهدوا به فإنّهم قد ابتُلوا بالنفاق. فإذا عاهدتَّ الله على أمر فكن ثابتاً فی عهدك وإلاّ فستلقى عاقبة ذلك حتماً.
فعندما یُخلف المرء عهده مع الله تعالى؛ كأن یقول بلسانه: أنا اُؤمن بالله، لكنّ عمله یكذّب قولَه، فسیصبح وجهه قبیحاً عند الله تعالى. وكلّما أخلف المزید من الوعود اشتدّ قبح وجهه حتّى ینفر الله من النظر إلیه. فما من أحد یحبّ رؤیة الوجه القبیح، فما بالك بالقبائح التی تكون من العمق بحیث یبقى أثرها إلى یوم القیامة ولا تكون قابلة للعلاج.
إذن فلنحاول - إذا أخطأنا وبادرنا إلى خداع الله تعالى - أن نسارع إلى التوبة ولا ندع أثر هذه الأعمال یبقى أو تتراكم فوقها ذنوب اُخرى حتّى تتحوّل – شیئاً فشیئاً – إلى مَلَكة فیصبح علاجها أقرب إلى المحال. بالطبع لا ینبغی الیأس من رحمة الله فی أیّ حال، لكنّ علاج أثر المعصیة یكون أحیاناً بالغ الصعوبة.
وكما قلنا فإنّ الزینة لوحدها لا تكفی لنیل المحبوبیّة. فإن أحبّ المرء أن یحظى بمحبّة ثابتة عند الناس فعلیه أن یبدی تصرّفاً خاصّاً جدّاً تجاههم. فالتلمیذ الذی یفوز بحبّ معلّمه هو ذلك الذی ینجز واجبه المدرسیّ الذی یحتاج ساعة من الزمن فی نصف ساعة. أمّا ذلك التلمیذ المتقاعس الذی یؤخّر إنجاز واجبه لعدّة أیّام فإنّه یسقط من عین معلّمه.
یقول الإمام الباقر (علیه السلام) فی هذا الصدد: بغیة كسب حبّ الله عزّ وجلّ فعلاوة على تزیین أعمالك بالصدق «تحبّب إلیه بتعجیل الإنتقال». ولأُوَضّح هذا المقطع بآیة من الذكر الحكیم: فعندما انطلق موسى (علیه السلام) مع بنی إسرائیل إلى صحراء سیناء فقد وصل (علیه السلام) إلى المیعاد قبلهم. عندذاك بادره الله عزّ وجلّ بالقول: «وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ یَا مُوسَىٰ»10؛ لماذا سبقتَ قومك بالوصول إلى هنا؟ قال: «وَعَجِلْتُ إِلَیْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ»11؛ أی إنّنی بكّرت فی الوصول لتُسَرّ منّی. أو بتعبیر آخر: أحببت أن اُسارع فی خدمة مولای. فالإسراع فی خدمة المولى وإنجاز الواجب بسرعة من شأنهما أن یزیدا من محبوبیّة العبد عند مولاه. إذن فالإمام الباقر (سلام الله علیه) یقول لجابر: «إذا أحببت أن تكون محبوباً عند الله فعلیك أن تعجّل فی التحرّك»! وقد یكون التحرّك بمعنى القیام بعمل معیّن، كما أنّه قد یعنی أیضاً حركة الإنسان من درجاته الوضیعة للوصول إلى مرحلة الكمال أو عملیّة السیر إلى الله تعالى. فیكون المعنى: إذا رغبت أن یحبّك الله فعجّل بالحركة التی تنتهی إلى الله وتكون لأجله وفی مرضاته! «سَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ»12.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. تحف العقول، ص285.
2. إرشاد القلوب، ج1، ص161.
3. بحار الأنوار، ج74، ص90.
4. سورة آل عمران، الآیة 119.
5. سورة البقرة، الآیة 9.
6. سورة الأحزاب، الآیة 23.
7. سورة النساء، الآیة 145.
8. سورة التوبة، الآیتان 75 و 76.
9. سورة التوبة، الآیة 77.
10. سورة طٰه، الآیة 83.
11. سورة طٰه، الآیة 84.
12. سورة آل عمران، الآیة 133.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 20 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَإِیَّاكَ وَالتَّسْوِیفَ فَإِنَّهُ بَحْرٌ یَغْرَقُ فِیهِ الْهَلْكَى، وَإِیَّاكَ وَالْغَفْلَةَ فَفِیهَا تَكُونُ قَسَاوَةُ الْقَلْبِ، وَإِیَّاكَ وَالتَّوَانِیَ فِیمَا لا عُذْرَ لَكَ فِیهِ فَإِلَیْهِ یَلْجَأُ النَّادِمُونَ»1.
وصلنا فی المحاضرة الفائتة إلى حیث قال الإمام الباقر (صلوات الله علیه) لجابر بن یزید الجعفیّ: الزینة التی یحبّها الله هی الصدق، ولكی یحبّك الله فعلیك بالإسراع فی التحرّك؛ «وَتَزَیَّنْ للهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالصِّدْقِ فِی الأَعْمَالِ وَتَحَبَّبْ إِلَیْهِ بِتَعْجِیلِ الإِنْتِقَالِ»!
