هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین فی شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ یوم 13 آب 2010م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
نبارك لجمیع محبّی الإسلام ونهنئهم بحلول شهر رمضان المبارك سائلین العلیّ القدیر بحقّ الوجود المقدّس لولیّ العصر (أرواحنا فداه) أن یشملنا جمیعاً فی هذا الشهر الشریف بعنایاته الخاصّة.
لقد اقتُرح علینا التطرّق إلى بحث خطبة السیّدة الزهراء(علیها السلام) فی هذا الشهر الفضیل وكذا فی السنة القادمة إن شاء الله تعالی. فی الحقیقة منذ أكثر من 25 عاماً وأنا أحضر فی خدمة الأخوة الأعزّاء من طلبة العلوم الدینیة وغیرهم أحیاناً فی كلّ لیلة خمیس لنستعرض آیات من الذكر الحكیم وأقوال عن أهل البیت (علیهم السلام) آمل من خلالها أن أحظى بلیاقة نیل شفاعتهم(علیهم السلام). إنّه لطالما راودتنی فكرة الخوض فی بحث حول كلمات السیّدة الزهراء(علیها السلام)؛ لكنّ الذی كان یمنعنی من ذلك غالباً هو شبهة أنّ طرح خطبهاقد یثیر حساسیّة الاُخوة من أهل السنّة بل قد یؤجّج المزید من الخلاف؛ لكن بعدما تمّ توثیق خطبة السیّدة فاطمة الزهراءهذا العام وطُبعت ونُشرت بأعداد ضخمة، وبعد أن أیّدها وأمضاها مراجع التقلید العظام (حفظهم الله) فقد تبادر إلى ذهنی فی مقابل ذاك السؤال سؤال آخر وهو أنّه: بعد انتشار هذه الخطبة بین عامّة الناس، فهل یبقى هناك مبرّر معقول للإعراض عن شرحها وبیانها؟ أساساً كیف یمكن تحقّق تلك «الوحدة» التی هی مطلوبة أصلاً؟ هل لابدّ أن تبقی الكثیر من الحقائق فی طیّ الكتمان ولربّما تجابَه بالإنكار بعد تقادم العصور؟ أم إنّه ینبغی للمسائل العلمیّة التی تتطلّب البحث والتحقیق أن تُبیَّن بمعزل عن التعصّبات وبدافع الإفادة من المعارف؟ إنّ هذه الحقائق هی التی تنهض بدور جوهریّ فی حفظ الإسلام وأهدافه ویجب أن تُطرح فی المحافل العلمیّة على طاولة البحث باُسلوب حیادیّ كی تُمهّد الأرضیّة لخروج المشتبهین والملتبسة علیهم الاُمور من دائرة الشبهة والالتباس.
إنّه لَیساورنی شعور بأنّ قلب الزهراء (سلام الله علیها) سیكون أكثر سروراً إذا تناولنا فی بادئ الأمر البحث فی أصل مسألة حفظ الوحدة. إذن فلنكرّس بضع محاضرات نتناول فیها قضیّة الوحدة والاختلاف ثمّ نُتبعها بالبحث حول نفس الخطبة الشریفة، التی تُعدّ من أفصح وأبلغ الكلمات المرویّة عن أهل البیت (صلوات الله علیهم) والتی لم یعد أیضاً أیّ مجال للتشكیك فیها من الناحیة التاریخیّة، علّنا نُشمَل بالعنایات الخاصّة لهذه السیّدة الطاهرة.
فی الحقیقة إنّ إحدى بركات الثورة الإسلامیّة هی عودة اسم فاطمة الزهراء إلى الحیاة فی أوساط المجتمع. لقد أمضینا نحن الجانب الأكبر من شبابنا فی مرحلة ما قبل الثورة ولم یكن آنذاك، حتّى فی مدینة یزد التی تُصنّف ضمن المدن الدینیّة، ما یسمّى بالعشرة الفاطمیّة أو ما شاكلها. إنّ هناك عوامل متعدّدة هی التی أدّت إلى عودة اسم الزهراءإلى الحیاة فی مجتمعنا على وجه الخصوص الأمر الذی أتحف العالم الإسلامیّ أجمع بعظیم البركات. فمن جملة العوامل التی أعرفها أنا شخصیّاً هی أقوال الإمام الراحل (رضوان الله تعالى علیه) بخصوص السیّدة الزهراءالتی یندر صدور نظیرها من شخص آخر. فی الحقیقة لقد كان رحِمَه الله من الأشخاص الذین أحیوا اسم الزهراءفی هذا العصر، الأمر الذی اقترن بما غمر صفوف المجاهدین فی ذلك الوقت من انجذاب معنویّ نحو شخصیّة الزهراءوهو ما لا یسعنی تفسیره عبر الأسباب العادیّة. وإلى جانب ذلك یكمن عامل آخر أیضاً ألا وهو مبادرة عدد من مراجع الدین العظام فی مدینة قمّ إلى إحیاء أیّام العشرة الفاطمیّة حیث یشاركون بأنفسهم، بل وحفاة الأقدام أحیاناً، فی مجالس العزاء المقامة بالمناسبة. حتّى آلت الاُمور أخیراً فی هذا العام إلى توثیق خطبة الزهراءعلی أنّها سند تاریخیّ وقد أیّدها وأمضاها مراجع الدین على نحو منقطع النظیر، ولعلّ هذا هو السبب من وراء اقتراح البعض تقدیم بحث حول هذه الخطبة.
یتبادر إلى الذهن هنا سؤال هو: هل إنّ التعریف بأهل البیت(علیهم السلام) وبمواقفهم وتاریخهم یخالف الوحدة یا ترى إذا ما طُرح هذا الموضوع على نحو صحیح وعلمیّ وبحثیّ؛ أم على العكس من ذلك، إنّ عامل وحدة الاُمّة الإسلامیّة أساساً هو مسألة الإمامة والولایة؟ على خلفیّة هذا النمط من التساؤلات أحسستنوعاً ما بتكلیف شرعیّ یدفعنی الی عرض بحث جامع فیما یتعلّق بمسألة «الوحدة والاختلاف» لیتمّ فی خضمّ البحث طرح أسئلةٍ یکون الهدف منها هو متابعتها من قبل الأعزّاء من أصحاب البحث والتحقیق علّهم یصلون من خلالها إلى النتیجة المرجوّة.
إنّ المعنى الحقیقیّ للوحدة هو أمر بدیهیّ لا مجال للإبهام فیه، لكن من أجل أن یتّسم البحث بالجامعیّة نطرح فیما یلی بعض الاحتمالات. إذا كان المراد من إیجاد الوحدة هو أن یكون جمیع الناس شیئاً واحداً تماماً، أی أن لا یكون فیهم أیّ تعدّد، فالكلّ یعلم أنّ شیئاً كهذا هو أمر غیر ممكن بتاتاً. فالفردان من الإنسان هما موجودان اثنان ولن یكونا موجوداً واحداً على الإطلاق. فمن غیر الممكن مطلقاً أن تحصل وحدة حقیقیّة بین جمیع أفراد المجتمع.
وهناك مسألة طرحها علماء الاجتماع وهی: هل یمكن لمجموعة البشر الذین یشكّلون مجتمعاً واحداً أن تكون لهم وحدة حقیقیّة؛ أی أن تكون لهم هویّة جدیدة هی غیر هویّة الأفراد؟ وهذا البحث هو ممّا ینبغی طرحه فی نطاق فلسفة الاجتماع، لکنّ هذه المسائل لیست محلّ بحثنا حالیّاً. فالوحدة التی هی مدار البحث هنا هی كالتالی: إلى أیّ مدى یتعیّن علینا، نحن الناس الكثیرین الذین نؤلّف مجتمعاً واحداً ولكلّ واحد منّا وجوده المستقلّ، إلى أیّ مدى یتعیّن علینا السعی لجعل میولنا وحدویّة مع كلّ ما لدینا من اختلافات؟ فالمراد من إیجاد الوحدة هنا لیس هی الوحدة الحقیقیّة الفلسفیّة؛ بل المقصود هو تشخیص الملاكات المشتركة بیننا ثمّ نسعى إلى تقویة تلك الملاكات من جانب، وتقلیل وتضعیف العوامل التی من شأنها أن تؤدّی إلى التشتّت والعداوة من جانب آخر. فالمقصود من إیجاد الوحدة هنا هو الوحدة بالمصطلح الاعتباریّ، ولیس المراد بها حذف أشكال الكثرة والاختلافات بالكامل. وهذا یشبه ما نصبوا إلیه فی قضیّة وحدة الحوزة والجامعة، ووحدة الشیعة والسنّة، ووحدة جمیع الطوائف التی تتقاسم العیش المشترك فی البلاد، وهو أن نشخّص الملاكات المشتركة بین الأطراف ثمّ نحاول أن نجعل تلك الملاكات تحظى باهتمام أكبر، وأن تكون أكثر قوّة، لتتضاءل فی ظلّ تقویة تلك الملاكات دواعی الاختلاف وموجباته.
فهذا المقدار من مدلول الوحدة معلوم؛ لكنّه تُطرح أحیاناً مسائل لا ندری إن كانت الوحدة تقتضی صرف النظر عنها أم إنّ المطلوب هو شیء آخر؟ ومن جملة المسائل المرتبطة ببحثنا والتی كانت تشغل ذهنی واهتمامی هی أنّه عندما نتحدّث عن الوحدة بین الشیعة والسنّة فهل یُقصد من ذلك حذف المسائل الخلافیّة بین الشیعة والسنّة من الأساس وأن نركّز البحث على أصل حقّانیة الإسلام، والنبوّة، والمعاد بذریعة أنّ طرح المسائل الخلافیّة یورث تفریق القلوب؛ ولذا علینا أن نترك الخوض فیها أساساً؟ هل هذا هو المراد من الوحدة یا ترى؟!
الوحدة فی المباحث العقلیّة تُطرح فی مقابل «الكثرة»؛ أمّا فی بحثنا هذا فإنّه یتمّ طرحها فی مقابل «الاختلاف». فالوحدة هنا تعنی عدم الاختلاف. وعندما ندعوا إلى الوحدة فإنّنا نصبوا فی الواقع إلى وضع الخلافات جانباً؛ إذن فلابدّ فی الحقیقة أن نقیس مفهوم الوحدة مع مفهوم الاختلاف. وبما أنّ الوحدة فی بحثنا هذا تقع فی مقابل الاختلاف فدعونا أوّلاً نتعرّض لمناقشة معنى الاختلاف.
من الممكن أن یكون هناك موجودان متماثلان تماماً؛ كالأشیاء التی تُصنع فی المصانع طبق اُصول فنّیة معیّنة عادةً. فمن الصعب بمكان أن نمیّز أیّ هذین الشیئین هو «أ» وأیّهما «ب»؛ لأنّ هناك «كثرة» لكنّه لیس ثمّة «اختلاف»، إذ أنّ الشیئین متماثلان. إذن فالوحدة هنا لا هی متنافیة مع المثلیّة ولا هی متعارضة مع الكثرة والتعدّد. أمّا الاختلاف فیعنی عدم التماثل، فحینما لا یكون الشیئان متماثلین یُقال إنّهما مختلفان. ولا یعنی الاختلاف فی هذا الباب القتال والنزاع، بل هو وجود التفاوت والتباین. فهل وجود مثل هذا الاختلاف أمر مذموم؟ وهل وجود الفرق التكوینیّ بین شیئین هو أمر قبیح؟ أو فلنطرح السؤال بصورة اخری: لو لم یكن هناك اختلاف، فهل كان سیوجَد عالَمٌ أصلاً؟ فإن لم تكن هناك اختلافات تكوینیّة فإنّه لن یتمكّن إنسان من العیش ولن یتشكّل مجتمع بشریّ أساساً. وأساس هذا الكون هو هكذا أیضاً؛ فلو لم تكن هناك اختلافات تكوینیّة لم یكن هذا الكون لیتحقّق من الأساس. وإذا لم توجد اختلافات تكوینیّة بین الرجل والمرأة لن یصبح الجیل قابلا للبقاء. ولهذا فإنّ أصل الاختلافات التكوینیّة التی لا صلة لها بأعمالنا واختیارنا هی من لوازم وجود هذا العالم؛ فلو أنّها لم تكن لاُغلق الباب أمام الفیض الإلهیّ. انّ بقاء هذا العالم بكلّ ما یحویه من عناصر الجمال رهن باختلافاته، وهذا هو عین الجمال: «الَّذِی أَحْسَنَ كُلَّ شَیْءٍ خَلَقَهُ»1. وتأسیساً على ذلك فإنّ هذا المعنى من الاختلاف لیس هو محطّ بحثنا.
هناك لون آخر من الاختلاف بحیث یكون لاختیار الأشخاص فی الجملة دور فیه، والنموذج البارز لذلك هو الإفادة من المواهب الطبیعیّة لهذا العالم والتی نتیجتها أن تتمتّع جماعة بالثراء وتُبتلى اُخرى بالفقر. فبقطع النظر عن المسائل القیمیّة الاُخرى، هل إنّ نفس هذا الاختلاف فی طاقات وقدرات الأشخاص والذی یكون مدعاةً لحصولهم على منافع اختیاریّة واكتسابیّة جدیدة هو أمر حسن أم سیّئ؟ فإرادة الناس وأفعالهم مؤثّرة أیضاً؛ بید أنّ منشأ هذه الاختلافات الطبیعیّة هو من الله عزّ وجلّ. فالذی یتمتّع بذكاء أوفر، وطاقة أعظم یكون أكثر قدرة على توظیف قواه البدنیّة، وأشدّ قدرة على الابتكار والإبداع، وهذا كلّه یوفّر أرضیّة خصبة لحصول هذا الإنسان على المزید من المكاسب المادّیة. هذا الأمر بعید كل البعد عن الجبر قطعاً، لكنّه فی الوقت ذاته مأخوذ بنظر الاعتبار فی نظام الخلقة وتدبیر الكون. فالله جلّت آلاؤه یقول: «وَهُوَ الَّذِی جَعَلَكُمْ خَلَٰئِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَٰتٍ لِّیَبْلُوَكُمْ فِی مَا ءَاتَٰكُمْ»2؛ فالله قد جعلكم مختلفین من حیث المواهب التكوینیّة عبر جعل بعضكم أعلى درجة من البعض الآخر كی تتوفّر بیئة لامتحانكم وابتلائكم. فإذا حاز أشخاص على مواهب مادّیة أكثر تعلّقت بهم تكالیف خاصّة، الأمر الذی یمهّد لامتحانهم. فهذا العالَم أصلاً مبنیّ على جعل مختلف الناس فی معرض امتحانات شتّى لیختاروا مسیرتهم بأنفسهم ویُعلم مدى طاعتهم لربّهم. فإنّ ما أعطاه الباری عزّ وجلّ لنا هو موهبة ذاتیّة. فهذه الاختلافات الموهوبة من قبل الله ستشكّل أرضیّة لحصول أفراد المجتمع على فرص متفاوتة تقتضی تكالیف مختلفة وهذا بدوره یعنی أرضیّات للامتحان. فهذا هو لون من ألوان الاختلاف. فهل الاختلاف من هذا القبیل هو حسن أم قبیح؟ فلو لم توجَد مثل هذه الأرضیّات لما تحقّقت تلك الامتحانات وإنّ عدم تحقّق الامتحانات یتسبّب فی عدم التكامل، وفی هذه الحالة لا یتحقّق الغرض من الخلقة. إنّ الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان أساساً من أجل أن یختار مسیرة حیاته بنفسه ویبلغ ذلك الكمال الذی جعله الله جلّ وعلا فی ظلّ عبودیّته وطاعته. فلو لم تكن هذه الاختبارات، لم یكن بالإمكان العثور على تلك الكمالات. فاختیار الإنسان هو فی الجملة مؤثّر فی ظهور هذه الاختلافات التی تشكّل بدورها جزءاً من عناصر جمال الخلقة وهی مأخوذة بالحسبان فی أصل الهدف منها ولابدّ من وجودها.
وهناك أیضاً نوع آخر من الاختلافات التی یكون سهم اختیار الإنسان فیها أوفر. وهذا النوع یرتبط بالهدف النهائیّ للخلقة ألا وهو مسألة العبادة والطاعة لله تعالى. وهنا بالتحدید تُطرح قضیّة الدین. وهذه الاختلافات لا تكون تكوینیّة وجبریّة؛ بمعنى أنّ القضیّة لیست هی أنّ المرء ابتداءً یأتی إلى الدنیا حاملاً دیناً معیّناً بشكل جبریّ. فاختیار الدین والطریقة تتعّلق بالأشخاص أنفسهم حیث تؤثّر على ذلك عوامل عدیدة وتوجد لذلك صیغ معقّدة للغایة. وقصدنا من الدین هنا هو تلك السلسلة من المعتقدات التی تُطرح تبعاً لها مجموعة من القیم وتؤدّی الأخیرة إلى أعمال وسلوكیّات معیّنة؛ فالمراد من الدین هو مجموعة المعتقدات والقیم، والسلوكیّات الناتجة عنها. فعندما تُطرح مسألة انتخاب العقیدة، والقیم، والأحكام والعمل بالأحكام تتفاقم الاختلافات إلى حدّ كبیر ویتّسع نطاقها یوماً بعد آخر. ففی الدول الغربیّة قد لا یمضی یوم من دون أن تنشأ فرقة دینیّة جدیدة. ففی كلّ عام عادةً تظهر للوجود فی الغرب، ولاسیّما فی أمریكا، المئات من الفرق الدینیّة! وهنا تأتی قضیّة المؤاخَذة والتكالیف الشرعیّة أیضاً.
یقول القرآن المجید: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِیِّینَ مُبَشِّرِینَ وَمُنْذِرِینَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَٰبَ بِالحَقِّ لِیَحْكُمَ بَیْنَ النَّاسِ فِیمَا اخْتَلَفُواْ فِیهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِیهِ إِلَّا الَّذِینَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَیِّنَاتُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ»3؛ فقد كان الناس اُمّة واحدة یتمتّعون باقتضاءات واحدة من الناحیة الفطریّة؛ لكنّه حصل الاختلاف فیما بینهم. وهذه الاختلافات أدّت شیئاً فشیئاً وبعیداً عن المسائل العقائدیّة إلى طرح قضایا قیمیّة؛ ذلك أنّ بعض الناس یحاولون انطلاقاً من دوافع وأغراض شخصیّة الحصول على منافع أكثر من غیرهم والاعتداء على الآخرین. وهنا تظهر مدى أهمیّة مسائل العدل، والظلم، والقانون، وما إلى ذلك. لكنّ نفس اُولئك الأشخاص الذین یریدون سنّ القانون لا تخلوا نفوسهم من دوافع الاختلاف أیضاً، الأمر الذی یؤدّی إلى انعكاس تلك الدوافع على قوانینهم. لذا فإنّه من غیر الممكن لأحد وضع قانون حقیقیّ إلاّ أن یكون منزّهاً عن دوافع الاختلاف وغیر محتاج لها أساساً. وهنا تأتی قضیّة: «فبعث الله النبیّین...»؛ فالله هو الذی یبعث النبیّین فی سبیل رفع تلك الاختلافات.
وحیث إنّ ابن آدم هو موجود عجیب فإنّه یزرع الاختلاف فی نفس العوامل التی من شأنها ان تمحو الاختلافات. فالله عزّ وجلّ قد بعث النبیّین وأرسل معهم الكتب السماویّة من أجل إزالة ما وقع بین الناس من اختلافات؛ أی إنّه فعل ذلك كی یرضخ الجمیع للقانون، و حینئذ ینفّذون ما هو حقّ ولا یظلم بعضهم بعضاً لینعموا بحیاة هانئة سعیدة؛ لكنّ هذا الإنسان الناكر للجمیل یأتی لیزرع الاختلاف فی نفس الدین: «وما اختلف فیه إلّا الذین اُوتوه من بعد ما جاءتهم البیّنات بغیاً بینهم».
إنّ تأكید الآیة الشریفة ینصبّ علی الاختلاف الذی یأتی عن بغی واعتداء وعصیان وظلم. «فالبغی» هنا هو فی مقابل الحقّ؛ أی: الأشخاص الذین أحدثوا الاختلاف فی الدین عن غیر حقّ. هؤلاء الأشخاص یزرعون الاختلاف فی الدین عن طُرق شتّى. فمنها أن یقول أحدهم: إنّ قصد الله هو هذا، ویقول الآخر: لا إنّ قصده هو ذاك! بل إنّ الأمر قد بلغ إلى أن ینسبوا إلى الله ما اختلقته أیدیهم: «فَوَیْلٌ لِّلَّذِینَ یَكْتُبُونَ الْكِتَٰبَ بِأَیْدِیهِمْ ثُمَّ یَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ»4. فإنّ ما أحدثوه فی كتاب الله من هذه التحریفات هو أكثر شیوعاً من غیره، و هذا هو التحریف المعنویّ؛ بمعنى أنّهم حرّفوا مقصود آیات الله. وهذا الأمر هو ما یلقى الیوم رواجاً تحت شعار تعدّد القراءات. وهذا هو من فنون إبلیس الذی ربّى التلامیذ من قبیل هؤلاء و هم الذین بحثوا عمّا أراده الله عزّ وجلّ سبباً للوحدة، وسبیلاً لبلوغ الحقّ، ومدعاةً لنیل السعادة، ثمّ جعلوا منه وسیلة وأداة لبثّ الاختلاف، ونشر الضغینة، وإشعال النزاعات، والتسبّب بالشقاء فی الدنیا والآخرة: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآیَٰتِهِ»5؛ فأیّ عمل أشنع من هذا؟ ففی مرحلة ما قبل نزول الدین والكتاب كان فی أیدیهم العذر، فقد كان بإمكانهم القول نحن لا نمیّز بین الحقّ و الباطل، وما هو الأمر الذی یُرضی الله؛ لكن بعدما أنزل الله الكتاب وبعث الأنبیاء، وقام الأنبیاء بهدایة البشر، فلماذا أحدثوا الاختلاف فی نفس وسیلة الوحدة تلك؟! فهذا هو أسوأ ألوان الاختلاف التی ظهرت على وجه البسیطة.
أمّا المرتبة الأدنى من تلك فهی أن یقبلوا بالدین و ان یكونوا فعلاً على استعداد لأن یعلنوا عن الحقّ فی مقام الإفتاء؛ لكنّهم لا یراعونه فی مقام العمل. فعندما یأتی الدور إلى العمل یتدخّل الهوى فلا یسمح للإنسان أن یعمل بما یعلم. فهذه جملة من الاختلافات التی تظهر فی المجتمع البشریّ.
الآن، وبالالتفات إلى الاختلافات المشار إلیها، ما الذی ینبغی فعله؟ انّ الطریق الوحید الذی یضعه القرآن الكریم نصب أعیننا هو الوحدة على أساس الحقّ. فالقرآن یدعوا اُولئك المتصدّین لإصلاح المجتمع، والذین یشفقون على حالهم وحال الآخرین على السواء، وینتابهم الهمّ لکسب دنیاهم وآخرتهم معاً، ویكابدون المعاناة لما یشاهدونه من المفاسد ویریدون السعی لمواجهتها، نقول القرآن یدعوا هؤلاء إلى الوحدة على أساس الحقّ. فالكثیر من الآیات القرآنیّة تصرّح بالقول: إنّ العنوان الرئیسیّ لدین جمیع من بعثناهم من الأنبیاء هو: «أَنْ أَقِیمُواْ الدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِیهِ»6؛ أی: أقیموا الدین ولا تحدثوا الاختلاف والفرقة فیه. اعرضوا الدین بمضامین واحدة وشفّافة وقواعد مسلّمة غیر قابلة للتشكیك كی لا یكون سبباً للاختلاف بین الناس. فإذا كان هناك دین واحد وسلیم كان بإمكانه أن یفصل فی اختلافات الناس ویحلّ مشاكلهم؛ لكنّه إذا وجد الاختلاف فی الدین ذاته، فأیّ عامل سیبقى لتولّی حفظ الوحدة؟
إنّ الوحدة المطلوبة هی التی تكون على أساس الحقّ ولیست أیّ وحدة كانت. فهل من الحَسَن أن یتّحد الناس جمیعا على الظلم؟ وهل هذا هو ما دعى إلیه الأنبیاء فعلاً؟ وهل هذه هی الوحدة التی یقول بها جمیع العقلاء یا ترى؟ ألِمجرّد كونها وحدة فانّه لا إشكال إذن على الإطلاق؟! إنّ الوحدةفی الحقیقة هی وسیلة غایتها اتّساع رقعة الحقّ، والإفادة منه أكثر ما تكون الإفادة، وأن لا یقف أحد عقبة أمام الاستفادة من هذه النعمة الإلهیّة التی جعلها الباری تعالى لجمیع العباد. فهل یا ترى طُبّقت هذه النصیحة الإلهیّة على أرض الواقع؟ كلّنا یعلم أنّ الاختلافات ظهرت من أوّل لحظة، وفی نهایة المطاف حتّى فی الدین الخاتم، الذی هو آخر موهبة إلهیّة إلى الناس، والذی لابدّ له أن یكون المرهم الشافی لكلّ الآلام والجروح الاجتماعیّة للبشر إلى یوم القیامة، حتّى فی هذا الدین نشب الاختلاف منذ الیوم الأوّل لوفاة النبیّ الأكرم(صلی الله علیه و آله).
فإن أحبّ امرؤ أن یكون وفیّاً لهذا الدین وان یقف أمام تلك الاختلافات، فأیّ سبیل یتحتّم علیه سلوكه؟ لقد برزت هذه الاختلافات عندما أخذت عروق الباطل تنبض فی جسد الدین. فلو كان الحقّ محضاً لما حصل الاختلاف. وإن أرادوا إزالة الاختلاف فما علیهم إلاّ قطع عروق الباطل تلك كی یصبح الدین الخالص والذی أنزله الله لجمیع البشر واضحاً ومهیمناً؛ فالوحدة لا تكون مطلوبة إلاّ إذا كانت على أساس الحقّ. لذا یتعیّن علینا أن نسعى لتبیین الحقّ ووضعه بین أیدی الناس وان نعرّف الناس بعروق الباطل كی لا یُبتلى أحد بها. فهذه هی فكرة عامّة وأساسیّة یجب أوّلاً على الأنبیاء انفسهم: «أن أقیموا الدین ولا تتفرّقوا فیه»، وثانیاً على أتْباعهم: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمیعاً وَلَا تَفَرَّقُوا»7 أن یكونوا فی صدد العمل بها. والمسألة التالیة هی أنّه إذا لم یحصل ذلك ونشب الاختلاف فما الذی ینبغی فعله؟ سوف نطرح هذا الموضوع فی المحاضرة التالیة بمشیئة الله تعالى.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. سورة السجدة، الآیة 7.
2. سورة الأنعام، الآیة 165.
3. سورة البقرة، الآیة 213.
4. سورة البقرة، الآیة 79.
5. سورة الأعراف، الآیة 37.
6. سورة الشورى، الآیة 13.
7. سورة آل عمران، الآیة 103.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 14 آب 2010م الموافق للیلة الرابعة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
قلنا فی المحاضرة الفائتة إنّنا سنتعرّض قبل الخوض فی بحث خطبة السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) لبحث مقتضب حول «الوحدة والاختلاف». لقد أشرت الی أنّه یُلقَى فی الأذهان أحیاناً أنّ الوحدة هی قیمة مطلقة وأنّه كلّما كان الناس أشدّ اتّحاداً فیما بینهم من دون أیّ قید أو شرط فذلك أمر مطلوب؛ لكنّ مثل هذه الأحكام تكون مقیّدة بقیود فی الغالب لا یُتطرَّق إلیها أثناء الكلام. فهی من القضایا المسلّمة أو الآراء المحمودة، والحال أنّه من أجل استخدامها فی البرهان فإنّه یلزم تقیید موضوع مثل هذه القضایا. فحُسن الصدق وقبح الكذب هما من هذا القبیل؛ إذ لیست القضیّة أنّه یمكن القول مطلقاً: «إنّ كلّ صدق فهو حسن وإنْ تسبّب فی استشهاد مؤمن بریء»، أو «إنّ كلّ كذب فهو قبیح وإن أوجَب نجاة إنسان بریء». فالأمر لیس كذلك من وجهة النظر الإسلامیّة؛ فإن كان الكذب سبباً لنجاة نفس مؤمنة أصبح واجباً؛ ولكنّ القضیّة المشهورة والتی یتمسّك بها الجمیع هی أنّ الكذب قبیح. وهذه القضیّة هی ـ فی الحقیقة ـ مقیّدة.
وحُسن الوحدة والاتّحاد هو من هذا القبیل أیضاً. فالوحدة حسنة جدّاً، بشرط أن تكون فی سبیل هدف ذی قیمة. فإنِ اتّحد قوم على غصب حقّ امرئ، فإنّ هذه الوحدة وذلك الاتّحاد هما سیّئان بقدر ما لذلك الذنب من السوء؛ إذن فحُسن الوحدة والاتّحاد هو من القضایا المشهورة أو الآراء المحمودة التی تقیّد بقید خفیّ؛ أی إنّ الوحدة الحسنة هی التی تكون فی سبیل الحقّ ومن أجل تحقّق هدف عقلانیّ، ولیست أیّ وحدة. فلو كانت كلّ وحدة جیّدة لَما كان ینبغی أن ینهض الأنبیاء أساساً؛ ذلك أنّ الغالبیّة العظمى من المجتمع البشریّ كانوا من عبدة الأوثان، ونهضة الأنبیاء كان من شأنها أن تنسف وحدة المجتمع. بل إنّه لابدّ من القول: إنّ اختلافاً كهذا هو مبارك للغایة ویتحتّم إیجاده كی تُزال رواسب الفساد بالتدریج؛ إذن فقیمة الوحدة لیست هی قیمة ذاتیّة ولا مطلقة. فالوحدة والاتّحاد لا یكونان مطلوبین إلاّ إذا دارا حول محور الحقّ.
هذه هی عصارة البحث الذی قدّمناه لیلة أمس.
لقد طرحنا بالأمس سؤالاً مفاده: إذا نشب الاختلاف فی المجتمع فما الذی ینبغی فعله؟ أحیاناً یكون الاختلاف المذكور ذوقیّاً ولا یمتلك أیّ من الطرفین فیه قیماً أخلاقیّة أو دینیّة أو عقلیّة ثابتة؛ فمثل هذه الاختلافات غیر ذات أهمّیة؛ نظیر أن یمیل أهل مدینة ما إلى موضة خاصّة فی ملبسهم ویتذوّق أهل مدینة اُخرى موضة غیرها، أو أن الناس کانوا فی الماضی یحبّذون طرازاً خاصّاً من البناء بحیث یحتلّ المبنى أحیاناً ألف متر مربّع من الأرض فی حین أنّهم الآن یفضّلون بناء منزل على أرض لا تزید مساحتها على سبعین أو ثمانین متراً، كما وقد اقتضت الظروف تغییراً فی شكل البناء أیضاً. فهذه الاختلافات لیس لها أهمّیة تُذكر وما لم تعرِض علیها عناوین ثانویّة فلن تُحكم بالحلّیة أو الحرمة.
لكنّ الاختلاف یعود أحیاناً اُخرى إلى القیم الحقیقیّة التی یؤكّد علیها الدین. فالأنبیاء یقولون: «إذا سلكتَ هذه الطریق واعتمدت هذا السلوك كنت سعیداً مدى الحیاة، لكنّك إن اخترت خلاف ذلك عشت شقیّاً الی أبد الآبدین»! فالقضیّة هاهنا لیست قضیّة ذوق؛ بل المسألة بالغة الجدّیة. یقول القرآن الكریم فی هذا الصدد: «إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَـٰفِرِینَ سَلاَسِلَ وَأَغلاَلاً وَسَعِیراً»1؛ فإن أنتم سلكتم سبیل الضلال فالنتیجة ستكون الاغلال والسلاسل والنار الموقدة. فهنا لا یمكننا القول: «إنّ الأمر لیس مهمّاً إلى هذا الحدّ؛ ولیعمل كلٌّ بما یملیه علیه ذوقه»، فعقل الإنسان لا یجیز له التغافل عن احتمال كهذا ـ مهما كان الاحتمال ضعیفاً ـ وذلك لأنّ المحتمَل بالغ القوّة. فعندما یكون المحتمَل قویّاً فحتّى الاحتمال بنسبة الواحد بالمائة یكون منجزاً. فإنّ حاصل ضرب الاحتمال بِاُسّ المحتمَل هو الذی یحدّد قیمة الاحتمال. فإذا حصل الاختلاف فی هذا النمط من الامور فلابدّ عندها من معرفة الطریق القویم.
وإذا حصل الاختلاف فی مصداق كلام الأنبیاء؛ كأنْ یقول قوم: إنّ طریقتنا هی مصداق كلام الأنبیاء، ویقول آخرون: إنّ طریقتنا هی مصداق ذلك، فإنّ القاعدة الأوّلیة هی أن یُثبت الإنسان المصداق الحقیقیّ على أساس المنطق والاستدلال العقلیّ؛ ذلك أنّنا نعتقد بأنّ ما جاء به الأنبیاء (علیهم السلام) قد أتمّ الحجّة البالغة على جمیع البشر: «رُسُلاً مُّبَشِّرِینَ وَمُنْذِرِینَ لِئَلاَّ یَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»2. فسبیل الأنبیاء هو على مستویً من الوضوح والإتقان فی الأدلّة بحیث لا یتیح لأحد مجالاً للاحتجاج والتذرّع؛ ومع ذلك فإنّه من الممكن أن یحاول الشیاطین تعكیر صفو الماء والسعی ـ بمرور الوقت، وعبر خلق الشبهات والبدع ـ لجعل الطریق غیر واضحة. یقول القرآن الكریم فی هذا المجال: «وَمَا اخْتَلَفَ فِیهِ إِلاَّ الَّذِینَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَیِّنَـٰتُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ»3؛ فإنّ قوماً قد غرسوا الاختلاف عمداً كی یتاجروا فی الدین. مثلاً قالوا: «إنّ قصد النبیّ الفلانیّ هو هذا» كی یشكّلوا فرقة، ویترأسّوا على الناس، ویمتطوا ظهورَهم! فتكون نتیجة بثّ مثل هذا الاختلاف أن تحلّ بالأجیال القادمة ظروف یصعب معها جدّاً تمییز الحقّ من الباطل. فما الذی یجب فعله فی مثل هذه الحالات؟ فی ظروف كهذه یحكم العقل بأنّ الطریق الأمثل والسبیل الأنجع هی أن یجلس المختلفون الى طاولة الحوار وان یبحثوا الموضوع بتعقّل لیتبیَّن لهم أیّ الأدلّة صحیح وأیّها سقیم.
لكنّنا قلنا إنّ إحدى الطائفتین كانت قد تعمّدت زرع الاختلاف وإنّ هؤلاء غیر راغبین فی انكشاف الحقّ وانجلاء الغبرة. فالكثیر من زعماء الفِرق الباطلة لیسوا على استعداد للجلوس الى طاولة البحث وإلقاء الضوء على خفایا الامور؛ ذلك أنّ ما یصبوا إلیه أمثال هؤلاء هو عین هذا الإبهام بغیة أن یتمكّنوا فی ظلّه من أن یجمعوا حولهم حفنة من المریدین. وفی التعامل مع هذا اللون من الاختلافات لابدّ من الالتفات إلى أنّه یوجد بین صفوف أتباع هؤلاء المخادعین مَن هم ـ حقیقةً ـ طلاّب حقّ، لكنّهم واقعون فی شبهات. فهم شدیدو الثقة بزعمائهم الأمر الذی جعلهم معتقدین بطریقتهم الباطلة. إنّنی شخصیّاً وخلال مسیرة حیاتی التی امتدّت سبعین عاماً ونیّفاً قد التقیت بعدد لا بأس به من هذا الصنف من الناس. فی الواقع هناك الكثیر من أتباع الفرق الإسلامیّة المختلفة، والمسیحیّة، وغیرها من الدیانات ممّن إذا ثبت لدیهم أنّ الإسلام ومذهب أهل البیت (علیهم السلام) هو وحده المذهب الحقّ فإنّهم سیقبلون به لا محالة. أنا لا أزعم أنّهم جمیعاً على هذه الشاكلة؛ فلا یشتبهنّ الأمر على أحد؛ بل إنّ ثمّة أیضاً مَن یشعر إزاء أهل البیت (علیهم السلام) والشیعة بعناد خاصّ. فهؤلاء یعیشون مستویً من العناد بحیث إنّهم لو شاهدوا فی كتاب قصّةً أو روایة تصبّ فی صالح الشیعة فانّهم یعمدون على الفور إلى حذفها فی الطبعة التالیة. لاحظوا قبح هذا الموقف! إنّ هذه لخیانة بحقّ التاریخ، والوثائق التاریخیّة، والحقیقة، والبشریّة.
نسأل الله أن لا یتغلغل هذا العناد وهذه اللجاجة فی أنفسنا؛ بید أنّه علینا الاستعاذة بالله من الوقوف بوجه الحقّ! فالقرآن الكریم یقول: «تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِینَ لاَ یُرِیدُونَ عُلُوّاً فِی الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ»4؛ فإنْ نحن عمدنا إلى تغییر هذه السجیّة الشیطانیّة فی أنفسنا أثناء مرحلة الشباب، وعوّدنا أنفسنا على الانصیاع للحقّ باستمرار، وسارعنا إلى الاعتراف بالخطأ إذا التفتنا إلى أنّنا مخطئون فی موضعٍ ما؛ فأنا اُقسم بالله بأنّه لن یصیبنا ضرر قطّ. جرّبوا، وسترون أنّكم ستصبحون أكثر عزّة؛ بید أنّ الشیطان لا یدعكم تفعلون ذلك. فنحن أحیاناً نلتفت إلى خطئنا، إلاّ أنّنا نصرّ علیه. إنّ وجود هذه الصفة على مستوى رؤساء الاُمّة، وقادتها وزعمائها هو ممّا یؤدّی إلى فساد فادح. على أیّ حال فإنّ الناس المعاندین موجودون أیضاً. إذ یقول عزّ من قائل فی هذا الباب: «إِنَّ الَّذِینَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَیْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ یُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِیمٌ»5، كما ویقول فی سورة یٰس: «وَجَعَلْنَا مِنْ بَیْنِ أَیْدِیهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَیْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ یُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَیْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ یُؤْمِنُونَ * إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِیَ الرَّحْمَـٰنَ بِالْغَیْبِ»6. فلیس الجمیع تابعین للدلیل والبرهان؛ لكن فی الوقت ذاته لا ینبغی الظنّ بأنّ الكلّ معاندون. لعلّ أغلب الناس هم من الذین یؤمنون بالحقیقة إذا اكتشفوها. كما أنّ جانباً من التقصیر یقع علی عاتقنا حیث انّنا لم نبیّن الحقائق للآخرین كما ینبغی.
فالسبیل الصحیحة والمنطقیّة الواجب سلوكها فی مثل هذه الخلافات هو أن نحاول جهدنا أن نعرّف الطرف المقابل بالحقیقة من خلال الدلیل والمنطق وباتّباع الأسالیب التی لا تثیر تعصّبه. فعندما یخاطبنا شخص بلسان المنطق واللین نقرّ بأخطائنا؛ لكنّه عندما یتحدّث إلینا منذ البدایة بفظاظة وخشونة، أو بكیل الإهانات أحیاناً، فسنتّخذ منه فی المقابل موقفاً سلبیّاً. فلو أنّنا خاطبنا الناس بكلام منطقیّ واُسلوب رصین فإنّه ستُزال الكثیر من الخلافات. لقد قال المرحوم آیة الله بهجت (رضوان الله علیه) فی إحدى المناسبات: إنّه من غیر الصحیح إذا تحدّثنا مع شخص سنّی المذهب أن نبتدئ بطرح المواضیع التی تثیر حفیظته مستخدمین اُسلوباً حادّاً وشدیداً. وكان سماحته یقول: إنّ الطریق الأنجع هی أن نقول لهم: إنّكم تتّبعون فی الفقه أربعة من العلماء الكبار؛ هم أبو حنیفة، والشافعیّ، ومالك، وأحمد بن حنبل. فأمّا أبو حنیفة ومالك فقد تتلمذا مباشرةً على ید الإمام الصادق (علیه السلام) وكانا یفتخران بذلك. فقد روی عن أبی حنیفة قوله: «ما رأیت أفقه من جعفر بن محمّد». وفی موضع آخر یقول: «لولا السنتان لهلك النعمان»! والنعمان هو اسم أبی حنیفة. فهل تقلید التلمیذ یمنع من تقلید الاُستاذ؟! فنحن نقلّد الاستاذ وأنتم تقلّدون التلمیذ! فلماذا لا تضعون مذهب التشیّع ضمن لائحة المذاهب المعتبرة و المعترف بها؟ ففی مقابل هذا الكلام لن یجدوا بُدّاً من الإذعان والقبول. أیَكون تقلید التلمیذ جائزاً وتقلید الاُستاذ غیر مُستساغ؟! عندما یعترف التلمیذ بنفسه بأنّ اُستاذی أفضل منّی بكثیر وأنّ كلّما لدی فهو منه؟! فما من منطق على الإطلاق یقبل بذلك. وهذا هو عین الاُسلوب الذی طرحه المرحوم الشیخ محمود شلتوت عندما اعتبر مذهب التشیّع من المذاهب المعترَف بها فی مصر وهذا الأمر هو من بركات الخطوة التی أقدم علیها المرحوم آیة الله البروجردیّ (رضوان الله تعالى علیه) فی تأسیسه لدار التقریب بین المذاهب. فإنْ فُتح هذا الباب ووجدوا فی أنفسهم الاستعداد لأن یقیموا للإمام الصادق (علیه السلام) وزناً إلى جانب أبی حنیفة فهذا هو بمثابة إضفاء الرسمیّة علی مذهب التشیّع. وهذا سیؤدّی بدوره إلى دخول كتبنا إلى بلدانهم بشكل رسمیّ. فإذا تعرّفوا على معارف أهل البیت (علیهم السلام) فسیدخل طلاب الحقیقة منهم إلى التشیّع تدریجیّاً. فلیسوا قلّة هم طلاب الحقیقة الذین تقطع علیهم الشیاطین طریقهم. فلو أنّنا استخدمنا معهم الاُسلوب السلمیّ فسوف یكتشفون الطریق.
لقد التقیت أثناء رحلاتی إلى دول مختلفة مع أشخاص لا تقلّ محبّتهم لأهل البیت (علیهم السلام) عمّا هو متعارف بیننا نحن الشیعة. ففی أندونیسیا التقیت بشیخ مصریّ ألقى كلمة حول أهل البیت (علیهم السلام). فبادرته بالسؤال: یبدو أنّكم، أیّها المصریّون، تكنّون المودّة لأهل البیت (علیهم السلام)؛ فأجابنی قائلاً: «بل نحن مفتونون باهل البیت»! فلو أنّنا اتّبعنا الاسلوب الصحیح فی التبلیغ وعرّفناهم بمعارف التشیّع بشكل سلیم فسیدخل الكثیر منهم إلى التشیّع حتماً؛ غیر أنّنا مقصّرون فی هذا المضمار. إنّنا نتحمّل المسؤولیّة فی ذلك أمام صاحب شریعتنا ومذهبنا!
لكن ما هو تكلیفنا تجاه المعاندین واُولئك المتأثّرین بدعایتهم إلى درجة الیقین بأنّ مذهبهم هو الحقّ ومذهب التشیّع هو الباطل؟ فإن نحن تهاونّا فی تبیین الحقّ وإثبات بطلان مذاهب الباطل فسنكون قد خنّا الله والرسول والإنسانیّة والشهداء والأجیال الماضیة والتی ستأتی لاحقاً. وفی هذه الحالة سنكون نحن أیضاً من اُولئك الشیاطین الذین یصدّون عن سبیل الحقّ: «وَإِنَّهُمْ لَیَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِیلِ وَیَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ»7. فعندما لا نبیّن الحقیقة فإنّنا نفسح المجال لهم باستغلال الموقف بحیث یقولون: «لو كان لدیهم ما یُقال لقالوه ودافعوا به عن أنفسهم». إذن فما هو واجبنا تجاه أشخاص كهؤلاء؟
إنّ أصل مسألة حفظ الوحدة یكمن فی هذه القضیّة؛ وهی أنّنا لو تبنّینا الاسلوب الفظّ والخشن والمتعصّب فی التعامل فماذا ستكون النتیجة؟ ستكون النتیجة هی أن یزداد المعاندون عناداً على عنادهم وتُعطى الذریعة بید اُولئك المبتلین بالباطل جرّاء جهلهم بأن یولّوا وجوههم عنّا ویقولوا: «إذا كان هؤلاء على حقّ فلماذا هذه الغلظة فی الكلام وما الداعی إلى السباب؟! فیا لیتهم یبیّنون حقّهم بالدلیل». فطریقة كهذه تكون مدعاة لأن ینسبوا البطلان لنا. إذن فالتعاطی معهم بتعصّب، أی تبیین المبحث من دون دلیل وبطریقة فظّة، إذا لم یؤدّ إلى نتیجة معكوسة فإنّه لن یعطی الثمرة المطلوبة أیضاً. فالكلام المنطقیّ هو الذی ینتهی إلى نتیجة. فلا ینبغی الوقوف أمام الکلام المنطقی، إذ لیس هناك أیّ دلیل منطقیّ للوقوف أمام الكلام المنطقیّ؛ أمّا فی المقابل فإنّ السلوك الفظّ، والنابع عن عصبیّة، والمثیر للخصومات، والمؤجّج للأحقاد والضغائن فلیس هناك دلیل عقلیّ یدعمه ولا دلیل شرعیّ یؤیّده.
قد یقول قائل: «إنّ بعض الأشخاص قد لُعنوا فی زیارات المعصومین (علیهم السلام) ونحن نلعن المصادیق التی یمثّلها هؤلاء على أساس تلك الزیارات». لكن فی تلك الروایات و الزیارات لم یقولوا لنا: اذهبوا وارتقوا المنابر والمآذن والعنوا، أو اذهبوا والعنوا عبر مكبّرات الصوت! فمن غیر الضروریّ أن نأتی بفعل فی حضور الآخرین بحیث یکون من شأنه أن یثیرهم وتكون النتیجة أن یواجه الشیعة فی بلدان اُخرى المتاعب، فتُستباح دماؤهم، ویُقَتّلون، ثمّ لا نجنی من ذلك أیّ ثمرة! فأیّ دلیل عقلیّ أو شرعیّ یتوفّر على مثل هذا العمل؟! أجل، إنّ القرآن قد لعن أشخاصاً بصراحة فی مواطن كثیرة؛ بل إنّه قال: «أُوْلَـٰئِكَ یَلْعَنُهُمُ اللهُ وَیَلْعَنُهُمُ اللَّـٰعِنُونَ»8. فهذا هو لعن القرآن الكریم؛ لكن لیس هناك من ضرورة بتاتاً فی أن نقف فی مقابل الذین نتّفق معهم فی مائة مسألة ـ على سبیل المثال ـ ویحترم كلّ منّا مقدّسات الآخر، ولا نختلف فیما بیننا إلاّ فی بضع مسائل، أن نقف منهم موقف المخاصمة لنثیر حفیظتهم فیصبحوا بالنسبة لنا ألدّ من أیّ عدوّ! فما هو الدلیل العقلیّ على هذا الفعل؟ والحال أنّنا نمتلك الحقّ فی أن نجلس فی المحافل العلمیّة، وفی أجواء ودّیة، بعیداً عن التعصّبات، وفی بیئة یسودها البحث والتحقیق لنناقش الحقائق، وننظر أیّ التواریخ صحیح وأیّها خطأ. فإن نحن أحجمنا عن فعل ذلك فإنّ فی ذلك ـ بالمصطلح المعاصر ـ خیانة للعلم، وبلسان الدین نكون قد خُنّا الله، والرسول، والإمام الراحل (رحمه الله)، والشهداء، والحقیقة. فإن لم تبیّن تلك الحقائق ویتمّ إثباتها فأنّى لأجیال المستقبل أن تفهم الحقیقة؟ أنا وأنتم قد فهمنا الحقیقة من خلال مجالس الوعظ، والمساجد، والحسینیّات، والمراثی، ومراسم العزاء، ومجالس الفرح، وما إلى ذلك. فمن دون تلك الاُمور من أین كنّا سنفهم الحقیقة؟ فإذا نحن لم ننهض بهذا الواجب، نكون قد خنّا الأمانة ولم نبلّغ الحقّ إلى أهله. فالبحث والتحقیق فی المسائل العقائدیّة والقضایا التاریخیّة الذی یعطی ثماراً عقائدیّة ودینیّة ومذهبیّة هو فریضة عقلیّة وشرعیّة. فهذا الباب لا ینبغی إغلاقه؛ لكنّه یتعیّن علینا حفظ احترام الطرف المقابل وعدم إثارة مشاعره من دون مبرّر. لا ینبغی أن نطرح اُموراً لیست فی محلّها لا تؤدّی إلى أیّ نتیجة فی إثبات الحقّ؛ بل على العكس تُسهم فی تفاقم عناد المعاندین ولجاجتهم، وأحیاناً تتمخّض عن عداوات تكون حصیلتها قتل اُناس أبریاء.
فتاریخ التشیع یُظهر لنا كم من الشیعة قد استشهدوا على أیدی أشخاص جهلة أو معاندین فی إثر كلام قاله شیعیّ آخر فی بلد ثان. فبقطع النظر عن الناحیة الدینیّة، فهل من العقل فی شیء أن یقوم المرء بعمل تكون نتیجته تقدیم جماعة من أصدقائه وأعزّائه، ممّن هم أغلى من النفس، إلى القتل؟! وتأسیساً على ذلك فإنّ فی أعناقنا واجبین لا ینبغی الخلط بینهما: أحدهما هو أن لا نفعل شیئاً یثیر ضدّنا مشاعر الذین التبس علیهم الأمر أو أهل العناد ـ لا قدّر الله ـ فیتفاقم عداؤهم لنا؛ وهذا ما یسمّى حفظ الوحدة. والثانی هو أن لا نحجم عن بیان الحقائق والسعی لإثباتها فی المحافل العلمیّة.
إنّ من أعظم الخدمات التی اُسدیت فی القرن الأخیر على صعید إحیاء مذهب التشیّع وإثبات حقّانیته تلك التی قام بها فی بلاد الهند المرحوم صاحب «عبقات الأنوار»، وفی النجف الأشرف المرحوم العلامة الأمینیّ (رضوان الله تعالى علیهما) عبر تصنیفه لكتاب «الغدیر». أیّ خدمات جلیلة أسداها هذان العظیمان وأیّ تضحیات قدّماها فی هذا السبیل! أیّ آلام كابداها من أجل أن یرى هذان الكتابان النور! وأیّ عشق كان یكنّه العلاّمة الأمینیّ لأهل البیت وأمیر المؤمنین (علیهم السلام) حتّى إنّ مجرّد سماع اسم أمیر المؤمنین (علیه السلام) كان من شأنه أن یُسیل الدموع من مقلتیه! لكنّه لم ینَلْ فی كتابه، ولا حتّى فی موضع واحد، من أیّ واحد من الشخصیّات التی یكنّ لها أهل السنّة التبجیل والاحترام؛ بل لقد ألحق أسماءهم أینما ذكرها بعبارة «رضی الله عنه». فبهذا الاسلوب یتمكّن المرء من بیان الحقیقة من ناحیة، ولا یعطی الذریعة بید المخالف من ناحیة اُخرى، وإذا كان هناك طالب للحقیقة فإنّه سیستسلم للحقّ. فلابدّ من إزالة هذا الحجاب الحائل الذی أسدله الشیطان اللعین بیننا وبین السنّة. ینبغی التصرّف بالشكل الذی یجعلهم على استعداد لقراءة كتبنا وإدراجنا فی عداد المسلمین. بالطبع إنّ جزءاً من عملیّة تكوّن هذا الحجاب المانع هو حصیلة بعض التصرّفات الغیر المدروسة من قبل بعض الشیعة. فإذا اعتبرنا أنفسنا مسؤولین عن نشر مذهب التشیّع وحفظ حقیقته للأجیال القادمة، فإنّه ینبغی لنا ـ من جانب ـ أن نعمد إلى إثباته عبر الأدلّة العقلیّة والمنطقیّة والشواهد التاریخیّة، وأن لا نتعرّض ـ من جانب آخر ـ للشخصیّات التی تثیر حساسیّتهم. فإنّ الأدلّة هی على جانب من الوضوح والجلاء إلى درجة أنّ المرحوم ماموستا شیخ الإسلامیّ، النائب الشهید لأهالی كردستان فی مجلس خبراء القیادة، كان یقول: «إنّنی لأعتقد، وأقولها بكلّ صراحة، أنّ الذی یتجاسر على السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) هو كافر!».
على أیّ حال فإنّ قضیّة البحث فی المسائل العقائدیّة والتاریخیّة الرامی لإثبات حقّانیة مذهب التشیّع، الأمر الذی یصبّ ـ عرَضاً ـ فی إبطال سائر المذاهب المخالفة، هو من تكالیفنا الشرعیّة القطعیّة التی لا بدیل لها على الإطلاق؛ لکن بشرطها وشروطها وهو أن یكون مشفوعاً بمراعاة الأدب وأن لا نثیر الآخرین فنضاعف الحجاب الموجود بیننا، ویحلّ الاختلاف محلّ الاتّحاد، ولا یدَع المسلمین یتقاربون من بعضهم، ویقفون صفّاً واحداً فی مواجهة عدوّهم.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. سورة الإنسان، الآیة 4.
2. سورة النساء، الآیة 165.
3. سورة البقرة، الآیة 213.
4. سورة القصص، الآیة 83 .
5. سورة البقرة، الآیتان 6 و7.
6. سورة یٰس، الآیات 9 ـ 11.
7. سورة الزخرف، الآیة 37.
8. سورة البقرة، الآیة 159.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 15 آب 2010م الموافق للیلة الخامسة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
لقد طرحنا فی المحاضرتین الماضیتین مباحث حول الوحدة والاتّحاد، قلنا فیها إنّ قیمة الوحدة منوطة بقیمة الهدف الذی اوجدت من أجله. فإن كان هدف الوحدة هو تحقّق حقٍّ ما فسیكون لحفظ هذه الوحدة من القیمة بمقدار ما لذلك الحقّ منها، وعلى العكس؛ فإن اُنجزت الوحدة فی سبیل إبطال حقّ أو تحقّق باطل، فلن تكون عدیمة القیمة فحسب، بل سیكون لها من القیمة السلبیّة ما یعادل القیمة السلبیّة لذلك الباطل.
الملاحظة الاُخرى التی تستحقّ الاهتمام هنا هی أنّ الاتّحاد والانسجام إنّما یتیسّران على صعید السلوك، وإلاّ فمن غیر الممكن أن نؤسّس مبنانا على اتّباع الغیر فیما یتعلّق بالفكر والعقیدة والإیمان؛ بالضبط كما أنّه لا معنى للإكراه فی الدین، سواء كان حقّا أم باطلاً. وإذا اتّفق أن حصل الإكراه فإنّه سیكون على إنجاز عمل أو تركه؛ فغایة ما یستطیع المُكرِه فعله هو منع المقابل من العمل بما یعتقد به، أو إكراهه على القیام بما یخالف مقتضى اعتقاده. فقصّة یاسر وسمیّة وعمّار هی أنّهم قد اُكرهوا من قبل المشركین على التبرّی من الإسلام؛ لكنّه لم یتمكّن المشرکون من سلبهم ما یعتقدون به. فیاسر وسمیّة قد صمدا وقاوما ولم یبدیا استعداداً لإظهار البراءة من الإسلام، فعمد المشركون بدورهم إلى قتلهم. أمّا عمّار فقد أظهر البراءة باللسان فأنقذ حیاته؛ لكنّه كان فی غایة الاضطراب من أنّ فعله هل كان صحیحاً أم لا. وقد أتى رسول الله (صلّى الله علیه وآله) وهو فی حالة الاضطراب تلك فقال له: «أخشى أن أكون قد هلكت»، وروى للنبیّ (صلّى الله علیه وآله) ما جرى، فنزلت الآیة الكریمة: «مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِیمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِیمَانِ»1. فقال رسول الله (صلّى الله علیه وآله) ما مضمونه: «حسناً فعلت؛ فقد عملت بالتقیّة وأنقذت حیاتك من دون أن یطرأ على إیمانك أیّ شكّ أو اضطراب».
فلا یمكن تغییر العقیدة القلبیّة من أجل الآخرین أو فی سبیل حفظ الوحدة، فهذا أمر مستحیل. فالعقیدة والإیمان یتبعان مبادئ خاصّة؛ إن وُجدت تلك المبادئ وُجد الإیمان، وإن فُقِدت فُقِد. إنّ ما یدور حوله موضوع بحثنا هو الانسجام فی «السلوك» من أجل حفظ الوحدة والاتّحاد. فالسلوك والتصرّف إنّما یقعان موضوعاً للتقیّة والائتلاف العملیّ. فمن الممكن أن یكون هذا الائتلاف صحیحاً فی مواطن معیّنة إذا كانت الغایة منه تحقیق هدف سام وقیّم.
توجد فی الإسلام سلسلة من الأحكام تتْبَع عناوین خاصّة یُطلق علیها فی الفقه «العناوین الثانویّة»، حیث تسمّى الأحكام التی یتمّ إثباتها تبعاً لها ﺑ«الأحكام الثانویّة». لقد وردت أغلب تلك العناوین فی النصوص القرآنیّة والروائیّة؛ وكمثال على ذلك الاضطرار؛ كما فی قوله تعالى: «إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَیْكُمُ الْمَیْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِیرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَیْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَیْهِ»2؛ أی إنّ الذی یدفعه الاضطرار إلى تناول الطعام الحرام من دون أن یكون ظالماً أو معتدیاً فإنّه لا إثم علیه؛ بمعنى أنّ الحكم الأوّلی قد رُفع بواسطة الاضطرار. وهذا هو ما یُطلق علیه بالحكم الثانویّ. ویقول عزّ من قائل فی آیة اُخرى: «لاَ یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـٰفِرِینَ أَوْلِیَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ وَمَنْ یَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَیْسَ مِنَ اللهِ فِی شَیْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً»3؛ فالله عزّ وجلّ لا یُجیز أن تكون لكم مع الكفّار علاقات ودّیة، اللهمّ إلاّ أن تحذروهم وتتّقوهم. فالتقاة هنا بمعنى التقیّة. وإنّ التقوى, والتقیّة، والتقاة هی كلّها اسم مصدر من الفعل «اتّقى» وهی تشترك فی معنى واحد. وهذا أیضاً هو عنوان ثانویّ وله حكم ثانویّ.
جاء فی مبانینا الفقهیّة أنّ التقیّة تكون ضروریّة أحیاناً حتّى بین المسلمین أنفسهم. فقصّة عمّار كانت تقیّة مع المشركین؛ لكنّ أحادیثنا تخبرنا بأنّ هذا النمط من التقیّة جارٍ حتّى بین المسلمین أنفسهم، وهو عندما یختلف المسلمون فیما بینهم ویشتدّ هذا الخلاف إلى درجة أنّ المسلم إذا لم یتّبع المسلم الآخر فی العمل فإنّ حیاته تصبح عرضة للخطر. فموضوع ما رُوی عن جمیع المعصومین (صلوات الله علیهم أجمعین) من أنّ: «التقیّة دینی ودین آبائی»4 هو هذا بالتحدید. فحقیقة هذه المسألة هی أنّ أمر الإنسان یدور بین أن یأتی بفریضة كما یأتی بها أفراد فرقة معیّنة؛ كأن یصلّی متكتّفاً ویحافظ على حیاته، وبین أن یأتی بها طبقاً للحكم الأوّلی ویعرّض حیاته للخطر. فی مثل هذه المسائل تتزاحم مصلحة العناوین الثانویّة مع مصلحة الحكم الأوّلی فیأتی الشارع المقدّس لیعتبر أنّ تلك المصلحة المانعة من العمل بالحكم الأوّلی أهمّ؛ ومن هذا المنطلق یقول: علیك أن تغضّ الطرف عن الحكم الأوّلی وتعمل بالحكم الثانویّ. وهذه هی عین التقیّة التی أفتى بها جمیع الفقهاء والتی نعرفها جمیعاً.
كما أنّ عندنا لوناً آخر من التقیّة وهو ما أكّد علیه الإمام الراحل (رضوان الله تعالى علیه) بالخصوص وأفتى به فقهاء آخرون أیضاً وهی «التقیّة المداراتیّة»؛ وبیانها أنّ حیاة المرء أحیاناً لا تكون فی خطر إذا طبّق دینه حسب ما یملیه علیه مذهبه، لكنّ مصلحة اجتماعیّة إسلامیّة هی التی تصبح فی معرض الخطر؛ إذ قد یتفشّى الافتراء، وتسود العداوة، والضغینة، ویحصل التشتّت بین صفوف المسلمین فیستغلّ الأعداء هذا الوضع وتذهب عزّة المجتمع الإسلامیّ ومصالحه أدراج الریاح. لقد بیّن الإمام الراحل (رضوان الله علیه) الكثیر من الاستدلالات على هذه المسألة، وتحلیلها هو أنّه فی هذه القضیّة یقع تزاحم بین مصلحة الحكم الأوّلی ومصلحة اجتماعیّة تتمثّل فی حفظ عزّة المسلمین واقتدارهم فی مقابل العدوّ. لقد طرح الإمام الخمینیّ (رحمة الله علیه) استدلالات مفادها أنّ الكثیر من روایات التقیّة تصبّ فی هذا الوادی، ولیست جمیعها متعلّقة ﺑ«التقیّة الخوفیّة».
اتّضح لحدّ الآن أنّ قیمة التقیّة، أی قیمة العمل بالحكم الثانویّ إنّما تستند إلى المصلحة التی ینطوی علیها الحكم الثانویّ؛ وعلیه فإن أدّت التقیّة إلى تضییع مصلحة أقوى فهی غیر جائزة. یقول الإمام الراحل (رضوان الله تعالى علیه) فی هذا الباب: التقیّة بشقّیها الخوفیّ والمداراتیّـ لا تكون مشروعة إلاّ إذا لم تؤدّ إلى تفویت مصلحة أقوى. فقد كان تعبیره فی هذا المجال هو: «التقیّة لا تكون فی مهامّ الاُمور»؛ وبناءً على ذلك فإذا تعرّضت حیاة النبیّ أو الإمام المعصوم للخطر، أو خیف من خطر الهجوم على بیت الله الحرام فلا تجوز التقیّة حینئذ. فحفظ النفس فی هذه الحالة سوف یؤدّی إلى تضییع مصلحة أقوى. لقد قال الإمام (رحمة الله علیه) أثناء أحداث مقارعة الطاغوت: «الیوم التقیّة حرام ولو بلغ ما بلغ!» وحكمه هذا كان ینطلق من رؤیته بأنّ الإسلام كان فی خطر. فهل قیمة أنفسنا أعظم یا ترى، أم قیمة الإسلام؟! فهو (رحمه الله) كان قد شخّص أنّ الإسلام فی خطر، ومن هذا المنطلق قال: «التقیّة حرام ولو بلغ ما بلغ». فإذا كان لابدّ فی سبیل حفظ الإسلام أن یُقتل المئات بل الآلاف من البشر فلیقتلوا لیبقی الإسلام مصوناً.
كلّ ذلك یرجع إلى أنّ نفس التقیّة لیس لها قیمة بحدّ ذاتها، بل قیمة التقیّة ترتبط بتلك النتیجة المترتّبة علیها. فلو قُدّر أن تكون نتیجة التقیّة هی التفریط بشیء هو أعظم من أنفسنا، ووحدتنا, فما قیمة هذه التقیّة حینئذ؟! بطبیعة الحال یجب أن یُعهد بتشخیص مثل هذه الاُمور إلى الفقیه العالم بزمانه والمدرك لظروف المجتمع. فهو الذی یمكنه الحكم بأنّ التقیّة لم تعد جائزة. وعلى أیّ حال فإنّه یوجد فی الدین الإسلامیّ شیء من هذا القبیل؛ وهو أن یثبت حكم بعنوان كونه حكماً أوّلیاً ثمّ تعرض مصلحة أقوى فیترتّب على الموضوع، من أجل حفظ هذه المصلحة الأهمّ، عنوان ثانویّ یتغیّر الحكم على اساسه. هذه المسألة لها مصادیقها أیضاً فی المسائل الاجتماعیّة التی من جملتها التقیّة؛ وتأسیساً على ذلك فإن أدّت التقیّة إلى فناء أصل التشیّع وطوى النسیان حقیقة التشیّع، شیئاً فشیئاً، بسبب امتناعنا نحن عن الدفاع عن معارف هذا المذهب، فإنّه لن یعود للتقیّة معنى هنا. فهل أرواحنا أعزّ وأغلى من حقیقة التشیّع یا ترى؟! بالطبع إذا كان هناك خطران، یهدّد أحدهما أصل الإسلام ولا یهدّد الآخر سوى مذهب التشیّع، فعندئذ، لابدّ من غضّ الطرف كاملاً عن مذهب التشیّع وبذل كافّة الجهود من أجل أن یبقى أصل الإسلام والقرآن مصونین؛ لكنّ هذا الفرض یندر جدّاً تحقّقه ولیس من المعلوم أنّه هل سیتحقّق یوماً أم لا.
إذن فلا یتصورنّ أحد أنّ نفس الوحدة هی قیمة مطلقة وأنّه یتعیّن حفظ الاتّحاد مهما كان الثمن وفی أی بقعة من الأرض. نفهم من ذلك أنّ الوحدة مع اُولئك الذین سلكوا طریق الباطل وهم ینادون الآن بالوحدة من أجل المحافظة على كیانهم وتقویة موقفهم بعد أن خسروا المعركة السیاسیّة ویعانون الآن من ضعف شدید، أقول إنّ الوحدة مع هؤلاء لا قیمة لها. فأمثال هؤلاء یقولون: «من أجل الحفاظ على الوحدة علیكم باتّباعنا! فالوحدة هی الأصل، وبما أنّنا لا نتّبعكم، فإنّه یتعیّن علیكم أنتم اتّباعنا فی سبیل حفظ الوحدة!». فأیّ قیمة لوحدة كهذه؟ بل یجب أن ننظر إلى ماهیّة الثمرة التی سنجنیها من هذه الوحدة. فهل نتیجتها أنّ الحقّ هو الذی سیسود ویقوى، أم الباطل؟ إذن فقیمة الوحدة والاتّحاد ـ وهمااللذان یعنیان الانسجام على الصعید العملیّـ تتّخذ طابع الوسیلة؛ بمعنى أنّها تتبَع الهدف المترتّب على تلك الوحدة. فلو كانت النتیجة المترتّبة على هذه الوحدة مضرّة فضلاً عن كونها غیر مجدیة، فإنّ وحدة كهذه لن تكون غیر ذات قیمة فحسب، بل ستكون لها قیمة سلبیّة أیضاً. ومن هنا فإنّ علینا أن ننظر ملیّاً أیّ ثمرة ستُجنى من تركنا لأداء تكلیفنا ومماشاتنا لسلوكیّات وتصرّفات الآخرین؟ فهل إنّ مصلحة تلك النتیجة هی أقوى، وأقرب إلى الحقّ، وأعزّ للمجتمع الإسلامیّ، أم إنّ الأمر لیس على هذه الشاكلة فبهذه الوحدة سیتلاشى الحقّ تدریجیّاً، فلا یعود الناس یعرفونه، وتزول المُثُل، وتفسد المعتقدات؟ فإنْ أدّت الوحدة إلى تضعیف الحقّ فلیس لها قیمة تذكر.
الآن إذا تمّ التوصّل إلى نتیجة مفادها أنّ للوحدة مصلحة أقوى، فماذا نصنع؟ فی هذه الحالة لابدّ من تغییر بعض سلوكیّاتنا. فما ینبغی الالتفات إلیه هنا هو أنّ تصرّفاتنا الاجتماعیّة یجب أن تتّخذ منحى بحیث لا تثیر باقی الفرق الإسلامیّة ضدّ التشیّع، ولا تجعلهم ینظرون إلى الشیعة نظرة سیئة، ولا تؤدّی إلى تنامی حقدهم على التشیّع وعدائهم له. فلا یجوز أن یؤدّی سلوكنا إلى تعریض أرواح بعض الشیعة للخطر. لا ینبغی أن نقوم بفعل أو نتفوّه بكلام من شأنه أن یؤجّج مشاعرهم، بل یتعیّن علینا أیضاً إذا لزم الأمرـ أن نعمل وفقاً لفتاواهم فی تصرّفاتنا الفقهیّة. یقول الإمام الخمینیّ (قدّس سرّه) استناداً لبعض الروایات: «إنّ المشاركة فی صلوات جماعة المخالفین لنا فی المذهب والصلاة فی صفوفهم الاُولى هی كالصلاة فی المسجد الحرام خلف الإمام المعصوم (علیه السلام)». وهو لم یتطرّق هنا إلى إعادة هذه الصلاة. وهذه هی التقیّة المداراتیّة التی كان الإمام الراحل یؤكّد علیها. وعلى الرغم من أنّ بعض الفقهاء لم یذكروا هذه التقیّة أو لم یعیروها كبیر اهتمام، لكنّه (رحمة الله علیه) اهتمّ بهذه القضیّة اهتماماً بالغاً.
السؤال الآخر الذی یتبادر إلى الذهن فی هذا المجال هو أنّه: هل المراد من التقیّة ومنع إثارة مشاعر الآخرین هو أن لا نخوض فی بحث علمیّ حول هذا الموضوع أیضاً؟ والجواب هو أنّ هذا الأمر غیر مقبول لدى العقلاء! أجل، هو مقبول لدى الصهاینة. فقد سنّوا فی بضع دول أوروبّیة قانوناً یعتبر التشكیك فی قضیّة محرقة الیهود (الهولوكوست) جرماً. فإن قال أحدهم إنّه لم یتمّ قتل الیهود جماعیّاً فی ألمانیا النازیّة، أو حاول التشكیك فی هذه القضیّة فإنّه سیتعرّض للمساءلة والعقوبة؛ ومن هذا المنطلق فإنّه إذا زعم أحد أنّ البحث فی مسألة حقّانیة الشیعة هو جُرم، فتلك نزعة صهیونیّة لیس غیر. فالبحث العلمیّ حول أیّ مذهب أو قومیّة لیس ممنوعاً، لأنّ البحث هو فعل العقلاء. فالعاقل هو الذی یسعى إلى معرفة الحقّ والباطل كی یقبل بالحقّ ویرفض الباطل.
وبناءً على ما مرّ فنحن نقول: إنّنا على استعداد للبحث والتحقیق فی المذاهب السنّیة المختلفة، ومتّى ما ثبت أنّ أحد مذاهب أهل السنّة هو حقّ فإنّنی شخصیّاً اُعلن فی حضوركم وأمام كلّ من یسمعنی لاحقاً وأعدكم بأنّنی سوف اُغیّر مذهبی وأصیر سنّیاً. فنحن نتّبع الحقّ؛ فایّ أمر توصّلنا إلى أنّه حقّ فسنحترمه ونقدّسه، ونحن نتوقّع من الآخرین أن یتعاملوا بالمثل. فهلمّوا إلى البحث والتحقیق، فإن وُجدت فی مذهبنا اُمور صحیحة مدعومة بأدلّة متقنة فاقبلوا بها؛ حیث إنّه: «وَإِنَّا أَوْ إِیَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِی ضَلاَلٍ مُّبِینٍ»5؛ كما أنّه إذا وجد فی مذهبكم ما هو صحیح فسنقبل به من جانبنا. فهذا أمر معقول وهو سیجابَه باستحسان العقلاء أینما طُرح. فمثلما أنّ مكتباتنا تزخر بكتبكم، فلتفسحوا أنتم المجال لانتشار كتب الشیعة فی البلدان السنّیة، لاسیّما فی العربیّة السعودیّة، كی یطالعها طلاب الحقّ. فما لم یتمّ إثبات واحد من هذین المذهبین فلنحاول الجلوس معاً على طاولة البحث مع مراعاة الأدب وفی بیئة ملؤها الهدوء والوئام، فهذا نوع من التكتیك. فالكلّ یعلم أنّه لن یقبل أحد برأی غیره من خلال الكلام الفظّ وتبادل الشتائم والكلام البذیء.
تأسیساً على هذا، فإنّ فی أعناقنا واجبین؛ الواجب الأوّل هو واجب علمیّ، فلابدّ لنا من إثبات اُسس التشیّع فی جوّ علمیّ وبحثیّ؛ وذلك لاعتقادنا بأنّ الإسلام الحقیقیّ یمثّله التشیّع، وأنّ ما قبِل به أهل البیت (علیهم السلام) وطبّقوه عملیّاً هو عین ما قاله وفعله نبیّ الإسلام (صلّى الله علیه وآله). ونحن نودّ أن ینتفع الآخرون من مائدة الكرم الإلهیّ تلك لئلاّ یُحرَموه فیضلّوا. فلولا التضحیات التی قدّمها علماء الشیعة على مرّ القرون الماضیة لم تكن معارف أهل البیت (علیهم السلام) لتصل إلى أیدینا. فلو أنّنا دوّنا تاریخ تلك المساعی لأصبحت موسوعة ضخمة. فقد قاموا بجمع تلك المعارف من الكتب المخطوطة التی عثروا علیها فی مكتبات مختلفة حول العالم وحفظوها وقدّموها لنا جاهزة. لقد رُویت فی هذا الباب قصص عجیبة. منذ بضع سنوات كانت لی رحلة إلى الهند وقد طرق سمعی هناك قصّة تثیر العجب، مفادها أنّ أحد علماء الشیعة كان منهمكاً فی تصنیف كتاب، وفی خضمّ بحثه ومن أجل إثبات حقّانیة التشیّع وإبطال بعض آراء المخالفین احتاج إلى كتاب نادر لم تكن توجد منه إلاّ نسخة واحدة كانت فی مكتبة عالم سنّی. فطلب منه بأدب أن یعیره ذلك الكتاب فلم یقبل. فترك العالم الشیعیّ مدینته قاصداً بلدة العالم السنّی ودخلها على هیئة عامل. ولمّا كان للعالم السنّی منزلة مرموقة بین أهل مدینته وبطانة ضخمة، جاء الشیعیّ قائلاً لهم بتواضع: أنا غریب ولیس لی مورد أتكسّب منه قوت یومی، فأذنوا لی بالخدمة عندكم؛ أكنس الدار، وأغسل الأوانی، فأحصل على لقمة أسدّ بها رمقی. فترحّموا علیه وقبلوه خادماً فی الدار. فخدم فی الدار مدّة أحسن ما تكون الخدمة حتّى أحبّه صاحب الدار كثیراً. وبعد مدّة من الزمن طلب من صاحب الدار أن یأذن له باستعمال المكتبة، فأذن له الأخیر لشدّة ما تعلّق قلبه به. فأخذ یذهب كلّ یوم فی جوف اللیل لیستنسخ جزءاً من الكتاب على ضوء شمعة حتّى انتهى من استنساخه بعد أشهر. فذهب إلى صاحب الدار وطلب منه السماح بالسفر إلى وطنه بحجّة الاشتیاق إلى الأهل والأحبّة. وفی نهایة المطاف تمكّن من وداعهم بأیّ ثمن وترك تلك البلدة بصحبة الكتاب. وبعد وصوله إلى بلدته كتب رسالة إلى صاحب المكتبة شرح فیها قصّته وطلب منه أن یُبریء على ذلك. وعلى الرغم ممّا انتاب صاحب المكتبة من غضب شدید لكنّه من فرط تعجّبه من علوّ همّة الرجل فقد كتب إلیه: إنّك لم تحسن التصرّف فی فعل ذلك من دون إذن منّی؛ لكنّنی عفوت عنك لما لك من همّة عالیة.
وهذا اُنموذج بسیط على ما أنجزه علماء الشیعة على مرّ العصور فی مجال العمل الثقافیّ كی ننعم أنا وأنتم الیوم بمعرفة السیّدة الزهراء (سلام الله علیها). فلولا تلك الجهود لتخیّلنا أنّ نزاعاً كان قد نشب فی صدر الإسلام بین بضعة أشخاص ولا أثر له فی الوقت الحاضر. ولولا تلك التضحیات لما كنّا نحن الیوم قد سمعنا باسم الإمام الحسین (علیه السلام)؛ لولا ذلك لطُمس الحقّ ولأصبح الهدف الأساسیّ من الدین فی طیّ النسیان. لهذا فإنّه من غیر المبرَّر بتاتاً أن یُترك العمل العلمیّ والبحثیّ ویعطّل.
أمّا الواجب الثانی فهو التحلّی بالسلوك الرصین، لأنّ الفظاظة، وسوء الأدب، وعدم احترام الطرف المقابل لیست من الصواب فی شیء. فهذه التصرّفات من شأنها أن تبعّد الهدف الذی نصبوا إلیه أو أن تنقضه. فهذه هی سبیل الشیطان یبیّنها للإنسان فیعتقد الأخیر أنّ تصرفاً كهذا هو من منطلق الشجاعة. فهل فی الوقت الذی توفّر فیه للشیعة شیء من السلطة وكان الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) یعقد دروساً ضخمة حتّى أنّ علماء السنّة كانوا یحضرون دروسه بوفرة، هل یا ترى كان یتعامل معهم بفظاظة وبعدم احترام؟! كیف كان هؤلاء یجدون فی أنفسهم الاستعداد لحضور درسه (علیه السلام)؟ علینا نحن أن نتعلّم تلك الأسالیب. فعندما تكون هناك حاجة للتقیّة الخوفیّة، یجب أن نعتمدها وعندما تستدعی الضرورة العمل بالتقیّة المداراتیّة، فإنّ علینا العمل وفقاً لها؛ لكنّه لیس لنا، فی أیّ حال من الأحوال، أن نغلق باب البحث والتحقیق وینبغی أن نعلّم الآخرین هذه الثقافة. كما أنّ علینا أن نحترم كتبهم أیضاً. لاحظوا تفسیر المیزان؛ فكما أنّه ینقل فی بحوثه الروائیّة عن الكافی تراه یكتب: فی الدرّ المنثور كذا وكذا... ولا یقیم أیّ فرق فی النقل وفی الاحترام بین المنقول عنهم.
فالعدید من المباحث التی نُفید منها فی إثبات مذهبنا وعقائدنا الفقهیّة ومعتقداتنا الكلامیّة فی مقابل المخالفین لنا إنّما نستقیها من مصادرهم. هذه المصادر أكثر ما تفید فی إقناع الطرف المقابل؛ ذلك أنّ مصادرنا لا تتمتّع عندهم باعتبار یذكر؛ ومن هنا فقد حرص المرحوم صاحب «عبقات الأنوار» ومن بعده صاحب «الغدیر» علی أن یجمعا المباحث الحقّة من كتب أهل السنّة كی لا تبقى فی أیدیهم حجّة. علینا نحن أیضاً أن نتعلّم هذه الطریقة ونكرّرها ولا نفعل ما یثیر مشاعرهم على نحو یشكّل مانعاً من معرفتهم للحقّ. إنّ من واجبنا أن نحفظ معارف أهل البیت (علیهم السلام) من أجل الأجیال القادمة وكلّ البشر وأن ننشرها ما وسعنا ذلك كی تتعرّف البشریّة على تلك الحقائق. ینبغی لنا أن نزیل العقبات من هذا الطریق وأن لا نشكّل نحن مانعاً فی هذا السبیل. فلا ینبغی ان یصدر منّا ما یفقدهم أصل الرغبة فی قراءة كتبنا أو الإصغاء إلى كلامنا. فعمل كهذا لا یمتّ إلى العقل بصلة، كما أنّ تعطیل البحث العلمیّ لیس هو عملاً عقلائیّاً على الإطلاق.
سنتعرّض، بمشیئة الله تعالى، ابتداءً من المحاضرة القادمة إلى البحث حول أفضل مصادر الشیعة وأكثرها مدعاةً للفخر والاعتزاز ألا وهی خطبة السیّدة فاطمة الزهراء (سلام الله علیها)، وسنحاول جهدنا الإفادة من مضامین تلك الخطبة العظیمة التی تأتی من حیث الأهمّیة بعد الوحی القرآنیّ، والتی تُعدّ من حیث الفصاحة والبلاغة، وإتقان المباحث، واُسلوب الاستدلال، والجدال، والمناظرة مجموعة فریدة لعصارة عقائد مذهب التشیّع.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. سورة النحل، الآیة 106.
2. سورة البقرة، الآیة 173.
3. سورة آل عمران، الآیة 28.
4. بحار الأنوار، ج2، ص74.
5. سورة سبأ، الآیة 24.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 16 آب 2010م الموافق للیلة السادسة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
بتوفیق من الله تعالى نستهلّ البحث حول الخطبة المعروفة للسیّدة الزهراء (سلام الله علیها)؛ وبمناسبة تسمیة هذه الخطبة بالخطبة الفدكیّة فإنّه من المناسب أن نقدّم بادئ ذی بدء شرحاً موجزاً عن قصّة «فدك»، إذ أنّ أغلب شباننا لیس لدیهم الاطّلاع الكافی على هذه القضیّة. فدك هی اسم بلدة تقع إلى الشمال من المدینة المنوّرة قرب حصون خیبر وتفصلها عن المدینة حوالی مائة كیلومتر. سكّان هذه البلدة وتلك الحصون كانوا طوائف من الیهود. وفیما یتعلّق بنزوح الیهود إلى أرض الحجاز وتوطّنهم فی المدینة فهذا یعود إلى قرون قبل ظهور الإسلام. لقد سمع علماء الیهود من أنبیائهم (سلام الله علیهم أجمعین) وقرأوا فی كتبهم أنّه سیُبعث فی آخر الزمان نبیّ یصدّق مَن سبقه من الأنبیاء، وسینتشر دینه فی العالم بأسره. فهاجر الیهود إلى أرض الحجاز على أمل إدراك نبیّ آخر الزمان والإیمان به، وتوطّنوا فی أطراف المدینة؛ إذ كانوا یعلمون أنّ عاصمة ذلك النبیّ الموعود ستكون المدینة. كان الیهود فی ضواحی المدینة یشكّلون ثلاث طوائف (وهم بنو قریظة، وبنو قینقاع، وبنو النضیر) وكانوا یمتازون بخصوصیّات أوّلها أنّهم كانوا حالهم حال غیرهم من الیهودـ شدیدی الشغف بالمال ویتمتّعون بعقلیّة اقتصادیّة. وثانیها التفکر للمستقبل البعید والتأمل فی العواقب. فعندما جاءوا المدینة سعوا إلى تشخیص الأراضی التی تتمتّع بالخصوبة والأماكن الاستراتیجیّة وبناء القلاع الحصینة. أمّا میزتهم الثالثة فهی أنّهم كانوا أهل علم ومعرفة ویمتازون بحضارة تفوق حضارة عرب الجزیرة. وقد نال الیهود بما یمتلكونه من خصوصیّات مكانة مرموقة بین العرب.
وبعد هجرة النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) إلى المدینة ونجاحه عملیّاً فی تأسیس الدولة الإسلامیّة، وقّع النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) مع مختلف طوائف الیهود معاهدة تقضی بعدم تعرّض الیهود للمسلمین أو مدّ ید العون لأعدائهم؛ لكنّ أیّاً من تلك الطوائف لم تف بعهدها وراح الیهود یبنون علاقات سرّیة مع مشركی مكّة من جانب، وفیما بعد مع منافقی المدینة من جانب آخر بل وتآمروا فی التخطیط لشنّ حرب على نبیّ الإسلام (صلّى الله علیه وآله). وقد عاهدهم المنافقون بأنّكم إن اجتحتم المدینة فإنّنا سنكون ظهیراً لكم لأنّ عددنا یقترب من الألفین. یشیر الباری تعالى إلى هدف المنافقین هذا فی سورة «المنافقون» فی قوله: «یَقُولُونَ لَئِنْ رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِینَةِ لَیُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ»1؛ فهم یزعمون بأنّهم أعزّاء، والمسلمون لیسوا إلاّ مشرّدین من مكّة أذلاّء وإنّنا سوف نطردهم من المدینة. وحینما وصل خبرهم هذا إلى مسامع رسول الله (صلّى الله علیه وآله) تجهّز لقتالهم فنشبت فی نهایة المطاف حروب كانت إحداها واقعة خیبر. فی هذه الواقعة تمّ فتح حصون خیبر، التی كانت من أهمّ حصون الیهود الاستراتیجیّة: «وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ»2، على ید أمیر المؤمنین علی بن ابی طالب (علیه السلام) المقتدرة. فبلغ خبر فتح خیبر أهالی فدك، ومن أجل حقن دمائهم ووقایة أنفسهم ممّا نزل بأهل خیبر من البلاء اقترحوا على النبیّ (صلّى الله علیه وآله) الصلح، وعرض كبراء فدك على النبیّ إعطاءه أراضیهم وأموالهم فی مقابل تركهم أحیاء. فقبِل النبیّ (صلّى الله علیه وآله) بعرضهم وقام كلّ واحد منهم فأخذ لنفسه من أمواله بمقدار بعیر وسلّم الباقی للنبیّ (صلّى الله علیه وآله). یشیر القرآن الكریم فی أوّل سورة الحشر إلى تلك القصّة بالقول: «وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَیْهِ مِنْ خَیْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلـٰكِنَّ اللهَ یُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ یَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ»3؛ ومضمون هذه الآیة هو أنّ هذه الأرض التی استولیتَ علیها من دون استخدام قوّة عسكریّة والتی وهبها أهالیها بأنفسهم للنبی (صلّى الله علیه وآله)، تختلف عن أموال الغنائم التی یحصل علیها المسلمون فی الحرب. ففی العادة عندما ینتصر جند الإسلام فی الحرب على الكفّار ویحصلون على الغنائم فإنّ خمس تلك الغنائم یكون من حصّة النبیّ (صلّى الله علیه وآله): «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّنْ شَیْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی الْقُرْبَىٰ»4. أمّا الأموال التی تقدَّم خصیصاً للنبیّ (صلّى الله علیه وآله) فهی كلّها تعود له. هناك فی الفقه بحث حول أقسام أموال غنائم الحرب. فواحد من تلك الأقسام هو ذلك الذی تشیر إلیه الآیة السادسة من سورة الحشر حیث تقول: «ما أعطا الله من أموالهم لرسوله ممّا لم تستخدموا فی الحصول علیه لا خیلاً ولا جمالاً». فلیس سوى النبیّ (صلّى الله علیه وآله) من له صلاحیّة التصرّف فی تلك الأموال وما من أحد غیره على الإطلاق له حقّ فیها.
فأهالی فدك هم الذین سلّموا أراضیهم للنبیّ كی یحقنوا دماءهم. وطبقاً لما تنقله بعض الروایات فإنّه عندما أصبحت تلك الأراضی ملكاً للنبیّ (صلّى الله علیه وآله) نزلت هذه الآیة: «وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ»5؛ فصحیح أنّك حرّ فی التصرّف فی تلك الأموال كیف تشاء؛ لكنّه «لذوی القربى» حقّ فیها. أی لقد صدر الأمر فی الحقیقة بأنّه: صحیح أنّ لك كامل الحرّیة فی التصرّف فی تلك الأموال، لكن علیك أن تعطی هذا القسم من الأراضی لذوی القربى. وقد جاء فی الخبر أنّ المراد من «ذا القربى» هو فاطمة الزهراء (سلام الله علیها)6. وتنفیذاً للأمر الوارد فی الآیة الشریفة فقد قام النبیّ (صلّى الله علیه وآله) باعطاء فدك للزهراء (علیها السلام) وعیّن فی حیاته متولّیاً علیها لیدیر شؤونها. فكان النبیّ (صلّى الله علیه وآله) یأخذ من ریعها ما یعادل قوته وقوت الزهراء لسنة ثمّ یوزّع الباقی بین الفقراء بعنوان هدیة فاطمة الزهراء (سلام الله علیها). وما دام النبیّ (صلّى الله علیه وآله) على قید الحیاة كانت الاُمور تجری على هذا المنوال.
لكن بعدما رحل رسول الله (صلّى الله علیه وآله) الی ربّه وفی غضون بضعة أیّام لا غیر جرت على الأمّة الإسلامیّة من التحوّلات العظیمة ما یصعب تصدیقه للغایة. كلّ تلك القصص التی نسمعها كلّ یوم وكلّ لیلة فتُدمَى لها قلوبنا كانت قد جرت أحداثها فی تلك الأیّام القلائل. فبعد عشرة أیّام من وفاة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) أخرج خلیفة ذلك الزمان وكیلَ الزهراء (سلام الله علیها) من فدك وعیّن غیره مكانه، فصادر بذلك ریع تلك الأراضی الذی قیل إنّه كان یصل حتّى إلى 120 ألف دینار، محتجّاً بأنّ تلك الأموال كانت توزَّع فی حیاة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) على الفقراء؛ ونحن أیضاً نأخذها ونوزّعها على الفقراء، والحال أنّ فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) كانت تنفق على الفقراء من ملكها الخاصّ ولم یكن المال متعلّقاً بالدولة. ولم تمض على تلك الأحداث غیر شهرین وبضعة أیّام حتّى رحلت الزهراء (سلام الله علیها) عن هذه الدنیا.
فی هذه الفترة بالتحدید كان للزهراء (علیها السلام) بضع خطب وحوارات كانت إحداها هذه الخطبة المشهورة التی تُعدّ من مفاخر الإسلام ومن الوثائق التی یظلّ صداها یدوّی إلى یوم القیامة معلنة عن حقّانیة الإسلام، والتشیّع، وأهل بیت الرسول (صلّى الله علیه وآله). ومن حُسن الحظّ أنّ هذه الخطبة بقیت، بهمم الشیعة، محفوظة إلى یوم الناس هذا بل وثُبّتت أیضاً حتّى فی كتب المخالفین.