ویمكن تصوّر ثلاثة فروض فی مقابل السرعة فی إنجاز العمل: أوّلها تأخیر فعل الخیر وتأجیله إلى یوم غد أو بعد غد. وهو ما یذكّرنا باُولئك الذین كلّما جرى الكلام عن التوبة قالوا فی أنفسهم: «لم یحن أوان ذلك بعد. فلنقم بهذا العمل أوّلاً ثمّ نتوب بعد ذلك»! والنتیجة من هذا التأجیل ستكون إمّا حصول مانع من إنجاز العمل أو حلول الأجل وعدم إنجازه أساساً. وحالة الاستمرار فی تأجیل العمل هذه تسمّى «التسویف»، والظاهر أنّها مأخوذة من «سوف» التی تدلّ على المستقبل القریب. فالتسویف هو من حبائل الشیطان الخطرة التی إذا سقط فیها أحد فإنّه لا یخرج منها ولا یبلغ هدفه.
الحالة الثانیة هی الغفلة؛ بمعنى أنّ اُمور الدنیا تجعل الإنسان فی غفلة تامّة عن فعل الخیر. ففی حالة التسویف یكون الإنسان متنبّهاً إلى ضرورة إنجاز العمل، لكنّه یؤجّله باستمرار. أمّا فی الحالة الثانیة فالمرء یغفل تماماً عن أنّ هناك تكلیفاً یتحتّم علیه القیام به.
أمّا فی الحالة الثالثة فالإنسان یكون ملتفتاً إلى ضرورة الإقدام على فعل الخیر وهو یرید ذلك أیضاً لكنّه یُقدِم علیه فی حالةٍ من اللامبالاة والتثاقل. فعندما لا یشعر المرء بمیل كبیر إلى أمرٍ مّا فإنّه ینجزه بصعوبة وتثاقل بالغین. فعندما یقول الوالد لولده المتقاعس فی إنجاز واجباته المدرسیّة: قم واكتب واجبك المدرسیّ، فإنّه قد یذعن للأمر لكنّه یتوجّه إلى حقیبته المدرسیّة ببالغ الكسل ویستغرق وقتاً طویلاً فی إخراج كتبه منها، و...الخ. لكنّ تقاعس الإنسان یكون أحیاناً بسبب عذر معیّن؛ كأن یكون مریضاً بحیث لا یملك القدرة على إنجاز الأمر. فشخص كهذا یمكنه أن یعتذر فی مقابل الآخرین من جهة، ویقنع نفسه - من جهة اُخرى - بأنّه إذا حُرم من نفعٍ فهو بسبب عدم قدرته على نیله.
یقول الإمام الباقر (علیه السلام): «وإیّاك والتسویف فإنّه بحر یغرق فیه الهلكى»؛ حذار من أن یخدعك الشیطان وإیّاك والتسویف فی فعل الخیر، فالتسویف بحر یُغرق ویُهلك كلّ من یسقط فیه. وعلى الرغم من أنّ نصّ عبارة: «بحر یغرق فیه الهلكى» یختلف عما بیّناه، غیر أنّ هذا النوع من التعابیر ینطوی على عنایة أدبیّة؛ فالمعنى: إنّ مَن یسقط فی هذا البحر یغرق إلى حدّ الهلاك.
فالقرآن الكریم یقول: «سَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ»2؛ وهذا الأمر بالمسارعة والعجلة هو مصداق للجملة السابقة من الروایة وهو قوله (علیه السلام): «وتحبّب إلیه بتعجیل الإنتقال». فمن الجائز - على سبیل المثال - الإتیان بصلاة الظهر منذ وقت الزوال وحتّى قبیل الغروب. وإنّ مَن لم یصلّها فی أوّل وقتها لم یعص ربّه، لكنّ الصلاة فی أوّل الوقت فیها «رضوان الله». فإن عجّلنا وصلّیناها فی أوّل وقتها فسنحصل، مضافاً إلى المغفرة والتوبة، على رضا الله عزّ وجلّ؛ ذلك الرضا الذی كان یفتّش عنه موسى (علیه السلام) فی قوله تعالى: «وَعَجِلْتُ إِلَیْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ»3. فالتسویف فی مقابل هذه العجلة أو تقدیم الخدمة هو بحر لجّیّ متلاطم وإنّ المرء لینخدع ویظنّ أنّه قادر على خوض غماره والسباحة فیه، لكنّه ما إن یدخله حتّى یهلك.