یتصوّر البعض أنّ الذی آلم الزهراء (علیها السلام) إلى أبعد الحدود كان غصبهم لأموالها! بل ویُذكَر فی بعض المراثی أحیاناً أنّها (سلام الله علیها) قالت: «لقد سلبتم قوت عیالی!». فإن قلنا إنّ هذا الكلام هو من أعظم ألوان الظلم الذی مارسناه نحن الشیعة فی حقّ أهل البیت (علیهم السلام) لم نكن قد بالغنا. فكیف یمكن لمَن لا تساوی كنوز الدنیا كلّها فی أعینهم أكثر من كومة رماد أن یغتمّوا لفقد مال دنیویّ؟! فهذا أمیر المؤمنین علی بن ابی طالب (علیه السلام) یقول فی نهج البلاغة: «وما أصنع بفدك وغیر فدك»7؟! أیكون حقیقةًـ كلّ ذلك البكاء، والأنین، والتظلّم من أجل مال الدنیا؟! إنّ تصوّراً كهذا لا یعدوا كونه تصوّراً ساذجاً فی غیر محلّه، ولیس هو من العقل فی شیء. فحقیقة الأمر أنّ هذه المسألة كانت ذریعة اتّخذتها سیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) لتعلن عن حقائق أرادت لها أن تظلّ على درجة كبیرة من الوضوح والجلاء إلى یوم القیامة فلا یتمكّن أحد من إخفائها والتستّر علیها. لم یكن من أحد، بما فیهم شخص أمیر المؤمنین (علیه السلام)، باستطاعته أن یبیّن تلك الحقائق بمثل تلك الصراحة غیر السیّدة الزهراء (سلام الله علیها)! فأمیر المؤمنین (علیه السلام) كان هو نفسه طرفاً فی النزاع مع الخلفاء على قضیّة خلافة رسول الله (صلّى الله علیه وآله)؛ ومن أجل ذلك فإنّه ما كان یتفوّه بكلمة حتّى یقولوا له: «إنّك ترید الكلام لمصلحتك!». لكنّ فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) كانت قد أعلنت عن تلك الحقائق باُسلوب لا یجرؤ أحد الیوم على التكلّم عن هؤلاء الأشخاص بمثله. فی تلك الظروف كان هذا العمل الوحید الذی تستطیع الزهراء (سلام الله علیها) القیام به وبالإفادة من فرصة الأیّام القلیلة تلك كانت (علیها السلام) قد أسدت إلى الإسلام خدمة تعادل خدمة أعوام وقرون متمادیة.
فیما یخصّ اُسلوب الحوار الذی جرى بین السیّدة الزهراء (علیها السلام) من جانب وخلیفة ذلك الزمن والمتصدّین لقضیّة الخلافة من جانب آخر هناك نقاط تقع أحیاناً محطّ غفلة أو قلّة إنصاف، كما ویطرحها البعض أیضاً بعنوان الشبهة، وهی أنّ هذه المزرعة فی الواقع كانت قد وُهبت من قبل النبیّ (صلّى الله علیه وآله) خصّیصاً للزهراء (سلام الله علیها)؛ لكنّ مسألة الإرث قد اُقحمت فی القضیّة بعد ذلك حیث طالبته الزهراء (علیها السلام) بإرث أبیها، فبادرها بالجواب قائلاً: إنّ النبیّ قال: «نحن معاشر الأنبیاء لا نورّث!».
هذا الحدیث الذی نقله الخلیفة لفاطمة (سلام الله علیها) هو من الموارد التی یؤخذ فیها بعض الكلام ویُسكَت عن البعض الآخر الذی یتضمّن القرینة، ممّا یؤدّی إلى الالتباس فی فهم المعنى. نحن أیضاً لدینا روایات تحمل هذا المضمون نقلها أئمّة أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین) عن رسول الله (صلّى الله علیه وآله) أنّه قال: «نحن معاشر الأنبیاء لا نورّث درهماً ولا دیناراً» أو أنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) قال بنفسه فی مقام الحثّ على طلب العلم: «إنّ الأنبیاء لم یورّثوا دیناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم، فمَن أخذ منه أخذ بحظّ وافر»8؛ والغایة منه هو أنّ علیكم أن تقدروا العلم حقّ قدره فهو میراث الأنبیاء. لكن هناك فرقاً بین: ما الذی تركه الأنبیاء للناس من میراث، وبین: ما الذی تركه الأنبیاء من أموالهم كإرث لوارثیهم. فأحیاناً ننظر إلى الأنبیاء «بما هم أنبیاء»، أو كما یُصطلح علیهـ من زاویة شخصیّاتهم الحقوقیّة، ففی هذه الحالة یتمّ طرح الأنبیاء فی مقابل الاُمّة. هاهنا یمكننا التساؤل: ما الذی تركه النبیّ للاُمّة من إرث؟ حیث یكون الجواب: إنّ النبیّ لا یورّث اُمّته مالاً؛ بل یورّثها العلم، والمعرفة، والدین. لكنّه عندما یُطرح شخص النبیّ بما هو محمّد بن عبد الله (صلّى الله علیه وآله)، فحینئذ یكون السؤال: ما الذی تركه لامرأته وأولاده من الإرث؟ فهاتان مسألتان منفصلتان. فالنبیّ بما هو نبیّ لا یترك لاُمّته مالاً، وهذا صحیح؛ لكنّ ذلك لا یتنافى مع كونه فرداً من أفراد الاُمّة ومتّبعاً لأحكام الإسلام. فنبیّ الإسلام، من حیث إنّ علیه العمل بأحكام الإسلام وله حقوق أیضاً طبقاً للضوابط الإسلامیّة، فهو كسائر المسلمین. فیجب علیه حاله حال باقی المسلمینـ أن یصلّی، ویصوم، ویراعی حلال الله وحرامه، وإنّ قاعدة «أَوْفُوا بِالعُقُودِ»9 تشمله أیضاً، وعلیه أن یتّصف بالوفاء فی المعاملة، و... الخ. وهناك فی القرآن الكریم آیات صریحة حول توریث الأنبیاء (علیهم السلام) لأبنائهم؛ كما فی قوله: «وَوَرِثَ سُلَیْمَانُ دَاوُدَ»10، وكما فی دعاء النبیّ زكریّا (علیه السلام) لله أن یرزقه ولداً من أجل أن یرثه: «یَرِثُنِی وَیَرِثُ مِنْ ءَالِ یَعْقُوبَ»11. ولا یُراد من هذه الآیات أنّهم تركوا میراثاً لأنّهم رسل وأنبیاء؛ بل المقصود منها أنّه بما أنّهم مسلمون ومنصاعون لأحكام الله تعالى فإنّهم یرثون موَرِّثیهم، ویورّثون وارثیهم. ولا اُرید من هذا الكلام إلاّ التنویه إلى هذه النقطة وهی أنّ تقطیع الكلام یبعث أحیاناً على تغییر معناه الأمر الذی یؤدّی إلى عدم فهم القصد الأساسیّ منه.
قبل الولوج فی البحث لابدّ من الالتفات إلى هذه النقاط وهی أنّ نزاع السیّدة فاطمة (سلام الله علیها) مع المدّعین لخلافة رسول الله (صلّى الله علیه وآله) لم یكن نزاعاً على المال والإرث. فلم یَعدُ الأمر ذریعة لقول بعض الحقائق وتثبیتها فی صفحات التاریخ، كما أنّ سلوك السیّدة الزهراء (علیها السلام) بعد تلك الأحداث كان بكیفیّة من شأنها أن تؤمّن هذا الهدف المرجوّ. وعلیّ أن أقول هنا أیضاً إنّ وصیّة فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) القاضیة بعدم رضاها بحضور هؤلاء فی جنازتها الشریفة لم تكن من دافع الحقد والضغینة، والعیاذ بالله؛ بل لقد كانت هذه الخطوة من أعظم السیاسات التی خطّت بخطّ البطلان على مزاعمهم. فلقد أرادت (علیها السلام) أن تثبّت منتهى حنقها وغضبها علیهم كی یكونوا المصداق الأجلى لحدیث النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله): «إنّ الله عزّ وجلّ یغضب بغضب فاطمة»12. فالغایة من دفن جسدها الشریف سرّاً وعدم الإذن للأغیار بالمشاركة فی تشییع جنازتها كانت من أجل أن تُثبّت هذه الحقیقة فی التاریخ ولیعلم الجمیع أنّها لم ترضَ عن هؤلاء قطّ. هذه المسألة لم تكن على خلفیّة الحقد والضغینة؛ فأصحاب هذا البیت الطاهر كانوا على جانب من الرأفة والرحمة بحیث إنّهم لو شعروا ببصیص أمل، مهما كان ضئیلاً، بإمكانیّة هدایة ألدّ وأعتى أعدائهم، ما كانوا لیألوا جهداً فی هدایتهم؛ لكن لو لم تفعل السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) ما فعلت لما انجلت الغبرة، ولما انكشفت الحقیقة، ولما ذقنا أنا وأنتم الیوم طعم الإسلام والتشیّع. فبفضل تدبیر السیّدة فاطمة (سلام الله علیها) هذا عرف الملایین من البشر حقیقة الإسلام. إنّنی لأقطع وأجزم على أنّه لو كان ثمّة بصیص أمل فی هدایة هؤلاء وتوبتهم عبر المشاركة فی جنازة الزهراء (علیها السلام) لأصرّت (سلام الله علیها) إصراراً بلیغاً على مشاركتهم؛ لكنّها كانت على علم بأنّ الذین خالفوا أمیر المؤمنین (علیه السلام) علناً لن یكونوا على استعداد لقبول الحقّ مهما كان الثمن. ولهذا فقد أسّست (علیها السلام) لهذا التدبیر بُغیة أن تَفهَم الأجیال القادمة بأنّه قد تولّد فی الاُمّة الإسلامیّة تیّار راح یسیر على عكس المسیرة الحقیقیّة للإسلام وخلافاً لمقاصد النبیّ الكریم (صلّى الله علیه وآله) وتوجیهاته، كی یتمكّن البشر من معرفة الحقّ إذا رغبوا فی اتّباعه.
اللهمّ لا تحرمنا شفاعة الزهراء (علیها السلام).
1. سورة «المنافقون»، الآیة 8 .
2. سورة الحشر، الآیة 2.
3. سورة الحشر، الآیة 6.
4. سورة الأنفال، الآیة 41.
5. سورة الإسراء، الآیة 26.
6. بحار الأنوار، ج48، ص157.
7. نهج البلاغة، الرسالة 45.
8. بحار الأنوار، ج1، ص164.
9. سورة المائدة، الآیة 1.
10. سورة النمل، الآیة 16.
11. سورة مریم، الآیة 6.
12. عیون أخبار الرضا (علیه السلام)، ج2، ص26.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 17 آب 2010م الموافق للیلة السابعة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
سوف ننهج فی شرح خطبة السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) نهجاً بحیث لا نسهب فی البحث فیها فیأخذ منّا زمناً طویلاً، ولا نأخذ جانب الإجمال فلا نعطی الموضوع حقّه. نسأل الله تعالی أن یوفّقنا لأن نوضّح هذه الخطبة الشریفة باُسلوب وسط ومعتدل.
طبقاً لما تواترت علیه النقول فإنّ الخطبة المباركة للسیّدة الزهراء (سلام الله علیها) قد استُهلّت بهذه الكلمات: «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى مَا أَلْهَمَ، وَالثَّنَاءُ بِمَا قَدَّم»1؛ حیث ابتدأت الجملة الاُولى بالحمد، والثانیة بالشكر، والثالثة بالثناء. والفارق الذی یمكن ملاحظته إجمالاً بین هذه المصطلحات الثلاثة هو أنّ مفهوم الثناء أعمّ من مفهومی التعبیرین الآخرَین؛ حیث یستخدم الثناء فی العربیّة كلّما اُرید المدح والإطراء، سواء أكان الممدوح عاقلاً أم غیر عاقل، حیّاً أم جماداً، وسواء أكان على فعل اختیاریّ أم غیر اختیاریّ، إذ یمكن استعمال تعبیر الثناء فی جمیع تلك الموارد؛ أمّا الحمد فلا یُستعمل إلاّ عندما یكون الفعل المأتیّ به خیراً وقد صدر من فاعل مختار وذی شعور، سواء أعاد ذلك الفعل بالفائدة على الحامد أم لم یعد. وأمّا الشكر فهو أخصّ من الحمد؛ إذ هو الثناء على من جاء بفعل خیر وقد عاد الأخیر بالنفع على الشاكر.
الملاحظة الاُخرى فیما یتعلّق بالسبب فی ترتیب هذه الألفاظ الثلاثة: الحمد، والشكر والثناء وأنّه لماذا جاء الحمد أوّلاً، ثمّ تلاه الشكر، فتبعه الثناء؟ نقول: لعلّ السبب فی ذلك یعود إلى أنّه مادام المقام هو مقام حمد الله سبحانه وتعالى، وأنّ الله هو عین الحیاة والعلم، وأنّ له أعلى مراتب الحیاة والقدرة والعلم والاختیار، فإنّ على الإنسان بالطبع أن یحمده على أفعاله الحسنة والاختیاریّة، إذ لیس لله فعل غیر اختیاریّ؛ وإنّ كلّ ما یصدر منه عزّ وجلّ من آثار الخیر فهو باختیاره، ولا یصدر منه عمل جبریّ على الإطلاق. إذن فلفظة الحمد تناسب مقام الثناء على الله جلّ وعلا. كما أنّ الله تعالى أیضاً قد استهلّ كلامه فی القرآن الكریم بالحمد.
وفی الجملة الثانیة یتوجّه الثناء إلى الله سبحانه على ما خصّ به المُثنِی من العطاء، وإنّ ما یلیق بالمقام هنا هو لفظة الشكر. ثمّ بعد أن حمدت (علیها السلام) اللهَ ثمّ شكرته على ما خصّها به من آلائه، أرادت تعمیم هذا الحمد بما یشبه ذكر العامّ بعد الخاصّ؛ فاستعملت تعبیر الثناء.
الملاحظة الثالثة التی تسترعی الاهتمام فی هذه العبارة هی قولها (سلام الله علیها): «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ».
إنّ كلّ ما یفعل الله عزّ وجلّ من الخیر فهو نعمة لعباده؛ ومن هذا المنطلق فإنّه عندما یحمد المرء ربّه، یكون الدافع من وراء حمده هو التفاته إلى نعمه جلّ شأنه. لكنّ السؤال الذی یتبادر إلى الذهن هنا: ما هو المراد من النعمة؟
الإنعام هو إعطاء النعمة، والأصل فی النعمة هو «نَعَمَ» وهو من النعومة واللطافة. فلفظة النعومة تُستخدم لوصف القماش اللیّن الملمس أو ورقة الزهرة اللطیفة الملمس. أمّا العلّة فی تسمیة النعمة بهذا الاسم فهی كونها مناسبة ومفیدة للمتنعّم وهو یعیش فی دعة وطمأنینة بوجودها. فإن أصاب الإنسانَ شیء یضرّه فلا یُقال لهذا الشیء نعمة. وإذا أردنا أن نطبّق هذا المعنى اللغویّ على مصطلح أهل المعقول نقول: النعمة هی كلّ ما یؤدّی إلى كمال الشیء. فكما أنّ الكمال نفسه هو نعمة للموجود، فإنّ ما یوجب الكمال هو كذلك أیضاً؛ أمّا الشیء الذی یأتی بالضرر والنقص للموجود، أو الذی یؤدّی إلى زواله فهو لن یكون نعمة له.
وعبر تحلیل عقلیّ دقیق یمكننا القول بأنّه: عندما تكون كمالات الوجود مطلوبة بالنسبة لنا، فإنّ الوجود نفسه سیكون مطلوباً بطریق أَولى؛ ومن هذا المنطلق نلاحظ أنّ كلّ كائن حیّ فهو یحاول جهده المحافظة على حیاته والبقاء على قید الحیاة؛ وحتّى الحشرات، فهی تُبدی حركة مهما أمكنها لعلّها تعیش للحظة إضافیّة. وهذه الحالة نابعة من حقیقة أنّ الحیاة هی أكثر ما یُطلب من الاُمور. وعلیه فكما أنّ كمالات الوجود مطلوبة للإنسان وهی نعمة له، فإنّ أصل الوجود هو نعمة للإنسان أیضاً.
فی مثل هذه الموارد التی تحتاج إلى تحلیل عقلیّ ولا یسع اللغة والتركیبات اللفظیّة والمفاهیم العرفیّة أن تعطی المبحث حقّه فإنّنا نستعمل اللفظ، مع بعض المسامحة والتصرّف، بكیفیّة تساعد ولو بنحو من الأنحاءـ على إیصال المعنى إلى الأذهان. فعندما نقول: إنّ الله یهبنا الوجود، فأیّ شیء «نحن» كی یهبنا الله الوجود؟! فنحن لم نكن شیئاً أصلاً قبل أن یمنحنا الله الوجود. وبتعبیر آخر، عندما نقول: إنّ الله «یمنحنا» الوجود، فما هی هذه اﻟ«نا» كی یمنحها الله الوجود؟! فإنّ اﻟ«نا» و«الوجود» لا یمكن فصلهما إلاّ بالتحلیل العقلیّ، وإلاّ فإنّ «نحن» هی عین وجودنا. ولعلّ التفكیك بین الماهیّة والوجود ینبع من هذه النقطة. وأمثال هذه التعابیر موجودة حتّى فی القرآن الكریم. ففی سورة یٰس یقول الباری عزّ وجلّ: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ كُنْ فَیَكُونُ»2؛ فعندما یرید الله تعالى أن یُوجِد شیئاً، فإنّه یقول له: كن! فیتحقّق ذلك الشیء. فقبل أن یقول الله: كن، لم یكن هناك شیء أصلاً لیقول «له»: كن؛ فمَن هو المخاطَب إذن؟ أی: عندما یقول الباری عزّ وجلّ: «یقول له»، فلِمَن تعود هذه «الهاء» فی «له»؟ وهذا هو عین التحلیل الذی لا مفرّ من اللجوء إلیه عندما یُراد إفهام حقیقة تعلّق كلّ الاُمور بإرادة الله عزّ وجلّ. فحینما یُراد القول: إنّ الله لا یقول لشیء: كن، إلاّ ویكون، فلا مناص من أن نفترض أنّه عبارةٌ عن ماهیّة وشیء. وهذه المصطلحات هی من أجل مساعدة أذهاننا على الفصل بین المفاهیم على نحو أفضل. فالتفكیك فی المباحث العقلیّة بین الوجود والماهیّة وما شاكلهما هو من هذا القبیل أیضاً؛ ولذا نحن نقول: إنّ أحدهما هو اعتباریّ والآخر هو حقیقیّ.
فعندما تكون كمالات من قبیل العمر الأطول، والقدرة الأكبر، والعلم الأغزر، وما إلى ذلك هی نعمة، أفلا تكون حیاتنا ذاتها نعمة؟! أجل، هی كذلك، بل هی أعظم النعم. فإنّ أعظم نعمة یعطیها الله تعالى لأیّ مخلوق هی نعمة الوجود والحیاة. فإنّ عملیّة إیجادی من قبل الله عزّ وجلّ، وحقیقة أنّنی أصبحت وجوداً، لَیتطلّب منّی من الشكر أكثر من أیّ شیء آخر؛ ذلك أنّ كلّ ما نملك هو فرع لهذا الوجود؛ إذ أنّ كلّ الاُمور التی نملكها هی مطلوبة من باب أنّها تكمّل الوجود. فإنّ هبة الحیاة لنا من قبل الله لحظة بعد لحظة هی نفسها نعمة؛ فإنْ أمسك تبارك وتعالى لحظة واحدة، فلن یعود هناك شیء أبداً. فكلّ هذه الاُمور هی نِعم یفیض الله تعالى علینا بها باستمرار. فعندما نلتفت إلى حقیقة أنّ الله قد وضع تحت تصرّفنا كلّ تلك النعم (من نعمة الوجود، إلى الشعور، إلى السلامة، و... الخ)، فلابدّ حینئذ من أن نقول: «الحمد لله على ما أنعم».
لاحظتم فی هذا البحث أنّنا قد استنتجنا معنى لغویّاً للنعمة انتزعناه من قیاس شیء بشیء آخر ملائم له، ومن ثمّ قمنا بتعمیمه عبر التحلیل العقلیّ حتّى شمل نفس الوجود.
وفی بعض الاستعمالات الاُخرى تُستعمل لفظة النعمة بشكل مختلف. ففی أحد الإطلاقات تقسّم الحوادث التی تجری فی العالم ویكون لها ارتباط بنا إلى قسمین: نِعم وبلایا. فما یرضینا منها ابتداءً وفقاً لإدراكاتنا وما نستمتع به فهو یُعد نعمة، لكنّ ما لا یكون كذلك كالأمراض، والشدائد، والإهانات، وغیرها فإنّنا لا نعدّه نعمة؛ بل بلاءً. لكنّنا إذا نظرنا إلى الاُمور نظرة توحیدیّة، وهو ما یعلّمنا إیّاه القرآن الكریم، فسوف نتوصّل إلى نتیجة بالغة الدقّة مفادها أنّ معظم ما یفرح به الإنسان وما یعتبره نعمة إنّما یشكّل سبباً لامتحانه، لكنّه هو الذی یفشل ویسقط فی هذا الامتحان؛ فالإنسان على سبیل المثالـ یفرح كثیراً بحصوله على الثروة؛ لكن هل یا ترى أنّ الثروة التی تقوده إلى البخل، أو تدفعه لترك الواجب من الحقوق تعدّ نعمة أیضاً؟! وهل تظلّ الثروة نعمة إذا التذّ المرء واستمتع بها حتّى وإن كانت من موجبات تعاسته فی الدنیا والآخرة؟! ومن ناحیة اُخرى فإنّ الإنسان یستاء من بعض الاُمور، كالمرض، والعوز، والشدّة، ...الخ؛ لكن إذا دفعه كلّ ذلك إلى الترقّی وقوّة الاستحکام فی الدنیا من جانب، ونیله لعظیم الأجر والثواب فی الآخرة من جانب آخر فهل ستكون تلك المصاعب التی یظهر علیها عنوان البلایاـ بلایا حقّاً، أم هی نِعم؟
یقول بعضهم: إنّ كلّ ما یستعمله الإنسان فی الوصول إلى قرب الباری عزّ وجلّ فهو نعمة حقیقیّة، أمّا تلك الاُمور، التی قد تجلب له المتعة والذّة، بل وقد یكون دائم الشكر لله على ان أعطاه إیّاها، لكنّها فی النهایة ستكون سبباً فی عذابه الاخرویّ، فإنّها لن تمثّل نعماً بالنسبة له.
یُطرح هاهنا بحثان هما أیضاً لا یتّسمان بطابع عرفیّ، بل كلاهما من سنخ البحث التحلیلیّ العقلیّ الذی بإمكانه تقدیم الحلول لهذه الاختلافات. هناك اُمور فی هذه العالم تشكّل بذاتها أهدافاً لنا، بمعنى أنّنا نسعى وراءها لأنّنا نحبّها بذاتها. وفی المقابل هناك الكثیر من الأشیاء تكون مطلوبة ولعلّها تعدّ مصدراً للمتعة واللذّة أیضاً، غیر أنّها لا تمثّل هدفنا الأساسیّ؛ بل إنّنا نستخدمها كوسیلة لبلوغ أمر أسمى وأرفع. فهدف المریض من تناول الدواء، مثلاً، هو نیل السلامة. فهذه الجهود والمساعی لیست مطلوبة بذاتها بالنسبة له، بل هی مطلوبة بالغیر؛ إذ أنّ المطلوب الذاتیّ هو السلامة. فجمیع البشر یجعلون من بعض الاُمور مطلوباتهم الذاتیّة حتّى تصبح اُصولاً بالنسبة لهم. فبالنسبة للكفّار فإنّ نفس هذه الملذّات الدنیویّة هی مطلوبة بالذات؛ فهم أساساً یعیشون لیلتذّوا ولیس لهم مراد آخر! أمّا بالنسبة للمؤمن فإنّ لذّة الدنیا لیست هی المطلوبة بالذات؛ لأنّه یعلم أنّ هذه الدنیا بأسرها لیست هی إلاّ مقدّمة وممرّ سفر؛ وأنّ المقصد یكمن فی مكان آخر. فإن عمل المؤمن بمقتضى إیمانه فإنّه لن ینظر إلى أیّ شیء دنیویّ بعنوان كونه مطلوباً بالذات؛ فهو یطلب كلّ شیء فی سبیل تلك النتیجة الأبدیّة. فمطلوب المؤمن هو السعادة الأبدیّة، ولا یكون لكلّ هذه الاُمور العابرة بالنسبة له إلاّ طابع الوسیلة.
إذن فقد توصّلنا هنا إلى لونین من النعم: نعمة بالذات، ونعمة بالتَّبَع؛ یعنی إنّ النعمة الحقیقیّة للمؤمن هی بلوغ ذلك الكمال النهائیّ، أمّا باقی النعم فهی بالنسبة له نِعم بالتبع أو بالعرَض. وهذا التحلیل له شاهد قرآنیّ فی سورة الحمد. فكلّنا نقرأ سورة الحمد فی الیوم واللیلة عشر مرّات على أقلّ تقدیر، ونقول فیها: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِیمَ * صِرَاطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ»3. فهل نطلب من الله فی الصلاة أن یهدینا إلى سبیل أصحاب رؤوس الأموال الأمریكیّین؟! إنّ ممّا یدعوا إلى الأسف أنّ بعض الشخصیّات المرموقة یستدلّون بهذه الآیة قائلین: أجل، إنّ جمع المال أمر حسن؛ فالثروة نعمة من الله، ونحن نقول فی الصلاة: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِیمَ * صِرَاطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ»! أی: علّمنا كیف نجمع الثروة؛ الحلال طبعاً! والحال أنّ القرآن نفسه قد عرّف مَن هم «الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ» حیث قال فی موضع آخر: «وَمَن یُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَیْهِمْ مِّنَ النَّبِیِّینَ وَالصِّدِّیقِینَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِینَ»4؛ فالذین أنعم الله علیهم هم أربعة أصناف من الناس: الأنبیاء، والصدّیقون، والشهداء، والصالحون. ونحن نقول فی الصلاة: «صِرَاطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ»؛ أی: اهدنا صراط هؤلاء الناس؛ ولیس صراط الأثریاء، أو صراط أصحاب رؤوس الأموال الغربیّین، أو صراط الظَّلَمة؛ فصراط هؤلاء هو صراط العذاب والشقاء!
فالنعمة التی نسألها من الله تعالى فی صلاتنا هی تلك النعمة النهائیّة والمطلوبة بالذات التی یطلبها المؤمن؛ أی سبیل اولئك الذین أوصلْتَهم إلى المقصد النهائیّ والذین یقسّمهم القرآن الكریم إلى أربعة أصناف. ثمّ یقول عزّ من قائل: هناك أشخاص یكونون فی معیّة هؤلاء، وإنّ شرط هذه المعیّة هو طاعة الله ورسوله (صلّى الله علیه وآله). فهذا المقام خاصّ بتلك الأصناف الأربعة من البشر، وإذا اُلهمنا نحن التوفیق من الله عزّ وجلّ، وشمّرنا عن سواعدنا، وضاعفنا الهِمَم فی مجال طاعة الله وطاعة رسوله (صلّى الله علیه وآله) نكون قد نلنا اللیاقة لتلك المعیّة. إذن فالنعمة هی ما منّ الله به على الأنبیاء (علیهم السلام) وكلّ ما دون ذلك لا یُطلق علیه مصطلح النعمة إلاّ مجازاً. وانطلاقاً من هذه الرؤیة فإنّ النعمة هی كلّ ما یبلغ بالإنسان إلى المحطّة النهائیّة، وفی المقابل فإنّ كلّ ما لا یوصل المرء إلى ذلك الهدف فهو عقیم ولا قیمة له، بل إنّه إذا شكّل مانعاً من الوصول إلى ذلك الكمال فهو نقمة حتّى وإن كان مدعاةً لمتعة الإنسان والتذاذه.
لقد عبّرت الأحادیث الشریفة عن الشیء الذی یوصِل الإنسان إلى الهدف النهائیّ بمصطلح «الولایة»؛ فقد جاء فی الخبر أنّ المراد من «النعیم» فی الآیة الشریفة: «ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ یَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِیمِ»5 هو ولایة أهل البیت (علیهم السلام)6. فهذه هی النعمة الحقیقیّة.
أمّا التحلیل الآخر فإنّه یتعیّن أن نأخذ بنظر الاعتبار المحیط الذی استُخدمت فیه اللفظة. فمن خلال إطلاق آخر، فإنّه من المسلّم أنّ كلّ ما أعطاه الله لنا هو نعمة؛ فالهواء الذی نتنفّسه، والقدرة على إغماض العین وفتحها، بل وحتّى القدرة على الكلام كلّها من نعم الله علینا. إذن فكیف نقول: إنّ النعمة هی ذلك الهدف النهائیّ؟
وهنا أیضاً، وطبقاً للاصطلاح، فإنّه ینبغی أن نسمّی كافّة العطایا الإلهیّة نعماً شأنیّة؛ وهی الشیء الذی یمكن الإفادة منه للوصول إلى الكمال النهائیّ. فإن نحن أفدنا منها على النحو الصحیح، كانت نعمة ولكنّنا إذا أسأنا استخدامها، فإنّنا نكون قد بدّلنا النعمة الشأنیّة لله تعالى إلى نقمة وبلاء؛ نظیر قوله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِینَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ»7. إذ أنّ الغایة من عطاء الله لنا كلّ ما أعطانا هی استعمال تلك الاُمور للوصول إلى الكمال، أی إلى قربه عزّ وجلّ. إنّ كافّة نعم الله، من دون استثناء، هی أدوات من أجل بلوغ ذلك الهدف النهائیّ، إلى ذلك المجال الذی لا نعلم تحدیداً أین هو، وجُلّ ما نعلمه هو أنّه: «فِی مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِیكٍ مُّقْتَدِرٍ»8. ذلك الموضع الذی سألَتْه امرأة فرعون من ربّها بقولها: «رَبِّ ابْنِ لِی عِنْدَكَ بَیْتاً فِی الْجَنَّةِ»9، فإنّ كلّ ما فی هذا العالم هو تحت تصرّفنا من أجل أن نستعین به للوصول إلى ذلك المقام.
إذن فإنّ لدینا نعمة بالذات، ونعمة بالعرض. فالنعمة بالذات هی تلك التی تختصّ بأولیاء الله تعالى؛ وهی ما یوصلنا إلى الكمال النهائیّ، والنعم بالعرض هی تلك الاُمور التی یمكن أن تشكّل مقدّمة للكمال. ومن زاویة اُخرى فإنّ لدینا نعمة شأنیّة ونعمة فعلیّة. فالنعمة الشأنیّة هی كلّ ما یمكننا استخدامه لبلوغ الكمال؛ بید أنّنا قد نُسیء استعمالها أحیاناً، فإن أحسنّا الإفادة من النعمة الشأنیّة واستعملناها فی سبیل طاعة الله عزّ وجلّ فإنّنا أیضاً سنصبح مصداقاً للآیة الشریفة التی تقول: «وَمَن یُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَیْهِمْ».
جعلَنا الله وإیّاكم من أهل هذه الآیة الشریفة
1. بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.
2. سورة یس، الآیة 82 .
3. سورة الحمد، الآیتان 6 و7.
4. سورة النساء، الآیة 69.
5. سورة التكاثر، الآیة 8 .
6. بحار الأنوار، ج10، ص209.
7. سورة إبراهیم، الآیة 28.
8. سورة القمر، الآیة 55.
9. سورة التحریم، الآیة 11.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 18 آب 2010م الموافق للیلة الثامنة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم»1؛ تبتدئ الخطبة الفدكیّة بهذه العبارة وقد قمنا بتوضیح جملتها الاُولى فی حدود ما وفّقنا الله تعالى إلیه. أمّا فی الجملة الثانیة فتقول الزهراء (سلام الله علیها): «وله الشكر على ما ألهم»؛ أی إنّنی أشكر الله وحده على ما ألهم. فما معنى الإلهام؟
كما هو الحال بالنسبة لكلمة «الوحی» فإنّ للفظة «الإلهام» فی اللغة معنى عامّاً، أمّا فی الشرع، ولاسیّما عند علماء علم الكلام والعقائد، فقد أصبحت مصطلحاً خاصّاً. فإنّه یستفاد من موارد استعمال لفظتی الوحی والإلهام فی القرآن الكریم أنّهما ضرب من الإدراك (یكون أحیاناً عن غیر وعی، أو عن نصف وعی) لا یُكتسب عبر الأسباب العادیّة. وأقرب المعانی المطروحة فی هذا المجال فی معنى الوحی هو أنّه الإشارة السریعة. فعندما یُشار الى أحد أن یأتی بفعل فإنّه یُقال: اُوحی إلیه. كما یقول عزّ من قائل بخصوص النبیّ زكریّا (على نبیّنا وآله وعلیه السلام): «فَأَوْحَىٰ إِلَیْهِمْ أَنْ سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِیّاً»2؛ یعنی: إنّه أشار إلى الذین كانوا یتعبّدون هناك أن: اشتغلوا بالذكر والعبادة؛ فقد استُعملت هنا لفظة الوحی. وحتّى فی الموارد التی تتغلغل فیها وساوس الشیطان إلى قلوب الأشخاص وتؤثّر فیها فقد استُعمل تعبیر الوحی أیضاً: «وَإِنَّ الشَّیَاطِینَ لَیُوحُونَ إِلَى أَوْلِیَائِهِمْ»3؛ أی: إنّ الشیاطین یوحون إلى تلامذتهم، وأصدقائهم، والمرتبطین هم. ویقول عزّ وجلّ فی موضع آخر أیضاً: «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِیٍّ عَدُوّاً شَیَاطِینَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ یُوحِی بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ»4؛ فعبّر هنا عن وسوسة الشیطان بالوحی أیضاً. فالإنسان یساوره أحیاناً إحساس بأنّ علیه فعل شیء، أو یخطر فی ذهنه أمر ما، إمّا أن یكون خیراً أو شرّاً؛ وقد استُعملت لمثل هذه الموارد فی أصل لغة العرب لفظة الوحی، فلعلّ الشیطان هو الذی یوحی إلینا أحیاناً من دون أن نعلم. وحتّى بالنسبة للحیوانات، بل ـ بتعبیر أدقّ ـ لجمیع الموجودات فقد استُعمل تعبیر الوحی كذلك: «وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِی مِنَ الْجِبَالِ بُیُوتاً»5. فكلمة الوحی فی تلك الآیات قد استُخدمت بمعناها اللغویّ؛ فالوحی هنا یعنی لوناً من ألوان الإدراك الذی یتحقّق فی موجود معیّن من دون أن یكون له دور فی اكتسابه، بل وقد لا یعلم هو نفسه بأنّه یمتلك هذا الشیء.
أمّا فی اصطلاح العلماء، خصوصاً علماء الكلام، وكذا فی عرف المتشرّعة، فإنّ معنى الوحی ینصرف إلى نوع من علاقة التعلیم والتعلّم بین الله وأنبیائه؛ فهو تعالى یوحی لمن كان نبیّاً. فالوحی اصطلاحاً لا یُطلق إلاّ على الإدراك الإلهیّ الغیر العادیّ الذی یلقیه الله تعالى على الأنبیاء (علیهم السلام)، إذ لا یُستخدم تعبیر الوحی بهذا المعنى حتّى فیما یخصّ الأئمّة الأطهار (صلوات الله علیهم أجمعین).
وفی مقابل هذا المصطلح فإنّ لدینا مصطلح الإلهام، لكنّ الفارق بین الإلهام والوحی لیس واضحاً تماماً؛ فكلاهما یحكیان عن معنى الإدراك الذی لا یأتی بالاكتساب والذی یوجَد فی العادة دفعة واحدة، لكنّ الإلهام فی عرف المتشرّعة وخصوصاً الشیعة منهم قد تحوّل إلى مصطلح خاصّ وهو أنّه إدراك خاصّ یمنّ الله عزّ وجلّ به على أولیائه. فالإلهام هو ضرب من الإدراك یكون من سنخ الوحی إلاّ أنّه أضعف منه. وقد جاء فی بعض الأحادیث فی الفَرق بین الوحی والإلهام أنّ الملَك یشاهَد أثناء الوحی لكنّه لا یشاهَد فی حالة الإلهام ولا یُحَسّ إلاّ بأثّره فی القلب.
لقد ذكر القرآن الكریم نوعاً واحداً من الإلهام یشمل جمیع البشر؛ إذ یقول الباری تبارك وتعالى فی سورة الشمس بعد أن یُقسِم أحد عشر قَسَماً: «فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»6؛ أی ألهم نفس ابن آدم وروحه الفجور والتقوى. فجمیع البشر یمیّزون بین الخیر والشر عبر قوّة إدراك قد أودعها الله تعالى فیهم، أو إنّهم یشعرون فی قرارة أنفسهم بالمیل إلى العمل الصالح أو الطالح. فهم لم یكتسبوا ذلك المیل بأنفسهم ولا هم تعلّموه من أحد أیضاً؛ فهذا هو إلهام إلهیّ.
والإلهام یكون تارة من سنخ الإدراكات؛ بمعنى أنّ الله یُفهّم الإنسان أمراً ما، وتارة اُخرى من سنخ المیل؛ أی إنّ الله یُلهم المرء میلاً نحو أمر معیّن. وكذا هو الحال بخصوص الوحی، إذ یقول القرآن الكریم فی هذا الصدد: «وَأَوْحَیْنَا إِلَیْهِمْ فِعْلَ الْخَیْرَاتِ»7؛ فالله یوحی لأولیائه فعل ذلك، فهنا لم یقل: «العلم بالخیرات»، بل قال: «فعل الخیرات»، فالظاهر أنّ عین الفعل هو الذی یوحَى؛ بمعنى أنّ المیل والنزوع إلى فعل الخیر یوجَد فی أولیاء الله بعنایة من الله تعالى. وإنّ لله من مثل تلك الاُمور الكثیر؛ مثل: «حَبَّبَ إِلَیْكُمُ الإِیمَانَ وَزَیَّنَهُ فِی قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَیْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْیَانَ»8. فهذا هو فعل الله تبارك وتعالى. فعندما یؤمن المرء بقلبه، وینتفع من نعمة هدایة الله، ویشكر الله علیها، فإنّ الله من جانبه سیؤجره على ذلك، وأجر الله للمؤمن هو أن یحبّب إلى قلبه الإیمان والعمل الصالح، فلا تمیل نفسه، فی المقابل، إلى الكفر والفسوق والعصیان. بل إنّه سیكره فعل المعصیة أساساً.
ولعلّ فی ترتیب هذه الكلمات الثلاث تنویهاً لمراتب الكُره. فكلّ المؤمنین یبغضون الكفر، ثمّ یأتی الفسق فی الدرجة الثانیة فی الكراهیة؛ فالمؤمن لا یحبّ أن یكون إنساناً متفلّتاً من القیود. فحینما یستحكم إیمان المؤمن، ویمسی أكثر انتفاعاً من نعمة الهدایة الإلهیّة، فإنّ الله تعالى سیغدق علیه من العنایات ما یجعله یبغض الذنوب أیضاً. وكأنّ للذنب فی شامّة المؤمن رائحة هی من النتانة بحیث تجعله ینفر منها. فهذه الاُمور هی من فعل الله عزّ وجلّ. فقد أودع سبحانه وتعالى فی جمیع البشر نوعین من المیول؛ فمن ناحیة نحن جمیعاً نحبّ أفعال الخیر، وعندما یأتی امرؤ بفعل خیر نفرح لذلك حتّى وإن لم یكن الأمر متعلّقاً بنا من قریب أو بعید. فهذا هو جانب من فعل الله للإنسان حیث یقال: «ألهمه التقوى». ومن ناحیة اُخرى فإنّنا نجد فی أنفسنا میلاً إلى كلّ لذّة، حتّى وإن كانت معصیة. فالضعفاء فی الإیمان من الناس لا یلتفتون إلى كون اللذّة حراماً أو حلالاً. فجمیع البشر ابتداءً وبشكل طبیعیّ یحبّون هذه اللذائذ؛ لكنّه كلّما تقدّموا فی طریق الإیمان فإنّ هذه المیول تتحدّد و تأخذ اتجاها معیّنا فلا یعودون یرغبون باللذائذ التی تتأتّى عن طریق المعاصی والخطایا. فعندما یعبدون ویأتون بالطاعات فإنّ المیل إلى الاُنس مع الله یتزاید ویقوى فی وجودهم یوماً بعد آخر حتّى یصلوا إلى حدّ الشوق الجارف إلى عبادة الباری تعالى.
وفی مقابل الإلهمات العامّة هناك إلهامات خاصّة لا تكون إلاّ من نصیب من أحسن الانتفاع من الاُولى. والإلهامات الخاصّة یختصّ بها أولیاء الله على الصعیدین النظریّ والعملیّ. فأولیاء الله یفهمون اُموراً لا یدركها الآخرون. فأحیاناً تهفوا نفوسهم إلى فعل أمر حتّى كأنّ مُنادیا ینادی فی وجود ذلك الولیّ: افعل هذا العمل الحسن! فهو یشعر فجأة بدافع قویّ لفعل هذا الأمر. فالأئمّة الأطهار (سلام الله علیهم أجمعین) والسیّدة الزهراء (علیها السلام) كان لهم حظّ وافر من هذه الموهبة الإلهیّة.
كما أنّ روایاتنا قد استخدمت مصطلحاً آخر للإلهام وهو «التحدیث». إذ أنّ واحداً من ألقاب الزهراء (سلام الله علیها) هو «المحدَّثة». وقد یُشتبه أحیاناً فیُقال: محدِّثة ظنّاً بأنّه من باب نقلها (علیها السلام) للحدیث، فی حین أنّ كلمة «محدَّث» تُطلق على الشخص الذی تتحدّث معه الملائكة وتروی له الأحادیث. فجمیع الأنبیاء والأئمّة المعصومین (علیهم السلام) كانوا محدَّثین. فإنّ لله تعالى إلهامات لغیر الأنبیاء أیضاً؛ بل وحتّى لغیر الأئمّة (علیهم السلام) كذلك؛ بمعنى أنّ هناك ملَكاً یتحدّث مع الإنسان بینما لا یرى هو هذا الملك. وهذا مقام یعطیه الله عزّ وجلّ للخواصّ من عباده.
هنا قد یُطرح سؤال هو: إنّنا، من ناحیة، نحصر مصطلح المعصوم فی جماعة معیّنة من الناس، ومن ناحیة اُخرى نحن نعلم أنّ بعض أولاد الأئمّة (علیهم السلام) بل وبعض أولیاء الله أیضاً لم یقترفوا فی حیاتهم ذنباً قطّ فهم، بعبارة اُخرى، معصومون؛ فكیف لنا أن نجمع بین هذین الأمرین؟ الجمع بینهما هو بهذه الكیفیّة: الظاهر أنّ المعصومین الأربعة عشر هم اولئك الذین ضمن الله عصمتهم، وكما أنّه عزّ وجلّ قد ضمن لنا عصمة الأنبیاء بحیث إنّهم لا یرتكبون معصیة أو خطیئة، فقد ضمن لنا نفس هذا الشیء بالنسبة للأئمّة الأطهار والسیّدة فاطمة الزهراء (سلام الله علیهم أجمعین). وإنّنا نملك الدلیل القطعیّ على ضرورة عصمتهم، لكنّ هذا لا یعنی أنّ غیرهم لا یمكن أن یكون فی عداد المعصومین. المرحوم آیة الله العظمى بهجت (رضوان الله علیه) كان یقول: فی النجف الأشرف كانت لی معرفة بشخص. وعلى الرغم من أنّه كان عاملاً بسیطاً لكنّه فی لحظات الاحتضار، وأثناء حضور المرحومین آیة الله الخوئیّ وآیة الله المیلانیّ عند رأسه، سُمع یقول: «إلهی! إنّك تشهد على أنّنی مُذ بلغت سنّ التكلیف وحتّى الساعة لم أرتكب ذنباً عن علم منّی أو عمد». وإنّنی لأظنّ ظنّاً قویّاً أنّ المرحوم آیة الله بهجت لم یرتكب أیّ ذنب حتّى قبل بلوغه سنّ التكلیف، بل إنّنا لم نشاهد منه بعد تكلّفه حتّى ما یمكن إثبات كراهته! فلیس بعزیز على الله أن یربّی عباداً كهؤلاء؛ لكنّ ذلك لا یعنی أنّ المعصومین الأربعة عشر قد أصبحوا خمسة عشر معصوما!
بعد الحمد لله على ما منّ به من النعم، تقول السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) فی خطبتها الشریفة: «وله الشكر على ما ألهم»؛ ویمكن هنا طرح احتمالین: أحدهما أنّ القصد من هذا الإلهام هو ذلك الإلهام العامّ الذی یشمِل الله به جمیع البشر، بل وحتّى غیر البشر أیضاً ولمّا كانت الزهراء (علیها السلام) هی واحدة من أفراد البشر وقد وُهبت هی أیضاً هذه النعمة فهی تشكر الله علیها؛ بالضبط كما نشكر الله على أن أعطانا عیناً. فالله تعالى قد أعطى نعمة العین للكثیر من البشر، بید أنّ هذا لا یمنع من أن نشكر الله علیها. لكن لعلّ الاحتمال الأقوى لذلك هو أنّها (علیها السلام) تشكر الله عزّ وجلّ على ما منّ به على هذه الاُسرة من الإلهامات الخاصّة، وتعبیر الشكر فی هذه الحالة هو أكثر مناسبة من الحمد؛ ذلك أنّ الجانب الملحوظ فی الشكر هو الثناء على مَن أعطانی نعمة بشكل خاصّ. بالطبع إنّ المعنى الأوّل لیس هو بالخاطئ أیضاً، لكن یبدو أنّ المعنى الثانی هو أكثر مناسبة للمقام، وهذا ضرب من براعة الاستهلال؛ بمعنى أنّه لمّا كان من المقرّر أن تشیر (سلام الله علیها) فی هذه الخطبة إلى مواضیع قد ألهمها الله تعالى إیّاها، فهی (علیها السلام) تنوّه فی مستهلّ كلامها بأنّ الله قد ألهمنا اُموراً وإنّنی لأشكر الله بادئ ذی بدء على ما منّ به علینا من تلك النعم الخاصّة.
ومن جملة هذه الإلهامات تلك التی نتج عنها مصحف فاطمة (علیها السلام). لقد ورد فی الكثیر من الأحادیث بأنّه فی غضون تلك الأیّام القلائل التی تلت رحیل النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) حیث نزلت بهذه السیّدة الجلیلة (سلام الله علیها) من عظیم المصائب وجلیل الخطوب ما یستعصی عن الوصف فإنّ الله عزّ وجلّ كان یرسل جبرئیل (علیه السلام) لیتحدّث إلى فاطمة (سلام الله علیها) ویسلّیها علّه یثنیها عن التفكیر المتواصل بما حلّ بها من المحن والمصائب. فقد كان جبرئیل یروی لها ما سیجری من اُمور وحوادث فی المستقبل. ثمّ جمعت تلك الاُمور واُطلق علیها اسم «مصحف فاطمة» (سلام الله علیها). وقد نُقل فی بعض الأخبار أنّه لم یكن فی ذلك المصحف شیء من الحرام والحلال وكان یقتصر على التنبّؤات التی كان جبرئیل (علیه السلام) ینقلها للسیّدة الزهراء (سلام الله علیها) عمّا سیكون من الامور. وقد دوّنت (علیها السلام) ما كانت تُحدَّث به وجمعته بصورة كتاب9.
فالمصحف هو الشیء المجموع. وقد ظنّ بعض الجهلة أنّ هذا المصحف هو فی مقابل القرآن الكریم؛ أی إنّ القرآن هو مصحف النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وإنّ السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) هی الاُخرى لها مصحف فی مقابل ذلك. فبعض التهم التی تُوجَّه إلى الشیعة هی القول: إنّ الشیعة یعتقدون بأنّ فاطمة الزهراء (علیها السلام) كانت نبیّة أیضاً، وكان لها مصحف هو غیر القرآن، وإنّ الشیعة یعتقدون بقرآن آخر خاصّ بهم! والحال أنّ هذا المصحف لم یكن إلاّ أحادیث جبرئیل تلك وقد جمعتها (سلام الله علیها) على هیئة كتاب. یقول أئمّتنا الأطهار (علیهم السلام) فی العدید من الروایات: «نظرتُ فی مصحف فاطمة...»10. وعلى أیّة حال فإنّ هذا المصحف هو من مصادیق الإلهامات التی خُصّت بها السیدة الزهراء (سلام الله علیها)، ولعلّ جملة: «وله الشكر على ما ألهم» هی من قبیل براعة الاستهلال لِما ستشیر إلیه (علیها السلام) أثناء خطبتها من الإلهامات.
1. بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.
2. سورة مریم، الآیة 11.
3. سورة الأنعام، الآیة 121.
4. سورة الأنعام، الآیة 112.
5. سورة النحل، الآیة 68.
6. سورة الشمس، الآیة 8 .
7. سورة الأنبیاء، الآیة 73.
8. سورة الحجرات، الآیة 7.
9. بحار الأنوار، ج26، ص44.
10. الكافی، ج1، ص240؛ وبحار الأنوار، ج26، ص44.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 19 آب 2010م الموافق للیلة التاسعة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَالثَّنَاءُ بِمَا قَدَّمَ؛ مِنْ عُمُومِ نِعَمٍ ابْتَدَأَهَا، وَسُبُوغِ آلاَءٍ أَسْدَاهَا، وَتَمَامِ مِنَنٍ أَولاَهَا، جَمَّ عَنِ الإِحْصَاءِ عَدَدُهَا، وَنَأَى عَنِ الْجَزَاءِ أَمَدُهَا، وَتَفَاوَتَ عَنِ الإِدْرَاكِ أَبَدُهَا»1.
ابتدأت هذه الخطبة الشریفة بالحمد والشكر لله عزّ وجلّ والثناء علیه وقد أشرنا إلى الفرق بین تلك المفردات. تقول الزهراء (سلام الله علیها) مستطردة فی كلامها: «والثناء بما قدّم»؛ أی: إنّنی اُثنی على الله عزّ وجلّ بما وضع بین أیدی عباده. والظاهر أنّ اختیار هذه اللفظة جاء مراعاةً للسجع مع ما سبقها من الجمل. فكلمة «قَدَّم» تعنی: جعل الشیء قدّامك. فعندما یُراد القول فی العربیّة: وضَع الشیء بین یدیه أو تحت تصرّفه یُقال: قدّمه له. والثناء هو حمد مطلق؛ فیکون علی ما هو أعمّ من النعم التی منّ الله بها على الإنسان نفسه وتلك التی أعطاها لغیره من المخلوقات. ثمّ تسترسل (علیها السلام) فی كلامها مبیّنة تلك النعم. وقد كان بإمكانها القول: «مِن نعم عامّة، وآلاء جمّة»، بید أنّ التركیب الذی اختیر هنا یفوق ذلك لطافةً بكثیر. فعوضاً عن أن تحصی نفس النعم ثمّ تصفها بأنّها عامّة، فهی (سلام الله علیها) تستند بدایةً إلى هذا العموم فی النعم فتقول: «من عموم نعم ابتدأها»؛ ومعناه: من النعم العامّة والشاملة التی وضعها فی متناول المتنعّمین. فبعض نعم الله تعالى تكون من النمط الذی لابدّ للمتنعّم أوّلاً أن یحوز الشروط اللازمة لنیلها فیُنعم الله علیه بتلك النعمة تبعاً لذلك، أمّا النمط الآخر من النعم فهی تلك التی یُسبغها الله على المتنعّم قبل أن تتوفّر فیه شروط إدراكها. فالله سبحانه وتعالى یخلق للجنین رزقه ویودعه فی صدر اُمّه وهو ما یزال فی بطنها ولم یولَد بعد. والأعظم من ذلك تلك النعم التی یهیّئها الله عزّ وجلّ للإنسان قبل خلقه؛ فقبل أن یُخلق البشر كانت الأرض، والهواء، والنور، والحرارة، والمواد الغذائیّة موجودة، فقد هیّأ الله تلك النعم للإنسان قبل أن یخلقه. ونحن نقرأ فی بعض الأدعیة: «یَا مُبْتَدِئاً بِالنِّعَمِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا»2؛ أی: یا مبتدئاً بالنعم قبل أن یتوفّر الاستحقاق لها. بالطبع من الممكن أن یكون لعبارة «قبل استحقاقها» معنى آخر وهو أنّ الموجودات المختارة تستحقّ الثواب بعد الإتیان بأعمالها الاختیاریّة، غیر أنّ الله تعالى یبادر عباده بإعطاء النعم قبل أن یأتوا بما یستحقّون علیه تلك النعم من الأعمال الاختیاریّة؛ كما فی نعمة الهدایة. ثمّ تقول البتول (علیها السلام): «وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن أولاها».
إنّ بعض اللغات تفوق غیرها غنىً من حیث المفردات والتراكیب، فاللغة العربیّة مثلاً تتمتّع بمستوى رفیع من الغنى فی المفردات إذا ما قیست باللغة الفارسیّة؛ لذا فقد توجد فی مقابل كلمة فارسیّة واحدة بضع كلمات عربیّة معادلة بحیث یکون لكلّ منها خصوصیّات معیّنة. ونحن هنا أمام لفظتین هما: التقدیم، والنعمة. ففی اللغة الفارسیّة توجد عندنا كلمة «تقدیم» وهی فی الأصل عربیّة، ویصعب العثور على ما یعادلها فی اللغة الفارسیّة ممّا یكون مستخدَماً فی الوقت الحاضر ویفید نفس المعنى. كما أنّه لیس لدینا فی الفارسیّة غیر مفردة «نعمت» لبیان معنى «النعمة» وهی الاُخرى مستعارة من اللغة العربیّة. أمّا فی اللغة العربیّة فتوجد ثلاث مفردات لهذا المعنى هی: «النعمة»، و«الإلى»، و«المنّة» حیث تُجمع بالترتیب على هذا النحو: «النعم»، و«الآلاء»، و«المنن» وتوجد بینها اختلافات ظریفة. فكلمة «النعم» تُطلق على كلّ النعم وكلّ شیء یلائم الطبع ولها معنى عامّ. أمّا بخصوص «الآلاء» فقد قالوا: هی تلك النعم التی تلبّی حاجة المتنعّم بالكامل. فالله عزّ وجلّ یُكثر فی سورة الرحمٰن من القول: «فَبِأَیِّ ءَالاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ»3، ویقول فی موضع آخر: «فَاذْكُرُواْ ءَالاَءَ اللهِ»4؛ فتلك هی النعم التی لوحظت فیها تلك الخصوصیّة. وإلى جانب تلك المفردات استخدمت السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) مفردة «المنّة» وهی وجمعها «المنن» تطلَق على النعم الثمینة والنفیسة للغایة؛ ومن هذا المنطلق فقد استخدم الباری جلّ وعلا فی كتابه الحكیم الفعل «منّ» بدلاً من «أنعم» فی موارد خاصّة، مثل: «لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِینَ إِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولاً»5؛ فهو یبیّن نعمة وجود النبیّ من خلال تعبیر «المنّ» وهذا یعنی انّه: أنعم بنعمة عظیمة ثمینة.
فالزهراء (سلام الله علیها) استعملت فی البدء لفظة النعم، ثمّ أتبعتها بالآلاء، فأردفتها بالمنن؛ أی إنّ كلّ مفردة تتلوا تكون أرقى من حیث المعنى. وهذه هی من مراتب فصاحة الكلام، حیث عندما یؤتَى بعدّة مفردات متشابهة فإنّه یُتَدرّج فیها من الضعیف إلى الأقوى فالأقوى؛ فإنّ إعطاء النعم قد بُیّن بمفردات شتّى، وهذا یدلّ بوضوح على مدى تسلّط المستخدِم لتلك المفردات على الكلام، والألفاظ والتراكیب!
«وسبوغ آلاء أسداها». لقد استخدمت هنا مادّة «السبوغ»، لیكون المعنى: إنّنی اُثنی على الله لِما أنعم به من وافر النعم الخاصّة. فالمراد من قوله تعالى: «أَسْبَغَ عَلَیْكُمْ نِعَمَهُ»6 هو أنّه وضع فی متناولكم الكثیر الوافر من نعمه. «وتمام منن أولاها» أو «...والاها»، و«أَوْلى النعم» أی: أعطاها. وتتمتع هذه المفردة بمعانی كثیرة منها: «إنجاز العمل وإتمامه». وقد وردت فی بعض النسخ بلفظة: «والاها»؛ والموالاة بمعنى الإتباع. فإن كانت بلفظة «والاها» فیمكن القول: لقد روعیت فیها التفاتة ظریفة وهی أنّه عندما یمنّ الله على أحد بنعمة فإنّه لا یكتفی بهذا المقدار، بل إنّه یُتبعها بإعطاء نعمة أكبر وأضخم.
«جمّ عن الإحصاء عددُها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها»؛ فهذه النعم هی على جانب من الوفرة بحیث لا یتیسّر إحصاؤها، وإنّ زمانها ووقت انقضائها هو من الامتداد بحیث لا یُتصور الجزاءُ علیها، وإنّ أبَدیّة تلك النعم واستمرارها تستلزم تخطّیها لحدود مداركنا. فقد ذكرت السیّدة الزهراء (علیها السلام) هنا ثلاث سمات للنعم الإلهیّة: أوّلها من منطلق الكمّ، حیث قالت: إنّ عددها یفوق ما یمكن إحصاؤه. وثانیها من حیث النوعیة، فقالت: هی تتّصف بعدم إمكانیّة مقابلة معطیها بالمثل أو مجازاته. والثالثة من باب المحدودیّة، فهی تقول: إنّها غیر متناهیة. وسنقدّم فی سیاق بحثنا توضیحاً بخصوص هذه الأوصاف.
إنّ قضیّة عدم قابلیّة نعم الله للإحصاء: «جمّ عن الإحصاء عددها» هی من الاُمور التی لاقت تأكیداً شدیداً فی القرآن الكریم؛ فالله عزّ وجلّ یقول: «وَإِنْ تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا»7. إنّنی شخصیّاً لا أعتقد أنّ هناك مَن یساوره شكّ فی أنّنا لا نستطیع إحصاء وحساب نعم الله بالتفصیل؛ غیر أنّ هناك فرقاً بین قولنا على نحو العموم والإجمال: لا نستطیع، وبین أن نختبر أنفسنا قلیلاً لنرى السبب فی عدم قدرتنا على الإحصاء.
لقد خُلق الإنسان على شاكلة بحیث لا یكون لتصوّراته أثر كبیر على عمله أو أحاسیسه النفسانیّة إلاّ عندما یدرك تفاصیلها ویتصوّرها. فكلّنا یعلم أنّ محبّة الأمّ هی محبّة اُسطوریّة وأنّ الله قد وهبها قدراً فائقاً منها. فتارةً نقول بشكل مجمل وعامّ: إنّ محبّة الاُمّ كبیرة ولا نستطیع الوفاء بحقّها، وهذا بالطبع كلام صحیح. لكنّنا إذا تأمّلنا قلیلاً فی بعض تفاصیل محبّة الاُمّ، فحینئذ سندرك أكثر مدى ما ینبغی الإحساس به من الخضوع أمامها. لنتأمّل فی مقدار المشاقّ التی تعانیها الاُمّ من أجل طفلها فی لیلة واحدة. فإن كانت هناك بضع اُمّهات نائمات بین مجموعة من الناس مع أطفالهنّ، واستیقظ أحد الأطفال باكیاً، فإنّ اُمّ ذلك الطفل ولیس غیرها ستهبّ من نومها. فإن رأت طفلها یشكوا ـ مثلاً ـ ألماً فی بطنه، أو حروقاً فی قدمه، أو غیر ذلك فإنّها ستنهض فوراً من مكانها وتحاول جاهدة أن تُسكت طفلها وتهدّئ من روعه. فلو بقی الطفل مضطرباً خلال لیلة طویلة فی الشتاء حتّى الصباح فلن تذوق الاُمّ طعم الراحة فی تلك اللیلة. فهی لا تتضایق ولا تملّ من إرضاعه، أو ملاطفته، ولا تبخل علیه بالشفقة والحنان، أو ...الخ. فمَن منّا على استعداد لأن یوصل لیله بصباحه فی المعاناة من أجل العنایة بطفل كلّ تلك العنایة؟ فعندما یتصوّر المرء تلك الاُمور واحداً واحداً فسیتولّد عنده تصورّ وإدراك مختلف عن قیمة معاناة الاُمّ. فالاُمّ تتحمّل كلّ تلك المتاعب وتبدی كلّ تلك الشفقة من أجل طفلها الصغیر على مدى سنوات عدیدة.
وشكر الله عزّ وجلّ ینتج من إحساس معیّن. فالإنسان یشعر فی بادئ الأمر بأنّ هناك دَینا فی رقبته، وهذه من جملة المشاعر الإلهیّة الطاهرة التی أودعها الباری تعالى بشكل فطریّ فی وجود الإنسان وهو إحساسه بأنّه مدین لمن أسدى إلیه خدمة وشعوره بضرورة إثابة ذلك الشخص على خدماته بنحو من الأنحاء؛ مثلاً بالشكر اللسانیّ على الأقلّ. هذا الإحساس لا یتولّد فی أنفسنا على النحو الصحیح إلاّ إذا أدركنا تفاصیل نِعم الله علینا. فمعرفتنا إجمالاً بأنّ الله قد أنعم علینا بسلامة البدن لیس بكاف. إذ علینا أن ندرك بالتفاصیل ما معنى سلامة البدن؟
فعین الإنسان لها عدّة أقسام یتألّف كلّ منها من ملایین الخلایا المختلفة. فإذا تضرّر أحد أقسام العین؛ كأن اُصیبت بالماء الأسود فكم علیه أن یتحمّل من المعاناة والنفقات من أجل علاجها؟ وسائر أعضاء البدن هی على هذا النحو أیضاً. وکذا الامر بالنسبة الی تسوّس واحد من تلك العظام الصغیرة المسمّاة بالأسنان والتی وضعها الله تعالى فی فمنا من أجل مضغ الطعام، فمهما أنفق الإنسان علیه من المال فلن یعود إلى سابق عهده! إذن فکیف تثمّن تلك الاُمور؟! إنّنا لا ندری ما قیمتها حقیقة!
هذه هی النعم الموجودة. أیّ مقدّمات كان لابدّ من توفّرها من أجل إنتاج واحدة من تلك النعم؟ وما هی العوامل التی كان ینبغی أن تتكاتف بغیة تشكیل هذه الأعضاء بالشكل الذی هی علیه الآن؟ فإنْ نحن فكّرنا بما هو موجود فی بدننا فحسب فسندرك حینئذ مدى الدَّین الضخم الذی فی رقبتنا تجاه ربّنا!
إنّ هذا اللون من التفكّر والتدبّر یفیض علینا فوائد جمّة. الفائدة الاُولى التی تُجنى منه هو إدراك المرء لمقدار ما یملكه. فسیفهم حینئذ كیف یقیّم أعضاءه البسیطة كالظفر والشعرة، ناهیك عن الأعضاء الأكثر أهمّیة كالعین، والأذن، و...الخ. فلقد أعطانا الله كلّ تلك النعم بالمجّان. فالفائدة الاُولى التی یمكن أن نجنیها من هذا التدقیق هو أنّ الإنسان سیرى نفسه غارقاً فی النعم ولا یعد نفسه فقیراً على الإطلاق.
والفائدة الاُخرى هی عدم جزع الإنسان حیال المصاعب التافهة. فعندما لا نكون ملتفتین إلى مقدار النعم التی أنعم الله بها علینا، فإنّنا سنواجه الله بآلاف الألوان من الجزع جرّاء صداع بسیط!
أمّا الفائدة الثالثة المستقاة من ذلك فهی أنّه عندما یشاهد المرء كلّ تلك النعم فسیتولّد لدیه الدافع للشكر. فالذی تكون فطرته سلیمة فإنّه یسعى إلى التشكّر ممّن یعطیه شیئاً أو یسدی إلیه خدمة. أفلا یبادر الإنسان إلى شكر ربّه إذا علم بمدى ما أنعم علیه من الفضل والنعم؟!
والفائدة الرابعة هی أنّ الشكر یؤدی الی زیادة النعم: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِیدَنَّكُمْ»8.
وأخیراً فإنّ هذا الشكر هو من موجبات سعادة الشاكر الأبدیّة. فلیس أنّ نعمته تزداد فی الدنیا فحسب؛ بل إنّ الله سیرضى عنه وسیثیبه. ففضیلة العبادة المأتیّ بها بدافع الشكر هی أكبر بكثیر من تلك العبادة المأتیّ بها بدافع الخوف. فبعد أن یقسّم الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) العبید إلى ثلاثة أصناف، فإنّه یستدرك قائلاً: «...وَلَكِنِّی أَعْبُدُهُ شكراً لَه»، وفی روایة: «حبّاً له»9.
«ونأى عن الجزاء أمدها». إنّ النعم الإلهیّة هی ممّا لا یمكن قیاسه بإحسان الآخرین للإنسان. فإن أهدى أحدهم للمرء كتاباً فبإمكان الأخیر مقابلته بهدیّة اُخرى مجازاةً على لطفه. لكن كیف یا ترى یمكن مجازاة النعم الإلهیّة؟! فإنّ كلّ ما نملك وما هو موجود فهو من الله عزّ وجلّ. فبأیّ شیء یمكننا مجازاته وشكره كی نقول: لقد مننتَ علیّ بملیارات النعم، وأنا اُقدّم لك فی المقابل هذه الهدیّة البسیطة؟! بل من أین نأتی بهذه الهدیّة؟
وأخیراً فإنّ نعم الله لا تقتصر على هذه النعم الدنیویّة المحدودة والعابرة: «وتفاوتَ عن الإدراك أبدها». فإنّ لله جلّ وعلا نعماً أبدیّة. لكن ما المراد من الأبدیّة؟ إنّنا، أساساً، غیر قادرین على تكوین تصوّر صحیح عن مفهوم الأبدیّة. إذ أنّنا دوماً ندرك أمثال هذه المفاهیم عبر قید منفیّ. فكلّما أردنا تصوّر الشیء الغیر المتناهی فإنّه ینبغی لنا أن نتصوّر المتناهی فی البدایة، ثمّ نتصوّر حرف نفی فنلحقه به؛ فنقول حینئذٍ: إنّنا تصوّرنا الشیء الغیر المتناهی! فی حین أنّنا لم نتصوّر الغیر المتناهی؛ بل تخیّلنا المتناهی ثمّ نفیناه. فأذهاننا عاجزة عن إدراك الغیر المتناهی. وهذا هو الحال مع صفات الله تعالى. فإنّ عدم مقدرتنا على إدراك حقیقة صفات الله عزّ وجلّ یمكن تقریبها من باب أنّ صفات الله لا حدّ لها ولا حصر.
اللهمّ تحنّن علینا بنفحة ممّا وهبت لأولیائك من المعرفة.
1. بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.
2. بحار الأنوار، ج51، ص305.
3. سورة الرحمٰن، الآیات 13 و16 و18.
4. سورة الأعراف، الآیتان 69 و74.
5. سورة آل عمران، الآیة 164.
6. سورة لقمان، الآیة 20.
7. سورة النحل، الآیة 18.
8. سورة إبراهیم، الآیة 7.
9. بحار الأنوار، ج67، ص18.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 20 آب 2010م الموافق للیلة العاشرة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَنَدَبَهُمْ لاسْتِزَادَتِهَا بِالشُّكْرِ لاتِّصَالِهَا، وَاسْتَحْمَدَ إِلَى الْخَلائِقِ بِإِجْزَالِهَا، وَثَنَّى بِالنَّدْبِ إِلَى أَمْثَالِهَا»1.
إنّ هذه الخطبة هی على درجة من الروعة والإمعان فی الفصاحة والبلاغة حتّى إنّ المتخصّصین فی هذا الفنّ لیقفون عاجزین عن بیان دقائق الالتفاتات الموجودة فی هذه العبارات. فعندما یقرأ المرء هذه الخطبة یلتفت إلى أنّها تنطوی على جمال خاصّ. فالقسم الأوّل من الخطبة الذی یتضمّن الحمد لله والثناء علیه ینقسم بدوره إلى أربعة أقسام بُیِّن كلّ قسم منها فی ثلاث جمل رُكّبت تركیباً خاصّاً من حیث السجع والنظم والوزن؛ إذ تقول الزهراء البتول (علیها السلام) فی القسم الأوّل منها: «الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدّم»، وتُتبع ذلك فی القسم الثانی بالقول: «من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام مِنن أولاها»، أمّا فی القسم الثالث فتقول: «جمّ عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها». ولقد قدّمنا فی المحاضرات الفائتة شرحاً لهذه العبارات.
أمّا فی القسم الرابع فتختتم الزهراء (علیها السلام) فقرة الحمد بثلاث جمل اُخریات تبیّن فیها من خلال السجع والقافیة الخاصّین أیضاًـ العلاقة التی تربط النعم الإلهیّة بالعباد. ففی العبارات السابقة بیّنت (سلام الله علیها) ما یختصّ بكثرة النعم الإلهیّة وكیفیّتها وطول أمدها وفی ذلك بیان لخصائص نفس النعم. أمّا فی القسم الحالیّ فقد ركّزت على علاقة النعم بالخلائق وتعاطی المتنعمّین لها.
تقول فاطمة الزهراء (سلام الله علیها): «وَنَدَبَهُمْ لاسْتِزَادَتِهَا بِالشُّكْرِ لاتِّصَالِهَا، وَاسْتَحْمَدَ إِلَى الْخَلائِقِ بِإِجْزَالِهَا، وَثَنَّى بِالنَّدْبِ إِلَى أَمْثَالِهَا»؛ فالله عزّ وجلّ یثیر فی الناس الدافع إلى الحمد من خلال إسباغ تلك النعم الجمّة وكأنّه بذلك یطالبهم بحمده علیها من خلال العمل. وعلاوة على ذلك فهو یدعوهم إلى مطالبته بالمزید من أمثال تلك النعم.
فی هذه الجمل الثلاث تشیر الزهراء (سلام الله علیها) إلى بضع نقاط. النقطة الاُولى هی أنّ الله تعالى، مضافاً إلى إعطائه النعم لعباده ابتداءً، فقد دعاهم إلى شكر تلك النعم من أجل نیل المزید منها، وهذا الباب بحدّ ذاته هو نعمة عظیمة تفوق غیرها من النعم. فعلى الرغم من أنّ الله عزّ وجلّ لم یقصّر بشیء عند إسباغه لتلك النعم ابتداءً؛ لكنّه، بالإضافة إلى ذلك، فقد فتح لعباده باباً آخر للاستزادة من تلك النعم، وهذا یحكی عن سنّة إلهیّة جدیدة. فالسنّة الاُولى هی أنّ الله یعطی لمخلوقات هذا العالم كلّ ما یلزمهم لمعیشتهم. غیر أنّه تحنّی علیهم بلطف أسمى فی إجازته لهم بالإفادة من المزید من النعم. إذ یمكن لحیاة الإنسان أن تستمرّ بما یسدّ رمقه من یسیر الطعام ولیس ثمّة من ضرورة لأن یضع فی متناوله تلك الأصناف من الفاكهة، والخضار، واللحوم، واللبن، والعسل، وأنواع النباتات المختلفة، فمواصلة الإنسان لحیاته من دون تلك الاُمور أمر مقدور علیه. إذن تنوّع الغذاء هو بحدّ ذاته نعمة زائدة. وكذا الأمر فی سائر المسائل؛ فبعض الأشیاء تكون ضمن حدّ الضرورة واحتیاج الإنسان فقط، غیر أنّ هناك إمكانیّة استفادته من نعم الله تعالى بما یفوق ما تستدعیه حاجته وجنْی المزید من اللذّة منها، أمّا السبیل إلى ذلك فهو أن یقْدر النعم التی منّ الله بها علیه حقّ قدرها. وهذه هی من السنن القطعیّة والتی لا تقبل الاستثناء فی التدبیر الإلهیّ. یقول القرآن الكریم فی هذا الباب ما یقلّ نظیره فیما یماثله من بیانه لمختلف السنن الإلهیّة: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِیدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِی لَشَدِیدٌ»2. فالأذان هنا بمعنى الإعلان، وإنّ باب التفعّل یدلّ على قول الأذان بالمزید من الصراحة والفصاحة والجزم؛ فكلمة «تأذّن» تعنی: الإعلان الصریح والمؤكّد. ثمّ تبیّن الآیة موضوع هذا الإعلان عن طریق العبارة التالیة: «لئن شكرتم لأزیدنّكم»؛ أی: لأزیدنّكم نعمة. وقد كان بمقدور الله عزّ وجلّ أن یقول: «إن شكرتم زادكم الله» نعمةً، بید أنّه جلّ وعلا لم یصغ العبارة هكذا، بل استخدم فی صیاغتها جملة تعدّ فی نظر الاُدباء جواب قَسَم، فقال: «لئن شكرتم»؛ وتقدیرها: «والله لئن شكرتم»، كما أنّ جواب القسم جاء بلام التأكید ونون التأكید الثقیلة؛ ومن هنا فقد روعی تأكید الكلام بالكامل، لیكون المعنى: إنّ هذه السنّة الإلهیّة لا تدع بتاتاً أیّ مجال للشبهة وهی سنّة قطعیّة لا استثناء فیها؛ مفادها أنّكم إذا شكرتم نعم الله جلّ وعلا فإنّ نعمتكم ستزداد حتماً وقطعاً. «ولئن كفرتم إنّ عذابی لشدید». فالباری عزّ وجلّ یهدّد ویتوعّد بأنّكم إن كفرتم فاعلموا أنّ عذاب الله شدید. وهو بالطبع لا یقول: لأعذبنّكم.
وبهذا البیان فإنّ الله فی الحقیقة یدفع بالناس إلى طلب زیادة النعم، فإنّ بیان هذا الأمر یخلق فی الناس دافعاً إلى المزید من الشكر. ومن الحَسَن هنا أن نفتح باباً للاخوة من أجل الدراسة والبحث حول هذه المسألة؛ فالشكر هو عمل اختیاریّ، وكلّ عمل اختیاریّ یحتاج إلى أرضیّة فكریّة؛ أی إنّ المرء یحتاج إلى العلم والاطّلاع من أجل القیام بهذا العمل، ولكنّه لابدّ قبل العلم من توفّر أرضیة للدافع؛ بمعنى أنّه یتعیّن توفّر دافع فی الإنسان لإنجاز هذا العمل، وأن یمیل قلبه إلیه. فبمعزل عن العلم بالعمل لابدّ من إرادة القیام به، وإذا ضُمّ هذان الإثنان إلى بعضهما تحقّق الفعل الاختیاریّ. فهناك اُمور كثیرة یعلم معظمنا أنّها حسنة إلاّ أنّنا لا نأتی بها لانعدام الدافع فینا لذلك، فالإنسان لا یقوم بما یعلم أنّه فعل حسن إلاّ إذا وُجد فی داخله الدافع للقیام به. ومن هنا فإنّ من أعظم أدوار المربّی والمعلّم هو تقویة دوافع المتربّی من خلال السعی إلى إثارة العاطفة والمحبّة فی داخله.
فمجرّد العلم بأنّ الله قد منّ علینا بنعم جمّة هو غیر كاف لاستثارة دافع الشكر فی أنفسنا، فالأمر یتطلّب شیئاً آخر، وهو ضرورة توفّر الرغبة والمیل القلبیّین لأن نكون شاكرین. وهذا من العوامل التی أوجدها الله بشكل فطریّ فی كیان الإنسان؛ فالإنسان مفطور بطبیعته على أن یشعر فی قرارة نفسه بضرورة الخضوع فی مقابل من علِم بأنّه قد أسدى إلیه خدمة، والإحساس بأنّه مدین له، والسعی لمجازاته على ما أسبغ علیه من اللطف؛ فعلى أقّل تقدیر یأتی بالشكر على لسانه، أما إذا لم یفعل ذلك فانّه یظلّ یراوده شعورٌ كمَن فقدَ شیئاً ولم یعثر علیه. قبل بضع سنوات وفی أثناء رحلة إلى أمریكا دُعیت إلى إلقاء محاضرة فی إحدى الجامعات، لكنّ ضجّة وزحاماً ما لبثا أن استولَیا على الجامعة برمّتها بعد إلقاء المحاضرة، وفی خضم ذلك التجمّع الغفیر كان أحد الطلبة یصرّ إصراراً عجیباً على التقرّب منّی، فرجوت الأخوة المرافقین لی أن یسمحوا له بالتقرّب لنرى ما الذی یودّ قوله. فاقترب منّی مكتفیاً بالقول: كنت أرید فقط أن أقول لك: شكراً جزیلاً. قال ذلك وذهب. فقد كان یشعر بنقص فی داخله ولم یهدأ له بال إلاّ بالإعراب عن الشكر. هذه مسألة فطریّة؛ فالإنسان لا یستطیع أن یكون غیر مبالٍ أمام من أحسن إلیه. بالطبع هذا الأمر لیس من مختصّات الإنسان بل هوموجود فی الحیوانات أیضاً، بل إنّ بعضها یفوق الإنسان بكثیر فی إظهاره للشكر. فهناك من الحیوانات التی إذا أعطاها المرء لقمة خبز أو قطعة عظم تظلّ مدّة مطأطئة رأسها ومتذلّلة أمامه! فهذا أمر مودَع من قبل الله فی جمیع الحیوانات، أمّا فی الإنسان فلابدّ أن یمتاز هذا الأمر بالمزید من الوعی.
فی إحدى المرّات وفی أثناء مجلس عقد بخصوص الشكر قال قائد الثورة المعظّم (حفظه الله تعالى): ینبغی توفّر بضعة اُمور من أجل الشكر؛ أوّلها عِلم الإنسان بأنّ ما فی یده نعمة، وثانیها أن یعلم بأنّ هذه النعمة هی من الله تعالى؛ فإن اعتقد بأنّ النعمة هی من نفسه فإنّه لن یشعر فی داخله بالدافع إلى الشكر. فالإنسان لن یبادر إلى الشكر إلاّ إذا أحسّ بأنّ هذه النعمة هی من الله تعالى وأنّ الله قد أعطاه إیّاها عن علم وقصد؛ لا أنْ یظنّ أنّها قد وصلت إلیه فی سیاق عملیّة جبریّة. فبعد أن یعلم أنّها نعمة، وأنّ الله هو الذی منّ علیه بها، عندئذ سیُضَمّ هذا الإحساس الفطریّ إلى ذلك فیبادر إلى الشكر. فهذا الإحساس الفطریّ بالاعتراف بالجمیل هو الآخر قد خلقه الله فی وجودنا وهو بحدّ ذاته نعمة تحتاج بدورها إلى شكر.
إنّ مسألة الشكر هی على جانب من الأهمّیة حتّى أنّ كبار المتكلّمین عدّوها من بدیهیّات العقل ودلیلاً على وجوب معرفة الله تعالى.
وإنّ للشكر مراتب أوّلها أن یقول المرء بلسانه: شكراً لله؛ الحمد لله. والمرتبة الثانیة هی أن یحافظ على هذه النعمة فلا یضیّعها. فلو أنّ صدیقاً أهداك هدیّة ثمّ لاحظ أنّك أهملتها وضیّعتها، فإنّه سیعاتبك! فحفظ النعمة بحدّ ذاته یعدّ مرتبة ثانیة للشكر؛ وهی تعنی أن لا یستعمل الإنسان النعمة فیما لا یحبّه الله؛ فلا ینبغی استعمالها فی أمر یصبّ فی مصلحة العدوّ وفی مواجهة المنعِم! وبتعبیر آخر: یجب أن لا تُستخدم النعمة فی سبیل المعصیّة.
أمّا آخر مراتب الشكر فهی أنّه إذا فَرضت النعمة علینا تكلیفاً سواء أكان مستحبّاً أو واجباًـ فلابدّ عندها من أدائه؛ فإن اُعطینا ثروة واُرید منّا أن ندفع بعضها للفقیر فلا نقصرنّ فی ذلك، فهذا أیضاً من الشكر لهذه النعمة. وتلك هی المراتب المختلفة للشكر.
قلنا إنّه مضافاً إلى العلم فإنّ عملیّة الشكر بحاجة إلى الدافع والمیل والرغبة؛ فإنّ إحساسنا بکوننا مدینین وشعورنا بضرورة أداء ما فی أعناقنا من دین إنّما هی اُمور أودعها الله فی فطرة الإنسان؛ وهی فی غایة الحسن! لكنّ هذا الأمر الفطریّ یضعُف تدریجیّاً جرّاء التهاون والإهمال ویفقد أثره فیزول ذلك الدافع المحفّز. على سبیل المثال فإنّ المبتلین بالتدخین یشكون فی المرحلة الاُولى من تدخینهم من السعال عند ممارسته؛ إلاّ أنّهم یألفون الدخان شیئاً فشیئاً حتّى یصلوا إلى حدّ الإصابة بحالة من الاضطراب إذا تركوا التدخین. وهذا یمثّل تخریب الفطرة الإلهیّة المودعة فی النفس! ففطرة الله كانت تقتضی السعال والاختناق عند دخول دخان السیجارة إلى الرئة؛ لكنّ الإنسان یخرّب تلك الفطرة بنفسه ویعطّلها عن العمل، بل إنّه یُحدث فی نفسه أثراً معاكساً لها! فإنّ الاُمور تصل بالإنسان أحیاناً، نتیجة الأنانیة، وحبّ الذات، والنزوع المفرط نحو اللذّات، إلى فقدان روح الشكر وعرفان الجمیل بالكامل وحلول حالة اللامبالاة محلّها! فأشخاص كهؤلاء لا یفكّرون إلاّ بمصالحهم القریبة ویسعون إلى استنزاف كلّ ما یستطیعون استنزافه من كلّ مَن هو فی طریقهم. فعندما تلبَّى حوائجهم ینسون خدمات الآخرین وألطافهم. وبهذه الطریقة تنطفئ تلك الفطرة الموهوبة من الله تعالى. فالله هو الذی أعطى هذه الفطرة؛ لكنّ هذا الإنسان، بتصرّفاته المشینة تلك، یقوم بإضعافها، بل ویبدلها أحیاناً إلى الضدّ!
وفی المقابل أیضاً فإنّ هناك من العوامل ما یساعد على تقویة هذا الإحساس والمیل الفطریّ فی المرء، حیث إنّه من الممكن تقویة الاُمور الفطریّة بعوامل خارجیّة. وهذه الإمكانیّة تتوفّر أیضاً فی الاُمور الغریزیّة؛ فعندما یجوع المرء وتصل رائحة الشواء إلى مشامّه یقوى عنده الإحساس بالجوع. فهذا الإحساس هو شیء داخلیّ، إلاّ أنّ رائحة الطعام الشهی تقوّیه. وكذا فإنّ المیل إلى النظر إلى الوجه الحسن موجود فی باطن الإنسان، فإن هو لم یسیطر على نظراته ووقعت عینه بضع مرّات على الأجنبیّة فسیقوى هذا المیل فی داخله، وستمسی حینئذ محاربة الشیطان أمراً صعباً. فالعامل الخارجیّ هنا هو الذی یقوّی الإحساس الداخلیّ. ولهذا فإنّ علینا أن نبذل قصارى الجهود فی توفیر العوامل الخارجیّة التی من شأنها أن تقوّی الاُمور الحسنة، وأن نسعى فی المقابل إلى الابتعاد عمّا یقوّی عوامل المعصیة. فكلّما قلّ وقوع نظر المرء على الأجنبیّات، ضعف الدافع إلى المعصیة فی نفسه.
فالله سبحانه وتعالى قد أوجد فی أنفسنا الدافع إلى الشكر والحمد من خلال إعطائنا للنعم: «واستحمد إلى الخلائق بإجزالها»؛ حیث إنّه من خلال إعطاء المزید من النعم قد هیّأ فی داخل الإنسان الأرضیّة للحمد وإثارة هذا الإحساس. وكأنّه عزّ وجلّ یریدنا، عبر عمله هذا، أن نحمده ونثنی علیه. لكنّه لم یكتف بذلك، بل: «وثنّى بالنَّدب إلى أمثالها»؛ فقد جاء بالمزید؛ وهو أنّه دعى إلى الشكر، بل وأمر به أیضاً، بشكل علنیّ. فلو أنّ الله لم یأمرنا بالشكر أساساً لكان لزاماً علینا أیضاً، على أساس العامل الوجدانیّ والفطریّ المودَع فینا، أن نشكره؛ لكنّه لم یكتف بذلك فبادر مراراً وتكراراً إلى دعوة الناس إلى الشكر فی قرآنه المجید؛ كما فی قوله: «أَنِ اشْكُرْ لِی وَلِوَالِدَیْكَ»3، بل إنّه جلّ شأنه یلوم علی أنّ المعترفین بالجمیل والشاكرین هم قلّة من بین الناس: «وَقَلِیلٌ مِّنْ عِبَادِیَ الشَّكُورُ»4.
إذن فإنّه علاوة على امتلاكنا للعامل الفطریّ للشكر وأنّ ضمائرنا تحثّنا على أن نكون شاكرین فی مقابل نعم الباری تعالى فإنّه لابدّ فی البدء من معرفة النعم الإلهیّة. ومن هذا المنطلق علینا أن نفهم أنّ بإمكان تلك العلوم التی تعرّفنا على نعم الله تبارك وتعالى أن تكون ذات أثر فی تبیین تكاملنا. وعلى وجه الخصوص فإنّنی اُوصی إخوانی وأعزائی من طلبة العلوم الدینیّة أن یطالعوا فی مجال فسلجة جسم الإنسان كی یدركوا أیّ مقدار من النعم قد أغدقه الله علینا. فمن بین العلوم الطبیعیّة التی تبعث أكثر من غیرها على أن یقدّر المرء حقّ النعم هو علم الحیاة ووظائف الأعضاء المتعلّق بالإنسان.
فالسیّدة الزهراء (سلام الله علیها) تشیر فی هذه التوصیات الأخیرة إلى تلك الالتفاتات اللطیفة عبر تعابیر هی من الناحیة الأدبیّة، فضلاً عن الجانب النغمیّـ غایة فی الروعة وقمّة فی الجمال. فترتیب العبارات فی كلامها ینمّ عن منتهى الحكمة. فكلامها هذا له أثر تربویّ قویّ للغایة وبإمكان الإنسان أن یفهم من خلال تلك الجملات القلیلة أیّ محلّ یشغله من الإعراب وأیّ وظیفة له فی الحضرة الإلهیّة، وأنّه لماذا یعطیه الله تعالى كلّ تلك النعم أساساً، ولماذا یذكّره بها أیضاً. فهو یذكّره بها كی یعلم أنّها من الله فتثیر فیه، من خلال ذلك الإحساس الذی أودعه الله فی كیانه، الدافع إلى الشكر فیكون شكره من موجبات زیادة نعمه ودوامها، وأن یفید أكثر من نعم الله تلك فیكتسب بذلك اللیاقة لنیل ما لا أمد له من نعمه تعالى فی العالم الأبدیّ.
هذا على الرغم من أنّ أیّ واحد من تلك الاُمور لا یُجدی الله أدنى نفع. فلو عكف البشر بأجمعهم طیلة ما اُعطوا من أعمار على شكر الله تعالى، فهل سیضیف ذلك الی الله شیئاً؟! فتعالى الله أن تتولّد فیه حالة من أثر فعل الآخرین. فمن نحن وما نحن كی نستطیع إیجاد حالة الرضا فی الله عزّ وجلّ! فكلّ ذلك هو لطف منه من أجل أن تتوفّر فینا اللیاقة لتلقّی رضاه، ورحمته، وقربه، ولعمری فإنّ فی ذلك نعمة تفوق غیرها من النعم.
اللهمّ اجعلنا من الشاكرین لأنعمك والعارفین بآلائك یا الله.
1. بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.
2. سورة إبراهیم، الآیة 7.
3. سورة لقمان، الآیة 14.
4. سورة سبأ، الآیة 13.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 21 آب 2010م الموافق للیلة الحادیة عشرة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَأَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِیكَ لَهُ، كَلِمَةٌ جَعَلَ الإِخْلاَصَ تَأوِیلَهَا، وَضَمَّنَ الْقُلُوبَ مَوْصُولَهَا، وَأَنَارَ فِی الْفِكْرَةِ مَعْقُولَهَا»1.
بعد الحمد والثناء على الله تعالى فی هذه الخطبة الشریفة تأتی الشهادة بالتوحید، وهذه هی سنّة النبیّ الأكرم والأئمّة الأطهار (صلوات الله علیهم أجمعین) فی خطبهم حیث یستهلّون الخطبة بحمد الله وشكره، ثمّ یشهدون بعد ذلك بالتوحید، ومن ثمّ یتطرّقون إلى ذكر ما ینوون بیانه من المباحث.
تقول سیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها): إنّ الشهادة بوحدانیّة الله جلّ وعلا هی كلمة لها باطن ولها ظاهر. فظاهرها هو أنّ نقول: أشهد أن الله واحد؛ بید أنّ لهذا الظاهر حقیقةً لابدّ من إدراكها وتطبیقها على أرض الواقع. ووفقاً للتعبیر الذی ساقته (علیها السلام) فإنّ تأویل هذه الشهادة هو الإخلاص. ثمّ تشیر فی الجملة الثانیة إلى مسألة من شأنها أن تفتح باباً واسعاً فی المعرفة الإلهیّة؛ فتقول (علیها السلام): لقد أودع الله عزّ وجل فی قلوب البشر لوناً من ألوان المعرفة به وبوحدانیّته. وفی الجملة الثالثة تنوّه بأنّ الله تبارك وتعالى قد جعل المعرفة العلمیّة والذهنیّة التی تأتی عن طریق الفكر بالغة الوضوح والجلاء.
لقد تمّ التركیز فی هذه الشهادة على بضع مسائل أساسیّة؛ أوّلها هی العلاقة بین التوحید والإخلاص. والإخلاص هو جعل الشیء خالصاً ونقیّاً، أمّا فی عرف اللغة والحوارات الدارجة الیومیّة فهو یعنی عادة الإخلاص فی العمل؛ بمعنى أن یتمتّع الإنسان بنیّة خالصة فی أعماله لا یشوبها الریاء أو التظاهر. إلاّ أنّ اتّضاح هذا الارتباط والمعنى المراد فی هذه الكلمات یحتاج إلى إلقاء المزید من الضوء علیه.