الغفلة هی الحالة الاُخرى التی تقع فی الطرف المقابل للعجلة والمسارعة فی فعل الخیر. فالإنسان الغافل أساساً ینسى تكلیفه وینشغل بأمر آخر. یقول الإمام أبو جعفر الباقر (سلام الله علیه): «وإیّاك والغفلة ففیها تكون قساوة القلب». ویقول عزّ من قائل فی وصفه لحوار یدور بین المنافقین والمؤمنین فی یوم القیامة: «یُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ»؛ أی: یقول المنافقون للمؤمنین: ألم نكن معكم؟! بمعنى: ألم نكن أهل حیّ واحد، وروّاد مسجد واحد، ورفقاء فی الجهاد، و...الخ؟ فما الذی أوصلكم إلى كلّ هذه السعادة وأبقانا فی هذه الظلمة الحالكة؟ فیجیب المؤمنون: «قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِیُّ»4؛ أجل لقد كنتم معنا؛ لكنّكم كنتم تسوّفون فی الاُمور وتؤجّلون عملكم إلى غد وبعد غد، وتقدّمون رجلاً وتؤخّرون اُخرى، فاستولى الشكّ والریبة علیكم شیئاً فشیئاً. فقد أقررتم فی بادئ الأمر بضرورة الإتیان بهذه الواجبات لكنّكم كنتم تسوّفون فی الأمر فكانت النتیجة أن تولّد عندكم بالتدریج شكّ فی أصل هذه الواجبات وتساءلتم: هل إنّ القیام بها یُعدّ ضروریّاً أساساً؟ فغلبت علیكم الآمال والأمانیّ وخدعتكم وغرّتكم. وهذه هی سلسلة المراحل التی یمكن أن تطرأ على الإنسان فتزیح قدمه شیئاً فشیئاً عن مسیر الحقّ وتصرفه عنه. فمثل هذا الإنسان قد یفتح عینه فجأة فیرى نفسه قد انحرف بزاویة 180 درجة عن مسیر الحقّ.
یقول الله عزّ وجلّ فی آیة اُخرى: «أَلَمْ یَأْنِ لِلَّذِینَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا یَكُونُواْ كاَلَّذِینَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَیْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِیرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ»5. فإذا حُرم القلب لمدّة من إفاضة نور الهدایة علیه من قبل الله عزّ وجلّ وشغلته عوامل الغفلة بروتین الحیاة ورتابتها فسوف یفقد حالة الرقّة والانفعال ولا تعود حتّى الموعظة مؤثّرة فیه فینسى - شیئاً فشیئاً - أنّه من أجل ماذا خُلق أساساً؟ وإلى أین وجهته؟ ولماذا بُعث الأنبیاء؟ ومن أجل ماذا جُعلت منظومة الرسالة والإمامة والشهادة؟ وما إلى ذلك. وهذا النسیان والغفلة یقسّیان القلب ویجعلانه كالصخر. من أجل ذلك یقول (علیه السلام): «وإیّاك والغفلة ففیها تكون قساوة القلب»؛ فإیّاك والابتلاء بالغفلة والروتین واللامبالاة فهی من موجبات قساوة القلب.
ومع الأسف فإنّ الثقافة العالمیّة المعاصرة تتّخذ هذا المنحى؛ وهو محاولة نسیان كلّ ما یوجب الغمّ والهمّ والحزن والخوف وأمثالها وعدم التفكیر فیه والركون إلى اللامبالاة، فی حین أنّ الغفلة واللامبالاة من شأنهما أن یقسّیا قلب الإنسان فلا یعود قول الحقّ مؤثّراً فیه مهما سمعه.
أمّا فی الحالة الثالثة فالمرء لا یكون ناسیاً لتكلیفه ولا یسوّف فی أدائه بل هو یحاول الإتیان به لكنّه یؤدّیه بتثاقل وتكاسل. یقول الإمام (علیه السلام) فی هذا المورد: «وَإِیَّاكَ وَالتَّوَانِیَ فِیمَا لا عُذْرَ لَكَ فِیهِ»؛ لا تضعف عند أداء التكلیف الذی لیس لدیك أیّ عذر لتركه! فعندما یبدأ الإنسان العمل بتكاسل وتثاقل یكون الأمل فی نجاحه فیه ضعیفاً بل غالباً ما یتركه فی منتصف الطریق. فیا أیّها العزیز! إذا كنت تعرف تكلیفك، وتملك القدرة على العمل به، وقد اتّخذت القرار لأدائه، فلماذا هذا التكاسل والتثاقل إذن؟