التوحید هو الاعتقاد بأنّ الله واحد، وهو باب التفعیل من «وَحَد». وباب التفعیل ینطوی على عدّة معان. فالمعنى الأوّل له هو ما یكون متعدّیاً؛ ویعنی جعل الشیء واحداً. غیر أنّ التوحید الذی یكون جزءاً من عقائدنا فهو اعتبار الشیء وعدّه واحداً؛ إذ أنّ «وَحّدَه» تعنی: عدّه واحداً، علم کونه واحداً، وهذا معنی آخر من معانی باب التفعیل. وإنّنی أودّ هنا أن اُؤكّد على الشبّان من طلبة العلوم الدینیّة حتی لایستخفّوا ولا یتسامحوا فی تعلّم أدب اللغة! لأنّ الكثیر من الأخطاء التی تُرتكَب فی فهم الحدیث والروایة ترجع إلى الضعف فی الأدبیّات، وإنّ ما یؤسف له أنّه لم یعد یُقام لأدبیّات اللغة فی الآونة الأخیرة كبیر وزن. ففی زمان ما قبل الثورة قام أحد الأشخاص، وكان للأسف معمّماً، بتصنیف كتاب عن التوحید أراد فیه التنظیر للأفكار الماركسیّة من منطلق الأدب الإسلامیّ، وقد انطلق من هذه النقطة وهی: «إنّ التوحید هو من باب التفعیل، وهو جعل الشیء واحداً. لكنّه لا معنى لأن نقول بخصوص الباری تعالى: نجعله واحداً؛ لأنّ الله هو واحد فی الأساس. إذن ما ینبغی أن نوحّده هو الشیء الذی لیس هو بواحد فی اصله و اساسه، والذی یشكو من الاختلاف والكثرة، بحیث یحتّم علینا السعی لإزالة كثرته، وهو المجتمع. ومن هنا فإنّه یتعیّن علینا أن نجعل المجتمع واحداً. إذن فالتوحید، الذی هو جزء من عقائدنا الإسلامیّة، یعنی السعی لتوحید المجتمع، وهو یعنی الاشتراكیّة. وهذا هو الإسلام أساساً!». هذا النمط من الكلام هو فی الحقیقة تلاعب بالألفاظ لیس إلاّ وهو ما یلوح لنا كلّ یوم بحلّة جدیدة ویتلوّن بلون مختلف على مرّ التاریخ والعصور، وقد یقع فی هذا الفخ أحیاناً أناس خیّرون یحملون نیات حسنة.
على أیّة حال فلیس معنى التوحید هو جعل الشیء واحداً، هذا وإن استُعمل أحیاناً بهذا المعنى. فإنّ التوحید الذی هو من اُصول معتقداتنا هو عدّ الله واحداً.
بطبیعة الحال إنّ توحید الله هو بحاجة إلى معرفته عزّ وجلّ؛ بمعنى أنّه لابدّ أن نكتشف وجود الله أوّلاً، ومن ثمّ نفهم صفاته التی من جملتها وحدانیّته. ویظن البعض عندما یُقال: إنّ ذات الله واحدة، أنّها لیست اثنتین أو أكثر، وأنّ الفرض الصحیح هو أنّ الله واحد، لكنّه إذا كان لنفس هذا الربّ أجزاء مختلفة فلا منافاة لذلك مع كونه واحداً! والحال أنّ عدم التجزّؤ یعتبر هو الآخر من معانی وحدانیّة الله تعالى.
قیل إنّ أعرابیّاً أصرّ فی یوم معركة الجمل على لقاء أمیر المؤمنین (علیه السلام) فأتوا به إلیه، فقال له: ما معنى قولكم: إنّ الله واحد؟ فهاجمه الناس منكرین علیه هذا السؤال فی هذا الظرف الحساس قائلین له: یا أعرابیّ! أما ترى ما فیه أمیر المؤمنین من تحدیات المعركة؟ فقال أمیر المؤمنین (علیه السلام): «دعوه فإنّ الذی یریده الأعرابیّ هو الذی نریده من القوم»؛ أی: إنّنا نقاتل من أجل التوحید. ثمّ شرَع (علیه السلام) یبیّن له بكلّ صبر وأناة قائلاً: «إنّ القول فی أنّ الله واحد على أربعة أقسام...» وإنّ أحد معانیه هو أنّه غیر متجزّئ إلى أجزاء... الخ2.
فعندما نقول: الله واحد، فلابدّ أن نعلم بأنّ لهذه الجملة باطنا، وعلینا أن نتوخّى الدقّة كی ندرك عمق هذا الموضوع، إذ یجب أن یمتاز توحیدنا بالعمق فی مقام الفكر، والنظریّة، والعقیدة وأن لا نكتفی منه بفهم سطحیّ. هذا من جانب، ومن جانب آخر علینا أن نكون حذرین أیضاً لئلاّ یختلط توحیدنا فی مقام العمل بالشرك؛ إذ أنّ توحید أغلب المؤمنین ممزوج بضرب من ضروب الشرك. ولا عجب فی ذلك! فالقرآن الكریم نفسه یقول: «وَمَا یُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ»3. ولهذا الاختلاط مراتب. أمّا التوحید الخالص فهو ما لم یمتزج معه أیّ لون من الوان الشرك؛ ولهذا فإنّ له مرتبة واحدة وهو لا یشبه المختلِط فی تعدّد مراتبه. فإذا خالط التوحیدَ شیءٌ وإنْ قلّ فانّه یخرج عن خلوصه، وعندئذ ستصبح له آلاف المراتب. فالتوحید الخالص هو ما لا یشوبه أیّ شرك على الإطلاق؛ لا فی مقام العقیدة ولا على مستوى العمل. لكنّ خلوصنا، للأسف، هو ضعیف وهو فی الغالب مشوب، ولذا علینا السعی إلى تقلیل هذا الاختلاط وتقویة المادّة الأصلیّة.
ومن ناحیة اُخرى فإنّ الشرك الجلیّ والواضح هو أحد مراتب الشرك أیضاً؛ وهو كالذی یعتقد به عبَدة الأصنام الذین یقولون بوجود عدّة آلهة. فنفی هذا النمط من الشرك لیس كافیاً للوصول إلى مقام التوحید الخالص، إذ علینا أن نعلم أیضاً أنّ ذات الله تعالى لیس لها أجزاء وهی غیر مركّبة من عدّة أعضاء. وهنا یتبادر إلى الذهن سؤال مفاده: إنّنا إذا اعتقدنا أنّ الله بسیط ولا تنطوی ذاته على أیّ شكل من أشكال التركیب، فهل سیكون توحیدنا كاملاً من حیث العقیدة؟ والجواب هو: طبقاً لكلام أمیر المؤمنین (علیه السلام) فإنّ توحیدنا لم یكتمل بعد؛ إذ یقول (علیه السلام) فی نهج البلاغة: «وَكَمَالُ تَوْحِیدِهِ الإِخْلاصُ لَهُ، وَكَمَالُ الإِخْلاصِ لَهُ نَفْیُ الصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَیْرُ الْمَوْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَیْرُ الصِّفَة»4. ویمكننا توضیح هذه النقطة بهذا المثال، وهو عندما نقول: هذه الورقة بیضاء، فإنّ الورقة هی الموصوف والبیاض هو صفة لها. وما ندركه نحن من معنى الصفة والموصوف هو أنّ الموصوف شیء، والصفة شیء آخر عارض على الموصوف. فنقول: الورقة هی جوهر جسمانیّ، وإنّ بیاضها عرضیّ؛ لذا فإنّه یمكن أن تكون الورقة ورقة فی حین أنّ لونها یتبدّل. إذن فاللون هو غیر ذات الورقة. هذا ما نفهمه نحن فی العادة من معنى الصفة والموصوف. لكنّه إذا قلنا: إنّ لله حیاة، وعلما، وقدرة، و...الخ، فهل یعنی ذلك أنّ الله هو شیء وأنّ حیاته، وعلمه، وقدرته، ...الخ هی أشیاء اخری؟! هل هذه الاُمور عارضة على الله تعالى؟! هل إنّ قدرته تشبه قدرتنا فی إمكانیّة نقصانها أو زوالها؟! هناك الكثیر من الذین نجحوا فی اجتیاز المرحلتین السابقتین من التوحید لكنّهم لم یفلحوا فی عبور هذه المرحلة الثالثة. لعلّ هذه النزعة، وهی الاعتقاد بانفصال صفات الله عن ذاته عزّ وجلّ، هی النزعة الغالبة بین صفوف إخواننا من أهل السنّة الیوم. ولعلّ أمیر المؤمنین (علیه السلام) هو الشخص الأوّل فی العالم الإسلامیّ، بل ولربّما فی عالم الفكر والرأی، الذی نطق بهذه العبارة بكلّ صراحة: «كمال الإخلاص له نفی الصفات عنه»؛ والصفة هنا بالطبع هی الشیء الذی یغایر الموصوف والذات. فلا ینبغی إثبات شیء كهذا لله جلّ وعلا؛ بل یتعیّن نفیه عنه. فیجب علینا أن نقول: لیس لله صفة هی غیر ذاته؛ فالله عالم، لكنّ علمه هو عین ذاته، وذاته عین علمه أیضاً. والله قادر، لكنّه عین قدرته. فالله هو ذات بسیطة ونحن ننتزع من هذه الذات عدّة مفاهیم؛ وهی مفهوم الذات، ومفهوم صفة العلم، ومفهوم صفة القدرة، و...الخ. انّ هذه الطریقة هی مصیدة ینصبها الذهن لیجتذب بها هذه المفاهیم.
تحدّثنا لحدّ الآن حول الإخلاص فی العقیدة. لكنّ للتوحید، مضافاً إلى ذلك، مراتب طولیّة فی العمل وهی أنّنا عندما نعرف الله تبارك وتعالى بهذه الصفات فلابدّ أن یكون سلوكنا مطابقاً لمقتضى تلك الصفات الإلهیّة؛ فمثلاً علینا الاعتقاد بأنّ منشأ جمیع الموجودات هو الله عزّ وجلّ وما من موجود على الإطلاق یمكنه أن یتحقّق إلاّ من ناحیة إرادة الله تعالى. فالله فقط هو القائم بذاته، وهو الذی خلق باقی الموجودات: «وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ»5، ویُبیَّن هذا المعنى فی أنماط مختلفة أحدها هو التوحید الأفعالیّ. فلازم التوحید الأفعالیّ هو اعتقاد المرء بأنّ منشأ جمیع الخیرات هو الله جلّ شأنه. فالذی یعتقد بأنّ الخیرات كلّها من الله فلن یرجو غیره؛ واذا أراد أحد إلحاق الضرر بغیره فكیف یستطیع أن یقوم بهذا العمل؟ فانّ إلحاق الضرر بالآخرین یحتاج إلى قوّة، فمن أین له هذه القوّة؟ هذه القوّة هی أیضاً من الله. إذن فكلّ نفع أو ضرر إنّما هو متعلّق بإرادة الله عزّ وجلّ: «وَإِنْ یَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ یُرِدْكَ بِخَیْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ»6. لكنّ فهم هذه الرؤیة لایخلو من بعض الصعوبة، أمّا الالتزام بها على الصعید العملیّ فهو بالغ الصعوبة.
لقد تعوّدنا علی أن نقول: هذا عملی، وهذا عمل فلان! بل قد نقول أحیاناً أیضاً: لیس لهذا الأمر صلة بالله، أنت الذی قمت به! لكنّ القرآن یتحدّث معنا بلغة اُخرى؛ فهو یقول: «وَهُوَ الَّذِی یُرْسِلُ الرِّیَاحَ بُشْراً بَیْنَ یَدَیْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّیِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ»7. فالله هو الذی یُجری السحاب، والله هو الذی یُنزل المطر بواسطة هذا السحاب، وهو الذی یُخرج النبات من الأرض، فكلّ ذلك هو فعل الله عزّ وجلّ. فهذا الكلام یمثّل ثقافة خاصّة تختلف عمّا نعرفه، ونتحدّث به، ونقرأه فی الكتب، ونكتبه. والسرّ فی هذا البیان هو أنّه تبارك وتعالى یریدنا أن نتذكّر دوماً أنّ جمیع الأشیاء متعلّقة بالله. صحیح أنّ هناك فاعلین وسطاء ومتوسطین فی المسألة، لكنّه لابدّ من معرفة الشخص الذی یكون أصل الوجود فی قبضته، والذی صمّم هذا النظام الدقیق، والذی یستطیع أن ینهیه متى شاء. فإنْ حرّر مسؤول مرسوماً یخصكّ فهل یكون أملك ونظرك إلى القلم الذی یكتب المرسوم؟ وهل ستقول إذا كتبه: شكراً جزیلاً أیّها القلم؟ فالقلم هنا هو أداة لیس إلاّ، وإنّ ید الكاتب هی التی تكتب بواسطة هذا القلم. فالعالَم برمّته یمثّل مجموعة من الأسباب، وحتّى إذا كانت بعض تلك الأسباب تمتلك شعوراً واختیاراً؛ إلاّ أنّ مسبّب الأسباب هو شخص آخر، وما الآخرون إلاّ وسائط جزئیّة. فإن أدرك الإنسان ذلك على النحو الصحیح فسوف یعیش حالة لا یخاف معها من أیّ أحد. وقول الإمام الخمینیّ الراحل (رضوان الله تعالى علیه) عندما كان یقول: «اُقسم بالله إنّنی لم أخف طیلة حیاتی من شیء قطّ» إنّما ینطلق من هذا الإدراك وهذا الفهم، فقد كان یعلم أنّه ما من شیء أو أمر فی هذا العالم یمكنه أن یحدث من دون إذن الله تعالى وإرادته.
إذا أحبّ الإنسان شیئاً فهو لأجل حسنه وخیره؛ ومن هنا فإنّه لو أدرك أنّ كلّ ما هو حَسَن وخیر فی هذا الكون فهو من الله عزّ وجلّ وأنّ كلّ ما یملكه الناس هو عطیّة الله لهم، فعندها لن یُجیز لقلبه أن یتعلّق بغیر الله تعالى؛ فهو سیرى أنّ كلّ أشكال الجمال هی منه، وهذا هو ما یُدعى بالتوحید فی العمل. فشخص كهذا لا یطیل صلاته من أجل الآخرین، بل لا یودّ أن یعرف الآخرون المنزلة التی هو فیها من منازل المعرفة والعبادة، وأیّ فعل خیر قام به. انّه یبذل قصارى جهده حتّی لا یطّلع الآخرون على ما یفعل من الخیر؛ ذلك أنّه یعلم أنّ الله یحبّ أن یكون عبده خالصاً له: «قُلْ إِنَّ صَلاتِی وَنُسُكِی وَمحَْیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ»8؛ قل: لیس فقط صلاتی وعبادتی، بل حتّى موتی وحیاتی هی له عزّ وجلّ، وأنا لا أرید شیئاً لنفسی على الإطلاق. فهذا هو التوحید الخالص فی العمل. فالإسلام ما جاء إلاّ لیفهّم الإنسان هذه المعارف فی البدایة ثمّ لیربّیه على النحو الذی ینمو به فی هذا الاتّجاه؛ حیث یرى ید الله فی كلّ مكان، وأن یعمل فی سبیل الله، وأن لا یقیم وزناً إلاّ لله، وأن لا یخاف إلاّ من الله، وأن لا یحبّ محبّة أصیلة غیر الله، فإن كان كذلك فسیصدق علیه حینها أنّ توحیده توحید خالص.
تقول مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها): «كلمة جعل الإخلاص تأویلها»؛ فشهادة أنّ لا إله إلاّ الله هی كلمة لها معنى ظاهر؛ إلاّ أنّ لها حقیقة تفوق ما یتبادر إلى الذهن عند سماعها لأوّل وهلة، وهذه الحقیقة هی أن یخلص الإنسان لربّه بحیث لا یخلو ذهنه واعتقاده من شوائب الشرك فحسب بل أن یتطهّر عمله وسلوكه وأحاسیسه من كلّ ما سوى الله من الشوائب. وكأنّها (علیها السلام) أرادت القول: «هذا ما نحن علیه من مراتب التوحید؛ فاختبروا أنتم أنفسكم لتروا إلى أیّ مدىً یكون حظّكم منه»، وحیث إنّ توحیدنا هو فی الأعمّ الأغلب مشوب بالشرك فهی تؤكّد: «إنّنی أشهد أنّ لا إله إلاّ الله، إلاّ أنّ هذه الشهادة لها باطن، وتأویل، وكنْه، وحقیقة، وهی خلوصها من شوائب الشرك على صعیدی الاعتقاد والعمل».
رزقنا الله وإیّاكم ذلك إن شاء الله.
1. بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.
2. التوحید للصدوق، ص83 .
3. سورة یوسف، الآیة 106.
4. نهج البلاغة، الخطبة 1.
5. سورة الصافات، الآیة 96.
6. سورة یونس، الآیة 107.
7. سورة الأعراف، الآیة 57.
8. سورة الأنعام، الآیة 162.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 22 آب 2010م الموافق للیلة الثانیة عشرة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَأَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِیكَ لَهُ، كَلِمَةٌ جَعَلَ الإِخْلاَصَ تَأوِیلَهَا، وَضَمَّنَ الْقُلُوبَ مَوْصُولَهَا، وَأَنَارَ فِی الْفِكْرَةِ مَعْقُولَهَا».
لقد میّزت السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) الشهادة بالتوحید بثلاث خصائص: أوّلها أنّها لیست مجرّد بیان لفظیّ، بل إنّ لها حقیقة هی غایة فی العمق ولابدّ من الاجتهاد لبلوغها؛ وهذه الحقیقة هی الإخلاص. وقد تناولنا بحث هذا الموضوع فی المحاضرة السابقة على قدر ما وفّقنا الله إلى ذلك. ثمّ تقول (علیها السلام): لقد أودع الباری جلّت آلاؤه قدرة الظفر بهذه الحقیقة فی قلوب الناس، وبتعبیر آخر: فطر القلوب على التوحید. أمّا البیان العقلیّ والتعقّلی لها، وهو ما یمكن تحقّقه فی ذهن الإنسان وفكره، فهو الآخر قد جعله الله عزّ وجلّ نورانیّاً وواضحاً. وسأتناول فی هذه اللیلة البحث حول الجملتین الأخیرتین والفرق بینهما. ومن أجل إلقاء الضوء على البحث الذی أودّ طرحه لابدّ من بیان مقدّمتین.
المقدّمة الاُولى تتلخّص بأنّ العلم على نوعین؛ فنحن قد ندرك أحیاناً وجود إحساس معیّن فی أنفسنا، وهذا الإدراك هو عین وجود ذلك الإحساس فی أرواحنا. فإدراكنا بالنسبة إلى الجوع، مثلاً، هو عین إحساسنا بالجوع. لكن أحیاناً اُخرى یقال: إنّ الجوع هو عبارة عن حالة تنتاب البدن نتیجة خلوّ المعدة وهبوط مستوى الطاقة. فی الحالة الأخیرة نحن لم نحسّ بالجوع ولا وجود للجوع فی أنفسنا؛ لكنّنا، ومن خلال هذه المفاهیم، أدركنا المعنى العقلیّ للجوع. إذن فالإحساس بالجوع هو نوع من الإدراك، أمّا تصوّر معنى الجوع فهو لون آخر من الإدراك. أمّا ما یقوله أهل المعقول فی ذلك فهو: إنّ القسم الأوّل هو الإدراك الحضوریّ، والقسم الثانی هو الإدراك الحصولیّ، وفی الإدراك الحضوریّ یكون المعلوم والعلم شیئاً واحداً.
المقدّمة الثانیة هی أنّ العلم أو الإدراك ینقسم، من ناحیة اُخرى، إلى قسمین أیضاً؛ فقسم یكون عن وعی وآخر عن غیر وعی. فتارة یعلم المرء شیئاً وهو یعلم أنّه یعلم، وهذا ما یطلق علیه الإدراك عن وعی. وتارة اُخرى یعلم الشخص شیئاً لكنّه غیر ملتفت إلیه بتاتاً، حتّى تحدث ظروف معیّنة یفطن الإنسان عندها أنّه كان یعلم بذلك، وهذا هو الإدراك عن غیر وعی.
كلّ منّا قد مرّ على مسامعه الحدیث الشریف الذی یقول فیه النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله): «كلّ مولود یولَد على الفطرة فأبواه یهوّدانه وینصّرانه ویمجّسانه»1؛ أیّ إنّ كلّ امرئ هو مخلوق على فطرة التوحید إلاّ أنّ والدیه هما اللذان یجعلانه یهودیّاً أو نصرانیّاً أو مجوسیّاً. كما وقد تكرّرت كثیراً فی تراثنا الروائیّ عبارة: «فطَرَهم على التوحید»2، وإنّ المفسّرین فی ذیل الآیة الشریفة: «فِطْرَتَ اللهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا»3 یرون أنّ المراد من الفطرة فی الآیة هی فطرة التوحید. وكذلك رأی علمائنا فی باب معرفة الله حیث یعتبرون أنّ معرفة الله مسألة فطریّة. لكنّ السؤال هو: ما معنى أن یقال إنّ الإنسان هو عارف بالله بالفطرة؟ فإذا لم یتعلّم امرؤ من الآخرین شیئاً، ولم یسمع اسم الله من أبویه، ولم یقرأ ذلك فی كتاب، ففی هذه الحالة هل یا ترى سیصبح عارفاً بالله بشكل عفویّ؟ هذه المسألة فی رأیی قابلة للحلّ إذا أخذنا بنظر الاعتبار المقدّمات الآنفة الذكر. فإنّ لدینا معرفة عن غیر وعی؛ أی هناك علم نحن غیر ملتفتین إلیه، والأمثلة على هذا النوع من الإدراكات فی حیاتنا الیومیّة كثیرة. والإدراك عن غیر وعی هو الآخر ینقسم إلى قسمین: فقسم منه إدراك عن نصف وعی؛ وهو عندما یتذكّر المرء بالتنبیه البسیط فیلتفت إلى علمه. أمّا القسم الثانی فهو الإدراك عن غیر وعی؛ وكأنّ الإنسان فی حالة كهذه یكون قد نسی علمه ولا یمكنه الالتفات إلى وجود شیء كهذا فی أعماق ذهنه إلاّ بشقّ الأنفس. فعلى سبیل المثال عندما یسمع الأطفال الصغار صوتاً تراهم یجولون بطرفهم هنا وهناك بحثاً عن مصدر الصوت. وإن أردنا بیان ذلك بالمصطلحات العقلیّة نقول: إنّهم یبحثون عن علّة هذه الظاهرة؛ لأنّهم یعلمون أنّ هذا الصوت لا یصدر بلاسبب ولابدّ أن تكون له علّة، أمّا إذا سألت طفلاً له من العمر ثلاث سنوات: هل أنت معتقد بقانون العلّیة؟ فإنّه لا یفهم هذا السؤال. فهذا هو نوع من الإدراك عن غیر وعی، لكنّه بمحض أن یعثر المرء على مورده فإنّه یقوم بتطبیق ذلك الإدراك الكلّی على هذا المورد. فالإنسان یعلم بأصل العلّیة؛ لكنّه غیر واع بما یعلم.
مع بالغ الأسف فإنّنا نمرّ على بعض آیات القرآن الكریم مرور الكرام؛ فمثلاً یقول عزّ من قائل: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَیَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِیزُ الْعَلِیمُ»4؛ أی: إذا سألت عبَدَة الأوثان هؤلاء: مَن خلق هذا الكون العظیم بكلّ تلك الأسرار والحِكَم؟ فسیقولون: لا شكّ أنّ الذی خلق هذا العالم یتمتّع بقدرة خارقة للعادة من جهة، وهو عالم من جهة اُخرى. لعلّهم لم یكونوا یفكّرون بهذه المسألة أساساً؛ لكنّه عندما یُطرح مثل هذا السؤال یلتفتون إلى عظمة هذا العالم وما فیه من الحِكَم فیقولون: لا یمكن لموجود غیر ذی شعور أن یخلق كلّ ذلك، كما ویستحیل أن یحصل ذلك صدفة؛ فلا ریب أنّ الذی خلق هذا العالم هو موجود عالم وقادر. والقرآن الكریم كثیراً ما یطرح من هذا النمط من الأسئلة؛ وكمثال على ذلك الآیة الشریفة: «أَمَّن یُجِیبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَیَكْشِفُ السُّوءَ»5؛ أی: اسألهم: من الذی یعطی و یلبی حاجة الشخص المضطرّ إذا دعاه وطلب منه؟ هذا النوع من الأسئلة موَجّه إلى فطرة الإنسان؛ أی إنّ الإنسان یعلم جوابها، لكنّه غیر ملتفت إلى هذا العلم، فبعد أن یُطرح علیه السؤال ویتأمّل فیه فسیكون قادراً على الإجابة. وهذا هو ما یدعى الإدراك عن نصف وعی.
لكنّ الناس قد ینكرون أحیاناً ما تنطوی علیه أعماق أذهانهم فلا یدركونه لما ران علیه من كثرة الغبار والرین؛ فكلّ واحد منّا، مثلاً، یعلم بوجود ذاته وهو یدرك أنّه موجود، لكنّه عندما یقول: «أنا»، فهل یقصد بذلك هذا البدن؟! فالبدن لا یعدو كونه مجموعة من الخلایا التی لیس لها شعور، وحتّى الخلایا الدماغیّة فهی تحمل طابع الأداة ولیس لها إدراك بذاتها. فی الحقیقة إنّها روح الإنسان التی تقول: «أنا»، ولیس البدن سوى أداة بید تلك الروح. فی الواقع إنّها الروح التی تسمع، وترى، وتتّخذ القرارات، وتتكلّم، و...الخ. لكنّ البعض على الرغم من تمتّعهم بهذه الروح یقولون: لیس هناك وجود للروح أساساً!
لقد ثبت فی العلوم العقلیّة أنّ العلم بالنفس هو عین ذات النفس وهو لا ینفكّ عنها. وهذا هو المصداق البارز للعلم الحضوریّ حیث یصبح العلم والعالِم والمعلوم شیئاً واحداً؛ لكن، فی الوقت ذاته، فإنّ المنكرین للروح یقولون: نحن، أساساً، لسنا سوى هذا البدن! فهل إنّه لا علم لهؤلاء بهذه الروح؟ لقد قلنا إنّ العلم بالنفس هو عین النفس، ومن المستحیل أن لا یكون لدیهم هذا العلم؛ لكنّ هذا اللون من الإدراك هو على جانب من الضعف وحالة انعدام الوعی بحیث یلتبس الأمر علیهم فیعتقدون أنّ «أنا» تعنی هذا البدن. وعندما یزكّی المرء نفسه وتقوى روحه فإنّه سیدرك تدریجیّاً أنّ هناك شیئاً إلى جانب البدن یسمّى الروح، وبتكامل الروح سیدرك جیّداً أنّه لیس للبدن أیّ علاقة باﻟ «أنا» وهو لا یعدو كونه آلة ووسیلة تحت تصرّف الروح. هناك آیات فی القرآن الكریم تشیر إلى هذه الحقائق؛ كقوله تعالى فی سورة العنكبوت: «فَإِذَا رَكِبُواْ فِی الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ فَلَمَّا نَّجَـٰهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ یُشْرِكُونَ»6، والقرآن یذكر هذا المعنى بألوان شتّی من البیان7. كما وقد اُشیر فی الروایات أیضاً إلى هذا العلم الذی یكون عن نصف وعی أو عن غیر وعی.
إذن فعندما نقول: إنّ الإنسان مفطور على التوحید، فلیس المراد من ذلك أنّنا نعلم عن وعی بوجود ربّ بمثل هذه الأوصاف؛ بل إنّ إدراكنا هو من النوع الذی یكون عن نصف وعی، وإنّنا لن نلتفت إلى أنفسنا فیزاح ذلك الستار الرقیق المسدَل على علمنا ویتحوّل إلى حالة الوعی إلاّ عندما نُسأل: «من خلق السماوات والأرض». غیر أنّ هذا الستار یكون أحیاناً غایة فی السُّمْك ولا یُزاح بهذه البساطة إلاّ أن تتحقّق ظروف استثنائیّة للغایة یعود بواسطتها الإنسان إلى رشده. فمثلاً عندما یكون المرء مسافراً فی طائرة، وینتبه فجأة إلى أنّ الطائرة تعانی من عطل فنّی وهی معرّضة للسقوط. فی مثل هذه الحالة بِمَن سیتعلّق رجاء الإنسان؟ ومَن الذی باستطاعته أن ینجیه من هذا المأزق؟ فی هذه الحالة سیكتشف المرء دفعة واحدة أنّ أمله متعلّق بشیء ما، وأنّه ملتفت فی أعماق قلبه إلى أحدٍ ما. وهذا هو عین ذلك الإدراك الذی أسمیناه علماً حضوریّاً عن غیر وعی. فهذا العلم لا یأتی عن طریق الاستدلال والتفكیر؛ بل إنّ المرء یكتشف ویجد شیئاً ما. هاتان المقدّمتان یمكن الإفادة منهما فی مباحث اُخرى أیضا ومن الممكن أن تشكّلا انطلاقة لأهل البحث والتحقیق.
ومع الأخذ بهاتین المقدّمتین فی نظر الاعتبار نعود إلى الجملتین اللتین ذكرتهما الزهراء (سلام الله علیها) بعد الشهادة بالتوحید: «وضمَّن القلوبَ موصولَها، وأنار فی الفكرة معقولَها». فالسیّدة الزهراء (علیها السلام) هنا تؤمن بمقولتین فیما یتعلّق بالاعتقاد بالتوحید: أوّلهما أنّه موصول، وثانیهما أنّه معقول. فالموصول یعنی الواصِل أو المُستَلَم. فتارة نحن نحصل على حقیقة التوحید ونصل إلیها، وتارة اُخرى نتعقّلها فحسب؛ وبعبارة اُخرى: ففی مرحلةٍ یتمّ نیل هذه الحقیقة، وهو ما یُصطلح علیه بالعلم الحضوریّ، وفی مرحلة اُخرى یتمّ تعقّلها، وهو ما نصطلح علیه بالعلم الحصولیّ. فالعلم الحصولیّ یرتبط بالفكر والذهن، أمّا العلم الحضوریّ فیرتبط بالقلب. فالقلب هو مرحلة من مراحل روح الإنسان وساحة من ساحاته، ومن جملة وظائفه هی شهود الحقائق. فالقلب یرى؛ كما یقول عزّ وجلّ فی سورة النجم: «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ»8؛ فهو لا یقول: «ما كذب الفؤاد ما علم». فإذا تحقّقت فی القلب حقیقة ما فإنّه یكون قد حصل علیها ونالها. والفعل الذی ینسب إلى القلب هنا هو فی مقابل الفكر. بالطبع إنّ للقلب إطلاقات متعدّدة، بید أنّ المراد من القلب فی الغالب هو تلك الحیثیّة التی تتمتّع بإدراكات شهودیّة وحضوریّة وهی تجد الإحساسات والعواطف فی داخلها؛ لا أنّها تعلم بمجرّد وجودها.
تقول سیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها): لقد أودع الله سبحانه وتعالى نیل التوحید والحصول علیه فی أعماق القلوب؛ وكأنّ التعبیر الآخر الذی یكون من سنخ هذا المعنى هو: إنّ الله قد خلق القلوب على فطرة التوحید. فإن كانت عین القلب مفتوحة، ولیس من حجاب یحجبها فهی سترى بوضوح وجلاء. فالله سبحانه وتعالى یملك مثل هؤلاء العبید، والنموذج البارز والناصع لهم هم حضرات المعصومین، وتخصّ بالذكر المعصومین الأربعة عشر (صلوات الله علیهم أجمعین). نحن لا یساورنا أدنى شكّ فی أنّ هؤلاء كان لهم علم بالله حتّى فی ساعة ولادتهم؛ بل كانوا یسبّحون الله حتّى فی بطون اُمّهاتهم. ولعلّ هناك من أولیاء الله تعالى مَن قد اكتسب فی أیّام طفولته معرفة عالیة بالله عزّ وجلّ. فنحن لا نملك الحقّ فی أن نخوض فیما لا نعلم ونزعم انّه: لا وجود لذلك، أو هو مستحیل! فثمّة الكثیر من الاُمور التی نخالها مستحیلة لكنّ الله أحیاناً یرینا أنّها ممكنة. فأحیاناً یعلم الأشخاص العادیّون من الاُمور ما لا یعلمه الآخرون، بل ویبلغون أحیاناً من الكمالات المعنویّة ما لم یصله الباقون، بل وتحصل لدیهم من المكاشفات ما لا یُدرَى إن كان سیحصل مثلها للشیوخ من ذوی العلم والزهد ولو بعد سنین طوال! حیث «ذَ ٰلِكَ فَضْلُ اللهِ یُؤْتِیهِ مَن یَشَاءُ»9.
إذن فمعرفتنا بالتوحید لها نمطان؛ الأوّل هو ما یوجود فی النفس. ففی هذا النمط یجد المرء حضور الله فی قلبه بالضبط كما یجد المحبّة فیه. فوجود الله بالنسبة لاُناس كهؤلاء لیس قابلاً للشكّ على الإطلاق؛ كما نقرأ فی دعاء عرفة: «أیكون لغیرك من الظهور ما لیس لك حتّى یكون هو المُظهِر لك»10. فالله قد أعطانا جمیعاً المرتبة الضعیفة من هذا اللون من الإدراك وهو عبارة عن الإدراك الفطریّ الذی یختبئ فی أغلب الأحیان خلف حجاب وستار ولا یُدرَك جیّداً؛ لكنّه موجود ویظهر فی الفرصة المناسبة. وهذا النوع من الإدراك هو الإدراك الذی یجده الانسان فی أعماقه.
والنمط الآخر من معرفة الله هو الإدراك المعقول. فعندما یدور الحدیث عن معرفة الله ونرید أن نعرف الله من خلال الاستدلال فإنّ المراد هنا هو هذا النمط من المعرفة. ونتیجة لهذا الاستدلال تتولّد فی أذهاننا قضیّة لها موضوع ومحمول ونحن ندرك العلاقة بین موضوعها ومحمولها. وهذا اللون من المعرفة تفصله عن إدراك ذات الله تعالى فاصلة كبیرة، فهذا المفهوم هو صنیعة أذهاننا. وحسب قول الإمام الباقر (صلوات الله علیه): «كلّما میّزتموه بأوهامكم فی أدقّ معانیه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إلیكم»11؛ أی إنّ ما تصوغونه بأذهانكم ـ من المفاهیم العقلیّة، والفلسفیّة، والعرفانیّة، و...الخ ـ كلّها صنیعة أذهانكم وكلّما أدركتموه بدقّة فإنّكم تدركون أحد مخلوقات أذهانكم. فمن أجل العثور على الله ومعرفته لابدّ أن یلقی هو نوراً فی قلوبكم كی تتمتّعوا بالنظر إلى تجلٍّ من تجلّیاته. إذن فإنّ لدینا إدراك هو ممّا یجده المرء وهو ما أوجده الله تعالى فی قلوبنا: «ضمّن القلوب موصولها» وهو ما نكون أحیاناً على علم به؛ فطوبى لمَن هم على هذه الشاكلة، أو الذین كانوا هكذا منذ البدایة، كالأئمّة الأطهار (علیهم السلام)، أو الذین نالوا ذلك العلم الشهودیّ فیما بعد عبر الریاضات والعمل بأحكام الشرع. وهذا العلم إنّما یتعلّق بالقلب ولیس بالذهن والفكر. لكنّ الشكل العقلیّ لهذا الإدراك وإثباته عن طریق العقل فهو من مختصّات الفكر: «وأنار فی الفكر معقولها». وقد تلطّف الله جلّ وعلا فأقام على هذا النمط أیضاً من الأدلّة الواضحة التی لا یسع معها أیّ عاقل أن یتذرّع بافتقاده الدلیل على وجود الله؛ ومن هذا المنطلق تقول مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها): «أنار فی الفكر معقولها»؛ أی إنّ الله قد أودع معقولیّة التوحید واضحة جلیّة فی عالم الفكر والذهن.
نسأل الله العلیّ القدیر أن یوفّقنا لإدراك المرتبة العقلانیّة للتوحید على نحو أفضل، وأن یفیض علینا بنسمة من الإدراك الشهودیّ والحضوریّ له سبحانه؛ إن شاء الله.
1. بحار الأنوار، ج58، ص187.
2. بحار الأنوار، ج64، ص44.
3. سورة الروم، الآیة 30.
4. سورة الزخرف، الآیة 9.
5. سورة النمل، الآیة 62.
6. سورة العنكبوت، الآیة 65.
7. سورة الأنعام، الآیة 63؛ وسورة لقمان، الآیة 32.
8. سورة النجم، الآیة 11.
9. سورة المائدة، الآیة 54.
10. بحار الأنوار، ج64، ص142.
11. بحار الأنوار، ج66، ص292.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 23 آب 2010م الموافق للیلة الثالثة عشرة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«الْمُمْتَنِعُ مِنَ الأَبْصَارِ رُؤْیَتُهُ، وَمِنَ الأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنَ الأَوْهَامِ كَیْفِیَّتُه»1.
تقول السیّدة الزهراء (سلام الله علیها): إنّ الله تعالى قد أودع معرفة التوحید وكذا عملیّة تلقّیه فی قلوب الناس وجعل إدراكه بالعقل واضحاً وجلیّاً فی أذهان البشر وأفكارهم. هاتان الجملتان توحیان بأنّ معرفة الله هی معرفة واضحة وجلیّة للغایة، بل وقد تُوهِم بأنّه بإمكان أیّ امرئ أن یتوصّل إلى إدراك حقیقة الباری تعالى بكلّ وضوح وشفافیة. ولعلّ مولاتنا فاطمة (علیها السلام) قد أوردت الجمل القلیلة التی تلیها دفعاً لهذا التوهّم قائلة: صحیح أنّ الله قد جعل الإدراك العقلیّ للتوحید واضحاً، غیر أنّ عین الإنسان عاجزة عن رؤیة الله، ووهمه عاجز عن تصوره بالذهن، ولسانه عاجز عن وصفه بحقیقته.
منذ قدیم الزمان والسجال قائم بین المتكلّمین حول كیفیّة معرفة الله، وأیّ لون من المعارف الإلهیّة لیس هو فی متناول الإنسان. فالبعض من المستغرقین جدّاً فی الظاهر والذین لا یمتلكون القدرة على التعمّق فی الامور قد فهموا من بعض الآیات والروایات أنّ الله قابل للرؤیة بالعین الحسّیة! أمّا البعض الآخر فقال: لا یمكن رؤیة الله فی هذا العالم بالعین الحسّیة، بید أنّ ذلك ممكن فی الآخرة! وقد صرّح بذلك بعض كبار علماء أهل السنّة.
لقد أوضحَت السیّدة الزهراء (علیها السلام) من خلال التعابیر التی ساقتها أنّ الله تعالى قد تلطّف على عباده عندما أودع فی عقولهم القدرة على معرفته معرفة واضحة وشفّافة. لكن لابدّ من الالتفات هنا إلى أنّنا تعوّدنا أن نربط ما عرفناه بحواسّنا؛ وحتّى عندما ندرك شیئاً بعقولنا فإنّنا ندرك أوّلاً المصداق الحسّی لذلك الشیء بواحدة من حواسّنا الظاهریّة أو الباطنیّة، ومن ثمّ نجرّد هذا الفهم الجزئیّ لنحصل بالنتیجة على مفهوم عامّ ومعقول له. إذن فإنّ إدراكنا العقلیّ یعتمد، بشكل أو بآخر، على الحسّ؛ بمعنى أنّه لابدّ لنا أن ندرك الشیء بالحسّ فی بدایة الأمر، ثمّ من خلال تجریده وتعمیمهـ یتكوّن لدینا تصوّر عقلانیّ عن ذلك الشیء. لهذا فعندما یقال: «أنار فی الفكر معقولها» فلعلّه سیقال إنّه: إذا كنّا ندرك الله بالعقل، فلابدّ أن نكون قد أدركناه سابقاً بالحسّ أو عبر الخیال والوهم ثمّ استخلصنا منه هذا الإدراك العقلیّ من خلال التجرید. ومن أجل دفع مثل هذا التوهّم تقول الزهراء (سلام الله علیها): إنّ الله غیر قابل للإدراك لا من خلال الحواسّ (التی من أبرزها العین)، ولا عبر قوّة الوهم أو الخیال. والمقصود من قوّة الوهم أو الخیال هو تلك القوّة التی تكوّن فی ذهن الإنسان صورة للشیء بعد إدراكه له، سواء أكان لذلك الشیء وجود فی خارج الذهن أم لم یكن؛ فعلى سبیل المثال یمكن للإنسان أن یكوّن صورة فی خیاله عن حصان مجنّح والحال أنّه لا وجود لمثل هذا الحصان فی خارج الذهن، غیر أنّ قوّة الخیال أو قوّة الوهم أو ما یصطلَح علیه الوهمـ تستطیع خلق مثل هذا التصوّر فی الذهن. لكنّ الله سبحانه وتعالى لیس له حتّى هذه الصورة الوهمیّة. فإذا لم یكن لدینا أی إدراك حسّی أو وهمیّ عن الله تعالى فإنّنا لا نستطیع أن نصفه بصفات معیّنة.
معظمنا (نحن البشر) عندما نسمع بأنّ الله غیر قابل للرؤیة بواسطة العین الحسّیة، وأنّه لیس له مكان وزمان، ولیس له أجزاء، و...الخ، فإنّ غایة ما یسعنا التوصّل إلیه، إذا اجتهدنا فی أن نكوّن له تصوّراً صحیحاً، هو أنّه شیء مبهم لا حدود له وهو أشبه بالنور الذی ینیر الكون بأسره، خصوصاً عندما تطرق مسامعنا الآیة الشریفة: «اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ»2. فهذا أقصى ما یمكننا تصوّره ب قوة وهمنا أو قوة مخیلتنا، بل قد لا نستطیع أن نُبعد هذه التصورات عن أذهاننا. فكلّما تبادرت هذه التصوّرات إلى أذهاننا فانّ علینا أن نقول: سبحان الله وننزّهه عز وجل عن مثل تلك الامور. فهذا التسبیح یعوّض عن هذا النقص فی إدراكنا.
إنّه من غیر الممكن أن یشاهَد شیء بالعین إلاّ إذا استقرّ فی مقابلها؛ إذن لابدّ أن یكون ذلك الشیء محدوداً لیتمّ ذلك؛ أی یتعیّن أن یكون لذلك الشیء سطح یسقط علیه الضوء لینعكس فی العین وینتقل أثره إلى الدماغ فتتمّ رؤیته. فإذا تقرّر أن یكون الله مرئیّاً بالعین لَلَزم ذلك استقرار الله بكامله أمام العین وعندها سیكون الله بأكمله محدوداً، أو أن یقع جزء من الله أمام العین وهذا بدوره یستلزم أن یكون لله أجزاء كی یقع واحد من تلك الأجزاء أمام ناظر الإنسان لیراه! لكنّ المحدودیّة والتركیب محالان بالنسبة لوجود الله تعالى. إذن فإذا فهمنا جیّداً ما معنى الرؤیة بالعین لأدركنا أنّ أمراً كهذا مستحیل بالنسبة لله عزّ وجلّ.
إذا كان المقصود من الإدراك الوهمیّ هو تلك الصورة الخیالیّة، فإنّها تستقی أساسها من الإدراكات الحسّیة أیضاً. فعلى الرغم من انعدام وجود الحصان المجنّح فی الخارج، إلاّ أنّنا قد شاهدنا حصاناً ورأینا أجنحة طیور، وقوّة الخیال تستطیع أن تصنع من تركیب صور تلك المحسوسات صورة حصان له أجنحة. لكننا إذا لم نكن قد شاهدنا أیّ حصان أو أیّ جناح طیر فیما مضى فلن نستطیع حینئذ أن نتخیّل حصاناً مجنّحاً. إذن فرصید هذه الإدراكات المجعولة والزائفة مستقىً من تلك الإدراكات الحسّیة؛ ومن هنا فإنّه إذا لم یكن للإدراكات الحسّیة سبیل إلى موطن من المواطن، لم یكن للإدراكات الوهمیّة والخیالیّة معنى یذكر فی ذلك المجال.
بعد الرؤیة والتصوّر یأتی الدور إلى الوصف اللسانیّ. فإنّنا نصف بألسنتنا ما تتصوّره أذهاننا. فإن افتقرت أذهاننا إلى تصوّر صحیح عن شیءٍ ما فلن نستطیع أن نترجمه بالبیان على النحو الصحیح. لهذا فبما أنّنا لا نستطیع، بواسطة ما نملكه من أدوات الإدراك، أن نكوّن تصوّراً صحیحاً عن الله عزّ وجلّ، فإنّنا عاجزون عن وصفه بشكل صحیح؛ فلا نستطیع أن نبیّن له كیفیّة معیّنة، أو شكلاً خاصّاً، أو غیر ذلك من الامور. فكلّ تلك المسائل تُصنَّف ضمن لائحة الإدراكات الحسّیة؛ فنحن ما دمنا غیر قادرین على مشاهدة الله بالعین، فإنّنا لا نستیطع لمسه أیضاً بحاسّة اللمس؛ ذلك أنّه فی هذه الحالة أیضاً لابدّ من وجود جسم كی تلامسه أیدینا، والتجسیم یستلزم المحدودیّة!
وهنا یُطرح سؤال هو: عندما تقول الزهراء (علیها السلام): «أنار فی الفكر معقولها» (جعل الله فی أذهاننا إدراكاً عقلیّاً واضحاً بالنسبة له) فكیف یوجد هذا الإدراك العقلیّ؟ طبقاً للتحلیل الذی قدّمناه فإنّ إدراكاتنا العقلیّة تستقی وجودها من الإدراكات الحسّیة. ففی هذه الحالة إذا لم تكن الحواسّ قادرة على إدراك الباری تعالى، فكیف یمكننا تكوین إدراك عقلیّ بخصوصه؟ هذا السؤال یسترعی الاهتمام والدقّة. ومن أجل أن أطرح جواباً له فلابدّ من أن اُشیر باختصار إلى أمر، وأرجوا من أهل البحث والتحقیق متابعة هذه المسألة.
الجواب الذی أودّ طرحه هنا هو أنّ الإدراك العقلیّ ینقسم إلى نوعین: الأوّل هو ما یُنتزع كما أسلفناـ من الإدراكات بتجرید الجزئیّات، أمّا الثانی فهو ما لا یتأتّى من تجرید الإدراكات الجزئیّة، بل یبدعه العقل نفسه بنحو من الأنحاء. فعندما تدركون تفاحة وترون لونها بأعینكم، وتشمّون رائحتها بشامّتكم، وتحسّون نعومتها وبرودتها أو حرارتها بأیدیكم، و...الخ فستكون هذه هی مجموعة الإدراكات التی تملكونها حول التفّاحة والتی تعرفون التفّاحة من خلالها. ففی بادئ الأمر نحن نجرّد كلاًّ من تلك الإدراكات الحسّیة لنحصل على مفهوم عامّ، ثمّ ندمجها مع بعضها لیتكوّن لدینا من مجموعها إدراك عقلیّ یتعلّق بالتفّاحة. وهذا النمط من الإدراك یُدعى فی اصطلاح المعقول بالإدراك الماهویّ أو المعقولات الأولی. فهذا الإدراك یرتبط بماهیّة الأشیاء؛ لكنّنا، فی الوقت ذاته، نكون قد أدركنا فی هذه العملیّة شیئاً آخر أیضاً. فعندما عرفنا التفّاحة فإنّنا نقول تارة: «التفّاحة موجودة»؛ وتارة اُخرى: «التفّاحة غیر موجودة». ففی هذه العبارة نحن نلاحظ مفهوماً آخر إلى جانب مفهوم التفّاحة، ألا وهو مفهوم «الوجود». لكن كیف حصلنا على هذا المفهوم؟ إنّنا ما لم نمزج هذین المفهومین مع بعضهما فإنّهما لن یحكیا عن علمنا بوجود تفّاحة. فإذا أردنا التصدیق ﺑ«وجود تفاحة فی الخارج» فلابدّ من حیازتنا على مفهوم آخر إلى جوار مفهوم التفّاحة ألا وهو مفهوم «الوجود» أو «الموجود».
فلو فرضنا أنّنا لا نملك إلاّ إدراكاً عن الله سبحانه، فمن الممكن أن یقول أحدهم: الله غیر موجود. فهذا الإدراك لوحده لا یشیر إلى الاعتقاد بالله تعالى. فما لم نقل: «إنّ الله موجود» فلن یظهر اعتقادنا بالله. إذن فهناك مفهوم آخر فی هذا الباب هو «الوجود». وهناك مفاهیم اُخرى هی أیضاً من سنخ مفهوم الوجود ولیست هی من قبیل مفاهیم مثل: التفّاح، والأصفر، والحلو، والكرویّ، و...الخ؛ بل هی من قبیل مفاهیم: العلّة، والمعلول، والممكن، والحادث، والقدیم، و...الخ، وهذه الطائفة من المفاهیم تدعى المعقولات الثانیة الفلسفیّة، وهی ما یصنعه العقل نفسه. بالطبع لا یعنی ذلك أنّه یصنعها بمعزل عن الارتباط بالخارج، فهناك ارتباط لكنّه لیس على نحو ضرورة وجود إدراك جزئیّ فی بادئ الأمر لیتمّ تعمیمه فیما بعد؛ إذ لا وجود لإدراك حسّی لشیء تحت اسم «الوجود» كی نقول: لقد رأینا ذلك بأعیننا أو أدركناه بحاسّة اخرى، ومن ثمّ انتزعنا منه مفهوماً عامّاً للوجود؛ بل إنّنا هنا نكتشف شیئاً معیّناً من خلال العلم الحضوریّ ثمّ نصوغ له مفهوماً یكون له باصطلاح علم المعرفة المعاصرـ طابع رمزیّ؛ أی إنّه یشیر من بعید إلى تلك الحقیقة القابلة للإدراك بالعلم الحضوریّ. فهذا المفهوم لا یشبه مفهوم «الأحمر» الذی یُظهر الحمرة الخارجیّة وفی إزائها شیء یُرى بالعین الظاهرة. هناك فی هذا الباب بحث فلسفیّ هو غایة فی التفصیل والعمق والتعقید فی كیفیّة إدراك مفهوم الوجود. وكذا الحال مع مفهوم العلّة؛ فعندما نقول على سبیل المثال: «النار هی علّة الحرارة» فإنّنا نكون قد أدركنا واستوعبنا حرارة النار بحاسّة اللمس ورأینا شعلة النار بالعین؛ لكنّ السؤال هو: كیف أدركنا علّیة النار؟ بأیّ حاسّة یمكن أن یُدرَك مفهوم العلّة كی یتكوّن لدینا إدراك عقلیّ له؟ فهذا بحث على مستوىً عالٍ من الدقّة وأنا شخصیّاً لم أعثر فی الكتب على جواب واضح ومقنع له. لكنّه یقال على سبیل الإجمال: إنّ هذا النوع من الإدراكات یبیّن الحیثیّات الوجودیّة ولیس الحیثیّات الماهویّة. هذه المفاهیم تُدعى بالمعقولات الثانیّة، أمّا المفاهیم الماهویّة فتسمّى بالمعقولات الاولی. والمعقولات الثانیّة هی نمط آخر من الإدراك المنسوب إلى العقل والذی یعكس الوجود الخارجیّ وخصوصیّته بصورة رمزیّة. وهذا الإدراك هو من النوع الذی یمكن لعقولنا أن تعمّمه بحیث تُثبت له ما لا نهایة له من المصادیق، وتستطیع أن تدرك أنّ هذه العلّیة هی لذلك الموجود الذی لا نهایة له؛ أی من الممكن أن تكون ثمّة علّة لا نهایة لوجودها. وهذه هی خاصّیة هذا النمط من الإدراك العقلیّ. لكنّ الإدراكات الماهویّة لیس لها هذه الخاصّیة. لقد أعطى الله تعالى لعقولنا من القدرة ما یمكّنها من صیاغة مفهوم یكون له طابع رمزیّ بالنسبة إلى الحقائق الموجودة فی الخارج؛ وحسب قول أهل المعقول: إنّ مفهومها اعتباریّ؛ لكنّها تحكی الحقائق العینیّة. مفاهیم كهذه قابلة للإطلاق على الموجودات الغیر المادّیة بل حتّى على وجود الله عزّ وجلّ؛ ذلك أنّها لا تفصح عن ماهیّة معیّنة بل تبیّن كیفیّة الوجود فحسب.
من الممكن استخدام المفاهیم الثانیة الفلسفیّة فیما یتّصل بالله تعالى أیضاً؛ لكن بما أنّ أذهاننا تمیل فوراً فی هذه الحالة أیضاًـ إلى قیاس تلك المفاهیم بالاُمور الحسّیة، ولكی لا نقع فی شبهة التشبیه، فإنّ علینا القول: «لكن لیس كالاُمور الاُخرى». ومن هذا المنطلق فإنّنا اُمرنا أن نقول فی وصف الله تعالى: «إنّ الله عالم؛ لكنّ علمه لیس كعلمنا، وهكذا». وقد أطلقت الروایات على هذا النهج «نهج ما بین التعطیل والتشبیه»، فقالوا: لا ینبغی القول فی وصف الله تعالى: «لیس لدینا معرفة بالله»، كما أنّه یجب أن لا یُقال أیضاً: «معرفتنا له سبحانه تشبه معرفة سائر الموجودات».
إنّ إدراك صفات الله هو إدراك یتّسم بالإبهام؛ فهو موجود لا نهایة له؛ لكن هل لنا أن نتصوّر معنى اللانهایة؟ ومع أنّه لا نهایة له، فهو غیر مركّب حتّى من جزئین. نحن نستطیع أن نثبت كلّ واحدة من هذه الصفات بالبرهان؛ لكن لا نستطیع أن نكوّن فی أذهاننا تصوّراً عنها. فوجود الله نفسه هو عین العلم، وعین القدرة، وعین الحیاة. لكنّ أذهاننا لا تستطیع إدراك هذا الامر؛ ذلك أنّ الإدراك الوهمیّ أو الخیالیّ أو الحسّی إنّما یصحّ فی الشیء الجزئیّ والمحدود؛ وإنّ تلك الإدراكات العقلیّة، المأخوذة من الإدراكات الحسّیة، تحكی عن نفس تلك المصادیق المحدودة؛ لكنّ ما یُدرَك عن طریق المعقولات الثانیّة فهو راجع إلى القدرة التی وهبها الله للعقل البشریّ فی خلق مفهوم یكون مصداقه موجوداً غیر محدود. وهذه من العنایات الخاصّة التی حباها الله لعقل الإنسان بأن أعطاه تلك القدرة على صیاغة المفاهیم والإشارة بهذا النحو إلى الوجود الحقیقیّ لله تعالى من دون القدرة علی الإشارة إلى كُنهه. ویُطلق على هذا النوع من الإدراك: «معرفة من وجه»؛ أی إنّنا ندرك جهة واحدة، وحیثیّة عقلانیّة واحدة ممّا یتعلّق بالله تعالى؛ لكنّ ذلك لا یعنی بحال أنّنا قد أدركنا كُنْه ذات الله تبارك وتعالى، أو كوّنا تصوّراً ذهنیّاً عنه.
إذن فمن الممكن أن یكون فی عبارة: «أنار فی الفكر معقولها» تنویه إلى أنّ الله تعالى قد أعطى للعقل البشریّ القدرة على إدراك مفاهیم معیّنة تكون قابلة بنحو من الأنحاءـ للإطلاق على الله؛ فنقول: الله موجود، وعالم، وقادر، وحیّ، و...الخ.
علینا أن نفهم جیّداً أنّ الله یمكن معرفته، بل ولابدّ من معرفته. فإن قیل: إنّه لابدّ من معرفة الله، لكنّ ذلك غیر ممكن! فما معنی «لابدّ» هذه؟ إذ أنّ هذا یعنی التكلیف بالمحال! فلو كانت معرفة الله محالة، فكیف نفسّر كلّ تلك الطالبات التی یطلبها المعصومون من الله فی الأدعیة: اللهمّ ألهمنا معرفتك؟ للأسف فإنّ البعض یقول: لیس بالإمكان معرفة الله؛ بل إنّ البعض قد صرّح أیضاً: بل لا ینبغی إطلاق لفظة الموجود على الله، وإنّ كلّ ما نثبته نحن فی حقّ الله إنّما یعود إلى المعنى السلبیّ؛ أی: بما أنّه موجود؛ إذن فهو غیر معدوم، و...الخ! لكن لابدّ من الردّ على هؤلاء بالقول: هل نستطیع یا ترى أن ننعت الله بعدم الجهل إذا لم یكن فی أذهاننا أیّ تصوّر عن معنى العالِم؟ فنحن لا یمكننا أن نقول: «لیس بجاهل» إلاّ إذا علمنا أنّ الجهل هو نفی العلم. والسؤال الواضح الذی یوجَّه إلى أصحاب هذا النهج هو: لماذا یذكر القرآن الكریم لنا أوصاف الله مراراً وتكراراً؟ فهذه النزعة هی انحراف فی الذوق. فحقیقة المسألة هی أنّ العقل یدرك هذه المفاهیم؛ لكنّ مصادیق تلك المفاهیم هی محدودة وناقصة بالنسبة لنا، أمّا بالنسبة لله عزّ وجلّ فلا نهایة لها؛ لكنّ علمنا على أیّة حالـ هو علم ولیس بجهل، كما أنّ علم الله أیضاً هو علم. فلقد أعطى الله عزّ وجلّ لعقولنا قابلیّة إدراك مفهوم یمكن أن یكون له مصداق لا نهایة له، ومصداق ضعیف فی آن معاً. فإن قلنا: لیس لدینا هذه القدرة، فإنّنا نكون قد كفرنا بنعمة الله، فنفس كلمة «ذات» التی ننسبها إلى الله فی قولنا: «ذات الله» هی أیضاً مفهوم، وهذا المفهوم تدركه عقولنا، لكنّه لا یعنی أنّنا قد أدركنا كُنه ذات الله. فهذه هی ما یسمّى «المعرفة من وجه» التی منح الله كافّة البشر القدرة علیها؛ بالطبع هناك إدراك آخر یفوق تلك الإدراكات، وتوجد مرتبة منه فی فطرة جمیع الناس، وهو إدراك الله حضوریّاً وشهودیّاً؛ فهذا الإدراك هو غایة فی القیمة والنفاسة، ونحن نرجو التوفیق إلى بلوغ مرتبة من مراتبه، بإذن الله تعالى.
1. بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.
2. سورة النور، الآیة 35.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 24 آب 2010م الموافق للیلة الرابعة عشرة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«...ابْتَدَعَ الأَشْیَاءَ لا مِنْ شَیْءٍ كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنْشَأَهَا بِلا احْتِذَاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَهَا، كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَهَا بِمَشِیَّتِه»1.
بعد الشهادة بوحدانیّة الله تعالى والإشارة إلى ما منّ الله به على عباده من تیسیره لهم معرفتَه، تقول السیّدة الزهراء (سلام الله علیها): غیر أنّه لا سبیل لأیّ أحد إلى معرفة حقیقة ذات الله وكنه صفاته. وبعبارة اخرى: یستحیل أن یحیط المرء علماً بذات الله وبصفاته سبحانه؛ بل ویمكن القول أیضاً: حتّى حقیقة أفعال الله فإنّنا لا ندركها على النحو الصحیح. فنحن نعلم أنّ الله یولج الروح فی الجنین ویهبه الحیاة، أو أنّه یحیی الموتى یوم القیامة، وما إلى ذلك ونحن نسوق بعض الألفاظ فی هذا الباب أیضاً، لكنّنا لا ندرك حقیقتها. أجَل، لعلّ الله عزّ وجلّ قد أرى بعض أولیائه مراتبَ من أفعاله؛ فالمرحوم العلامة الطباطبائیّ (رضوان الله تعالى علیه) یقول: إنّ إبراهیم (علیه السلام) لم یرغب فی مشاهدة عملیّة عودة المیت إلى الحیاة، بل لقد أحبّ بطلبه هذا أن یدرك حقیقة الإحیاء، وقد أظهر الله تعالى له ما هو ممكن من خلال إحیاء الطیور على ید إبراهیم نفسه (علیه السلام). ولعلّ معجزات الأنبیاء (علیهم السلام) هی فی الحقیقة من أفعال الله التی جرت على أیدیهم فاكتشفوا بها حقیقة فعل الله عزّ وجلّ؛ أمّا سائر الناس فلا یستطیعون فی الظروف العادیّة الوقوف على حقیقة فعل الله؛ فلا یمكنهم أن یفهموا كیف یخلق الله الكائنات؟ وكیف یمیتها؟ ...الخ. فنحن لا یسعنا إلاّ أن نطلق المفاهیم على تلك الأفعال الإلهیّة، فنقول على سبیل المثال: «إنّه یحیی»، ونحاول فهم تلك المفاهیم. فهذه المفاهیم هی من قبیل المعقولات الثانیة التی تتّخذ طابعاً رمزیّاً بالنسبة للحقائق الخارجیّة.
تقول مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها): «ابْتَدَعَ الأَشْیَاءَ لاَ مِنْ شَیْءٍ كَانَ قَبْلَهَا»؛ فالله عندما خلق جمیع مخلوقات العالم لم یحتج إلى مادّة أوّلیة لخلقها؛ ذلك أنّه لو كانت تلك المادّة مخلوقة، لكانت واحدة من تلك المخلوقات. فهی (علیها السلام) ترید أن تقول: إنّ الله لم یخلق مجموع هذا الكون من مادّة اخرى، لأنّ احتیاج هذا المجموع إلى مادّة اخرى یستلزم التسلسل؛ فلو جعلنا الله وفقاً لتصوّرنا الذهنیّـ فی طرف والكون فی طرف آخر، فإنّ عملیّة إیجاد هذا الكون لن تكون بحاجة إلى أیّ شیء عدا الإرادة الإلهیّة.
وأمّا ما جاء فی كتاب الله من أنّ بعض الأشیاء قد خُلقت من بعضها الآخر؛ نظیر: «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَیْءٍ حَیٍّ»2 فلا ینافی كلام الزهراء (سلام الله علیها)؛ لأنّها (علیها السلام) تقول: لم یخلق الله مجموع الأشیاء من مادّة سابقة، ولیس فی ذلك ما ینافی أن تكون بعض الأشیاء مخلوقة من بعضها الآخر؛ فالله لیس بحاجة إلى مادّة یشتغل علیها لیخلق تلك المجموعة.
أمّا مصدر هذه الشبهة فنابع ممّا فی مخیّلتنا من فهم للفظة الصنع أو حتّى الخلق، وهو أنّه لابدّ من وجود شیء كی تُجرى علیه بعض التغییرات لیتحوّل إلى شیء آخر؛ فمن أجل صناعة الخاتم مثلاً فإنّه یتعیّن وجود الذهب الذی سیصنع الصائغ منه الخاتم عن طریق إذابته وصبّه فی قالب وإجراء بعض العملیّات علیه، فنقول حینئذ: «صَنَع الخاتم». فعندما یقال: «الله صانع العالم» یتبادر إلى الذهن أنّه كانت هناك مادّة ما أجرى الله علیها بعض العملیّات والتغییرات فخلق منها العالم؛ فإن لم تكن هناك أیّ مادّة، فكیف لله أن یخلق العالم؟! لكنّ هذه أفكار خاطئة وساذجة. فبسبب ما ألفناه من أعمالنا وأفعالنا فإنّنا لا نستطیع أن ندرك بشكل صحیح أنّ شیئاً یمكن أن یوجَد من العدم المحض. ولا عجب فی ذلك؛ لأنّنا لا نستطیع أن ندرك حقیقة ذات الله أیضاً. فلو أقمنا بنیاننا على إنكار كلّ ما لا تدركه أفهامنا، لكان لزاماً علینا أن ننكر الكثیر من الاُمور فی هذا العالم المادّی نفسه.
أمّا النقطة الاُخرى فهی أنّ الإنسان لا یمكنه فعل شیء من دون اُسوة ونموذج؛ وانطلاقاً من هذا التصوّر فإنّنا نتخیّل أنّه لابدّ من وجود صورة أبدیّة وأزلیّة یجعلها الله تعالى اُسوة ومثالاً له لیخلق الأشیاء على أساسها! لكن علینا أن ندرك أنّ خلق الله لا یستند إلى احتذاء نموذج سابق. ووفقاً للفرضیّة الذهنیّة فإنّنا إذا جعلنا الله فی طرف والعالم فی طرف آخر فلن یبقى هناك شیء آخر لنقول: هذا هو النموذج المحتذى فی عملیّة الخلقة. فإن قیل: إنّ الصور الذهنیّة هی النماذج المحتذاة فی الخلقة! قلنا: هل هذه الصور هی مخلوقة أم خالقة؟ فإن كانت مخلوقة، فهی جزء من العالم، وإذا لم تكن مخلوقة فلابدّ أن تكون الإله بعینه، وإلاّ للزمت الكثرة فی ذات الله وهذا محال. إذن لیس هناك أیّ نموذج لأیّ شیء قبل خلق الله للأشیاء؛ ومن هنا تقول الزهراء (سلام الله علیها): «وَأَنْشَأَهَا بِلا احْتِذَاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَهَا، كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ»؛ فالله لم یحتذِ بأمثلة اعتمدها لیخلق الخلق على أساسها؛ فما من مؤثّر فی وجود هذا العالم غیر القدرة الإلهیّة. ولقد قلنا فی بحوثنا السالفة إنّ قدرة الله هی عین ذاته. إذن فلم یكن غیر ذات الله المقدّسة، وهی التی وُجد جمیع الكون بإرادتها.
تُستخدم فی العربیّة ألفاظ مختلفة للتعبیر عن خلق العالم كالإیجاد، والخلق، والإبداع، والإنشاء، والذرْء، وما إلى ذلك، وقد استُخدمت هنا لفظة «الذرء» فی قولها (علیها السلام): «وذرأها بمشیئته» وهی لفظة استعملها القرآن الكریم أیضاً فی قوله: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِیراً مِّنَ الجِْنِّ وَالإِنْسِ»3. لقد جعل بعض أرباب المعقول لكلّ من تلك الألفاظ مصطلحاً خاصّاً، وخصّصوا كلّ واحدة منها لفئة معیّنة من المخلوقات. وعلى الرغم من انتفاء الحاجة إلى المزید من التوضیح بوجود المصطلح، وأنّ جعل الأخیر هو أمر محبّذ من هذه الناحیة، لكن ینبغی أن نعلم أن تلكم المصطلحات لا تطابق بالكامل ما أفادته الآیات والروایات وما جرى علیه العرف من تعابیر لغویّة؛ من أجل ذلك فإنّه یتعیّن استخدام كلّ مصطلح فی سیاقه الخاصّ، وعندما یكون السیاق عامّاً فإنّه ینبغی التركیز على المعنى اللغویّ.
بخصوص المشیئة الإلهیّة وأنّ الله قد خلق العالم بمشیئته، فقد اُشبع هذا الموضوع بحثاً ولا یزال، ولن اُشیر إلى هذا البحث إلاّ بإیجاز لأترك المجال إلى أهل الفضل لمتابعته وسبر غوره وتحریر الرسائل فیه إن أحبّوا.
السؤال الأوّل الذی لابدّ من الإجابة علیه هو: ما الفرق بین المشیئة والإرادة؟
والسؤال الثانی هو: هل المشیئة والإرادة هما من الصفات الذاتیّة لله أم من صفاته الفعلیّة؟
أمّا السؤال الثالث فهو: ما هی العلاقة بین أسماء الله وذاته عزّ وجلّ؟
اعتبر بعض المتكلّمین، ولاسیّما الأشاعرة منهم، الإرادةَ من الصفات الذاتیّة لله تعالى وعدّوها من القدماء الثمانیة، فقالوا: إرادة الله قدیمة وهی غیر علمه وغیر ذاته عزّ وجلّ. أمّا البعض الآخر فقد صرّح، استناداً إلى أمثال الروایة القائلة: «خلق الله المشیئةَ بنفسها ثمّ خلق الأشیاء بالمشیئة»4، بأنّه من المعلوم أنّ المشیئة مخلوقة.
لقد جاء فی بعض الروایات أنّ الله قد خلق أسماءً لنفسه وخلق اسماً فی ذاته فهو لیس بخارج عنها. ویتعیّن الالتفات إلى أنّ تعبیر الخلق هنا لیس هو بمعناه العرفیّ أو ما یُصطلح علیه فی الفلسفة، فهو لا یعنی أنّ الاسم الذی جعله الله له هو مخلوق قال الله له: كن أیّها الاسم! فلو كان الأمر كذلك لتبادر إلى الأذهان السؤال التالی: بأیّ شیء أوجد الله هذا الاسم؟ وكوجه من الوجوه یمكننی القول: لعلّ من الأنسب أن نقول: إنّ تعبیر الخلق الذی جاء بخصوص الاسم الخاصّ بذات الله هو بمعنى «الظهور».
وهناك تصوّر خاطیء آخر بخصوص خلق العالم عند بعض قدماء المفكّرین وهو قولهم: «إنّ إیجاد العالم من قِبل الله هو ضرب من الجبر؛ أی إنّه عزّ وجلّ لم یستطع إلاّ أن یخلق. فذات الله تقتضی الخلق ولیس للإرادة والمشیئة فی هذا الباب أیّ دور یذكر»؛ بمعنى أنّ عملیّة خلق العالم من قبل ذات الله تبارك وتعال هی قضیّة جبر، والعیاذ بالله. لكنّه فی مقابل مثل هذا التصوّر الخاطئ توجد العدید من الآیات والروایات التی تؤكّد تأكیداً مبرماً على تعلّق كلّ شیء بمشیئة الله تعالى. فالله یعلّم رسوله قول «إن شاء الله» إذا أراد فعل شیء: «وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَیْءٍ إِنِّی فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ یَشَاءَ اللهُ»5، كما أنّ من آدابنا الدینیّة أن نقول «إن شاء الله» عند كلّ عمل نهمّ بالقیام به وأن نلقّن قلوبنا بأنّه ما من عمل یُنجَز بمعزل عن مشیئة الله تعالى؛ بل لقد استخدم القرآن الكریم أیضاً معنى لطیفاً فی هذا الباب عند قوله: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ یَشَاءَ اللهُ»6؛ أی: حتّى مشیئتكم فهی غیر ممكنة من دون مشیئة الله عزّ وجلّ. فالله یؤكّد بشدّة على ضرورة معرفته بهذه الكیفیّة وهی أن نعتقد بأنّه ما من أمر أو شیء فی هذا الكون یمكن أن یتحقّق بمنأى عن مشیئته وإرادته سبحانه وتعالى.
ولعلّ لفظتَی المشیئة والإرداة تعطیان معنیین متفاوتین إذا استُعملتا سویّة؛ لكنّه إذا استُخدمت كلّ واحدة فی محلّ الاُخرى لأفادتا معنى واحداً. وعلى أیّة حال فإنّ هناك تأكیداً كبیراً على كلمة شاء، والقرآن یؤكّد من جانبه على ضرورة أن لا نَعدّ الله مغلول الید. فحینما نظنّ أنّ القضاء حتمیّ وأنّ العلّة تامّة فإنّنا نغفل عن وجود جانب آخر من العلّة ألا وهو مشیئة الله تعالى؛ فهو إذا شاء، تهدّم كلّ هذا البنیان. فلا ینبغی أن نعتقد فی أیّ حال من الأحوال أنّ الله مغلول الید وأنّه لم یعد هو الآخر قادراً على التغییر! فالإله المغلول الید لن یكون إلهاً أصلاً. فهذا التعلّق بمشیئة الله موجود فی جمیع المخلوقات، سواء القدیم منها أو الحادث، المجرّد منها أو المادّی. فوجود كلّ مخلوق مرتبط ارتباطاً وثیقاً بإرادة الله، بل هو بتعبیر آخرـ تحقق لإرادة الله عزّ وجلّ.
یقول القرآن الكریم: «إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا یَقُولُ لَهُ كُنْ فَیَكُونُ»7 والجمود على هذه الألفاظ یقتضی القول: إنّه لابدّ بادئ ذی بدء من وجود أمر یكون متعلّقاً بالقضاء، وأنّه لابدّ أن یَعلَم الله أوّلاً، ثمّ یأذن، لیُعمِل بعد ذلك مشیئته ومن ثمّ إرادته فیصل الأمر إلى التقدیر ومن ثمّ إلى القضاء. فإذا وصل الأمر إلى القضاء یكون قد بلغ تمامه. فالقضاء یعنی إنهاء العمل؛ فعندما ینهی العمل، «یقول له كن فیكون» بمعنى أنّه یقول لذلك الموجود الذی شُمل بقضاء الله: كن! فیكون ویوجَد. وهذا بدوره یعنی أنّ هناك قولاً لابدّ من صدوره من الله، وهو «كن»؛ فإذا اجتمعت كلّ هذه الشروط وُجِد ذلك الأمر. إذن ینبغی توفّر هذه الاُمور إلى جانب ذات الله. وهنا یتبادر إلى الذهن السؤال التالی: هل هذه الأشیاء هی عین الله أم هی غیر الله؟ فالله لیس كلاماً. الله یقول: كن! وهذا الكلام إنّما یوجَد بقول الله تعالى. فإذا كان هذا الكلام إلهاً، ما كان حادثاً، بل لكان موجوداً منذ الأزل. وإذا كان مخلوقاً، لأمكن نقل القول إلیه. أی عندما یرید الله خلق هذا الكلام فلابدّ أن یقول له أیضاً: كن! وهلمّ جرّاً، وهذا یستلزم التسلسل. لأنّه من أجل خلقٍ واحد یتعیّن على الله أنّ یقول: كن إلى ما لا نهایة وهذا هو مقتضى التمسّك باللفظ. لكنّنا إذا تدبّرنا فی الأمر ملیّاً لاكتشفنا أنّ الله یرید أن یقول لنا عبر بیانه هذا: إنّه ناهیك عن أنّ الله موجود وأنّه یرید إیجاد هذا الأمر، فإنّه لا حاجة لوجود شیء آخر؛ فالقرآن یقول: «كِتَابٌ أَنْزَلْنَـٰهُ إِلَیْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِیزِ الحَمِیدِ»8، ومعنى الآیة هو أنّ الله یهدی بإذنه هو؛ فهل یعنی ذلك یا ترى أنّ الله یوجِد فی البدء هذا الإذن ومن ثمّ یوجِد الهدایة بواسطتها؟ أم إنّ المقصود هو أنّ الله لیس بحاجة إلى إذن من أحد؟ وهذا كما لو سُئل أحدهم: بإذن مَن قمت بهذا الفعل؟ فیقول فی جوابه: بإذنی أنا! ومعناه: إنّنی لست بحاجة إلى إذن من أحد كی أقوم بهذا الأمر؛ ولا یعنی: أنّنی بحاجة إلى إذنی! وهذا التعبیر مستعمل فی الحوارات العرفیّة والعقلائیة. فقولنا: إنّ الله یهدی بإذنه یعنی إنّه لیس بحاجة إلى إذن من أحد.
أمّا معنى نصّ الحدیث القائل: «خلق الله المشیئةَ بنفسها ثمّ خلق الأشیاء بالمشیئة» فهو أنّ إیجاد المشیئة لیس بحاجة إلى خلق. فالقول بأنّ الله یخلق العالم بإذنه أو یهدیه بإذنه لا یعنی أنّ على الله حقیقةًـ أن یوجِد إذناً ومن ثمّ ینجز عمله على ضوء هذا الإذن! بل هو یدلّ على حدّ فهمناـ على أنّ إیجاد المشیئة لا یحتاج إلى واسطة.
أمّا السؤال الآخر فهو: هل إنّ المشیئة والإرادة هما عین الذات أم خارجتان عنها؟ فإنّنا إذا أرجعنا المشیئة والإرادة إلى معنى المحبّة، فستكونان عین الذات. فالصفات الذاتیّة لا تنحصر بتلك المذكورة فی كتب علم الكلام. فإن ادّعى أحدهم أنّ حبّ الله لذاته أو لآثار ذاته هو عین ذاته، وأنّ الإرادة والمشیئة تعطیان معنى الحبّ، فستكون الإرادة والمشیئة أیضاً من صفات الذات. هذا وقد وردت الإرادة فی القرآن الكریم بمعنى الحبّ أیضاً: «تُرِیدُونَ عَرَضَ الدُّنْیَا وَاللهُ یُرِیدُ الآخِرَةَ»9.
تؤكّد مولاتنا الزهراء (علیها السلام) عبر هذه الكلمات على أمرین: الأوّل هو أنّ خلقة مجموع هذا العالم لم یكن من مادّة سابقة بل وجوده إبداعیّ؛ بمعنى أنّه خلقها على نحو الإبداع (لا بمعناه المصطلح). والثانی هو أنّ الله لیس مغلول الید على الإطلاق وهو یمارس عمله دوماً طبقاً لمشیئته. فكلّ ما یخلق، سواء أكان قصیر العمر أم لم تكن لعمره نهایة، فهو متعلّق بمشیئته سبحانه وتعالى أیضاً.
وصلّى الله على محمّد وآله.
1. بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.
2. سورة الأنبیاء، الآیة 30.
3. سورة الأعراف، الآیة 179.
4. بحار الأنوار، ج4، ص145.
5. سورة الكهف، الآیتان 23 و24.
6. سورة الإنسان، الآیة 30؛ وسورة التكویر، الآیة 29.
7. سورة البقرة، الآیة 117؛ وسورة آل عمران، الآیة 47؛ وسورة مریم، الآیة 35؛ وسورة غافر، الآیة 68.
8. سورة إبراهیم، الآیة 1.
9. سورة الأنفال، الآیة 67.
السلام علیك یا أبا محمّد یا حسن بن علیّ أیّها المجتبى
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 25 آب 2010م الموافق للیلة الخامسة عشرة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«...كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَهَا بِمَشِیَّتِه، مِنْ غَیْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى تَكْوِینِهَا، وَلاَ فَائِدَةٍ لَهُ فِی تَصْوِیرِهَا»1.
لقد تطرّقنا فی المحاضرة الماضیة إلى قضیّة أنّ فاعلیّة الله بالنسبة إلى أفعاله، التی من جملتها خلق العالم، اختیاریّة؛ فكلّ شیء فی هذا العالم إنّما یقع ضمن إطار إرادة الله ومشیئته؛ ومن هذا المنطلق نرى أنّ القرآن یصرّ إصراراً عجیباً على إناطة كلّ شیء بمشیئة الباری عزّ وجلّ، سواء فی الاُمور التكوینیّة (من قبیل سعة الرزق وضیقه، وطول العمر وقصره)، أو فی الاُمور التشریعیّة. فی الامور التشریعیة یؤکد القرآن علی انّ اصلالتشریع لابدّ أن لا یكون إلاّ بإذن الله تبارك وتعالى ومشیئته؛ فهو یقول عند تحریم البعض لشیء وتحلیلهم لشیء آخر: «قُلْ ءَاللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ»2، وکذا الامر بالنسبة للعمل بالتشریع أیضاً فإنه لابدّ أن یتعلّق بمشیئته سبحانه وتعالى، فیقول: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ»3، فحتّى إیمانكم هو غیر خارج عن دائرة مشیئته عزّ وجلّ. فعلاوة على الموت والحیاة فإنّ أفعالنا الاختیاریّة أیضاً متعلّقة بإذن الله ومشیئته. وعلى هذا الأساس فإنّ النقطة المهمّة التی تؤكّد علیها تلك الكلمات القصار من هذه الخطبة الشریفة هی أنّ خلق هذا العالم هو بمشیئة الله تعالى؛ «ذرأها بمشیّته».
تُستخدم كلمة «ذرأ» فی العادة فی باب تكاثر الموجودات؛ كالتكاثر الذی یكون عن طریق التوالد والتناسل. فالقرآن الكریم یقول: «ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ»4؛ أی: إنّ الله هو الذی یوزّع الموجودات على سطح الأرض؛ والمراد من هذا القول هو: لا تظنّن أنّ أفعال الخلائق قد خرجت من ید الله بعد خلق الأبوین ولم تعد لها علاقة بإرادة الله ومشیئته بعد ذلك.
إنّ ظواهر الكون المختلفة لا تحدث إلاّ فی سیاق سُنن وضعها الله فی هذا العالم، وقد یكون لبعضها كالمعجزات طرق خاصّة واستثنائیّة. فإذا كان تحقّق كلّ شیء فی هذا العالم منوطاً بمشیئة الله تعالى ولم یكن للجبر أو القهر سبیل إلى فعل الله عزّ وجلّ، فإنّه یكون لله الاختیار التامّ والمطلق. فأفعال سائر الموجودات المختارة كالإنسان تشوبها نسبة من عوامل الجبر؛ لهذا فإنّه لیس كلّ شیء هو تحت تصرّفنا. فاختیارنا قد لا یشكّل من بین مجموع الأسباب والعلل الدخیلة فی أفعالنا إلا واحداً فی المائة. فالله هو الذی جعل تلك العوامل، وهی لیست تحت تصرّفنا، ومتّى شاء فهو قادر على سلبها. أمّا فیما یتعلق بفعل الله فالاختیار فیه یكون بتمام معنى الكلمة؛ إذ لیس هناك أیّ شرط أو قید أو مانع یقف أمام فعل الله؛ ومن هنا فإنّ الاختیار الحقیقیّ هو لله فحسب.
عندما نحلّل نحن البشر أفعالنا نجد أنّنا لا نقوم بفعل إلاّ عندما نشعر بالدافع إلیه؛ فعلى سبیل المثال نحن باستطاعتنا أن نأكل الطعام وباستطاعتنا أن لا نأكل أیضاً؛ لكنّنا عندما نجوع فإنّ حافزاً یتولّد فینا یدفعنا إلى تناول الطعام. فالفعل الاختیاریّ یحتاج إلى عامل مؤثّر، كما أنّه لا یؤتَى به إلاّ إذا كانت نتیجته جلب منفعة، أو دفع مضرّة، أو تأمین حاجة، أو إزالة معاناة؛ وباختصار فلابدّ من وجود خیر وراءه كی یهبّ المرء للقیام به. فطالما افتقرنا إلى ذلك الخیر ووجدنا فی أنفسنا الرغبة للحصول علیه فإنّنا نسعى فی سبیله. فإنْ نحن طلبنا الطعام فلأنّ الشِبْع یمثّل خیراً بالنسبة لنا ونحن مفتقرون إلیه؛ إذن فنحن نتناول الطعام كی نحسّ بالشبع؛ وبعبارة اُخرى فإنّ غایتنا هی السعی، من خلال الفعل الاختیاریّ، للحصول على ما نحن محرومون منه. من هذا المنطلق فإنّ ما نضعه فی الحسبان كی نبلغه عبر إنجاز عملٍ ما فهو هدفنا من هذا العمل وهو ما یُصطلح علیه فی الفلسفة «العلّة الغائیّة». وهنا یذهب البعض إلى أنّ العلم بذلك الهدف هو العلّة الغائیّة، ویَعدّ البعض الآخر أنّ الاشتیاق له هو العلّة الغائیّة. ولنقل ببساطة أكثر: «إنّ الرغبة إلى ذلك الهدف هی العلّة الغائیّة».
هنا قد یتبادر إلى الذهن سؤال: هل كان لله، عندما خلق الكون باختیاره، هدف یصبوا إلیه أم لا؟ فإن كان له هدف، فما هو ذلك الهدف؟ ما الشیء الذی هو فاقد له لیحاول الحصول علیه عبر القیام بهذا الفعل؟
یقول البعض فی هذا الصدد: إنّ الله لیس له هدف أصلاً. بل إنّه من الخطأ أساساً أن ننسب لله هدفاً أو غرضاً أو علّة غائیّة. فالأغراض والأهداف هی غیر مطروحة إلاّ فیما یخصّ المخلوقات. أمّا البعض الآخر فیقول: لقد خلق الله الكون كی تعمّ الفائدة الآخرین، لا أن یستفید هو من ذلك. ولازم هذا القول أنّ الله یفتقر إلى رضا عباده أو كمالهم وهو یرید الوصول إلى ذلك. ومؤدَّى هذا الكلام أنّ الله هو محتاج!
أمّا الفلاسفة المسلمون فلهم فی هذا الباب بحث مفصّل یمكن تلخیصه بما یلی: إنّ العلّة الغائیّة والعلّة الفاعلیّة لله سبحانه وتعالى، بل لجمیع المجرّدات، هما شیء واحد. لكن ما معنى هذا القول؟ فإذا قلنا: إنّ ذاته هی علّة غائیّة لذاته، فهل یعنی هذا القول إنّه یفتقر إلى ذاته وهو یسعى للحصول علیها؟
فی نظری فإنّ العلّة الغائیّة هی ـ فی الحقیقة ـ الرغبة التی یشعر بها الموجود المختار تجاه تلك الغایة؛ وبتعبیر أكثر شمولیّة: هی محبّة الدافع لإنجاز الفعل الاختیاریّ. غیر أنّ المحبّة تختلف باختلاف الموجودات؛ فبالنسبة لله تعالى فإنّه من الممكن افتراض لون خاصّ من المحبّة تكون ـ حالها حال سائر صفاته الذاتیّة ـ عین ذاته. فالله یحبّ الحُسن والخیر، وإنّ الخیر المطلق هو عین ذاته؛ إذن فإنّ الشیء الذی یعكس مرتبة من خیره یكون مطلوباً من قِبله بالتَّبَع.
فتارة نحن نحبّ الشیء لنفسه، وتارة اُخرى نحبّه لانتسابه لشیء آخر. فعندما تحبّ شخصاً فإنّك تحبّ تصویره أیضاً، مع العلم أنّ التصویر لا یعدو كونه قصاصة ورق، لكنّك تحبّه لأنّه یُظهر حبیبك. فطالما أحببت ذلك الشخص فإنّك تحبّ تصویره، بل وكلّ ما ینتسب إلیه تبعاً لذلك. فنحن نُقبّل أبواب وجدران حرم السیّدة المعصومة (سلام الله علیها) لأنّ تلك الأبواب والجدران منتسبة إلى المحبوب وهی ـ من هذه الناحیة ـ مطلوبة لنا أیضاً. وهذه هی خاصّیة المحبّة.
وما یكون ـ أصالةً ـ ذا قیمة بالنسبة لله تعالى انّما هی ذاته هو. وما من شیء على الإطلاق أكثر محبوبیّة من الله تعالى. فالله تبارك وتعالى یملك جمیع الكمالات على نحو أشدّ وأكمل، وكلّ مقدار من الكمال یملكه الآخرون فهو مستقىً منه عزّ وجلّ؛ إذن فإنّ أكثر الأشیاء محبوبیّة هی ذات الله عزّ وجلّ. ولمّا كان الله یحبّ ذاته أصالةً، فهو یحبّ آثارها أیضاً بالتبع. فكلّ شیء یكون أشدّ إظهاراً لله فهو أكثر مطلوبیّة له تعالى. فلماذا یكرّر الباری عزّ وجلّ فی كتابه الحكیم قول: «وَاللهُ یُحِبُّ الصَّابِرینَ»5، «یُحِبُّ التَّوَّابِینَ»6، «یُحِبُّ الْمُطَّهِّرِینَ»7، ...الخ؟ لأنّ المتمتّعین بهذه الصفات یتمكّنون أكثر من غیرهم من أن یكونوا مرآةً ومظهراً لله عزّ وجلّ. فالإنسان الأكمل، ألا وهو النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) هو أكثر من یحبّهم الله من عباده؛ ذلك أنّ وجوده وصفاته تفوق غیرها من الأشیاء فی إظهارها لله جلّ شأنه. فهو حبیب الله؛ لأنّ خیراته وكمالاته تفوق ما لغیره منها، وهو یستطیع أكثر من غیره إظهار صفات الله فی الخلق. وكذا هو الحال بالنسبة إلى الأئمّة الأطهار وأنبیاء الله وأولیائه كلّ بحسب مرتبته وكماله.
القضیّة الاُخرى التی تستحقّ العنایة هنا هی أنّنا أحیاناً نحبّ شیئاً لا یمكن الحصول علیه إلاّ بالقیام بالكثیر من الخطوات؛ فمثلاً إذا أحبّ شابّ الزواج من ابنة عائلة ثریّة وذات حسب ونسب فسوف یرى أنّه یتعیّن علیه من أجل ذلك كسب المال، والحصول على عمل مشرّف، ونیل شهادة جامعیّة مرموقة، ولهذا تراه یصمّم على تأمین كلّ ذلك. فهو أصالةً لا یرید غیر الزواج من تلك الفتاة، وما باقی الخطوات إلاّ مقدّمات لذلك. لذا تراه یبذل قصارى جهده لإنجاز كلّ ذلك لأنّها تشكّل مقدّمة للوصول إلى المعشوق. وكذا بالنسبة للراغب فی زیارة بیت الله الحرام فهو یسعى فی سبیل كسب الرزق الحلال لتأمین متطلّبات سفره ویبذل ما بوسعه لتوفیر مقدّماته. فكلّ تلك المقدّمات مطلوبة، وكلّها محبوبة لكنّ مطلوبیّتها ومحبوبیّتها هی من أجل أمر هو أحبّ إلى القلب! فلولا هذا الأمر لما تجشّم المرء عناء القیام بكلّ تلك الأعباء. إذن فإنّ من الممكن حبّ شیئین أو بضعة أشیاء طولیّاً؛ بحیث یكون حبّ أحدها بالأصالة، أمّا حبّ الباقی فیتّسم بالفرعیّة. فإنّ ما یُطلَب أصالةً فی الحجّ هو زیارة بیت الله الحرام؛ لكنّ زیارة قبر رسول الله (صلّى الله علیه وآله) هی مرادة أیضاً. ولعدم وجود التزاحم بین هذین الأمرین یكون كلاهما مطلوبا؛ لكنّ أحدهما یكون فرعاً للآخر. فهما هدفان؛ لكنّهما لا یتمتّعان بنفس النسبة من المطلوبیّة، لأنّ لأحدهما صبغة ثانویّة.
فأوّل مطلوب لله سبحانه وتعالى هی ذاته التی لا تشكو من أیّ نقص أو عیب. كما أنّه لا یعانی من كونه وحیداً على الإطلاق؛ فهو وحید منذ الأزل وإلى الأبد. لقد ورد فی الزیارة الجامعة لأئمّة المؤمنین، وهی زیارة نفیسة للغایة وتستحقّ القراءة بتمعّن كبیر، ما نصّه: «یَا ذَا الْقُدْرَةِ الَّتِی صَدَرَ عَنْهَا الْعَالَمُ... ابْتَدَعْتَهُ... وَلا لِوَحْشَةٍ دَخَلَتْ عَلَیْكَ إِذْ لا غَیْرُكَ، وَلا حَاجَةٍ بَدَتْ لَكَ فِی تَكْوِینِهِ، وَلا لاسْتِعَانَةٍ مِنْكَ عَلَى مَا تَخْلُقُ بَعْدَهُ، بَلْ أَنْشَأْتَهُ لِیَكُونَ دَلِیلاً عَلَیْكَ بِأَنَّكَ بَائِنٌ مِنَ الصُّنْع»8.
فأفضل ما یرضی الله جلّ وعلا هو الالتفات إلیه والعلم به، فهذه هی أعلى مراتب الابتهاج. فبعد الابتهاج بذاته فهو یبتهج بحیازته لأكمل المخلوقات التی یتصدّرها النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) ثمّ السیدة الزهراء (سلام الله علیها) و امیر المؤمنین (علیه السلام)، و من ثمّ سائر الأئمة (صلوات الله علیهم أجمعین) لیأتی من بعدهم الأقرب فالأقرب من عباده.
لقد خلق الله العالم لأنّه یحبّ أن تكون هناك مرایا تعكس ذاته. فإذا صحّ الحدیث القدسیّ القائل: «یا أحمد! لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علیّ لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما»9 فإنّ تبریره القابل للفهم هو أنّه عندما یرید الله تعالى خلق أمثال ونظائر لرسول الله (صلّى الله علیه وآله) فلابدّ من تحقّق سلسلة مترابطة لذلك. فصاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشریف) لم یكن لیأتی إلى الدنیا إلاّ بتوفّر أب كالإمام الحسن العسكریّ (علیه السلام) وأمّ كالسیّدة نرجس؛ وكذا الأمر یتسلسل حتی یصل إلى السیّدة الزهراء (سلام الله علیها). فلو لم تكن السیّدة الزهراء (علیها السلام) لم یكن للأئمّة (علیهم السلام) أن یوجدوا أصلاً، ولولا الأئمّة (علیهم السلام) لم یكن نور النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) ورسالته لیستمرّا ویبقیا. فبقاء الإسلام لم یكن إلاّ ببركة الأئمّة الأطهار (علیهم السلام) وإنّ الخیط الناظم لتلك الذوات المقدّسة والموصل لها ببعضها هو السیّدة فاطمة الزهراء (سلام الله علیها)؛ ومن هنا یقول الباری تعالى: «لولا فاطمة لما خلقتكما».
إنّنا نعتقد على نحو القطع والیقین أنّ مقام النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) هو أعلى من الجمیع. فلا یمكن القول: إنّ وجود النبیّ (صلّى الله علیه وآله) هو فرع لوجود فاطمة الزهراء (علیها السلام)، لكنّه یمكن القول بأنّ هذه الثلّة هی ما یطلبه الله تعالى وهی مترابطة متماسكة مع بعضها البعض وأنّ السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) هی التی یمكنها أن تشكّل الخیط الذی تنتظم علیه أجزاء تلك المجموعة مع بعضها.
ورجوعاً إلى ما طرحنا من مباحث، فإنْ نحن سُئلنا: لأیّ شیء خلق الله العالم؟ نقول: إنّ الله لیس بفاقد لأمر كی یصیب النفع بخلقه لهذا العالم؛ لكن المخلوق قد یكون هو المحتاج. فالله جلّت آلاؤه إذ یخلق التفاحة، فإنّه یخلق عطر التفّاح فی إثرها أیضاً؛ لكنّه لا یمكن لعطر التفاح أن یتحقّق إلاّ إذا كانت هناك تفّاحة. ففی الحقیقة إنّ هذا العطر هو المحتاج إلى وجود جوهر یقوم به؛ فلیست القضیّة أنّ الله هو المحتاج. فهذا الشرط هو شرط تحقّق المخلوق، ولیس شرط إفاضته. هو شرط قابلیّة القابل، لا شرط فاعلیّة الفاعل. فلیس ثمّة لله من حاجة؛ لكنّه خلق الكون لأنّه ـ أصالةً ـ یحبّ ذاته؛ ومن هذا الحبّ یتولّد بالتبع حبّ أكمل المخلوقات، ولمّا كان النبیّ الخاتم (صلّى الله علیه وآله) هو أكمل الموجودات وأقربها إلى الله تعالى، فإنّه یمكننا القول: إنّه عزّ وجلّ خلق العالم لأجل النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله)؛ بالطبع إنّه یحبّ الأشیاء بمقدار ما تتمتّع به من الخیر. فهؤلاء مطلوبون بمقدار ما یدلّون علیه من حكمة الله، وعظمته، وعلمه، وما إلى ذلك. فالله یحبّ جمیع مخلوقاته؛ لكن لِسعة الفجوة التی تفصلنا نحن عن النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) والأئمّة الأطهار (علیهم السلام) وهی ممّا یستعصی على القیاس، فإنّه لا یكون للعالم قیمة تُذكر فی مقابل تلك الذوات المقدّسة. هذا الكلام لیس مجرّد مجاملة؛ بل هو ترجمة لأقوالهم (علیهم السلام).
عندما یُتّخذ القرار لخلق موجود مختار فلابدّ أن تُهیّأ الأرضیّة بحیث تتوفّر أمامه إمكانیّة اختیار الصراط المستقیم من ناحیة وانتخاب السبیل المعوجّة من ناحیة اُخرى. فعلاوة على فتح طریق الوصول إلى المقامات العالیة لابدّ من وجود طریق التسافل إلى الحضیض أیضاً كی یكون المناخ مناسباً للاختیار، فلا یستحقّ دخول الجنّة إلاّ من توفّرت له إمكانیّة دخول النار أیضاً. فلو اقتصر الأمر على سبیل واحدة لَما كان ثمّة معنىً للاختیار أساساً؛ وبناءً على ذلك یتعیّن وجود طریق تؤدّی إلى جهنّم أیضاً. وفی هذه الحالة یكون وجود هذا الطریق مطلوباً بالعَرَض. فلو لم یكن فی المخطّط خلْقُ موجود مختار فی هذا العالم لم یكن الله لیخلق النار أصلاً. لذا فإنّه عزّ وجلّ خلق جهنّم بالعَرَض من أجل أولیائه هؤلاء؛ ذلك أنّ بلوغهم مدارج الكمال لن یكون ممكناً إلاّ فی ظلّ عباداتهم الاختیاریّة، ومن أجل تحقّق تلك العبادات الاختیاریّة لابدّ من وجود مفترق طریقین؛ إحداهما طریق الله والاُخرى طریق غیر الله. ولمّا كانت طریق الله منتهیة إلى الجنّة، تحتّم أن تنتهی طریق غیر الله إلى نقطة معیّنة هی جهنّم. إذن فجهنّم هی مطلوبة بالعرض.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.
2. سورة یونس، الآیة 59.
3. سورة یونس، الآیة 100.
4. سورة الأنعام، الآیة 136.
5. سورة آل عمران، الآیة 146.
6. سورة البقرة، الآیة 222.
7. سورة التوبة، الآیة 108.
8. بحار الأنوار، ج99، ص167. استُخدم هنا مصطلح الصدور فی التعبیر عن خلق العالم؛ لذا فلیكن فی علم اولئك الذین یُشكلون على الفلاسفة بسبب قولهم إنّ العالم صادر عن الله، أنّ أمثال هذه التعابیر جاءت فی روایاتنا أیضاً.
9. مستدرك سفینة البحار، ج3، ص334.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 26 آب 2010م الموافق للیلة السادسة عشرة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«...كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَهَا بِمَشِیَّتِه، مِنْ غَیْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى تَكْوِینِهَا، وَلاَ فَائِدَةٍ لَهُ فِی تَصْوِیرِهَا، إِلاَّ تَثْبِیتاً لِحِكْمَتِهِ، وَتَنْبِیهاً عَلَى طَاعَتِهِ، وَإِظْهَاراً لِقُدْرَتِهِ، وَتَعَبُّداً لِبَرِیَّتِهِ، وَإِعْزَازاً لِدَعْوَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ الثَّوَابَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَضَعَ الْعِقَابَ عَلَى مَعْصِیَتِهِ، ذِیَادَةً لِعِبَادِهِ عَنْ نَقِمَتِهِ، وَحِیَاشَةً لَهُمْ إِلَى جَنَّتِه»1.
فی توضیحنا لفقرات خطبة السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) وصلنا إلى حیث أكّدت (علیها السلام) بعبارة قصیرة أنّ الله سبحانه وتعالى یملك منتهى الاختیار، وأنّ كلّ شیء هو منقاد لمشیئته. وقد انتقلت إلى هذا المعنى بمناسبة التساؤل عن الهدف من وراء خلق هذا العالم. ولقد قدّمنا فی المحاضرة الماضیة توضیحاً موجزاً لذلك، وقلنا: إذا كان المراد من الهدف هو ما یُطرح بخصوص أفعالنا الاختیاریّة نحن البشر، فهو إنّما یصدق على الفاعل الذی یكون محتاجاً إلى هدف، والذی طالما لم یصل إلى ذلك الهدف ولم ینل ذلك الكمال فهو یقوم بذلك الفعل كی یوصله إلیه، وهذا المعنى فی حیازة الهدف لا یصحّ بالنسبة لله عزّ وجلّ. فالله لیس بحاجة إلى شیء؛ ومن هذا المنطلق تؤكّد السیّدة الزهراء (سلام الله علیها): «ذَرَأَهَا بِمَشِیَّتِه، مِنْ غَیْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى تَكْوِینِهَا، وَلاَ فَائِدَةٍ لَهُ فِی تَصْوِیرِهَا».
لكنّه من الممكن أن نتصوّر معنى تحلیلیّاً للهدف یكون صادقاً على الله تعالى أیضاً ویندرج فی عداد صفاته الذاتیّة، وهو أن نقول: إنّ الهدف هو ما یحبّ الفاعل المختار تحقّقَه. فی الحقیقة إنّ الدافع من وراء إنجاز الفعل بالنسبة للفاعل المختار هو الحبّ. والمحبّة تتعلّق بشیء بالذات تارةً، وبالتبع طوراً، وبالعرض حیناً، وقد عرضنا فی المحاضرة الماضیة توضیحاً لهذه المصطلحات. وجمیع متعلّقات المحبّة تُعدّ أهدافاً بنحو من الأنحاء. فعلى سبیل المثال عندما یوجَّه السؤال إلى أهل العبادة والذكر: لماذا أنتم تعبدون؟ فستقول طائفة منهم: من أجل نیل ثواب الآخرة. فالهدف الأساسیّ لهؤلاء هو النعم الفردوسیّة، ولمّا كانت العبادة هی السبیل الموصل إلى تلك النعم فهم یحبّونها هی الاُخرى بالتبع. أمّا البعض الآخر فإنّهم یأنسون ویلتذّون بذكر الله: «بذكرك عاش قلبی»2؛ فحیاة قلبی هی فی الأساس مستمرّة بذكرك. فالعبادة بالنسبة لأفراد كهؤلاء هی نفسها مطلوبة بالذات. إذ أنّ لله عباداً لا یستمتعون بنعیم الجنّة إلاّ من جهة كونه من الله، وهم یحبّون هذا النعیم من أجل انتسابه إلى الله وكونه مظهراً من مظاهر لطفه عزّ وجلّ. فهذا هو الإمام زین العابدین (علیه السلام) یقول فی احدی مناجاة خمس عشرة: «یا نعیمی وجنّتی ویا دنیای وآخرتی»3، فإنّ لله مثل هؤلاء العبید أیضاً. فیالیت حالاً كهذا ینتابنا ولو لبضع لحظات من أعمارنا.
على أیّة حال فكلّ تلك الأمور هی أهداف وإنّ الأهداف بالتبع تقع فی طول الأهداف بالذات. فإذا لاحظنا أنّ القرآن الكریم یعرض لعدّة أهداف بالنسبة لخلق الإنسان فهو فی الحقیقة یشیر إلى الأهداف الطولیّة. وانطلاقاً من ذلك یمكننا القول: إنّ لله تعالى هدفاً بالذات، وهدفاً بالتبع، وهدفاً بالعرض فی آن معاً، وقد مرّ توضیح ذلك فی المحاضرة الفائتة. فعندما نُمعِن النظر فی الآیات القرآنیّة وروایات أهل البیت (علیهم السلام)، التی من جملتها هذه الخطبة الشریفة، نلاحظ أنّ الله عزّ وجلّ قد حدّد لأفعاله أهدافاً. وساُعرّج على مقاطع هذه الخطبة الشریفة التی تلوتها فی مستهلّ الحدیث كی نتعرّف على الأهداف التی ذكرتها مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) لخلقة العالم.
تقول فاطمة الزهراء (علیها السلام): إنّ الله إذ خلق العالم لم تكن لدیه حاجة إلى إیجاده؛ لا فی أصل الإیجاد، ولا فی تکمیله وتصویره. ثمّ تستثنی من ذلك اُموراً فتعرضها بعنوان الهدف من الخلقة فتقول: «إلاّ تثبیتاً» وهو استثناء منقطع؛ وذلك لأنّه لیس فی هذه الاُمور أیضاً ما یعود على الله تعالى بالفائدة. فالاستثناء المنقطع یحكی غایة التأكید؛ بمعنى أنّه: حتّى لو ذكرنا هدفاً لذلك فإنّه لیس من سنخ الأهداف التی تكون ناشئةً عن حاجة أو لازمةً لجلب فائدة؛ بل هی اُمور غایتها إسباغ الفوائد على الخلق. واستطراداً فی كلامها تشیر سیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) إلى بضعة موارد هی: «تثبیتاً لحكمته»؛ فإن كان ثمّة من یشكّ فی حكمة الله عزّ وجلّ فسوف یفهم، لدى رؤیته لخلقه، وإدراكه لأسرار خلق كلّ واحد من موجوداته، مدى ظهور آثار حكمته عزّ وجلّ فی ذلك.
«وتنبیهاً على طاعته»؛ فحینما یشاهد المرء هذا الكون بكلّ ما اُودع فیه من الحكمة فسیلتفت إلى أنّ وراء هذا الوجود حساباً واستجواباً. فالقرآن الكریم یقول: «الَّذِینَ یَذْكُرُونَ اللهَ قِیَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَیَتَفَكَّرُونَ فِی خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»4. فعندما یطیلون التأمّل فی أسرار هذه الخلیقة یقولون: «رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ». أی حتّى وجودی أنا فهو لیس بعبث. فإذا لم یخلُ هذا العالم من المحاسبة فقد تجرّنی بعض أعمالی إلى استحقاق نار جهنّم. فتكون نتیجة هذه التأمّلات والتفكیر أن ینبروا إلى القول: «فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»؛ فإطالة التفكیر والتأمّل فی حِكَم الله جلّت آلاؤه تقود المرء إلى الالتفات إلى طاعة الله وتبعث فی نفسه الدافع إلى ذلك.
«وإظهاراً لقدرته» وهی تشبه عبارة «تثبیتاً لحكمته». وقد جاءت فی بعض النسخ (التی یبدو رجحانها كما یظهر) عبارة «دَلاَلَةً عَلَى رُبُوبِیَّتِه» أیضاً؛ أی: إنّه خلق هذا الكون كی یُظهر ربوبیّته لعباده، حتّى یفهموا أنّ اختیار التصرّف فی العالم هو بیده. ومن باب التقابل فعندما یكون هو «الربّ» نكون نحن «العبید». ومن هذا المنطلق فإنّه یتعیّن علینا أداء فروض عبودیّتنا.
«وتعبّداً لبریّته». كلمة التعبّد تستعمل تارة بصورتها اللازمة واُخرى بالمتعدّیة. فعندما تأتی بصورتها اللازمة تعطی معنى قیام المرء بالعبادة وممارسته إیّاها؛ أمّا عندما تكون متعدّیة فتؤدّی معنى دعوة الآخرین إلى العبودیّة. ویظهر أنّ المراد هنا هو الصورة المتعدّیة منها؛ لیكون المعنّى أنّ الله قد خلق هذا العالم بكلّ تلك الأسرار والحِكَم كی یدعو عباده إلى عبودیّته.
ثمّ تقول فی الختام: «وإعزازاً لدعوته»؛ أی عندما یرسل الله أنبیاءه ویدعو الناس إلى صراط العبودیّة المستقیم فإنّ التفكّر فی حكمة الخلقة وعظمتها یأتی بمثابة المساعد والمعزّز لدعوة الأنبیاء. وقد اُشیر فی القرآن الكریم إلى أنّ الله عندما یرسل أنبیاءه فإنّه یقیّض الأسباب التكوینیّة بشكل تكون معها دعوة الأنبیاء أبلغ وأكثر تأثیراً5.
«ثُمَّ جَعَلَ الثَّوَابَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَضَعَ الْعِقَابَ عَلَى مَعْصِیَتِهِ»؛ ثمّ لم یكتف الله تعالى بوقوف الناس على تكالیفهم عبر مشاهدة عظمة هذا العالم وما ینطوی علیه من الحكمة وخضوعهم أمام خالقه، بل جعل لعباده بلطفه عاملاً معزّزاً آخر بقوله: إذا أدّیتم فروض العبودیّة فإنّ لكم عند الله الثواب الاُخرویّ، وإن عصیتم فإنّ العقاب بانتظاركم. وهذا أیضاً جرّاء رحمته تعالى؛ أی إنّ الله عزّ وجلّ من فرط رغبته بسلوك عباده سبیل الكمال وكسب الأهلیّة لنیل كلّ تلك الألوان التی لا نهایة لها من الرحمة فإنّه قد وضع تلك العوامل كی تكون حافزاً أكبر لهم لانتهاج سبیل الطاعة والنزوح عن منطقة المعصیة.
«ذِیَادَةً لِعِبَادِهِ عَنْ نَقِمَتِهِ، وَحِیَاشَةً لَهُمْ إِلَى جَنَّتِه». یُقال لغةً لمن یدفع العدوّ عن الأرض «ذائد». والسیّدة الزهراء (علیها السلام) تقول: إنّ الله تعالى قد جعل الثواب ووضع العقاب وبیّنهما للناس من أجل وقایتهم من الابتلاء بنقماته وسَوْقهم إلى فسیح جنّاته. فكلمة «حیاشة» تقع من حیث المعنى فی النقطة المقابلة لكلمة «ذیادة» وهی تعنی السوق.
لكن ثمّة سؤال یُطرح هنا وهو: فی الوقت الذی لم یكن الله قد خلق الإنسان بعد کیف یمکن ان یُقال إنّه خلق العالم إظهاراً لحكمته؟ فلمن یرید إظهارها یا ترى؟ ومن الذی یرید الباری عزّ وجلّ، عبر خلقه للعالم، أن یسوقه نحو الثواب ویجنّبه العقاب؟ والجواب هو أنّ المقصود هنا هو بعض مصادیق الأشیاء ولیس العالم من حیث المجموع. بمعنى: أنّ مولاتنا (علیها السلام) قد قصدت كلّ العالم من دون الإنسان المختار، ثمّ قالت: لقد خلق العالم وأعمَلَ فیه كلّ هذه الأنماط من حكمته، وأظهر فیه ألوان قدرته، وما إلى ذلك كی تجدوا فی أنفسكم حافزاً یدفعكم إلى طاعته وتكونوا مؤهّلین فی ظلّ العبادة إلى نیل المزید من رحمته. فمالم تمارسوا أصناف العبادة تلك فانّکم لن توفَّقوا أساساً إلى إدراك رحمته. فالملائكة لا یستطیعون إدراك الثواب الاخرویّ لأنّه خاصّ بالبشر، والملائكة سیكونون خدّام الناس فی الجنّة. فثواب الجنّة لا یتّم الحصول علیه إلاّ جرّاء العمل الاختیاریّ للإنسان. ومن هنا فإنّ الله عندما یرید دعوة الإنسان إلى عبادته فهو یقول: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِیَعْبُدُونِ»6؛ فلیس معنى ذلك: اعبدونی كی أبتهج بعبادتكم! لأنّ مؤدّى هذا الكلام هو أنّ الله محتاج إلى عبادتنا! والحال أنّ الله غنیّ ومن المستحیل ان یکومن محتاجا. فلقد جاء فی القرآن الكریم فی غیر موضع أنّه لو كفر جمیع الإنس والجنّ من الأوّلین والآخرین بالله فإنّه لن یلحق بالله أیّ ضرر ولو بقدر رأس الدبّوس ولن ینقص منه شیء. ولهذا فإنّ كلّ تلك التشكیلات من إرسال الأنبیاء والأولیاء وكلّ ما یُلحق بذلك هی من أجل أن یتمكّن الناس عبر طاعتهم لله من أن یحوزوا الأهلیّة لنیل المزید من الثواب، والكمال، والرحمة فیتقرّبوا من الله أكثر فأكثر. فالله یحبّ إفاضة الرحمة؛ لكنّ السبیل الموصل إلى تلك الرحمة هی العبادة. فإنّ من باب المسامحة أن نقول: ینبغی الإتیان بالعمل فی سبیل مرضاة الله، وأنّ علینا فعل ما یرضیه عزّ وجلّ؛ إذ إنّ المقصود من هذا القول هو أن نحوز اللیاقة والأهلیّة لأن یتعلّق بنا رضا الله سبحانه؛ فالتحوّل إنّما ینتابنا نحن لا هو.
لقد أوضحت السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) فی هذه الجمل القلیلة الفلسفة العظیمة من وراء الخلقة، وقد تحدّثنا عنها فی بضع محاضرات بشكل مقتضب. لكنّه لابدّ من الالتفات إلى ملاحظة مهمّة وهی أنّ الله عندما یروم القیام بفعل شیء فإنّه یضرب أحیاناً مائة عصفور بحجر واحد فیحقّق مائة هدف فی آن واحد؛ لكنّه أحیاناً لا یُفصح لنا إلاّ عن واحد من تلك الأهداف الصغیرة. ومن أجل توضیح هذه النقطة لابدّ لی من عرض مقدّمة.
نحن عادة عندما نضع فی حسابنا القیام بعمل ونستهدف منه هدفاً معیّناً فقد تكون لهذا العمل جملة من المستلزمات والآثار لا نكون ملتفتین إلیها أصلاً. فعندما نتناول الطعام مثلاً یكون هدفنا الشبع، وإذا كنّا أكثر عقلاً بقلیل فسیكون هدفنا من وراء تناولنا للطعام هو تنشیط القوى لممارسة العبادة. فی حین أنّنا عندما نأكل الطعام ونمضغه فی أفواهنا فإنّ عضلات فكوكنا تقوى بفعل الحركة أیضاً. فلو أغلق المرء فاه ولم یحرّكه أدنى حركة لمدّة من الزمن فسوف تضمر العضلات المحیطة بالفكّ وتتصلّب. إذن فتناول الطعام یقوّی فكوكنا أیضاً. لكنّ أكثر الناس لا یعلمون بهذا الأثر، وإن علموا به فإنّهم غیر واعین له. فإن استطعنا حقّاً أن نحیط علماً بكلّ تلك الآثار النافعة، ووضعناها جمیعاً فی حساباتنا ساعة تناول الطعام فهل فی ذلك من إشكال؟ إنّه ممّا لا شكّ فیه أنّه إذا علم المرء بكلّ أثر حسن یترتّب على فعله، ووضعه فی حسابه، وابتغاه لدى القیام به فسیكون فعله أكثر كمالاً حتماً.
فقد یضرب الله تعالى بفعله أحیاناً مائة عصفور بحجر واحد غیر أنّه قد لا یصرّح لنا إلاّ بواحد من أهدافه الصغیرة تلك؛ ذلك أنّ هذا هو مقتضى الكلام مع أمثالنا؛ فإمّا أن تکون الأهداف الاُخرى لا یمكن بیانها أصلاً، أو أنّنا لن نفهمها أو لن نعیرها أهمّیة فی حال بیانها. فلأیّ شیء ـ مثلاً ـ خُلقت كلّ تلك السماوات والمجرّات بكلّ ما تحتویه من العظمة والروعة؟ فقد تفصل المجرّةَ عن الاُخرى آلاف السنین الضوئیّة، وقد تسبح فی بعض تلك لمجرّات الملایین، بل الملیارات من النجوم. إنّه سؤال جدّی یتبادر إلى الذهن: لأیّ شیء خُلقت هذه المنظومة العظیمة؟ فلو أرادوا أن یبیّنوا لنا جمیع الأهداف الكامنة وراء خلقة هذه المجرّات فهل سیسعنا تصوّرها؟ ففی الزمان الذی كان فیه البشر یتصوّرون أنّ النجوم مسامیر زینة رُصّعت بها السماء لم یكونوا أبداً لیفهموا هذه الأهداف. بل لو صرّحوا بذلك الآن لنا فلن نقوى على إدراكها أیضاً. یقول الله تبارك وتعالى فی كتابه المجید: «وَهُوَ الَّذِی جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِی ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ»7؛ أی لتهتدوا بها إذا ضللتم الطریق فی ظلمات القفار والبحار. فلو شاء الله أن یبیّن لنا كلّ ما خُبِّئ فی تلك النجوم من الحِكَم لما كانت عقولنا لتستوعبها. فهو جلّ شأنه لیس بجاهل كی لا یحیط علماً بآثارها؛ غیر أنّ الأهداف المُفصَح عنها فی الآیات والروایات هی بمقتضى الحال الذی نزلت فیه الآیة والمخاطَب الذی یسمعها، وإلاّ فلو اراد عزّ وجلّ بیان جمیع الحقائق لتطلّب ذلك الإطناب والإطالة أوّلاً، ولاستعصى على المخاطَب إدراكها ثانیاً، وإن لم یدركها لم یسعه الإفادة والانتفاع منها. ومن هذا المنطلق فلا ینبغی أن نتصوّر أنّ الأهداف المبیَّنة هی على نحو الحصر وأنّ الله قد فعل هذا الفعل من أجل الهدف الفلانیّ فحسب. فالأهداف المعلَنة لیست هی إلاّ جانباً من كلّ الأهداف وهی تبیَّن لنا كی تكون سبباً فی تربیتنا ومدعاةً لانتفاعنا من تلك النعم. فلمّا كان القرآن الكریم «هُدىً لِلنَّاسِ»8 وأنّ علینا أن نتّخذه الهادی لنا فینبغی أن یقول ما نفهمه كی یكون ذا أثر فینا. فإنّ العلّة من بیان هدف صغیر واحد من بین أهداف متعدّدة هو أحیاناً من أجل أن یتحقّق الغرض من بیان هذه الآیة لاُولئك المخاطَبین.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.
2. بحار الأنوار، ج95، ص89، دعاء أبی حمزة الثمالیّ.
3. بحار الأنوار، ج91، ص147، مناجاة خمس عشرة.
4. سورة آل عمران، الآیة 191.
5. سورة الأعراف، الآیة 94؛ وسورة الأنعام، الآیة 42.
6. سورة الذاریات، الآیة 56.
7. سورة الأنعام، الآیة 97.
8. سورة البقرة، الآیة 185.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 27 آب 2010م الموافق للیلة السابعة عشرة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«...وَأَشْهَدُ أَنَّ أَبِی مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اخْتَارَهُ قَبْلَ أَنْ أَرْسَلَهُ، وَسَمَّاهُ قَبْلَ أَنِ اجْتَبَاهُ، وَاصْطَفَاهُ قَبْلَ أَنِ ابْتَعَثَهُ، إِذِ الْخَلاَئِقُ بِالْغَیْبِ مَكْنُونَةٌ، وَ بِسَتْرِ الأَهَاوِیلِ مَصُونَةٌ، وَبِنِهَایَةِ الْعَدَمِ مَقْرُونَة»1.
بعد الشهادة بالتوحید وبصفات الله عزّ وجلّ، تأتی مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) فی هذه الخطبة الشریفة على ذكر الشهادة بالرسالة. نحن لدینا اطّلاع على معانی الألفاظ «أرسل»، و«ابتعث» أو «بعث»؛ فالإرسال یعطی معنى البعث، والبعث یعنی الإیقاظ والنشر، غیر أنّ القرآن الكریم یستعمل أوصافاً اُخرى للأنبیاء مضافاً إلى تلك، مثل «الاختیار» و«الاصطفاء»، و«الاجتباء» التی تتقدّم فی الرتبة على الإرسال والبعث. فالقرآن الكریم یقول فی موسى (علیه السلام): «وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا یُوحَىٰ»2؛ أی اخترتك للنبوّة. وقد استُخدمت لفظة الاصطفاء فی حقّ الكثیر من الأنبیاء أیضاً؛ نظیر: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحاً وَءَالَ إِبْرَاهِیمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِینَ»3. كما وقد استُعمل الفعل «اجتبى» أیضاً فی المجال ذاته؛ إذ یقول عزّ من قائل فی سورة آل عمران: «وَمَا كَانَ اللهُ لِیُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَیْبِ وَلَٰكِنَّ اللهَ یجَْتَبِی مِنْ رُّسُلِهِ مَنْ یَشَاءُ»4. والألفاظ المذكورة، وإن أعطت جمیعها فی الفارسیّة معنى الاختیار والانتخاب، غیر أنّ المعانی المأخوذة فی كلّ منها فی اللغة العربیّة مختلفة. «فالاصطفاء» مأخوذ من «الصفو»، وهو تصفیة الشیء وجعله زلالاً. أمّا «الاجتباء» فمأخوذ من الاستخلاص وسحب عصارة الشیء. وأخیراً «الاختیار» الذی هو من مادّة «الخیر»؛ وهو انتقاء الشیء بعنوان کونه خیراً.
هذه الأوصاف قد استُعملت فی حقّ النبیّ الكریم (صلّى الله علیه وآله) أیضاً، بید أنّ هناك اُموراً قد لوحظت فی هذه الخطبة نرى من المهمّ الالتفات إلیها. فالسیّدة الزهراء (علیها السلام) تؤكّد هنا أنّ الاختیار والاصطفاء قد سبقا الإرسال والبعث. وقد یتبادر إلى الذهن من هذا الكلام للوهلة الاُولى أنّ النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) قد بُعث بالنبوّة فی الأربعین من عمره الشریف، لكنّ الله قد اختاره واصطفاه قبل ذلك الحین ببضع سنوات. إلاّ أنّ الجمل التالیة توحی بغیر ذلك. دعونی استعرض فی بادئ الأمر العبارات التی تلوتها فی مطلع المحاضرة ومن ثمّ أتطرّق إلى شرحها.
تقول مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها): «أَشْهَدُ أَنَّ أَبِی مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اخْتَارَهُ قَبْلَ أَنْ أَرْسَلَهُ، وَسَمَّاهُ قَبْلَ أَنِ اجْتَبَاهُ»؛ إذ تُطلق كلمة التسمیة على عملیّة تعیین شخص لإنجاز مهمّة ما. «وَاصْطَفَاهُ قَبْلَ أَنِ ابْتَعَثَهُ»؛ والابتعاث هو البعث الذی یكون بحساب ودقّة. كما أنّها (علیها السلام) تبیّن فی هذه العبارة أنّ الاصطفاء كان قبل البعثة؛ لكن كم من الوقت قبله؟ هی تقول: عندما كانت المخلوقات فی هذا العالم غیباً مستوراً وشیئا مكنوناً وحینما كانت تسترهم حُجب عجیبة وسُتر مهولة فكانوا محفوظین ومصونین بها. أمّا العبارة الأخیرة «بِنِهَایَةِ الْعَدَمِ مَقْرُونَة» فقد فسّرها من قام بشرح هذه الخطبة كما یلی: لقد كانت الموجودات معدومة منذ الأزل وهذا العدم قد امتدّ إلى زمان نشوء هذا الوجود، وقد كانوا یوجَدون فی آخر مرحلة من مراحل العدم. غیر أنّ هناك احتمالاً آخر یبدو لی أقوى من سابقه وهو أنّ المراد من النهایة هو التأكید علی کونها معدومیّة؛ بمعنى أنّه لم یكن ثمّة أیّ شیء حینذاك. على أیّة حال فهی (سلام الله علیها) تقول: «لقد اختار الله النبیّ واصطفاه وسمّاه للرسالة فی الوقت الذی كانت فیه الخلائق فی ذلك الوضع، ومن ثمّ بعثه للرسالة فی هذا العالم فی زمان معیّن».
لقد طرقت مسامعنا بعض الروایات التی تحمل مفاهیم من قبیل أنّ أنوار النبیّ الأعظم والأئمّة الأطهار (صلوات الله علیهم أجمعین) قد خُلقت قبل خلق هذا العالم. فقد جاء فی الخبر عن جابر بن عبد الله أنّه قال: قلت لرسول الله (صلّى الله علیه وآله): ما هو أوّل شیءٍ خلقه الله تعالى ؟ فقال: «نور نبیّك یا جابر»5. ولعلّ بالإمكان القول إنّ مضموناً كهذا، وهو أنّ مخلوقاً باسم النور قد وُجد قبل خلق هذا العالم المحسوس وهو متّحد مع الوجودات المقدّسة للرسول الأعظم (صلّى الله علیه وآله) والأئمّة الأطهار (علیهم السلام)، قد تجاوز حدّ التواتر، بل وقد ورد حتّى فی كتب الحدیث عند أهل السنّة. غیر أنّ إدراك حقیقة هذا المبحث هو غایة فی الصعوبة؛ فنحن نقبل به تعبّداً من دون أن نفهم كنهَه. یعتقد البعض من السطحیّین فی الفكر أنّ هذا النور هو أشبه بنور المصباح أو نور الشمس؛ غیر أنّ التأمّل فی الروایة یُظهر أنّ هذا النور یختلف تماماً عن تلك الأنوار. فالنور المنسوب إلى الوجودات المقدّسة للنبیّ الكریم والأئمّة الطاهرین (صلوات الله علیهم) هو شیء خُلقت الجنّة من أشعّته، كما وخُلقت الملائكة، واللوح، والقلم، وما إلى ذلك منه أیضاً. ویزداد الوضع صعوبة بالنسبة لنا عندما نسمع أنّ هذا النور كان له من العلم ما یفوق العلوم التی فی حوزتنا الآن؛ بل إنّ علوم جمیع ما بعده من المخلوقات هو مستقىً منه، بل وإنّ الملائكة قد تعلّموا تسبیح الله منه كذلك!
بالطبع فی ذلك الحین لم یكن ثمّة مكان، أو فضاء، أو زمان؛ لأنّ هذا النور كان أوّل المخلوقات. فأیّ نور هو هذا؟ إنّ عقولنا غیر قادرة على إدراك ذلك لكنّ الذی یطمئن بال المرء هو أنّ الله قد عرّف نفسه بالنور أیضاً بقوله: «اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ»6. فنحن نعلم، على نحو القطع والیقین، أنّ الله لیس هو نوراً حسّیاً. فذلك النور الذی خلقه من نوره لابدّ أن یكون من سنخه، ولیس من سنخ هذه الأنوار المادّیة والحسّیة. إنّنا ننزّه نور الله من النقائص فنقول: إنّ الله هو نور، لكنّه لیس له حجم أو زمان أو مكان، ولیس هو بحاجة إلى جوهر یقوم به، ولا هو ممّا یقبل التجزئة أیضاً؛ ونحن لا نفهم كنهه، مثلما أنّنا لا نفهم نور رسول الله أیضاً، وكلّ ما نعرفه بشكل إجمالیّ من خلال الأحادیث هو أنّه یوجد لله مخلوق كهذا. فكلّ ما یمكننا نحن قوله هو أنّ هذا النور هو على جانب من الطهارة بحیث لو أردنا العثور فی عالمنا المادّی هذا على شیء یكون شبیهاً له، فلابدّ أن نقول: هو مثل النور، وكما أنّ إضاءة أیّ جسم فی هذا العالم محتاجة إلى النور فإنّ موجودات هذا العالم هی بحاجة إلى ذلك الموجود بنفس تلك الدرجة؛ فلابدّ أن یشرق ذلك النور علیها كی تشرق وتُنوَّر؛ إذ: «وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا»7. جاء فی الخبر أنّ ذلك النور الذی ینسبه الله سبحانه وتعالى إلیه هو نور أهل البیت (علیهم السلام). فهذه اُمور قد ذكرت فی الأحادیث ونحن نشكر الله آلاف المرّات على أن جعل أسماعنا تألف مثل هذه المعارف. فهذه المعانی هی على مستوى من العظمة والسموّ حتّى أنّ مئات من الفلاسفة والحكماء یکونون قاصرین عن إدراك حقیقتها؛ اللهمّ إلاّ اُولئك الذین أراهم الله ذلك النور حضوریّاً، من أمثال علیّ (علیه السلام) الذی اُزیحت الحجب والستر من أمام ناظره حتّى قال: «لو كُشف الغطاء ما ازددتُ یقیناً»8، وهذا یعنی انه ینفی الغطاء عن نفسه.
تقول سیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها): إنّ نبیّ الإسلام (صلّى الله علیه وآله) قد اختیر قبل إیجاد هذا العالم. لكن ما معنى «قبل» هنا؟ هل المقصود من ذلك یا ترى هو أنّه إذا كان عمر هذا العالم مثلاًـ ملیار سنة فهو قد اختیر على سبیل المثالـ سنة واحدة قبل هذا الملیار من السنین؟ جاء فی بعض الروایات بخصوص بعض موجودات ذلك العالم ما مضمونه أنّها قد خُلقت قبل ألفی عام. فهل هذا النور هو على هذه الشاكلة أیضاً؟ هل المراد من السنة هنا هو تلك الفترة المقدرة بـ365 یوماً، أم إنّ لها معیاراً آخر؟ ما نعرضه هنا بعنوان الاحتمال نابع من أنّ فهمنا عادة من هذه «القبلیة» و«البعدیة» هو «القبلیة» و«البعدیة» الزمانیّتین؛ لكنّ السؤال هو: هل كان ثمّة زمان قبل أن تُخلق جمیع هذه الخلائق؟ فلیس من المستبعَد أنّ هذه «القبلیة» لا علاقة لها بالزمان؛ لاسیّما وأنّ ارتباط ذلك النور لا یقتصر على الموجودات التی هی علی الحدود بین العدم و الوجود؛ بل إنّه یشرق على جمیع الموجودات إلى یوم القیامة. فعندما تكون جمیعها مخلوقة من ذلك النور فهی لیست منفصلة عنه بل إنّ هذا النور حاضر فیها جمیعاً.
إنّ الإحاطة بجمیع الموجودات والحوادث التی هی الآن فی طور الحدوث فی هذا العالم تحتاج إلى مقدرة علمیّة فائقة وواسعة جدّاً؛ لكنّه إذا افترضنا أنّ هناك موجوداً معیّناً یشاهد ما مضى من الحوادث بالضبط كما یشهد ما یجری حالیّاً منها، فإنّه من الشاقّ علینا بمكان إدراك ذلك. إنّ اعتقادنا بالله تبارك وتعالى لا یقتصر على أنّه یعلم الحوادث الماضیة والحالیّة فحسب، بل إنّ كلاًّ من الماضی والحاضر والمستقبل حاضر بالنسبة له عزّ وجلّ بنفس القوّة والدرجة؛ فلیست القضیّة أنّه إذا أتى الیومُ فإنّ الله لن یرى الأمس والغد. فعِلم الله لیس علماً حصولیّاً وصورة ذهنیّة حتّى نقول: هو یعلم ما الذی كان بالأمس؛ بل إنّ كلّ ماضی العالم وحاضره ومستقبله هو حاضر عند الله؛ إذ «لیس عند ربّك صباح ولا مساء».
ومن أجل تقریب المسألة إلى الذهن ضرب عظماؤنا مثلاً لطیفاً فقالوا: إذا كنتَ جالساً خلف شباك یمرّ من أمامه قطیع أباعر بحیث لا یمكنك أن ترى أكثر من بعیر واحد فی كلّ مرّة ومن أجل رؤیة البعیر التالی فلابدّ أن یمرّ الذی قبله، فإنّك فی حالة كهذه لا تستطیع رؤیة البعیر الثانی إلاّ عندما یكون الأوّل قد مرّ ولم یكن الثالث قد أتى بعدُ؛ ولهذا فإنّك لا ترى الأوّل والثالث. لكنّك إنْ صعدت إلى سطح الدار حتّى أشرفت على الطریق فإنّك سترى جمیع الأباعر دفعة واحدة وستكون جمیعها حاضرة بالنسبة إلیك على الرغم من أنّ الأباعر نفسها تصدق «القبلیة» و «البعدیة» بالنسبة الیها أثناء مسیرها فی الطریق. وهذا شبیه بالعالم الذی نعیش فیه فنحن نقیسه بمقیاس النافذة التی نراه من خلالها، حیث وفقاً لهذا المقیاس فإنّه عندما یكون الثانی لا یكون الأوّل موجوداً ولا یكون الثالث قد أتى بعد؛ لكنّه هناك عالم آخر مشرف على هذا العالم. فإذا تصوّرنا أنّ لعالم المحسوسات حدوداً وسقفاً، وأنّنا إذا تخطّینا تلك الحدود صرنا فی عالم آخر محیط بهذا العالم، عندها لن یكون للعالم المحیط ما للعالم المحاط به من التقدّم والتأخّر.
من المؤكّد أنّكم سمعتم أنّ هناك من أولیاء الله مَن یعلم بما مضى وما سیأتی من الوقائع. لیس هذا فحسب، بل إنّهم یشهدونها أیضاً. وتفسیر ذلك هو أنّ روح الإنسان هی موجود یسمو على هذا القالب المادّی ولقد منحه الله من القدرة ما یتیح له تخطّی عالَم المادّة، حتّى یصل إلى مرحلة یشبه فیها ذلك الشخص المشرف على الطریق من على سطح الدار، فیكون الماضی والحاضر والمستقبل بالنسبة له سواسیة. یُنقل عن نفر من كبرائنا أنّ بعض أولیاء الله قد وُفّقوا بعد ریاضات مضنیة وعبادات مجهدة من مشاهدة یوم عاشوراء. فأیّ قدرة هی تلك؟ ومن أین لهم ذلك؟ التعبیر القریب إلى أذهاننا هو قولنا: إنّ ذلك فی اللوح المحفوظ، أو لوح المحو والإثبات. هذا اللوح لیس هو كالألواح العادیّة؛ بل هو عالَم تجتمع فیه كلّ تلك الاُمور فی وقت واحد. فالذی یستطیع أن یتّصل بذلك المكان فسیتمكّن من مشاهدة جمیع الأحداث الموجودة هناك.
فإن كانت هذه الفرضیّة التی قرّبها عظماؤنا إلى الأذهان صحیحة، وهی لا تبدو مستبعدة أیضاً، فإنّه عندما تأتی مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) لتقول: لقد اختار الله سبحانه وتعالى أبی قبل أن یبعثه للرسالة عندما لم تكن مخلوقات هذا العالم قد وُجدت بعد، فباستطاعتنا القول: إنّ ذلك النور الذی خلقه الله قبل خلق الخلائق كان فی عالم آخر غیر عالم الدنیا هذا الذی نعیش فیه. فذلك العالم محیط بكلّ ما فی هذا العالم. فالزمن هو جزء من عالم المادّة، وإنّ ذاك العالم هو فوق الزمن، وهو محیط به.
هناك ملاحظة ظریفة فی هذا الباب یمكن استظهارها من بعض الآیات القرآنیّة، وهی أنّ كلّ ما فی العالم الجسمانیّ إنّما هو بفضل العالم الفوقانیّ ولیس هو إلاّ شعاعاً منه. یقول الله عزّ وجلّ فی محكم كتابه العزیز: «وَإِنْ مِّنْ شَیْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ»9؛ فكلمة: «عندنا» تشیر إلى ذاك العالم الذی هو عند الله ولیس عندنا. فهو جلّ وعلا یقول: إنّ كلّ ما تشاهدونه فی هذا العالم فإنّ خزائنه عند الله وهو تعالى لا یُنزل من تلك الخزائن إلى هذا العالم إلاّ ضمن حدود معیّنة.
لعلّ هناك المئات من الروایات الواردة فی كتب كلا الفریقین تبحث فی أصل هذا العالم، وأنا أنقل لكم، على سبیل المثال، روایة عن أمیر المؤمنین (سلام الله علیه) یقول فیها: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَحَدٌ وَاحِدٌ تَفَرَّدَ فِی وَحْدَانِیَّتِهِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ فَصَارَتْ نُوراً، ثُمَّ خَلَقَ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ مُحَمَّداً (صلى الله علیه وآله) وَخَلَقَنِی وَذُرِّیَّتِی، ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ فَصَارَتْ رُوحاً فَأَسْكَنَهُ اللهُ فِی ذَلِكَ النُّورِ وَأَسْكَنَهُ فِی أَبْدَانِنَا، فَنَحْنُ رُوحُ اللهِ وَكَلِمَاتُه»10؛ ومن الطبیعیّ أنّ الكلمة الاُولى التی قالها الله هنا هی عبارة: «قال له كن». كما ویُعلم من صیرورة الكلمة الثانیة (التی قالها الله) روحاً أنّ ذلك النور هو غیر الروح المتعلّقة بالأبدان فی هذا العالم؛ أی إنّ مقامه أسمى حتّى من مقام الروح الإنسانیّة. فلقد أسكن الله الروح فی ذلك النور حتّى خُلقت أبداننا وعندها حلّت الروح فی أبداننا. وبناءً على ذلك، فإنّ قولها (علیها السلام): اختار الله النبیّ قبل أن تصل الخلائق فی عالم الغیب إلى مرحلة الشهود، یعنی فی عالم هو فوق هذه العوالم وهو ما یطلق علیه «عالم النور».
نسأل الله العلیّ القدیر أن یشرق على قلوبنا بصیصاً من هذا النور ببركة أنوار المعصومین الأربعة عشر (علیهم السلام).
1. بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.
2. سورة طه، الآیة 13.
3. سورة آل عمران، الآیة 33.
4. سورة آل عمران، الآیة 179.
5. بحار الأنورا، ج15، ص24.
6. سورة النور، الآیة 35.
7. سورة الزمر، الآیة 69.
8. غرر الحكم، ص120.
9. سورة الحجر، الآیة 21.
10. بحار الأنوار، ج26، ص291.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 28 آب 2010م الموافق للیلة الثامنة عشرة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«... وَاصْطَفَاهُ قَبْلَ أَنِ ابْتَعَثَهُ، إِذِ الْخَلاَئِقُ بِالْغَیْبِ مَكْنُونَةٌ، وَبِسَتْرِ الأَهَاوِیلِ مَصُونَةٌ، وَبِنِهَایَةِ الْعَدَمِ مَقْرُونَةٌ، عِلْماً مِنَ اللهِ تَعَالَى بِمَآیِلِ الأُمُورِ، وَإِحَاطَةً بِحَوَادِثِ الدُّهُورِ، وَمَعْرِفَةً بِمَوَاقِعِ الْمَقْدُور».
ذكرنا فی المحاضرة الماضیة أنّه یُستفاد من هذا القسم من الخطبة الشریفة أنّ الله عزّ وجلّ، وقبل أن یخلق هذا العالم المحسوس، كان قد خلق موجوداً وعالَماً آخر اُطلق علیه فی أحادیثنا اسم «النور». فقد جاء فی الزیارة الجامعة: «خَلَقَكُمُ اللهُ أَنْوَاراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِینَ حَتَّى مَنَّ عَلَیْنَا بِكُم»1؛ أی حتّى منّ علینا بإرساله إیّاكم إلى هذا العالم. وفی روایة عن الباقر (علیه السلام) یقول فیها: «كُنَّا نُوراً بَیْنَ یَدَیِ اللهِ قَبْلَ خَلْقِ خَلْقِهِ، فَلَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ سَبَّحْنَا فَسَبَّحُوا، وَهَلَّلْنَا فَهَلَّلُوا، وَكَبَّرْنَا فَكَبَّرُوا»2؛ فعندما سبّحنا تعلّمت الخلائق التسبیح فسبّحت، وعندما هلّلنا بقول (لا إله إلاّ الله) تعلّمت التهلیل فهلّلت، وحینما كبّرنا تعلّمت التكبیر فكبّرت. وهناك احتمالان فی معنى هذه الروایة؛ الأوّل هو أنّ الآخرین قد تعلّموا التسبیح والتهلیل والتكبیر ونطقوا بها فی نفس عالم الأنوار ذاك، أمّا الاحتمال الثانی فیذهب إلى إنّ كلّ مَن یسبّح ویهلّل إلى یوم القیامة فهو ببركة تسبیحهم وتهلیلهم (علیهم السلام)، وبعبارة أدقّ هو رجع صدى تسبیحهم وتهلیلهم. وهذا المعنى هو الحقیقة التی تُستقَى من العدید من الروایات. فقد ورد فی زیارة آل یاسین ما نصّه: «فما شیء منّا إلاّ وأنتم له السبب وإلیه السبیل»3؛ أی لا یصدر منّا من حُسن إلاّ وأنتم سببه وسبیل إنجازه. هذه المعارف إنّما تمثّل حقائق اُشیر إلیها فی بعض الروایات، وما منشأ الاستبعاد الذی یتبادر إلى أذهاننا فی هذا المجال إلاّ عدم معرفتنا بالإمام (علیه السلام). فنحن نتصوّر أنّهم أناس أمثالنا یفوقوننا ببعض العلم؛ لكنّ الذی نقرأه فی الزیارة الجامعة یكشف عن أنّ: خلقتكم تختلف كلّ الاختلاف عن خلقتنا. فخلاصة القول إنّه بخلقتهم بصورة تلك الأنوار كانت قد تمّت الخلقة، وما من شیء خلقه الله تعالى بعدهم إلاّ طفیلیّاً وقد مرّ بیان ذلك لدى تناول بحث الهدف من الخلقة. وما على الراغبین إلاّ مطالعة المزید من الأحادیث الواردة فی مجال عالم النور وأنوار أهل البیت (علیهم السلام) ویمكنكم فی هذا الصدد الرجوع إلى المجلّدین الخامس والعشرین والسادس والعشرین من الطبعة الجدیدة من بحار الأنوار.
قد یُطرح هنا سؤال وهو: ما التناسب بین تلك الأنوار التی خلقها الله عز وجل فی ذلك العالم والتی كانت حاضرة بین یدی الله ومحدقة بعرشهـ وبین هذا الوجود المادّی كی توجَد فیه؟ نحن نعلم أنّ أشرف المخلوقات، وهو أعزّ تلك الأنوار وأشرفها وأوّل مخلوق لله تعالى، هو نور النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله)؛ لكنّ میلاد النبیّ (صلّى الله علیه وآله) قد تلا آدم (علیه السلام) بآلاف السنین وقد كانت ولادته فی منطقة صحراویّة یابسة لاهبة. لقد كان طفلاً یتیماً نما شیئاً فشیئاً حتّى انقضى من عمره أربعون عاماً فأصبح رجلاً متكاملاً وبُعث فی ذلك الحین بالرسالة. فلم یكن ما یقوله ویبیّنه بعد ذلك الحین إلاّ وحیاً مُنزَلاً علیه من الله تبارك وتعالى. فالقرآن الكریم یقول فیه: «مَا كُنتَ تَدْرِی مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِیمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهدِی بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا»4؛ أی إنّنا جعلنا الكتاب والإیمان نوراً كان هو السبب فی هدایتك. أو قوله عزّ من قائل فی الآیة السابعة من سورة الضحى: «وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَىٰ». فكلّ ذلك كان قد وقع فی هذا العالم فی ظرف زمانیّ معیّن. فأیّ صلة لهذا الموجود المقدّس، الذی نما فی هذا العالم بشكل تدریجیّ وبُعث بالرسالة، أیّ صلة له بذلك النور الذی خُلق قبل هذا العالم وكان مصدراً لجمیع الخیرات فیه، بل هو الهدف الأساسیّ من خلق كافّة المخلوقات؟
قد نتخیّل عبر نظرة سطحیّة كما أنّ التراب هو المادّة الأوّلیة التی خُلقت منها أبداننا فإنّه عندما یقول الباری عزّ وجلّ: إنّنا خلقنا نور النبیّ قبل خلق العالم، فإنّ مبدأ خلقة النبیّ كان نوراً؛ وهو نور قد خلقه الله تعالى كی یخلق منه النبیّ فیما بعد، وكما أنّ التراب لا یدرك شیئاً من نفسه ولیس له قیمة تُذكر، فإنّ ذلك النور، وإن كان أفضل من التراب، غیر أنّه لم یكن یمتلك كمالاً ولا قدرة ولا شعوراً. فلو أردنا المقارنة بین الموجودات المادّیة من حیث القیمة فسیكون التراب أخسّها منزلة، وستفوقه النار بدرجة واحدة، أمّا النور فسیكون أعلى مرتبة منهما بقلیل. فعندما نقول: إنّ الإنسان خُلق من التراب فلا یعنی ذلك أنّ التراب یتمتّع بكلّ ما للإنسان من كمالات، بل إنّ على الإنسان أن یحصل على هذه الكمالات بالتدریج. وكذا عندما نقول: إنّ إبلیس قد خُلق من النار، فلا یعنی ذلك أنّ النار تمتلك كلّ الكمالات؛ لكنّ الموجود المخلوق من النار یملك من الخصائص ما لا تتوفّر لدى ذاك المخلوق من التراب؛ ومنها أنّه یتحرّك بسرعة. وعندما یُقال: إنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) قد خُلق من النور، فقد یتصوّر البعض أنّ هذا النور، وإن كان أسمى من التراب والنار وهو أنور وألطف من أنوار هذا العالم، فهو عدیم الكمال. فقد خُلق هذا النور كی یتمّ فیما بعدـ خلق النبیّ والأئمّة الأطهار (صلوات الله علیهم أجمعین) منه. وكما أنّ التراب والنار هما مادّتان أولیّتان لا یمنحان الخلق كمالاً وكلّ ما هنالك انّ النار هی أشرف قلیلاً من التراب، فإنّ هذا النور أیضاً لا یعدو كونه مجرّد مادّة أوّلیة وإن كان أشرف من التراب والنار. وبما أنّ الله أراد الافتخار بالنبیّ والأئمّة (علیهم السلام) فإنّه قد جعل منشأ وجودهم أسمى وأفضل من التراب!
لكنّنا عندما نمعن النظر فی الروایات التی تتحدّث عن أوصاف ذلك النور فسندرك أنّ له حقیقة تفوق هذا النور العادیّ البسیط. فالإمام الباقر (علیه السلام) یقول: «فلمّا خلق الخلق سبّحنا فسبّحوا»؛ لكنّه (علیه السلام) یقول فی روایة اُخرى موضّحاً العلّة من التسبیح: «أوّل ما خلق الله عزّ وجلّ خلْقُ أرواحنا... ثمّ خلَق الملائكة فلمّا شاهدوا أرواحنا نوراً واحداً استعظموا أمرنا فسبّحنا لتعلم الملائكة أنّا خلْقٌ مخلوقون... فسبّحت الملائكة بتسبیحنا»5. إذ یُفهم من لحن الكلام أنّ الملائكة عندما شاهدت عظمة نورنا ظنّتنا إلهاً، فسبّحنا لتفهم الملائكة أنّنا عبید؛ وعندها تعلّمت الملائكة التسبیح فسبّحت هی أیضاً. فهناك بون شاسع بین هذه المعانی والتصوّر الذی یذهب إلى أنّ ذلك النور حاله حال التراب والنارـ هو مجرّد منشأ لوجود جسم النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) فی هذا العالم. فالنور المقصود هو النور الذی بعد خلقه تنتهی إلیه جمیع البركات؛ وحتّى الملائكة المقرّبون فإنّهم قد تعلّموا تسبیح الله تعالى من تلك الذوات المقدّسة (صلوات الله علیهم أجمعین)، بل إذا حظی الاحتمال الذی أطرحه بالقبولـ فإنّ تسبیح الملائكة وتسبیح سائر المخلوقات لیس هو سوى رجع صدىً لتسبیحهم (علیهم السلام).
قد یشعر المرء أحیاناً بنسیم یهبّ على روحه. وقد جاء فی الخبر أیضاً: «إنّ لربّكم فی أیّام دهركم نفحات ألا فتعرّضوا لها»6. فالإنسان یشعر أحیاناً بالشوق إلى ممارسة العبادة، وإلى الصلاة، وإلى ذكر الله، لكنّه ینفر من العبادة أحیاناً اُخرى. وتفسیر ذلك وفقاً لثقافتنا الإسلامیّة، والشیعیّة منها على وجه الخصوص، هو أنّ تلك النفحات هی نفحات رحمة تهبّ بالرحمة بواسطة الملائكة، أمّا ذلك النفور والاشمئزاز من الخیر فهو الوساوس الشیطانیّة التی تنفثها أنفاس الشیطان الرذیلة المقیتة. فإن أمعنّا النظر فی الجملة التی ذكرناها: «فما شیء منّا إلاّ وأنتم له السبب» یصبح من المعلوم أنّ جمیع الخیرات والحسنات هی ببركة توجّهات صاحب الأمر (عجّل الله تعالى فرَجه الشریف)، فهو الذی یُشرق تلك الأنوار الطاهرة على العالم؛ لكنّه لیس للجمیع ظرفیّة تلقّیها. فمتّى ما طهرت قلوبنا استلمنا ذلك النور، وعندها سنجد فی أنفسنا الدافع لفعل الخیر. فنحن نقرأ فی الزیارة الجامعة: «وجعل صلواتنا علیكم وما خصّنا به من ولایتكم طیباً لخَلْقنا وطهارةً لأنفسنا وتزكیةً لنا وكفّارةً لذنوبنا»7؛ فإنّ مجرّد قولنا: «اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد»، وإنّ مجرّد شعورنا بالمحبّة فی قلوبنا تجاه أهل البیت (علیهم السلام) سیبعث على تطهیر خلقنا بواسطة تلك الولایة. فالذی لا یمتلك هذه الولایة لن یحوز على طهارة الوجود تلك. فكأنّ أنفسنا ملوّثة ومدنّسة وأنّ هذا اللوث والدنس یزول بالارتباط بأهل البیت (علیهم السلام) «طهارة لأنفسنا وتزكیة لنا» وهو ما یؤدّی إلى نموّنا وانطلاقنا ویشكّل فی النهایة كفّارة لمعاصینا «كفّارة لذنوبنا». فعندما یتطهّر الملیارات من البشر إلى یوم القیامة من الدنس بسبب محبّة أهل البیت (علیهم السلام) وتكون تلك المحبّة كفّارة لذنوبهم فأیّ عظمة یمتلكها هؤلاء العظماء كی یكون للصلوات علیهم كلّ ذلك الأثر: «فبلغ الله بكم أشرف محلّ المكْرَمین وأعلى منازل المقرّبین وأرفع درجات المرسلین حیث لا یلحقه لاحق ولا یفوقه فائق ولا یسبقه سابق ولا یطمع فی إدراكه طامع»8؛ فأنتم أعلى مرتبة من جمیع الأنبیاء والمرسلین، وأقرب من كلّ الملائكة المقرّبین. فلقد بلغتم منزلة لا یتمكّن أحد من تخطّیها، بل ولا یطمع مخلوق غیرکم حتّى بالوصول إلیها.
لقد كان سؤالنا: ما التناسب یا ترى بین ذلك النور الذی هو بتلك العظمة مع الوجود الجسمانیّ؟ أوّلاً: علینا أن نعلم أنّ الطاعة، والعبادة، والنموّ، والكمال، وما یقابلها من المعصیة، والسقوط، والعذاب، و... الخ كلّها من متعلّقات هذا العالم الذی نعیش فیه، وأنّ كلّ التحوّلات، والتغییرات، وأنماط التكامل والحركة هی من شؤون هذا العالم. فإن قلنا: إنّ النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) كان قد تكامل بسبب عبادته حتّى اكتسب الأهلیّة لحمل الرسالة فی سنّ الأربعین، فكلّ ذلك مرتبط بهذا العالم. ففی عالم النور وفقاً للفرضیّة التی افترضتُها فی محاضرة الأمسـ لیس هناك من تقدّم أو تأخّر زمانیّ كی یقال: «لقد خُلق فی البدایة ذلك النور، ولكن كیف صار نطفة وجنیناً فیما بعد؟»، فذلك النور هو وجود محیط بكلّ تلك الوجودات، وكل ما یقع فی هذا العالم فهو شعاع منه. فمظهر هذا النور فی هذا العالم الذی هو عالم التحوّلات والحركاتـ یحمل هذه الخواصّ. فكلّ المراتب الحاصلة بسبب العبادة وغیرها هی من مختصّات هذا الوجود المادّی ومن شؤون هذا العالم. فذلك الوجود الذی فی عالم النور لیس علیه ما علینا من التكالیف. فهو مرآة لنور الله عزّ وجلّ. فإن قلنا: إنّ لذلك الوجود نوراً وعلماً وإحاطةً فلا یعنی هذا أنّ عین هذا الشیء ینطبق على بدنه المادّی هذا ووجوده الجسمانیّ الخاصّ بهذا العالم. فوجوده المادّی هذا یشبه الوجودات المادّیة الاُخرى لهذا العالم من حیث الظاهر؛ فهو یبدأ مثل الباقینـ بصورة نطفة ثمّ یتشكّل منها جنین، فیولد وینمو، ومن ثمّ یرحل عن هذه الدنیا. لكنّ كلّ هذه المراحل هی أشعّة وتجلّیات من ذلك الوجود النورانیّ؛ ومن هذا المنطلق نحن نجد أنفسنا ملزمین بالصلاة على النبیّ الكریم (صلّى الله علیه وآله). فهذه الصلوات هی دعاء؛ فنحن ندعو الله أن یُهبط رحمته الخاصّة على نبیّه. لكنّ السؤال: هل یمتلك النبیّ مثل هذه الرحمة أم لا؟ فإن كان المراد من السؤال هو وجوده الجسمانیّ (صلّى الله علیه وآله) فإنّ الرحمة التی نطلبها له لم تصله بعدُ وستبلغه جرّاء دعائنا. بید أنّ لهذا المبحث ركناً خفیّاً أیضاً وهو أنّ نفس دعائنا هذا هو توفیق یمنّ الله به علینا ببركة تلك الأنوار المقدّسة. لكنّه بحسب عوامل هذا العالم فإنّ دعاءنا فی حقّ النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) مستجاب؛ فإنّ كون الصلوات هی أفضل الذكر هو من منطلق أنّها مستجابة بشكل حتمیّ من أیّ شخص صدرت، وإنّ من بركاتها أنّها من موجبات تزكیة أنفسنا والتكفیر عن ذنوبنا.
إنّ من المستحبّ أن نقول بعد التشهّد فی الصلاة: «وتقبّل شفاعته وارفع درجته». فنحن نسأل الله أن یرفع من درجة النبیّ. لكن إذا كان (صلّى الله علیه وآله) قد نال جمیع الخیرات فلماذا نطلب من الله علوّ درجته؟ ففی هذه الحالة یكون الدعاء لغواً! لكنّ المقصود من هذا الدعاء هو الدرجات الحاصلة فی هذا العالم. إنّنا لا ندرك تماماً حقیقة الصلوات؛ لكنّ المقدار الذی نعرفه عنها هو أنّها هدیّة من الله إلى نبیّه وأنّ فی ذلك شرفاً وفخراً لنا. فإنّ أعظم التوفیقات التی ننالها إن نحن أدركنا ذلكـ هی بسبب صلواتنا على النبیّ وآله (صلوات الله علیهم أجمعین)؛ فإن قُبلت صلواتنا المفروضة بسبب الصلوات على النبیّ فی آخرها فلا عجب فی ذلك؛ ذلك أنّنا نقرأ فی الزیارة الجامعة: «جعل صلواتنا علیكم وما خصّنا به من ولایتكم طیباً لخَلْقنا وطهارةً لأنفسنا وتزكیةً لنا وكفّارةً لذنوبنا».
وقد یتساءل أحدهم: كیف نال هؤلاء هذا القدر الهائل من العظمة؟ والجواب هو: هل یجب من الله أن یخلق موجوداً یكون أشرف المخلوقات من جمیع الأنحاء، أم لا یجب؟ فإن أراد خلق مثل هذا الموجود فستكون النتیجة هذه العظمة، وإن لم یشأ ذلك، فهل هو بخیل كی لا یفعله؟ فعندما تكون له مثل هذه القدرة، فأیّ دافع أو أیّ وجه عُقلائیّ یمكن أن یردعه عن فعل ذلك؟ فإذا ملكَ القدرة على خلق مثل هذا الموجود وخلَقَه فعلاً فإنّه یكون قد أتى بفعل حسن.
الحمد لله الذی هدانا لهذا وما كنّا لنهتدی لولا أن هدانا الله
1. من لا یحضره الفقیه، ج2، ص613.
2. بحار الأنوار، ج25، ص24.
3. بحار الأنوار، ج99، ص92.
4. سورة الشورى، الآیة 52.
5. بحار الأنوار، ج18، ص345.
6. بحار الأنوار، ج68، ص221.
7. من لا یحضره الفقیه، ج2، ص613.
8. من لا یحضره الفقیه، ج2، ص613.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 29 آب 2010م الموافق للیلة التاسعة عشرة من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
نقدّم أسمى آیات العزاء والتسلیة لإمامنا الحجّة المنتظر ولیّ العصر (أرواحنا فداه) بمناسبة حلول ذكرى استشهاد مولى الموحّدین وإمام المتّقین أمیر المؤمنین (صلوات الله علیه)، سائلین العلیّ القدیر أن لا یحرمنا من ولایته فی الدنیا والآخرة إنه سمیع مجیب.
«... وَاصْطَفَاهُ قَبْلَ أَنِ ابْتَعَثَهُ، إِذِ الْخَلاَئِقُ بِالْغَیْبِ مَكْنُونَةٌ، وَبِسَتْرِ الأَهَاوِیلِ مَصُونَةٌ، وَبِنِهَایَةِ الْعَدَمِ مَقْرُونَةٌ، عِلْماً مِنَ اللهِ تَعَالَى بِمَآیِلِ الأُمُورِ، وَإِحَاطَةً بِحَوَادِثِ الدُّهُورِ، وَمَعْرِفَةً بِمَوَاقِعِ الْمَقْدُور، ابْتَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى إِتْمَاماً لأَمْرِهِ، وَعَزِیمَةً عَلَى إِمْضَاءِ حُكْمِهِ، وَإِنْفَاذاً لِمَقَادِیرِ حَتْمِه».
التفسیر اللفظیّ لهذه الجمل هو كالتالی: لقد اختار الله النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) قبل أن یبعثه، فی وقت كانت الخلائق فیه مستورة فی غیب العالم وتغشاها حُجب عجیبة ومقرونة بنهایة العدم؛ ذلك أنّ الله عالم بخواتیم الأمور ومحیط بحوادث الدهور وعارف بمواقع المقدّرات، فقد بعثه فی مثل هذا العالم بغیة إتمام أمره، وتنفیذ حكمه، وإنفاذ تلك المقدّرات الحتمیّة.
تشیر السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) فی هذه العبارات إلى مرحلتین: المرحلة الاولى هی تلك التی سبقت خلق المخلوقات ولم یكن هناك إنسان بعد. فإنّ الله تعالى كان قد اختار نبیّه واصطفاه فی تلك المرحلة تحدیداً لیكون خاتماً للأنبیاء. أمّا المرحلة الثانیة فهی فی هذا العالم؛ فبعد أن خُلقت السماوات والمجرّات والمنظومة الشمسیّة والأرض وباتت الأرض مستعدّة لاستقبال الكائنات الحیّة للعیش على سطحها فقد مرّت آلاف السنین قبل أن یبعث الله الرسول الأعظم (صلّى الله علیه وآله) بالرسالة. فالزهراء (علیها السلام) تقول تعبیراً عن هذه المرحلة: لقد بعثه الله كی ینفّذ عملیّاً ما كان قد قدّره مسبقاً. إنّه لیس من غیر المناسب فی مثل هذه اللیلة، وهی واحدة من لیالی القدر، أن نتحدّث عن التقدیرات الإلهیّة ونقدّم توضیحاً عن مواقعها وأین کانت، وما ترمی إلیه ولماذا کانت، وكیف أوصل الله تعالى تلك التقدیرات إلى حیّز الإمضاء والتطبیق. ومن أجل أن لا یتّسع البحث كثیراً فإنّنی استعرض هذا التوضیح على نحو مفهرَس.
الأصل فی كلمة القدر والتقدیر هو القیاس. فقد جاء فی الخبر عن الإمام الهادی (صلوات الله علیه) ما مضمونه أنّ التقدیر عبارة عن هندسة العالم. ففی عالمنا البشریّ عندما نهمّ بالتأسیس لمشروع ضخم فإنّنا نقوم فی البدایة بتحدید الهدف المبتَغَى من ذلك. فعمل كهذا یحتاج إلى معلومات؛ ومن هنا فإنّ مرحلة العلم هی أوّل المراحل اللازمة لمقدّرات العمل. وفی الخطوة التالیة نقوم بدراسة المقدّمات الضروریّة لهذا المشروع. فإذا أخذنا كلّ تلك الاُمور فی نظر الاعتبار فسوف یتولّد لدینا تصوّر كامل عن تصمیم المشروع وعندها سیتسنّى لنا، على غرار هذا التصوّر، وضع الخطّة اللازمة لتنفیذه. فخطّة التنفیذ تمثّل المرحلة النهائیّة لمراحل الإعداد حیث لا یبقى بعدها إلاّ التوكّل على الله والبدء بتنفیذ خطّة المشروع على أرض الواقع. بالطبع نحن نعلم أنّ الله سبحانه وتعالى لیس بحاجة إلى مثل هذه المراحل كی ینجز كلّ واحدة منها فی زمن معیّن. فالزمن أساساً لیس له أیّ دخل فی أفعال الله عزّ وجلّ. إنّنا نحن الذین نحتاج بسبب ما نعانیه من الضعف الوجودیّـ إلى التفكیر بشكل تدریجیّ، والتشاور مع الآخرین كی نضع تصمیماً لمشروع معیّن ومن ثمّ نعِدّ الخطّة اللازمة لتنفیذه عملیّاً. فلو أمكننا تصوّر كلّ تلك المراحل فی آن واحد فلن نكون بحاجة إلى الزمن حینئذ؛ لكن على أیّة حال فإنّ تلك المراحل تكون من الناحیة العقلیّةـ مترتّبة إحداها على الاخرى؛ بمعنى أنّه حتّى لو أمكننا تصوّر أنّ جمیع تلك المراحل تتحقّق فی آن واحد فسیكون لها تقدّم وتأخّر أیضاً؛ أی بمعزل عن التقدّم والتأخّر الزمانیّین فإنّ هناك نوعاً آخر من التقدّم والتأخّر. فمثلاً عندما ندیر المفتاح فی قفل الباب فإنّ الید والمفتاح یدوران مع بعضهما؛ لكنّ الید هی التی تدیر المفتاح وإنّ لحركة الید ودورانها تقدّماً وجودیّاً على حركة المفتاح.
قد یتبادر إلى الذهن هنا السؤال التالی: إذا لم یكن فعل الله تعالى محتاجاً إلى زمن وهو عزّ وجلّ قادر على أن یقول للشیء كن فیكون، فلماذا إذن یقول عزّ وجلّ بخصوص خلق العالم: «خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامٍ»1؟
كما قد ذكرتُ فی محاضرة سابقة فإنّ ذلك العالم الذی لا یخضع للزمان محیط بهذا العالم. فما دمنا فی عالم الزمان فإنّنا ندرك هذا التأخّر والتقدّم فی الزمن؛ لكنّه بالنسبة لله تعالى وهو المحیط بهذا العالم فإنّ جمیع تلك الاُمور حاضرة عنده فی آن واحد. فالمخلوق هو الذی یولَد فی ستّة أیام، أمّا الأمر الإلهیّ فلا تدرّج فیه فهو (یقول له كن فیكون). فهذا التدرّج هو من شؤون المخلوق ولیس من شؤون الخالق.
فمولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) تتحدّث عن مرحلتین فیما یتعلّق باصطفاء النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وبعثته بالرسالة، وهی تستخدم للمرحلة الاولى تعابیر من قبیل اصطفاه، واجتباه، وسمّاه، وللمرحلة الثانیة كلمات من أمثال أرسله، وابتعثه، وما إلى ذلك. فالمرحلة الاولى هی مرحلة العلم، وهذا المعنى فیما یخصّ فعل الله جلّ وعلا یطلَق علیه «التقدیر العلمیّ»؛ وهو یعنی أنّه حتّى فی عالم علمه سبحانه فإنّ الله عزّ وجلّ یقدّر الأشیاء ویقیسها من جهة أنّه ما هو الأمر الذی یجب أن یقع، وفی أیّ موطن، وما هی المدّة الزمنیّة التی یحتاجها لذلك، وكم یتعیّن أن یكون حجمه، وما هی الامور التی ستتعلّق به، والخ. فهذا ضرب من التقدیر لكنّه یكون فی عالم العلم. أما عندما تُعَدّ خطّة التنفیذ ویبدأ العمل، فستكون لهذا الجانب من العمل مراحل وهو ما یدعى ﺑ«التقدیر العینیّ». تقول سیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) هنا: «عِلْماً مِنَ اللهِ تَعَالَى بِمَآیِلِ الأُمُورِ، وَإِحَاطَةً بِحَوَادِثِ الدُّهُورِ، وَمَعْرِفَةً بِمَوَاقِعِ الْمَقْدُور»؛ فلمّا كان الله یعلم بعواقب الامور، ویحیط بجمیع الحوادث، ویعرف مواقع تلك المقدّرات فقد عیّن منزلة وموقع النبیّ (صلّى الله علیه وآله) فی ذلك العالم بعنوان كونه خاتماً للأنبیاء. فالكلام حتّى هذه اللحظة یدور حول العلم والمعرفة وهو ما ینطبق على التقدیر العلمیّ. لكنّه عندما ینزل جبرئیل (علیه السلام) على النبیّ (صلّى الله علیه وآله) فیقول له: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ»2 فلن یعود هناك كلام عن العلم، بل ستكون هذه مرحلة التنفیذ، وتطبیق الخطّة، وإنزال المشروع إلى مستوى العینیّة؛ ومن هذا المنطلق فإنّ السیّدة الزهراء (علیها السلام) تبیّن هذه المرحلة بهذه الكیفیّة: «ابتعثه الله تعالى إتماماً لأمره، وعزیمةً على إمضاء حكمه»؛ أی إنّ الله قد بعث نبیّه لیُتمّ الأمر، لأنّه كان مصمّماً على إمضاء الحكم الذی أصدره فی عالم العلم وتنفیذه فی عالم العین: «وإنفاذاً لمقادیر حتمه»؛ فما لم تصل المقدّرات إلى مراحلها النهائیّة فهی قابلة للتغییر. وعمل المهندس یشبه هذا أیضاً؛ فعندما یصل العمل إلى تمامه وتوضع آخر لبنة فی البنیان یكون العمل قد اُنجز بتمامه. والمقدّرات الحتمیّة هی الامور التی لا تقبل التغییر، وقد اُشیر فی القرآن الكریم إلى بعضها؛ فمثلاً یقول عزّ من قائل: «هُوَ الَّذِی أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِینِ الْحَقِّ لِیُظْهِرَهُ عَلَى الدِّینِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ»3؛ فهی إرادة الله الحتمیّة فی أن یُبعث النبیّ فی آخر الزمان ویُظهر دینه ویجعله الغالب على كافّة الأدیان، أو یقول: «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِی الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ یَرِثُهَا عِبَادِیَ الصَّالِحُونَ»4؛ أی نحن كتبنا فی التوراة وفی الزبور ونقولها فی القرآن أیضاً إنّ الذین سیرثون الأرض هم الصالحون. فهذا قضاء محتّم. تقول مولاتنا فاطمة (علیها السلام): لقد بعث الله النبیّ (صلّى الله علیه وآله) بالرسالة من أجل أن تتحقّق هذه المقدّرات الحتمیّة، فلو لم یُبعث رسول الله (صلّى الله علیه وآله) فی هذا العالم فلن تصل تلك المقدّرات إلى مستوى الحتمیّة. إذن تلاحظون أنّ سیّدتنا فاطمة (علیها السلام) قد تبنّت اسلوبین فی التعبیر: فالحدیث قبل البعثة یدور حول المقدّرات المتعلّقة بعالَم علم الله؛ وهی المقدّرات العلمیّة. أمّا بعد البعثة فقد دار الكلام عن المقدّرات الحتمیّة: «إنفاذاً لمقادیر حتمه». ومن هنا نستنتج أنّ لدینا نمطین من التقدیر؛ أحدهما فی عالم علم الله تعالى، وثانیهما فی عالم العین، وقد ذُكرت لكلا النمطین الكثیر من المصادیق فی الآیات القرآنیّة وفی الروایات على حدّ سواء. وحیث تمرّ علینا فی هذه الأیّام لیالی القدر أرى من الضروریّ الالتفات إلى هذه النقطة وهی أنّ طائفة من التقدیرات هی تقدیرات علمیّة وهی المكتوبة فی اللوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات. وإنّ قسماً من هذه التقدیرات العلمیّة هو غیر حتمیّ والقسم الآخر حتمیّ؛ فعلى سبیل المثال عندما یعیَّن لشخص ما أجَلُه فسیكون له أجَل حتمیّ وأجَل معلَّق ومشروط. كأن یكون أجله مشروطاً بالصدقة؛ فإن أعطى الصدقة طال أجله وإن لم یعطها قصُر. فهذا یتعلّق بالتقدیرات القابلة للتغییر. لكنّ الله یعلم ما إذا كان هذا المرء سیعطی الصدقة فی النهایة أم لا وكم سیكون عمره بسبب ذلك. فهذا النمط من التقدیرات یمثّل التقدیرات العلمیّة الحتمیّة، وإنّ التقدیرات التی تبلغ مرحلة الحتمیّة فهی ستصل إلى مرحلة القضاء. إذن أصبح لدینا مرتبتان فی عالم العلم، التقدیر العلمیّ والقضاء العلمیّ. وكذا الأمر بالنسبة لعالم العین فإنّ له مرحلتین أیضاً؛ مرحلة مشروطة واخرى حتمیّة، والمرحلة الأخیرة هی التی یتمّ إمضاؤها؛ والإمضاء هو انقضاء وتمام الأمر من دون رجعة.
وهنا یرد سؤال مفاده: ما هی العلاقة بین اختیار النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وبین كون الله عالماً بأنّه أیّ مقدّرات ستكون وكیف ینبغی أن تقع؟ ومن أجل الإجابة على هذا السؤال علینا أن نفهم الهدف من خلقة هذا العالم. لقد سبق لنا القول إنّ الهدف الأساسی لله عزّ وجلّ من خلق عالم الوجود هو أكمل ما یمكن أن یوجد فی عالم الخلقة من الموجودات وهو الوجود المقدّس للنبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) وبما أنّ نور هذه الشخصیّة متّحد مع أنوار المعصومین الأربعة عشر (صلوات الله علیهم أجمعین) فإنّ اُولئك المعصومین الأربعة عشر هم فی الحقیقةـ الغایة الأساسیّة من وراء الخلقة ثمّ یتلوهم أكثر الناس شبهاً بهم وهم أنبیاء الله وأولیاؤه وخالص المؤمنین، أمّا الباقون فهم عیال على وجود هؤلاء. لكنّ الله لا یشیح بوجهه حتّى عن هؤلاء العیال. لیس هؤلاء فحسب، بل إنّهم إذا لم یذكروا اللهَ سوى لحظة واحدة فهو لن یغضّ الطرف عن تلك اللحظة وسیمهّد لهم الأرضیّة لكی ینادوا الله ویلجأوا الیه. فمن بین الملیارات من البشر الذین یعیشون على مرّ العصور من الممكن أن توجد ثلّة من الناس الصالحین والله یعلم كم من الأجیال لابدّ أن تأتی وتذهب كی یظهر إنسان صالح. فإنْ عَلِم الله تعالى بإمكانیّة ولادة إنسان صالح بعد أربعة أجیال من الناس الكفرة فإنّه سیهیّئ الأرضیّة لولادة هذا الجیل الرابع واستمراره بالحیاة حتّى یولَد ذلك الإنسان المؤهّل لاکتساب نور الله تعالى. فهذه من ألطاف الله ورحمته التی لا نهایة ولا نفاد لها.
فما الذی ینبغی فعله فی مرحلة العلم كی یصیر الناس من عباد الله والسائرین على طریق قربه؟ فلابدّ بادئ الأمر أن یودَع فی وجودهم ما یلزم لهذا الغرض. إذن ینبغی أن یجعل الله لهم عقلاً یمكنهم بواسطته التمییز بین الخیر والشرّ. لكنّ الله جلّ شأنه یعلم أنّهم بحاجة مضافاً إلى العقلـ إلى هادٍ آخر. فلو توفّر مَن یتولّى تربیتهم فقد تتكوّن بینهم وبین الله علاقة تكون السبب فی استحقاقهم للجنّة. أمّا إذا لم یرسل الله إلیهم الأنبیاء فلن تكون عقولهم بمفردها كافیة لبلوغها. هذه الامور هی من المباحث المرتبطة بمرحلة العلم، وهذا هو ما یسمّى بالتقدیر العلمیّ. إذن فمنذ اللحظة الاولى لوضع التصمیم الابتدائیّ للخلقة كان لابدّ من أن تؤخذ بعینی الاعتبار قضیة مهمة وهی أن تكون لمخلوقات أصیلة أیضاً مرتبةٌ من مراتب الوجود من أجل أن تكوّن روابط مع الآخرین بغیة هدایتهم إلى سواء السبیل؛ ومن هنا فإنّ من الضروریّ أن تكون لهذه المخلوقات الأصیلة مراتب متنزّلة تتمثّل فی وجوداتهم الجسمانیّة، كما ویتحتّم أن یكونوا فی هذا الوجود مثل باقی البشر وإلاّ فلن یكون باستطاعتهم التعاون معهم والأخذ بأیدیهم. كما یجب أن یكون لهذا الدلیل والهادی ارتباط وثیق بالله عزّ وجلّ: «وَمَا كَانَ اللهُ لِیُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَیْبِ وَلَـٰكِنَّ اللهَ یجَْتَبِی مِن رُّسُلِهِ مَن یَشَاءُ»5؛ فأنتم لم تنالوا الأهلیّة اللازمة كی یطلعكم الله على الغیب؛ لكنّه یوجَد من بین البشر من یملك تلك الأهلیّة، وقد شاءت إرادة الباری تعالى أن یختار هؤلاء ویُظهر لهم الغیب. فلابدّ أن یأتی هؤلاء الذین هم من سنخكم كی یأخذوا بأیدیكم ویهدوكم. وهنا تتجلّى فلسفة النبوّة أیضاً، وتتّضح الإجابة على سؤال هو: لماذا یرسل الله تعالى الأنبیاء من أجل هدایة البشر؟ ولماذا یوحی لهؤلاء ولا یوحی إلى الآخرین؟ والغرض من هذه المقدّمة هو أنّه یتعیّن فی التصمیم الابتدائیّ للخلقة، ومن أجل أن یجد الناس الذین سیولَدون بالتدریج بعد ملیارات من السنین الأهلیّة والاستعداد لتلقّی ما لا نهایة له من أصناف الرحمة الإلهیّة ولا نفاد له من أشكال السعادة الاخرویّة، یتعیّن أن تؤخذ بعینی الاعتبار قضیة النبوّة، وإلاّ فسیتعطّل وجود سائر البشر ولن یصلوا إلى الهدف المرجوّ من وجودهم وإنّ فی ذلك نقضاً للغرض ومخالفة للحكمة.
لقد اتّضح إلى هنا التكلیف الواجب العمل به فی عالم العلم. فما الذی ینبغی فعله فی عالم العین؟ فمن أجل أن ینَفّذ على أرض الواقع ما قام الباری عزّ وجلّ بتصمیمه وإعداده فإنّه قد بعث النبیّ (صلّى الله علیه وآله) «إتماماً لأمره، وعزیمةً على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادیر حتمه».
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. سورة الأعراف، الآیة 54.
2. سورة العلق، الآیة 1.
3. سورة التوبة، الآیة 33.
4. سورة الأنبیاء، الآیة 105.
5. سورة آل عمران، الآیة 179.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 30 آب 2010م الموافق للیلة العشرین من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«... فَرَأَى الأُمَمَ فِرَقاً فِی أَدْیَانِهَا، عُكَّفاً عَلَى نِیرَانِهَا، عَابِدَةً لأَوْثَانِهَا، مُنْكِرَةً لِلَّهِ مَعَ عِرْفَانِهَا، فَأَنَارَ اللهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ الْقُلُوبِ بُهَمَهَا، وَجَلَى عَنِ الأَبْصَارِ غُمَمَهَا، وَقَامَ فِی النَّاسِ بِالْهِدَایَةِ، وَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْغَوَایَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ الْعَمَایَةِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الدِّینِ الْقَوِیمِ، وَ دَعَاهُمْ إِلَى الطَّرِیقِ الْمُسْتَقِیم».
تقول مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) مشیرة إلى الحكمة من وراء بعثة الأنبیاء ولاسیّما النبیّ الخاتم (صلّى الله علیه وآله): لقد تمّ الإعداد لبعثة نبیّ الإسلام (صلّى الله علیه وآله) قبل خلق هذا العالم فقد خلق الله سبحانه وتعالى نوره وعیّنه لمهمّة ختم الرسل. وحینما اقتضت الحكمة الإلهیّة بَعَثه عزّ وجلّ فی هذا العالم للنبوّة من أجل أن یطبّق على أرض الواقع ذلك التصمیم الذی وضعه سبحانه للخلقة، خصوصاً خلقة الإنسان.
وحینما بُعث الرسول الأكرم (صلّى الله علیه وآله) بالرسالة واجه مشهداً عالمیّاً كان العالم فیه بأسره یخوض فی بحر الضلالة والجهالة والإبهامات. فالناس قد تشتّت مذاهبهم أشدّ ما یكون التشتّت واختلفت آلهتهم حتّى عكفت كلّ فرقة منهم على إله تعبده؛ وفی خضم ذلك شاب الإبهام طریقَ الله المستقیم ولم یعرف طالبوا الحقیقة سبیل السعادة القویم؛ ومن أجل هذا فقد بُعث النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) لینهض بتلك المهمّة الخطیرة المتمثّلة بهدایة الناس إلى الصراط المستقیم الذی یضمن لهم سعادة الدنیا والآخرة. وهذه هی خلاصة ما أستُهلّت به المحاضرة من كلام الزهراء (علیها السلام).
ونرى أن ما هو مناسب لهذا البحث هو تحلیل قضیّة افتراق الناس فی أسالیب العبادة وظهور أدیان ومذاهب شتّى ومتضادّة. وبعض ما یمكن أن یطرح فی هذا الصدد من أسئلة هو: منذ متى ظهر هذا الافتراق فی الدین؟ وكیف وُلدت تلك الأدیان والمذاهب المختلفة؟ وما هی الحلول التی خطّط لها الباری تعالى من أجل رفع مثل هذه الخلافات؟ وأخیراً ما هو الدور الذی اضطلع به نبیّ الإسلام (صلّى الله علیه وآله) فی مواجهة تلك الأدیان والمذاهب المختلفة؟
هناك نظریّتان تبحثان فی كیفیّة ظهور و تأسیس الأدیان المختلفة. النظریّة الاُولى هی النظریّة التی یتبنّاها علماء الاجتماع؛ فمؤسّسو هذا العلم عموماً كانوا یتصفون بنزعات مادّیة ولازال أكثر علماء الاجتماع الی الآن یحملون هذه المیول. یقول مؤسّس علم الاجتماع السیّد اوجست كُنت: ینقسم تاریخ حیاة البشر إلى ثلاثة عصور: العصر الأوّل هو عصر الأساطیر والسحر والشعبذة والدین. فالبشر فی ذلك العصر لم یكونوا قد نالوا النصیب الكافی من العلم وما كانوا قادرین على تفسیر وجود الظواهر المختلفة؛ ومن أجل ذلك فقد كانوا یستندون إلى عوامل ما وراء المادّة فی تفسیرهم لها. أمّا العصر الثانی فهو عصر ظهور الفلسفة. فلقد عمد الفلاسفة إلى إسناد تلك الظواهر إلى الصور النوعیّة فقالوا: إنّ العالم یُدار بواسطة تلك العوامل الغیبیّة الكامنة فی قلب هذا العالم. وقد كان ذلك حتّى تطوّرت العلوم التجریبیّة وأقصت الفلسفة جانباً، وكلّما ازداد تطوّر العلم اتّضح المزید من الحقائق، حتّى أدركنا أنّه لم یكن للأرواح، ولا للآلهة، ولا للعوامل الفلكیّة، ولا لغیرها أیّ دور یذكر فی هذا المجال. لقد وضع كُنت الدینَ جنباً إلى جنب مع السحر والشعبذة والأساطیر واعتبرها جمیعاً منبثقة من مقولة واحدة. وقد ترعرع سائر علماء الاجتماع فی بیئة من هذا القبیل.