كلّما قصّرنا وتوانینا ضاعت الفرصة من أیدینا. یقول مولانا أمیر المؤمنین (علیه السلام): «الفرصة تمرّ مرّ السحاب فانتهزوا فُرَص الخیر»6. فكما أنّ السحاب یمرّ بسرعة وأنّك لا تراه بعد ساعة إذا نظرت إلى السماء ثانیةً فإنّ الفرص تضیع من الید بهذه السرعة أیضاً. وعندما تضیع فرصة فعل خیر فإنّها لا تُعوّض بأیّ شیء. فإنّنا نستطیع - فی كلّ لحظة، ومن دون أن یلتفت أحد إلى ذلك، ومن غیر أن یحصل أدنى تغییر فی وضعنا الجسمانیّ – أن نوجّه قلبنا إلى الله تعالى وإلى أولیائه. فهذا العمل لا یتطلّب منّا أیّ مشقّة، بل هو حُلو وعذب لأنّ فیه ذكر الحبیب، وهو ینطوی على بركات جمّة للإنسان؛ فهو یدفع عنه البلاء، ویبعد عنه الشیطان، ویكمّل نقائصه، ویوفّقه فی اُموره. فالله جلّ وعلا یقول فی كتابه العزیز: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ اللهَ ذِكْراً كَثِیراً»7. ولیس بالضرورة أن یكون الذكر باللسان، بل إنّ أصل الذكر هو التفات القلب، إذ یقول عزّ من قائل فی آیة اُخرى: «فَاذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً»8، فهو لا یقول: «أو أكثر ذكراً»، بل یقول: «أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً»، وشدّة الذكر هی فی كیفیّته لا فی كمّیته. فكلّما زاد التفات المرء فی أثناء الذكر زادت شدّته. وهذا الأمر مقدور لنا جمیعاً. لكن هل إنّنا نشدّد من ذكرنا لله فی أوقات فراغنا یا ترى؟ فبعض الناس إذا فرغوا لبعض الوقت تطرأ على أذهانهم آلاف الأفكار المضطربة والخاطئة، وسوء الظنّ بالآخرین، والتخطیط لاُمور الدنیا، وما إلى ذلك، فإن لم یفكّروا بأیّ شیء من ذلك، سلّوا أنفسهم بحلّ الكلمات المتقاطعة، أو مشاهدة فلم، أو شیء من هذا القبیل. لكنّهم، وعلى الرغم من كلّ ما یحمله ذكر الله وأولیائه من البركة، فإنّهم لا یذكرون الله ولو للحظة. فكم كان علماؤنا العظام یوصون بقراءة القرآن وكم كانوا ملتزمین بقراءته؟ فلنقرأ ولو صفحة واحدة من القرآن الكریم فی وقت فراغنا. فلقد كان الإمام الخمینیّ الراحل (رضوان الله تعالى علیه) مع كلّ ما یشغله من أعمال ومسؤولیّات حریصاً على قراءة القرآن بضع مرّات فی الیوم واللیلة. فما بالنا ونحن نملك الفرصة، وأبداننا سلیمة معافاة، وأعیننا لا تشكو أیّ مشكلة؟! فإنّ علینا أن نقرأ القرآن ما استطعنا. بید أنّنا نتقاعس عن ذلك. هناك مضمون ورد بشكل مستفیض فی الروایات ولعلّنا إذا فتّشنا مصادر الشیعة والسنّة وجدناه متواتراً أیضاً، وهو أنّ الله یغرس فی الجنّة شجرة لكلّ من یتلو التسبیحات الأربع9. إذن نحن نستطیع فی كلّ لحظة أن نغرس لنا شجرة فی الجنّة، لكنّنا نفرّط بهذه الفرص بكلّ سهولة. فكلّ ألوان الكلمات تصدر من أفواهنا لكنّنا نتوانى عن تسبیح الله عزّ وجلّ. وهذه الحالة إنّما تدلّ على تسلّط عامل آخر علینا وهو ما یُدعى فی الأدب الدینیّ «الشیطان». فلماذا ینبغی للإنسان أن ینخدع إلى هذا الحدّ بموجود قد أخبر الله سبحانه عمّا یضمره من عداوة وبغضاء لابن آدم؟! فالله عزّ وجلّ یقول: «إِنَّ الشَّیْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً»10.
إذن علینا أن نشمّر عن سواعدنا ونبدأ بالاُمور الصغیرة كی نتمكّن من استغلال أعمارنا؛ ذلك أنّنا سنفتح أعیننا ذات یوم لنرى أنّنا قد فرّطنا بكلّ الفرص. فنحن – ولله الحمد - حریصون جمیعاً على أداء الصلاة لكن لماذا كلّما دخل وقت الصلاة بادرنا - كلّ حین - إلى اختلاق أیّ عذر لتأخیرها؟ فساعة بحجّة تناول الطعام، وساعة بذریعة الاستراحة، وساعة بحجّة مشاهدة الأخبار أو فلم عبر التلفزیون، حتّى یشرف الوقت على نهایته فنصلّیها فی آخره! أیّها الإخوة والأخوات الأعزاء! صلّوا فریضتكم التی لا تستغرق أكثر من بضع دقائق فی أوّل وقتها ولا تسمحو للشیطان أن یخدعكم.
یقول الإمام الباقر (علیه السلام): «إیّاك والتوانی فیما لا عذر لك فیه فإلیه یلجأ النادمون»، وهناك احتمالان فی معنى هذا القول، وإنّ التفسیر الأَولى فی نظری هو أنّ الضمیر «إلیه» یعود إلى «العذر»؛ بمعنى: عندما یندم الناس یلجأون إلى العذر. فعندما یندم المرء بسبب عدم إنجاز أمر مّا أو یوبّخه الآخرون على ذلك فإنّ بإمكانه اللجوء إلى العذر إن كان لدیه عذر. لكنّك سلیم معافىً ولیس من مانع یمنعك من الإتیان بفعل الخیر فلماذا التقصیر؟! فجعل القلب ملتفتاً إلى الله لا یحتاج إلى جهد بدنیّ، ولا إلى إنفاق مال، ولا إلى شدّ الرحال والسفر؛ إذن فلماذا نتوانى عن ذلك؟!