ومن جملة المسائل التی یطرحها علم الاجتماع هی منشأ ظهور الدین حیث یدور البحث فی هذا المجال حول أنّه هل كان البشر فی بادئ الأمر یدینون بدین واحد ثمّ تشعّب بعدها إلى أدیان شتّى، أم كانت هناك فی البدایة أدیان متعدّدة وقد تمّ دمجُها فیما بعد مع بعضها لتصبح دیناً واحداً أو بضعة أدیان؟ فی عهد ما قبل الثورة الإسلامیّة ألقى أحد المجدّدین فی الفكر، والذی كان یُعرف أحیاناً كخبیر فی الشؤون الإسلامیّة، محاضرة مطوّلة فی جامعة طهران تحت عنوان «التحلیل الاجتماعی للشرك». تلخّصت هذه المحاضرة فی أنّ البشر كانوا یعیشون فی بادئ الأمر ضمن قبائل مختلفة وكان أفراد كلّ قبیلة یكنّون لرئیسها الاحترام. وبعد موت رئیس القبیلة كانوا أحیاناً یتّخذون له رمزاً أو تمثالاً ویحتفظون به فی مكان معیّن كتعبیر عن احترامهم وإجلالهم له. وبمرور الزمان تحوّلت تلك التماثیل إلى أصنام، وشیئاً فشیئاً صارت لتلك الأصنام آداب ومناسك تحوّلت فیما بعد تدریجیّاً إلى دیانة خاصّة. من أجل ذلك فقد كان فی البدء أدیان كثیرة حیث كانت لكلّ قبیلة دیانة خاصّة تدین بها. لكنّه بعد التطوّر الذی شهدته الحضارة البشریّة وكما حاولوا التقرّب من بعضهم البعض فی الاُمور السیاسیّة والاجتماعیّة حتّى ضُمَّت المدن الصغیرة فی مدینة كبیرة واحدة واُدغمت المدن إلى بعضها لتصبح دولة، فقد سعوا إلى الاتّحاد على صعید الدین أیضاً فدُمجت الدیانات المختلفة مع بعضها. ومن هنا فإنّ الخطّ البیانیّ یتّجه من الكثرة إلى الوحدة. وهذا هو أحد تفاسیر ظهور الأدیان حیث یرى أنّ الأدیان بدأت من الكثرة واتّجهت نحو الوحدة.
السبیل الاخری لتفسیر هذه الكثرة هی الرجوع إلى المصادر الإسلامیّة والوحی والقرآن الكریم. فلننظر إذن ماذا یقول القرآن فی هذا المجال. إنّ كلام القرآن الكریم یقع فی الطرف المقابل تقریباً من كلام علماء الاجتماع. فعلى أساس التعالیم القرآنیّة فإنّ النوع البشریّ قد ظهر بخلق آدم وحوّاء (علیهما السلام) وأنّ آدم (علیه السلام) كان نبیّاً وموحّداً یعبد الله سبحانه وتعالى. ومن الطبیعیّ أنّه عندما یبلّغ هذا النبیّ للتوحید وعبادة الله الواحد فی مجتمعه الصغیر المتكوّن من اُسرته فسوف ینتهج هؤلاء، الذین خُلقوا حدیثاً، ویختارون نهج والدهم. والقرآن الكریم یصرّح بهذا الأمر فی قوله تعالى: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِیِّینَ مُبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِِّ لِیَحْكُمَ بَیْنَ النَّاسِ فِیمَا اخْتَلَفُواْ فِیهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِیهِ إِلاَّ الَّذِینَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَیِّنَاتُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ»1؛ كما وقد جاء فی الحدیث الشریف: «کانوا قبل نوح امة واحدة علی فطرة الله»2؛ أی إنّ جمیع البشر كانوا بادئ الأمر موحّدین. ثمّ یشیر العزیز القدیر إلى أنّ الاختلاف قد نشب بین البشر تدریجیّاً حتّى بعث الله الأنبیاء كی یطرحوا منهاجاً للحیاة البشریّة ویبیّنوا للبشر طریق السعادة. لكنّ فریقاً منهم، وبدافع البغی والتعالی والعدوان، كانوا قد أشاعوا الاختلاف فی نفس هذا الدین الواحد الذی أنزله الله تعالى. ولا زال هذا الأمر مستمرّاً إلى یومنا هذا. فلقد انبثقت فی كلّ من الأدیان الكبیرة المئات من الفرق؛ فمذهب البروتستانتیّة فی الدیانة المسیحیّة لوحده قد تشعّب إلى خمسمائة فرقة أصلیّة، وكذا الأمر فی سائر المذاهب. یقول القرآن الكریم إنّ العامل الوحید الذی یثیر هذه الاختلافات هو تكالب مؤسّسی هذه الفرق على السلطة وحرصهم علی التعالی والبغی وهی امور تعود إلى الهوى الذی یؤدی الی تأسیس هذه الفرق: «فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ»3. فالقرآن الكریم یرى أنّ دین الحقّ كان واحداً، وأنّ جمیع الأنبیاء جاءوا لیبلّغوا نفس هذا الدین؛ بالطبع من الممكن أن یأتی أحد الأنبیاء بأحكام معیّنة تتناسب مع زمانه فیأتی مَن بعدَه لینسخ بعض تلك الأحكام؛ إلاّ أنّ القرآن الكریم یُرجع جمیع هذه الأدیان إلى أصل واحد، واُسس ثابتة ویطلق علیها جمیعاً اسم الإسلام. وقد كانت وصیّة الأنبیاء عند رحیلهم عن الدنیا لذویهم ومقرّبیهم: «فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ»4. غیر أنّ القرآن یعدّ هذه الاختلافات مقصودة ویرى أنّها ناشئة عن البغی، والطغیان، والتعالی، والتكالب على متاع الدنیا واللهث خلف السلطة وما إلى ذلك. فلو أنّهم غضوا الطرف عن تلك الاُمور لما نشب الاختلاف. فقد بیّن الأنبیاء سبیل الحقّ بكلّ وضوح بحیث یتسنّى لكلّ طالب حقیقة أن یبلغها. غیر أنّ البعض قد عمد إلى تعكیر صفو المیاه وتحریف دین الحقّ عن طریق إثارة الشبهات وإلقاء البدع. إذن حسب رأی القرآن الكریم فإنّ الرسم البیانیّ للاختلافات فی الأدیان یسیر من الوحدة نحو الكثرة.
من اللافت للانتباه أنّ هذه التحریفات لم تكن فی أوّل نشوئها على الشاكلة التی نراها علیها الیوم. فعلى سبیل المثال نجد الیوم أنّ الاعتقاد بالتثلیث فی الربوبیّة (الأب، والابن، وروح القدس) یشكّل ركناً من أركان المسیحیّة، بینما لم یكن لهذه المسألة وجود فی المسیحیّة عند بزوغها كما وأنّها لم تظهر دفعة واحدة. ففی بادئ الأمر كان أتباع الیهودیّة، ثمّ تلاهم أتباع النصرانیّة، یستخدمون تعابیر مجازیّة، كزعمهم أنّهم أبناء الله وأحبّاؤه: «وَقَالَتِ الْیَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَـٰؤُاْ اللهِ وَأَحِبَّـٰؤُهُ»5، فهذا التعبیر هو تعبیر شكلیّ ومجازیّ. فقد قالت الیهود فی عُزَیْر الذی عاد إلى الحیاة بعد مضیّ مائة عام على موته: إنّه ابن الله: «وَقَالَتِ الْیَهُودُ عُزَیْرٌ ابْنُ اللهِ»6. وقد كان أولى بالمسیحیّین أن یدّعوا مثل هذا الادّعاء بالنسبة للمسیح (علیه السلام) إذ لم یكن له أبٌ جسمانیٌّ. لكنّ هذه الادّعاءات المجازیّة اتّخذت شیئاً فشیئاً طابع الجدّیة حتّى صارت ركناً من أركان الدین. وقد حارب القرآن الكریم قضیّة اتّخاذ الله للولد محاربة شدیدة. كما أنّهم عدّوا ـ من ناحیة اخرى ـ الاُصول الحقیقیّة للدین مجازاً فصاروا یؤوّلونها حتّى حذفوها بالتدریج. لذا فإنّهم قد مارسوا التحریف فی الدین من جانبین. وفی زماننا الحاضر توجد أیضا مثل هذه النزعات ولابدّ من توخّی الیقظة والحذر فی هذا المجال.
إنّ تصوّرنا الابتدائیّ الیوم عن عبادة الأصنام هو أنّ عُبّادها یعتقدون بأنّ تلك الأصنام هی التی خلقت العالم؛ غیر أنّ المسألة لیست بهذه البساطة. فأغلب المبتلین بالشرك كانوا یقرّون بشكل أو بآخر بوجود الخالق الواحد. فالقرآن الكریم یقول على لسان عبّاد الأوثان: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِیُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى»7؛ أی إنّهم كانوا یعتقدون بوجود الله بعنوان كونه خالق السماوات والأرض. كما أنّ بعض عبدة الأوثان كانوا یعتقدون بأنّ لله بنات یحبّهن كثیراً وهنّ الملائكة. فكانوا یقولون: بما أنّنا لا نستطیع الاتّصال بهنّ فنحن نحترم هذه الأصنام لكونها رموزا تشیر الی الملائكة؛ وإذ أنّ تلك الملائكة تُسَرّ من عملنا فإنّهم یشفعون لنا عند الله! وقد قیل أیضاً بخصوص عبدة النار فی إیران: إنّهم یقدّسون النار بعنوان كونها رمزا للقداسة من أجل أن یرضى الله عنهم بسبب ذلك، ولم یكونوا یعتقدون بأنّ نفس هذه النار التی یضرمونها بأیدیهم هی التی خلقت السماوات والأرض. بالطبع لقد كان هناك من لا یعتقد أصلاً بأیّ خالق بل یؤمن بنمط من أنماط النزعة الطبیعیّة، حیث یقول هؤلاء: «هذه الطبیعة كانت منذ الأزل مع كلّ ما فیها من تحوّلات، غیر أنّ بإمكان بعض الأشخاص أن یكون لهم دور مؤثّر فی تلك التحوّلات!». فنمرود وفرعون كانوا من جملة من قالوا بربوبیة أنفسهم؛ لكنّهم ما كانوا یقولون بأنّ للعالم خالقاً. وخلاصة القول فلیس معنى العبادة أنّ المعبود هو ذات الخالق.
قد یصادف المرء أشخاصاً یحملون مثل هذه المعتقدات لكنّه یلاحظ علیهم النُّبْل وحبّ الخیر للآخرین. فبعض المرتاضین، على سبیل المثال، یمشون حفاة الأقدام حاملین معهم مكنسة ناعمة یكنسون بها الطریق أمام أقدامهم باستمرار لئلاّ یطأوا نملة تمرّ من أمامهم! فهم إلى هذا الحدّ یحترمون الكائنات الحیّة. فعندما یشاهد المرء أمثال هؤلاء یتساءل بینه وبین نفسه: ألا یكون أشخاص كهؤلاء مع ما یتمتّعون به من صفاء الروح من أهل الجنّة؟
علینا أن نعلم أنّه إذا عاش الإنسان فی ظروف معیّنة بحیث تیقّن أنّ الطریق المعوَج الذی یسلكه هو الطریق الصحیح من دون أن یحتمل خلاف ذلك فهو مُستضعَف وقد یغفر الله له، بشرط أن لا یكون قد قصّر فی تشخیص الحقّ ویكون قد عمل ضمن حدود فهمه وإدراكه. بید أنّ البعض یروّج للفكرة القائلة بأنّ عَبَدة الأوثان لیس أنّهم طاهرون فحسب، بل إنّهم من أهل الجنّة أیضاً. فدعاة مذهب التعدّدیة فی الدین یصرّحون بأنّه لیس هناك امتیاز للشیعة على السنّة ولا للسنّة على الشیعة؛ ولیس هناك فضیلة للمسلم على الوثنیّ ولا للوثنیّ على المسلم فإنّ «الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق». فكلّ واحد من تلك المذاهب یمثّل الصراط المستقیم، وإنّ لدینا عددا کبیرا من الصراط المستقیم و لیس صراطاً واحداً. فهذه الطائفة من عُبّاد الأصنام یحترمون الأصنام لاعتقادهم بتأثیر هذا الاحترام فی حیاتهم. ورغم أنّ اعتقاداً كهذا هو اعتقاد خاطئ لكنّه لا یسوّغ لنا اتّهامهم بأنّهم یعبدون إلهاً آخر.
إنّ هذه هی إحدى النزعات الانحرافیّة. وكما أشرتُ سابقاً فإنّ مسألة التثلیث فی المسیحیّة قد ابتدأت كضرب من المجاملة وقول المجاز. وشیئاً فشیئاً عندما شاهدوا أنّه لیس لعیسى (علیه السلام) أب، قالوا: عیسى ابن الله. لكن لاحظوا الكیفیّة التی تعامل بها القرآن الكریم مع هذه القضیّة. إذ كان یمكنه القول: «إنّ لقب ابن الله الذی أطلقه النصارى على عیسى لم یكن إلاّ لقباً شكلیّاً ومجازیا وما كانوا یقصدون من ورائه أنّ الله هو أبو عیسى فی الواقع». فلو كان تعامل القرآن فی هذا المجال بهذه الكیفیّة لتوطّدت علاقاتنا مع المسیحیّین أكثر ولتحقّقت التعدّدیة الدینیّة أبكر. لكنّ القرآن یقول فی هذا الصدد: «تَكَادُ السَّمَاوَاتُ یَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَداً»8. فالقرآن یقول فی مقام الاحتجاج: فلننطلق من أصل مشترك واحد وهو أن لا نعبد إلاّ الله: «قُلْ یَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَیْنَنَا وَبَیْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاّ اللهَ»9، لكنّه یقول باُسلوب قاطع وحازم فی مجال محاربة العقیدة الفاسدة: إنّ كلامكم هذا هو على جانب من الخطأ والقبح بحیث إنّ العالم بأسره یكاد یخرّ وینهار بسببه. فهل یسعنا مع هذه المعصیة العظیمة أن نقول: إنّ هذه العقیدة تمثّل صراطاً مستقیماً كما تمثّل عقیدتنا نحن صراطاً مستقیماً أیضاً؟!
فصحیح أنّ القرآن الكریم یقول: «إِنَّ الَّذِینَ ءَامَنُواْ وَالَّذِینَ هَادُواْ وَالنَّصَـٰرَىٰ وَالصَّـٰبِئِینَ مَنْ ءَامَنَ بِاللهِ وَالْیَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلاَ هُمْ یَحْزَنُونَ»10، لكنّ هذه الآیة لا تعنی أنّه حتّى وإنْ بقی هؤلاء على لجاجتهم ولم یؤمنوا بنبیّ الإسلام ـ بعد بعثته بالرسالة، وإتمام الحجّة علیهم، وتجلّی حقیقة أنّ الدین الحقّ هو دین نبیّ الإسلام، وأنّ أحكام دینهم قد نُسخت ـ فإنّه لا فرق أیضاً بینهم وبین المؤمنین. فالآیة ترمی إلى القول: إنّ الله یثیب المتّبع لأیّ دین إذا كان قد عمل بواجبه عندما كان یُراد منه اتّباع هذا الدین، لكنّه إذا لم یعمل طبقاً لتكلیفه فی حینها، فإنّه لن یذوق طعم السعادة حتّى وإن كان یُلَقّب بألقاب ضخمة ورنّانة.
علینا أن ندرك ونلتفت إلى أنّه من أهمّ واجباتنا هی مسألة الحفاظ على أصل الدین، والمذهب، والمعتقدات وإنّ العبء الأكبر فیما یتعلّق بهذا الواجب یقع على كاهل علماء الدین.
وفّقنا الله وإیّاكم
1. سورة البقرة، الآیة 213.
2. بحارالانوار، ج 11، ص 10، باب معنی النبوة و علة بعثة الأنبیاء.
3. سورة الجاثیة، الآیة 17.
4. سورة البقرة، الآیة 132.
5. سورة المائدة، الآیة 18.
6. سورة التوبة، الآیة 30.
7. سورة الزمر، الآیة 3.
8. سورة مریم، الآیتان 90 و91.
9. سورة آل عمران، الآیة 64.
10. سورة البقرة، الآیة 62.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 31 آب 2010م الموافق للیلة الحادیة والعشرین من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«... فَرَأَى الأُمَمَ فِرَقاً فِی أَدْیَانِهَا، عُكَّفاً عَلَى نِیرَانِهَا، عَابِدَةً لأَوْثَانِهَا، مُنْكِرَةً لِلَّهِ مَعَ عِرْفَانِهَا، فَأَنَارَ اللهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ الْقُلُوبِ بُهَمَهَا، وَجَلَى عَنِ الأَبْصَارِ غُمَمَهَا، وَقَامَ فِی النَّاسِ بِالْهِدَایَةِ، وَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْغَوَایَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ الْعَمَایَةِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الدِّینِ الْقَوِیمِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّرِیقِ الْمُسْتَقِیم»1.
بعد الإشارة إلى الحكمة من وراء بعثة الأنبیاء، وعلى وجه الخصوص بعثة النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) تُخبر الزهراء (سلام الله علیها) عن حال العالم فی زمان بعثته (صلّى الله علیه وآله). فی نهج البلاغة وعندما یقوم أمیر المؤمنین (علیه السلام) بوصف وضع سكان العالم فی زمان بعثة النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) فإنّه یشیر إلى الأبعاد المختلفة للمجتمع البشریّ فی ذلك الحین، العقائدیّة منها والأخلاقیّة والاقتصادیّة والاجتماعیّة؛ لكنّ سیّدتنا الزهراء (علیها السلام) تكتفی هنا ببیان الرذائل الدینیّة التی كانت سائدة آنذاك. وقد یُعلَّل ذلك بأن الهدف الرئیسیّ للزهراء (سلام الله علیها) من إلقائها لهذه الخطبة هو إتمام الحجّة بخصوص مسألة الرسالة وما یعدّ استمرارا لها، أی قضیّة الإمامة، ولم یكن ذكر مسألة فدك إلاّ ذریعة لأداء رسالتها (سلام الله علیها) والقیام بما یمكنها من دور لهدایة الاُمّة؛ ذلك الدور الذی لم یكن بمستطاع أیّ أحد النهوض به. وسیتّضح فی سیاق الخطبة أنّ القضیّة التی حازت أهمّیة أكثر من غیرها لدى فاطمة الزهراء (علیها السلام) والتی أكّدت علیها تأكیداً واضحا هی قضیّة خلافة أمیر المؤمنین (علیه السلام) لرسول الله (صلّى الله علیه وآله) وإنّ ما نال اهتمامها فی هذا الجانب هو دور الإمام فی المجتمع بعد رحیل النبیّ (صلّى الله علیه وآله) ألا وهو إكمال وإتمام رسالة النبیّ فی الاُمّة. فبالإضافة إلى إبلاغ الوحی وتلاوة آیات الذكر الحكیم، كانت مهمّة تعلیم آیات الله وتبیین وتفسیر أحكامها تقع هی الاُخرى على عاتق رسول الله (صلّى الله علیه وآله) وكان قد أدّى هذه المهمّة بشكل تدریجیّ على مدى ثلاثة وعشرین عاماً تلت بعثته (صلّى الله علیه وآله)؛ لكنّه، وبسبب عمره الشریف القصیر نسبیّاً والاُمور الجمّة التی كانت تشغله، لم تُتَح له الفرصة لبیان جمیع الأحكام بشكل كامل، هذا مضافاً إلى أنّ تبیین الكثیر من الأحكام كان یتطلّب ظروفاً خاصّة. لهذا فكما أنّ الله سبحانه وتعالى قد خطّط بتقدیره العلمیّ لبعثة الأنبیاء واختتامهم بخاتم الرسل (صلّى الله علیه وآله)، فإنّه قد رسم خارطة لإستمرار مسیرة النبیّ الخاتم (صلّى الله علیه وآله) عبر إعداده لظهور اثنی عشر من الأئمة المعصومین من بعده. كان جُلّ جهد الزهراء (سلام الله علیها) فی هذه البرهة من الزمن مُنصبّاً على إفهام الناس هذه المسألة وهی أنّ رسالة النبیّ فی تبیین أحكام الدین لم تنته بعد وأنّه لابدّ من وجود شخص یكون باستطاعته القیام بهذا الدور على أتمّ وجه وإنّ مهمّة تشخیص وتعیین شخص كهذا لیست هی ممّا یستطیع الناس القیام به. باختصار فإنّه لابدّ لخلیفة رسول الله (صلّى الله علیه وآله) أن یكون رجلاً معصوماً ویحمل علماً إلهیّاً كی یكون بمقدوره بیان حكم أیّ موضوع من جانب الله عزّ وجلّ.
من السهل علینا ونحن نعیش فی هذا العصر أن ندرك مثل هذه المباحث؛ لكنّ فهم ذلك لم یكن بالأمر الیسیر على أهل ذلك العصر. فالشخص الذی طرح نفسه فی ذلك الحین كخلیفة لرسول الله (صلّى الله علیه وآله) لم یكن ملتزماً تطبیقیّا بالعمل وفقاً لآیات القرآن أو كلام النبیّ، فما بالكم بأن یعتقد الناس بضرورة كونه معصوماً ونسخة مطابقة للأصل عن النبیّ (صلّى الله علیه وآله). ففی ظروف كهذه كان ینبغی طرح هذا الموضوع باُسلوب مدروس وموزون كی یكون له أبلغ الأثر. وانطلاقاً من هذه النقطة فإنّ إحدى غایات السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) من هذه الخطبة هو أن تبیّن للملأ أنّ هؤلاء المدّعین لخلافة رسول الله (صلّى الله علیه وآله) عاجزون حتّى عن حلّ أبسط المسائل الفقهیّة. ولتوضیح الأمر فهی تقول بادئ ذی بدء: إنّ فدك كانت هبة أعطانیها النبیّ وإنّ لدیّ شهوداً على هذا المدّعَى وبما أنّنی ذات ید فإنّ على الطرف الآخر وهو المدّعی أن یأتی ببیّنة على كلامه. ثمّ تطرح بعد ذلك مسألة الإرث فتقول: إذا أنكرت الادّعاء الأوّل وقلت إنّ الهبة غیر ثابتة یتعیّن علیك أن تذعن بأنّ فدك هی من أموال النبیّ نفسه وأنا وریثته، وهذا إثبات آخر على أنّ فدك ملكی. فمسألة الفیء والإرث لیستا فی باب واحد؛ لكنّ مولاتنا الزهراء (علیها السلام) قد احتجّت على القوم بهذه الكیفیّة كی تثبت لهم أنّ المدّعین لهذا الأمر لیسوا هم أهلاً له.
یجب الالتفات هنا إلى قضیّة أنّ للنبیّ (صلّى الله علیه وآله) مهامّ عدیدة وشؤوناً مختلفة. فأوّل مهامّه كانت إبلاغ الرسالة: «مَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ البَلاَغِ»2 وكان ینبغی فی هذه المرحلة أن یعلّم الناس المعرفة الصحیحة والرؤیة الصائبة، حیث لم یكن هناك أیّ معنى للإكراه والإلزام. ففی هذه المرحلة ینبغی أن یفهم الناس الحقّ وتقام الحجّة علیهم: «رُّسُلاً مُّبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ لِئَلاَّ یَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»3. فإذا قبل بعض الناس بهذه الشریعة وعزموا على العمل بأحكامها فستُلقى على عاتق النبیّ بعد إبلاغ الرسالة مسؤولیّة اُخرى ألا وهی إدارة المجتمع الإسلامیّ. فالمهمّة الاُولى كانت تتّسم بطابع تعلیمیّ، أمّا المهمّة الثانیة فهی تتّخذ صبغة تنفیذیّة. فالقسم الأعظم من الأحكام الإسلامیّة یرتبط بالمسائل الاجتماعیّة وإنّ الأخیرة بحاجة إلى منفّذ ومدیر وقائد. وهذه الوظائف بعینها سوف تُلقَى على عاتق خلیفته من بعده أیضاً. نستنتج من ذلك أنّ المهمّة الأساسیّة لخلیفة النبیّ ستكون بیان الأحكام وإتمام الحجّة على الناس. لكنّه من الممكن فی هذه المرحلة أن لا یقبل الناس بكلامه؛ وفی هذه الحالة لن یكون مكلَّفاً بأیّ واجب فی هذا المجال؛ لكنّه إذا قبل الناس وقالوا: نحن على استعداد للعمل بأوامرك، فستُعهد إلیه مهمّة اُخرى ألا وهی مسألة الإمامة على الصعید العملیّ والتنفیذیّ. إنّه فی مرحلة كهذه یقول أمیر المؤمنین (علیه السلام): «لولا حضور الحاضر وقیام الحجّة بوجود الناصر... لألقیتُ حبلَها على غارِبِها»4؛ أی لولا أنّ الناس قد حضروا وتعهّدوا بالنصرة لَما قبلت بالخلافة؛ وفی ذلك إشارة إلى المهمّة الثانیة. بالطبع إنّ مشروعیّة هذه المهمّة قد عُیّنت مسبقاً من قِبل الله تعالى؛ لكن بما أنّ الناس لم ینصروه ولم یبایعوه قبل ذلك الحین فإنّه لم تكن على عاتقه أیّ مسؤولیّة.
الذین ینكرون الیوم حكومة الولیّ الفقیه فإنّهم فی الحقیقةـ یخلطون بین هذین المبحثین ویجعلون الأمر مبهماً؛ فهم یقولون: لیس للحكومة أن تُلزم الناس بالعمل بأحكام الإسلام لأنّ القرآن یقول: «لاَ إِكْرَاهَ فِی الدِّینِ»5، والحال أنّ هذه الآیة تتعلّق بالقبول بأصل الدین. إذ أنّ قوام أصل الدین هو الإیمان القلبیّ وهو ما لا یمكن إیجاده بالإكراه والقوّة. لكنّه عندما یقبل جماعة من الناس بالدین اختیاراً، فإنّه لا یعود الموضوع مرتبطاً بهذه الآیة كی یتّخذ حكمها، بل إنّ الدور هنا یكون قد وصل إلى تنفیذ الأحكام الإسلامیّة وإنّ تنفیذ الأحكام الاجتماعیّة للدین یحتاج إلى مسؤول ومدیر تنفیذیّ، وهی مسألة جدیدة تماماً. ومن هذا المنطلق فإنّه إذا حاول البعض، بعد تشكّل المجتمع الإسلامیّ والقبول بقیادة ولیّ أمر المسلمین، القیام بانقلاب عسكریّ فلابدّ حینئذ من التصدّی لهم واستخدام القوّة فی ردعهم، وهذا هو عین ما قام به أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی حرب الجمل وصفّین والنهروان. ففی مقام تنفیذ الأحكام الجزائیّة لابدّ من قطع ید السارق إذا سرق؛ فلیس من المنطق أن نقول للسارق: تعال لنقدم لك درسا فی الأخلاق وندخلك فی دورة ثقافیّة! فإنّ من جملة وظائف الحكومة الإسلامیّة هی صیانة القیم الإسلامیة والمُثُل الدینیّة، حیث یتعیّن أن یكون ظاهر المجتمع المسلم ظاهراً إسلامیّاً یرضى به الله عزّ وجلّ، ومن هنا لابدّ من قمع عوامل الفساد الأخلاقیّ والجنسیّ فی المجتمع. نعم إذا ارتكب أحدهم ما یخالف الشرع فی السرّ وفی ضِمن حریمه الشخصیّ الخاصّ، فلن یصنَّف ذلك أصلاً ضمن المسائل الاجتماعیّة ولن یتعرّض للمُساءلة الحکومیة.
تصف الزهراء (سلام الله علیها) فی هذه الخطبة أحوال الزمان فی فترة بعثة النبیّ الكریم (صلّى الله علیه وآله) بالرسالة؛ لكنّه لمّا كانت بغیتها تبیین خصوصیّات النبیّ وسمات خلیفته من بعده فقد اكتفت بالإشارة إلى ما كان سائداً من أنماط الرذائل الدینیّة حینها.
تقول سیّدتنا الزهراء (علیها السلام): «فِرَقاً فِی أَدْیَانِهَا» ففی زمان بعثة النبیّ كانت أدیان الناس متفرّقة ومذاهبهم شتّى، «عُكَّفاً عَلَى نِیرَانِهَا»؛ فجماعة كانت عاكفة على عبادة النار فی المعابد المخصّصة لذلك، «عَابِدَةً لأَوْثَانِهَا»؛ وطائفة یؤمّون معابد الأصنام لعبادتها، «مُنْكِرَةً لِلَّهِ مَعَ عِرْفَانِهَا»؛ وفرقة أنكرت الله بعد أن عرفته. ولعلّ فی هذه الجملة إشارة إلى المعرفة الفطریّة بالله تبارك وتعالى الموجودة عند جمیع البشر، أو قد یراد منها معنى أرقى وهو أنّ هؤلاء الناس، وعلى الرغم ممّا كانوا یتمتّعون به من أشكال المعرفة الظاهریّة التی أتمّت الحجّة علیهم، فقد أنكروا الله. إنّ من الصعب على المرء أن یصدّق بفرض كهذا؛ وهو أن ینكر الإنسان شیئاً على الرغم من معرفته به. لكنّ هذا لیس ممّا یثیر العجب كثیراً؛ فنحن نشاهد فی حیاتنا الیومیّة نماذج من هذا القبیل، فقد یتفلّت المرء أحیاناً من قبول الحقیقة مخافة أن یُخدش كبریاؤه، أو من أجل الحصول على مكسب معیّن أو التهرّب من مسؤولیّة ما. وقد ذكر القرآن الكریم نماذج من هؤلاء؛ فعندما بُعث موسى وهارون (على نبیّنا وآله وعلیهما السلام) بالنبوّة وذهبا إلى فرعون یدعوانه، وقالا له: إنّنا من جانب الله ربّ العالمین، التفت فرعون إلى الملأ فقال: «مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَیرِْی»6، قال موسى (علیه السلام): «لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَٰؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ»7؛ أی إنّك تعلم یقیناً أنّ هناك ربّا للسماوات والأرض وأنّه هو الذی أوجد هذه المعجزات. فأیّهما كان یقول الحقیقة؟ إنّ من المسَلّم به أنّ موسى (علیه السلام) لا ینطق بالكذب؛ أی إنّ فرعون كان یعلم بذلك. إذن فلماذا أنكر؟ یقول عزّ من قائل: «وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَیْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً»8. فهناك عاملان هما اللذان یدفعان البشر إلى إنكار ما یعرفونه؛ أحدهما التطاول على حقوق الناس ظلماً وعدواناً، والآخر محاولة التعالی على الآخرین والتسلّط علیهم. فهذان الدافعان النفسیّان من شأنهما أن یقودا المرء إلى إنكار ما یعرفه. وقد یوجد هذان العاملان فینا نحن أیضا؛ فحینما لا یقنع المرء بحقوقه، ویحبّ أن یقول للآخرین، سواء عن غیر وعی أو عن نصف وعی أو عن وعی كامل: إنّنی أفضل منكم! فهو فی الحقیقةـ ینكر حقّ الآخرین.
یقول القرآن الكریم: «تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِینَ لاَ یُرِیدُونَ عُلُوّاً فِی الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً»9؛ فالسعادة الاُخرویّة هی من نصیب من لا یصبوا إلى التعالی على عباد الله عزّ وجلّ. فجذور جمیع المفاسد الاجتماعیّة تكمن فی رغبة الإنسان فی العلوّ على الناس، وهذه الصفة هی من موجبات فساد المرء وتعاسته. فأمیر المؤمنین (علیه السلام) یقول فی هذا المجال: «إنّ حبّ الرجل أن یكون رباط حذائه أفضل من رباط حذاء غیره هو من طلب العلوّ»10. فإنّ ما جعل من فرعون فرعوناً هی خصلة التعالی والتعجرف تلك؛ فالباری عزّ وجلّ یقول فی محكم كتابه الكریم: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِی الأَرْضِ»11. فأصل جمیع المفاسد هو فی تلك الكلمة. فإذا لم نحبّ أن نكون فرعونیّین فما علینا إلاّ أن ننأى بأنفسنا عن السعی خلف العلوّ والتكبّر وأن نجتهد، عوضاً عن ذلك، فی أداء ما علینا من واجبات. نستخلص من ذلك أنّ قول الزهراء (علیها السلام): «مُنكِرَةً للهِ مَعَ عِرفَانِها» ینطلق من هذه النقطة وهی على الرغم من معرفة البعض بالله فلو انهم ارادوا طاعة الله فانّ رغبتهم فی التعالی لن یتمّ اشباعها.
إذن فما الذی كان ینبغی للنبیّ فعله فی ظروف كهذه؟ «فَأَنَارَ اللهُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ الْقُلُوبِ بُهَمَهَا، وَجَلَى عَنِ الأَبْصَارِ غُمَمَهَا» فقد بدّل الله بمحمّد (صلّى الله علیه وآله) الظلمات إلى نور، ورفع الإبهامات عن القلوب، وأزاح الحجُب القاتمة عن الأبصار. «وَقَامَ فِی النَّاسِ بِالْهِدَایَةِ، وَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْغَوَایَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ الْعَمَایَةِ»؛ فالسلاح الوحید الذی یمكن استخدامه من أجل هدایة الناس هو بیان الحقائق. لقد استخدم النبی فی هذه السبیل ثلاثة أصناف من الأسلحة، فقد أمره القرآن فی هذا المجال بهذا الأمر: «ادْعُ إِلَىٰ سَبِیلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ»12؛ فهو یأمره أوّلاً بأن یُشفع حدیثه بالدلیل المتقن كی لا یتسنّى للناس إنكار كلامه بسهولة. لكنّ هذا الاُسلوب غیر كاف لوحده من أجل تربیة الناس؛ ذلك أنّه أوّلاً: لیس لجمیع الناس القدرة على التمییز بین الدلیل الصحیح والغیر الصحیح، وثانیاً: قد تقبل أذهانهم بالدلیل من دون أن تمیل إلیه قلوبهم. لهذا فلابدّ من القیام بما من شأنه أن یحفّز دوافع الناس إلى القبول بالحقّ، والموعظة هی التی تتصدّى لهذا الدور الخطیر. فالموعظة تحرّك الأحاسیس والعواطف وتحفّز لدى المرء الدافع للعمل بما یعلم والاجتهاد فی سبیل فهم الحقیقة. فالموعظة تتعامل مع القلوب أمّا الاستدلال فیخاطب الأذهان والعقول. لكنّ الأمر لن ینتهی بالموعظة أیضاً. فقد تُطرح فی مقابل الأدلّة المتقنة شبهات تجعل عملیّة القبول بالدلیل عسیرة، وهذا ما یُبتلى به شبابنا الیوم أشدّ الابتلاء. فقد أدرك الأعداء أنّ المانع الوحید الذی یقف أمام تقدّمهم وتسلّطهم الظالم على العالم هو الإسلام، وأنّ الرمز الذی یمثّل الإسلام فی عصرنا الحاضر هو ولایة الفقیه؛ ولهذا فهم یسعون بشتّى الوسائل للنیل منها ومحوها من الوجود. لكن كیف یجب التعامل مع هذه المعضلة؟ فمن أجل محاربة هذه الظاهرة یتحتّم علینا طرح الشبهات والإجابة علیها بغیة إقناع الطرف المقابل؛ وهذا هو ما یُدعى بـ«الجدال». فالمراد من الآیة: «وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ» هو: ینبغی ان تطرح الشبهات، ثمّ تجیب علیها حتّى یقتنع المخاطب بكلامك. فقد لا یكون الجواب المعطى برهانیّاً لكنّه یكون مُقنعاً للطرف المقابل، وهذا هو الجدال بالتی هی أحسن.
فهذه الطرق الثلاثة هی التی یمكن من خلال الإفادة منها رفد الناس بالرؤیة الصائبة أو إتمام الحجّة علیهم على الأقل. ولحدّ هذه اللحظة فإنّ كلامنا ما زال یدور حول أصل الإسلام وتوضیح الدور الأوّلی للنبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) فی مواجهته للظلمات وبُهَم الشبهات؛ أمّا المسائل المتعلّقة بإدارة المجتمع الإسلامیّ وتنفیذ أحكام الإسلام الاجتماعیّة فإنّها تُطرح بعد أن یعتنق مجموعة من الناس الإسلام وبعد أن یعتقدوا بالأحكام الاجتماعیّة له. وحینئذ فقط یأتی الدور لطرح المباحث الاُخرى.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.
2. سورة المائدة، الآیة 99.
3. سورة النساء، الآیة 165.
4. نهج البلاغة، الخطبة 3.
5. سورة البقرة، الآیة 256.
6. سورة القصص، الآیة 38.
7. سورة الإسراء، الآیة 102.
8. سورة النمل، الآیة 14.
9. سورة القصص، الآیة 83.
10. عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) أنه قال: «إنّ الرجل لیُعجبه أن یكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فیدخل تحتها أی تحت الآیة: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِینَ لاَ یُرِیدُونَ عُلُوّاً فِی الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً»، (تفسیر نور الثقلین، ج4، ص144).
11. سورة القصص، الآیة 4.
12. سورة النحل، الآیة 125.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 1 أیلول 2010م الموافق للیلة الثانیة والعشرین من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
وصلنا فی شرحنا للخطبة المباركة لسیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) إلى المقطع الذی مفاده أنّه عندما بعث الله النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) بالرسالة وجد (صلّى الله علیه وآله) الناس متفرّقین فی أدیان ومذاهب شتّى انحرفت جمیعها بشكل أو بآخرـ عن جادّة الحقّ. ومن الملاحظات التی یمكن استنتاجها من هذا البیان هی أوّلاً: إنّ ما كان یشغل نبیّ الإسلام (صلّى الله علیه وآله) بالدرجة الاولى هی مسألة الدین أمّا المسائل الاُخرى، التی هی أعمّ من المشاكل الاجتماعیّة والاقتصادیّة، فكانت تأتی فی الدرجة الثانیة؛ أی إنّ ما یتعیّن الالتفات إلیه فی المرحلة الاولى هو أن یدین الإنسان بدین صحیح. ومن بین الأقسام المختلفة للدین أكّدت فاطمة الزهراء (علیها السلام) على قضیّة «عبادة الله»، فالانحراف الخطیر الذی كان مستفحلاً فی ذلك العصر هو انحراف الناس عن المسیر الصحیح لعبادة الله الواحد. والقرآن الكریم أیضاً یقول فی هذا الصدد: «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِی كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ»1.
ثانیاً: كانت رسالة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) تتلخّص فی تعلیم الناس طریق العبودیّة الصحیحة التی بیّنها الدین الإسلامیّ الحنیف والقرآن الكریم الأمر الذی یقود إلى انقشاع الظلمات وانواع الابهام وأشكال الضلالة عن المجتمع البشریّ. وهذا یعنی أنّ الطریق الصحیحة الوحیدة هی طریق أنبیاء الله (علیهم السلام) التی بُیّنت بشكلها الكامل بواسطة نبیّ الإسلام (صلّى الله علیه وآله). فهذه السبیل هی وحدها التی تمثّل الصراط المستقیم وكلّ ما سواها، حتّى وإن كان تحت شعار اتّباع نبیّ آخر، فلا قیمة له وهو لا یؤمّن للبشریّة أیّ شكل من أشكال السعادة؛ ومن هنا فهی (سلام الله علیها) تُنهی هذا المقطع بعبارة: «دعاهم إلى الصراط المستقیم». ونقدّم هنا توضیحاً لهذین المبحثین:
إنّ ما یتصدّر لائحة متطلّبات البشر فی الأهمّیة بغیة بلوغ السعادة هو معرفة الدین الحقّ الذی أساسه عبادة الله الواحد. فعبادة الله وحده هی القضیّة التی قد حازت أهمّیة بالغة لدى جمیع الأنبیاء وهی ما وضعه الله تعالى فی نظر الاعتبار لدى وضعه خطّة الخلقة، وقد بعث من أجلها الأنبیاء؛ لأنّ هذا الأمر یشكّل محور سعادة الإنسان، وإنّ توفّره هو الذی یمكّن الإنسان من بلوغ الهدف الذی خُلق من أجله.
بید أنّ هناك آراء مغایرة فی هذا المجال. فالبعض یعتقد: «أنّه صحیح أنّ الدین ضروریّ للبشر وأنّ الله قد بعث الأنبیاء أیضاً؛ غیر أنّ التوحید لم یكن هو الأصل فی دعوة الأنبیاء؛ بل إنّ أساس الدین هو أن یأتی الإنسان بالصالحات، وما الاعتقاد بالله الواحد إلاّ وسیلة لتعرّف الإنسان على السبیل القویم والعمل بموجبه. إذ لیس الهدف من عبادة الله الواحد هو الركوع والسجود وتحمّل ألم الجوع لفترة معیّنة؛ فأساس القضیّة هو أنّه من أجل أن یصل البشر إلى السعادة یتعین علیهم أن یكونوا صالحین ویجتنبوا الظلم والكذب والخیانة!».
هذا النمط من التفكیر متَفَشّ لدى الكثیر من الناس وحتّى بین صفوف المسلمین. وقد یخال المرء لأوّل وهلة أنّ هذا الاتّجاه الفكریّ لا یعدو كونه فكرة بسیطة من أفكار العوامّ؛ غیر أنّ هذه المسألة مطروحة فی المحافل الفلسفیّة والعلمیّة العالمیّة وهی تتلخّص فی أنّه: هل یمكن أساساً التحلّی بالأخلاق بعیداً عن الاعتقاد بالله وبمعزل عن الدین؟ منذ قرون بعیدة وكبار الفلاسفة الاوربّیین یبحثون فی هذا الموضوع.
حقیقةً ما هو الجواب على هذه المسألة؟ هل الاعتقاد بالله الواحد هو أصل فی الحقیقة، أم إنّه مجرّد وسیلة وأنّ المهمّ هو أن یكون سلوك الإنسان حسناً؟ وهذه المسألة ترتبط بمسألة أكثر جوهریّة؛ فالقائلون بإمكانیّة التحلّی بالأخلاق من دون دین هم غالباً ما یفتّشون عن الجانب التطبیقیّ للأخلاق ونتائجه فی هذه الدنیا؛ أی إنّ سعیهم یتّجه نحو الراحة والدعة فی الحیاة الدنیا، وإذا اتّسمت نظرتهم إلى الأخلاق بالحسن فذلك لإحساسهم بأنّ البشر إذا أصبحوا بأجمعهم صادقین ولم یخن أحدهم الآخر فسینعمون بحیاة هانئة ورغیدة، ففی هذه الحالة لن تكون هناك أی مشكلة حتّى مع انعدام الاعتقاد بالله. لكنّه عندما تأخذ رؤیتنا واعتقادنا وجهة اُخرى وهی أنّ الأساس فی هذه الحیاة هو أن یهیّئ المرء زاداً ومتاعاً لسفر الحیاة الأبدیّة فإنّنا سنفهم حینها أنّ مجرّد مراعاة الأخلاق الاجتماعیّة لن یقدّم حلاً لهذه القضیّة. فعلى فرض أنّ الإنسان بإمكانه أن یكون خلوقاً من دون أن یعتقد بالله تعالى وبالدین، فالسؤال هو: هل یوافق الإسلام أساساًـ على هذا الرأی؟ الإسلام یرى أنّ الخطوة الاُولى التی خطاها الأنبیاء كافّة والأصل المهمّ الذی ارتكزوا علیه هو عبادة الله الواحد؛ فالقرآن یقول: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِیَعْبُدُون»2؛ بمعنى أنّ السعادة الأبدیّة التی خُلق الإنسان من أجلها لا یمكن تحقّقها إلاّ عن طریق عبادة الله الواحد. فإن قبلنا بهذا الأصل فسوف نفهم أنّ معظم هذه الآراء لیس لها جذور إسلامیّة وهی من بصمات تغلغل الثقافات المعادیة.
قد یقال أحیاناً اخرى: «لقد ولّى زمن التبلیغ للإسلام أو لأیّ دین آخر وإنّه یتعیّن علینا أن نبلّغ للقیم الإنسانیّة العلیا!»، وهذا هو نفس الطراز الفكریّ الفائت الذكر «الأخلاق من دون الله» الذی كما أنّه باطل من الناحیة العقلیّة فهو لا ینسجم من الناحیة التطبیقیّة، بأیّ حال من الأحوالـ مع الاُسس الإسلامیّة. فالإسلام یقول: حتّى أفضل الأعمال فإنّها إن لم تُنجَز طاعةً لله فستتلاشى جمیعها فی الهواء كذرّات الغبار: «وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً»3، فهل قصد القرآن یاترى هو جعل أعمال المشركین السیئة هباءً منثوراً؟ فالمشركون أنفسهم لا یرجون من أعمالهم الرذیلة خیراً؛ إذن المراد من هذا الكلام هو: انّنا جعلنا أعمالهم، التی یظنّون أنّها حسنة وأنّها موجبة لنجاتهم، هباءً منثوراً، والسبب هو انّها فارغة من روح عبادة الله ولا تنبع من الإیمان به عزّ وجلّ. ومن هذا المنطلق تؤكّد السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) فی هذا المقطع على قضیّة الدین وعبادة الباری تبارك وتعالى وترى أنّ الأخطر من بین مهامّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) هی إزالة الشبهات التی تُطرح فی مجال التوحید.
المسألة الثانیة التی تُعدّ أخطر من سابقتها هی: هل إنّ فی تعدّد الأدیان من ضرر؟ فوجود الأدیان المتعدّدة فی العالم هو واقع كان موجوداً فی زمان النبیّ وهو موجود فی زماننا أیضاً، وإن كان أوسع بكثیر وأكثر انتشاراً فی عصرنا الحاضر. فأتباع البوذیّة یشكّلون أكبر نسبة من سكّان العالم وهناك عدّة ملیارات من البشر لا یعبدون الله الواحد. ففی وضع كهذا كیف یمكن التعامل مع هؤلاء؟
هناك آراء ورؤى متغایرة حول طریقة التعامل مع أتباع الأدیان المختلفة. فنحن نعتقد أنّ الدین الحقّ هو واحد وهو الدین الذی بعث الله الأنبیاء به بحیث إنّ كلّ نبیّ كان واجب الطاعة فی زمانه. لكنّه ثمّة فی العالم اتّجاهات فكریّة اُخرى، والأمر المؤسف أنّ بعض مجدّدینا قد اهتمّوا بهذه التوجّهات وصاروا یروّجون لها أیضاً.
فالبعض یعتقد بأنّ الدین هو قضیّة ذوقیّة؛ فهم یقولون: إنّ معتقداتنا تنقسم، من جانب معیّن، إلى قسمین رئیسیّین؛ القسم الأوّل هو الواقعیّات العینیّة والخارجیّة التی لا یتعلّق وجودها بنا، وإنّ العلوم المختلفة تحاول التعرّف على تلك الواقعیّات. أمّا القسم الآخر فهو الاُمور التی تتْبَع أذواقنا ورغباتنا؛ ففی فنّ الرسم مثلاً هناك مدارس مختلفة، فالبعض ینتهج المدرسة العاشقة للطبیعة، التی یقول دعاتها: إنّنا نحاول أن نعكس ما یوجد فی الطبیعة فعلاً على لوحة الرسم. أمّا أتباع الفنّ الحدیث فیقولون: إنّ أفضل الفنون هی أن تخلق ما لا یوجد فی الواقع. وفی هذه الحالة لیس باستطاعتنا أن نقول لمتّبع أیّ من مدارس الرسم تلك: لماذا أنت تحبّ هذه المدرسة وتنتهج نهجها؟ فسوف یكون جوابه: هذا ذوقی الخاصّ وأنا أحبّ هذه المدرسة. فهذه المسائل تتْبَع ذوق الإنسان ولیس لها واقع، بالضبط كما أنّنا لا نستطیع أن نكتشف من خلال الصیغة العلمیّة أنّه هل على الإنسان أن یحبّ الطماطم أم لا.
یعتقد هؤلاء أنّ مقولة الدین هی من هذا القبیل أیضاً؛ بمعنى أنّ هناك أدیاناً مختلفة ولكلّ منها أتباع، فبعضهم قد أحبّ الإسلام فصار مسلماً، والبعض الآخر رغب بالمسیحیّة، فأصبح نصرانیّاً، ولا ینطوی ذلك على خطأ أو صواب، ولا نستطیع القول لأیّ من هؤلاء: إنّك مصیب فی قولك، أو: إنّ الآخر هو المحقّ فی مذهبه. فالاعتقاد بالله هو مثل الشِعر لیس له حقیقة كی یُطرح على طاولة البحث!
فبالنسبة لحاملی هذا الطراز من التفكیر لیس هناك معنىً لدین حقّ أو دین باطل. وعلى هذا الأساس ظهرت إلى الوجود مدرسة فلسفیّة تدعى المدرسة التعدّدیة التی تتشعّب إلى فروع متعدّدة، إذ أنّ لها مصادیق فی السیاسة وفی الدین وكذا فی معظم فروع المعارف البشریّة الاُخرى.
العجیب أنّه قبل بضع سنوات قامت الحكومة فی بلدنا بتخصیص میزانیّة من أجل تأسیس أحزاب. ومع أن الأحزاب فی العالم هی التی تجمع المال من أجل یحصل مرشّحها على كرسیّ فی البرلمان أو حقیبة وزاریّة، إلاّ أنّ هؤلاء السادة فی بلدنا قد خصّصوا میزانیّة لتأسیس الأحزاب تحت شعار التعدّدیة وتنوّع الأصوات. هذا هو المصداق السیاسیّ للتعدّدیة، لكنّهم یرون أنّ هذا الأمر مقبول وحسن حتّى بالنسبة إلى الدین، والتبریر المنطقیّ حسب تصوّرهمـ لذلك هو أنّه عندما تكون هناك أدیان مختلفة فسوف تتاح الفرصة لاختیار أفضل. لكنّ المُخبّأ خلف الستار كان شیئاً آخر، بل إنّهم عندما خصّصوا تلك المیزانیّة أعطوا لأحد الأحزاب مقداراً یفوق المیزانیّة المخصّصة لتشكیل كلّ الأحزاب الاُخرى، فقد كان كل هذا السیناریو من أجل تأمین میزانیّة الحزب المذكور من أموال الحكومة وبیت المال. وقد أطلقوا على هذه التعدّدیة مصطلح البلورالزم (pluralism)، أمّا كلامهم فمفاده: إنّ روح جمیع الأدیان تمتاز بالنزعة المعنویّة. لیس هذا فحسب بل لقد حاول البعض فی بلدنا، لبضع سنین خلت، أن یستبدل عبارة المعنویّات بالإسلام! وهذه الآراء یعود تاریخها إلى قرون مضت، وعلى وجه التحدید فی الزمن الذی تأسّست فیه الحركات الماسونیّة فی اوربّا. وممّا یؤسف له أنّ هذه النغمة تُسمع الیوم أیضاً من بعض المسؤولین الرسمیّین فی البلاد، فقد یقال أحیاناً: علینا أن لا نطرح سوى المُثُل والقیم التی یشترك فیها جمیع البشر كالاُخوّة، والمساواة، والحبّ، وما شاكلها، إذ لم یَعُد الحدیث عن عبادة الله، والإله الواحد، والإسلام، والتشیّع، وما إلى ذلك ذا أهمّیة تُذكر، وهذا یقترب إلى حدّ كبیر من الشعارات التی یطلقها الماسونیّون ودعاة مدرسة التعدّدیة الدینیّة. فیجدر بالإنسان أن یتعامل مع مثل هذه الأفكار بمزید من الحذر والاحتیاط، كی لا نكتشف بعد عدّة سنوات لا سمح اللهـ أنّ الأعداء قد جعلوا لهم موطئ قدم فی داخل أجهزتنا الحكومیّة! فمنطق الإسلام هو: إنّ الدین الحقّ واحد وإنّ كل ما عداه هو ضلال: «فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ»4.
القضیّة الاُخرى فی هذا البحث هی كیفیّة التعامل مع الأدیان المختلفة والارتباط مع أتباعها؛ إذ أنّ البحث یحتوی على مسألتین: الاولى هی مسألة الاعتقاد والفكر، والثانیة هی مسألة العمل، ولابدّ من الفصل بین هاتین المرحلتین. فالإسلام لا یُقرّ الفكر الباطل بأیّ حال من الأحوال، حتّى لو كان بصورة المجاز. فهو حریص كلّ الحرص على الوقوف بوجه المجاز والهزل فی العقیدة كی لا یتحوّل شیئاً فشیئاً إلى الجدّ. هو یقول: اقطعوا دابر قول «نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ»5 من جذوره كی لا یأتی الیوم الذی تقولون فیه: لابدّ من الاعتقاد بأنّ عیسى هو ابن الله. فالإسلام لا یجیز بأیّ شكل من الأشكال أن تراودنی فكرة أنّه قد یكون هناك مبرّر لعبادة الأوثان على سبیل المثال. فلابدّ من تقویة عقائدنا الحقّة بالمبانی العقلیّة بحیث نجعل فی قلوبنا وعقائدنا وأفكارنا حاجزاً فولاذیّاً بین فكر التوحید وفكر الشرك كی لا یخطر حتّى خیال الشرك فی أذهاننا.
أمّا من ناحیة العمل فیتحتّم علینا أن نتحلّى بمنتهى الأخلاق الإنسانیّة مع جمیع سكّان العالم، اللهمّ إلاّ الذین یسعون جهاراً لمحو الإسلام ویعدّون العدّة لمعاداة الدین الحقّ. بل إنّ على الدولة الإسلامیّة أیضاً أن تعطی مقداراً من الزكاة للكفّار الذین یُرجى میلهم إلى الإسلام، إذ أنّه من هذا الطریق یمكننا جذب جماعة منهم إلى الدین الإسلامیّ. فإن نحن لم نتحلّ بهذه الصفات على صعید العمل فمَن الذی سیرغب فی اعتناق الإسلام؟ إذن لابدّ من الفصل بین هاتین القضیّتین، وهذا هو منطقنا حتّى فی التعامل مع الفرق الإسلامیّة الاُخرى. فبالنسبة لنا كما أنّ محبّة أهل البیت (علیهم السلام) مهمّة، فإنّ التبرّی من أعداء الإسلام یوازیها فی الأهمّیة؛ غیر أنّ أئمّتنا یوصوننا بأن: عاشروهم، وصلّوا فی الصفّ الأوّل من جماعتهم، وعودوهم إذا مرضوا، واشهدوا تشییع جنائزهم، وافعلوا لهم ما وسعكم من فعل الخیر كی تؤلّفوا قلوبهم: «عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، واشهدوا لهم وعلیهم، وصلّوا معهم فی مساجدهم...»؛ إذ أنّ بعض التصرّفات توجب العداوة. فهل من الفخر والمهارة أن یفعل المسلم ما یُبعّد الآخرین عن حقیقة الإسلام؟! فلیس هذا التصرّف من العقل فی شیء. بالطبع هذا لا یعنی أن نعتقد بقداسة من یقدّسونهم كما یعتقدون هم بذلك. فالإسلام یقول فی مقام البحث والاحتجاج مع أهل الكتاب: «قُلْ یَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَیْنَنَا وَبَیْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَیْئاً»6؛ أی هلمّوا نستهلّ البحث من الموضع الذی نقول نحن وتقولون أنتم: لابدّ من عبادة الله الواحد، تعالوا لتتأكّد ماهی لوازم هذا الاعتقاد؟ فإذا كان من الواجب أن نعبد إلهاً واحداً إذن یجب أن لا نعتقد بأرباب آخرین معه؛ فلا یمكن القول بأنّ الله الواحد له ولد! إذن تعالوا نشرع فی البحث من هذه النقطة مع مراعاة الاحترام والأدب. ثمّ حاولوا الاستمرار فی البحث إلى أن تثبتوا لهم حقّانیة دینكم وبطلان معتقدهم. فهل معنى الآیة یاترى أنّكم أیّها المسلمون علیكم الشكّ فی دینكم؟ هل یتعیّن أن یُقال: القرآن أیضاً قابل للنقد! ثمّ ندعی بعدها الإسلام والمعرفة بالإسلام؟!
لقد فصل عظماؤنا على طول التاریخ الإسلامیّ بین هاتین المسألتین بشكل كامل. ففی مقام البحث كانوا یُعمِلون غایة الدقّة ولم یكونوا یتغاضون حتّى عن حدیث واحد فی سبیل إثبات الحقّ؛ لكنّهم فی مقام العمل كانوا یعاشرون الآخرین بمنتهى الودّ والحفاوة بل ویكاتبونهم أیضاً.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. سورة النحل، الآیة 36.
2. سورة الذاریات، الآیة 56.
3. سورة الفرقان، الآیة 23.
4. سورة یونس، الآیة 32.
5. سورة المائدة، الآیة 18.
6. سورة آل عمران، الآیة 64.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 2 أیلول 2010م الموافق للیلة الثالثة والعشرین من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ إِلَیْهِ قَبْضَ رَأْفَةٍ وَاخْتِیَارٍ، وَرَغْبَةٍ وَإِیْثَارٍ فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ عَنْ تَعَبِ هَذِهِ الدَّارِ فِی رَاحَةٍ، قَدْ حُفَّ بِالْمَلائِكَةِ الأَبْرَارِ، وَرِضْوَانِ الرَّبِّ الْغَفَّارِ، وَمُجَاوَرَةِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ، صَلَّى اللهُ عَلَى أَبِی نَبِیِّهِ وَأَمِینِهِ عَلَى الْوَحْیِ وَصَفِیِّهِ وَخِیَرَتِهِ مِنَ الْخَلْقِ وَرَضِیِّهِ، وَالسَّلامُ عَلَیْهِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه»1
بعد شهادة السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) برسالة أبیها (صلّى الله علیه وآله) وبیان الدور الذی نهض به فی هدایة الناس تقول: «ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ إِلَیْهِ قَبْضَ رَأْفَةٍ وَاخْتِیَارٍ، وَرَغْبَةٍ وَإِیْثَارٍ». وقد ذهب بعض شُرّاح الخطبة الشریفة إلى أنّ الرغبة والإیثار فی كلامها (سلام الله علیها) كانا من جانب النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) بمعنى: انّ الله قد قبض روحه برأفة وهو قد نبذ الدنیا ورجّح الحیاة عند الله على الحیاة الدنیا؛ أی لم تكن ثمّة بوادر عدم الرضا عند أیٍّ من الطرفین. فالله عزّ وجلّ من جهةـ أراد أخذه من عالم الدنیا وإنقاذه من ابتلاءاته، وهو أیضاً من جهة اخرى ـ كان راغباً فی الإیاب إلى الله مختاراً له. ثمّ تُضیف (علیها السلام): فقد ارتاح أبی من تعب هذه الدنیا وهو محاط بملائكة الله الأبرار ومشمول برضوان الربّ الغفّار لیذهب إلى جوار الإله المتعال. ثمّ تصلّی بعد ذلك على أبیها بهذه الكیفیّة: «صَلَّى اللهُ عَلَى أَبِی نَبِیِّهِ وَأَمِینِهِ عَلَى الْوَحْیِ وَصَفِیِّهِ وَخِیَرَتِهِ مِنَ الْخَلْقِ وَرَضِیِّهِ، وَالسَّلامُ عَلَیْهِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه».
نستشفّ من هذه العبارات بضعة اُمور؛ منها: انّ رسول الله (صلّى الله علیه وآله) كان راغباً فی لقاء ربّه ولم یكن ذلك مفروضاً علیه. لكنّ الأهمّ من ذلك هو قولها (علیها السلام): إنّه (صلّى الله علیه وآله) كان قد ارتاح من تعب الدنیا وهو محاط بملائكة الله. ولیس لأحد قول ذلك إلاّ أن یمتلك من العلم ما یفوق الذی عند الأشخاص العادیّین منه. فمعنى قولها هذا هو: انّنی أعلم، بل لقد رأیت أنّ الملائكة كانت تحفّ به. فكأنّها أرادت أن تشیر فی قولها هذا إلى: أنّ ما نعرفه نحن وما لدینا من المعلومات لیس هو من سنخ ما لدیكم.
یا ترى هل یتعیّن على الإنسان أن یحبّ الموت والانتقال عن هذا العالم، وأن یجتهد دوماً فی طلب الموت؟ أم على العكس، لابدّ أن یحبّ الحیاة الدنیا، على الأقلّ بعنوان كونها نعمة معطاة من الله، فیكون نتیجة لذلكـ كارهاً للموت؟
عند التفتیش فی كلمات أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین) نلاحظ حیناً ـ ما یدلّ على أنّهم كانوا شدیدی الرغبة فی لقاء الله، والذی تستلزمه هذه المرتبة من اللقاء هو الرحیل عن هذا العالم. لكنّنا نلاحظ ـ حیناً آخرـ فی بعض أدعیتهم (علیهم السلام) أنّهم كانوا یسألون الله طول العمر. ویبدو للوهلة الاُولى، إذا نظرنا إلى المسألة نظرة سطحیّة، أنّ الجمع بین هذین الأمرین مشكِل بعض الشیء. فعندما یطرق مسامعنا أنّ الزهراء (سلام الله علیها) كانت تدعو الله أن یقبض روحها، أو أنّ أمیر المؤمنین (علیه السلام) قد دعا الله عزّ وجلّ أن یأخذه ویخلّصه من هؤلاء القوم، فقد نتوهّم أنّ حالة الضیق التی حلّت بهما كانت من الشدّة بحیث دفعتهما إلى الرضا بموتهما! لكنّ تصوّراً كهذا لا یعدو كونه تصوّراً ساذجاً.
بعض آیات الذكر الحكیم تدلّ على أنّ من صفات أولیاء الله تمنّی الموت. فمن أجل إثبات كذب مَن یزعم كاذباً أنّه ولیّ لله یقول القرآن الكریم: «قُلْ یَا أَیُّهَا الَّذِینَ هَادُواْ إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِیَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِین»2؛ حیث یُستشفّ من ذلك أنّ كون المرء ولیّاً لله هو ملازم لتمنّی الموت. إذن فتمنّی أولیاء الله للموت لیس هو للخلاص من العذاب والبلاء والمعاناة.
یقول الباری عزّ وجلّ فی حدیث قدسیّ: «لا یزال عبدی یتقرّب إلیّ بالنوافل مخلصاً لی حتّى اُحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذی یسمع به، وبصره الذی یبصر به، ویده التی یبطش بها»3. فعندما تعظُم عبادة العبد لربّه ویسلّم له تسلیماً محضاً لا تعود له إرادة من نفسه، ولن تمرّ علیه لحظة من دون التفكیر بما یرید الله منه كی یبادر إلى إنجازه، فهو لا یفكّر بما تریده نفسه. فإذا بلغ هذا المبلغ فانّ الله سیصبح عینه وسمعه، وسیعتنی عنایة خاصّة بتدبیر شؤونه. ولا ریب أنّ الأئمّة الأطهار (سلام الله علیهم أجمعین) هم المصداق الأبرز لهذا المعنى، فهم لا یشاءون إلاّ ما یشاء الله. فقد ورد فی الخبر أنّ: «قلوبنا أوعیة لمشیّة الله فإذا شاءَ شِئنا»4. فالذین لا یریدون شیئاً من أنفسهم ولا یرغبون إلاّ أن یكونوا عباداً لله فإنّ الله یجعل من قلوبهم أوعیة لمشیئته؛ بمعنى أنّ كلّ ما یریده الله یتبلور فی قلوبهم. وفی هذه الحالة سیتولّد لدیهم، بمعونة الإلهام الإلهیّ، اطمئنان من أنّ كلّ ما یخطر فی قلوبهم فهو متناغم مع مشیئة الله. فإذا سأل أمثال هؤلاء الموتَ أو الحیاة فمعناه أنّ الله هو الذی أراد ذلك.
اُصولاً، هل الإنسان بالفطرة طالب للحیاة أم للموت؟ لا شكّ ولا ریب أنّ الإنسان یحبّ وجوده ویرغب فی كمال نفسه، فهو لا یرضى بالنقص أو الفناء بأیّ حال من الأحوال. لكنّ البعض یتصوّر أنّ وجوده وحیاته متمثّل فی هذه الحیاة الدنیا، وأنّ الموت هو عدم وفناء. فإن كانت رؤیة المرء هی هذه فهو لن یتمنّى الموت إطلاقاً وسیتمنّى البقاء على قید الحیاة أطول ما یمكن. وقد یتوهّم إنسان كهذا، بسبب ما یقاسیه من مشاقّ الحیاة، أنّه سیرتاح من هذه المحن ویهدأ باله إذا فارق الدنیا، ممّا قد یدفعه إلى الانتحار. غیر أنّ هذا التفكیر خاطئ؛ هذا وإنْ كان الإنسان، حتّى فی هذه الحالة، یسعى وراء راحته أیضاً. لكنّه على أساس الرؤیة المادّیة، فإنّه ما من وجه معقول أبداً لمحبّة الموت.
أمّا إذا اعتقد المرء بوجود عالم آخر بعد هذا العالم، وأنّ العالم الآخر لیس أنّه یمثّل جزءاً من الحیاة فحسب، بل إنّ الحیاة الحقیقیّة هی فیه: «وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِیَ الْحَیَوَانُ»5، وأنّ لذّات ذلك العالم غیر قابلة للقیاس مع لذّات هذه الحیاة الدنیا، فبطبیعة الحال سیحبّ مثل هذا الإنسان الحیاةَ فی ذلك العالم أكثر، لاسیّما إذا حظی بنفحة من الحبّ لله تعالى وهو یعلم أنّ انتفاعه من المظاهر الإلهیّة سیزداد فی ذلك العالم، فسیكون لقاء المحبوب ذا قیمة أكبر بالنسبة له وسینتاب قلبه الشوق للوصول إلیه. وهذه علاقة طبیعیّة. فإن كان المرء رفیقاً لله، فسیحبّ لقاءه عزّ وجلّ. فمن غیر الممكن أن یحبّ المرء أحداً ولا یحبّ لقاءه، لأنّه فی هذه الحالة لن یكون صادقاً فی محبّته.
لو أنّنا فتّشنا فی أعماق قلوبنا لاكتشفنا أنّنا غیر راغبین فی الرحیل عن هذا العالم على الرغم من اعتقادنا بعالم الآخرة وأوصافه ومحبّتنا لله وأهل البیت (علیهم السلام). بل إنّ اسم الموت قد یزعج البعض أحیاناً، وإذا شاهد أمثال هؤلاء من یحبّ الموت اعتبروه إنساناً غیر سویّ ومصاب بخلل نفسیّ. فما السرّ وراء هذه الحالات؟
سأل رجل أبا ذرّ فقال له: یا أبا ذرّ ما لنا نكره الموت؟ قال: «لأنّكم عمّرتم الدنیا، وخرّبتم الآخرة فتكرهون أن تنتقلوا من عمران إلى خراب»6. فالناس العادیّون على الرغم من اعتقادهم بوجود الآخرة وما فیها من الأجر، إلاّ أنّهم یخشون الموت لأنّهم لا یعلمون إن كانوا سیصیبون هذا الثواب أم لا.
أمّا الوجه الآخر لهذا القلق، الذی یبدو معقولاً أكثر، فهو رغبتنا فی التزوّد بالمتاع من أجل الآخرة والتكفیر عن الذنوب، فعندما نشاهد خطوات الموت تقترب منّا نشعر بضیاع هذه الفرصة من أیدینا. فنحن نودّ لو بقینا على قید الحیاة كی نأتی بالمزید من الصالحات ونعوّض عمّا فاتنا خلال أعمارنا. فهذان العاملان المتضادّان؛ وهما جاذبیّة النعم الاخرویّة والقرب الإلهیّ من جهة، وتمنّی الإتیان بصالح الأعمال من جهة اُخرى تؤثّر فینا دوماً تأثیراً متضادّاً. فالأوّل یدفع باتّجاه حبّ الموت، والآخر یسوق صوب حبّ الدنیا. وقد یتساوى أحیاناً هذان العاملان فی القوّة إلى درجة التردّد بینهما إذا كان لابدّ من اختیار أحدهما.
فی حدیث قدسیّ معتبر یقول الباری جلّ وعلا: «ما تردّدتُ فی شیءٍ أنا فاعله ما تردّدت فی قبض نفس المؤمن یكره الموت وأكره مساءته ولابدّ له منه»7؛ فأنا أعلم ـ من ناحیةـ أنّ خیر المؤمن یكمن فی الرحیل عن هذه الدنیا لكنّه یكره الموت، وأنا لا اُرید إیذاءه والإساءة إلیه. بطبیعة الحال إنّ الله لا یتردّد فی شیء، لكنّ تعبیراً كهذا یشیر إلى أنّ الحكمة من وراء الأمرین هما على جانب من التشابه والتساوی ممّا یدعوا إلى التردّد. والمُلفت للنظر أنّه على أساس هذه الروایة ورد دعاء تُستحبّ قراءته عقیب كلّ صلاة: «اللهمّ إنّ رسولك الصادق المصدّق صلواتك علیه وآله قال إنّك قلت ما تردّدت فی شیء أنا فاعله كتردّدی فی قبض روح عبدی المؤمن یكره الموت وأنا أكره مساءته، اللهمّ فصلّ على محمّد وآل محمّد وعجّل لأولیائك الفرج والنصر والعافیة ولا تسؤنی فی نفسی»8، فإنّ مَن یواظب على هذا الدعاء بعد كل فریضة یجنّبه الله تعالى موت الفجأة.
إذن على أساس إیماننا فإنّه یتحتّم علینا ـ أصالةً ـ حبّ الآخرة؛ لكنّنا، على أیّ حال، مبتلون بالقصور والتقصیر ونرجو أن نتمكّن من جبرانه قدر المستطاع؛ ولهذا فإنّنا لا نحبّ الموت كثیراً. ومن هنا فإنّ عدم حبّ الموت بالعرض معقولٌ أیضاً بالنسبة للمؤمن؛ وبالطبع فإنّ طلب طول العمر إذا ترافق مع السلامة فی الدین فهو أمر معقول. فهذه نعمة یمنّ الله بها على الإنسان بحیث یمنحه فرصةً أكبر للطاعة.
إذا كان المرء محبّاً لله حقّاً فسیكون البقاء فی الدنیا مطلوبه بالعرَض، وهذا البقاء سیكون بمثابة الریاضة بالنسبة له. فالمحبّ یحبّ وصل الحبیب؛ أمّا إذا كان المحبوب هو الراغب بالفراق فإنّه یقدّم مشیئة المحبوب على مشیئته. فإن قال له: إذهب! فلا بأس بتحمّل فراقه لبضعة أیّام اُخر؛ لكنّ الفراق شاقّ علیه، ولابدّ أن یتجشّم عناءه كریاضة روحیّة. فالمؤمن أصالةًـ یحبّ قرب الله تعالى، ولا یودّ فراقه ولو للحظة واحدة. فهو یحبّ أعلى درجات القرب من الله عزّ وجلّ ولا یتیسّر مثل هذا القرب فی هذا العالم؛ فمادامت الروح متعلّقة بالبدن ومشغولة بتدبیر شؤونه فلن تستطیع الاستغراق دوماً فی مشاهدة المحبوب والالتذاذ بقربه. فمن لوازم هذا الاشتغال بالمحبوب أن لا تتوجّه الروح أساساًـ للبدن وأن تنسى الطعام والشراب بل والتنفّس أیضاً. ولعلّ ما ذُكر هو أحد مصادیق الموت الاختیاریّ. ومن هذا المنطلق فإنّ البقاء فی الدنیا بالنسبة لهؤلاء یُعدّ ریاضة.
إذن فالجواب على سؤال أنّه: هل على الإنسان أن یحبّ الموت أم البقاء فی الدنیا؟ هو كالتالی: بالنسبة لأولیاء الله المخلَصین الذین لا یساورهم شكّ فی أنّهم إذا فارقوا الدنیا فسیُشمَلون بالعنایات الإلهیّة الخاصّة، فلا ریب أنّ مرادهم الحقیقیّ والأصیل هو بلوغ ذلك العالم وإنّ بقاءهم فی هذه الدنیا هو بمثابة تجشّم مشقّة الریاضة الروحیّة لا غیر. فأمیر المؤمنین (سلام الله علیه) یقول: «والله لابنُ أبی طالب آنَس بالموت من الطفل بثدی اُمّه»9؛ أی: من جهتی، فإنّ البقاء على قید الحیاة هو بالعرَض وبمنزلة الریاضة وأنا أقبل به لأنّ إرادة الله تعالى هی التی تقتضیه، وإلاّ فإنّی راغب بالرحیل إلى ذلك العالم كی یتسنّى لی الاُنس بالله أكثر.
أمّا إذا أراد المؤمن أن یعمّر فی الدنیا أكثر، فلا ضیر فی ذلك. فما دمنا نشكوا التقصیر ولا ندری إذا كان قد تمّ تلافیه أم لا، فنحن نرجو أن یشملنا الله ببركة اسم أمیر المؤمنین (علیه السلام) والمشاركة فی مجالس ذكرهـ بعنایته بل ویوفّقنا للتوبة وجبران ما فات كی نكون على اُهبة الاستعداد للرحیل نحو الآخرة. فمثل هذا الطلب فی إطالة العمر المترافق مع العبادة وأداء التكلیف هو أمر مطلوب؛ لكنّ مطلوبیّته هی أمر ثانویّ؛ أی ما دام أنّه یؤدّی إلى إعمار الآخرة فهو مطلوب؛ فإن رجى المرء طول العمر من أجل الاستمرار فی أخطائه وآثامه، فلن یكون هذا الأمر مطلوباً.
من هنا فإنّ السرّ فی محبّة المؤمن الحقیقیّ للموت هو أنّ الاُنس مع المحبوب ومشاهدة تجلّیاته وكذا الاُنس مع أولیاء الله الصالحین هو أكثر یسراً فی ذلك العالم. یروی المرحوم الشیخ غلام رضا فقیه الخراسانیّ وهو من كبار علماء یزد خبراً مفاده: أنّ المؤمنین فی الجنّة یكونون متنعّمین بنعیم ربّهم فإذا بنور ساطع یملأ سناه أرجاء الجنّة، فتصیبهم الدهشة من شدّة ابتهاجهم لرؤیة ذلك النور. فإذا انتهت حالة الدهشة سألوا: ما كان ذلك النور؟ فیقال: كان ذلك بفعل ابتسامة فاطمة (سلام الله علیها) فی وجه أمیر المؤمنین (علیه السلام). فبشعاع لحظة خاصّة من الحیاة المشتركة لفاطمة وعلیّ (علیهما السلام) یتنعّم هؤلاء المؤمنون أیضاً. ألیس ذلك ممّا یُحَبّ ویُرجى؟ ألا ینبغی للمرء أن یتمنّى الذهاب إلى حیث یتنعّم بمثل هذا النعیم؟
لكنّ المشكلة هی: أنّى لنا أن نعلم أنّه سیُفسح لنا المجال بالذهاب إلى هناك؟ فأكثر ما یدعو إلى الأمل والرجاء هو حبّ أهل البیت (علیهم السلام)، ولیس صلواتنا أو صیامنا أو عباداتنا؛ فلیس من المعلوم أنّها ستُقبل. فنحن لم نكتسب هذه المحبّة ولم نَشْقَ من أجلها، بل إنّها هدیّة من الله تعالى. نسأل الله أن یُعلی من درجات آبائنا واُمّهاتنا وأساتذتنا وعلمائنا بأن هیّأوا لنا مقدّمات هذه المعرفة وهذا الحبّ؛ أمّا المحبّة نفسها فهی هدیة ربّانیة، ویمكننا القول: اللهمّ إنّ هذا الحبّ الذی وهبتَنا أنت إیّاه علامة على أنّ إرادة خیرٍ موجودة فینا؛ فاجعلنا ببركة أهل بیت نبیّك (علیهم السلام)، محطّ مغفرتك ورحمتك، بمشیئتك یا ربّ العالمین.
1. بلاغات النساء، ص27؛ وبحار الأنوار، ج29، ص220.
2. سورة الجمعة، الآیة 6.
3. إرشاد القلوب، ج1، ص91.
4. بحار الأنوار، ج25، ص336.
5. سورة العنكبوت، الآیة 64.
6. إرشاد القلوب، ج1، ص182.
7. بحار الأنوار، ج67، ص16.
8. مكارم الأخلاق، ص284.
9. بحار الأنوار، ج28، ص234.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 3 أیلول 2010م الموافق للیلة الرابعة والعشرین من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«... ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَى أَهْلِ الْمَجْلِسِ، وَقَالَتْ: أَنْتُمْ عِبَادَ اللهِ نُصُبُ أَمْرِهِ وَنَهْیِهِ، وَحَمَلَةُ دِینِهِ وَوَحْیِهِ، وَأُمَنَاءُ اللهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَبُلَغَاؤُهُ إِلَى الأُمَمِ حَولَكُمْ، وَزَعِیمُ حَقٍّ له فِیكُمْ، وَعَهْدٌ قَدَّمَهُ إِلَیْكُمْ، وَبَقِیَّةٌ اسْتَخْلَفَهَا عَلَیْكُمْ، كِتَابُ اللهِ النَّاطِقُ، وَالْقُرْآنُ الصَّادِقُ، وَالنُّورُ السَّاطِعُ، وَالضِّیَاءُ اللاّمِعُ، بَیِّنَةٌ بَصَائِرُهُ، مُنْكَشِفَةٌ سَرَائِرُهُ، مُتَجَلِّیَةٌ ظَوَاهِرُهُ، مُغْتَبِطَةٌ بِهِ أَشْیَاعُه، قَائِدٌ إِلَى الرِّضْوَانِ اتِّبَاعُهُ، مُؤَدٍّ إِلَى النَّجَاةِ اسْتِمَاعُهُ، بِهِ تُنَالُ حُجَجُ اللهِ الْمُنَوَّرَةُ، وَعَزَائِمُهُ الْمُفَسَّرَةُ، وَمَحَارِمُهُ الْمُحَذَّرَةُ، وَبَیِّنَاتُهُ الْجَالِیَةُ، وَبَرَاهِینُهُ الْكَافِیَة»
تنقسم الخطبة المباركة لسیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) إلى بضعة أقسام عامّة، القسم الأوّل منها یتضمّن الحمد لله والثناء علیه والشهادة برسالة النبیّ الخاتم (صلّى الله علیه وآله) مع بیان الدور الذی نهض به (صلّى الله علیه وآله) فی هدایة الناس، وهو ما تمّ توضیحه لحدّ الآن. ثمّ توجّه (علیها السلام) خطابها إلى الناس لتعرّج، بعد توضیح المسؤولیّات الملقاة على عاتقهم، على بیان بعض أوصاف القرآن الكریم وجانب من أسراره العامّة، وهذا بمجموعه یشكّل القسم الثانی من الخطبة.
«أَنْتُمْ عِبَادَ اللهِ نُصُبُ أَمْرِهِ وَنَهْیِهِ». كان یمكن للزهراء (سلام الله علیها) عوضاً عن قولها: «عباد الله» أن تقول: «أیّها المؤمنون»، أو: «أیّها المهاجرون والأنصار»؛ لكنّها قالت: «عباد الله»، ولعلّ الالتفاتة من وراء هذا الاختیار هی تنبیه القوم بدایةً إلى مسؤولیّتهم المتمثّلة فی العبودیّة قائلة لهم: یجب على العبد أن یكون مطیعاً لمولاه. فلیست القضیّة أنّكم مستقلّون، وبوسعكم التصرّف وفقاً لرغباتكم، وتأمیر من تشاءون من الخلق علیكم، بل یجب أن تنظروا فیما كلّفكم الله تعالى به.
«النُّصُب» هی جمع «نُصْب» وهو ما برز أمام العین، ونَصْب العلامة أیضاً مشتقّ من هذه المادّة حیث قد تكون له مآرب شتّى؛ فحیناً یتمثّل بعلامات المرور المنصوبة فی الشوارع من أجل هدایة مستخدمی الطرُق والشوارع إلى مقاصدهم، وطوراً تُستعمل فی السباقات لإظهار خطّ النهایة؛ وقد استُخدمت فی القرآن الكریم بهذا المعنى حیث یقول عزّ من قائل: «یَوْمَ یَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ یُوفِضُونَ»1؛ أی إنّ شدّة انتشار الناس یوم القیامة وسرعة سیرهم توحی وكأنّهم یتسابقون نحو هدف معیّن.
ویمكن هنا طرح تعلیلین لمخاطبة الزهراء (علیها السلام) للناس بالنصب: الأوّل هو كما أنّ هدف السباق یكون محطّ الأنظار وأنّ الناس یهرعون إلیه، فإنّ أوامر الله ونواهیه قد اُنزلت علیكم فكأنّكم خطّ نهایة السباق بالنسبة لها؛ إذ یقول القرآن الكریم: «وَكَذَلِكَ أَوْحَیْنَا إِلَیْكَ قُرْءَاناً عَرَبِیّاً لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا»2، بمعنى أنّ أهل مكّة وضواحیها هم المخاطبون بالقرآن بالدرجة الاُولى. فعندما تقول (علیها السلام): إنّكم نصب أوامر الله ونواهیه فهذا یعنی: انّكم أوّل المخاطبین بهذه الأوامر والنواهی. أمّا الاحتمال الثانی فهو أنّ النُّصُب تعنی العلامات الدالّة والهادیة؛ لیكون المعنى: انّكم معالم أوامر الله ونواهیه؛ أی أنتم من یجب علیه إبلاغ أوامر ونواهی الباری تعالى إلى الآخرین؛ لكن یبدو أنّ الاحتمال الأوّل أقوى.
«حَمَلَةُ دِینِهِ وَوَحْیِهِ». وأنتم أیضاً حملة دین الله ووحیه. فقد نزل الوحی على رسول الله (صلّى الله علیه وآله) لكنّ النبیّ قد وضع محتویات الوحی بین أیدیكم. فانتم حملة الدین، وإنّ فی رقبتكم واجب حفظ هذه الأمانة.
«وَأُمَنَاءُ اللهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَبُلَغَاؤُهُ إِلَى الأُمَمِ حَولَكُمْ». فبالنسبة لهذا الدین الذی وُضع أمانة فی أعناقكم یجب علیكم أوّلاً: أن تحفظوه بین أنفسكم؛ أی أن تطبّقوا أحكام الإسلام على أرض الواقع فی مجتمعكم الإسلامیّ وتحافظوا على المُثُل الإلهیّة، وثانیاً: أن تبلّغوه إلى الاُمم الاُخرى من حولكم.
ثمّ تتابع (سلام الله علیها) القول: لقد أودع النبیّ الكریم (صلّى الله علیه وآله) عندكم ودیعة إلهیّة وترك فیكم میراثاً عظیماً ألا وهو القرآن الكریم. فاعلموا أنّه یتعیّن علیكم الرجوع إلى كتاب الله فی معرفة أمر الله ونهیه، وتشخیص ما أنتم مكلّفون به، واستظهار كیفیّة العمل بالدین وإبلاغه.
عندما نقول: نحن مكلّفون بقبول الإسلام والعمل به، یتبادر إلى الذهن السؤال التالی: ما هو الإسلام؟ الإسلام هو التصدیق والإیمان بحقّانیة ما جاء به النبیّ (صلّى الله علیه وآله). فمن واجبنا الاعتقاد بتعالیم الإسلام العقائدیّة، والعمل بأوامره العملیّة. لكنّنا بعد مضیّ 1400 سنة، وبعد كلّ ما قاساه الرسول الأعظم (صلّى الله علیه وآله) وأئمّتنا الأطهار (صلوات الله علیهم أجمعین) وعلماؤنا الأعلام من متاعب على طول أربعة عشر قرناً من الزمن، لازلنا غیر عارفین بكلّ ما فی أعناقنا من واجبات اجتماعیّة. فمعظمنا یعتقد بأنّه إذا تعلّم ما علیه من تكالیف فردیّة وعمل بها فلن یعود مسؤولاً. لكنّ هذا الطراز من التفكیر یؤدّی إلى ضعف المجتمع وظهور حالة الهشاشة فیه. إذ بمعزل عن التكالیف الفردیّة فإنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر هو من واجبنا أیضاً. ففضلاً عن عملنا نحن بأحكام الدین، علینا مراقبة عمل الآخرین بها أیضاً. فواجب الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر هو واحد من ضروریّات الدین وفرع من فروعه، بحیث إنّ الشاكّ فی وجوبه هو كالشاكّ فی أصل الإسلام، وإنّ المنكِر له كالمنكِر لضرورة من ضروریّات الدین وهو ممّا یوجب الارتداد. لقد تمّ التأكید بشدّة فی القرآن الكریم وأحادیث أهل البیت (علیهم السلام) على هذه الفریضة حتّى عدّوها من أخطر فرائض الدین. یقول الإمام الباقر (علیه السلام): «إنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر فریضة عظیمة بها تُقام الفرائض»3. فهذه الفریضة هی أوّل واجب ملقىً علینا تجاه الآخرین، لكنّ تكلیفنا لا ینتهی عند هذا الحدّ. فواجبنا الثانی هو إیصال هذه الأمانة، ألا وهی الإسلام، إلى أهلها؛ فالله یقول فی كتابه العزیز: «إِنَّ اللهَ یَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا»4؛ وأهلها هم كلّ من هو بحاجة إلى الإسلام. فالإسلام قد نزل لجمیع البشر: «لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ»5، وهو رحمة أفاضها الله تعالى لتتنعّم بها البشریّة قاطبة.
إنّ لهذا الواجب سلسلة من المراتب؛ فالنبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) قد أبلغ الإسلام إلى معاصریه، وإنّ أهل مكّة ومن حولها قد أخذوا منه (صلّى الله علیه وآله) وأبلغوه إلى باقی البلدان. ثمّ تعهّد الأئمّة الطاهرون (علیهم السلام) بحمل الرسالة من بعد النبیّ لیوكلوا المهمّة فی النهایة إلى العلماء وسائر الناس. وفی هذا العصر فإنّ الناس هم المسؤولون عن حمل هذه الأمانة وإیصالها إلى سائر البشر، وإنْ هم تقاعسوا فی إیصالها إلى أهلها یكونون قد قصّروا فی أداء الأمانة بل وخانوها أیضاً.
إنّنا غیر واعین إلى حقیقة أنّ هذه المسؤولیّة ملقاة على كواهلنا نحن. بالطبع إنّ لهذه المسؤولیّة مراتب كمراتب الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر. فعامّة الناس یتصوّرون أنّ إبلاغ الدین هو واجب العلماء؛ لكنّه لیست القضیّة أنّ شریحة من الناس قد عُیِّنوا لأداء واجب إبلاغ الدین وأنّه ساقط عن الآخرین، بل إنّ العلماء قد نهضوا بهذه المسؤولیّة طواعیة وقضوا أعمارهم فی هذا الطریق؛ لكنّه إذا لم یَفِ هذا المقدار بالغرض فإنّ الآخرین مسؤولون أیضاً. فإبلاغ الدین هو أشبه ما یكون بالجهاد؛ بمعنى أنّه إذا اضطلعت جماعة بالمسؤولیّة بما یفی بالحاجة والغرض فإنّها تسقط عن الباقین، وإلاّ فالكلّ مسؤول.
إنّنی أوجّه سؤالی هنا إلى علماء الدین وأقول لهم: كم من الوقت شغلنا أنفسنا بالتفكیر فی هذا الموضوع، وهو أنّ من واجبنا السفر إلى أفریقیا، وأمریكا الجنوبیّة، وغیرهما من أجل تعریف أهالیها بالإسلام؟ هناك الملیارات من البشر على وجه الأرض متعطّشون لمعرفة الحقیقة. فلیس جمیع هؤلاء أعداء للإسلام، ومستعمرین، وصهاینة. فهناك الكثیرون ممّن یتلقّى الدعوة السلیمة بأذرع مفتوحة. أنا شخصیّاً ومن خلال الأسفار التی قمت بها إلى ما یقارب الأربعین بلداً فی العالم أشهد أنّنی لمست حقیقة أنّ الناس متعطّشون لمعرفة الحقیقة لمس الید، وإنّ عطشهم هذا یُثقل كاهلنا بمسؤولیّة أعظم وهی إرواء هذا العطش. السیّد مجتبى الموسویّ اللاریّ (حفظه الله تعالى وكثّر الله من أمثاله) منذ أكثر من ثلاثین عاماً، وعلى رغم تحمّله أعباء المرض وغیاب التمویل المالیّ، فإنّه یقیم تواصلاً مع أكثر من مائة بلد فی العالم، ومراسلات بما یزید على أربعین لغة مع أهلها. إنّ هذا المثال لهو حجّة لله علینا. للأسف فإنّنا نشكوا التقصیر فی هذا المجال. إنّنی أوجّه خطابی لشبابنا الأعزّاء المقبلین بقلوبهم الطاهرة النقیّة على طلب العلم قائلاً لهم: اعلموا أنّ واجبنا یتخطّى تصحیح قراءة رجل قرویّ للحمد والسورة على الرغم من كونه واجباً أیضاً؛ لكنّ فی أعناقنا واجباً أثقل وأخطر. فإنّ علینا تعلّم اللغات المختلفة، وتبیین المعارف الإسلامیّة المتقنة والمستدلّة ولیس المباحث الذوقیّة والظنّیة الضعیفة أحیاناًـ لشعوب العالم بما یفهمونه من لغة آخذین بنظر الاعتبار الأجواء الثقافیّة السائدة، لا أن یكون بیاننا مجرّد ترجمة لما هو موجود. فمولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) تقول فی هذه الجملة القصیرة: إنّ من جانبـ أن تحفظوا الأمانة الإلهیّة فی أنفسكم فلا تضعُفوا ولا تهنوا، وعلیكم من جانب آخرـ تبلیغ رسالة الإسلام إلى ما وراء حدود بلدانكم.