فبعد أن یبیّن الإمام (علیه السلام) السبیل إلى الفوز بحبّ الله عزّ وجلّ فإنّه یتبعها بالاُمور الآنفة الذكر. فهو (علیه السلام) یقول فی العبارة السابقة: إذا أرَدتَّ الظفر بمحبّة الله فعجّل فی حركتك وفی القیام بالخیرات! ثمّ یقول بعد ذلك: وإیّاك فی مقابل ذلك أن تُبتلى بالتسویف وتأجیل الخیر إلى غد أو بعد غد حتّى ینتهی الأمر إلى ترك عمل الخیر تماماً أو الابتلاء بالغفلة التی تؤدّی - من الناحیة العملیّة - إلى ترك الخیر أیضاً، مضافاً إلى ما ینجم عنها من قسوة القلب. لكنّك إن لم تكن من أهل الغفلة وكنت عازماً على الإتیان بفعل الخیر، فاحذر من التوانی والتكاسل فیه وأسرع فی إنجازه.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. تحف العقول، ص285.
2. سورة آل عمران، الآیة 133.
3. سورة طٰه، الآیة 84.
4. سورة الحدید، الآیة 14.
5. سورة الحدید، الآیة 16.
6. نهج البلاغة، الحكمة 21.
7. سورة الأحزاب، الآیة 41.
8. سورة البقرة، الآیة 200.
9. عن رسول الله (صلّى الله علیه وآله): «... قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر فلیس منها كلمة تقولها إلاّ غرس الله لك بها شجرة فی الجنّة»، (مجموعة ورام، ج1، ص68). وعن أبی جعفر (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلّى الله علیه وآله): مَن قال: سبحان الله، غرس الله له بها شجرة فی الجنّة. ومن قال: الحمد لله، غرس الله له بها شجرة فی الجنّة. ومن قال: لا إله إلاّ الله، غرس الله له بها شجرة فی الجنّة. ومن قال: الله أكبر، غرس الله له بها شجرة فی الجنّة»، (وسائل الشیعة، ج7، ص186).
10. سورة فاطر، الآیة 6.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 21 آب 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَاسْتَرْجِعْ سَالِفَ الذُّنُوبِ بِشِدَّةِ النَّدَمِ وَكَثْرَةِ الاسْتِغْفَارِ، وَتَعَرَّضْ لِلرَّحْمَةِ وَعَفْوِ اللهِ بِحُسْنِ الْمُرَاجَعَةِ، وَاسْتَعِنْ عَلَى حُسْنِ الْمُرَاجَعَةِ بِخَالِصِ الدُّعَاءِ وَالْمُنَاجَاةِ فِی الظُّلَم»1.
یبدو أنّ الإمام الباقر (صلوات الله علیه)، بعد إشارته إلى الفضائل الإنسانیّة والمقامات التی جعلها الله تعالى للإنسان والسبُل التی توصله إلى تلك الفضائل والكمالات – یبدو أنّه قد التفت إلى أنّ هذه الوصایا تنفع للمستقبل، إذن فماذا نصنع للماضی؟ ومن هنا فإنّه (علیه السلام) یقول هنا: «تصفّح صحیفة ما سلف من ذنوبك وحاول أثناء هذا التصفّح أن تستشعر ندماً شدیداً وتستغفر الله كثیراً. ومن أجل أن تكون فی معرض رحمة الله تعالى وعفوه حاول تغییر منهج حیاتك والتوجّه نحو الله عزّ وجلّ. ولكی تكلَّل جهودك بالنجاح فی هذا الطریق فاعمل على الاستعانة بالدعاء والمناجاة فی غیاهب الظلمات».
ولعلّ فی تقارن ذکر هذه الكلمات مع لیالی القدر المباركة وسیلة لحثّ المرء على تخصیص ساعة من وقته لیختلی إلى نفسه مراجعاً ماضیه ومقلّباً صفحاته ما أمكن، ولیكن ذلك فی ظلام اللیل الدامس كی لا یشغل فكرَه شیءٌ قطّ. فلیستحضر فی مخیّلته كلّ ما اقترفه - من زمان بلوغه إلى الآن - من معاصی ولیسجّلها إن أمكن. فإذا استطاع المرء على الأقلّ أن یتذكّر بعض ذنوبه التی لا یرغب حتّى بتذكّرها من شدّة قبحها ویدوّنها فإنّ فی ذلك فائدة عظیمة؛ لأنّ ذلك أبلغ فی تجسید قباحة أعماله وتصویر كثرة ذنوبه فی عینه. ثمّ یسأل بعد ذلك نفسه السؤال التالی: «ما الذی كان بمقدوری صنعه من الصالحات عوضاً عن ذلك ممّا كان من شأن كلّ عمل منها أن یتسبّب فی غفران خطیئاتی ورفع درجاتی»؟ فیسجّل هذه الأعمال فی عمود آخر فی مقابل الأوّل. فلعلّ من شأن هذا العمل أن یولّد فی نفس المرء حالة من الندم الشدید؛ بالضبط كالرجل الثریّ الذی كان یملك ثروات ضخمة وكان بإمكانه الانتفاع منها لجنی ربح عظیم لكنّ النیران شبّت فیها دفعة واحدة، فما الذی سیكون علیه حالُه یا ترى؟! فإنّ مجرّد تخیّل الإنسان كیف أنّه لم ینتفع من رأس ماله كما ینبغی، بل إنّه قد فعل به ما أدّى إلى اشتعال النیران فیه واحتراقه هو نفسه فیها – نقول إنّ تخیّل هذه الحال یولّد فی نفس الإنسان منتهى حالة الانقطاع والندم ویبعث فی نفسه الاستعداد للتوبة إلى الله توبة نصوحاً. فالتوبة تستدعی ندم المرء على ماضیه بصورة تدفعه إلى اتّخاذ قرار حاسم بعدم تكرار هذه الأفعال القبیحة ثانیةً، وبالاستعاضة عنها بأعمال صالحة.