ثمّ تعرّج سیّدتنا الزهراء (علیها السلام) إلى دور القرآن الكریم فی المجتمع الإسلامیّ. وهنا أودّ الإشارة إلى نقطة مهمّة؛ فلو أنّها قالت أوّلاً: اتّبعوا أمیر المؤمنین (علیه السلام) والأئمّة المعصومین (علیهم السلام)، ما كانوا لیسمعوا كلامها. فهی قد قدّمت كلّ تلك المقدّمات واحتجّت بكلّ تلك الاحتجاجات من أجل إفهامهم أنّكم قد سلكتم الطریق الخطأ فی إقصائكم لعلیّ جانباً. فإنّ على رأس الاُمور التی من شأنها تمهید الأرضیّة للاحتجاج والمساعدة فی هدایة الناس هو القرآن الكریم. لكنّها (علیها السلام) قد بیّنت هذا المعنى باسلوب هو غایة فی الروعة والجمال. فقد كان بإمكانها أن تضع القرآن كمبتدأ وتقول: القرآن یحمل هذه الصفات. لكنّها قالت: إنّ لله علیكم حقّاً، وإنّ ثمّة شیئا بینكم یطالبكم بهذا الحقّ. فلقد استهلّت هذا الموضوع بالقول: «وَزَعِیمُ حَقٍّ لَكُمْ لِلَّهِ فِیكُمْ»؛ أی إنّ لله علیكم حقّاً أوّلاً، وإنّ هناك مَن یطالب بهذا الحقّ ثانیاً. فلیس باستطاعتكم القول: إنّنا لا نعلم حقّ الله؛ إذ أنّ لله علیكم حقّ الربوبیّة، وإنّكم، من باب أنّكم عبید، فإنّكم مسؤولون تجاهه. فهذا هو أوّل وأوضح حقّ یدركه الإنسان. بمعنى أنّنی لست مِلك نفسی، وأنّ كلّ ما عندی فهو ملك لغیری. فهو ربّی ویجب علَیّ طاعته.
«وَعَهْدٌ قَدَّمَهُ إِلَیْكُمْ». توجد لكلمة «عهد» استعمالات شتّى، أحدها التعهّد والالتزام؛ أمّا تعبیر: «عَهِدَ إلیه» فهو تعبیر خاصّ؛ فكلّ حرف إضافة إنّما یفید معنى دقیقاً معیّناً، فعبارة «عَهِد إلیه» تخلتف عن عبارة: «عَهِد له» أو «عَهِد فی كذا». إذ لیس معنى العبارة: «عهدنا إلى آدم» فی الآیة الشریفة: «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِیَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً»6، هو عقد مُوقَّع بین طرفین، وإنّ أقرب المعانی إلى هذا المعنى هو معنى «الأمر». فعهد أمیر المؤمنین (علیه السلام) إلى مالك الأشتر یعنی: أمر علیّ لمالك الأشتر. فالزهراء (سلام الله علیها) تقول: إنّ لله تعالى حقّاً، وإنّ ثمّة مِن بینكم مَن یتصدّى لهذا الحقّ، ولقد أصدر هذا المتصدّی أمراً لكم.
«وَبَقِیَّةٌ اسْتَخْلَفَهَا عَلَیْكُمْ». لقد استُخدمت كلمة «بقیّة» فی القرآن الكریم أیضاً فی قوله: «بَقِیَّتُ اللهِ خَیْرٌ لَّكُمْ»7، وإنّ أحد ألقاب إمام العصر (عجّل الله تعالى فرجه الشریف) هو «بقیّة الله»؛ بمعنى أنّ باقی الأئمّة قد رحلوا عن الدنیا وإنّ الإمام الذی بقی لكم هو الوجود المقدّس لولیّ العصر (أرواحنا فداه). تقول مولاتنا (سلام الله علیها) هنا: مع أنّ النبیّ قد رحل عنكم، لكنّه قد ترك فیكم بقیّة. فهذه الصفات التی تذكرها (علیها السلام) للقرآن هی بمثابة خبر لمبتدأ متأخّر.
«كِتَابُ اللهِ النَّاطِقُ». إنّ إسناد النطق إلى القرآن یختلف باختلاف الاعتبارات. فالقرآن یسمّى بالناطق من باب أنّ المرء إذا قرأه یفهم منه أموراً وكأنّ الله هو الذی یتحدّث إلیه. لكنّ القرآن من جانب آخرـ لا ینطق بنفسه ویحتاج إلى مبیّن لبیان بعض مباحثه؛ وإنّه من هذا المنطلق یقول أمیر المؤمنین (علیه السلام): «هذا كتاب الله الصامت وأنا كتاب الله الناطق»8. فلا ینبغی الخلط بین هذین الاعتبارین. تقول السیّدة الزهراء (علیها السلام): لقد جعل الله تعالى فیكم كتاباً ناطقاً یطالبكم بحقّ الله. فلو انکم أصغیتم للقرآن لفهمتم ما یطلبه منكم. فالقرآن یقول: «یَا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا أَطیعُوا اللهَ وَأَطیعُوا الرَّسُولَ وَأُولِی الأَمْرِ مِنْكُمْ»9.
ثمّ تقول (سلام الله علیها): «وَالْقُرْآنُ الصَّادِقُ، وَالنُّورُ السَّاطِعُ، وَالضِّیَاءُ اللاّمِعُ». وكلّ هذا الكلام الذی ساقته (علیها السلام) یمثّل مقدّمة للتمهید للاستدلال بالقرآن الكریم.
«بَیِّنَةٌ بَصَائِرُهُ»؛ أی إنّ البصائر والرؤى التی یزوّدكم القرآن بها هی على درجة عالیة من الوضوح.
«مُنْكَشِفَةٌ سَرَائِرُهُ». فصحیح أنّ هناك فی القرآن مباحث خفیّة ومستورة لكن قد انكشفت تلك السرائر واُزیح الستار عنها وبإمكانكم الآن مشاهدة تلك الحقائق من دون حجاب والإفادة منها.
«مُتَجَلِّیَةٌ ظَوَاهِرُهُ، مُغْتَبِطَةٌ بِهِ أَشْیَاعُه». فالذین یتّبعون القرآن الكریم ویقتفون آثاره یعیشون حالة الغبطة والسرور.
«قَائِدٌ إِلَى الرِّضْوَانِ اتِّبَاعُهُ». فالمتّبعون للقرآن سوف یقودهم إلى رضوان الله تعالى.
«مُؤَدٍّ إِلَى النَّجَاةِ اسْتِمَاعُهُ». وحتّى الاستماع للقرآن الكریم یفضی إلى النجاة.
«بِهِ تُنَالُ حُجَجُ اللهِ الْمُنَوَّرَةُ، وَعَزَائِمُهُ الْمُفَسَّرَةُ، وَمَحَارِمُهُ الْمُحَذَّرَةُ». فإنّ حجج الله تصل إلیكم عن طریق القرآن، وإنّ عزائم القرآن (وهی الاُمور التی أوجبها الله علیكم) تُفسَّر لكم، وهو یحذّركم فی المقابل من حرمات الله تعالى.
«وَبَیِّنَاتُهُ الْجَالِیَةُ، وَبَرَاهِینُهُ الْكَافِیَة». فالدلائل الواضحة والبراهین الكافیة القاطعة كلّها مبیَّنة فی القرآن الكریم.
وخلاصة كلام الزهراء (سلام الله علیها) فی هذا القسم من الخطبة هو أنّ علیكم الالتفات أوّلاً إلى أنّكم مسؤولون، وأنّ مسؤولیّتكم غیر محصورة فی المسائل الفردیّة. إذ یتعیّن علیكم التعرّف على المسؤولیّة الملقاة على عاتقكم عن طریق القرآن، فإنّ القرآن قد أتمّ علیكم الحجّة.
نسأل الله العلیّ القدیر أن یمنّ علینا جمیعاً بتوفیق الإفادة من القرآن الكریم وأهل البیت (علیهم السلام).
1. سورة المعارج، الآیة 43.
2. سورة الشورى، الآیة 7.
3. الكافی، ج5، ص55.
4. سورة النساء، الآیة 58.
5. سورة الأنعام، الآیة 19.
6. سورة طه، الآیة 115.
7. سورة هود، الآیة 86.
8. وسائل الشیعة، ج27، ص34.
9. سورة النساء، الآیة 59.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 4 أیلول 2010م الموافق للیلة الخامسة والعشرین من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«... فَجَعَلَ اللهُ الإِیمَانَ تَطْهِیراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْك ...»
تشیر الصدّیقة الطاهرة (سلام الله علیها) فی القسم الثانی من خطبتها الشریفة إلى المسؤولیّة الثقیلة الملقاة على عاتق مسلمی ذلك العصر، والتی یجب أن تتولاّها الأجیال القادمة أیضاً، ألا وهی المحافظة على القیم والمُثُل الإسلامیّة ضمن حدود المجتمع الإسلامیّ، وإبلاغ رسالة الإسلام إلى ما وراء تخوم دار الإسلام. ثمّ تقول: «إنّ ما یمهّد لكم الطریق للنهوض بهذه المهمّة هو التمسّك بالقرآن الكریم الذی بیّن الله عزّ وجلّ فیه ما یلزم لسعادتكم فی الدنیا والآخرة». وفی ختام هذا القسم تستعرض (علیها السلام) عشرین عنواناً هی من أهمّ تعالیم القرآن الكریم بدءاً بعبارة: «فَجَعَلَ اللهُ الإِیمَانَ تَطْهِیراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْك» وانتهاءً بجملة: «وَحَرَّمَ اللهُ الشِّرْكَ إِخْلاصاً لَهُ بِالرُّبُوبِیَّة».
یشیر مستهلّ وختام هذه اللائحة من العناوین إلى موضوع هو غایة فی الأهمّیة وهو أنّ روح الإسلام فی الحقیقةـ إنّما تتجسّد فی عبادة الله الواحد واجتناب أیّ شكل من أشكال الشرك، وما العناوین الاخرى المذكورة بین هذین العنوانین إلا الأسباب والوسائل التی یُستعان بها لبلوغ هذا الهدف. وهذا یقودنا إلى نتیجة مفادها أنّ الإنسان لن یبلغ السعادة من دون عنصر الإیمان.
النقطة الاخرى التی تسترعی الانتباه فی انتقاء العناوین العشرین هی أنّ الزهراء (سلام الله علیها) لدى سردها لتلك العناوین التی یعرفها الجمیع والتی تُعدّ من ضروریّات الدین، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحجّ، والجهادـ قد أقحمت عنوانین بین عنوانی الحجّ والجهاد یتعلّقان بالإمامة، بحیث إنّنا إذا ألقینا نظرة سریعة إلى تلك العناوین نشعر وكأنّها ینقصها الترتیب. لكنّنا سرعان ما نكتشف بعد قلیل من الدقّة والتمحیص أنّ إقحام هذین الأمرین بین بقیّة العناوین، التی تُعدّ جمیعها من النصوص القرآنیّة ومن ضروریّات الدین، ینطوی على تدبیر وحكمة بالغین. فأوّلاً: الزهراء (علیها السلام) أحجمت عن التطرّق إلى قضیّة الإمامة فی مطلع كلامها كی لا یتولّد لدى الحاضرین ردّ فعل عكسیّ فیقولون: لقد جاءت تطرح قضیّتها الشخصیّة، كما أنّها لم تشأ إرجاء ذكر هذا الأمر إلى آخر الخطبة ففی هذه الحالة لن یُولَى الأهمّیة المطلوبة. ثانیاً: لعلّ فی إقحام هذین العنوانین بین العناوین الاخرى تنبیه إلى أنّهما لا یقلاّن أهمّیة عن الصلاة، والصیام، والزكاة، والحجّ، والجهاد. فهی (سلام الله علیها) ترید أن تقول: إذا كنتم تعرفون تلك المسائل وتقرّون وتعترفون بها، فكیف نسیتم هذه القضیّة التی تُعدّ أهمّ من غیرها من بعض الجهات؟!
«فَجَعَلَ اللهُ الإِیمَانَ تَطْهِیراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْك»؛ أی تطهیراً لقلوبكم من لوث الشرك. للوهلة الاولى یبدو هذا المعنى غایة فی البساطة، فكلّ مسلم مُقِرّ بالقرآن یفهم أنّ الهدف من الإسلام هو إزالة الشرك من على وجه الأرض وإحلال المجتمع الإیمانیّ محلّه؛ غیر أنّ التركیز على هذا المعنى والتذكیر به هو من باب تنبیه المستمع إلى أنّ الكلام لا یدور حول قضیّة سیاسیّة، واقتصادیّة، واجتماعیّة بحتة؛ بل إنّ أساس دعوة الأنبیاء هو ما یرتبط بقلب الإنسان. فمع أنّ العادة جرت على طرح الإسلام فی مقابل الشرك، والإیمان فی مقابل الكفر، فإنّ مولاتنا (سلام الله علیها) لا تقول: «جعل الإسلام تطهیراً لكم من الشرك»، بل هی تؤكّد على قضیّة الإیمان. فالقرآن نفسه یفرّق بین الإیمان والإسلام ویعرّف الإیمان بأنّه العامل لسعادة الإنسان فی قوله: «قَالَتِ الأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا یَدْخُلِ الإیمانُ فی قُلُوبِكُم»1. أی إنّ ما تقولونه فعلاً یتّصل باللسان، ولابدّ أن تتبعه مرحلة العمل أیضاً، أمّا الإیمان فیأتی بعد تلك المراحل. فالإیمان ینبغی أن یدخل إلى القلب ثمّ یسری من القلب إلى اللسان والأعضاء والجوارح. فمقرّ الإیمان الأساسیّ هو القلب.
ما یكون فی مقابل الإیمان عادةً هو الكفر؛ غیر أنّ الزهراء (علیها السلام) قد استخدمت لفظة الشرك فی مقابل الإیمان. ویمكن هنا طرح تبریرین لهذا الاستعمال: الأوّل: هو أنّ المخاطَبین بدین الإسلام فی الجزیرة العربیّة لم یكونوا من الملحدین الطبیعیّین المنكرین لله تعالى، ومن هنا فقد ورد فی العدید من الآیات أنّك إذا سألتهم عن الذی خلق السماوات والأرض لیقولُنّ الله: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَیَقُولُنَّ الله»2.فهؤلاء كانوا یؤمنون بآلهة یتصوّرون أنّ لها تأثیراً فی تدبیر العالم، ومن هذه الناحیة فإنّ عملهم كان شركاً فی واقع الأمر. أمّا التبریر الثانی لهذا الاستعمال فهو أنّ الشرك المقصود هنا حسب تقدیری الشخصیّـ هو الشرك الذی یكون عن غیر وعی. وتوضیح ذلك هو أنّ الناس جمیعاً یقبلون الله بالفطرة، وإن كانوا، فی الظروف العادیّة، غیر ملتفتین إلى اعتقادهم هذا، لكنّهم یتوجّهون إلى الباری تعالى فی الحالات الاضطراریّة. إذن فأیّ اعتقاد آخر غیر الاعتقاد بالله یمثّل فی الحقیقة شركاً؛ بمعنى أنّهم یقولون بآلهة مجعولة إلى جانب إلههم الفطریّ.
یعتقد البعض أنّ القیمة الحقیقیّة یحدّدها العمل. وهذا هو ما یسمّى بالنزعة العملیّة التی لاقت رواجاً بین فلاسفة الغرب فی القرن الأخیر حیث اعتقدوا أنّ حقّانیة الشیء إنّما تحدّدها فائدته فی مقام العمل. یقول ولیم جیمس، وهو عالم نفس أمریكیّ معروف: إنّ أنجع الطرق لعلاج الأمراض النفسانیّة هی العبادة؛ لكنّ دلیله على ذلك هو فائدة العبادة فی معالجة المصابین بالذُّهان. وهذه النزعة هی نزعة براغماتیّة مفادها أنّ حقّانیة الشیء یتمّ إثباتها من خلال العمل بغضّ النظر عمّا إذا الشیء نفسه حقّاً أم باطلاً. فالبراغماتیّون یقولون: حتّى لو كان الشیء كذباً لكنّه ثبتت فائدته من الناحیة العملیّة فسیكون ذا قیمة حقیقیّة.
وهذا التوجّه ملحوظ عند أغلب الناس لكن مع بعض الشدّة والضعف. ولعلّه یلاحَظ بشدّة بالغة عند بعض الأشخاص المعروفین فی بلدنا، كما أنّ الناس أیضاً یشجّعون على مثل هذه المیول. فأمثال هؤلاء لا یعیرون أیّ أهمّیة لبطلان مبانی عقیدة معیّنة أو نظریّة ما، وجُلّ ما یهتمّون به هو التقدّم على صعید الحیاة المادّیة. المیل إلى هذا التوجّه هو طبیعیّ إلى حدّ ما. فنحن أبناء الطبیعة، وإنّ أوّل ما وقعت أعیننا علیه هو تلك الاُمور الطبیعیّة. فإدراك ما یكون وراء الطبیعة والتعلّق باُمور لیست هی ممّا یُدرَك حسّیاً، هو أمر یتخطّى اُفق المذهب المادّی؛ والحال أنّ المذهب المادّی هو مقتضى طبیعتنا المادّیة. هذه المشكلة كانت قائمة حتّى عند أقوام الأنبیاء الماضین، نذكر من بینها قصّة بنی إسرائیل التی تستحقّ حقّاً وقفة تأمّل واستلهام للعبر. فعندما هاجر بنو إسرائیل من مصر برفقة موسى (علیه السلام) صادفوا منطقة معتدلة الطقس تكسوها الخضرة فیها قوم یعكفون على أصنام لهم یعبدونها، وقد صنعوا لعبادتهم أصناماً جمیلة، وكانت تتخلّل مراسم العبادة دبكة یحدث فیها الاختلاط والاُنس والطرب. فعندما شاهد بنو إسرائیل هذه المنطقة الحسنة الطقس، وتلك الأصنام الجمیلة، والاحتفالات الجذّابة، جاءوا إلى موسى (علیه السلام) قائلین: «یَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ»3.
فالنزوع نحو الطبیعة والمحسوسات أمر عادیّ، وقد تحمّل الأنبیاء أعباء كبیرة فی توجیه أنظار البشر إلى ما وراء الطبیعة وإفهامهم أنّ الله تعالى لیس جسماً. وبطبیعة الحال فإنّ المسائل المعنویّة وقضایا ما وراء الطبیعة لن تفتح أبوابها بسهولة مع وجود هذه الروح وهذا النمط من التفكیر. فإذا قیل لأمثال هؤلاء: إنّ الله سیثیبكم خیراً، فسیظنّون أنّ الثواب هو كثرة الأمطار وزیادة المحصول. فأمثال هؤلاء لا یشغلهم العالم الآخر وجنّة الباری عزّ وجلّ بشكل جدّی. فلو أنّ الإنسان ابتُلی فعلاً بالمحن والفقر والمرض وفقدان الهویّة الاجتماعیّة، وذاق حقّاً مرارة تلك المآسی، فأیّهما سیكون أكبر قیمة بالنسبة له، أنْ یعلم أنّ عاقبة كلّ تلك المصاعب والمشاقّ هی الجنّة التی یصفها الله تعالى بقوله: «لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِیَّةٌ تجَْرِی مِن تَحْتهَِا الأَنْهَارُ»4، أم أنْ یُعطَى أصناف الفاكهة والأطعمة ویُفتَح له حساب مصرفیّ ضخم؟ فالذین هم على استعداد لتحمّل كلّ تلك المحن والمشاقّ طواعیة ولا یطلبون بذلك غیر وجه الله تعالى هم عملة نادرة للغایة.
یجعل القرآن الكریم الأصالة للإیمان ولا یعطی أیّ قیمة للعمل الذی یخلو من الإیمان. لكنّه یصعب علینا جدّا التصدیق بذلك، وقد سعى القرآن الكریم من جانبه جاهداً لإفهامنا هذا المعنى. فالقرآن یبالغ فی إضفاء الطابع الحسّی على مسألة الكفر والشرك، ویبیّنها لنا بأمثلة مبسّطة كی نستوعبها بشكل جیّد. فهو یقول فی سورة إبراهیم: «مَثَلُ الَّذِینَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّیحُ فِی یَوْمٍ عَاصِفٍ لا یَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَیْءٍ»5؛ ویقصد بالأعمال تلك التی یعتقدون أنّها مدعاةٌ لسعادتهم فهی كذرّات الرماد فی یوم عاصف تنثرها الریاح ولا تبقی منها أثراً، ولن تكون لدیهم القدرة على جمعها ثانیة والاحتفاظ بها. لماذا؟ ذلك أنّ أعمالهم لم تكن مبنیّة على اُسس إیمانیّة بل كانت نابعة من الكفر مرتكزة علیه. ویقول فی موضع آخر: «أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِی بَحْرٍ لُّجِّیٍّ یَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ یَدَهُ لَمْ یَكَدْ یَرَاهَا وَمَن لَّمْ یجَْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ»6؛ أی إنّ مَثَلهم فی ذلك مثل الغریق فی بحر هذه صفته. فأیّ ظلمة ابتُلی بها هذا الشخص؟ كلّ هذه الظلمات إنّما تنشأ من انعدام الإیمان ومن الكفر والضلالة، فمهما أنجز من أفعال الخیر فانّه لن ینفعه بشیء.
فالقرآن یلحّ فی تكرار هذه الأمثلة لیقول لنا: القضیّة لیست كما تظنّون من أنّ مجرّد كون العمل حسناً فهو محقّق للسعادة. فالعمل الذی یقودكم نحو السعادة هو ذلك العمل الذی یربطكم بالله عزّ وجلّ. وفی المقابل فإنّ العمل الذی تقومون به إرضاء لأنفسكم، أو جلباً لثناء الآخرین، أو استمالةً لأصوات الناس فی الانتخابات لن یعود علیكم بالنفع قطّ. لكنّ العمل المنجَز من منطلق الإیمان بالله تعالى والمتّصل بالعالم الذی لا یفنى سوف یبقى إلى الأبد وهو الذی یمتلك القدرة على حلّ مشاكلكم: «مَا عِندَكُمْ یَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ»7.
یقول الله تبارك وتعالى: إذا كان العمل لمرضاتی فسأمنحه من البركة والقیمة ما یجعله باقیا إلى الأبد وینمو یوماً بعد یوم، ویزداد روعة وجمالاً. وعندما یأتی دور الإثابة فإنّنی لن أنظر إلى صغائر أعمالكم، بل أجعل أفضل أعمالكم هو المقیاس فی الإثابة: «وَلَنَجْزِیَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِی كَانُواْ یَعْمَلُونَ»8. فأنا اُثیب على الأعمال الصغیرة بعشرة أمثالها حیناً، وبسبعمائة ضعف حیناً آخر، ولا یمثّل هذا أعلى سقف فی الإثابة: «مَثَلُ الَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِی سَبِیلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِی كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ یُضَاعِفُ لِمَن یَشَاء»9. أمّا إذا لم یرتبط العمل بالله، بل انحصر فی نطاق أنفسكم ومریدیكم وجماعتكم وحزبكم، فسیبقى فی هذا النطاق. وعلى الرغم من احتمال ترتّب الأثر علیه فی الدنیا، لكنّه سیقال لكم یوم القیامة: «أَذْهَبْتُمْ طَیِّبَاتِكُمْ فِی حَیَاتِكُمُ الدُّنْیَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا»10، فقد أنجزتم عملكم فی سبیل الدنیا، وجنیتم ربحه وتقاضیتم أجركم فیها.
من الانحرافات الفكریّة فی عصرنا الحاضر التی تُعدّ من جملة صنائع أیادی إبلیس الماهرة هی إشاعة فكرة أنّ القیمة لا تكون إلاّ فی السلوك، والقومیّة، والآباء، والأجداد، ولا ینبغی الحدیث بعد الآن عن الله والإسلام وما إلى ذلك. والعجیب هو أنّه فی مجتمع إسلامیّ ثوریّ، لم تسقط كلمة الإسلام یوماً من لسان وكلمات إمامه (قدّس سرّه)، یوجد من یقول تحت شعار السیر على خُطى الإمام الراحل: «لقد ولّى زمن الترویج للإسلام ولابدّ الیوم من الترویج للقیم الإنسانیّة العامّة»! لكنّ القیم الإنسانیّة العامّة توجد حتّى بین عبدة الأوثان وغیرهم من الطوائف؛ إذن فأین محلّ الإیمان من الإعراب؟ ذلك الإیمان الذی هو أصل جمیع القیم والذی تكتسب جمیع الأشیاء الاخرى القیمة فی ظلّه. هؤلاء یقولون: «نحن الیوم قد تخطّینا هذه المرحلة». لكنّه فی الحقیقةـ ینبغی القول لهؤلاء: إنّكم تتخبّطون فی أوهامكم وخیالاتكم. إذ لابدّ أن نسأل الذین یروّجون للقومیّة ویفتخرون باﻟ«الإیرانیّة»: أأنتم الذین اخترتم هذا البلد لیكون مسقط رأسكم؟ هل یُعدّ هذا فخرا؟ ما الذی یرسم حدود إیران؟ وما الذی یحدّد هذه القیمة؟ ما الذی نلتَه أنت من فضل أبیك إذا كان أبوك فاضلاً؟ فكلّ شخص مسؤول عن عمله وتصرّفاته هو. فعلیك أن تنظر ماذا قدّمت أنت؟ وبمن تؤمن؟ وبمن یتعلّق قلبك؟ وأیّ القیم تدعم؟
لقد قال الإمام الخمینیّ الراحل (رضوان الله تعالى علیه): «نحن لا نقیم وزناً لإیران والتبعیّة لإیران، ولابدّ لجهودنا أن تنصبّ فی طریق نشر الإسلام». وقد صرّح رئیس وزراء الحكومة المؤقّتة فی حینها: «الفارق بینی وبین الإمام الخمینیّ هو أنّه یرید أن تكون إیران للإسلام، وأنا أرید أن یكون الإسلام لإیران»! ولقد كان محقّاً فیما قال إذ لم یكن محتالاً ومخادعاً مثل غیره. فنقطة الخلاف الأساسیّة بین مدرسة الإمام الراحل (رحمه الله) ومدرسة القومیّین تكمن فی هذا الفارق؛ وهو هل یتعیّن أن نسعى لحذف الإسلام ونقول: إیران فحسب؟ هل نسمّی هذه عبودیّة لله وطاعة للدین؟ هل نعد ذلك خطوة نحو صیانة قیم الجمهوریّة الإسلامیّة، أم تقهقراً نحو الجاهلیّة الاُولَى؟ فإلى أین نحن ذاهبون یا ترى؟!
إنّ أساس هذه الأفكار هی تلك النزعة العملیّة (البراغماتیّة)، وإنّك إذا نبّهت هؤلاء إلى أنّ القیمة الإسلامیّة الفلانیّة آیلة إلى الاضمحلال والاُفول، أجابوك بالقول: دعوه یفعل فعله! فالنزعة العملیّة تسوق الإنسان إلى حیث لا یرى غیر الآثار المادّیة ویحسب كلّ ما سواها ضرباً من الشكلیّات. ومن هنا ندرك السبب الذی دفع الصدّیقة الطاهرة (سلام الله علیها)، عندما أرادت أن تبیّن محتوى الإسلام الحنیف، إلى الاستهلال بهذه العبارة: «فَجَعَلَ اللهُ الإِیمَانَ تَطْهِیراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْك» والختام بهذه الكلمات: «وَحَرَّمَ اللهُ الشِّرْكَ إِخْلاصاً لَهُ بِالرُّبُوبِیَّة»؛ ذلك أنّ الدین یبدأ بهذا ویُختَم به ولیس باقی الاًمور سوى آثار وبركات تترتّب علیه بإذن الله تعالى؛ فلا یمكن بحال من الأحوال عدّ هذه فی مقابل تلك.
اللهمّ إنّا نقسم علیك بحقیقة الزهراء البتول (سلام الله علیها) أن تنوّر قلوبنا بنور الإیمان، وتحمینا من فتن آخر الزمان.
1. سورة الحجرات، الآیة 14.
2. سورة لقمان، الآیة 25؛ وسورة الزمر، الآیة 38.
3. سورة الأعراف، الآیة 138.
4. سورة الزمر، الآیة 20.
5. سورة إبراهیم، الآیة 18.
6. سورة النور، الآیة 40.
7. سورة النحل، الآیة 96.
8. سورة العنكبوت، الآیة 7.
9. سورة البقرة، الآیة 261.
10. سورة الأحقاف، الآیة 20.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 5 أیلول 2010م الموافق للیلة السادسة والعشرین من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«... وَالصَّلاَةَ تَنْزِیهاً لَكُمْ عَنِ الْكِبْر ...»
تحصی مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) فی القسم الثانی من هذه الخطبة الشریفة أسرار عدد من العناوین التی یطرحها القرآن الكریم. وقد أوردنا فی المحاضرة الماضیة توضیحاً مقتضباً للعنوان الأوّل ألا وهو الإیمان. أمّا العنوان الثانی الذی ذكرته الزهراء (علیها السلام) فهو الصلاة، حیث تقول: «وَالصَّلاَةَ تَنْزِیهاً لَكُمْ عَنِ الْكِبْر».
العلل المذكورة فی هذه الكلمات لتلك العناوین لا تعطی معنى العلل التامّة للتشریع؛ وهذا یفسّر لنا تشابه هذه العلل تارة واختلافها تارة اُخرى مع ما ذُكر منها لنفس هذه العناوین فی نهج البلاغة. أساساً إنّ السرّ فی اختیار إحدى تلك العلل وذكرها هنا هو أحد أمرین؛ فإمّا أن تكون هذه العلّة هی الأبرز والأهمّ مقارنة بغیرها، أو أن تكون هی العلّة المتناسبة مع مقام البحث.
النقطة الاُخرى التی تستحقّ الذكر هی أنّ العلل التی تشترك فیها جمیع العبادات، من قبیل التقرّب من الله، وكسب رضاه، والتثبیت، والتمرین على العبودیّة، وما إلى ذلك هی معلومة من ناحیة، وإنّ تكرار سردها جمیعاً مع كلّ واحد من تلك العناوین هو بعید عن البلاغة من ناحیة اُخرى.
تقول سیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها): إنّ السرّ من وراء تشریع الله للصلاة على العباد وتأكیده علیها فی كتابه العزیز هو إنقاذ الناس من براثن التكبّر. والسؤال الذی یتبادر إلى الذهن هنا هو لماذا تعطى صفة الكبر هذا الحجم من الأهمّیة إلى درجة أنّ الله تعالى یشرّع الصلاة من أجل التطهیر منها، أو هی الخصوصیّة الأبرز للصلاة على أقلّ تقدیر، على الرغم من وجود الكثیر من الصفات المذمومة الاُخرى؟ والنقطة التی تسترعی الالتفات هنا هی أنّ طریق التقرّب إلى الله أساساً بل السبیل الوحید لبلوغ السعادة الأبدیّة یكمن فی العبودیّة، وإنّ ما یتعارض مع هذا الهدف هو الإحساس بالكبر. فالعبودیّة تعنی أنّنی لا أملك أیّ شیء من نفسی: «عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَ یَقْدِرُ عَلَى شَیْءٍ»1؛ أمّا المتكبّر فلسان حاله یقول: إنّنی عظیم جدّاً ولن اُطأطئ رأسی لأیّ أحد مهما كان! فإذا تحوّلت هذه الصفة فی النفس إلى ملَكة فسوف لن یكون المرء على استعداد لأن ینحنی حتّى أمام الباری عزّ وجلّ. والحال أنّ الطریق الوحیدة لسعادة الإنسان هی خضوعه التامّ بین یدی الله تعالى. فی زمان النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) عرض علیه جماعة من شیوخ قبائل العرب مقترَحاً مفاده أنّنا مستعدّون لقبول الإسلام ووضع أرواحنا وأموالنا تحت تصرّفك بشرط أن تعفینا من السجود فی الصلاة، فلیس من شأننا أن نمرّغ جباهنا فی التراب. فقال لهم النبیّ (صلّى الله علیه وآله): «لا خیر فی دین لیس فیه ركوع وسجود»2، فإذا رغبتم فی الإسلام فعلیكم القبول بسجوده أیضاً. فبعض الناس مستعدّون للتضحیة بأنفسهم وأموالهم بشرط أن لا یسجدوا لله! فكم روح التكبّر والغرور متجذّرة فی كیان هؤلاء!
وهذا هو عین المرض الذی كان یشكو منه إبلیس والذی تسبّب فی لعنه وطرده من رحمة الباری عزّ وجلّ بعد ستّة آلاف سنة من العبادة. فقد كان غارقاً فی العبادة إلى درجة أنّه لم یكن یختلف عن باقی الملائكة فی شیء، ولهذا فقد شمله الأمر الموجّه إلى الملائكة بالسجود أیضاً، لكنّه رفض السجود قائلاً: «أَنَا خَیْرٌ مِّنْهُ»3. فإذا أحببنا أن نترجم كلام إبلیس باللغة المعاصرة نقول: «أمرُك هذا لیس له تبریر عقلائیّ! فالشخص الأقل قیمة هو الذی ینبغی أن یخضع للأكبر قیمة، وبما أنّنی مخلوق من النار، والنار أشرف من التراب، فإنّنی أشرف من آدم»! فقد ساق قیاساً ورتّب استدلالاً غافلاً عن أنّ المسألة فی الحقیقة هی طاعة لله وخضوع فی مقابل عظیمٍ یستحیل افتراض من هو أعظم منه. هذا فی حین أنّه لم یُنقل أنّ إبلیس قد عصى ربّه ولو مرّة فی غضون تلك الآلاف من السنین، لكنّه بعد كلّ تلك السنین أذنب ذنباً واحداً وهو أنّ الله تبارك وتعالى قال له: اسجد لآدم. فقال: لن أسجد. فكیف لهذا الذنب الواحد أن یوجب طرده من رحمة الله عزّ وجلّ، والتغاضی عن عبادته لستّة آلاف سنة؟ وإذا شئنا أن نعرض الشبهة بلغتنا العصریّة یتعیّن القول: أیّ عدالة هذه فی أن یتغافل الله تعالى عن عبادة ستّة آلاف سنة بسبب ذنبِ ساعة؟ لكنّ فتاوانا ومقاییسنا فی حساباتنا لمثل هذه الموارد تختلف عن تلك التی لله عزّ وجلّ. فكأنّ الله یقول له: هذا العصیان وهذا الاستنكاف من السجود هو مؤشّر على أنّك منذ الیوم الأوّل لم تكن مصمّماً من أعماق قلبك على امتثال أیّ أمر آمرك به.
فالإیمان هو أن یتعهّد المرء بأن یطیع الله بكلّ ما یأمره، وهو لن یكون مقبولاً إلاّ إذا اعتقد المرء بأنّ كلّ أمر إلهیّ هو واجب الامتثال من دون قید أو شرط. فإن قال أحدهم: إنّنی اُذعن لكلّ أوامر الله عزّ وجلّ لکننی استثنی أمراً واحداً، فهذا غیر مقبول، إذ أنّ الإسلام لا یقبل إیماناً فیه استثناء، ولابدّ للإیمان أن یكون مطلقاً. فقولهم: «نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ»4 هو بمثابة الكفر المطلق. فإذا علم الشخص بحقیقة من حقائق الإسلام ثمّ أنكرها، فهو كمَن أنكر الإسلام كلّه؛ ذلك أنّه إذا كان قد اعتنق الإسلام لوجه الله، فعلیه أن یقبل هذه الحقیقة أیضاً؛ لأنّها أیضاً من الله. فإن لم یقبل بها، صار معلوماً حینها أنّه أساساً لم یؤمن بباقی الحقائق من أجل الله تعالى، بل لاُمور اُخرى؛ مثلاً لأنّ الإیمان بها لا یسبّب له ضرراً، أو لكونها سهلة، أو لا تخالف هواه، أو لسبب آخر. فشخص كهذا یفتقد روح الإیمان. ومن هنا فالأمر لا یخرج عن حالتین: إمّا أن یقبل ویؤمن بكلّ ما یقوله الله تعالى، أو لا یقبل؛ فالحالة الاُولى هی إیمان، والاُخرى هی كفر؛ فالإیمان الذی یشكّل نسبة 99 بالمائة هو مساو لذلك الذی نسبته صفر بالمائة.
من الممكن أن یكون المرء تاركاً للصلاة ولم یمتثل لحكم الله حتّى مرّة واحدة فی حیاته؛ لكنّه یعترف خجِلاً من نفسه قائلا: إنّنی متقاعس، وقد غلبتنی الشهوة والغضب، لكنّ حكم الله واجب الامتثال، وإنّنی خجل من نفسی وآمل أن اُوفّق إلى التوبة وأعوّض ما فات. فهذا لیس بالكفر. الكفر هو عندما یعترض الإنسان على حكم الله قائلاً: أیّ حكم هذا؟ أو أن یقول مثلاً: ما الفرق بین الصلاة قبل طلوع الشمس أو بعدها؟! فالذی یستدعی الكفر هو عدم القبول بحكم الله تعالى. أمّا إذا اعتقد المرء بالحكم الإلهیّ، لكنّه شعر بالخجل والتقصیر فهذا، وإن كان عصیاناً عظیماً، إلاّ أنّه لا یؤدّی إلى الكفر.
فمفاد قول إبلیس: «لَمْ أَكُن لأَِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ»5 هو: لم یكن أیّ داع لأن توجّه الأمر لی بالسجود لآدم، وإنّ أمرك لم یكن عن تعقّل! ومن هنا فإنّه عندما وصل الأمر إلى هذا الحدّ، كان ردّ الباری عزّ وجلّ: «فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِیمٌ * وَإِنَّ عَلَیْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى یَوْمِ الدِّینِ»6، لیأتی قول القرآن بعد هذه الحادثة: «وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِینَ»7؛ أی: لقد كان یضمر فی نفسه منذ البدایة فكرة: أنّنی لا أقبل بالامتثال لأیّ أمر إلهیّ! ولقد قال هنا عن تعجرُف أیضاً: لن أسجد! فالأمر لم یقتصر على عدم العمل بسجدة واحدة فحسب؛ بل إنّ كلامه هذا یفصح عن كفره. فقول البعض فی أشعارهم ومواعظهم إنّ إبلیس قد رمى به الدهر إلى هذا المصیر لعدم امتثاله لسجدة واحدة هو غیر حقیقیّ، فالقضیّة لم تكن مجرّد سجدة واحدة، لأنّ البعض قد یترك الصلاة لأعوام متمادیة ثمّ یوفّق إلى التوبة ویؤوب إلى جادّة الصواب. إذن فاللعنة الأبدیّة التی أصابت إبلیس كانت بسبب تركه الإیمان.
وقد توجد فی أنفسنا نحن أیضاً بعض مراتب روح الطغیان هذه، والأمارة على ذلك هی أنّ الإنسان لا یطیق أقلّ إهانة له بل وقد یترك واجباً بسبب بعض التبرّم والانزعاج. فالناس متفاوتون فی مقدار ما یحملونه فی قلوبهم من خزین التكبّر، غیر أنّ مقداراً قلیلاً من هذه الصفة الذمیمة یُعدّ خطیراً؛ خاصّة إذا علمنا أنّ هذه الصفة كالبذرة تنمو وتكبر لتستوعب تدریجیّاً تمام قلب الإنسان وهو أمر بالغ الخطورة.
نحن موافقون على أنّ طریق السعادة الأبدیّة هو العبودیّة لله، وأنّ هدف الخلقة أساساً هو هذا أیضاً: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِیَعْبُدُونِ»8، وأنّ العبادة تمثّل منتهى التصاغر والتضاؤل بین یدی الله عزّ وجلّ. فإنّ ألدّ أعداء هذا الهدف هو التكبّر والغرور. ففی عالم الخلقة لم یبلغ أحد مقام سیّد المرسلین محمّد (صلّى الله علیه وآله) فی الفضیلة، لكنّه ـ مع ذلك ـ كان یستیقظ بعد منتصف اللیل من رقاده ویخرّ لله ساجداً واضعاً جبینه على التراب، ویقول وهو یئنّ تأوّهاً ودموعه تجری على وجنتیه: «اللهمّ لا تَكِلْنی إلى نفسی»9. فما هی درجة إدراكه لله عزّ وجلّ حتّى یتذلّل بهذا الشكل فی حضرة الإله المتعال؟ إذن یتعیّن علینا أن ندرك هذا الصِّغَر والذلّة بین یدی الله تعالى كی نصل تدریجیّاً إلى مقام القرب الإلهیّ. ومن أجل الوصول إلى مثل هذا المقام علینا السعی منذ الخطوة الاولى إلى اجتثاث جذور الكبر من قلوبنا وشحنها بالتواضع. وإنّ أفضل السبل التی قیّضها الله لجمیع البشر من أجل بلوغ هذا الغرض هی «الصلاة». فینبغی لنا أن نخرّ إلى التراب عدّة مرّات فی الیوم واضعین أشرف عضو من أبداننا علیه لنجسّد منتهى الخضوع والتذلّل فی أنفسنا؛ لماذا؟ «تَنْزِیهاً لَكُمْ عَنِ الْكِبْر»، لأنّه عزّ وجلّ یرید أن یربّیكم تربیة توصلكم إلى ذلك المقام الرفیع الأمر الذی لا یحصل إلاّ فی ظلّ التذلّل بین یدی العزیز الجبّار. فما دام فی قلب المرء ولو ذرّة من الكبر، فهو لن یصل إلى ذلك المقام.
لقد ذُكر الكبر والحسد والحرص فی روایات أهل البیت (علیهم السلام) بعنوان كونها اُصولاً للكفر؛ بمعنى أنّه إذا توفّرت تلك الصفات فی قلب المرء فستكون كالبذور التی تخضرّ شیئاً فشیئاً ویصیر لها ساق وأغصان وأوراق ثمّ تثمر وما ثمارها إلاّ الكفر! إذ أنّ من لوازم الكبر أن یقول المرء: «لا یتعیّن على الإنسان أن یقبل بكلّ ما یقول الله عزّ وجلّ لأنّ الإنسان له عقل. فالنبیّ قد طرح اُموراً قبل 1400 سنة بما ینسجم مع ظروف ذلك العصر وثقافته وقد كان بعضها صحیحاً وبعضها الآخر غیر صحیح ویحتاج إلى عرضه للنقد والمناقشة»! وانطلاقاً من هذه الروح وتحت شعار قابلیّة القرآن للنقد یصنّف البعض كتاباً ضدّ القرآن یقولون فیه: «لابدّ من طرح القرآن على طاولة النقد؛ فما وافق العلم منه فهو صحیح، وما لم یوافق علیه العلم فلابدّ من نبذه جانباً»! وما منشأ هذه الروح إلاّ الكبر. ولا أستبعد أبداً أنّنا لو تفحّصنا وتقصّینا بواطن جمیع الشخصیّات التی كانت تمثّل أئمّة الضلال وأئمّة الكفر لوصلنا إلى نتیجة مفادها أنّ العامل الأساسیّ لانحرافهم كان التعجرف والكبر والغرور.
فإذا كان لهذه الصفة كلّ هذه الأهمّیة، ألیس من المناسب أن یشرّع الله عزّ وجلّ الصلاة تطهیراً من هذا الفساد واجتثاثاً لجذوره؟ فهذه الخاصّیة البارزة للصلاة تفتقر إلیها سائر العبادات. ولقد وردت فی القرآن الكریم تعابیر خاصّة فیما یتعلّق بالسجود؛ إذ یقول عزّ من قائل: «وَمِنَ الَّیْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَیْلاً طَوِیلاً»10، ولا یخطر فی بالی تعبیر مشابه لهذا ورد بخصوص أیّ عبادة اخرى. فالباری تعالى یقول أوّلاً: فلیكن سجودكم فی جوف اللیل؛ ذلك أنّ ذهن الإنسان یكون أقلّ انشغالاً فی الظلمة والخلوة والسكون. ویقول ثانیاً: «لَیْلاً طَوِیلاً» ولیس بضعة دقائق. أی: علیك ان تقضّی لیلاً طویلاً فی السجود والتسبیح.
كان اُویس القرنیّ یقول فی بعض اللیالی: هذه اللیلة لیلة سجود، فكان یقضّیها من أوّلها إلى آخرها فی السجود. كما ونُقل عن أحوال المرحوم الشیخ حسن علیّ النخودكیّ أیضاً أنّه كان یقضّی ساعات طویلة فی سجدة أو ركعة واحدة. إذ یروی أحد خدّام حرم الإمام علیّ بن موسى الرضا (علیه السلام): فی إحدى اللیالی التی کانت تهطل فیها الثلوج توجّهتُ إلى الحرم الطاهر سحراً لرفع أذان الصبح، فرأیته الشیخ النخودكیّ إلى جوار قبّة الحرم راكعاً وقد تراكم على ظهره حوالی أربعة أصابع من الثلج. فلمّا اقتربت ساعة الأذان أتمّ صلاته وقام فنفض عن نفسه الثلج وذهب. ولقد أعطى الله تعالى لهذا العبد الصالح من الكرامات بحیث إنّه كان یعالج أمراض الناس بحبّة الكشمش والتمر. فإذا علم هذا الشخص المفوّض أمره إلى لله إلى هذا الحدّ ـ أنّ الله یحبّ أن یقضی لیله راكعاً له أو ساجداً، فسوف یقول من فوره: سمعاً وطاعة! فما دمتَ یا إلهی تحبّ ذلك فسأسجد لك حتّى السحر! فیقول الله تعالى فی جوابه: بما أنّك عبدی، فسأجعل شفاء المرضى على یدك. فأیّ معاملة هذه! ألا یستحقّ الأمر كلّ هذا؟ «وَمِنَ الَّیْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَیْلاً طَوِیلاً»؛ فكُنْ عبداً، وتصاغَر أمام الله من اللیل حتّى الصباح، واسجد له، لأنّ السجود یمثّل أسمى صور التصاغر والتذلّل فی حضرة الإله المتعال. ومن هنا نفهم أیّ كلام حكیم أطلقته الزهراء (سلام الله علیها) وأی أسرار مخبّأة فی كلماتها.
نسأل الباری المتعال بحقّ الأنفاس القدسیّة لمولاتنا الزهراء (علیها السلام) أن یُتحفنا بأریج من تلك الحقائق، وأن یوفّقنا لعبادة مقبولة، إن شاء الله.
1. سورة النحل، الآیة 75.
2. بحار الأنوار، ج18، ص203.
3. سورة ص، الآیة 76.
4. سورة النساء، الآیة 150.
5. سوة الحجر، الآیة 33.
6. سوة الحجر، الآیتان 34 و35.
7. سورة البقرة، الآیة 34.
8. سورة الذاریات، الآیة 56.
9. بحار الأنوار، ج18، ص204.
10. سورة الإنسان، الآیة 26.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 6 أیلول 2010م الموافق للیلة السابعة والعشرین من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«... وَالزَّكَاةَ تَزْكِیَةً لِلنَّفْسِ، وَنَمَاءً فِی الرِّزْق ...»1
تذكر مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) فی الشطر الثانی من خطبتها الشریفة الحكمة من وراء تشریع عدد من الاُمور البارزة فی المعارف الإسلامیّة والقرآن الكریم، فتبتدئ بالإیمان ثمّ تذكر الصلاة ومن ثمّ تعرّج على قضیّة الزكاة.
القرآن الكریم أیضاً یذكر الصلاة والزكاة جنباً إلى جنب، ولعلّ فی ذلك إلفاتا إلى أنّه كما یتعیّن على الإنسان أن یجتهد لتعزیز علاقته الباطنیّة والقلبیّة مع الله عبر أداء الصلاة، فإنّ علیه أیضاً أن یوطّد علاقته مع عباد الله التی تمثّل هی الاخرى رابطة مع الله عن طریقٍ غیر مباشر؛ بمعنى أنّ فی رقبة الإنسان واجباتٍ تجاه عباد الله ینبغی أن یؤدّیها طاعة لله تعالى.
تشمل كلمة الزكاة فی أصل الثقافة الدینیّة ـ سواء الإسلامیّة منها أو غیر الإسلامیّة ـ كلّ إنفاق تكون الغایة منه طاعة الله عزّ وجلّ. لكنّها تُطلق فی عرفنا على قسم من العبادات المالیّة ولا تتعلّق إلاّ بأشیاء خاصّة؛ أمّا فی أصل اللغة وفی صلب ثقافتنا الإسلامیّة العامّة فهی لا تختصّ بهذا الحكم؛ فالزكاة هی إنفاق المال على الآخرین.
انّ بعض الباحثین عن التكامل الروحیّ یرکز اهتمامه على جانب من القیم الإسلامیّة والإلهیّة غافلا عن سائر أبعاد الوجود الإنسانیّ وباقی الأحكام والمُثُل الإسلامیّة. فالكثیر من فرق المتصوّفة لا یرون التكامل إلاّ فی التوجّه إلى الله، والذكر، والمراقبة، وعبادات من هذا القبیل ولا یعیرون اهتماماً یُذكر لمسائل اخرى كالجهاد، والأمر بالمعروف والنهی عن المنكر، والإنفاق على الفقراء، وما إلى ذلك. فالمطّلعون على المعارف الإلهیّة والشیعیّة یدركون جیّداً أنّ الإسلام لا یقرّ هذا النمط من الرؤیة الاُحادیّة الجانب. فلابدّ لنا ـ فی هذا المضمار ـ أن نفتّش فی أحوال نبیّنا الكریم وأئمّتنا الأطهار (صلوات الله علیهم أجمعین) ونعتقد اعتقاداً راسخاً بأنّ الطریق هو ما سلكوه، والنهج هو ما انتهجوه ونقول للمتصوّفة: إنّ الإنسان هو موجود متعدّد الأبعاد ولابدّ أن یتّجه سیره نحو الله فی جمیع أبعاده، ولیس فی البعد القلبیّ فقط؛ بالطبع إنّ جمیع هذه القیم ترتبط ـ بشكل أو بآخر ـ مع قلب الإنسان، لكنّها تتشعّب عنه إلى فروع شتّى. فاهتمام المرء بفرع واحد من العبادات یجعل منه شخصاً اُحادیّ البعد، وإنّ الإنسان الذی یركّز اهتمامه على جانب واحد من العبادة یكون كالذی یهتمّ ببناء وتقویة عضو واحد من بدنه فیصبح كائناً غیر موزون قد نمى أحد أعضائه دون الأعضاء الاخرى، وهذا الاسلوب لا یُرضی الله تعالى. فالإنسان كائن متعدّد الأبعاد ویتعیّن علیه أن یستغلّ جمیع أبعاده فی سبیل الله لینمو نموّاً موزوناً ومتناسقاً. ولعلّ فی اختیار الزهراء (علیها السلام) لتلك العناوین المتعدّدة فی خطبتها المباركة ـ التی یرتبط بعضها بالعبادات الفردیّة والبعض الآخر بالعبادات الاجتماعیّة، ویتّخذ بعضها طابع الإثبات والآخر طابع النفی ـ درساً لنا كی نعلم أنّ الإسلام لا یهتمّ ببعد واحد من الأبعاد الإنسانیّة. من أجل ذلك علینا أن نستغلّ كلّ ما أعطانا الله وما نشعر انّ بإمكاننا تهیئة الأرضیّة لنموّه وازدهاره لوجه الله وفی سبیله. فالأولیاء الكُمّل كانوا یجهدون ما أمكنهم لأن یستعملوا فی عباداتهم جمیع أعضائهم.
إنّها لنظرة شمولیّة أن نعتقد أنّ علینا إنفاق كلّ وجودنا وكیاننا فی سبیل العبودیّة لله عزّ وجلّ وأن نؤمن أنّه تعالى لم یخلق فینا شیئاً غیر ذی فائدة أو شیئاً یشكّل عائقاً أمام عبادتنا له جلّ ثناؤه. وصحیح أنّه قد یقع تزاحم بین نشاطات الأعضاء المختلفة أو بین الجسد والروح، وفی حالة كهذه لابدّ أن نعمد إلى تعدیل هذا التزاحم طبقاً لأوامر الله ونواهیه.
فی هذه الخطبة الشریفة تذكر سیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) حكمتین للزكاة:
1. تزكیة النفس: أی إنّ الزكاة من شأنها أن تطهّر روح الإنسان وتزكّیها. وهنا قد یسأل سائل: كیف تکون الزكاة مطهرة للروح و سبباً فی تنمیتها ورشدها؟ نقول: كأنّ كلمة «الزكاة» ـ التی تنتمی إلى عائلة «التزكیة» ـ كانت تُستعمل فی أصل اللغة عندما یراد نزع زوائد شیء ما للمساعدة على نموّه ورشده، كتشذیب أغصان الشجرة حیث كان یطلق على هذه العملیّة «تزكیة». فالإنسان بإعطائه الزكاة یُخرج جزءاً من ماله لیعطیه لغیره وهذا یماثل تشذیب أغصان الشجرة وأوراقها الزائدة حیث یساعدها ذلك على نموّها وإیتائها ثمراً أفضل. فقولنا: الزكاة تؤدّی إلى زیادة الرزق هو أقرب إلى الاستیعاب والفهم من قولنا: إنّ الزكاة توجب تطهیر الروح. فما السرّ فی ارتباط إیتاء الزكاة بتطهیر الروح یا ترى؟
لیس للامور الدنیویّة والمادّیة المتوفّرة للإنسان أصالة وهی لا تتّخذ بالنسبة له إلاّ طابع الوسیلة. وعلى خلاف ما یتصوّره المادیّون ومنكرو وجود الله تعالى فإنّنا لم نُخلَق لنقتصر على التمتّع بلذائذ الدنیا، بل إنّ الحیاة الدنیا برمّتها لا تمثّل فی الحقیقة إلاّ طریق سفر ونحن فیه مسافرون، أمّا المقصد فهو فی مجال آخر، ولا ینبغی لنا فی هذا الطریق أن نتزوّد بأكثر ممّا نحتاجه للوصول إلى المقصود. فالدنیا نفسها لیست هدفاً بالأصالة. لكنّ الله عزّ وجلّ قد تلطّف علینا، فمن أجل حثّنا على السعی للإفادة من هذه الآلاء فإنّه قد جعل فی الانتفاع منها لذّة ومتعة أیضاً. فلولا ما فی تناول الطعام والشراب من لذّة لما اهتممنا بهما ولانقرضنا من الوجود، ولولا ما اُودع فی الإنسان من الغریزة الجنسیّة لضعف الحافز لدیه لتأسیس الاُسرة وإنجاب الأطفال. فقد أودع الله فی وجودنا المیل إلى الملذّات المادّیة والدنیویّة كی یحرّضنا على تأمین حیاتنا المادّیة من أجل أن نستخدم هذه الحیاة كوسیلة لبلوغ السعادة الأبدیّة. فإذا كنّا راغبین بنیل تلك السعادة الأبدیّة ورضوان الله تعالى فما علینا إلاّ السیر فی هذا الطریق؛ أی أن نبقى فی هذا العالم بمقدار ما قدّره الله تعالى لنا وأن نصارع مصاعب الحیاة ومشاقّها كی ننعم بالتكامل المعنویّ فی ظلّ طاعة الباری جلّ شأنه. فمن مقتضیات هذه الرؤیة أنّنا سننظر إلى الحیاة نظرة وسیلة لا هدف. وكلّما قوی هذا الاعتقاد فی نفس المرء فإنّه سیتجلّى أكثر فأكثر فی أعماله وتصرّفاته؛ فهو مثلاً سیتناول الطعام لیكتسب من الطاقة ذلك المقدار الذی یعینه على إنجاز واجباته فحسب ویتجنّب التخمة، أو أنّه لن یهتمّ كثیرا بلون اللباس، وارتداء الجدید كلّ یوم، والاعتناء المفرِط بكوْیِه، وما إلى ذلك؛ لأنّ المقصود من اللباس هو حمایة المرء من برودة الجوّ وحرارته. بالطبع إنّ الزینة بحد ذاتها هی من متطلّبات الإنسان وإنّ كسوة البدن بما هو مطلوب من الثیاب أمر واجب فی الدین الإسلامیّ؛ أمّا أن یتركّز جلّ همّ الإنسان على ملبسه، وتوفیر أسباب زینته، وتصفیف شعره، وتحسین مظهر وجهه بحیث یأخذ ساعات من وقته فهو ممّا لا ینسجم مع تلك الرؤیة.
وخلاصة الأمر فإنّ المرء فی حیاته الاجتماعیّة سیصل بالتدریج إلى نتیجة مفادها أنّه إذا رغب فی تأمین ملذّاته فلابدّ أن یحوز المال، وهو لذلك سیسعى وراء كسب المال، وإذا كان ممّن یتحلّى بمقدار كاف من الإیمان فسوف یجتهد لأن یكون دخله من طُرق الحلال. كما أنّ الإنسان بطبعه لا یقنع بحدّ معیّن فهو سیبذل جهداً كبیراً ووقتاً كثیراً فی سبیل كسب المال. لكنّ العناء الذی یتجشّمه فی حصوله على هذا المال سوف یولّد فی نفسه تعلّقاً شدیداً به. فإذا تعلّق به سِیقت ـ أوّلاً ـ قواه الفكریّة والعاطفیّة ومشاعره وأحاسیسه إلى هذه الوجهة؛ حتّى إذا قیل له: أنفق ما اكتسبته على غیرك! فسیشقّ علیه ذلك كثیراً؛ بل سیكون إخراج خمس ماله وسائر واجباته المالیّة صعبا علیه للغایة. وهذا هو ما ینتاب الإنسان من تعلّق بامور الدنیا وهو غایة فی الخطورة ومن شأنه، إذا استفحل فی نفس المرء، أن یجرّه إلى الكفر، وقد جرّ الكثیرین إلى هذه العاقبة فعلاً. فالمال على أقلّ تقدیر سیشغل ذهن الإنسان ویجعله یقضی الوقت، الذی یتحتّم علیه قضاؤه فی العبادة والتكامل المعنویّ، فی التخطیط لزیادة دخله. وهذا لعمری تلوّث للروح ونكبة لها وهو أكبر قاطع طریق بوجه تكامل الإنسان؛ فهو أشبه ما یكون بالطیر المربوط برجله حجرٌ فكلّما ثقل الحجر شكّل مانعاً أكبر لطیرانه. فالطیر یعرف فنّ الطیران ویمتلك الوسائل المُعَدّة له؛ غیر أنّ الحجر هو الذی یعیقه من ذلك. فالإنسان یمتلك العقل والشعور والمعرفة، وقد شاهد تعالیم الأنبیاء (علیهم السلام)، وعلِم أنّ السعادة الأبدیّة تكمن فی الجنّة وأنّ الدنیا لا تعدو كونها لعبة: «إِنَّمَا الحَیَوٰةُ الدُّنْیَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ»2 لكنّه ینسى ذلك على صعید العمل. فإضاعته لورقة مالیّة من شأنه أن یسلب النوم من عینیه ویشغل فكره أثناء الصلاة. كلّ هذه الاُمور هی علامات التعلّق بالدنیا. فهل سیتوفّر لمثل هذا لشخص حالٌ یعینه على العبادة یا ترى؟ وهل سیتمكّن من الاستیقاظ باكراً فی السحر للوقوف بین یدی الله خاشعاً متضرّعاً مناجیاً؟ اذن هذا التعلّق هو نوع من التلوّث الذی یصیب الروح.
ما السبیل یا ترى للتخلّص من هذا التلوّث والدنس؟ لقد بیّنت الآیة الشریفة التالیة علاج هذا الداء بقولها: «لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ»3؛ فإذا رغبتم بالتطهّر فلابدّ من أن تعمدوا إلى الفائض والزائد وتشذّبوه، فتعطوا بعض ما جمعتم من أموالكم للآخرین، وإلا فإنّ التعلّق بها سیعیق عملیّة تقدّمكم ورقیّكم. فالتعلّق هو بمثابة الحجر المشدود إلى أرجلكم؛ فإذا أردتم الطیران فیتعیّن علیکم أن تفكّوا هذا الحجر. ومن هنا فقد أوجب الله تعالى دفع قسم من المال بعنوان الخمس والزكاة، غیر أنّه ترك المجال مفتوحاً أیضاً لإنفاق المزید من المال، هذا وإن كان على المرء أن یراعی الاعتدال فی جمیع الامور.
وعلى أیّ حال فإنّ الطریق المثلى للحدّ من التعلّقات الدنیویّة هی مساعدة الآخرین. فالقرآن الكریم یقول: «لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ» لا أن تنفقوا ممّا یسبّب لكم الإزعاج وتودّون التخلّص منه. بل إنّ القرآن یؤكّد على هذه النقطة بقوله: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَیِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَیَمَّمُواْ الْخَبِیثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِیهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِیهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَنِیٌّ حَمِید»4؛ أی علیكم بالإنفاق من طیّب ما جنیتم من الأموال وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تنفقوا من خبائث أموالكم التی لستم أنتم على استعداد للقبول بها إلاّ عن إغماض وإكراه.
إذن فالقلب یطهر من هذه الخبائث بإعطاء الزكاة. فهذا القرآن یخاطب النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) بقوله: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّیهِم»5. فالتعلّقات الدنیویّة، التی تقف عقبة أمام حبّ الآخرة والاُنس مع الله والاستئناس بعبادته عزّ وجلّ، تزول بإیتاء الزكاة؛ ومن هذا المنطلق تقول مولاتنا (علیها السلام): «... وَالزَّكَاةَ تَزْكِیَةً لِلنَّفْسِ»؛ أی جعل الله الزكاة تزكیة وتطهیراً للقلب والروح.
من الشائع فی ثقافتنا القول: طهّر مالك بدفعك الخمس والزكاة؛ وذلك لأنّه مع وجود الحقوق الواجبة التی لله عزّ وجلّ ضمن أموالنا یصبح التصرّف فی المال حراماً، والحرام نجس ینجّس المال ویجعله قذراً؛ ومن هنا یقال: طهّر مالك! وهذا تعبیر صحیح أیضاً؛ لكنّ المسألة الأساسیّة هی تطهیر روح الإنسان.
2. ونماء فی الرزق: فالفائدة الثانیة للزكاة هی فائدة دنیویّة تتمثّل فی توسیع الرزق فی هذا العالم. فطاعة الله عزّ وجلّ ومراعاة الأحكام الإلهیّة تؤدی الى ان یفتح الله تبارك وتعالى بابَ رحمةٍ بوجه الإنسان لیس بمقدور الإنسان نفسه أن یحصی منافعها. فالقرآن یقول: «وَمَن یَتَّقِ اللهَ یَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَیَرْزُقْهُ مِنْ حَیْثُ لاَ یحَتَسِبُ»6. فهذا هو الثواب الذی یثیب الله به عباده الأتقیاء. وهذه هی إحدى علل زیادة الرزق بواسطة إعطاء الزكاة.
أمّا الدلیل الآخر فهو ما توصّل إلیه المؤمنون بتجربتهم العملیّة. فأنا شخصیّاً أعرف واحدا أهل العلم ممّن هو ـ حقیقةً ـ مظهر من مظاهر السخاء والكرم، فلم أرَ فی حیاتی مَن هو أكثر منه بسطة یدٍ فی البذل والعطاء. كان هذ الرجل یقول: كلّما بذلتُ وأنفقت أكثر زاد رأس مالی بغیر حساب، وكنموذج على ذلك فإنّ مائة من شیاهی ولدت هذا العام توأمین. فكلّنا قد جرّب أنّ المال الذی ندفعه كزكاة نُعوَّض عنه ویفاض على أموالنا المزید من البركة، من دون أن ندری لماذا.
ومن الممكن توضیح هذا المعنى باسلوب علمیّ بالنسبة لمن یهتمّ بالقضایا العلمیّة ولا یعیر كبیر اهتمام للمسائل التعبدّیة. فإنّ قدرة المستهلك على الانتفاع من المنتوج هی مسألة اقتصادیّة مهمّة وإنّ تطوّر المجتمع اقتصادیّاً هو رهن بها. فزیادة الإنتاج من دون توفر مستهلِك یشتریه لن یكون ذا فائدة لأصحاب رؤوس الأموال. فعلى صعید الاقتصاد العالمیّ مثلاً إذا اُرید نموٌّ ونهوضٌ بالاقتصاد فلابدّ من التفكیر فی البدء بسوق لتسویق المنتجات. كما أن الدول الرأسمالیّة تسعى جاهدة، حتّى وإن كان عن طریق خداع شعوبها، أن ترفع من مستوى القدرة الشرائیّة لعامّة أفراد الشعب ولو مؤقّتاً. فالصنادیق المالیّة وبطاقات الائتمان التی زاد عددها فی هذا القرن إنّما تسهّل إعطاء القروض للناس لهذا الغرض، وهذا نوع من التكتیك من أجل أن یجنی صاحب رأس المال هو الآخر المزید من الربح. وعلى مستوى الاقتصاد العالمیّ فإنّ الدول الصناعیّة المتقدّمة تسعى ـ تحت شعار المساعدات العلمیّة والاقتصادیّة والثقافیّة والمصرفیّة وما إلى ذلك ـ إلى تأسیس مؤسّسات اقتصادیّة وصنادیق نقد وتمنح الدول الاخرى قروضاً مالیّة لیس الهدف من ورائها الا تصریف منتجاتها وبضائعها. إذن فإنّ إحدى سبل النهوض باقتصاد المجتمع هو مساعدة الفقراء لكی یكتسبوا قدرة شرائیّة. فإن اكتسبوا تلك القدرة عاد نفع ذلك على المنتجین أیضاً.
ومن هنا فإنّ إحدى فوائد الزكاة هی أنّها ترفع القدرة الشرائیّة للمعوزین فی المجتمع، وبالنتیجة فإنّ تحرك السیولة النقدیّة فی شرایین المجتمع تؤدّی إلى النموّ فی الاقتصاد. بطبیعة الحال فإنّ على من یمتلك أموالاً أكثر أن یعطی بعضها لمن یملك أقلّ منه. إذن فعن طریق التجربة من ناحیة، والاستدلال العلمیّ من ناحیة اخرى، وعبر البیان القرآنیّ من ناحیة ثالثة نفهم أنّ الإنفاق هو من السبل الكفیلة بتحسین الوضع الاقتصادیّ للمجتمع.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرین
1. بحار الأنوار، ج29، ص223.
2. سورة محمّد (صلّى الله علیه وآله)، الآیة 36.
3. سورة آل عمران، الآیة 92.
4. سورة البقرة، الآیة 267.
5. سورة التوبة، الآیة 103.
6. سورة الطلاق، الآیتان 2 و3.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 7 أیلول 2010م الموافق للیلة الثامنة والعشرین من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«... وَالصِّیَامَ تَثْبِیتاً لِلإِخْلاصِ، وَالْحَجَّ تَشْیِیداً لِلدِّین ...»1
وصلنا فی شرحنا للخطبة الفدكیّة إلى القسم الثانی الذی عرّجت مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) فیه إلى ذكر حكمة تشریع عدد من عناوین الأحكام والقیم الإسلامیّة، وقد تطرّقنا فی اللیالی الفائتة، بمقدار ما آتانا الله من وسع وتوفیق، إلى ذكر ما یخصّ الإیمان والصلاة والزكاة منها. وفی المقطع التالی تؤكّد الزهراء (علیها السلام) على إحدى حكم تشریع الصیام. ونودّ الإشارة هنا إلى أنّ هذه الحكم بالطبع لا تحصر علل هذه التشریعات فیها؛ بل لقد اختارت (علیها السلام) هنا ما هو أكثر أهمّیة بما یناسب المقام.
إنّ للصیام میزةً بارزة لا تتوفّر فی غیره من العبادات وهی أنّ كون الصیام عملاً إمساكیّاً وعبادةً قوامها الترك لا یترك فیه مجالاًّ للریاء والسمعة. فالصائم لا یمكنه ان یرائی بصومه بحدّ ذاته، إلاّ أن یتعمّد ذلك ویبادر إلى إظهاره بقوله: إنّنی صائم، فهذه قضیّة اُخرى. فنفس الصیام هو عبارة عن ترك مجموعة من المفطرات، سواء أكان الشخص صائماً أو كان إمساكه لغرض آخر. اما العبادات الاُخرى فهی تختلف فی هذا الجانب. فعندما یصلّی المرء یتبیّن من ظاهر عمله أنّه مشغول بالصلاة، وعندما یدفع الخمس أو یعطی الزكاة فسیعلم الشخص المستلم للمال على الأقل أنّ فلاناً أعطى مالاً. وكذا الحال بالنسبة للحجّ والجهاد وسائر العبادات الاخرى. أمّا فیما یتعلّق بالصوم فالوضع یختلف، وهو من هذا الجانب أقرب إلى الإخلاص من غیره. ومن هذا المنطلق فإنّ الذی یؤدّی هذه العبادة على مدى شهر كامل سیكون عمله هذا تمریناً على الإخلاص، إذ أنّ تكرار المرء لعمل معیّن كلّ یوم طوال شهر من الزمن یجعل منه مَلَكة. ولهذا فإنّ الصیام یثبّت الإخلاص فی نفس ابن آدم، وهذه الفائدة تترتّب على الصیام أكثر من ترتّبها على سائر العبادات. من هنا یمكن القول: إنّه كما قالت السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) فإنّ الحكمة البارزة للصیام هی «تثبیت الإخلاص»، على أنّ هذا الكلام لا یعنی بالضرورة حصر فائدة الصیام بذلك.
لقد ذكرت الأحادیث فوائد جمّة للصیام، منها البدنیّة، ومنها الصحّیة، ومنها الاجتماعیّة، ومنها الأخلاقیّة. ولعلّ من أشهر تلك الأحادیث ما رُوی عن النبیّ (صلّى الله علیه وآله):«صوموا تصحّوا»2. فالصوم هو واحد من أفضل السبل للحفاظ على صحّة الجسم وسلامته؛ فهو ینظّم عمل الجهاز الهضمیّ، ویدفع عن البدن سمومه، ویذیب الفائض من شحومه، ...الخ. فالصیام الیوم یُعدّ فی الكثیر من المراكز الصحّیة العالمیّة السبیل الأمثل للحفاظ على السلامة والعلاج الأنجع للكثیر من الأمراض، وقد صُنّفت فی هذا المجال مؤلّفات كثیرة.
من منافع الصیام الاخرى التی تؤكّد علیها الروایات هی أنّ الأثریاء یتذوّقون بالصیام طعم الجوع. فالذین تكون حیاتهم مؤمَّنة من جمیع النواحی قد تعوّدوا على تناول الطعام على الدوام، ولذا فإنّهم لا یعطون لأنفسهم مهلة الإحساس بالجوع، ولن یفهموا معنى الجوع بحقیقته. لهذا فإنّ إحدى الحكم التی جعلها الله تعالى للصیام هی فهم الأثریاء لمعنى الجوع وإدراكهم لآلام الفقراء ولو یسیراً كی یعمدوا إلى تفقّدهم والنظر فی أحوالهم. وهناك فوائد اُخرى للصیام غیر أنّ الزهراء البتول (سلام الله علیها) اكتفت بذكر حكمة واحدة من حكم الصیام بما یتناسب مع مقتضى المقام.
«وَالْحَجَّ تَشْیِیداً لِلدِّین».
انّ السمة الفردیّة والطابع الشخصیّ هو ا لذی ساد على العبادات المذكورة لحدّ الآن والحكم التی تؤکد علیها. ومن هذه النقطة فصاعداً تتحوّل الزهراء (علیها السلام) بشكل تدریجیّ إلى المسائل الاجتماعیّة.
إنّنا قلّما نفكّر بالقضایا الاجتماعیّة، وإنّ من بركات الثورة الإسلامیّة علینا هی طرحها للأحكام والقیم الاجتماعیّة فی المجتمع وتعریفنا بالحكم الكامنة وراء معظم الأحكام الاجتماعیّة فی الإسلام والواجبات الملقاة على عاتقنا فی هذا المجال. ففی فترة ما قبل انتصار الثورة لم تكن مثل هذه المواضیع لِتُطرح فی التجمّعات الدینیّة إلاّ نادراً. لهذا فإنّ من حقوق الإمام الراحل (رضوان الله تعالى علیه) على المجتمع الإسلامیّ عامّة وعلینا نحن الإیرانیّین خاصّة هی أنّه أحیا هذا الجانب من الإسلام فی بلدنا.
إلى جانب الآثار الاجتماعیّة للحجّ ثمّة آثار فردیّة فیه أیضاً. ففی الحجّ یتمرّن الحاجّ على العبودیّة، إذ تتوفّر له فی أیّام الحجّ ـ بعیداً عن كلّ الشؤون المادّیة والمشاكل العائلیّة والمدنیّة وما إلى ذلك ـ فرصة للاُنس مع خالقه وممارسة العبودیّة له تعالى. ولعلّ من أروع فوائد الحجّ هو هذا التمرین على العبودیّة.
لكنّه من الأفضل أن یتقن الحاجّ، إلى جانب تعلّمه أحكام الحجّ، الحِكَم من وراء تلك الأحكام أیضاً. فهذا الأمر من شأنه أن یقوّی إیمان المرء ویقوده إلى إدراك أنّ الله لم یسنّ أحكام الإسلام جزافاً؛ ومن هذا المنطلق نرى أنّ القرآن الكریم من جانب، ورسول الله (صلّى الله علیه وآله) وأئمّة أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین) من جانب آخر یبیّنون تلك الأحكام كلّما وجدوا الفرصة سانحة لذلك، وأكثر ما روی فی هذا الجانب كان عن الإمام الرضا (علیه السلام)، إذ أنّ أغلب الروایات المدوّنة فی كتاب «علل الشرائع» الذی یجمع علل الأحكام منقولة عنه (علیه السلام). لكن لا ینبغی أن تتولّد فی الإنسان شیئا فشیئاً حالة یكون دافع امتثاله لأوامر الله تعالى وتعالیمه فیها منحصراً بما تنطوی علیه من منافع. فنحن قلّما نلتفت إلى هذا المعنى وهو أن نتعلّم الامتثال لأوامر الله تعبّداً من دون الالتفات إلى منافع الأحكام. فكلمة «التعبّد» مأخوذة من «العبد»؛ وهی تعنی أن یكون سلوك المرء من منطلق عبودیّته. فعلى العبد أن یتمرّن على العمل وفقاً لحكم الله لكونه حكم الله؛ بل أن یلقّن نفسه أنّه حتّى وإن كان فی تنفیذ حكم الله ضرر علیه فإنّ علیه القیام به لكونه طاعة لله. إذ من الواجب على العبد طاعة مولاه، فكلّ وجودنا وما لدینا ملك لله. وعندما یقول عزّ وجلّ لی: علیك فی الساعة الفلانیّة أن تفعل بالجسم الذی أعطیتك أنا إیّاه كذا وكذا، فلابدّ أن یكون جوابی: سمعاً وطاعة! فكلّ ما لدیّ هو ملكك وأنا أمتثل كلّ ما تأمرنی به.
یقول المرحوم الشیخ علی أكبر التربتیّ: «سُنّ الحجّ من أجل سدّ هذا النقص فی أنفسنا». فالله یأمرنا فی الحجّ أن نقف لیلاً فی الأرض الفلانیّة! فإذا سألتَ: لماذا؟ وما الخصوصیّة التی لهذه الأرض؟ فالجواب الوحید الذی سیأتیك: إنّه حكم الله وعلیك الامتثال له؟ وبمجرّد أن ینبلج الصبح فإنّه یتعیّن الانطلاق فوراً باتّجاه منى لا قبل هذا الحین ولا بعده. یجب علیك أن تطوف بالبیت، وتسعى بین الصفا والمروة و...الخ. وما من ردّ على السؤال عن الغایة من هذه الأعمال إلاّ القول: انّ الله قد أمر بذلك وعلینا الطاعة!
یقول المرحوم الشیخ التربتیّ: «إنّ أسمى خصوصیّات الحجّ هی التمرین على العبودیّة». وإنّ أنصع وأروع نماذج العبودیّة هی استعداد نبیّ الله إبراهیم لذبح ولده إسماعیل (علیهما السلام)، فإنّ ذبحنا للهدی یوم العید إنّما هو تخلید لهذه الحادثة.
لقد رأى نبیّ الله إبراهیم (علیه السلام) فی رؤیا مرتبطة بالوحی أنّه یذبح ولده إسماعیل (علیه السلام)، ففهم من ذلك أنّه واجب یتعیّن علیه القیام به. فصارح ابنه إسماعیل (علیه السلام) بذلك قائلاً:«یَابُنَیَّ إِنِّی أَرَى فِی الْمَنَامِ أَنِّی أَذْبَحُكَ»3. أمّا السرّ فی عدم تكلیف الله تعالى لإبراهیم (علیه السلام) عبر الوحی الكلامیّ، وأنّه لم یرسل جبرئیل قائلاً: «یا إبراهیم اذبح ابنك»، بل جسّد ذلك له بالرؤیا، فلعلّه یعود إلى أنّه لو قال له: «أذبح ابنك» لتعلّق الحكم بالذبح ولتحتّم علیه حزّ رأسه كی یتحقّق الذبح؛ والحال أنّ هذا لم یكن أصل الحكم؛ بل كان الحكم أصلاً هو تمریر السكّین على نحر إسماعیل (علیه السلام). فلقد جُسِّد له هذا التكلیف كی یظنّ أنّ الواجب المكلّف به هو الذبح الحقیقیّ؛ ومن هنا فإنّه عندما مرّر السكین على نحر إسماعیل (علیه السلام) جاءه الخطاب:«قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْیَا»4؛ فلقد فُسِّرت الرؤیا التی رأیتَها ولقد قمتَ بما اُنیط بك من تكلیف. لقد كان هذا امتحاناً للنبیّ إبراهیم (علیه السلام) لیُعلم هل إنّه على استعداد لأن یذبح ابنه تنفیذاً لحكم الله تعالى أم لا.
وبهذا الامتحان أیضاً سوف یتبیّن كمال إسماعیل (علیه السلام). فعندما أخبره والده عن التكلیف الذی كلّفه الله تعالى به قال له:«یَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ»5. وحینما أحسّ إسماعیل (علیه السلام) من أبیه الخوف من أنّه لن یصبر تحت وطأة السكّین، أضاف القول: «سَتَجِدُنِی إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِینَ». ولم ینس إسماعیل (علیه السلام) أن یقول: «إن شاء الله»؛ وهذا یعنی: إنّنی لیست مطمئنّاً من نفسی وأطلب العون من الله عزّ وجلّ. ولعمری فإنّ مقدار المعرفة والأدب اللذین تطفح بهما هذه العبارة المقتضبة هو من الشدّة بحیث یدفع المرء بعد مضیّ آلاف السنین على هذه الحادثة إلى الإعجاب بهذا الشابّ المؤدّب أشدّ الإعجاب!
كان نبیّ الله إبراهیم (علیه السلام) یعلم أنّ الأحكام الإلهیّة لیست جزافاً؛ فهو لم یسأل: «ما الذی جناه هذا الشابّ المسكین؟ ولماذا یتحتّم علیّ ذبحه؟ وإذا كان ممّن یجب قتله، فلماذا لا یتصدّى لهذا الأمر أحد غیری؟». فلا إبراهیم ولا إسماعیل (علیهما السلام) قد أبدَیا أی تردّد أو شكّ فی المسألة. ومن هنا فإنّ من واجبنا أن نشدّ الرحال إلى تلك الأرض التی نفّذ إبراهیم الخلیل (علیه السلام) فیها أمر الله بلا مناقشة كی نتذكّر هذه الواقعة، وتداعب مشامّنا هناك نسمة من عبیر روح عبودیّة ذلك العبد الصالح، لنفهم أنّه هكذا ینبغی أن یكون العبد فی مقابل مولاه.
ذكر القرآن الكریم للحجّ مصالح عدّة وأكّد على أنّه: «جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَیْتَ الْحَرَامَ قِیَاماً لِّلنَّاسِ»6، ومفادها أنّه لولا الكعبة لابتُلی أفراد الاُمّة الإسلامیّة بحالة من السبات وانعدام الحركة، فإنّها الكعبة التی تبعث الحیویّة والنشاط فی روح المجتمع. فمن أجل تشویق الناس إلى أداء مراسم الحجّ یقول الباری عزّ وجلّ فی سورة الحجّ: «لِیَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَیَذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ فِی أَیَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِیمَةِ الأَنْعَام»7. فالقرآن الكریم یقول بمنافع لا تُحصى ولا تُعدّ للحجّ والروایات من جهتها قد بیّنت تلك المنافع بشكل جزئیّ أیضاً. على سبیل المثال فإنّ الناس القادمین من بلدان مختلفة سوف یتعارفون فیما بینهم، ویتبادلون المعلومات، ویلتفتون الى مصالحهم الاقتصادیّة، ویفهمون ما التجارة المفیدة لكلّ مكان من العالم، و...الخ.
لكنّ الزهراء (سلام الله علیها) تطرح فی هذه الخطبة الشریفة فائدة اُخرى للحجّ ممّا لو وُضعت جمیع منافع الحجّ فی كفّة ووُضعت هذه الفائدة فی كفّة اُخرى لرجحت كفّة الأخیرة على سائر المنافع. فهی (علیها السلام) تقول: «وَالْحَجَّ تَشْیِیداً لِلدِّین»، والتشیید هو إقامة البناء على نحو محكم وجمیل ورفع قواعده، و«شیّد البناء» أی بناه بشكل متقَن ورفیع وجمیل. تقول مولاتنا (سلام الله علیها): الحجّ یجعل من الدین بناءً رفیعاً وعالیاً وجمیلاً وعظیماً. ولعلّ المقصود من ذلك هو أنّه لولا تشریع الحجّ ولولا تكلیف المسلمین كلّ عام بعقد مثل هذا الاجتماع العظیم والضخم لَما تجلّت اُبّهة الإسلام وعظمته لأهل العالم. ففی هذه المراسم یُستعرَض جلال الإسلام وعظمة الاُمّة الإسلامیّة وممّا لا شكّ فیه أنّ مشاهدة مثل هذه المناظر الرائعة من قبل غیر المسلمین وحتّى نقلها ووصفها لهم تثیر لدیهم حالة من الدهشة الأمر الذی یدفعهم إلى التساؤل عن ماهیّة هذه الجاذبیّة التی تشدّ الناس كلّ هذا الانشداد إلى أرض جدْب لا فیها ماء ولا طقس حسن ولا تتوفّر فیها أسباب المتعة والراحة؟
من شدّة لطف الله تعالى بعباده فإنّه لا یبخل علیهم بأیّ وسیلة من الممكن أن تؤثّر فیهم وتجذبهم ولو خطوة واحدة نحو حضرته. فهو یفتح أمام الناس سبلاً من شأنها أن تحفّز فی أنفسهم بشكل طبیعیّ التوجّه إلى الله والخضوع أمام جلاله وعظمته؛ لأنّ هذا التوجّه والخضوع هو العامل الوحید الذی یدفع الإنسان إلى الترقّی روحیّاً ومعنویّاً ویوصله إلى ذلك المقام الذی خُلق من أجله.
فالله جلّ ذكره یخاطب إبراهیم الخلیل (علیه السلام) بالقول: ادع الناس لأن یأتوا الى مكّة بأیّ وسیلة ممكنة وأن لا یتركوا الحجّ: «وَأَذِّنْ فِی النَّاسِ بِالْحَجِّ یَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلَى كُلِّ ضامِرٍ یَأْتینَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمیقٍ»8، لماذا؟ لأنّ هذه المراسم هی أفضل وسیلة من شأنها أن تولّد دافعاً عالمیّاً لدى عامّة الناس. ولا یدور الحدیث هنا عن شخص واحد أو شخصین. فالمرحوم العلامة الطباطبائیّ (رضوان الله تعالى علیه) یروی عن استاذه المرحوم السیّد القاضی (قدّس سرّه) قوله: «قد یَبتلی الله أحیاناً شخصاً بالمرض أو الفقر أو ما شاكلهما لسنة كاملة من أجل أن یتفوّه بعبارة «یا الله» ولو لمرّة واحدة، فقول «یا الله» مرة واحدة له من الأثر فی سعادة المرء بحیث یستحقّ أن یقاسی الإنسان لأجله سنة من العذاب والمحنة». وبالطبع عندما یحظى جمع غفیر ملیونیّ من البشر بهذه البركات فإنّ ذلك یمثّل غایة فی القیمة والنفاسة عند الله سبحانه وتعالى. فهذا العمل یعزّز من قوّة الدین إلى أبعد الحدود؛ بحیث إنّه إذا صادف فی أحد الأعوام أن لا یتوفّر عدد كاف من الحجیج لأداء مناسك الحجّ ولا یحضر إلاّ نفر قلیل لأداء مراسم الحجّ فإنّ الله یوجب على حاكم الشرع أن یبعث إلى الحجّ جماعة على نفقة بیت المال. فالله تعالى یهتمّ كلّ الاهتمام بأن یشمل برحمته حتّى الشخص الواحد الذی یضاف إلى الحجیج.
ومن العجیب أنّنا كلّما ذهبنا إلى الحجّ یشتدّ اشتیاقنا إلیه. لقد صادفت مرّةً رجلاً أمریكیّاً جدید العهد بالإسلام كان قد ذهب إلى مكّة المكرّمة لأداء الحجّ، فسألتُه: خلال هذه الرحلة أیّ مكان شعرتَ فیه بمتعة أكبر؟ قال: «لم ألتذّ بشیء أكثر من لذّتی بجلوسی أمام الكعبة وإطالة النظر إلیها. فلقد كان هذا المنظر من اللذّة لی بحیث لم أكن على استعداد لأن استبدل به أیّ شیء آخر». ومن محاسن الصدف أنّ من مستحبّات أعمال المسجد الحرام هو النظر إلى الكعبة المشرّفة. فلقد أودع الله عزّ وجلّ فی هذه الأحجار السوداء وهذه الأرض الجدب التی لا ماء فیها ولا عشب من الجاذبیّة ما یجعل القلوب تهوی إلیها بغیة أن ینال الرحمة الإلهیّة عدد أكبر من البشر. فهو جلّ شأنه یرید أن یجعل فی الناس الأهلیّة واللیاقة لإدراك المزید من رحمته.
إذن فالحكمة الرئیسیّة من الحجّ هی تشیید الدین؛ بمعنى أنّ الحجّ یُحكِم بناء الدین ویضفی عظمة إلى عظمته. فلولا الحجّ لكان بناء الدین بناءً ضعیفاً، هامدا، ساكناً، لا رمق فیه ولَمَا استفاد الناس منه، ولَغَفل الكثیرون عنه وعندئذ سیؤدّی إلى حرمانهم من عظیم البركات؛ فی حین أنّ وجود الحجّ كان سبباً فی جعل بناء الدین أكثر رفعة وعظمة وجذبا للقلوب نحوه كی تحظى بالمزید من الرحمة الإلهیّة الواسعة.
رزقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. بحار الأنوار، ج29، ص223.
2. نهج الفصاحة، ص547.
3. سورة الصافّات، الآیة 102.
4. سورة الصافّات، الآیة 105.
5. سورة الصافّات، الآیة 102.
6. سورة المائدة، الآیة 97.
7. سورة الحجّ، الآیة 28.
8. سورة الحج، الآیة 27.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 8 أیلول 2010م الموافق للیلة التاسعة والعشرین من شهر رمضان المبارك من العام 1431ﻫ ، نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«... وَالْعَدْلَ تَنْسِیقاً لِلْقُلُوبِ، وَطَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ، وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً مِنَ الْفُرْقَةِ ...» 1
أشرنا فی المحاضرة الماضیة إلى اثنین من تعالیم الإسلام وقمنا بتوضیحهما بمقدار ما وفّقنا الله تعالى إلیه من وسع. ومتابعةً للخطبة الغرّاء فقد ذكرت مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) ثلاثة عناوین اُخرى من تعالیم الدین، التی تُعدّ - فی نظری - بیت قصید الخطبة الفدكیّة.
تقول مولاتنا (علیها السلام): لقد أمر الله عزّ وجلّ بالعدل كی تسود القلوب حالة من الانسجام والوفاق، وجعل طاعتنا أهل البیت (علیهم السلام) سبباً لانتظام الملّة.
ویختلف مصطلح «الملّة» عن مصطلح «ملّت» المعروف فی الفارسیّة؛ حیث یعنی الأخیر تلك الجماعة من البشر التی تعیش حیاة اجتماعیّة مشتركة فی بقعة جغرافیة واحدة وتجمع أفرادها عناصر عرقیّة، وهی تساوی مصطلح «nation» فی الانجلیزیّة و«شعب» فی اللغة العربیّة. لكنّ مصطلح «الملّة» فی العربیّة یعنی شیئاً آخر، ألا وهو شریعة الحیاة، ومنهج السلوكیّات والآداب والسنن التی تحكم المجتمع. إذ یقول القرآن الكریم على لسان النبیّ الكریم (صلّى الله علیه وآله): «قُلْ إِنَّنِی هَدَانِی رَبِّی إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِیمٍ دِیناً قِیَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِیمَ حَنِیفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِینَ» 2 ؛ أی إنّنی اتّبع شریعة جدّی إبراهیم (علیه السلام) فی مقابل دین الیهود والنصارى.
ثمّ تقول الزهراء البتول (سلام الله علیها): «وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً مِنَ الْفُرْقَةِ»؛ أی وقایة من تفرّق الاُمّة؛ فهی (علیها السلام) تطرح فی هذه العبارة ثلاث قضایا لا تُعدّ أیّ واحدة منها من قبیل العبادات والواجبات العبادیّة التی قد تمّ الحدیث عنها حتّى الآن، بل إنّ هذه القضایا الثلاث ترتبط ارتباطاً مباشراً بالمجتمع.
ونقدّم هنا ما یبدو لنا توضیحاً لهذه النقاط: لقد اقتضت حكمة الباری عزّ وجلّ أن تربط الناس علاقات خاصّة وأن یعیشوا ضمن حیاة اجتماعیّة مشتركة؛ خلافاً لبعض الحیوانات التی تعیش - غایة ما فی الأمر - مع أزواجها.
فالحیاة الاجتماعیّة مفیدة، بل ضروریّة، للبشر ومن المعلوم أنّ المرء لا یتسنّى له بلوغ الكمالات بمعزل عن الحیاة الاجتماعیّة؛ بل قد لا یستطیع أساساً الاستمرار فی الحیاة على وجه الأرض من دونها. وفی ذات الوقت فإنّ لكلّ إنسان هویّة مستقلّة عن غیره، وهو یشعر بامتلاك وجود معزول ومتطلّبات مختلفة عمّا للآخرین. بل قد تتعارض متطلّباته أحیاناً مع احتیاجات الآخرین، وقد ینجرّ هذا التعارض إلى النزاعات والحروب أیضاً. وبالرجوع إلى المصادر الدینیّة فإنّنا نكتشف أنّ مصیر الإنسان هو السفر إلى عالم آخر لا تأثیر للعوامل الاجتماعیّة فیه؛ بحیث یقول القرآن الكریم فی ذلك: «وَكُلُّهُمْ ءَاتِیهِ یَوْمَ الْقِیَامَةِ فَرْداً» 3 . فلیس للعلاقات النسبیّة تأثیر فی ذلك الیوم: «فَلَا أَنسَابَ بَیْنَهُمْ» 4 ، ولا للعوامل الاجتماعیّة والروابط بین الرئیس والمرؤوس دور هناك: «وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ» 5 . أمّا - من وجه من الوجوه - فإنّ ثمّة اجتماعا فی ذلك الیوم أیضاً؛ لكنّ هذا الاجتماع لن یكون على أساس العوامل المذكورة فی الدنیا. فالمناط یوم القیامة هو مراتب الإیمان؛ بمعنى أنّ الذین تتقارب درجات إیمانهم سوف یأنسون أكثر ببعضهم.
لكنّنا، على أیّة حال، نحتاج إلى البیئة الاجتماعیّة فی الحیاة الدنیا. أمّا السؤال المطروح هنا فهو: إذا كان لابدّ من هذا الاجتماع فأیّ موازین وملاكات تكون مناسبة له؟
من الناحیة التاریخیّة فإنّ للعوامل الطبیعیّة دوراً جوهریّاً فی تشكیل المجتمعات البشریّة كما وقد یكون لبعض العوامل الثانویّة، كاللغة واللهجة، دور فی ذلك أیضاً؛ أمّا الملاك الذی ینبغی على أساسه بناء الحیاة الاجتماعیّة المشتركة للإنسان فهو قطعاً لیس شیئاً ممّا ذُكر. فقد یتشابه شخصان من حیث اللون والعرق واللغة وما إلى ذلك لكنّهما یختلفان فی المعیشة والروحیّة والمصیر اختلافاً كبیراً خاصّة إذا كان كلّ منهما یتدیّن بدین معیّن أو ینتمی إلى مذهب مختلف. لذلك فإنّ اشتراكاً كهذا لا یمكن أن یجعل لهما مصیراً مشتركاً أو أن یربط مصیرهما معاً بالشكل الذی یكون له تأثیر ملحوظ على سعادتهما وشقائهما الأبدیّین. من هنا فإنّه من أجل توثیق الروابط بین أفراد مجتمعٍ مّا واستغلال هذه الروابط للوصول إلى السعادة الحقیقیّة فلابدّ من اُمور اُخرى. ولا نعلم أیّ عامل طبیعیّ من شأنه تأمین هذه المتطلّبات.
فمن أجل أن تتمكّن جماعة من البشر من تأسیس مجتمع وتتولّد بینهم وحدة - فلنُسَمّها وحدة المجتمع - فإنّ أوّل شرط لتحقّق ذلك هو عدم إحساسهم بأیّ شكل من أشكال العداوة والبغضاء تجاه بعضهم البعض. إذ من الممكن أن تؤدّی عوامل معیّنة إلى زرع العداوة حتّى بین الاخوة، بل قد یُقْدِم أخ على قتل أخیه أیضاً. فهناك عوامل نفسیّة شتّى تقف وراء الإحساس بالنفور من الآخرین، لكنّ العامل العامّ الذی من شأنه أن یثیر بین أفراد المجتمع سوء الظنّ، ویقودهم إلى رفض التقارب والتواصل، والإحساس بالخوف من بعضهم هو عندما تتولّد فی نفوسهم نیّات الإضرار بالآخرین وتضییع حقوقهم. فعندما یحسّ المرء أنّ أخاه یتحیّن الفرص لاغتصاب حقّه باستمرار فسیضمر تجاهه سوء الظنّ ویكون منتبها دوما حتى لا یلحق اخوه الضرر به. إذن فأوّل شرط بمقدوره أن یدفع أفراد المجتمع إلى التقارب وإقامة العلاقات فیما بینهم هو أن لا تقوى فی نفوسهم روح الظلم للآخرین والتعدّی على حقوقهم، وأن یشعر كلّ فرد منهم بالرضا بحقّه. بالطبع إذا تولّدت عند أفراد المجتمع روح التعاون وإیثار الآخرین على النفس فسیصبح المجتمع مجتمعاً مثالیّاً. أمّا المراد من إحساس كلّ فرد بالرضا بحقّه فهو الرضا بتحقّق العدالة الاجتماعیّة. فإذا استتبّت العدالة فی مجتمعٍ مّا فسیؤَمّن لكلّ فرد حقّه ولا یعتدی أحد على غیره الأمر الذی سیؤدّی إلى انسجام القلوب. إذن أوّل شرط فی توفیر بیئة ملائمة للوحدة الاجتماعیّة هی العدالة. ولعلّ هذا هو السبب الذی دعى سیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) إلى التأكید بادئ ذی بدء على العدل بقولها: «وَالْعَدْلَ تَنْسِیقاً لِلْقُلُوبِ»؛ فـ «التنسیق» یعنی خلق الانسجام والوقوف أمام التوتّر والتشرذم. لهذا فإنّ الشرط الأوّل فی تأسیس المجتمع المنشود هو انسجام قلوب أفراده وهو ما لا یحصل إلاّ إذا أمِن أفراد ذلك المجتمع من الظلم والحیف والتعدّی من قبل الآخرین.
لكن هل سیخلو المجتمع حقّاً من أیّة مشكلة إذا أحسّ الجمیع بأنّه ما من أحد یقصد ظلم أحد؟ هنا قد تبرز على السطح مشكلة معرفیّة؛ بمعنى أنّه قد یختلف الناس فی تشخیص الحسَن من القبیح، ویكون بینهم اختلاف فكریّ، أو منهجیّ، أو ذوقیّ، أو غیر ذلك فی حین أنّهم لا یضمرون نیّات الظلم تجاه بعضهم. فإن اشتدّ هذا العامل بحیث أصبحت فی المجتمع عدّة أنماط من السلوكیّات، فلن یستطیع أفراده تكوین علاقات وطیدة فیما بینهم. لهذا لابدّ أن یحكم المجتمع قانون واحد؛ لأنّه إذا اعتبر شخص معاملةً صحیحة وعدّها آخر باطلة، أو إذا رأى أحدهم أنّ الفعل الفلانیّ قانونیّ ورأى آخر أنّه لیس كذلك فلن یتسنّى لمثل هذه المجموعة من الناس أن تتوحّد. فإذا رغب أفراد مجتمع فی أن یعیشوا بانسجام ووئام فیتعیّن علیهم القبول – على الصعید العملیّ - بقانون واحد؛ وهذا هو ما یطلَق علیه عنوان «الملّة». فإن اختلفت الملل، أی تضاربت مناهج الحیاة والأنظمة القیمیّة الحاكمة على المجتمع فلن یكون أفراد المجتمع متلاحمین مع بعضهم ولن یشكّلوا مجتمعاً واحداً؛ لذلك فإنّه یصار فی المجتمعات المدنیّة عادة إلى السعی لسیادة قانون موحّد.
بعد تأمین العاملَین الفائتین یبرز عامل آخر جوهریّ ونهائیّ، ألا وهو مسألة الإدارة والتنفیذ. فإذا توفّر جهاز تنفیذی ّموحّد یستطیع تأمین تلك المسائل فإنّ الأركان الثلاثة لوحدة المجتمع ستكون مؤمَّنة؛ وحینها سینشأ مجتمع معقول یستفید كلّ فرد من أفراده من الجمیع فی سبیل حیاته الدنیویّة من جهة، وسعادته الاُخرویّة من جهة ثانیة.
ففی البدایة تُبیّن مولاتنا الزهراء (علیها السلام)، على نحو إرسال المسلّمات، الشرطَ الأوّل المتمثّل بالعدالة، فهو أصل عقلائیّ لا تنكره أیّ مدرسة أخلاقیّة ولا ینفیه أیّ إنسان سلیم وعاقل فی العالم. فقد یكون المرء ظالماً لكنّه یقرّ بالعدالة كأصل قیمیّ. فالمفهوم العامّ للعدالة هو إعطاء كلّ امرئ ما یستحقّه. وهذه القضیّة هی على جانب من الوضوح بحیث إنّه إذا أراد أحد ضرب مثل بأصلٍ لا یقبل أیّ استثناء فإنّه یضرب العدالة مثلاً. فالعدالة هی أكثر قواعد العقل العملیّ عمومیّة.
فإن كنّا - انطلاقاً من هذا التحلیل – نصبوا إلى تشكیل مجتمع سلیم والتنعّم بنعمة الحیاة الاجتماعیّة فلابدّ أن نسعى فی طریق تقویة هذه الروح لدى أفراد المجتمع؛ لكنّ هذا غیر كاف أیضاً. فكثیر هم الأشخاص الذین لا یحملون نیّات الظلم بأیّ أشكاله، لكنّهم فی بعض المواقف التی لا یكون الحقّ فیها معهم یشعرون بأنّ الحقّ معهم وأنّ الآخرین یخطئون فی حقّهم. والسبب فی ذلك یعود إلى اختلاف فی الآراء فی تشخیص مصداق الحقّ، وما دام هذا الخلاف موجوداً فلن یكون هناك مجتمع موحّد ومنسجم؛ ذلك أنّ بذور الخلاف موجودة فی مجتمع كهذا وكلّما سُقیت هذه البذور بمزید من الماء ونُمّیت اشتدّت نسبة الخلاف والشتات والعداوة فی المجتمع وتراجع تحقّق الهدف المرجوّ من الحیاة الاجتماعیّة، ألا وهو التضامن المشترك وإفادة كلّ فرد من الآخرین.
أمّا المسألة الثالثة فهی إدارة شؤون المجتمع. فنحن، شئنا أم أبینا، لا یمكننا التعاطی مع جمیع المشاكل بطریقة الحوار ولابدّ من وجود من یتمتّع بأهلیّة أكثر وصلاحیّات أوسع من غیره كی یتّخذ القرارات النهائیّة. ومن هنا فإنّ وجود مدیر واحد یسوق المجتمع إلى الهدف الصحیح هو الشرط النهائیّ لتشكیل مجتمع مطلوب ومثالیّ.
الأصل القیم المتمثل بالعدالة هو حكم عقلی لا مجال للمناقشة فیه. لكنه تبقى هناك مسألتان اُخریان عالقتان؛ الاولى: من هو المسؤول عن تعیین نظام قیمی صحیح وتثبیت الأحكام والقوانین؟ ومن الذی یجب أن یتصدى للتنفیذ وقیادة المجتمع؟ وهاهنا تطرح السیدة الزهراء (سلام الله علیها) قضیة «طَاعَتَنَا...، وَإِمَامَتَنَا ...»؛ فهی تقول بنحو إرسال المسلم: من أجل أن یسود المجتمع قانون واحد ونظام قیمی منسجم یتعین علیكم طاعتنا والرجوع إلینا عندالاختلاف، ثم تقول فی نهایة المطاف: «وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً مِنَ الْفُرْقَةِ» فی المجتمع ومن تشتته وتشرذمه. وهذه الكلمات إنما تشكل المقدمة والتوطئة لطرح ما یدور فی ذهنها (سلام الله علیها) من المسائل التالیة.
فهل مسألة الإمامة یا ترى من المسائل القطعیة المدعومة من وجهة النظر الإسلامیة بدلیل متقن؟ وهنا یكمن الخلاف الجوهری بین الشیعة والكثیر من غیرهم. فمن بین طوائف المسلمین المختلفة هناك من یقبل بالمسألة الاولى، على الأقل من الناحیة النظریة؛ بمعنى أنهم یعتقدون بأن النظام القیمی الصحیح بعد وفاة الرسول الأعظم (صلّى الله علیه وآله) لابد أن یؤخذ من أهل البیت (علیهم السلام). إذ یقول بعض طوائف أهل السنة: نحن نقر بأن رسول الله (صلّى الله علیه وآله) قال: إن الإمامة من بعدی هی فی اثنی عشر رجلا من قریش وإن هؤلاء الاثنی عشر هم أئمة أهل البیت (علیهم السلام). فهم یقبلون بأن المرجع الفكری والعلمی للامة الإسلامیة هم آل رسول الله (صلّى الله علیه وآله)، بل إن من یتصف منهم بمزید من الإنصاف یقول: حتى الخلفاء كانوا یقبلون بذلك والدلیل هو لجوء الخلفاء إلى أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی حل الكثیر من القضایا المستعصیة واحترامهم لرأیه والعمل به. فأهل السنة أنفسهم یروون روایات جمة عن الخلفاء لاسیما الخلیفة الثانی أنه قال: «لا أبقانی الله لمعضلة لم یكن لها أبو الحسن» 6 . وإن من المعروف أیضا قول عمربنالخطاب بما یقرب من سبعین مرة: «لولا علی لهلك عمر». فبعض طوائف أهل السنة یدعون أن الخلیفة الأول والثانی كانوا یدعون المنصب السیاسی ولیس المنصب العلمی، وهذا یفسر رجوعهم لأهل البیت (علیهم السلام) فی حل المعضلات العلمیة.
إذن فالمسألة الاولى هی المرجعیة العلمیة وإن الزهراء (علیها السلام) عندما قالت: «وَطَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ» كان من الممكن أن یقبلوا بسهولة أكبر أنه لابد لهم - من أجل الحصول على نظام سلوكی وقیمی مدون ومقبول عند الله - من الرجوع إلى أهل البیت (علیهم السلام) واتباعهم؛ لكن المسألة التی تحوز أهمیة أكبر هی المسالة الثانیة؛ وهی أنه: هل لابد ان یكون المسؤول التنفیذی الذی یمتلك صلاحیة إصدار الأحكام الحكومیة أن یكون من أهل البیت (علیهم السلام) أیضا أم لا؟ وهل یكون تعیینه عن طریق انتخاب الرعیة؟ هذه المسألة هی موطن الخلاف الرئیسی بین الشیعة وسائر طوائف المسلمین، ونحن نعلم أن هناك شواهد كثیرة فی القرآن الكریم وفی كتب الأحادیث وحتى فی كتب أهل السنة الروائیة على صحة قول الشیعة فی هذا المجال.
على كل حال فلا مجال فی نظرنا لأی شك أو ریب فی أنه ناهیك عن أن أهل ابیت (علیهم السلام) معینون من قبل الله تعالى كمرجع علمی للامة، فإنهم لابد أن یتولوا المناصب التنفیذیة أیضا لتتم إدارة شؤون المجتمع بواسطتهم بشكل مباشر. بطبیعة الحال لا یعنی ذلك أن یوجد الإمام المعصوم (علیه السلام) فی جمیع أنحاء البلاد لیدیر كل مدینة أو قریة بنفسه مباشرة، فذلك أمر مستحیل. فلو تواجد المسلمون فی مناطق اخرى، فلابد أن تدار شؤونهم تحت سلطة الحكومة المركزیة بأن یرسل الإمام إلیهم من ینوب عنه فی الحكم.
ما فعلته فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) هنا هو أنها أولا: دست هذه الجمل وسط معارف الإسلام المسلمة. فمن جانب تحدثت عن الصلاة، والصوم، والحج ومن جانب آخر تكلمت عن الجهاد والأمر بالمعروف والنهی عن المنكر وما إلى ذلك. یتعین القول: لقد أعملت الزهراء (سلام الله علیها) قمة الحنكة فی تهیئة الأذهان لاستقبال بیان مسألة الإمامة لتفهم الناس أن التكلیف الأساسی الملقى على عاتقهم هو طاعتنا. ثانیا: إلى جانب طرح هذه المسألة فهی (علیها السلام) تشیر إلى الحكمة من ورائها فتقول: إن المجتمع الإسلامی بحاجة إلى وحدة الفكر والتدبیر، وإن عدم توفر هذه الوحدة من شأنه أن یضیع مصالح الامة الإسلامیة. كما أنه إذا لم یكن ثمة نظام حاكم یدبر شؤون المجتمع على أرض الواقع، ویطبق القواعد العامة على الموارد الخاصة، ویتصدى لإعمال إدارة البلاد عندما تبرز الحاجة إلى ذلك فسینشأ الخلاف المؤدی إلى الهرج والمرج والفوضى أیضا. إذن فإن ما یمكنه حفظ المجتمع من الفرقة والتشتت هی الإدارة الواحدة التی یطلق علیها عنوان «الإمامة»، وقد جعل الله عز وجل هذه الإمامة فینا أهل البیت (علیهم السلام).
هذه الملاحظة تحظى بأهمیة بالغة ولابد - برأیی – من اعتبارها بیت قصید الخطبة الفدكیة. نسأل الله العلی القدیر أن لا یفرق بیننا وبین أهل البیت (علیهم السلام) فی الدنیا والآخرة.
وصلى الله على سیدنا محمد وآله الطاهرین.
1 . بحار الأنوار، ج29، ص223.
2 . سورة الأنعام، الآیة 161.
3 . سورة مریم، الآیة 95.
4 . سورة «المؤمنون»، الآیة 101.
5 . سورة البقرة، الآیة 166.
6 . بحار الأنوار، ج76، ص52.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 22 أیلول 2010م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«... وَالْجِهَادَ عِزّاً لِلإِسْلامِ ...» 1
تحدّثنا طیلة شهر رمضان المبارك حول خطبة السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) وقد بلغنا عبارة: «وَالْجِهَادَ عِزّاً لِلإِسْلامِ». ولعلّ التقدیرات الإلهیّة شاءت أن یتزامن شرح هذه الجملة مع أیّام اُسبوع الدفاع المقدّس كی نتذكر اُولئك الشهداء العظماء الذین نتنعّم الیوم، ببركة دمائهم الطاهرة، بكلّ هذه النعم الإلهیّة المادّیة والمعنویّة. فلولا جهاد هؤلاء المجاهدین ما کنّا ندری أیّ نهج كنّا سننتهج وأیّ سلوك كنّا سنسلك. فمسیرة المجتمع قبل الثورة كانت تتّجه نحو الكفر، وجسَد الإسلام كان یتلقّى یومیّاً ضربات موجعة. إنّنی أقولها عن یقین راسخ وأنا مسؤول عن كلامی هذا، إنّه لولا حركة الإمام الخمینیّ (رضوان الله تعالى علیه) وتضحیات الشهداء فإنّه لم یبقَ الیوم من الإسلام فی هذا البلد غیر الاسم. إنّنا الیوم مدینون بأمننا، ورفاهیّتنا، ونعمنا ضمن الإطار المادّی، ومفاخرنا على الصعید الدولیّ، والأهمّ من ذلك كلّه انّنا مدینون بدیننا للثورة، والشهداء، والذائدین عن الإسلام. نسأل الله العلیّ القدیر أنّ یمنّ على هؤلاء الأعزّة بما یقتضیه كرمه ویتطلّبه جوده! ذلك أنّنا لن نتمكّن - بأیّ حال من الأحوال - من أداء شكر هذه النعم وعرفان جمیل مُنعِمها. كم هو قبیح أن یعمد البعض، على الرغم من كلّ هذه البركات التی حظینا بها بسبب الثورة وشهدائها وشهداء الحرب المفروضة، أن یعمدوا بمنتهى نكران الجمیل إلى إغماض أعینهم عن كلّ شیء وإنكار جمیع الحقائق والتشكیك بها! إنّنی لا أظنّ أنّه یمكن تصوّر كفران للنعمة أقبح وأشدّ من ذلك. ندعو الله العزیز الحكیم أن یحفظنا من عقوبة كفران مثل هذه النعم.
انّ الفرصة التی تتیحها بضع محاضرات لا تكفی لطرح بحث مستوفٍ عن قضیّة الجهاد. لقد طرحنا فیما مضى، ضمن بحوث قرآنیّة، بحثاً فی هذا الشأن وقد طُبع تحت عنوان «الحرب والجهاد فی القرآن». وما نودّ أن نعالجه فی هذه المحاضرة أو المحاضرتین فیما یخصّ المسائل المرتبطة بالجهاد هو ما یطرحه أعداء الإسلام فی هذا العصر من شبهات حول الجهاد ممّا قد یشوّش أذهان بعض شباننا. ومن هنا فإنّ الأبحاث التی سأتعرّض لها ستكون من قبیل الفهرست.
یعتقد بعض المفكّرین والباحثین فی موضوع الحرب أنّ الحرب تمثّل قانوناً عامّاً للوجود (والوجود عند هؤلاء بالطبع یساوی عالم المادّة). فهم یقولون فی هذا المجال: إنّ أحد القوانین العامّة المسیطرة على عالم الوجود أساساً هو أصل التنازع؛ فالمدرسة الماركسیّة - على سبیل المثال - تعتبر أنّ أصل التضادّ هو أحد الاُصول الفلسفیّة التی تحكم الكون. ولیس بعیداً عن ذلك ما ذهب إلیه المعتقدون بأنّ الحرب هی قانون الحیاة قائلین: هناك قانون عامّ یهیمن على عالم الكائنات الحیّة یسمّى أصل التنازع (وهذه هی النزعة الداروِنیّة). حتّى إنّ بعض علماء الاجتماع، وانطلاقاً من هذه النزعة، فقد اعتمدوا أصل التنازع الداروِنیّ فی علم الاجتماع فقالوا: هناك قانون جبریّ وعامّ یحكم كافّة المجتمعات البشریّة مفاده أنّه لابدّ من وجود الحرب والتنازع من أجل بقاء الأصلح والأكمل وإقصاء الآخرین.
وعلى النقیض من ذلك فهناك عقیدة تقول: الحرب هی مرض وأمر غیر طبیعیّ لابدّ من اجتثاثه بالكامل. وقد شاعت مثل هذه العقیدة فی قدیم الزمان فی الشریعة الهندوسیّة. فهؤلاء یعتقدون بوجوب عدم التعرّض لأیّ شیء، وعلى الناس أن لا یُفیدوا ممّا هو موجود فی العالم إلاّ بمقدار الضرورة؛ وحتّى النباتات یجب أن لا تُستعمل بكثرة، وإنّ قتل الحیوان، وبطریق أولى الإنسان، غیر جائز عندهم على الإطلاق. وبناءً علیه فإنّ كلّ مَن یسعى، بأیّ شكل من الأشكال، لإشعال حرب فإنّه یقوم بعمل خاطئ وغیر أخلاقیّ.
أمّا الرأی الآخر الذی یُعدّ من اُسس حقوق الإنسان فیقول: الحرب أساساً أمر سیّئ جدّاً ولا ینبغی إشعال فتیلها إلاّ فی موارد نادرة جدا. دُعاة هذا الرأی وضعوا بضعة قوانین عامّة لحقوق الإنسان أحدها هو أصل الحیاة، فهم یعتقدون بأنّ من الحقوق التی ینبغی لجمیع البشر التمتّع بها، مهما كانت الظروف ومهما بلغوا من الإجرام، هو حقّ الحیاة؛ وبناءً على ذلك فلابدّ من الوقوف بوجه كلّ قوانین الإعدام وما هو على شاكلتها. أمثال هؤلاء یُسهبون فی الكلام حول أمثال هذه المواضیع وكتابتها على الورق أمّا على أرض الواقع فإنّهم من أفظع الكائنات الموجودة على وجه الأرض إجراماً، بل إنّ جرائمهم قد بیّضت حتّى وجوه الحیوانات المتوحّشة.
لكن ما الذی یقوله الإسلام حول هذه الآراء؟ الدین الإلهیّ یأخذ وقائع المجتمع البشریّ بعین الاعتبار ویضع القوانین المناسبة على أساس تلك الوقائع كی یؤمّن بمجموع ذلك سعادة البشر. فالإسلام لا یوافق على عدم جواز التعرّض لأیّ كائن حیّ؛ بل إنّه یقول إذا حُرّمت لحوم بعض الحیوانات بلا سبب وجیه: «قُلْ ءَاللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ» 2 . فالله قد خلقها من أجل منفعتكم وغذائكم. إذن فلتتناولوا ما حلّ لحمه من الحیوانات، لكن مع الاعتدال ووفقاً للضوابط. بل إنّ إحدى العبادات الإسلامیّة هی ذبح الاُضحیّة أیضاً.
فهذه الرؤیة تقف فی مقابل الرؤیتین السابقتین الإفراطیّة والتفریطیّة. وحتّى فیما یتعلّق بالحرب فالإسلام یصدر حكمه ضمن إطار رؤیة واقعیّة؛ ذلك أنّ الله عزّ وجلّ هو الذی خلق الإنسان وهو أعلم بما خلق وما یتطلّبه مخلوقه. هو یعلم أنّ الناس، ومن خلال ما یوجد فی رغباتهم من تضادّ، ستؤول بهم الاُمور إلى الحرب. فاذا قلنا على نحو مثالیّ: یتعیّن الوقوف بوجه كلّ حرب ودفاع عن النفس وإنّ كلّ ذلك مُدان، فانه قول لا ینسجم مع واقع الحیاة البشریّة وسوف یصبّ فی مصلحة الظَّلَمة فی نهایة المطاف. فالإحجام عن الجهاد وعدم مجابهة هجمات العدوّ سوف یمهّد الأرضیّة للعدوّ لیرتكب ما یحلو له من الحماقات، والله لا یجیز مثل هذا التصرّف.
فلقد أخذ الإسلام هذه المسألة بعین الاعتبار وهی أنّ وجود طبیعة التعدّی فی البشر ستؤدّی – شئنا أم أبینا - إلى النزاع والحرب ویتعیّن وضع ضوابط وقوانین لمثل هذه القضایا، وهذا هو الدور الأساسیّ الذی تنهض به الشریعة وهو أنّه بالنظر لتوفّر مقدّمات الانحراف فی المجتمع فلابدّ من وضع قوانین، والسعی لتنفیذها كی یُقطع الطریق أمام أیّ انحراف أو یُحدّ منه إلى أدنى مستوى ممكن.
من جملة ألوان الفساد التی یُبتلى بها المجتمع البشریّ هو ارتكاب البعض لأصناف الجرائم والفجائع الإنسانیّة تحت شعار العمل بأحكام الدین الإسلامیّ، الأمر الذی یؤدّی إلى الإساءة لسمعة المسلمین. فقد ارتكبت سلسلة من سلاطین بلاد الإسلام على مرّ التاریخ باسم الجهاد فی سبیل الإسلام جرائم شنیعة كانت عواقبها تأخیر انتشار الإسلام فی تلك البلدان لقرون من الزمن وتشویه صورة الإسلام فی العالم. والیوم أیضاً تقوم أمثال حركة طالبان والقاعدة بنفس هذا الدور فی جمیع أنحاء العالم مطلقین على ما یقومون به عنوان التطبیق لأحكام الإسلام. ومن هنا یتعیّن علینا أن نطبّق حقیقة الجهاد كما جاء به الإسلام من دون أدنى زیادة أو نقصان، لا أن ننفّذ ما تملیه علینا أهواؤنا ونزواتنا مسمّین ذلك إسلاماً.
بشكل عامّ فإنّ الجمیع یعلم أنّ الجهاد هو أحد فروع الدین وضروریّاته، فهذا الأمر هو من المسلّمات التی لا تتطلّب بحثاً. لكنّ المهمّ هو أنّ القرآن الكریم نفسه قد أشار إلى بعض الحِكَم من وراء تشریع الجهاد، حیث بالرجوع إلى هذه الحِكَم یمكننا الوقوف على الغایة من تشریع الجهاد أساساً من ناحیة، والتعرّف على حدوده ولوازمه من ناحیة اُخرى.
هناك أصل لا یملك أیّ إنسان سلیم الفطرة إنكاره وهو أصل «الدفاع»؛ یقول هذا الأصل: إذا هجم علینا العدوّ فلا یصحّ أن نجلس مكتوفی الأیدی ونستسلم لمن یرید إبادتنا. فما من فطرة تقبل بذلك. فإذا فُتح باب البحث مع اُولئك المنادین بحقوق الإنسان والمخالفین لأحكام الجهاد فی الإسلام والقائلین: «ما دام الإسلام یقرّ بأحكام الجهاد فهو دین عنف!»، إذا فُتح باب البحث معهم فمن المستحسن الشروع بالبحث من هذه النقطة وهی أنّه ما من إنسان سلیم الفطرة یمكنه تحریم الدفاع والقول: لا ینبغی الدفاع عن النفس. لكنّ السؤال المطروح هنا هو: عن أیّ شیء یتعیّن الدفاع؟ فهل الدفاع مقتصر على الدفاع عن النفس إذا تعرّضت للخطر، أم یتعیّن الدفاع عن العرض، والولد، وسائر المتعلّقات أیضاً؟ وإذا ارتفعنا إلى مستوى المجتمع فما هی الاُمور التی ینبغی للشعب الدفاع عنها؟
المتعارف – من الناحیة العملیّة - لدى جمیع سكّان المعمورة هو الدفاع عن الماء والتراب. ففی كلّ ثقافة یوجد أبطال تفتخر بهم شعوبهم وهم فی العادة اُولئك الذین دافعوا ببسالة عن میاه شعوبهم وأراضیهم. إذن بالإضافة إلى الدفاع عن النفس، فإنّ الدفاع عن الماء والتراب هو أیضاً محطّ قبول العقلاء. كما أنّ معظم الأقوام بل لعلّ جمیعهم یقولون بوجوب الدفاع عن العرض أیضاً وإنْ بلغ حدّ الحرب والقتل، بل إنّ المقصّر فی هذا الجانب سیُصنَّف فی عداد المنحطّین والمتخاذلین، وهو مُدان وفقاً لثقافة ومنطق عقلاء العالم. بالطبع، كما قد أشرت مسبقا، فقد یدّعی البعض فی مجال البیان والبنان غیر ذلك؛ لكنّهم جمیعاً یقبلون بذلك من الناحیة العملیّة.
لكن هل الجهاد فی الإسلام هو على هذه الشاكلة أیضاً؟
لیس ثمّة أدنى شكّ فی أنّه إذا هجم أعداء الإسلام على المسلمین قاصدین إبادتهم أو الاستیلاء على أراضیهم فإنّ صدّهم عن ذلك سیمثّل تكلیفاً واجباً من الناحیة الشرعیّة. لكن ما نودّ قوله هو أنّ الجهاد الإسلامیّ هو أشرف وأعظم قیمة بكثیر ممّا یعتقد به عقلاء العالم. فما یعتقد به هؤلاء لا یتجاوز حدّ الغریزة الموجودة حتّى عند الحیوانات؛ إذ أنّ معظم الحیوانات تدافع عن أوكارها بكلّ شراسة إذا هوجمت. فإنّ عدم دفاع المرء عن بیته أو وكره سیجعله أخسّ من الحیوان. إذن فلیس فی هذا النمط من الدفاع مفخرة. فالقضیّة الجوهریّة هی أنّ الجهاد الإسلامیّ هو جهاد فی سبیل الله تبارك وتعالى، وإنّ الهدف الذی یضعه الإسلام للجهاد هو أسمى وأرفع بكثیر من مجرّد حفظ النفس والمال.
انّ بدایة ما نزل من القرآن نزل فی الجهاد والذی تناول الجهاد الدفاعیّ هو ما جاء فی سورة الحجّ، حیث یقول عزّ من قائل: «إِنَّ اللهَ یُدَافِعُ عَنِ الَّذِینَ ءَامَنُواْ إِنَّ اللهَ لا یُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِینَ یُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِیرٌ * الَّذِینَ أُخْرِجُواْ مِن دِیَارِهِم بِغَیْرِ حَقٍّ إِلا أَن یَقُولُواْ رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِیَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ یُذْكَرُ فِیهَا اسْمُ اللهِ كَثِیراً وَلَیَنصُرَنَّ اللهُ مَن یَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِیز» 3 . کان المسلمون قبل ذلك الحین قد طلبوا الإذن بالحرب، لكنّ الأمر الإلهیّ كان قد نزل یحثّهم على الكفّ عنها: «كُفُّواْ أَیْدِیَكُمْ» 4 ؛ إذ أنّ عددهم كان قلیلاً ولم تكن لهم العدّة الكافیة للحرب؛ فإن هم أقدموا على الحرب فی حینها فإنّهم كانوا سیبادون عن بكرة أبیهم. فالآیات المذكورة من سورة الحجّ كانت أوّل مرّة یؤذَن فیها للمسلمین بالدفاع عن أنفسهم. لكنّنا نلاحظ أنّ الله عزّ وجلّ لم یقل فی بیان الحكمة من هذا الإذن: «إذا لم تجاهدوا فستتعرّض أرواحكم للخطر وسیستولی الأغیار على میاهكم وأرضكم» بل قال: «إنّنا لو لم نعط الإذن بالدفاع فإنّ مصیر مراكز العبادة سیكون التهدیم والإبادة» (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِیَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ یُذْكَرُ فِیهَا اسْمُ اللهِ كَثِیراً). بطبیعة الحال كانت هذه هی الحكمة من تشریع الجهاد فی جمیع الأدیان السماویّة؛ فالدفاع والجهاد لا یختصّان بالإسلام. فحكمة الجهاد الأساسیّة التی یستند إلیها المنطق القرآنیّ هی المحافظة على اسم الله فی الأرض وجعل الناس یتذكّرون الله عند وقوع أنظارهم على المعابد والمساجد؛ ذلك أنّ ذكر الله جلّ وعلا هو الحقیقة الوحیدة التی من شأنها أن تقود المرء إلى السعادة الأبدیّة.
ثمّ یقول تعالى من بعد ذلك: بعد أن ینتصر فی ساحة الحرب اولئك الذین أذِنّا لهم بالقتال ووعدناهم بالنصر فإنّ أوّل ما سیقومون به هو إقامة الصلاة وإیتاء الزكاة؛ أی تطبیق دین الله فی الأرض: «الَّذِینَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِی الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ» 5 . فإنّ الاسم الذی یطلق على هذا النمط من الجهاد هو الجهاد فی سبیل الله ولیس القتال فی سبیل الماء والتراب.
كم تخلّفنا نحن عن هذه الثقافة! فلقد بلغ بنا الأمر فی زماننا إلى حدّ أنّنا، ومن أجل الدفاع عن هذا الحكم، نلجأ إلى دلیل تشترك فیه حتّى الحیوانات؛ أی الدفاع عن الماء والتراب والوطن. إذ حتّى الحیوانات تدافع عن أوطانها؛ فلیس فی هذا الأمر عظیمُ فخر واعتزاز. فالأهمّ من ذلك هو الدفاع عن القیم والمثل والدفاع عن الدین، فكلّ شیء ینبغی أن یقدَّم فداء للدین! لكنّ تغلغل الثقافة الغربیّة فی ثقافتنا أدّى بنا، مع بالغ الأسف، إلى الهبوط بمسألة الجهاد - مع كلّ ما لها من عظمة وشرف - إلى مستوى الغریزة الحیوانیّة!
فمولاتنا فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) تقول بالحرف الواحد: «وَالْجِهَادَ عِزّاً لِلإِسْلامِ». لكنّنا إن بالغنا فی التكلّف والارتقاء بمستوى كلامنا فغایة ما سنقوله هو: الجهاد عزّاً للمسلمین. لكنّ الزهراء (علیها السلام) تقول: «وَالْجِهَادَ عِزّاً لِلإِسْلامِ»، أیّ إنّ الهدف الأساسیّ هو الإسلام، وما علینا جمیعاً إلاّ أن نفدی أجسادنا فی سبیل الإسلام. بل إنّه ما من شیء أساساً یمكن وضعه فی مقابل الإسلام.
إذن فالجواب على السؤال الذی طرحناه وهو: «عن أیّ شیء یتعیّن الدفاع؟» هو أنّ علینا بالدرجة الاُولى الدفاع عن القیم والمثُل الإلهیّة، ومن ثُمّ یأتی دور الدفاع عن النفس، والمال، والعرض، والماء، والتراب، وما إلى ذلك. فأهمّ أنماط الدفاع هو الدفاع عن الدین الذی یقود إلى سعادة البشر جمیعاً. فلولا الدین لكان الناس فی مستوى الحیوانات، بل وقد یكونون أخسّ من الحیوانات أحیاناً؛ إذ یقول عزّ وجلّ: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِینَ كَفَرُواْ فَهُمْ لا یُؤْمِنُونَ» 6 ؛ فالله تعالى لا یقول: إنّ شرّ الناس هم المعاندون لله، بل قال: إنّ هؤلاء هم شرّ الدوابّ. فعند غیاب الإسلام فإنّ الامور ستؤول إلى هذه النتیجة. إذن فإنّ أعلى مراتب الدفاع هو ما تكون سعادة البشر كافّة رهناً به؛ وهو الدفاع عن الإسلام. إذن فالأصل هو الإسلام وإنّ قیمة المسلمین بإسلامهم. لكن هذه المسألة - مع بالغ الأسف - مغفول عنها فی الكثیر من أقوال المسلمین وكتاباتهم.
وفّقنا الله وإیّاكم لما یحبّ ویرضى
1 . بحار الأنوار، ج29، ص223.
2 . سورة یونس، الآیة 59.
3 . سورة الحجّ، الآیات 38 - 40.
4 . سورة النساء الآیة 77.
5 . سورة الحجّ، الآیة 41.
6 . سورة الأنفال، الآیة 55.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 29 أیلول 2010م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتِیجَابِ الأَجْر»1
تلونا معاً بتوفیق من الله عزّ وجلّ جزءاً من خطبة مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) مشفوعة بتوضیح مقتضب. وقد بلغنا من الخطبة إلى حیث قالت (علیها السلام)، فی أثناء إشارتها إلى أهمّ مباحث المعارف الإسلامیّة والنظام القیمیّ فی الإسلام والتذكیر بحكمة تشریعها – قالت: «وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتِیجَابِ الأَجْر».
انّ المفردات التی یكثر القرآن الكریم والروایات من تكرارها ویؤكد علیها محدودة نسبیّاً. إحدى هذه المفردات هی «الصبر» وهی تُعدّ من المفردات المفتاحیّة فی المعارف الإسلامیّة. فالله سبحانه وتعالى یوصی نبیّه الأعظم (صلّى الله علیه وآله) دوماً بالصبر بقوله: «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ»2، و«فاصبر...»3، كما أنه عزّ وجلّ یوصی عموم الناس أیضاً بالصبر فی مواطن كثیرة من كتابه العزیز؛ إذ یقول عزّ من قائل فی سورة العصر: «وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِی خُسْرٍ * إِلا الَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ». فهذه السورة تحتوی على أربع مفردات مفتاحیة هی: الإیمان، والعمل الصالح، والحقّ، والصبر. إذن من الواضح أنّ موضوع الصبر ینطوی على أهمیة كبیرة مما یدعو إلى ذكره إلى جانب الحقّ، والإیمان، والعمل الصالح.
للأسف فإنّ معانی بعض المفردات القرآنیة لا تتمّ المحافظة علیها فی عرفنا جیداً بل قد تعانی بعض التحریف أیضاً، ومن جملة هذه المفردات هی مفردة الصبر التی إذا أمعنّا النظر فی استخداماتها فی الآیات القرآنیة وروایات أهل البیت (علیهم السلام) لوجدناها تختلف بعض الشیء عما هو مرتكز فی أذهاننا. فنحن نتصوّر أنّ الصبر هو حالة الانفعال التی تنتاب الإنسان؛ أو بتعبیر آخر: عدم إظهار ردّ فعل تجاه حوادث الدهر. فنحن نطلق على مَن یتلقى الصفعة على وجهه من دون أن یردّ علیها بمثلها انّه صابر! وعلى الرغم من أنّ الإنسان الذی لا یُبدی عظیم جزع وشدید فزع فی مواجهة المصائب والنوازل هو لا شكّ من أهل الصبر، وأنّ هذه الصفة هی من المصادیق البارزة والصحیحة للصبر، بید أنّ نطاق استخدام مصطلح الصبر هو أوسع بكثیر من ذلك وأنّ مؤدّاه أعمق وأغنى من هذا المعنى.
كما أنّ الصبر لا یعنی الانظلام والخنوع تحت وطأة الظلم والتعدّی، فالإسلام لا یحبّ أن یكون المرء منفعلاً فی مقابل الظلم وسریع التسلیم له. فقد جاء فی الخبر بأسناد متعدّدة: «مَن قُتل دون مَظلِمته فهو شهید»4؛ أی من تعرّض للظلم ثمّ قُتل دفاعاً عن نفسه وبغیة رفع الظلم عنه فله حكم الشهید. فالإسلام لا یحبّ الإنسان الخنوع الذلیل المنفعل، بل یرید من المسلم أن یقاوم الظلم وأن ینتزع حقّه المغتصَب حتّى وإن دفع حیاته ثمناً لذلك؛ لكنّ الأسمى والأرفع من ذلك هو الدفاع عن الإسلام، والاُمة الإسلامیة وقیم الإسلام ومقدّساته، فهذا التكلیف أسمى وأهمّ من الأوّل بكثیر.
من حسن الحظّ فإنّ التفاسیر الواردة فی الأحادیث تقف إلى حدّ ما بوجه هذه التحریفات والأخطاء. فقد ورد فی حدیث نبویّ شریف معروف: «الصبر ثلاثة: صبر عند المصیبة، وصبر عند الطاعة، وصبر عن المعصیة»5. فالصبر عند المصیبة یعنی أن لا یجزع المرء وأن یحافظ على رباطة جأشه إذا حلّت به شدیدة أو نازلة. والصبر على الطاعة وحال أداء التكلیف هو أن یبذل الإنسان جهده فی أن یؤدّی ما علیه من تكلیف على أحسن وجه. والصبر عن المعصیة هو أن یقاوم الإنسان ما یتولّد فی داخله من دافع إلى المعصیة الذی یكون غالباً بصورة الشهوة والغضب. وقد ذكرت الأحادیث أقسام الصبر هذه وإنّ هذه التوصیات والتوجیهات تهیّئ الأرضیة لنا كی نكتشف الوجه المشترك بینها. فالقرآن الكریم یذكر الصبر بشكل مطلق بقوله: «واصبر»، بینما تبیّن الروایات ثلاثة أقسام للصبر. فكیف لنا أن نفهم أیّ المصادیق هو مقصود القرآن الكریم من الصبر؟ بطبیعة الحال إننا لو درسنا وتفحّصنا موارد استعمال الصبر فی القرآن الكریم لاستطعنا اكتشاف مصادیق تلك الأقسام الثلاثة؛ لكننا لو توصلنا إلى معنى تحلیلیّ للصبر تكون له جهة مشتركة بین الأقسام الثلاثة، لظفرنا بفهم أفضل لمفاد الآیات والروایات، وقد لا یخلو من نفع فی مقام العمل أیضاً.
التحلیل الذی یمكن تقدیمه هنا هو أنّ أعمالنا الاختیاریّة بحاجة إلى مقدّمات. فالفعل الاختیاریّ للإنسان یحتاج على الأقلّ إلى عاملین: أحدهما المعرفة، وثانیهما الدافع. لكن من حیث إنّ الله جلّ وعلا قد خلق هذا العالم على نحو بحیث نكون على الدوام عرضة للامتحان فلیست القضیّة أنّه بمجرّد وقوفنا على حُسن فعلٍ مّا فإنّ الدافع لإنجازه سیتولّد فی وجودنا فوراً. فلو كان الأمر كذلك فلن یُصار إلى تمییز الحَسَن عن القبیح أو إدراك قیمة الأعمال. فصحیح أنّنا قد نحیط علماً بحُسن فعل معیّن ونجد فی أنفسنا الحافز للقیام به، غیر أنّ دوافع معارضة قد تتولّد فی أنفسنا أو تبرز بعض العراقیل والمشاكل التی تعیق إنجازه. فإن رغبنا فی إنجاز هذا العمل فما علینا إلاّ إزاحة تلك العراقیل والموانع عن طریقه.
فالزواج مثلاً هو أمر اختیاریّ، لكن لیست المسألة أنّ المرء باستطاعته أن یتزوّج حال اتّخاذه قراراً بذلك، بل إنّ اتّخاذ مثل هذه الخطوة یتطلّب مقدّمات كثیرة. إذن فإن شئنا القیام بعمل صحیح من شأنه أن یقودنا إلى الكمال والسعادة ولا تكون عاقبته الحسرة والندامة (هذا وإنّ أهمّ أشكال الندامة هو ما یرتبط بالآخرة لأنّ ندم الدنیا یمكن تداركه) فعلینا الإحاطة بحسن العمل وكونه قیّماً أوّلاً، ومعرفة كیفیّة إنجازه ثانیاً، وإزالة الموانع والعراقیل من طریقه ثالثاً. فقد یعلم المرء أنّ العمل الفلانیّ جیّد ومفید، وأنّ الوسائل الكفیلة بإنجازه متوفّرة بشكل أو بآخر، لكن قد تظهر أحیاناً عند الإقدام علیه بعض الموانع التی تعرقل أداءه، وهذه الموانع تنقسم إلى بضعة أقسام:
القسم الأوّل هی الموانع الداخلیّة لدى الإنسان نفسه؛ وهی أن یتصوّر – على سبیل المثال – أنّ القیام بعمل كهذا قد یحرمه بعض الملذّات أو یكرهه على تجشّم المعاناة. فعادة عندما تكون عواطف الإنسان ومشاعره مواتیة لفعل معیّن فإنّه سرعان ما یتّخذ القرار بإنجازه، لكنّه عندما تتضادّ أحاسیسه ومشاعره مع اتّخاذ مثل هذا القرار فستشكّل مانعاً داخلیّاً یردعه عن القیام به.
القسم الثانی هی الموانع الخارجیّة البشریّة؛ كأن یسخر أرحام المرء وأقاربه من أدائه لفعل خیر فیشكّلون بذلك مانعاً من القیام به. فهذا المانع یكون تأثیره من الخارج.
القسم الثالث هی المشاكل والأحداث التی تصرف الإنسان عن إنجاز العمل، كالابتلاء بالمرض أو بعض الحوادث الطبیعیّة.
وبناء علیه فإذا توصّلنا إلى نتیجة مفادها أنّ أمراً معیّناً لابدّ أن یُنجَز فیجب أن نُعدّ أنفسنا لمواجهة تلك الموانع ومقاومة العوامل الداخلیّة والخارجیّة والمشاكل الاخرى، ویُطلق على هذا النمط من المقاومة اسم «الصبر». فالعامل الداخلیّ – مثلاً - قد یتمثّل بالمیول الشهوانیّة التی إذا جعلها الإنسان تحت قدمیه عُدّ ذلك مصداقاً من مصادیق الصبر.
لكنّنا لم نتعوّد فی محاوراتنا الیومیّة على اعتبار مقاومة تلك العوامل صبراً؛ فعلى سبیل المثال إذا استیقظ شخص بعد منتصف اللیل مع شدّة نعاسه وسارع إلى غسل وجهه و یدیه لطرد النوم من عینیه كی لا تفوته صلاة اللیل فإنّنا لا نجد من یسمّی ذلك صبراً؛ لكنّه فی الحقیقة مصداق بارز لـ «صبر عند الطاعة». كما أنّ المصداق الواضح لهذا النمط من الصبر هو الصبر والثبات فی مقابل العدوّ فی ساحة الوغى. فنحن الیوم نقف أمام أعداء یقول فیهم القرآن الكریم: إنّهم أعداء دینكم: «وَلا یَزَالُونَ یُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى یَرُدُّوكُمْ عَن دِینِكُمْ»6. فالبعض یعتقد أنّهم لا یطمعون إلا بنفطنا، وإذا تمّ تأمین مصالحهم الاقتصادیّة فستُحلّ مشكلتنا معهم. وهذا التصوّر إنّما ینبع من روح الرضوخ والخوف التی تكمن حقیقتها فی طلب الراحة والدعة. فأمثال هؤلاء یودّون العیش فی راحة وطمأنینة ولا یریدون تعریض حیاتهم للخطر. ومن أجل تبریر مواقفهم أمام الناس الذین یتّهمونهم بانعدام الغیرة ونكران الجمیل فهم یقولون: «إنّكم لا تفقهون من السیاسة شیئاً. فلابدّ من التطبیع والحوار مع أمریكا كی ندفع الأخطار عن بلادنا»! وهذا خلاف الصبر تماماً. فالصبر هو أن نثبت ونصمد بصلابة كالرجال. بالطبع لابدّ إلى جانب ذلك أن یكون لدینا خطّة متقنة وتدبیر للامور، لكن عندما ندرك أنّه ثمّة عملٌ مّا ینبغی القیام به فلا یجوز أن نتهاون أو نتقاعس، فهذه من العوامل التی تردع المرء عن أداء التكلیف. ولا ننسى أن بحثنا یتناول موضوعاً قد ثَبُت فیه التكلیف، وإلا فإنّ ولوج میدان العمل من دون هدف محدّد وخطّة مسبقة الإعداد لیس بالأمر المعقول؛ «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِی الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِینَ یَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ»7؛ فیجب علینا أن نستعدّ لطاعة الله ورسوله وولیّ الأمر. طبعاً قد یكون عذر البعض مقبولاً عند الله ورسوله فی واقع الأمر، لكنّ اختلاق الأعذار والتحجّج عند البعض الآخر غالباً ما یكون منشؤه التقاعس والنزوع نحو الراحة والدعة.
فالفلسطینیّون واللبنانیّون ومن خلال توجیهات الإمام الراحل (رضوان الله تعالى علیه) قد وصلوا إلى قناعة مفادها أنّ المقاومة هی السبیل الوحید للنجاة وقد تحوّلت المقاومة عندهم إلى ثقافة جدیدة حتّى صارت شعار حزب الله فی لبنان فی الوقت الحاضر. وهذا أیضاً هو شكل من أشكال الصبر؛ وهو نفس الصبر الذی یتحدّث عنه القرآن الكریم بقوله: «وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ»8؛ أی من أجل إحقاق حقّكم علیكم بالمقاومة وتحمّل المكاره والمشاقّ فی سبیلها.
المصداق الآخر للصبر هو میدان الدعوة الدینیّة. فإذا كان ثمّة مَن هو بحاجة إلى إبلاغه الدین، ویتأثّر إذا توفّر مَن یبلّغه من خلال المنطق الصحیح والاسلوب الذی یرضاه الله ویقرّه العقل، فینبغی حینئذ تحمّل أعباء هذا الطریق وولوج هذا المضمار. فسلوك طریق كهذا ینطوی - بما لا شكّ فیه - على عناء ومكاره، بل وقد یضطرّ السالك له أحیاناً إلى مقاساة الجوع، والعطش، وتحمّل السلوك المشین الصادر من الآخرین، وما إلى ذلك. فلقد كانت عملیّة الدعوة الإسلامیّة تواجَهُ فی الماضی بمشاكل جمّة؛ فشدّ الرحال من أجل إبلاغ الدین كان یمثّل بالنسبة للبعض جهاداً بكلّ ما فی الكلمة من معنى. لكنّنا نشهد الیوم، ولله الحمد، تضاؤلاً ملحوظاً لهذه المشاكل. فقد نقل أحد الاُخوة (وهو الآن أحد المراجع الكبار فی قمّ المقدّسة وقد كان فی ذلك الحین أیضاً مدرّساً بارزاً فی الحوزة العلمیّة) عن ذكریات التبلیغ فی شبابه فقال: ذهبت للتبلیغ فی شهر محرّم الحرام إلى إحدى القرى النائیة وكان الفصل شتاءً فلم یُبدِ أحد أیّ استعداد للتعاون معی، بل إنّ أحداً لم یدعُنی إلى بیته. إذن هكذا كان وضع الدعوة الإسلامیّة فی إیران قبل انتصار الثورة الإسلامیّة (وهی البلد الشیعیّ الوحید فی العالم).
أمّا مجالات المقاومة فهی تلك الأقسام الثلاثة التی أكّدت علیها الروایات:
القسم الأوّل «صبر عن المعصیة» وهو الثبات والمقاومة فی مجابهة النفس والشیطان. وهنا لابدّ من الصمود بوجه النفس والشیطان بعنوان انّهما العوامل الداخلیّة، ومقاومة الناس فی الخارج الذین یمارسون على الإنسان ضغوطاً عبر التهدید والسخریة أو من خلال علاقات الصداقة وروابط المحبّة بعنوان أنّهم العوامل البشریّة الخارجیّة. والقسم الثانی هو الـ «صبر عند الطاعة» حیث یتعیّن على الإنسان أن یدع التقاعس جانباً ویكون جادّاً فی أداء التكلیف. بالطبع علیه هنا تأدیة التكالیف الواجبة بالدرجة الاُولى والمستحبّة بالدرجة الثانیة مراعاةً للأفضل فالأقلّ فضلاً. أمّا القسم الثالث فهو الـ «صبر عند المصیبة». فلیكن فی علمنا أنّ الحیاة الدنیا لا تكون من دون مصاعب ومحن. فقد خلق الله عزّ وجلّ الدنیا محفوفة بالمصاعب. لیس هذا فحسب، بل لقد قال سبحانه وتعالى بنفسه: «لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِی كَبَد»9، والكبد هو العذاب والمعاناة، وإنّه یصطلَح على مجموع هذه المحن والمصاعب وكذا الصبر علیها ومقاومتها بـ «المكابدة». فكم من الآلام والمعاناة یتحتّم على الاُمّ أن تتحمّلها فی سبیل ولادة طفلها وتنشئته. فهو عزّ وجلّ یقول فی حدیث قدسیّ: «وَضَعْتُ الرَّاحَةَ فِی الْجَنَّةِ وَهُمْ الناس یَطْلُبُونَهَا فِی الدُّنْیَا فَلا یَجِدُونَهَا»10. إذن نحن نطلب الراحة فی الدنیا لكن من غیر جدوى، فهی: «دار بالبلاء محفوفة»11. والتجارب أثبتت أنّه ما من عمل مهمّ یمكن تنفیذه من دون مصاعب ومشاقّ. إذن ما على المرء إلا أن یلقّن نفسه بأنّه لابدّ من السعی الحثیث والجهد المتواصل من أجل بلوغ أیّ منصب أو مقام، حتّى وإن كان دنیویّاً؛ فإنّه
وما نیل المطالب بالتمنّی ولكن تؤخذ الدنیا غلابا12
فلا دوام لما یُستحصل بالحیلة والخداع وسرعان ما یفتضَح أمر مَن یستخدم هذه الأسالیب ویمسی منبوذاً من قبل الناس.
لا یبلغ الرجل المدلّل مُنیةً فالعشق من دأب الرجال الكادحین13
والملفت هنا هو أنّ الصبر لا یفضی إلى النجاح فی الامور الدنیویّة فحسب بل إنّه ینهض بدور حیویّ حتّى فی نیل أفضل الاُمور المعنویّة والكمالات الإنسانیّة وكلّ ما یتعلّق بالهدف النهائیّ من خلقة الإنسان. فباستعراضنا للآیات القرآنیّة سندرك أنّ الصبر هو المفتاح لكلّ نجاح وموفقیّة. فالله تعالى كان قد نصر فی واقعة بدر تلك الفئة القلیلة العدّة والعدد من الحفاة، حین قال: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ»14. ثمّ حثّهم على الثبات والمقاومة بقوله: إن أصابكم ضعف مددناكم بالملائكة: «بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَیَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا یُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِینَ»15. فلا تظنّوا أنّ ملائكة الله الذین هرعوا لنجدتكم كانوا بهذا العدد فقط. فلم تكن مهمّة هؤلاء إلاّ فكّ العقدة التی أنتم فیها؛ لكنّكم إذا تحلّیتم بالصبر والتقوى ثمّ أصابكم بعض العجز فسوف نمدّكم بخمسة آلاف ملَك أیضاً، لكن بشرط أن تتحلّوا بـ «الصبر» و«التقوى»؛ «إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ».
وفیما یتّصل بنیل النجاحات الدنیویّة أیضاً فإنّه تعالى یشیر إلى قصّة یوسف (علیه السلام) فیقول: «إِنَّهُ مَن یَتَّقِ وَیَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا یُضِیعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِینَ»16. فالمقام الذی ناله یوسف (علیه السلام) كان بسبب ما احتمله من صبر فی مقاومة المعصیة. هذا هو الأجر الدنیویّ فقط أمّا الأجر الاُخرویّ فمفروغ عنه. ویشیر القرآن الكریم إلى هذا المضمون فی عدد من الآیات وهو أنّ اقتران التقوى مع الصبر هو شرط الظفر فی الدنیا وفی الآخرة معاً. والتقوى هی أن یمتلك الإنسان روح الاجتهاد فی فهم ما علیه من تكلیف شرعیّ والعمل به بعد فهمه؛ وذلك بطاعة الله ورسوله وولیّ الأمر، ومن ثمّ الصمود بوجه العدوّ ومقاومته من خلال التوكّل على الله سبحانه وتعالى.
واستكمالاً للآیات التی تتناول واقعة بدر یقول عزّ من قائل: «وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِیزِ الْحَكِیمِ»17؛ فلقد مددناكم بالملائكة فانتصرتم، لكن لا تتوهّموا أنّ الملائكة هم من نصركم. فنحن لم نرسل الملائكة إلاّ من أجل أن تطمئنّ قلوبكم؛ وإلاّ فما النصر إلاّ من عند الله القویّ المقتدر الحكیم.
فلا ینبغی للمؤمن أن یمدّ عینیه إلى غیر ید الله تعالى، فلا یقصرّن فی أداء الواجب من ناحیة، ولا یخافنّ من شیء أبداً، فإن انتابه عجز أعانه الله تعالى عبر طرق اُخرى حتّى وإن كانت قوى غیبیّة. وحتّى فی حال مدّنا بالقوى الغیبیّة فإنّه لا ینبغی أن نتصوّر أنّ الأمر بید تلك القوى؛ بل إنّ أصل النصر والإعانة بید الله وحده. إذن فلتتجه أعینكم إلى ید الله تعالى، ولا تتوكّلوا حتّى على الملائكة. فالإسلام یصبو إلى تنشئة اُناس كهؤلاء.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. بحار الأنوار، ج29، ص223.
2. سورة الأحقاف، الآیة 35.
3. سورة طه، الآیة 130، وسورة الروم، الآیة 60، وسورة القلم، الآیة 48.
4. الكافی، ج5، ص52.
5. وسائل الشیعة، ج15، ص238.
6. سورة البقرة، الآیة 217.
7. سورة النساء، الآیة 83.
8. سورة العصر، الآیة 3.
9. سورة البلد، الآیة 4.
10. بحار الأنوار، ج75، ص453.
11. نهج البلاغة، الخطبة 226.
12. للشاعر أحمد شوقی.
13. فی إشارة لبیت شعر بالفارسیّة لحافظ الشیرازیّ یقول فیه: نازپرورده تنعم نبرد راه به دوست عاشقی شیوه مردان بلاکش باشد
14. سورة آل عمران، الآیة 123.
15. سورة آل عمران، الآیة 125.
16. سورة یوسف، الآیة 90.
17. سورة آل عمران، الآیة 126.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 6 تشرین الأول 2010م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«...وَالأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَامَّةِ»1
وصلنا فی بحثنا فی خطبة سیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) إلى العبارة التی تقول فیها: «وَالأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَامَّةِ»؛ أی إنّ الله قد أوجب الأمر بالمعروف من أجل صلاح العباد كافّة.
لقد تحدّثنا فی ما مضى حول هذا الموضوع ضمن عدّة محاضرات طُبعت فیما بعد تحت عنوان «أعظم الفرائض»2. ولهذا فسنوجز البحث هنا فی شرح هذه العبارة بحسب ما یقتضیه المقام.
كثیراً ما نستخدم كلمة «المصلحة» فی محاوراتنا العرفیّة، فتارة یكون استعمالها صحیحاً وتارة اخرى یکون خاطئاً ومنحرفاً. فالبعض مثلاً یعبّر عن كلّ كذب یجنی منه بعض الفائدة انّه كذب للمصلحة. لكنّ السؤال هو: ما معنى المصلحة أساساً؟
یقال فی علم الکلام والعقاید للشیعة إنّ أحكام الواجب والحرام تُشرَّع فی شریعتنا وفقاً للمصالح والمفاسد؛ بحیث إنّه اُوجب كلّ ما فیه مصلحة وحُرّم كلّ ما فیه مفسدة. وهذا هو أشهر استعمال لكلمة «المصلحة» فی ثقافتنا الدینیّة.
وعندما نقول: إنّه یتعیّن تأمین المصلحة واجتناب المفسدة فلابدّ لنا من مقدّمة وهی أنّ البشر وفقاً لمقتضیات ما جُبلوا علیه من الفطرة یسعون وراء الهدف الذی من شأنه أن یؤمّن ما یصبون إلیه من سعادة وكمال نهائیّین. فحبّ أیّ امرئ لشیء معیّن ینبع من أنّ هذا الشیء سیؤمّن له كمالاً، أو لذّةً، أو منفعة. لكنّ البشر یختلفون كثیراً فی اختیار الهدف الذی یسعون وراءه، وأصل الاختلاف یكمن بین المتدیّنین والملحدین. فالمتدیّنون یقبلون بأصل المعاد ویعتقدون بأنّ على المرء أن یثابر ویكدح فی هذا العالم كی ینال السعادة الأبدیّة. فنحن وإن كنّا نبحث بالفطرة عن الرفاهیة والسعادة، لكنّنا لا نرید الرفاهیة والسعادة المحدودتین والمؤقّتتین، بل نصبوا إلى السعادة الثابتة الدائمیّة. وهذه هی عین الحقیقة التی یُطلق علیها السعادة. إذ یقول القرآن الكریم: «فَأَمَّا الَّذِینَ شَقُواْ فَفِی النَّارِ... * ... * وَأَمَّا الَّذِینَ سُعِدُواْ فَفِی الْجَنَّةِ»3، وهذا یعنی أنّنا نفتّش عن السعادة الثابتة والأبدیّة. إذ لیست السعادة المؤقّتة والمشوبة بالأمراض المزمنة والآلام المتواصلة سعادة، كما هو الحال فی الإدمان على المخدّرات. فلقد أثبتت البحوث العقلیّة أنّ سعادة الإنسان الحقیقیّة هی التی تكون مقرونة بكماله النهائیّ؛ أی إنّ الحقیقة الموجِبة للسعادة الأبدیّة هی تلك التی تؤدّی إلى الكمال النهائیّ للإنسان وما لم یصل الإنسان إلى الكمال النهائیّ فهو لم ینل السعادة الأبدیّة.
فنحن نبذل الجهود من أجل الوصول إلى تلك السعادة الأبدیّة، وإنّ هدفنا من كلّ ما نقوم به من أعمال هو الوصول إلیها. إذن فكلّ ما یوجب - حقیقةً - بلوغ السعادة ینطوی على مصلحة؛ أی إنّ ذلك الفعل یستحقّ منّا إنجازه كی نصل إلى ذلك الهدف. فالمصلحة الحقیقیّة للإنسان هی الحقیقة التی تمثّل الوسیلة لبلوغ السعادة الأبدیّة. لكنّ البشر لا یعتقدون جمیعا بالمعاد، بل حتّى الذین یعتقدون به فإنّ هذا الأمر لا یخطر دوماً فی أذهانهم وهم لا یقومون بكلّ أعمالهم من أجل الوصول إلى السعادة الأبدیّة؛ بمعنى أنّ أهداف الناس عموماً هی أهداف مادّیة ودنیویّة. وحتّى القرآن الكریم یقول: «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَیَوٰةَ الدُّنْیَا»4. ومن هنا فإنّ للمصلحة فی عرف غیر المتشرّعة من الناس مدلولاً أكثر عمومیّة. ووفقاً لهذه الرؤیة فإنّ المصلحة هی كلّ أمر یكون وسیلة للوصول إلى الهدف، سواء أكان هذا الهدف هو السعادة الحقیقیّة أو أیّ شکل من أشكال السعادة الدنیویّة.
فالناس عادة یفتّشون عن السعادة فی هذه الحیاة الدنیا ویعتبرون كلّ ما یجلب السعادة الدنیویّة مصلحة. ونتیجة للاختلاف فی الأهداف فقد یكون الأمر ذا مصلحة فی نظر أحدهم ولیس ذا مصلحة فی نظر الآخر. إذن فإنّ لدینا مصلحة حقیقیّة وهی ما یوصل الإنسان إلى السعادة الأبدیّة (القرب من الله)، ومصلحة أعمّ وهی المصطلحة عرفاً؛ ذلك أنّ للناس عادة أهدافاً دنیویّة، وإنّ كلّ ما یلزمهم لبلوغ أهدافهم تلك سیصبح مصلحة بالنسبة لهم. فعلى سبیل المثال، فإنّ الكذب بالنسبة لمن دأبه التحایل على الآخرین سیشكّل مصلحة له!
كما أنّ لبعض الأفعال أیضاً مصلحةً متوسّطةً؛ فالذی یسافر ویتغرّب مثلاً من أجل الزیادة فی طلب العلم یُعدّ سفره هذا ذا مصلحة متوسّطة له؛ ففی هذه الحالة إذا اتّخذ من صیرورته عالماً مقدّمة للوصول إلى السعادة الأبدیّة وكان هدفه مرضاة الله سبحانه وتعالى فسیكون باستطاعته بلوغ المصلحة الحقیقیّة، وإلا لو كان هدفه من طلب العلم هو الدنیا فسیكون مصداقاً لقوله تعالى: «خَسِرَ الدُّنْیَا وَالآخِرَةَ»5.
أمّا الاستعمال الآخر لمصطلح المصلحة فهو عندما تتزاحم مقدّمتان ویكون – أحیاناً – لإحداهما نفع وضرر وللاخرى نفع وضرر كذلك. فی هذه الحالة یقوم مَن هم أهل لتقییم المصلحة بالمقارنة بین المقدّمتین للوصول إلى أكثرهما نفعاً وأسرعهما إیصالاً إلى الهدف، ویُستخدم فی مثل هذه الحالات مصطلح «تشخیص المصلحة».
المصلحة تكون تارة فردیّة وطوراً اجتماعیّة. فمن بین التشریعات الإلهیّة توجد تشریعات تشكّل مصلحة لعامّة الناس. وإنّ ما یحظى بأهمّیة وبروز أكبر من بین تلك التشریعات هی فریضة «الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر». وهذه حقیقة تقتضیها الفطرة البشریّة من ناحیة، وتؤكّد علیها كافّة الأدیان من ناحیة اخرى. وإنّ التأكید الذی ورد فی القرآن الكریم والأحادیث على هذه القضیّة قد بلغ حدّاً یذهل العقول. ففی الآیة التی نزلت لتعلن أوّل تشریع للجهاد الدفاعیّ یقول عزّ من قائل: « أُذِنَ لِلَّذِینَ یُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِیرٌ *...* الَّذِینَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِی الارْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الامُورِ»6.
یتبادر إلى أذهان الكثیر منّا سؤال لا نجد جواباً شافیاً علیه وهو: ما سبب كون فریضة الأمر بالمعروف فی مجتمعنا مهمّشة على الرغم من كلّ هذا التأكید فی القرآن الكریم علیها؟ فكم مرّة نأمر بالمعروف خلال الیوم الواحد وكم نشاهد من الأشخاص الذین یقومون بهذه الفریضة؟ ألسنا نوافق على أنّ هذه الفریضة هی من ضروریّات الدین؟ لماذا یستنكر الناس على من یحاول العمل بهذه الفریضة؟ ألسنا مسلمین؟ ألم نقرأ القرآن؟
القضیّة هی أنّ السلوكیّات الاجتماعیّة تتبع الثقافة الحاكمة والمهیمنة على المجتمع. فلیست المسألة أنّ المرء باستطاعته دوماً وفی أیّ وقت وضمن أیّ مجتمع أن یعمل بكلّ ما یراه صواباً. فالممتازون من الناس فقط هم الذین یستطیعون أن یسبحوا ضدّ التیار أو أن یتكلّموا، أو یكتبوا، أو یتحرّکوا بما یخالف الذوق السائد والثقافة المسیطرة على المجتمع. وأمثال هؤلاء غالباً ما یُتّهمون بالجنون وأمثاله. بل إنّ جمیع الأنبیاء (علیهم السلام) كانوا یعانون من هذه الظاهرة أیضاً. فالقیام بما یخالف الذوق العامّ یحتاج إلى إرادة صلبة جدّاً، ومن هنا یقال: إنّ أفراد المجتمع یتأثّرون بالثقافة المهیمنة على ذلك المجتمع. وحتّى حالاتنا النفسانیّة فهی تتأثّر، بشكل طبیعیّ، بالمنظومة القیمیّة المهیمنة على المجتمع الذی نعیش فیه.
والسؤال هنا: لماذا وصلت المنظومة القیمیّة لمجتمعنا إلى هذا المستوى؟ لماذا لا یستسیغ الناس الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر؟ والجواب هو: إنّ ثقافتنا باتت متأثّرة بالثقافة الغربیّة الملحدة ولم تعد ثقافتنا ثقافة إسلامیّة محضة. ففی العالم الغربیّ المعاصر وُضعت جمیع القیم فی دائرة التشكیك والسؤال، وبدأت تظهر للوجود مدارس فی فلسفة الأخلاق والقیم یدعو الاطّلاع علیها للتعجّب والدهشة. فقد ذهب فلاسفة معروفون إلى الاعتقاد بأنّ «الامور التی نعدّها حسنة، كالإنصاف والرأفة وما إلى ذلك، إنّما تُصنَّف ضمن لائحة أخلاق الضعف؛ وإنّ اُصول القیم تكمن فی القوّة. فكلّما أمعنّا فی ممارسة التعسّف كان أفضل. فمَن قال إنّ على الإنسان أن یكون رؤوفا ورحیماً ویقدّم الخدمة للآخرین؟!». بل إنّ إحدى المدارس الأخلاقیّة المعروفة تعتقد: «أنّ جمیع القیم اعتباریّة. فإذا اتّفق أفراد المجتمع فیما بینهم فی عصر من العصور على أنّ الأمر الفلانیّ حسَن، فقد تأتی ظروف مختلفة فی زمان آخر تجعل من نفس هذا الأمر قبیحاً. فلا یوجد میزان ثابت للحُسن والقبح، وإنّما هو أمر اعتباریّ یتغیّر بمرور الزمان. وبناء علیه فلا ینبغی أن نتقیّد كثیراً بالقول: لابدّ من ترك ما یراه الناس قبیحاً وإلى الأبد، إذ قد یصبح نفس هذا الشیء موضَة فی المستقبل»!
فالقیمة التی یقبلها الیوم العالم الغربیّ ویقرّها أكثر من أیّ شیء آخر هی «الحرّیة». فهم یقولون: «الحرّیة هی أن یصنع كلّ امرئ ما یشاء. وهذه هی أرقى أنواع القیم، ولا یقیّدها شیء سوى استثناء واحد وهو عدم التجاوز على حرّیات الآخرین، لیس غیر»! وعلى هذا الأساس فقد اُسّست فلسفات أخلاقیّة وسیاسیّة واجتماعیّة جمعت حولها الكثیر من المؤیّدین وأصبحت تُدرَّس فی الجامعات الغربیّة. ومن هذا المنطلق فقد تمّ صیاغة فلسفة سیاسیّة وظیفتها تحدید واجبات الحكومة فی هذا الصدد مفادها: «أنّ واجب الحكومة هو الوقوف أمام التجاوزات وانتهاك الأمن ولیس لها أیّ وظیفة اخرى، كما أنّه لیس لجهاز الشرطة التدخّل إلا عندما تتعرّض حیاة الناس وممتلكاتهم للخطر، وما سوى ذلك فإنّ الناس أحرار فی أن یصنعوا ما یشاءون أمام الملأ خاصّة فی الأعیاد والحفلات»!
وشیئاً فشیئاً بدأت أمواج هذه الثقافات تصلنا عبر قنوات الرادیو، والتلفزیون، والفضائیّات، والصحف، والمقالات، والسینما، وغیرها، وأمست تؤثّر فینا تدریجیّاً سواء شئنا أم أبینا حتّى وصل الأمر إلى أنّ ما نعتبره نحن أمراً بالمعروف ومن أرقى القیم بات یُعدّ من أقبح الأعمال، حتّى إنّه لَیُقال لمن یحاول أداء هذه الفریضة: «إنّ الحرّیة هی أسمى القیم. أترید التدخّل فی حرّیات الآخرین»؟! وهذه هی الثقافة المهیمنة على العالم الغربیّ. فإذا سرت إلینا وإلى مجتمعاتنا بشتّى الوسائل فإنّها ستدخل إلى الكتب المدرسیّة أیضاً، وتُدَرّس فی الجامعات، وتُبرَّر من قبل الأساتذة، فهل تنتظرون - والحال هذه - أن تكون النتیجة غیر ما هی علیه الآن؟ بالطبع نحن نحمد الله على أنّنا لم نصل إلى هذه المرحلة بعد؛ لكنّ دخان هذه الثقافة بات یخیّم على أجواء مجتمعنا، فلم یعد من السهل أن یعمد المرء إلى نهی الناس عن فعل شیء أو تحریضهم علیه.
السؤال الآخر هو: ما تكلیف المسلمین فی هذه الحالة إذن؟ هل فریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر هی من وظائف فئة خاصّة من الناس أم هو واجب عامّ؟ كلّنا یعلم أنّ هذه الفریضة هی وظیفة عامّة حالها حال الصلاة والصوم؛ لكنّه فی الموارد التی یُخاف من انجرار العمل بالأمر بالمعروف والنهی عن المنكر فیها إلى المواجهة والإخلال بالأمن فإنّها تُترك للحاكم الشرعیّ. ففی قدیم الزمان كانت تعیّن جماعة خاصّة لهذا الغرض ویجعل لأفرادها زیّ خاصّ یُعرفون به، وكان یقال لهم: انّهم محتسبون، وكان یطلق على هذا النمط من الأعمال «الحسبة». ثمّ آلت الامور فی عصرنا المتحضّر إلى طرح مسألة قوّات حفظ الأمن وجهاز الشرطة فی جمیع البلدان وحُدّدت لهم مهمّات وواجبات خاصّة.
والسؤال الـمُلِحّ هنا هو: هل وظائف جهاز الشرطة فی النظام الإسلامیّ تشبه ما حدّدوه له من وظائف فی الأنظمة الكافرة، أم أنّها تختلف؟ یقول البعض فی هذا الصدد: «لا ینبغی لجهاز الشرطة أن یتدخّل إلا لمواجهة الجریمة المنظّمة أو القضایا التی تؤدّی إلى الإخلال بالأمن. أمّا فی المسائل الفردیّة فلابدّ من العمل الثقافیّ ولیس لقوّات الشرطة التدخّل فی هذه الامور»! ووجهة النظر هذه تتناغم مع رؤیة الثقافة الغربیّة القائلة: «إنّ واجب قوّات الشرطة لا یتعدّى المحافظة على الأمن ولا ینبغی للشرطة التدخّل فیما لا علاقة له بالجانب الأمنیّ»! بمعنى أنّه یتعیّن المحافظة على أعلى مستوى ممكن من الحرّیة الفردیّة.
ولابدّ من القول هنا إنّ غیر المسلمین أو الغربیّین - بالطبع - لا ینكرون مسألة الأمر بالمعروف تماماً، فإنّهم یمارسون شكلاً من أشكال الأمر بالمعروف الخاصّ بهم. فهم یتقیّدون ببعض الامور بشدّة كنظافة الشوارع، ومراعاة قوانین المرور، وغیرها. لكنّ الفارق بین جهازی الشرطة الإسلامیّ والغربیّ هو أنّه وفقاً لرؤیة جهاز الشرطة الإسلامیّ فإنّ مصالح ومفاسد المجتمع الإسلامیّ لا تنحصر فی الأمن والمادّیات، فالمصالح المعنویّة بالنسبة لنا أهمّ من المصالح المادّیة.
فعندما تقول مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها): «وَالامْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَامَّةِ» فهی لا تعنی تلك المصلحة التی یقول بها الغربیّون، لأنّهم لا یرون المصلحة إلا فی المادّیات. بل إنّ أهمّ مصلحة هی الحفاظ على القیم الإسلامیّة وتطبیق أحكام الإسلام. فالأمر بالمعروف والنهی عن المنكر من أجل محاربة المعاصی والانحرافات الفكریّة والعقائدیّة هو أوجب بكثیر من الأمر بالمعروف لإصلاح الشؤون المادّیة؛ ذلك أنّ الانحرافات تهدّد السعادة الأبدیّة للإنسان. فإن أراد امرؤ فعل شیء من شأنه أن یدخله النار الى الأبد ألا ینبغی لنا أن تحترق قلوبنا شفقة علیه؟! إذن فإنّ أهمّ أشكال المصلحة المأخوذة فی تشریع الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر هی حفظ المصالح المعنویّة والدینیّة للمجتمع. ومن هنا یتحتّم على أجهزة الشرطة أن تحارب أیّ شكل من أشكال الفسق. إذ لا ینبغی أن یتجاهر الفُسّاق بفسقهم فی المجتمع الإسلامیّ. بالطبع إذا أذنب أحدهم فی الخفاء فانّه لا یجوز أن یُتَجسّس علیه ولیس لأحد التدخّل فی شؤونه الخاصّة؛ لكنّ ارتكاب الفسق فی العلن وإفساد أفراد المجتمع یُعدّ من أكبر المفاسد ویتعیّن محاربته. وفی مثل هذه الامور إذا كانت المفسدة ضمن الحدود التی تكون معها قابلة للحلّ بالطرق العادیّة المتعارفة فإنّ جمیع أفراد المجتمع مكلّفون بمحاربتها، وحیثما تطلّب الأمر التعامل بالضرب والجرح وما إلى ذلك فلابدّ من تعیین أشخاص معینین لهذه المهمّة وهم الذین یُصطلح علیهم فی مجتمعاتنا المعاصرة بالشرطة.
وفّقنا الله وإیّاكم
1. بحار الأنوار، ج29، ص223.
2. اسم الكتاب بالفارسیة هو: «بزرگترین فریضه».
3. سورة هود، الآیات 106-108.
4. سورة الأعلى، الآیة 16.
5. سورة الحج، الآیة 11.
6. سورة الحج، الآیات 39-41.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 13 تشرین الأول 2010م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«...وَبِرَّ الوَالِدَینِ وِقَایَةً مِنَ السَّخَطِ وَصِلَةَ الأَرحَامِ مَنسَأَةً فِی العُمرِ وَمَنمَاةً لِلعَدَد»1
إذا أردنا أن نوضّح هذه الجمل بإیجاز فإنّ الزهراء (سلام الله علیها) تقول فیها: لقد أوجب الله علیكم برّ الوالدین لیقیكم من غضبه وسُخْطه، وأمركم بصلة أرحامكم وأقاربكم كی یكون ذلك مدعاة لإطالة أعماركم من جانب، وزیادة عددكم من جانب آخر. فموضوع هاتین الجملتین هو برّ الوالدین وصلة الرحم وهما موضوعان مرتبطان ببعضهما ارتباطاً وثیقاً.
كلّنا یعلم بمدى الأهمّیة الفائقة التی أولاها الإسلام لهاتین المسألتین. فالله سبحانه وتعالى وفی مواضع متعدّدة من كتابه العزیز یأمر بعبادته أوّلاً ثمّ یشفعه بأمر الإحسان إلى الوالدین: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِیَّاهُ وَبِالْوَالِدَیْنِ إِحْسَاناً»2. وكأنّه یرید أن یقول: ما من تكلیف بعد العبودیّة لله المتعال أوجب من تفقّد أحوال الوالدین والإحسان إلیهما، وهذا التعبیر هو من أعجب التعابیر وأكثرها صراحة ومدعاة للحذر وأخذ الحیطة. كما ویقول عزّ وجلّ فی آیة مشابهة أیضاً: «أَنِ اشْكُرْ لِی وَلِوَالِدَیْكَ»3. فلم یقل: اشكر لی واشكر لوالدیك أیضاً، بل عطف «لوالدیك» على «لی» وأشركهما فی فعل أمر واحد. إذن فمن أمثال هذه الآیات والمئات من الأحادیث تتجلّى، بكلّ وضوح، الأهمّیة التی أولاها الشارع المقدّس لهذا التكلیف. هذا وقد ورد تعبیر مشابه لكن بمستوى أدنى بقلیل بخصوص الأرحام عندما قال عزّ من قائل: «وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِی تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ»4؛ أی: اتّقوا ذلك الربّ الذی تحلفون باسمه فی علاقاتكم فتقولون عندما تسألون امرأً شیئاً: أستحلفك بالله إلاّ فعلت كذا وكذا، أو الذی تذكرون اسمه لإثبات أمر مّا، إذن فاحرصوا على أداء حقّ الربّ الذی تقدّسونه إلى هذا الحدّ. ثمّ یُتبع ذلك بالقول: «وَالأَرْحَامَ»؛ أی: راعوا حقّ الله تعالى وكذا حقّ أرحامكم. فإنّ لهذا التقارن مدلولاً عمیقاً.
الملاحظة التی تسترعی الاهتمام لدى استقراء عشرات الروایات الواردة فی هذا الجانب هی أنّ إیمان الوالدین، بل وحتّى إسلامهما، لم یوضع كشرط لبرّهما والإحسان إلیهما. فحتّى إذا كان الأبوان كافرین فإنّ لهما حقّ الطاعة والإحسان على الولد؛ بالطبع إذا كان الأبوان مسلمین فسوف یكون لهما حقّ مضاعف، وإن كانا شیعیّین، لتضاعف حقّهما أكثر، وإذا كانا مُحسنَین فی حقّ الأبناء زاد حقّهما عن ذلك؛ لكن بصرف النظر عن ذلك فمجرّد كونهما أبوین وأنّ الولد من نسلهما یوجب على الولد حقّاً لهما، ولیس لكونهما مسلمین أو كافرین، عادلین أو فاسقین، عطوفین أو سیّئی الخلق أیُّ تأثیر على هذا الحقّ، غایة ما فی الأمر أنه ینبغی أن لا یطاعا فی معصیة الله تعالى.
فیما یخصّ صلة الرحم فهناك إجماع بین العلماء على حرمة قطع الرحم. والقطع هنا هو أن یعتزل المرء أرحامه بشكل یوحی وكأنّهم لیسوا أرحامه؛ فلا یبادلهم الزیارة، ولا یعاملهم باحترام، ولا یهدیهم الهدایا، ولا تربطه بهم أیّ علاقة. فهذا هو قطعاً من المحرّمات، بل ویُعدّ من كبائر الذنوب. أمّا صلة الرحم فهی تجب بالمقدار الذی لا یصدق معه القطع؛ ذلك أنّ الأمرین غیر منفكّین عن بعضهما.
فالمتیقَّن أنّ قطع الرحم محرّم، أمّا ما هو مصداق قطع الرحم؟ هنا یرى كافّة العلماء تقریباً أنّه أمر عرفیّ یختلف باختلاف ظروف الزمان والمكان ومرتبة القرابة. فالصلة بالأرحام الأكثر قرابة إلى الإنسان تقتضی ما لا تقتضیه الصلة بمن هم أبعد منهم، كما وأنّ الصلة بالأرحام الذین یعیشون فی مدینة أو بلد آخر تكون على نحو آخر، فاتّصال هاتفیّ واحد قد یكون كافیاً أحیاناً فی هذه الحالة. فلابدّ – على أیّة حال - أن تكون العلاقة بحیث یقال عرفاً أنّه لم یقطع صلته بأرحامه.
یُعدّ قطع الرحم من أكبر الكبائر، بل وقد ورد التأكید أیضاً على أن یصل المرء أرحامه حتّى وإن قطعوه؛ إذ یقول الإمام السجّاد (علیه السلام) فی هذا الصدد: «ما من خطوة أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من خطوتین؛ خطوة یسدّ بها المؤمن صفّاً فی سبیل الله، وخطوة إلى ذی رحم قاطع»5.
أمّا السؤال المطروح هنا فهو: ما السرّ وراء كلّ هذا التأكید؟ والإجابة الموجزة التی یمكن تقدیمها على هذا السؤال هی أنّ الإنسان یمتلك عاطفة فطریّة موهوبة من الله عزّ وجلّ تجاه أبویه عموماً واُمّه خصوصاً. وهذا الموضوع لیس بحاجة إلى طویل بحث فكلّ امرئ قد جرّب هذه العاطفة. والدلیل الطبیعیّ على هذا الأمر واضح تماماً؛ فالوالدان هما سبب وجود الإنسان. فلولا حمل الاُمّ جنینها فی رحمها تسعة أشهر، ولولا إرضاعها وتنشئتها لطفلها، ولولا جهود الأب فی تربیته فكیف للولد أن یستمرّ فی حیاته؟ إذن فللوالدین على الولد حقّ الحیاة. وبالإضافة إلى عاطفتهما فقد ربط الله عزّ وجلّ قلب الإبن بأبویه إلى درجة حبّه لهما. لكنّ المؤسف أنّ بعض الشباب - وتحت تأثیر الثقافة الإلحادیّة التی فتحت الباب لبعض الأفكار الشیطانیّة لتنفذ إلى قلوبهم - یقولون: «شاء أبوانا أن یتمتّعا فأتینا نحن إلى هذه الدنیا. فأیّ حقّ لهما علینا»؟! فأمثال هؤلاء غیر ملتفتین إلى هذا الجانب من القضیّة، وهو أنّ حیاتنا رهن بوجود أبوینا. فقد بذلا لأجلنا من الجهود ما لم یبذله أحد، بل ولا یستطیع أحد قطّ أن یبذلها. فهذا الإمام زین العابدین (علیه السلام) یقول فی رسالة حقوقه: «فحقّ أمّك فأن تعلم أنّها حملتك حیث لا یحمل أحد أحداً، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا یطعم أحد أحداً... فرضیَتْ أن تَشبَعَ وتجوع هی، وتكسوك وتعرى، وترویك وتظمأ... وتلذّذك بالنوم بأرقها...»6. فإنّ الذی یعامل إنساناً كهذا بجفاء من الصعب أن یُطلَق علیه عنوان الإنسان أوّلاً، وثانیا: هل لمثل هذا الإنسان أن یقیم وزناً لحقّ أیّ امرئ آخر؟ هل یمكن لشخص كهذا یا ترى أن یكون وفیّاً لزوجه أو صدیقه؟ وإنّ إنساناً كهذا سیكون ناكراً حتّى لحقّ الله تعالى، ذلك أنّه قابَلَ بالجفاء حقّ أمّه الذی شاهده بأمّ عینیه، فكیف بحقّ الله الذی لم یشاهده، إذن من الأولى أن یغفل عنه.
إذن فمن أفضل العوامل التی من شأنها أن تقود الإنسان إلى الله عزّ وجلّ وتوقظ فی نفسه الدافع لعبادة الله، وعرفان الجمیل، والشكر هی الالتفات إلى عواطف الأبوین وما فی رقبة الإنسان تجاههما من حقوق. فالله جلّ شأنه یذكر شكر الأبوین إلى جانب شكره وكأنّ الشكرین من نوع واحد. فإن عرف المرء حقّ أبویه وجمیلهما علیه فسیكون باستطاعته مراعاة حقّ الله تعالى؛ ذلك أنّ المرء إذا التفت إلى حجم الخدمات التی قدّمها له أبواه فستقوى لدیه شیئاً فشیئاً روح الشكر والعرفان بالجمیل، وسیفكّر فی شكر الله سبحانه وتعالى. لكنّه إن تغافل عن حقّ أبویه قائلاً: لیتهما لم یفعلا هذه الفعلة! فإنّه سیواجه الله تعالى أیضاً بالقول: لیته لم یخلقنی! من هنا ندرك أن شكر الوالدین والالتفات إلى الحقّ الإلهیّ الذی لهما علینا هو أفضل السبل إلى عبادتنا لله وتكاملنا. ومن هذا المنطلق فإنّ أفضل الطرق لنجاة المذنبین أیضاً هی أن یبدأوا من هذه النقطة؛ وهی خدمة الأبوین. فقد جاء رجل إلى النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وقال: یا رسول الله! لم أترك شیئاً من القبیح إلا وقد فعلته، فهل لی من توبة؟ فقال له: «هل بقی من والدیك أحد»؟ فقال: نعم أبی. فقال (صلّى الله علیه وآله): «اذهب وابرره». فلمّا ولّى قال النبیّ (صلّى الله علیه وآله): «لو كانت أمّه!»7.
أمّا سرّ كلّ هذا التأكید على الأرحام أیضاً فیعود إلى أنّ النعم التی یغدقها الله جلّ وعلا على الإنسان بواسطة أرحامه هی على جانب من القیمة والنفاسة بحیث إنّ المرء یكون مستعدّاً لأن یشتریها بأبهض الأثمان. فبشكل طبیعیّ عندما یتعرّض أحد أفراد الاسرة إلى مشكلة،كأن یكون – مثلاً – بحاجة إلى نقله إلى المستشفى بعد منتصف اللیل فإنّ سائر أفراد الاسرة سیهرعون لنجدته من دون أن یمنّوا علیه بذلك. بالطبع لهذه القاعدة استثناءات أیضاً؛ لكنّ حدیثنا یتناول الأشخاص العادیّین والسلیمی الفطرة. فقد ربط الله تعالى أمثال هؤلاء الناس بعاطفة الرحم والقرابة (التی تُعدّ شعاعاً من عاطفة الأب أو الأمّ تجاه أولادهما). فإذا اعتبر الإنسان أقاربه كالأجانب ولم یشکّل معهم علاقات فستبرد عواطفهم تجاهه شیئاً فشیئاً وسیقطعون رحمه، ونتیجة لذلك سیُحرَم الطرفان تدریجیّاً من هذه النعم؛ بمعنى أنّهم سیوصدون بأیدیهم باب الرحمة التی فتحها الله لهم بشكل طبیعیّ. لهذا فإنّ مَن یغلق بیده باب الرحمة هذه التی تعود علیه بكلّ تلك الفائدة والنفع ویقطع هذه العلاقة الطبیعیّة الطاهرة الموهوبة من الله عزّ وجلّ فلن تعود لعواطفه مع الآخرین من جذور وستكون صداقاته معهم شكلیّة ومن أجل المصالح العابرة. ومن هذا المنطلق فبعد الآصرة التی تربط المرء بوالدیه یأتی الدور إلى اولئك الذین تكون العلاقة الطبیعیّة للإنسان معهم أقوى وأوثق.