لكنّ المشكلة تكمن فی أنّ المذنب قد تعوّد على الذنوب وذاق حلاوة المعصیة فلا یستطیع ببساطة أن یتّخذ قراراً بتركها جمیعاً. بالطبع كلّما حاول التفكیر أكثر بما فرّط به من رأس مال وأمعن فی تجسید ما یشكوه من حالة البؤس والشقاء زاد لذلك ندمه وترسّخ عزمه على تغییر مسیرة حیاته. وهنا یقول إمامنا الباقر (علیه السلام): «من أجل أن تتمكّن من تنفیذ هذا القرار على أرض الواقع وتنجح فی تغییر مسیرة حیاتك فعلیك بالدعاء والمناجاة فی الظلام»! فعندما یصمّم المرء على عدم العودة إلى ارتكاب المعاصی ولكی یأمن من خداع الشیطان له مرّة اُخرى فما علیه إلاّ الاستعانة بالله ومدّ ید الحاجة والمسألة والتضرّع إلیه عزّ وجلّ.
فلیس من السهل أن یقرّر المرء تغییر مسیر حیاته وترك كلّ خطیئاته وانتزاع قلبه من جمیع تعلّقاته وأن یوجّه وجهه لله وحده، فهو بحاجة إلى مَن یساعده على ذلك، وإنّه لابدّ أن یتذوّق من اللذّة ما یصرفه عن لذّة الذنب. فنحن نقرأ فی المناجاة الشعبانیّة التی هی أفضل مناجاة وردت عن أهل البیت (علیهم السلام): «إلهی لم یكن لی حولٌ فأنتقل به عن معصیتك إلاّ فی وقت أیقظْتَنی لمحبّتك»2؛ أی: لم تكن لی قدرة على الكفّ عن المعصیة إلاّ عندما أذقتنی محبّتَك وعرّفتنی بها. فالحقیقة هی أنّ المرء ما لم یذق لذّة أسمى وأفضل فإنّه لا یكفّ عن اللذّة الأدنى. والإنسان تارةً یظفر بهذه اللذّة الأسمى بشكل فوریّ ونقداً، وتارةً اُخرى تكون أمراً مستقبلیّاً یتعیّن على المرء التفكیر به. فأمّا الشكل الثانی فلا یكون له فی العادة مفعول یُذكر، فالإنسان عادةً ما یمیل إلى اللذّة الملموسة المعطاة بشكل نقدیّ. ومن هنا فإنّه إذا أذاق الله الإنسانَ قبل یوم القیامة حلاوةً آنیّة تفقد معها كافّة أشكال الحلاوة الاُخرى طعمها فی ذوقه، وأراه جمالاً تتلاشى فی مقابله أنوار كلّ ألوان الجمال، فسیكون من السهل علیه فی هذه الحالة أن یكفّ عن المعصیة. ولهذا یقول الإمام (علیه السلام): «من أجل أن تتوب عن السبیل الخاطئة توبة نصوحاً وتهتدی إلى جادّة الصواب وتستمرّ فیها فاستعن بالدعاء، المناجاة فی الظُّلَم». فإذا منح الله تعالى أحداً توفیق الاُنس به وذاق الأخیر حلاوة مناجاة ربّه فسیُقلع عن اقتراف الذنوب بكلّ سهولة ولن تعود للخطیئة جاذبیّة فی نظره. فالمرحوم آیة الله بهجت یقول: «لو علم ملوك العالم ما فی الصلاة من لذّة لتركوا لذّات سلطانهم وهرعوا نحو الصلاة». كما ونُقل عن المرحوم العلاّمة القاضی (رضوان الله تعالى علیه) قوله أیضاً: «لو لم تكن فی الجنّة صلاة فعلامَ أطلبُ الجنّة إذن»؟ إذن یتعیّن علینا نحن كذلك أن نبعد عن أنفسنا موانع الاُنس بالله جلّ وعلا ومناجاته.
إنّ ما یمنع المرء من تذوّق حبّ الله هو التعلّقات الدنیویّة. فقد جاء فی حدیث المعراج عن قول الله تبارك وتعالى لنبیّه (صلّى الله علیه وآله): «یا أحمد! لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض و... ثمّ أرى فی قلبه من حبّ الدنیا ذرّة أو سُمعَتها أو رئاستها أو صیتها أو زینتها لا یجاورنی فی داری ولأَنزِعَنّ من قلبه محبّتی (ولأُظلِمَنّ قلبَه حتّى ینسانی ولا اُذیقه حلاوة محبّتی)»3.
وإنّ لحبّ الدنیا مراتبَ؛ فبعض مراتبه مباح لا إشكال فیه، وهو عندما لا یزاحِم التكالیف الشرعیّة ولا یستلزم فعل الحرام. لكنّ نفس هذه المرتبة قد تحجب المرء عن الاُمور الأفضل منها. أمّا المراتب الأشدّ من حبّ الدنیا فقد تجرّ الإنسان شیئاً فشیئاً إلى حیث عدم الإباء عن ارتكاب المحرّم، والاستعداد لتضییع حقوق الآخرین، واستساغة التطاول على بیت المال، وإشاعة الفتن، وعدم التوانی عن ارتكاب آلاف الكبائر من أجل التشبّث بضعة أیّام اُخرى بكرسیّ الرئاسة. ومن أجل الحیلولة دون وقوعنا فی هذه الورطة یتحتّم علینا قمع میلنا نحو الدنیا كلّما أحسسنا بتزاید فی هذا المیل.
فإذا أحسّ المرء بازدیاد نزوع نفسه نحو المال فعلیه أن ینفق فی سبیل الله من أمواله التی كسبها بعناء: «لَن تَنَالُواْ الْبْرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ»4 وإنّ أرضیّة الإنفاق فی هذه الأیّام مهیَّئة بوفرة. فإن لم ینتهز المرء هذه الفرصة فی حدود ما یُسّر له فهو خاسر.
فإن كانت المیول الحیوانیّة والشهوانیّة للإنسان جامحة فلابدّ أن یحدّ من انتفاعه المحلّل منها كی یحول دون تجرّؤ نفسه على طلب الحرام. فعلى المرء بغیة التخلّص من النظرة المحرّمة أن یتغاضى حتّى عن بعض النظرات المحلّلة أیضاً. فهل من الضروریّ یا ترى أن یمدّ الإنسان عینه إلى كلّ شیء؟! فینبغی له أن یغضّ طرفه عن كلّ موضع یتوقّع أن ینجرّ إلى الحرام من خلال النظر إلیه.
أمّا نحن طلبة العلوم الدینیّة فتقع على عاتقنا مسؤولیّة أعظم؛ إذ یتعیّن علینا إنذار الآخرین من هذه الاُمور وتعریفهم بالمعارف الدینیّة والأخلاق الإسلامیّة وردع الناس عن التعلّق بالدنیا. فإن أصابنا نحن بعض الدنس – لا قدّر الله – فإنّنا سنكون قد ارتكبنا ذنباً مضاعفاً أوّلاً، ولن یعود حدیثنا ذا أثر على الآخرین ثانیاً. وهنا تكمن التفاتة لا بأس أن اُوضّحها من خلال الاستشهاد بحدیث شریف. وأقول من باب المقدّمة: إنّ كِبَر أو صِغَر الذنوب الاجتماعیّة یعتمد إلى حدّ كبیر على المكانة الاجتماعیّة التی یتمتّع بها الشخص. فكلّما زادت حساسیّة مكانة المرء فی المجتمع زاد ثوابه على أعماله الصالحة وتضاعف إثمه وعقابه على ارتكاب المعصیة. یقول القرآن الكریم فی هذا الصدد مخاطباً نساء النبیّ (صلّى الله علیه وآله): «یَا نِسَاءَ النَّبِیِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَیْتُنَّ»5؛ فإن اتّقیتُنّ الله كان ثوابكنّ ضعف ثواب غیركنّ، وإذا عصیتُنّه فإنّ إثمكنّ أعظم أیضاً. ویقول الإمام الصادق (علیه السلام) فی هذا الباب: «یُغفَر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن یُغفَر للعالِم ذنب واحد»6. فالذین لم یوفَّقوا إلى الإحاطة بمعارف الدین ولم تَبلغهم علومُه یُغفَر لهم بسهولة إذا ارتكبوا المعصیة. أمّا الذی أمضى عمره مع الكتاب والسنّة ونبَت لحمه وصَلُب عوده من بیت المال ومن بركات أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین) فإنّ ذنبه لا یساوی ذنب غیره، وكلّما زاد التفات الناس إلیه واهتمامهم به تضاعفت حساسیّة أفكاره وأعماله بالتبع. یروی إمامنا جعفر الصادق (علیه السلام) حدیثاً قدسیّاً فی هذا الصدد یقول فیه: «أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود (علیه السلام): لا تجعل بینی وبینك عالِماً مفتوناً بالدنیا فیصدَّك عن طریق محبّتی فإنّ أولـٰئك قُطّاع طریق عبادی المریدین. إنّ أدنى ما أنا صانع بهم أنْ أنزع حلاوة مناجاتی من قلوبهم»7؛ فسواءٌ أشِئنا أم أبینا فإنّ هناك وسائطَ یكونون بین العباد وربّهم؛ ذلك أنّ عامّة الناس إنّما یأخذون دینهم من العلماء، والعلماء یأخذون علمهم من الأئمّة والأنبیاء (علیهم السلام)، ولذا یشكّل هؤلاء الوسائط بین الله وعباده. وفی هذا الحدیث یعظنا الباری عزّ وجلّ بضرورة توخّی الدقّة فی اختیارنا للوسائط والنظر فیمن نأخذ منهم دینَنا. فحذار من أن توسِّطوا بینی وبینكم عالِماً مُحبّاً للدنیا، لأنّ أمثال هؤلاء العلماء إنّما هم قُطّاع طرق یصدّون عبادی عن التوجّه إلیّ. فالارتباط بمثل هؤلاء العلماء یوجب الغفلة عن ذكر الله تعالى؛ لأنّ ما سیشاهده الناس فی سیرة هؤلاء هو حبّ الدنیا والتعلّق بها والشهوة إلى المال والمنصب والشهرة. والناس بالطبع سیتعلّمون هذه الاُمور منهم ویسیرون فی إثرهم على نفس الدرب. فإن حدث ذلك فإنّ أقلّ ما أنا صانع بهؤلاء هو أنّنی سأسلبهم محبّتی (فإمّا محبّتی وإمّا حبّ الدنیا) وأنزع منهم - تبعاً لذلك - حلاوة مناجاتی.
وبناءً علیه فإنّ على من یفتّش عن حلاوة المناجاة مع الله تعالى أن یحدّ من تعلّقاته الدنیویّة. بل علیه أن یغضّ طرفه حتّى عن الاُمور غیر المحرّمة كی لا تحلّ محلّ حبّ الله عزّ وجلّ؛ ذلك أنّ القرآن الكریم یقول: «مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَیْنِ فِی جَوْفِهِ»8؛ أی: لا یمكن الجمع بین حبّین متضادّین فی قلب واحد. فإن كان أحد الحبّین هو بمثابة شعاع للحبّ الآخر؛ كحبّ أهل البیت (علیهم السلام) بالنسبة لحبّ الله تعالى، فلا تنافی بینهما حینئذٍ؛ ذلك أنّ الأوّل هو شعاع نفس ذاك المنبع وهو ناشئ من المصدر نفسه. أمّا إذا أردتَّ أن یشرق حبّ الله فی قلبك فعلیك أن تُخرج حبّ الدنیا منه. فیتعیّن علیك فی بادئ الأمر أن تحاول جهدك أن لا تتذوّق لذّة المعصیة؛ لأنّ المرء إذا تذوّق الذنب فسیحبّه. فالإنسان یحبّ ما یلتذّ به. ومن هنا فإنّ ترك المرء للذنب یساعد على عدم التعلّق به؛ ذلك أنّه لم یذق طعمه. وفی مثل هذه الحالة فإنّه سیوفَّق إلى المناجاة والدعاء والاُنس مع الله جلّ وعلا، وكما قال الإمام الباقر (علیه السلام) فإنّ بإمكانه أن یوفّق إلى التوبة عن طریق الدعاء والمناجاة فی ظلمات اللیل. ففی مثل هذه الظروف یودّ المرء لو یناجی محبوبه وهو مختَلٍ به ولا تعود المناجاة والدعاء ثقیلین بالنسبة له. فعندما یحبّ المرء أحداً حبّاً عظیماً فإنّه یرغب أن یراه بمفرده ویتجاذب معه أطراف الحدیث، وأن یسمع كلامه، ویطیل النظر إلیه.
فعندما یتذوّق العبد حلاوة المناجاة یودِع الله تعالى فی قلبه جاذبیّة ویجذبه نحوه بصورة یودّ لو طالت هذه المناجاة وهذه الحالة سبعین سنة.
فما أحسن أن نعمل فی هذه اللیالی بتوصیات الإمام الباقر (علیه السلام) وأن نبدأ من حیث یقول (سلام الله علیه): «استرجع سالف الذنوب»؛ أی أن نتصفّح سجلّ ذنوبنا ونفكّر فیما فعلنا من قبائح وما ابتُلینا به من مآسی بسبب استمرار تبعات الذنب والتفریط بالعبادات وأعمال الخیر. فللننظر كیف فرّطنا برؤوس أموالنا وكیف نقبع الیوم – حتّى ولو كنّا لا ندرك ذلك – فی وسط نار جهنّم ولیس لأیّ أحد إلاّ الله أن یهبّ لنجدتنا ویغیثنا. فیوم القیامة هو ذلك الیوم الذی سیفرّ فیه كلّ امرئ من الآخر وسیتورّط كلّ امرئ بتبعات أعماله: «وَاتَّقُواْ یَوْماً لا تَجْزِی نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَیْئاً»9، وسینشغل كلّ شخص بنفسه: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ یَوْمَئِذٍ شَأْنٌ یُغْنِیهِ»10. فإن حاول الإنسان تجسید هذه الوقائع فی مخیّلته فستحصل عنده حالة من الندم الحقیقیّ وسیعزم جرّاء ذلك على ترك المعصیة وتدارك الماضی. وعندها سیهبّ الله لنصرته ویمنحه حال مناجاته ویذیقه حلاوة محبّته. فإن تذوّق العبد حلاوة مناجاة ربّه فسینجح فی جبران ماضیه ویفید إفادةً قصوى من مستقبله.
رزقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. تحف العقول، ص285 - 286.
2. الإقبال، ص686.
3. مستدرك الوسائل، ج12، ص 36.
4. سورة آل عمران، الآیة 92.
5. سورة الأحزاب، الآیة 32.
6. بحار الأنوار، ج2، ص27.
7. بحار الأنوار، ج2، ص107.
8. سورة الأحزاب، الآیة 4.
9. سورة البقرة، الآیة 48.
10. سورة عبس، الآیة 37.