فلقد خلق الله تبارك وتعالى البشر من أجل أن یعرفوه ویدركوا ألطافه وآلاءه، ویتقرّبوا إلیه بعبادته. فإذا سار المرء عكس هذا التیّار وسدّ تلك السبل التی شرّعها الله له من أجل أن یصبح عارفاً بالجمیل، فالله بالطبع لن یرضى عنه. ومن هنا فإنّ الإحسان إلى الأبوین یمثّل حقیقة تحفظ الإنسان من سخط الله سبحانه «وَبِرَّ الوَالِدَینِ وِقَایَةً مِنَ السَّخَطِ». لكنّه ممّا یؤسف له فإنّ هذه القیم باتت تتّجه نحو الإضمحلال فی ثقافتنا المعاصرة، بل وباتت تُنسى أحیاناً مع بالغ الأسف والحسرة. فالأبناء صاروا یعاملون آباءهم بفضاضة. لذا یتعیّن علینا أن نعود أدراجنا إلى ثقافتنا الإسلامیّة ونعمل على إحیاء تلك القیم الدفینة.
تكمن هنا التفاتة علمیّة وفلسفیّة تستحقّ التأمّل، فعندما تستعرض الزهراء (سلام الله علیها) الحِكَم من وراء سنّ التشریعات الإلهیّة فهی تتناول المنافع الدنیویّة لبعض تلك التشریعات؛ ومن جملة ذلك ما قالته حول صلة الرحم من أنّه إطالة للعمر وزیادة فی عدد أفراد الاسرة. إذن فما هو الملاك والمناط للقیم الإسلامیّة؟ وهل إنّ میزان القیم فی الإسلام هی المصالح الدنیویّة؟
أساساً نحن خُلقنا للتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى وهو مقام لا یُنال إلا فی ظلّ العبودیّة له عزّ وجلّ. فعندما یقول الباری جلّت آلاؤه: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِیَعْبُدُونِ»8 فهو من أجل أن نصل فی ضوء العبادة إلى مقام نكون فیه أرفع حتّى من الملائكة أنفسهم. إذن فإنّ أصل القیم هی تلك الحقیقة التی تُقرّب الإنسان إلى الله تعالى. لكنّ أفعالنا تنقسم إلى قسمین: فالقسم الأوّل یرتبط بالقرب من الله بشكل مباشر كالصلاة؛ بمعنى أنّ تلك الأعمال هی أساساً من أجل ذكر الله، والخوف منه وخشیته وحبّه. فمن الواضح كون قیمة تلك الأفعال إنّما هی فیما لها من تأثیر فی التقرّب إلى الله عزّ وجلّ.
لكنّ القسم الآخر من الأفعال، كالكرم، والرأفة، وصلة الرحم وما إلى ذلك فإنّ لها صنفین من القیم؛ الأوّل أخلاقیّ؛ بمعنى أنّها تهیّئ الإنسان وتُعِدّه للارتباط بالله عزّ وجلّ. فالبخل هو غِلّ وسلاسل توثق یدی ابن آدم ورجلیه فلا تتیح له فرصة السیر نحو الله تبارك وتعالى؛ إذ یقول عزّ من قائل: «وَمَن یُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»9. فالشُحّ، والإمساك، والبُخل، والأنانیة هی بمثابة سدود تعیق ارتباط المرء ببارئه. وإنّ تحطیم تلك السدود من شأنه أن یمهّد الأرضیّة لمثل هذا الارتباط والوصول إلى قرب الله جلّ وعلا. فهذا هو الصنف الأوّل من القیم وهو لا یؤدّی إلاّ إلى رفع المانع أو تقویة الأرضیة. أمّا الصنف الثانی فإنّ هذه الأعمال المقوّیة وعلى الرغم من أنّها لا تسهم بالارتباط بالله بشكل مباشر لكن بإمكانها أن تشكّل وسیلة مباشرة للتقریب من الله تعالى، والسبیل إلى ذلك هو أن نلتفت إلى هذه النقطة وهی أنّ الله سبحانه یحبّ هذه الأعمال، وإنّنا - تأسیساً على ذلك - نقول: «اللهمّ إنّنی لا أقوم بهذا الفعل إلا لأنّك تحبّه».
فهذه الأعمال تمتلك بذاتها قیمة أخلاقیّة جیّدة؛ أی إنّها تُعِدّ الإنسان لبلوغ الكمال. فعندما یقال: إنّ الله لا یعذّب حاتم الطائیّ فی جهنّم لأجل كرمه وعطائه، فهو یعنی: على الرغم من أنّه لن یُدخله الجنّة إلى جوار الأنبیاء (علیهم السلام) لكنّ أعماله كانت بحیث ساعدت على التقلیل من عذابه، ومنحته مزیداً من الاستعداد للتقرّب إلى الله تعالى. أمّا إذا كان المرء مؤمناً وهو یقوم بهذه الأعمال طاعة لله فإنّ نفس هذه الأعمال ستصبح من صلب العبادة. وبناء علیه فإنّنا إنْ أحسنّا إلى والدینا ووصلنا أرحامنا بدافع العواطف فهو أمر حسن جدّاً ومن شأنه أن یُعدّنا لنیل قیم أسمى وبلوغ هدف الخلقة ألا وهو القرب من الله عزّ وجلّ؛ لكنّ نفس العمل لا یُعدّ عبادة. أمّا إذا أنجزنا نفس هذا العمل مرضاةً لله وطاعةً له فسیكون – حاله حال الصلاة تماماً - من العبادات التی تربطنا بالله بشكل مباشر. إذن علینا أن نغتنم هذه النقطة ونجتهد فی أن نجعل القصد من أعمالنا الحسنة عبادة الله تعالى؛ أی أن نقول: إلهی! إنّنی أقوم بهذا العمل لأنّك تحبّه، لا لشیء آخر.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. بحار الأنوار، ج29، ص223.
2. سورة الإسراء، الآیة 23.
3. سورة لقمان، الآیة 14.
4. سورة النساء، الآیة 1.
5. الخصال للصدوق، ج1، ص50.
6. تحف العقول، ص263.
7. عدة الداعی، ص85.
8. سورة الذاریات، الآیة 56.
9. سورة الحشر، الآیة 9.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 3 تشرین الثانی 2010م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«... وَالْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاء»1
تلونا فی المحاضرات السابقة مقاطع من خطبة الزهراء (سلام الله علیها) وقد وصلنا إلى العبارة التی تقول فیها (علیها السلام): «وَالْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاء»؛ ومعناها أنّ الله عزّ وجلّ قد سنّ القصاص للحیلولة دون إراقة الدماء. ومن أجل توضیح هذه المسألة أودّ أن اُشیر إلى إحدى المسائل المتعلّقة بفلسفة الحقوق.
إنّ من جملة المسائل المطروحة فی المدارس الحقوقیّة المختلفة فی العالم هی: ما هی الحكمة من تشریع القوانین الجزائیّة؟ وحیث إنّ بعض الحاضرین قد لا یكونون محیطین بهذه المباحث فلا بأس بتقدیم مقدّمة للموضوع.
من المسلّمات أنّ البشر بحاجة إلى قانون من أجل حفظ مصالح الحیاة الاجتماعیّة، وإنّ انعدام الضابط الذی ینظّم سلوك البشر یؤدّی إلى الإخلال فی نظم حیاتهم. فأصل هذه المسألة بدیهیّ أو شبه بدیهیّ ویندر العثور على مَن یشكّك فیه. لكنّ المشكلة لن تُحَلّ بمجرّد وضع القانون؛ ذلك أنّ القوانین بحدّ ذاتها لا تضمن تنفیذها. ولهذا فمن أجل تأمین المصلحة المنشودة من تلك القوانین یضطرّ المشرِّع إلى وضع قوانین اُخرى تكون مشرفة على القوانین السابقة قائلاً: «إذا خالف أحد تلك القوانین فلابدّ من معاقبته». أمّا إذا کانت الطائفة الثانیة من القوانین – حالها حال الطائفة الاولى – مجرّد حبر على ورق فستواجه نفس الإشكال السابق. من هذا المنطلق لابدّ من توفّر ضامن قویّ لتنفیذ هذه المجموعة من القوانین كی تُفرض العقوبة على المتجاوز فرضاً.
فمن سمات الطائفة الاُولى من القوانین انّها لا تُفرض بالقوّة. فهی لا تتخطّى حدّ القول مثلا: المعاملة التجاریّة الفلانیّة باطلة، الارتشاء ممنوع، رفع أسعار السلع ممنوع، وهكذا. غیر أنّ الطائفة الثانیة تقول: إذا خالف أحد تلك القوانین فتجب معاقبته. وهذه العقوبة یجب أن تكون إجباریّة وتنفَّذ من قِبل قوّة قاهرة. بل إنّ من جملة أدلّة ضرورة الحكومة - أساساً - هی هذه المسألة. فإن افتقرت هذه القوانین إلى ما یضمن تنفیذها فلن تتعدّى حدّ المواعظ والنصائح الأخلاقیّة. إذن لابدّ أن تكون للحكومة سلطة تكفل تنفیذ القوانین الجزائیّة. وبهذه المقدمة تثبت ضرورة وجود القوانین الجزائیّة.
لكن ما هی الحكمة من وراء وضع القوانین الجزائیّة؟ هل هذه القوانین هی قوانین ثابتة یاترى؟ وإلى أیّ حدّ یجب أن تكون متشدّدة، وإلى أیّ مدىً یتعیّن أن تكون متساهلة؟ هذه المسائل تتعلّق بفلسفة الحقوق الجزائیّة. فمن النظریّات المطروحة فی باب فلسفة حقوق الجزاء هی أنّ الحكمة من وضع القوانین الجزائیّة هی الانتقام من المخالف؛ أی: عندما یقرّ المجتمع مجموعة من القوانین فإنّ المخالف لهذه القوانین یوجّه - فی الحقیقة - إهانة للمجتمع، ومشرِّعی القانون، والمتصدّین لهذا الأمر ولمصالح الامّة، وهو الأمر الذی یثیر سخط سائر أفراد المجتمع، ونتیجة لذلك یعمد اولئك الذین یؤمّن القانون مصالحهم إلى الانتقام من المخالف. ومن هنا فإنّ فلسفة الحقوق الجزائیّة هی الانتقام ممّن یخالف القانون.
أمّا النظریة الاخرى فتقول: إنّ أهمّ حكمة لوضع القوانین الجزائیّة هی الردع؛ أی إن المخالف للقانون یعاقب كی یرتدع الآخرون فیحول ذلك دون شیوع الفساد فی المجتمع. إذن فالغایة من القانون الجزائیّ أصلاً هی الوقوف أمام شیوع ظاهرة مخالفة القانون. فالعلّة من قول الإسلام مثلاً: اقطعوا ید السارق هی عندما یشاهد الناس ید السارق المقطوعة فانّه یزول من نفوسهم الدافع والمحفّز إلى السرقة.
هذه الاُسس ومثیلاتها من الأُسس المطروحة فی هذا المجال لها لوازم وتبعات یمكن أن تشاهد الیوم فی أجواء جامعات العالم ولا نستثنی منها كلّیات الحقوق فی جمهوریّتنا الإسلامیّة الثوریّة، حیث من نتائج أمثال هذه النظریّات خلْق اُناس یلقون بقوانین الإسلام وأحكامه وراء ظهورهم بل ویُظهرون مخالفتهم لها أحیاناً. وكنموذج على ما قلنا كتب أحدهم مقالة فی هذا الموضوع (من المؤكّد أنّ أكثركم سیعرفه لو نطقت باسمه ویندهش من كتابة شخص كهذا لمثل هذا الكلام) یقول فیها: «الأصل فی قوانین الجزاء هو الردع. ولهذا علینا فی كلّ زمان أن نبحث عن السبل التی تكون أنجع من غیرها فی الوقوف بوجه الذنب والجریمة. ففی زمان النبیّ (صلّى الله علیه وآله) كانت الطریقة المثلى للحدّ من السرقة هی قطع ید السارق. لكنّ ظروف المجتمع قد اختلفت الیوم ومن الممكن أن تكون ثمّة طرق اُخرى للحیلولة دون شیوع ظاهرة السرقة؛ أی من الممكن تأمین فلسفة هذا القانون من طرق اخرى. إذن علینا أن نفكّر بالسبل والأسالیب التی تكون أكثر تناسباً مع ثقافتنا وظروف مجتمعنا»! أقول هذا لتعلموا أنّ القضیّة بالغة الجدّیة، فمنذ الأیّام الاولى للثورة كان هناك من یطلق مثل هذه النداءات ومن جملتهم جماعة المنافقین2 التی كانت تعلن بشكل رسمیّ وبكلّ صراحة عن مثل هذه الآراء.
أ) الاُسس المتّصلة بعلم الإلهیّات
السؤال المطروح هنا هو: ما هی فلسفة الحقوق الجزائیّة من وجهة نظر الإسلام حقّاً؟ إنّ كلّ ما هو مطروح فی المدارس الفلسفیّة فی العالم لا یأخذ بنظر الاعتبار سوى حیاة الإنسان فی هذه الدنیا وما لها من آثار ولوازم. فنحن لا نعثر الیوم فی أیّ من مدارس فلسفة الحقوق فی العالم على ما یشیر الى الله أو الآخرة. فالأصل فی هذه المدارس هو ضمان الأمن والرفاهیة فی الحیاة الدنیا ولا شیء آخر على الإطلاق.
لكنّنا نمتلك - وفقاً للإسلام - فلسفة حقوق خاصّة بنا ولسنا مضطرّین للأخذ باُسس أیّ واحدة من المدارس الحقوقیّة فی العالم. ولهذه المسائل اُسس یتعلّق بعضها بعلم الإلهیّات ویرتبط بعضها الآخر بمعرفة الإنسان.
إنّ أكثر اُصول الإسلام أساسیّة هو الاعتقاد بالله الواحد وضرورة الامتثال لأوامره، وإنّ محلّ إثبات هذا الأصل هو علم الكلام والفلسفة؛ أمّا فیما یتعلّق باُسس الحقوق الإسلامیّة فیؤخذ هذا الأصل على أنّه أصل موضوع، وإنّ جمیع الاُصول ترتبط به بشكل أو بآخر.
ب) الاُسس المتّصلة بمعرفة الإنسان
كذلك فإنّنا مالم نعرّف الإنسان ونتعرّف على أسباب كماله ونقصه، وسعادته وشقائه فلن یكون باستطاعتنا الخوض فیما یتعلّق بواجباته، وصلاحیّاته، وحقوقه. فبالنسبة لما یرتبط باُسس معرفة الإنسان فنحن لا نعتقد أنّ الإنسان هو مجرّد موجود تلده اُمّه ثمّ ینتهی به المطاف عند دفنه فی قبره. فعمر الإنسان – فی واقع الأمر - لا نهایة له، والحیاة الدنیا لا تمثّل إلاّ جزءاً یسیراً من عمر ابن آدم وهی بمثابة الطور الجنینیّ الثانی له. فعندما تنعقد نطفة الإنسان یقضی فترة تسعة أشهر فی بطن أمّه لا یملك خلالها أیّ اختیار من نفسه. ثمّ یقضی بعدها طوراً جنینیّاً آخر یستمرّ حوالی 90 سنة أو أقلّ من ذلك أو أکثر، ویتحتّم علیه فی هذا الطور أن یبنی نفسه بنفسه. وبعد هذه المرحلة تكون حیاته الحقیقیّة قد بدأت للتوّ وهی ما یعبّر عنه القرآن الكریم بقوله: «یَقُولُ یَالَیْتَنِی قَدَّمْتُ لِحَیَاتِی»3، أو قوله: «وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِیَ الْحَیَوَانُ»4. ومن هذا المنطلق فإنّ الحیاة الدنیا هی مقدّمة لحیاة الإنسان الأبدیّة.
إنّ رؤیة كهذه إلى الإنسان من شأنها أن تترك بصماتها على ما ینظّم حیاته من أنظمة الحقوق، والأخلاق، والقیم، وما شابهها، كما أنّه لو اعتقد امرؤ بأنّ حیاة الإنسان لا تتعدّى هذه الحیاة الدنیا: «مَا هِیَ إلاّ حَیَاتُنَا الدُّنْیَا نَمُوتُ وَنَحْیَا وَمَا یُهْلِكُنَا إلاّ الدَّهْرُ»5 فسیُلقی هذا الاعتقاد أیضاً بظلاله على نظام الحقوق، والأخلاق، والقیم، وما إلى ذلك.
حسب الرؤیة الإسلامیّة فإنّ الله قد خلق البشر من أجل أن یصلوا إلى حیث الكمال، وهو ما لا یحصل إلا عن طریق الاختیار. وهذا یحتّم وجود سبیلین؛ أحدهما سبیل الكمال، والآخر سبیل السقوط. فقد خلق الله الإنسان فی هذا العالم كی یواجه مفترق طریقین ویختار طریقه هو بنفسه. فمن خواصّ هذا العالم هو أنّ الإنسان یواجه فیه دوماً مفترق طریقین أو طرق عدیدة، ویتعیّن علیه حینها ان ینتخب إمّا طریق الحلال وإمّا طریق الحرام. إذ یقول القرآن الكریم: لیست فلسفة وجود الإنسان فی هذه الحیاة الدنیا سوى ما ذكرنا: «خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَیَوٰةَ لِیَبْلُوَكُمْ أَیُّكمُْ أَحْسَنُ عَمَلاً»6.
إذن كیف یهیّئ الله تعالى – والحال هذه – للناس مناخاً للتكامل؟ والجواب هو: لابدّ أن یهدیهم ویعرّفهم بالحسن والقبیح من الأعمال والامور. فلولا هدایة الباری عزّ وجلّ للناس فإنّ معظمهم، بل لعلّ جمیعهم سیضلّون سبیلهم. ومن جملة ألوان الهدایة الإلهیّة هی هذه القوانین التشریعیّة التی تبیّن أیّ الأعمال جائزة، وأیّها واجبة، وأیّها ممنوعة ومحرّمة.
فالأصل فی رؤیتنا الكونیّة یتلخّص فی أنّه إذا خالف امرؤ هذه القوانین فإنّه سیتعرّض للعقاب فی العالم الآخر. فالدنیا هی دار امتحان، أمّا العقاب والثواب فإنّهما فی العالم الآخر. لكنّ الله سبحانه وتعالى وانطلاقاً من رحمته الواسعة فقد سنّ سنّة اُخرى مفادها أنّ بعض الذنوب تكون بحیث إذا تعرّض مرتكبها إلى جزء من العقوبة فی الدنیا، فسیكون ذلك سبباً للرحمة بالنسبة له وأحیاناً بالنسبة للآخرین أیضاً. فالقرآن الكریم یقول: «وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِیبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَیْدِیكُمْ وَیَعْفُواْ عَن كَثِیرٍ»7. أمّا جواب الباری عزّ وجلّ على السؤال القائل: لماذا یجعل الله فی الحیاة الدنیا كلّ هذه المصائب والمحن؟ فهو: «لِیُذیقَهُمْ بَعْضَ الَّذِی عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ»8؛ أی إنّنا نذیقهم بعض آثار ما اقترفوه فی الحیاة الدنیا لعلّهم، أو لعلّ الآخرین، یتّعضون فیقلعون عن ذنوبهم.
إذن فلیست الحكمة من جعل الله تعالى عقوبة بعض الذنوب فی الدنیا هی الانتقام من الآخرین، كما أنّها لیست لمجرّد ردعهم بل هی من أجل تنبیه المذنبین وغیرهم إلى مدى الضرر الذی یصیب المرء جرّاء عمله القبیح. فهذه العقوبة من شأنها أن تشكّل رادعاً لهم وللآخرین عن ارتكاب المعصیة.
ومن هنا فإنّ فلسفة حقوق الجزاء فی الإسلام تنبثق من المبانی والاُسس القائلة: كما أنّ معاقبة المخالفین ستخفّف – من ناحیة - من شدّة العقاب الذی سیواجهونه فی الآخرة على فعلتهم، فإنّهم – من ناحیة اخرى - سیشاهدون ویشاهد الآخرون أیضاً الآثار السیّئة لهذا العمل فلا یعودون لمثله بعد ذلك: «نَكَالاً لِّمَا بَیْنَ یَدَیْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِینَ»9.
فالله عزّ وجلّ ومن باب رحمته الواسعة یُری جانباً من نتائج الأعمال فی هذا العالم كی یرتدع المسیء عند مشاهدة آثار سیّئاته ویتشجّع المحسن لفعل المزید من الخیر عند مشاهدة حسناته: «وَءَاتَیْنَاهُ أَجْرَهُ فِی الدُّنْیَا وَإِنَّهُ فِی الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِین»10.
ووفقاً لهذه الرؤیة الإلهیّة تتبیّن فلسفة حقوق الجزاء. لكنّ المنجذبین إلى الغرب والذین لا یستطیعون المقاومة أمام أفكار الغربیّین یطرحون اُسساً اخرى فیقولون: «إنّ فلسفة هذه القوانین تنحصر فی الردع؛ إذن كیفما حصل الردع فهو حسن ولیس من الضروریّ أن یكون عن طریق قوانین الجزاء الإسلامیّة!». أمّا نحن فنعتقد بضرورة تبیین فلسفة حقوق الجزاء حسب وجهة النظر الإسلامیّة عبر أخذ اُسس علم معرفة الوجود ومعرفة الإنسان بالحسبان، لا أن نقلّد الاُسس الغربیّة تقلیداً أعمى وهی اُسس مرتكزة على المادّیة ومحوریّة الفرد أو اللذّة.
ومن الضروریّ هنا أیضاً الالتفات إلى مقدّمة اخرى اُشیر إلیها على عجل. إذ یمكن تقسیم التجاوزات على القانون بشكل عامّ إلى قسمین: قسم یرتبط بحقوق الآخرین، وقسم یتّصل بحقوق الله تعالى؛ أی إنّ المرء بارتكابه للأخیرة سیخرج عن نطاق عبودیّة الله عزّ وجلّ، حتّى كأنّه یعلن الحرب على الله تبارك وتعالى. وبعبارة اخرى، فالمخالفة إمّا هی تجاوز على حقوق الناس، أو اعتداء على حقّ الله. فبالنسبة للمخالفات المتّصلة بحقّ الله فلقد وُضعت أحكام ثانویّة اُطلق علیها الحدود والتعزیرات. والمقصود من الثانویّة هنا هو أنّها أحكام ناظرة إلى أحكام اخرى وهذا هو مصطلح خاصّ. كما وسُمّیت الأحكام الموضوعة فیما یرتبط بحقوق الناس من مخالفات بالقصاص والدیّات. فهذان البابان یشبه أحدهما الآخر إلاّ أنّ هناك فرقاً بین الاثنین. ففی القصاص إذا تنازل صاحب الحقّ عن حقّه فإنّه لا یُنَفّذ الحكم. أمّا الأحكام الجزائیّة الخاصّة بالتجاوز على حقّ الله، كشرب الخمر والزنا على سبیل المثال، فالاعتداء فیها لم یَطَل حقّ أحد كی یتنازل عن حقّه ویعفو عن المذنب. وحتّى إذا عفى المعتدَى علیه عن المذنب فلیس للقاضی أن یعفو عنه، بل علیه أن ینفّذ حكم الله تعالى. فحقّ الله یتمثّل بالمصالح العامّة للمجتمع الإسلامیّ ولیس ثمّة مُدّعٍ خاصّ له. فالله فی هذه الحالة هو الذی یصدر حكمه، وإنّ حكم الله قطعیّ. فكلام السیّدة الزهراء (علیها السلام) ناظر إلى المخالفات المتّصلة بالاعتداء على حقّ الناس ولیس إلى جمیع الأحكام الجزائیّة.
تقول مولاتنا فاطمة (علیها السلام): «وَالْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاء». فكلّنا على یقین بأنّه إذا طالب ولیّ الدم بإعدام القاتل، وحُكم على الأخیر فی المحكمة بالإعدام، ونُفّذ هذا الحكم بحضور جمع من الناس فإنّ ذلك لا محالة سیحدّ من نسبة عالیة من جرائم القتل. فعندما یعاقب مجرم مّا فی إحدى المؤسّسات أو أحد أجهزة الدولة فستبقى تلك المؤسّسة أو ذلك الجهاز مصوناً من الجریمة لمدّة طویلة من الزمن. وكذا فإنّ جریمة قتل النفس البریئة ضمن البیئة الاجتماعیّة العریضة یُعدّ فی نظر القرآن الكریم بمثابة قتل الناس جمیعاً؛ إذ یقول عزّ وجلّ: «مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَیْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِی الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِیعاً»11. فالجرح العمیق الذی یسبّبه ذنب عظیم كهذا لا یمكن مداواته بإیداع المذنب فی السجن.
یتفوّه البعض بسفسطة فی هذا المجال مفادها: «إنّ عقوبة الإعدام تتنافى مع كرامة الإنسان وحقّه فی الحیاة»! لكنّ هذا الكلام لا یعدو كونه كلاماً فارغاً فالكلّ یعلم أنّه لابدّ من أجل الحفاظ على أمن المجتمع من القصاص من القاتل فذلك سیحافظ على حیاة الآخرین. یقول القرآن الكریم فی هذا الصدد: «وَلَكُمْ فِی الْقِصَاصِ حَیَوٰةٌ یَا أُوْلِی الأَلْبَابِ»12. فلو كان لكم ذرّة من عقل (والخطاب لقائلی هذا القول) لفهمتم أنّ قانون القصاص إنّما شُرّع لحفظ أرواحكم. فإن كنتم تقیمون وزناً لحیاة الإنسان فإنّ السبیل لحفظ حیاة الإنسان هو القصاص؛ ذلك أنه إذا لم یُقتل القاتل فسیُقتل فی المستقبل المئات من الأبریاء وتُقترف الآلاف من الجرائم.
نعم، إنّ للإنسان كرامةً مادام مراعیاً للحقوق. لكنّ الذی یعلن حرباً على الله عزّ وجلّ فهو أخسّ وأدنى قیمة حتّى من الحیوان؛ إذ یقول عزّ من قائل: «إِنَّ الَّذینَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِینَ فِی نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِینَ فِیهَا أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِیَّةِ»13؛ أی: أخسّ المخلوقات. فأیّ كرامة لأمثال هؤلاء؟ فالذی یعلن الحرب على الله تعالى إنّما یعتدی على مصالح العباد جمیعاً. فأیّ كرامة لمثل هذا الإنسان؟ وبناءً على ذلك فإن من یرى قیمة للحیاة الآدمیّة فلابدّ أن یدعم قانون القصاص، وما قول سیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) حینما قالت: وجعل «الْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاء» إلا من هذا المنطلق.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. بحار الأنوار، ج29، ص223.
2. جرت عادة الإیرانیّین على إطلاق هذه التسمیة على ما یُعرف بمنظّمة مجاهدی خَلْق الإرهابیّة.
3. سورة الفجر، الآیة 24.
4. سورة العنكبوت، الآیة 64.
5. سورة الجاثیة، الآیة 24.
6. سورة الملك، الآیة 2.
7. سورة الشورى، الآیة 30.
8. سورة الروم، الآیة 41.
9. سورة البقرة، الآیة 66.
10. سورة العنكبوت، الآیة 27.
11. سورة المائدة، الآیة 32.
12. سورة البقرة، الآیة 179.
13. سورة البیّنة، الآیة 6.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 10 تشرین الثانی 2010م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«... وَالْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ تَعْرِیضاً لِلْمَغْفِرَةِ، وَتَوْفِیَةَ الْمَكَایِیلِ وَالْمَوَازِینِ تَغْیِیراً لِلْبَخْس»1
وصلنا فی شرحنا للخطبة الفدكیّة إلى حیث قالت مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها): «وَالْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ تَعْرِیضاً لِلْمَغْفِرَةِ ، وَتَوْفِیَةَ الْمَكَایِیلِ وَالْمَوَازِینِ تَغْیِیراً لِلْبَخْس»، إذ تشیر (علیها السلام) فی هذا المقطع إلى ضرورة الوفاء بالنذر وكذا إلى اتّباع الطرق السویّة فی البیع فی مقابل التطفیف فی المكیال والمیزان متعرّضة إلى بیان الحكمة من تشریع هذین الحُكمین. وتوضیحاً لهاتین الجملتین لا بأس بعرض مقدّمة موجزة.
إنّ العلّة فی الارتباط عن وعی لأیّ موجودین ذوَی شعور هی كسب المنفعة، وتحقّق المصلحة، ونیل الكمال لكلیهما أو على الأقلّ لأحدهما. ومن أبرز الأمثلة على ذلك هو ما یحصل بین البشر من علاقات اجتماعیّة تتحقّق فی ظلّها الحیاة المدنیّة والاجتماعیّة. فالحیاة الاجتماعیّة تعود على الناس ببركات مادّیة ومعنویّة كثیرة، ولولا هذا النمط من الحیاة ولو أنّ البشر حبّذوا العیش بشكل منفرد فلن تتحقّق أیّ واحدة من تلك المنافع والمصالح. ویكفی من أجل الوقوف على هذه المنافع أن یستعرض الإنسان حیاته بشكل إجمالیّ. فمنذ اللحظة الاولى من حیاة الإنسان وحتّى آخر عمره فإنّه یكون فی حال إفادةٍ مستمرّة من وجود الآخرین؛ فإمّا أن یتعلّم منهم شیئاً، أو یلمّ به مرض فیحتاج إلى مراجعة طبیب، أو یتبادل مع الآخرین ما یحتاجه من متطلّبات معیشته، ...الخ. وكذا فإنّ المرء یحصل من حیاته هذه على منافع معنویّة جمّة أیضاً؛ فلولا عیش الإنسان بشكل اجتماعیّ لما عرف الدین وتعلّم أحكامه، ولما ارتقى فی سلّم المعنویّات تبعاً لذلك، ولضاعت علیه آخرته. إذن فإنّها الحیاة الاجتماعیّة التی توفّر للإنسان منافع الدنیا من جهة، وتهبه خیرات الآخرة من جهة اُخرى. ومن ذلك ندرك أنّ الإنسان مضطرّ لتشكیل علاقات مع الآخرین.
بعد أن اعتقدنا بضرروة الحیاة الاجتماعیّة لابدّ أن نعلم أنّ الركن الأساسیّ لهذه الحیاة هو تأمین منافع موجودَین ذوَی شعور قد شكّلا علاقة تجمعهما، حیث لولا هذا الارتباط وتبادل المنفعة فلن تصمد الحیاة الاجتماعیّة. وعلى هذا الأساس تنشأ سلسلة من القیم الاجتماعیّة التی ندركها جمیعاً؛ لكنّنا فی الأعمّ الأغلب لا نلتفت إلى سرّ نشوء هذه القیم. فقد نتصوّر أحیاناً أنّ القیم هی اُمور عقلیّة وبدیهیّة؛ فنتخیّل أنّ حُسن الصدق، والعدل، وما إلى ذلك من القیم هو بسبب إدارك العقل البشریّ لحسنها بشكل بدیهیّ. بل وقد یقال أحیاناً: «إنّ إدراك حُسن هذه الامور فطریّ» وعادة ما تُساق مثل هذه التعابیر. لكن لعلّ السرّ من وراء ظهور كلّ هذه القیم هو أنّها ممّا یؤَمّن مصالح الناس، وحسنها ینبع من أنّها إذا لم تُراعَ فستتعرّض مصالح البشر للخطر. وحسب ما یصطلح علیه طلبة العلوم الدینیّة فإنّها سلسلة من الآراء المحمودة المبنیّة على سلسلة من الواقعیّات الحقیقیّة وهذه الحقائق تشكّل روح تلك القیم. ووفقاً للاصطلاح الفقهیّ فإنّ الأحكام تتبع المصالح والمفاسد.
الركن الذی تُبنى علیه الحیاة الاجتماعیّة المدنیّة أو یتحقّق معه التحضّر یتمثّل بمجموعة من عهود ومواثیق یلتزم بها أفراد المجتمع فیما بینهم. فهم ینظّمون أعمالههم وفقاً لعقود، وهذه العقود إمّا أن تكون لفظیّة أو مكتوبة، وإمّا أن تكون غیر مكتوبة، لكنّ جمیع العقلاء یعلمون - بما اُوتوا من ذوق عقلائیّ - أنّه لابدّ من العمل بموجبها من أجل استمرار الحیاة الاجتماعیّة. فعندما یقوم بضعة أشخاص بتبادل بعض السلع من أجل تلبیة حاجاتهم فلابدّ أن یقیموا للوفاء بما تعهّدوا به وزناً وقیمة. فإذا بنى كلّ واحد منهم أمره على خداع الآخر فلن تدوم الحیاة الاجتماعیّة وستتلاشى. فالذی یقول: «بعتُك»، فهو یعنی: سلّمتُك السلعة سالمة من كلّ عیب، والذی یقول: «اشتریتُ منك» فهو یعنی: إنّنی أدفع لك الثمن كاملاً طبقاً للعقد الذی بیننا. فإذا كان فی نیّة البائع - مثلاً - تسلیم تسعمائة غرام بدلاً من كیلو غرام واحد، أو كان المشتری ینوی الإنقاص من قیمة المبیع فسوف یؤدّی ذلك إلى المشاجرة بینهما وتؤول الاُمور إلى الهرج والمرج ممّا لا یتیح للحیاة الاجتماعیّة بالاستمرار. فإنّ أكثر العوامل أصالة وعمومیّة فی الحیاة الاجتماعیّة هو التزام الناس بعقودهم ووفاؤهم بعهودهم، بل إنّ مراعاة هذه القیمة واجبة حتّى مع الكفّار والأعداء.
فمن مصادیق هذا العهد هو أداء الأمانة. فقد أولى الإسلام هذه المسألة بالغ الأهمیّة حتّى إنّ الإمام السجّاد (علیه السلام) یقول: «علیكم بأداء الأمانة فَوَالذی بعث محمّداً بالحقّ نبیّاً لو أنّ قاتل أبی الحسین بن علیّ بن أبی طالب (علیهما السلام) ائتمننی على السیف الذی قتله به لأدّیته إلیه»2. فقوام الحیاة الاجتماعیّة بالعهود، وإنّ نقْضَنا لما أبرمناه مع الآخرین من عهود یجرّ إلى تزلزل دعائم حیاتنا الاجتماعیّة، وهو الأمر الذی یجعلنا نجنی فی المستقبل وبال ما زرعته أیدینا.
العلاقة التی تنشأ نتیجة العقد المتبادل قد تتخطّى أحیاناً حدّ العلاقة التی تربط الناس ببعضهم لتصل إلى مستوى العلاقة التی تربط الإنسان مع ربّه. فالمفاهیم التی نستخدمها فی حقل الأخلاق والحقوق وأمثال ذلك تتولّد فی بادئ الأمر بین الناس، لكنّنا نجرّدها ونوسّعها فیما بعد لتُستخدم فیما یختصّ بالله وأولیائه أو بملائكته. فالله عزّ وجلّ یقول فی كتابه العزیز: «إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ»3؛ أی إنّنی اُتاجر مع عبادی فأشتری منهم أنفسهم وأموالهم فی مقابل الجنّة ثمناً لذلك. ومن الواضح أنّ الله لیس بحاجة إلینا كی یبرم معنا عقداً لنقدّم له شیئاً بموجبه؛ لكن من أجل أن یشقّ الله عزّ وجلّ لنا طریقاً إلى التربیة والكمال، فإنّه یضع نفسه موضع الموجود الذی یتاجر مع الإنسان. أو یقول تعالى: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمُْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِیكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِیمٍ»4. فما هی تلك التجارة؟ یجیب تعالى بالقول: «تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ»5. فالله سبحانه وتعالى یستخدم هذه المفاهیم لیحیی فینا الدافع لفعل الخیر كی نكون من المستحقّین لرحمته. ففی هذه الآیة الكریمة یضع الله جلّ شأنه نفسه موضع المشتری الراغب فیقول: «من منكم یبیعنی نفسه وماله»؟
لكن قد ینعكس الوضع أحیاناً ونكون نحن البادئین بالتعهّد. وثمّة لهذا التعهّد أنواع تحمل مفاهیم متشابهة ألا وهی: العهد، والقَسَم، والنذر. فكم هو قبیح أن نعاهد أحداً ثمّ ننكث عهدنا معه ونخلفه؟ فنحن بذلك نكون قد دسنا بأقدامنا على أكثر القیم الاجتماعیّة عمومیّة ووضوحاً وعلى أفضل القیم العقلیّة. وإنّنا - فی الحقیقة - قمنا بالمعاملة ثم ألحقناها بالغشّ. إذن هو عمل شدید القبح لكنّه - على أیّة حال - شكل من أشكال المعاملة المتبادلة بین طرفین من نفس المستوى، فهو أیضاً یستطیع أن یقابلنا بالمثل ویُنزِل بنا ما أنزلنا به؛ إذ كما أنّنا بحاجة إلیه فهو بحاجة إلینا أیضاً. لكنّ الله سبحانه وتعالى یُنزِل نفسه منزلتنا ویستخدم، من أجل توثیق العلاقة معنا، مفاهیم بشریّة كی یقودنا إلى حیث الكمال ومراعاة القیم لنحظى عن هذا الطریق باستحقاق نیل رحمته وثوابه. فإذا عمدنا – والحال هذه – إلى التحایل علیه سبحانه وخداعه، فسیتضاعف قبح عملنا مئات الأضعاف بل آلافها. فحینما یروم المرء خداع شخص آخر فهو یحاول فعل ذلك خلسة لئلا یعلم المقابل بذلك، فإنْ علم كان ذلك مدعاة لخجل الشخص المخادع وحیائه. فكیف بالله المتعال وهو الخبیر ببواطننا والعلیم بأعمالنا أكثر منّا! لهذا فإنْ أنا أبرمتُ مع ربّ ومولىً - لانهایة لعظمته - عقداً وعهداً مفاده: إنّك إذا فعلت لی الفعل الفلانیّ فساُنجز أنا العمل الكذائیّ، لكنّنی كنت اُبیّت نیّة الغشّ والتحایل أو إنّنی تساهلت فیما بعد فی الوفاء بما وعدته به، فذلك غایة فی القبح وإنّنی أكون – فی الواقع – قد دست على حظّی وسعادتی بفعلتی هذه. ومن هنا فإنّ خیانة الله تعالى هی أشدّ قبحاً من نكث الناس للعهود التی تعاهدوا بها فیما بینهم.
العبارتان اللتان ذكرتهما مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) ترتبطان بهذا الأصل العامّ. فالعبارة الاولى هی الوفاء بالنذر. فالنذر المشروط هو أن اُبرم مع الله عزّ وجلّ عقداً بأنّه: إذا قُضیتْ حاجتی فإنّنی سأصوم ثلاثة أیّام، مثلاً. فإذا لم یلتزم الناذر بما تعهّد به فلن یغضّ الله تعالى النظر عن هذه الخیانة؛ ذلك أنّ الله تبارك وتعالى قد بنى أمره إمّا على أن یوفّر لنا أرضیّة السموّ والترقّی كی نظفر باستحقاق ثوابه، أو أن نهبط بأنفسنا بسوء اختیارنا فنكون مستحقّین لعقابه. فالإنسان هو ذلك الموجود الذی أعطاه الله كامل الاختیار؛ فإمّا أن یختار سبیل السموّ والرفعة، أو ینتخب طریق الانحطاط والسقوط. وبناء على ما تقدّم فإنّ على الله أن یوفّر الأرضیّة والمناخ المناسبین كی نقوم نحن بالاختیار.
أوّل عقوبة یعاقب الله تعالى بها الإنسان جرّاء نقضه لمثل هذه العهود هی أن یجعل إیمانه ضعیفاً، أو یبتلیه – حسب التعبیر القرآنیّ – بالنفاق. ولعلّ هذه هی أشدّ عقوبة یمكن إنزالها بالإنسان؛ ذلك أنّ الإیمان هو أنفَسُ جوهرة لدى الإنسان؛ إذ أنّ بمقدور الإیمان رفع ابن آدم إلى حیث عرش الرحمٰن. فإن سُلب منه الإیمان، فسیصبح أنزل من أیّ وضیع. والقرآن الكریم یشیر إلى هذا المبحث بصراحة بالقول: «وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ ءَاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِینَ * فَلَمَّا ءَاتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِی قُلُوبِهِمْ إِلَى یَوْمِ یَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ یَكْذِبُون»6. إذن فالنفاق الذی تذكره الآیة لیس هو نفاقَ ساعةٍ، بل إنّه سیبقى فی قلوبهم إلى یوم القیامة. لماذا؟ لأنّهم أخلفوا الوعد مع الله. وأمّا إذا وفى المرء بعهده مع ربّه وعمل بموجبه فإنّه سیُثاب علیه؛ أی: مضافاً إلى ما سیناله من سعة فی الرزق فإنّه إذا وفى بعهده مع الله وتصدّق فسوف یثاب على تصدّقه أیضاً. فأمثال هؤلاء سیعطَون - عوضاً عن النفاق - نوراً فی قلوبهم، واستحقاقاً للمغفرة وتكامل الإیمان.
كلّنا یفهم بما اُعطی من قریحة العقلاء أنّ على الأنسان أن یفی بما تعهّد به لأیّ أحد كان. وكلّما زادت أهمّیة الطرف المتعاقَد معه تحتَّم على الإنسان إعطاء القضیّة أهمّیة أكبر. وبناء على ذلك فإن كان الطرف المتعاقَد معه هو الله عزّ وجلّ فلن یكون للاهتمام بهذا الأمر من حدّ یحدّه، ولذا یتعیّن إعطاءَه أقصى درجة من الأهمّیة. فإنّ شدّة قبح نقض العهد مع الله عزّ وجلّ توازی ما لله من عظمة، لأنّ العقل یعلم هذا المقدار وهو أنّ الله یستطیع أن یؤاخذنا یوم القیامة بهذا العقل نفسه، لكنّ الله تعالى لم یكتف بذلك، بل إنّه، بدافع رحمته التی لا نهایة لها ومن أجل أن یستنهض فی أنفسنا حافزاً أكبر للعمل بمدركات عقولنا، فإنّه أصدر حكماً شرعیّاً بهذا الخصوص فقال: «الوفاء بالنذر واجب شرعیّ». وبهذه الطریقة فإنّه جلّ شأنه یحفّز فینا دافعاً أكبر للعمل من جانب، ویمهّد لنا الأرضیّة لاستحقاق رحمة لا مثیل لها من جانب آخر، وهی تلك الرحمة التی تُستحصل فی ظلّ الامتثال لأوامره.
تقول فاطمة الزهراء (علیها السلام): «وَالْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ تَعْرِیضاً لِلْمَغْفِرَةِ»؛ أی إنّ الله عزّ وجلّ قد أوجب علیكم الوفاء بالنذر كی یجعلكم عرضة لمغفرته. فحتّى لو لم یوجب الله علینا الوفاء بالنذر لكُنّا أدركنا بعقولنا أنّه یتعیّن علینا القیام بذلك؛ ولكن من أجل أن یمهّد الباری عزّ وجلّ لنا الأرضیّة للمزید من غفران الذنوب، ونیل الكمالات، والقرب منه، والفوز بمحبتّه فإنّه قد أوجب علینا الوفاء بالنذر فی إطار تكلیف شرعیّ.
ثمّ تقول الزهراء (سلام الله علیها) أیضاً: «وَتَوْفِیَةَ الْمَكَایِیلِ وَالْمَوَازِینِ تَغْیِیراً لِلْبَخْس». وقد ذكرنا أنّ الإنسان إذا لم یلتزم بعهوده فی المعاملات ولجأ إلى التطفیف فی المیزان والغشّ فی التجارة فسیكون موضع ذمّ جمیع العقلاء وسیعدّون عمله هذا قبیحاً. لكنّه مضافاً إلى القبح العقلیّ لعملیّة التطفیف فإنّ الله عزّ وجلّ قد حرّمه شرعاً وأنزل فی بضعة مواطن من كتابه العزیز آیات فی ذمّ التطفیف وإنقاص المكیال والمیزان. ولشیوع هذه الظاهرة بین الناس فی عهد نبیّ الله شعیب (على نبیّنا وآله وعلیه السلام) فقد تصدّرت قائمة تعالیمه (علیه السلام) مسألة عدم إنقاص المكیال ووزن السلع فی موازین دقیقة؛ إذ یقول عزّ من قائل: «وَإِلَى مَدْیَنَ أَخَاهُمْ شُعَیْباً قَالَ یَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَیرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَیِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَیْلَ وَالْمِیزَانَ وَلا تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْیَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُواْ فِی الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَالِكُمْ خَیْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِینَ»7. فالله جلّ وعلا یوصی شعیباً (علیه السلام) بأن یأمر قومه بأن لا یطفّفوا فی المیزان وأن لا ینقصوا المكیال فإنّ ذلك من شأنه أن یهدم كیان المجتمع ویسلب ثقة بعض أفراده بالبعض الآخر، ویدفع اقتصاده إلى الفوضى والتخبّط. فإنّ استخدامكم للموازین الدقیقة فی معاملات بیعكم هو خیر لكم.
فعقولنا تدرك هذا المعنى، لكنّه علاوة على حكم العقل هذا فقد عمد الباری تعالى إلى تحریم التطفیف فی المیزان فی الشریعة بقوله: ناهیكم عن الأضرار الدنیویّة فإنّ ارتكاب مثل هذا الذنب یستوجب عقاباً اُخرویّاً، وذلك من أجل أن یثیر فینا دافعاً أكبر لمراعاة هذه القیمة الاجتماعیّة السامیّة ویجعلنا مستحقّین للثواب فی ضوء طاعة الله تبارك وتعالى.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. بحار الأنوار، ج29، ص223.
2. الأمالی للصدوق، المجلس 43، ص246.
3. سورة التوبة، الآیة 111.
4. سورة الصف، الآیة 10.
5. سورة الصف، الآیة 11.
6. سورة التوبة، الآیات 75 – 77.
7. سورة الأعراف، الآیة 85.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 17 تشرین الثانی 2010م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«... وَالنَّهْیَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ تَنْزِیهاً عَنِ الرِّجْسِ، وَاجْتِنَابَ الْقَذْفِ حِجَاباً عَنِ اللَّعْنَةِ، وَتَرْكَ السَّرِقَةِ إِیجَاباً لِلْعِفَّة»1
یعلم الاخوة أنّنا كنّا مسترسلین فی تلاوة الخطبة الفدكیّة لمولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) مقدّمین توضیحاً موجزاً لكلّ مقطع من مقاطعها. تبیّن الزهراء (علیها السلام) فی هذا المقطع من خطبتها الشریفة الحِكَم من وراء قسم آخر من معارف الإسلام وتشریعاته.
لقد عرضنا فی المحاضرة السابقة لمقدّمة مفادها أنّ الله تبارك وتعالى، وعلى أساس الرؤیة الإسلامیّة والقرآنیّة، قد شاء أن یجعل حیاة الإنسان فی هذا العالم بحاجة إلى تكاتف الآخرین وتشكیل المجتمع، وأنّ الكمال الذی قدّره عزّ وجلّ لابن آدم إنّما یتحقّق فی ظلّ حیاة من هذا النمط.
إنّ من حِكَم تألیف المجتمع هی أنّه على خلفیّة العلاقات التی تتكوّن بین مختلف أفراده فإنّ أرضیّة للتكالیف تتوفّر لهم الأمر الذی یهیّئ بیئة للامتحان والاختبار؛ إذ مالم یُمتحَن الإنسان فلن یُعلَم إلى أیّ حدّ یتّسم جوهره بالطهارة وإلى أیّ مدى هو یضمر إرادة الخیر والعبودیّة لله تعالى. فالكمال الذی قدّره الله عزّ وجلّ للإنسان إنّما یُستحصل فی ضوء أفعاله الاختیاریّة، ومن هنا فلابدّ من أن تُهیّأ له أرضیّة خصبة للاختیار والامتحان. ففی الحیاة الاجتماعیّة تتوفّر للإنسان فی كلّ لحظة - وعلى خلفیّة ما یربط الناس فیها من علاقات اجتماعیّة - المئات من أرضیّات الامتحان؛ فمثلاً: إلى أیّ شیء یجوز أن ینظر، وإلى أیّ شیء لایجوز له أن ینظر؟ ما الذی ینبغی أن یسمع وما الذی لا ینبغی أن یسمع؟ بأیّ شیء یفكّر وبأیّ شیء لا یجوز التفكیر؟ إلى أین یذهب وإلى أین لا یجوز الذهاب؟ فلولا الحیاة الاجتماعیّة لما تهیّأت مثل هذه التكالیف، ولولا هذه التكالیف لما توفّر مناخ للاختیار، ولولا الأخیر فلن یبلغ الإنسان ما ینبغی له بلوغه من درجات الكمال. فهدف خلقة الإنسان هو أن یختار الصراط المستقیم بنفسه. لكنّ الاختیار له جانبان، ولن یكون للاختیار معنى إلا إذا واجه المرء مفترق طریقین على الأقلّ. فصحیح أنّ الله قد طلب من ابن آدم سلوك الطریق السویّة والصراط المستقیم، بید أنّه لابدّ من وجود الطریق المعوجّة أیضاً كی یتجنّبها. وفی الوقت ذاته فإنّ الله سبحانه لا یترك الإنسان وشأنه تماماً كی یقع فی حبائل الشیطان. فمع أنّ كلاًّ من عوامل الشیطان وعوامل الرحمٰن موجودة وأنّ هناك توازنا بین الاثنین، لكنّ الله جلّت آلاؤه - ومن منطلق لطفه ورحمته، ومن باب أنّ الهدف الأساسیّ هو الوصول إلى الرحمة لا إلى العذاب – یهیّئ وسائل من شأنها أن تعِین البشر على معرفة السبیل القویمة بنحوٍ أفضل فیُساقون إلیها بنسبة أكبر ویُحال بینهم وبین جادّة الانحراف والضلال.
لقد أشارت الزهراء (سلام الله علیها) فی العبارات السابقة إلى بعض ما یسوق المرء إلى سبیل الخیر، وهی تذكر هنا اُموراً اُخرى من شأنها أن تجرّ الإنسان إلى طریق الشرّ.
لقد جعل الله تعالى تقدیراته وتدبیراته فیما یحول – ما أمكن - بین الإنسان ووقوعه فی مهاوی الضلال ویجنّبه مسائل العبث والفساد، ومن جملة هذه التدبیرات هی منظومة التشریع. فقد بعث الله إلى البشر أنبیاء لیبیّن لهم عن هذا الطریق الحلال والحرام كی یحیطوا علماً بما هو سیّئ وشرّ من الامور وما لها من سوء الآثار لیجتنبوها. بمعنى أنّ الله تعالى كما أنّه یهیّئ العوامل التی تقود البشر إلى جادّة الخیر، فهو أیضاً یقیّض لهم العوامل التی تردعهم عن سلوك درب الشرّ. فجعل مثل هذه العوامل یفصح عن منتهى اللطف الإلهیّ؛ فلو اقتصر الله عزّ وجلّ على تبیین الحسَن والقبیح للبشر ثمّ سكت: «إِنَّا هَدَیْنَاهُ السَّبِیلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً»2 لكانت الحجّة على البشر قد تمّت وأرضیّة الاختیار قد مُهّدت؛ لكنّه جلّ وعلا یحبّ أن یختار العددُ الأكبرُ من الناس سلوكَ جادّة الخیر لیصلوا إلى الكمال المطلوب، ومن هنا فهو یسعى لتقویة جانب الخیر ویحذّر من الامور التی تُعِدّ لمناخ الشرّ.
قد ترتبط مسائل الشرّ بشخص الإنسان فقط فتخرّبه هو وحده. فقد وهب الله الإنسان بدناً سلیماً معافىً لم یتوصّل كبار الباحثین والعلماء بعدُ إلى أسراره حتّى بعد مضیّ قرون من الزمن. كما أنّه سبحانه وتعالى قد خلق روحاً وجعلها متعلّقة بهذا البدن وربطهما سویّة برباط وثیق بحیث یؤثّر كلّ منهما فی الآخر؛ فإنّ بعض ما یصیب البدن من دنس وتلوّث یترك أثره على الروح أیضاً فیعیق عملها.
فمضافاً إلى ضرورة بقاء الجانب الفردیّ من وجودنا (الجسم والروح) سالماً معافىً كی ینجز أعماله على النحو الصحیح، فإنّه لابدّ من أن تكون بیئة المجتمع بیئة سلیمة صحّیة یأمَن فیها أفراده على أعراضهم وكرامتهم كی یتمكّنوا من العیش. فإذا لم تكن البیئة الاجتماعیّة آمنة، سواء من الناحیة المادّیة أو الروحیّة، فلن یتسنّى للمرء التكامل فیها بما یكفی. فإنّ جُلّ جهد الإنسان فی الأجواء غیر الآمنة سوف یُبذل فی المعارضات ومحاولة حفظ النفس والمال والكرامة. إذن فإنّ من سبل الفساد الاخرى هی الامور التی تفسد البیئة الاجتماعیّة وتسلب منها الأمن. وإنّ الجمل الثلاث الأخیرة التی ذكرتها مولاتنا (علیها السلام) ترتبط بالعوامل الرادعة.
لقد سنّ الله عزّ وجلّ من أجل سلامة بدن الإنسان تشریعات من جملتها تحریم الـمُسْكرات. فالعنب هو من نعم الله المحلّلة على البشر وهو غنیّ بالفوائد، والقرآن الكریم یكثر من ذكر بعض أنواع الثمار ومنها التمر والعنب، فیقول عزّ من قائل فی محكم كتابه العزیز: «وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِیلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً»3؛ أی إنّنا مننّا علیكم بالتمر والعنب لكنّكم - انقیاداً للشیطان واتّباعاً له - تصنعون من هذه النعم البالغة الحسن والفائدة المسكرات، هذا وإن كنتم تحصلون منها على رزق مفید أیضاً. فالمسكرات تضرّ بالبدن من جهة، وتذهب بالعقل من جهة اخرى، وتسلب المجتمع أمنه من جهة ثالثة. فالروح السلیمة والبدن السلیم هما وسیلتان جعلهما الله تعالى من أجل أن یتحرّك الإنسان، ثمّ أتْبع ذلك بأمرنا بأن لا نفسد روحنا وبدننا بسوء إفادتنا من النعم الإلهیّة؛ هذا مضافاً إلى أنّه حتّى عقل الإنسان یدرك سوء هذا الفعل أیضاً. فلقد أمرنا الله تعالى عبر مزید من التأكید والتشدید أن لا نقترب من الخمر، فسنّ قانوناً بمثابة عاملٍ للردع مفاده: اجتنبوا الخمر لئلا تتدنّسوا وتتلوّثوا: «تَنْزِیهاً عَنِ الرِّجْسِ».
لقد جاءت عبارة: «النَّهْیَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ» معطوفة على الجمل السابقة؛ لیكون معناها أنّ الله قد أوجب الصلاة والزكاة والنهیَ عن شرب الخمر. لكن یبدو للوهلة الاُولى أنّ هناك عدم تناسب بین هذه العبارات. ویوجد احتمال ضعیف لتعلیل ذلك وهو أنّه قد جرى بعض الحذف فی النسخ، أمّا الاحتمال الآخر فهو أنّ الموضوع قد ینطوی على التفاتة أدبیّة تُعدّ من لطائف اللغة وجمیل البیان وهی أنّ الناس یتفنّنون أحیاناً فی الكلام فیخرج عن سیاقه العادیّ إلفاتاً للانتباه. فالقرآن الكریم – على سبیل المثال – یقول: «قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَیْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَیْئاً وَبِالْوَالِدَیْنِ إِحْسَاناً»4. إذ كان لابدّ أن یقول جریاً على القاعدة: «ما حرّم ربّكم... ألا تشركوا بالله ولا تعقّوا الوالدین» لكنّه قال متحوّلاً عن السیاق العامّ للجملة: «وَبِالْوَالِدَیْنِ إِحْسَاناً». فهذا التغییر فی السیاق هو من أجل لفت انتباه المخاطَب وإنّ له لطائفَ والقرآن الكریم یستخدم هذا الاسلوب فی مواطن عدیدة. فلعلّ مولاتنا (علیها السلام) أرادت هنا، إلفاتاً منها إلى موضوع جدید، أن تتحوّل فی سیاق الكلام من ذكر الواجبات والأوامر التی تقود المرء نحو الكمال إلى ذكر النهی عن المحرّمات.
قد تتعرّض كرامةُ الإنسان وعِرضُه للخطر تارة وقد یتعرّض ماله للخطر تارة اخرى. ومن هذا المنطلق تقول الزهراء البتول (سلام الله علیها): «وَاجْتِنَابَ الْقَذْفِ حِجَاباً عَنِ اللَّعْنَةِ». والقذف هو اتّهام الآخرین بأعمال غیر مشروعة. ومعناه اللغویّ یرادف «الرمی»، إذ یقول القرآن الكریم: «إِنَّ الَّذِینَ یَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُواْ فىِ الدُّنْیَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِیمٌ»5. هذا العمل هو من حیل الشیطان وألاعیبه وإنّ له تاریخاً طویلاً. فلقد نال البعضُ بهذه الحیل الشیطانیّة حتّى من نساء النبیّ (صلّى الله علیه وآله). ولقد حرّم الله تعالى القذف وعیّن له فی الشرع حدّاً خاصّاً للمحافظة بذلك على أعراض المجتمع فیأمنون - تبعاً لذلك – من اللعنات الإلهیّة.
وتقول الزهراء (علیها السلام) أیضاً بخصوص المال: «وَتَرْكَ السَّرِقَةِ إِیجَاباً لِلْعِفَّة». فلو أنّ المسائل المالیّة طبِّقت فی المجتمع على نحو سلیم، بأن یكسب كلّ امرئ المال عبر الطرق الشرعیّة، ویحفظه باسلوب صائب، وینفقه فی المواطن الصحیحة فسوف یوفّر ذلك بیئة لسموّ وتكامل أفراد المجتمع. أمّا إذا لم تُراعَ هذه المسائل، وسُلبت العفّة فی المال، واختلّ التوازن المالیّ الذی توجِده السلوكیّات المالیّة والاقتصادیّة السلیمة فی المجتمع فحینئذ لن تتهیّأ تلك البیئة الصالحة للرقیّ والنموّ. نحمد الله على أنّ هذه الامور لا توجد فی مجتمعنا إلا قلیلاً؛ لكن عندما یشاهد المرء هذا المقدار الموجود على قلّته یلتفت إلى آثاره السیّئة وما یجلبه من اختلال فی الحالة الأمنیّة. فإذا انعدم الأمن المالیّ فی مجتمعٍ مّا فسوف یثیر ذلك قلقاً مستمرّاً لدى أفراده على أموالهم ویجعلهم دائمی التفكیر فی كیفیّة الحفاظ علیها وحراستها. هذا على الرغم من أنّ المال لا ینبغی أن یتعدّى كونه وسیلة تُستخدم فی حالات الاضطرار والضرورة. فلو كان القرار أن یبذل المرء جهداً مضنیاً فی كسب المال ثمّ ینشغل ذهنه دوماً بسبل الحفاظ علیه فلن یبقى لدیه مجال للعبادة وإنجاز واجباته الاجتماعیّة والمعنویّة.
تذكر السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) - من باب المثال - هذه الموارد الثلاثة (انعدام الأمن على المستوى الفردیّ، وانعدام أمن الأعراض الاجتماعیّة، وانعدام الأمن فی المال) بعنوان كونها من الموانع حیث قد لا یستطیع العقل بمفرده الالتفات إلى أنّها خطرة إلى هذه الدرجة. فعقل الإنسان یدرك خطر بعض المسائل ،كخطر أشكال الفساد الجنسیّ والاغتصاب بالقوّة مثلاً ویفهم أنّه لابدّ من فرض عقوبات قاسیة على مرتكبی هذه الجرائم، لكنّه قد لا یشعر بكبیر خطر إذا قذف أحد امرأةً بفعل قبیح. من المؤسف أنّ هذا الكلام البذیء یلقى رواجاً واسعاً فی بعض المجتمعات المتخلّفة من الناحیة الأخلاقیّة. أمّا الإسلام فهو یتعامل مع هذا الموضوع بتشدّد بالغ. فقد جاء فی الخبر أنّه كان لأبی عبد الله الصادق (علیه السلام) صدیق لا یكاد یفارقه وهو دوماً یظهر المودّة والولاء فیمجلسه. فصادف یوماً أن كان مع أبی عبد الله (علیه السلام) فی الطریق فافتقد غلامه حتّى إذا وجده قال له: یا ابن الفاعلة، أین كنت؟ قال: فرفع أبو عبد الله (علیه السلام) یده فصكّ بها جبهة نفسه ثمّ قال: «سبحان الله تقذف أمّه! قد كنتُ أرى أنّ لك ورعاً فإذا لیس لك ورع»! فقال: جُعلت فداك، إنّ أمّه سندیّة مشركة. فقال: «أمَا علمت أنّ لكلّ أمّة نكاحاً. تنحَّ عنّی». قال: فما رأیته یمشی معه حتّى فرّق الموت بینهما6.
فهذه الامور تراعَى فی الإسلام بدقّة وإنّ لها من الأسرار المهمّة الكثیر وهی تتمتّع ببالغ الأثر فی تشكیل مجتمع سلیم وتوفیر مناخ لرقیّ أفراده معنویّاً. لكن للأسف فإنّه جرّاء اختلاط الثقافات وانتشار وسائل الاتّصال غیر المناسبة وشیوع عامل جدید اسمه الهاتف الجوّال فقد أصاب بیئة مجتمعنا بعض التلوّث أیضاً. فهذه القضایا من شأنها أن تجرّ إلى تغییر أساسیّ فی المناخ الذهنیّ والروحیّ للإنسان وتخلق - فی نهایة المطاف – مجتمعاً لا یشبه المجتمع الإسلامیّ.
نسأل الله العلیّ القدیر ببركة السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) أن یحفظ مجتمعنا من كلّ فساد أخلاقیّ ومالیّ ویمهّد له الأرضیّة للرقیّ الأخلاقیّ على كافّة الصُّعُد لاسیّما بین طبقة الشباب.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. بحار الأنوار، ج29، ص223.
2. سورة الإنسان، الآیة 3.
3. سورة النحل، الآیة 67.
4. سورة الأنعام، الآیة 151.
5. سورة النور، الآیة 23.
6. الكافی، ج2، ص324.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 24 تشرین الثانی 2010م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
نبارك لصاحب العصر والزمان إمامنا المهدیّ المنتظر (عجّل الله تعالى فرَجه الشریف) بمناسبة حلول عید الغدیر الأغرّ عید الله الأكبر. ولكی نعطّر المجلس بذكر مولانا أمیر المؤمنین (صلوات الله وسلامه علیه) أستعرض فی مطلع اجتماعنا هذا موجزاً عن عید الغدیر.
یمكننا أن نستفید من عبارة: «الذی جعلته للمسلمین عیداً»1 التی نقرأها فی قنوت صلاة عیدَی الفطر والأضحى أنّ هذین العیدین هما عیدان للمسلمین. أمّا عید الغدیر فإنّ الروایات تسمّیه بـ «عید الله الأكبر» وهو تعبیر یحمل معنى عمیقاً للغایة؛ فهذا العید هو عید الله، لكنّ عید الفطر هو عید المسلمین. ولعلّ بإمكاننا القول تعلیلاً لهذه التسمیة: إنّ المسلمین یصومون شهراً كاملاً هو شهر رمضان المبارك ویتوقّعون من الله الأجر والجائزة على ذلك. فمن أجل تتمیم عبادة استمرّت لشهر كامل فهم یتّخذون یوماً معیّناً عیداً ویصلّون فیه. فعید الفطر - فی الحقیقة - هو مكمّل لصیام شهرٍ كامل. هذا من ناحیة. ومن ناحیة اخرى فإنّ الله جلّ وعلا قد أنزل دین الإسلام على النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) على امتداد ثلاثة وعشرین عاماً كان یُنزل خلالها فی كلّ مناسبة حكماً خاصّاً. ومع ذلك فقد ظلّ هذا الدین ناقصاً، إلى أن قال عزّ وجلّ فی نهایة المطاف: «الْیَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِینَكُمْ»2. فعید الفطر هو یوم إكمال شهر رمضان المبارك، أمّا الیوم (عید الغدیر) فهو الیوم الذی أكمل الله فیه أمره؛ فقد أكمل تبارك وتعالى تشریع دینه بولایة أمیر المؤمنین علیّ (علیه السلام). إذن فهذا العید هو عید الله، ومن هذا المنطلق نستطیع القول: إنّ هذا العید أشرف من عیدی الفطر والأضحى. نسأل الله العلیّ القدیر أن یمنّ علینا بالتوفیق للعبادة فی هذا الیوم. اُقسم بالله العظیم، إذا أعارنا أمیر المؤمنین (علیه السلام) نظرة ولو بطرف عینه فمن شأن ذلك أن یضمن سعادتنا فی الدنیا والآخرة.
فی متابعتنا للخطبة الفدكیّة لمولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) وصلنا إلى العبارة التی قالت (علیها السلام) فیها: «وَحَرَّمَ اللهُ الشِّرْكَ إِخْلاصاً لَهُ بِالرُّبُوبِیَّة»3. لقد ابتدأت (سلام الله علیها) هذا القسم من الخطبة بعبارة: «فَجَعَلَ اللهُ الإِیمَانَ تَطْهِیراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ» واختتمته بجملة: «وَحَرَّمَ اللهُ الشِّرْكَ إِخْلاصاً لَهُ بِالرُّبُوبِیَّة». ولعلّنا نستشفّ من هذا التنسیق والتنظیم فی العبارات أنّ التوحید هو مبدأ الدین ومنتهاه. فأوّل عمل قام به الأنبیاء (علیهم السلام) هو محاربة الشرك وآخر مهمّة نهضوا بها هی اقتلاع جذور الشرك، وإنّ ما یوصل الإنسان إلى السعادة هو التوحید، وما یجرّه إلى السقوط والتعاسة هو الشرك.
إنّ للتوحید معانیَ عمیقةً وغنیّةً ولطیفةً إذا نحن أدركناها بدقّة فسنفهم أنّ كلّ ما فی الدین من أَلِفِه إلى یائِه لیس هو إلّا التوحید. یقول المرحوم العلامة الطباطبائیّ (رضوان الله علیه) فی هذا الباب: «إذا جمعْنا الإسلام وضغطناه فسنحصل على التوحید، وإذا بسطنا التوحید وشرحناه فستخرج الشریعة بكلّ تفاصیلها من أعماقه». فالتوحید هو أشبه ما یكون بالقرص الـمُدمَج الذی یضمّ الإسلام كلّه.
إنّ من النصوص القرآنیّة التی لا تقبل التأویل بتاتاً هی الآیة الشریفة: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِیَعْبُدُونِ»4 إذ أنّها تبیّن حصراً قاطعاً ومفهوماً واضحاً. ولا یعنی قوله تعالى هذا أنّ الله بحاجة إلى عبادتنا، إذ أنّ الفعل الأساسیّ لله تبارك وتعالى وما یصدر من ذاته المقدّسة هو الإفاضة والرحمة والعطاء. ولعلّ هذا هو تعلیل جعل صفة الرحمٰن صفة خاصّة لله عزّ وجلّ لأنّها تشمل كلّ كرم وعطاء. فكلّ مخلوق من مخلوقات الله جلّ شأنه یملك استعداداً خاصّاً لكمال معیّن. فشجرة الجوز مثلاً لها قابلیّة النموّ إلى حجم معیّن، ونبتة الخیار لها قابلیّة النموّ إلى حجم آخر. فلا یمكن أن نتوقّع من نبتة الخیار أن تنمو لتبلغ حجم شجرة الجوز. وكذا الحیوانات فلكلّ نوع منها حدود للنموّ. وحتّى الإنسان فإنّ له حدّاً معیّناً للنمو لا یمكن أن یتخطّاه. لكنّ الناس غالباً ما ینظرون إلى أشكال الرقیّ والكمال التی یتّصفون بها بمنظار مادّی؛ كالطول، والوزن، والنشاطات البدنیّة، والقدرة على رفع الأثقال، والقابلیّة على أكلّ كمّیات كبیرة من الأطعمة، ...الخ. لكن علینا أن ندرك أنّ إنسانیة الإنسان تكمن فی روحه، وقدرة روح ابن آدم لیست هی ممّا یمكن قیاسه. بل لابدّ أن نقول إجمالاً إنّ ظرفیّة روح الإنسان تقترب ممّا لا نهایة له أو تمیل إلى ما لا نهایة؛ أی لا یمكننا تحدید حدّ معیّن لها. ونستطیع القول: إنّه یمكن لعلم الإنسان أن یبلغ حدّاً بحیث یعلم كلّ شیء، ویقدر على إنجاز كلّ عمل. لكنّ هذه الامور هی آثار ذلك الكمال الذی یستطیع أن یبلغه. فإذا أردنا أن نصوغ ذلك الكمال بعبارة موجزة، فلابدّ أن نقول، بما یتماشى مع التعبیر القرآنیّ: «القرب من الله». فالإنسان باستطاعته أن یسمو ویترقّى حتّى یقترب من الله عزّ وجلّ: «عِندَ مَلِیكٍ مُّقْتَدِرٍ»5. ومن أجل الوصول إلى ذلك المقام فلیس ثمّة سوى طریق واحدة ألا وهی الارتباط بالله عزّ وجلّ اختیاریّاً وهو ارتباط قوامه اعتقاد المرء بأنّ الله هو ربّه حقّاً وأنّ الإنسان عبده حقّاً. ویطلق على هذا الارتباط اسم «العبادة»، أو «العبودیّة». إذن عندما یُطرح السؤال التالی: لماذا خَلَقنا الله؟ فإنّه یتعیّن الإجابة: «من أجل العبودیّة»؛ بمعنى أنّنا إذا لم نعبد ونعمل وفقاً للعبودیّة فإنّنا لن نصل إلى ذلك المقام. والعبودیّة تكمن فی تقویة علاقتنا مع الله تبارك وتعالى، وأن نعمل بما یقرّبنا إلى الله أكثر، ویزید من اُنسنا به، وحبّنا له.
إنّ عدوّ ابن آدم الذی یحول بینه وبین بلوغ هذه المنزلة الرفیعة هو العامل الذی یؤدّی إلى زوال روح العبودیّة؛ ذلك أنّ العامل الوحید الذی من شأنه أن یقود الإنسان نحو التسامی والرُقیّ وإیصاله إلى قرب الله تعالى هو «روح العبودیّة». فالركون إلى هذا العدوّ یُطلق علیه فی الثقافة الإسلامیّة اسم «الشرك». وإطلاق كلمة الشرك على هذا العمل یستبطن لطیفة مفادها: أنّ فطرة الإنسان لا تستطیع نسیان وجود الله سبحانه وتعالى. فإذا لجأ الإنسان إلى غیر الله فإنّه یجعل - فی واقع الأمر – شریكاً له. فالشرك – على أیّة حال – هو ألدّ أعداء الإنسان، ومن هذا المنطلق فإنّ الشیطان یبذل قصارى جهده من أجل إبعاد ابن آدم عن العبودیّة لله الواحد وتقریبه من الشرك.
إنّ لكلٍّ من مقولتَی توحید الله والشرك به مراتبَ تبدأ من فوق الصفر وتقترب ممّا لا نهایة له. فأحادیث أهل البیت (علیهم السلام) تجعل للإیمان وأمثاله مراتبَ؛ فقد جاء فی بعض الأخبار – على سبیل المثال – أنّ «للإیمان سبعة أسهم»، وجاء فی بعضها أیضاً أنّ «للإیمان عشر درجات». وهذه المقولات هی لتقریب المسألة إلى الذهن وإلاّ فإنّ لكلٍّ من هذه الأسهم والدرجات امتداداً وهی - من هذا الباب - قابلة للتقسیم أیضاً؛ فكلّ امتداد یمكن تقسیمه إلى ما لا نهایة. إذن فمراتب الإیمان والشرك كثیرة جدّاً؛ فالإیمان یبدأ من مجرّد اعتراف الإنسان بوجود الله ویستمرّ حتّى یصل إلى إیمانٍ كإیمان علیّ بن أبی طالب (علیه السلام) مثلاً. لكنّ المسافة بین الاثنین تشبه المسافة بین الصفر وما لا نهایة. وكذا الشرك فهو یبدأ من أقلّ شرك بالله حتّى یبلغ منزلة أسفل السافلین: «ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِینَ»6. إذن فإنّ لدینا طریقاً نحو الأعلى باتّجاه الله وهو السیر الصعودیّ وإنّ له مسیرةً طویلة ومراتبَ كثیرة جدّاً، وإنّ له طریقاً نحو الأسفل هو السیر النزولیّ وهو یبدأ ممّا دون المكان الذی یوجد فیه الإنسان حتّى یصل إلى أسفل وأخسّ موضع: «أُوْلَئكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِیَّة»7. فالإنسان یقع بین هذین المسیرین اللذین لا نهایة لهما. أمّا الهدف من خلقتنا فهو ذلك المقام الرفیع، وهو مقام خلافة الله تعالى ومجالَسة النبیّ الأعظم والأئمّة الأطهار (صلوات الله علیهم أجمعین)، وإنّ ألدّ أعداء ذلك المقام هو الشرك. فالقرآن الكریم یقول فی هذا المجال: «لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِیمٌ»8. فالظلم هو أن یغتصب امرؤ حقّ غیره. وهل من حقّ هو أسمى وأعظم من حقّ الله على عباده؟! فحقّ الله على عباده هو أن یسیروا نحوه كی یوصلهم إلى ما لا نهایة له من الكمال. وبعبارة أبسط: إنّ لله على عباده حقّاً وهو أن یعبدوه. وسَلْب هذا الحقّ من الله تعالى یعنی عدم عبادته، وهو أعظم أشكال الظلم، وأفدح أنواع الحیف لحقّ من الحقوق؛ ومن هنا یقول الباری تعالى: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِیمٌ».
قلنا سلفاً إنّ لكلّ من الإیمان والشرك مراتبَ. لكنّنا إذا أمعنّا النظر فسوف نجد أنّ الدرجات الضعیفة من الإیمان تكون مصاحبة لبعض مراتب الشرك، لكنّه كلّما قَوِی أحد هذین الطرفین ضَعُف الطرف الآخر. فحیثما ضعف الإیمان فلابدّ أن یوجد الشرك. یقول عزّ من قائل: «وَمَا یُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ»9؛ فإیمان أكثر الناس یكون مشوبا بالشرك والسبب فی ذلك هو ضعف إیمانهم. فكلّما قَوِی الإیمان ضَعُف الشرك وقلّ معه الریاء فی العبادة.
فبعض الناس إنّما یقف إلى الصلاة كی یشاهده الآخرون! لكن لیس الجمیع مرائین إلى هذا الحدّ. فبعضهم یصلّون بإخلاص، لكنّهم یفرحون إذا علم الآخرون بصلاتهم. وهذه أیضاً هی مرتبة من مراتب الشرك. فالخلوص فی العبادة هو أن یكون الأمر بالنسبة للمرء سیّان، إنْ عَلِم الناس بصلاته أم لم یعلموا. فإذا أثّرت ردود أفعال الناس فی سلوك المرء عُلِم حینئذ أنّه مبتلىً بمرتبة من مراتب الشرك.
كما أنّ للشرك مرتبةً اخرى ترتبط بالنیّة. فإنّنا نصلّی امتثالاً لأمر الله عزّ وجلّ؛ لكن لو قال الله لی: «الصلاة واجبة علیك، لكنّنی لن اُدخلك الجنّة حتّى إذا صلّیت»! أو یقول: «حتّى إذا صلّیت فإنّنی ساُدخلك النار» فهل سنصلّی عندئذ؟ فإذا كان جوابنا بالنفی، علمنا أنّنا لا نصلّی طاعة لأمر الله تعالى فقط، بل إنّ نیّتنا مشوبة بالخوف من العذاب أو الشوق إلى نیل الثواب وهذه أیضاً هی مرتبة من مراتب الشرك. فالنیّة الخالصة هی نیّة الإمام السجّاد (علیه السلام) إذ یقول: «لَئِنْ أَدْخَلْتَنِی النَّارَ لَأُخْبِرَنَّ أَهْلَ النَّارِ بِحُبِّی لَكَ»10 و الذی یقول: «إِلَهِی... وَ عِزَّتِكَ وَ جَلَالِكَ لَوْ كَانَ رِضَاكَ فِی أَنْ أُقْطَعَ إِرْباً إِرْباً وَ أُقْتَلَ سَبْعِینَ قَتْلَةً بِأَشَدِّ مَا یُقْتَلُ بِهِ النَّاسُ لَكَانَ رِضَاكَ أَحَبَّ إِلَی»11
فالسبیل للوصول إلى أعلى درجة هیّأها الله للإنسان هی العبادة الخالصة: «قُلْ إِنِّی أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّین»12. فمن أجل بلوغ هذا المقام یتحتّم على الإنسان أن یتخلّص شیئاً فشیئاً من هذه الأشكال من الشرك الجلیّ والظاهر كی یكتسب تدریجیّاً الاستعداد لاجتناب معانیه الأكثر ظرافة لیقول كما یقول علیّ (علیه السلام): «ما عبدتُك خوفاً من نارك ولا طمعاً فی جنّتك لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتُك»13، فهذا هو الدین الخالص. بالطبع إنّما هی ألطاف علیّ (علیه السلام) وعنایاته التی تعیننا على اجتناب الشرك؛ لكنّ السبیل الأساسیّة – على أیّة حال – هی أن یكون التفاتنا وتوجّهنا إلى الله وحده.
إذا طُرح السؤال التالی: لماذا یتعیّن علینا ممارسة العبودیّة؟ فالجواب هو: لأنّنا عبید. فإنْ لم یمارس العبدُ العبودیّةَ، فماذا سیصنع إذن؟ وإذا لم یعط المصباح النورَ فماذا سیفعل؟ فالإضاءة هی ذاتیّة للنور. فمتّى ما استطعنا الاستقالة من العبودیّة فلیس من الضروریّ أن نمارسها بعدئذ، لكن ما دمنا عبیداً فلابدّ أن نعمل بمقتضى العبودیّة. والملفت هنا هو أنّ كمال عزّتنا مخبّأة فی هذه العبودیّة وأن أقصى درجات اللذّة هی فی العبودیّة. فقد كان المرحوم آیة الله بهجت (رضوان الله تعالى علیه) یقول: «لو علم السلاطین ما فی الصلاة من اللذّة لتركوا سلطانهم وهرعوا للصلاة». وقد أوصى المرحوم المیرزا حسن الشیرازیّ أن تُقضى عنه جمیع صلواته. فاستفسر أحد المقرّبین منه عن علّة هذه الوصیّة فأجابه قائلاً: «أخشى أن تتنافى اللذّة التی كانت تنتابنی أثناء الصلاة مع قصد القربة». إذن فإنّ لله أمثال هؤلاء العبید أیضاً. لقد خلق الله هذا الدین كی نتعلّم طریق العبادة فنصل من خلالها إلى درجة القرب منه سبحانه وتعالى. إذن فالسبیل للقرب منه هو توحیده، وعدوّ هذا السبیل هو الشرك به. ومن هذا المنطلق تقول سیّدتنا الزهراء البتول (علیها السلام): «وَحَرَّمَ اللهُ الشِّرْكَ إِخْلاصاً لَهُ بِالرُّبُوبِیَّة».
إنّ للشرك فی الربوبیّة أنواعاً أحدها الشرك التشریعیّ. إذ یقول القرآن الكریم بخصوص الیهود والنصارى: «اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ»14؛ أی إنّ هؤلاء كانوا قد تورّطوا فی مرتبة من مراتب الشرك بأن اتّخذوا علماءهم ورهبانهم أرباباً. وقد سُئل أبو عبد الله الصادق (علیه السلام) عن سبب سجود هؤلاء لعلمائهم فقال (علیه السلام): «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا علیهم حلالاً فعبدوهم من حیث لا یشعرون»15. وهذا یُعدّ شركاً فی الربوبیّة التشریعیّة. فالذی یسنّ قانوناً إلى جانب القانون الإلهیّ فهو مشرك، اللهمّ إلاّ أن یكون سنُّه لهذا القانون بإذن الله تعالى. فقد جاء فی الخبر أنّ الله قد فوّض لنبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) وضع الكثیر من الأحكام وكان (صلّى الله علیه وآله) یسنّ تلك القوانین بنفسه. فأمثال هذه الموارد لا تُعدّ شركاً لأنّها تكون بتفویض وإذن من الله عزّ وجلّ. وكذا الحال إذا اُجیز الولیّ الفقیه بسنّ قانون مؤقّت فی ظروف خاصّة فإنّه لا یُعدّ هذا من قبیل الشرك؛ ذلك أنّ الولیّ الفقیه مأذون من قبل المعصوم (علیه السلام) والمعصوم مأذون من قبل الله عزّ وجلّ؛ إذن فعمل الولیّ الفقیه هو بإذن الله أیضاً. وبناء علیه فلو انتخب الشعب بأكمله شخصاً لمنصب رئاسة الجمهوریّة فلن یتمتّع بالمشروعیّة ما لم ینصبه الولیّ الفقیه لهذا المنصب. ومن هذا المنطلق قال الإمام الراحل: «إذا أدلى جمیع أفراد الشعب بأصواتهم لرئیس الجمهوریّة ولم ینصبه الولیّ الفقیه لهذا المنصب فهو طاغوت وطاعته محرّمة». فالحاكمیّة والربوبیّة هی لله وحده؛ فإنْ أجاز تعالى لأحد من الناس بذلك اكتسب الأخیر المشروعیّة، وإلا فلا: «قُلْ ءَاللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُون»16؛ أی تفترون بالتحلیل والتحریم من عند أنفسكم؟!
إذن فالتوحید فی العبادة هو السبیل الوحیدة المؤدّیة إلى تلك المنزلة التی جعلها الله للإنسان؛ إذن لابدّ من الحذر من الشرك. ومن هذا المنطلق انطلقت مولاتنا الزهراء (علیها السلام) فی قولها: «وَحَرَّمَ اللهُ الشِّرْكَ إِخْلاصاً لَهُ بِالرُّبُوبِیَّة».
جعلنا الله وإیّاكم من الموحّدین
والسلام علیكم ورحمة الله
1. إقبال الأعمال، ص289.
2. سورة المائدة، الآیة 3.
3. بحار الأنوار، ج29، ص223.
4. سورة الذاریات، الآیة 56.
5. سورة القمر، الآیة 55.
6. سورة التین، الآیة 5.
7. سورة البیّنة، الآیة 6.
8. سورة لقمان، الآیة 13.
9. سورة یوسف، الآیة 106.
10. دعاء ابوحمزه الثمالی.
11. بحارالأنوار ج:74 ص:26 حدیث لیلة المعراج.
12. سورة الزمر، الآیة 11.
13. بحار الأنوار، ج67، ص186.
14. سورة التوبة، الآیة 31.
15. بحار الأنوار، ج2، ص98.
16. سورة یونس، الآیة 59.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 1 كانون الأوّل 2010م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَأَطِیعُوا اللهَ فِیمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ وَابتَغُوا العِلْمَ وَتَمَسَّكُوا بِهِ فَإِنَّهُ إِنَّما یَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ»
نواصل البحث فی موضوعنا ألا وهو شرح الخطبة الفدكیّة، تلك الخطبة التی تنقسم إلى بضعة أقسام متمایزة عن بعضها إلى حدّ ما. فقد كُرّس القسم الأوّل منها لحمد الله والثناء علیه وذكر نبیّه الكریم محمّد (صلّى الله علیه وآله). ثمّ وجّهت مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) خطابها فی القسم الثانی من الخطبة إلى الحضور مذكّرة فی البدایة بمكانة أصحاب النبیّ (صلّى الله علیه وآله) والمسؤولیّة الخطیرة الملقاة على عواتقهم، لتعرّج بعد ذلك إلى التذكیر بأهمّ أحكام الإسلام وتعالیمه مشیرة خلالها إلى الحكمة من وراء تشریعها.
بلغنا فی بحثنا إلى آخر القسم الثانی من الخطبة حیث تستشهد فاطمة الزهراء (علیها السلام) فیه ببضع آیات من القرآن الكریم. الاستشهاد بهذه الآیات یعطی زخماً عملیّاً للعمل بهذه التعالیم والأوامر. فالمخاطَب قد یمرّ من أمام تلك الأوامر والتوجیهات مرور الكرام ولا یعیرها أیّة أهمّیة، فلا یعدو الأمر بالنسبة له أكثر من مباحث قد ذُكرت لمجرّد الاطّلاع وقد استمع إلیها. هذه الحالة أكثر ما تشاهَد لدى الأشخاص الذین تعوّدوا على التفلّت من القیود وكسر الأطواق، أو ما یُصطلح علیه الیوم بـ «التحرّر»، فهم یحرصون على أن لا یقیّد تحرّكاتِهم أیُّ قید أو طوق! فلو اُعید سرد هذه التعالیم والأوامر على أمثال هؤلاء عشر مرّات فلن تؤثّر فیهم أدنى تأثیر، بل قد یملّون منها. فلا تكون هذه التعالیم والتوجیهات مؤثّرة إلا إذا وجد المخاطَب فی نفسه الدافع للعمل بها. وبناء علیه فمن أجل أن یكون لهذه الكلمات أثرها المطلوب فلابدّ من الإشارة إلى ملاحظة تثیر فی النفوس هذا الدافع. فالإنسان لا یكون على استعداد لتقبّل ما یقیّد سلوكیّاته إلا إذا أحسّ أنّ خطراً عظیماً یهدّده إنْ هو امتنع عن القیام بذلك؛ بمعنى أنّ أعظم عامل من عوامل تحرّك الإنسان، خصوصاً ما یتعلّق بقبوله بتحجیم حركته وتقییدها، هو خوف الخطر. بل إنّ احتمال نیل المنفعة قد لا یكون له من أثر فی الإذعان للتحدید والتقیید مثل ما للخشیة من الضرر أو الخوف من الخطر. ومن هذا المنطلق فإنّ الطریقة الأنجع التی یستخدمها الأنبیاء (علیهم السلام) فی خلق الدافع لطاعة الله فی الناس هی توجیه انتباههم إلى الأخطار؛ وبعبارة اخرى فإنّ الطریقة الأكثر اتّباعاً من قبل الأنبیاء هی اعتماد الإنذار والتحذیر، بل إنّ أحد الأسماء العامّة لكلّ نبیّ أساساً هو «النذیر». إذ یقول الله فی محكم كتابه العزیز: «وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِیهَا نَذِیرٌ»1؛ أی إنّنا قد أرسلنا إلى كلّ اُمّة نبیّاً منذراً لیحذّرهم من الأخطار المحدقة بهم. بالطبع لقدكان کلّ نبیّ «بشیراً» أیضاً، لكنّ هذه التسمیة لم تُستخدم للأنبیاء بشكل مطلق. فلم یتمّ القول مثلاً: «وإن مِّن اُمّة إلاّ خلا فیها بشیر». وهذا یدلّ على أنّ الإنسان یتأثّر من احتمال الخطر أكثر من تأثّره من رجاء المنفعة. بطبیعة الحال فإنّ العامل من وراء حركة الإنسان هو إمّا نیل منفعة أو دفع ضرر؛ لكنّ عامل دفع الضرر هو أقوى وأعمّ. فكلّ الناس – سواء كبیرهم أو صغیرهم، رجلهم أو امرأتهم، فقیرهم أو غنیّهم - یحتاطون ویحذرون عندما یشعرون أنّ خطراً ما یتهدّدهم؛ أمّا المنفعة فعلى الرغم من أنّها تشكّل دافعاً للبعض لكنّها لا تمثّل دافعا قویّاً لدى البعض الآخر. ومن هذا المنطلق فنحن نجد فی التعالیم والتربیة الإسلامیّة أنّ هناك دوماً تركیزاً على مسألة التقوى. فالتقوى هی من مادّة الوقایة؛ وهی حفظ النفس من الخطر. وكلمة الحفظ – أساساً - إنّما تُستخدم حیث یشعر المرء بالخطر. فكأنّ كلمة التقوى تستبطن معنى الخشیة والخوف. فنحن عندما نرید تفسیر قوله تعالى: «وَاتَّقُوا یَوْماً لا تَجْزی نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَیْئاً»2 فسنستند فی تفسیرنا أكثر على معنى الخوف فنقول: «خافوا من الیوم الذی لن یكون لأحد فیه نفع لآخر». بل إنّ البعض یترجم التقوى بمعنى: الخوف والخشیة من الله.
إنّ الركن الذی ترتكز علیه جمیع الخطب هو الأمر بالتقوى، فلابدّ فی خُطبتی صلاة الجمعة مثلاً من الأمر بالتقوى. وهذا التأكید یرجع إلى أنّ الإنذار من الخطر یُعدّ أهمّ عامل فی خلق الدافع للحركة لدى الإنسان. بالطبع إنّ الإنسان المؤمن والموحّد یعلم أنّ جمیع الأخطار إنّما تنبع من القدرة الإلهیّة وأنّ التصرّف فیها جمیعاً هو بید الله تعالى؛ ومن هذا المنطلق یُقال: «اتّقوا الله». فكأنّ الصدّیقة الطاهرة (سلام الله علیها) وبعد أن بیّنت عصارة تعالیم الإسلام أرادت أن تحفّز فی نفوس المخاطَبین الدافع للعمل بهذه التعالیم فأشارت فی آخر مقطع من كلامها إلى هذه الآیة الشریفة حیث قالت: «فَاتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ»3.
كما أنّه من السنن الاخرى المتّبعة فی الإسلام هی أن یتلو الخطیب أثناء الخطابة وموعظة الناس آیة من الذكر الحكیم. فعندما خطبت السیّدة الزهراء (علیها السلام) هنا فی الناس، وبیّنت فی خطبتها عصارة الإسلام، تلت فی ختام هذا المقطع من الخطبة آیة قرآنیّة، فهی بذلك تكون قد تلت القرآن أوّلاً، وحرّکت فی نفوس الناس ذلك الدافع ثانیاً، وراعت سنّة الأمر بالتقوى ثالثاً.
بعد أن یجد الإنسان فی نفسه الدافع للقیام بعملٍ مّا فلابدّ له من دلیل وهادٍ؛ أی شخص یدلّه على مواطن الخطر. ولعلّ هذا هو ما یعلّل إلحاق الزهراء (علیها السلام) ذكر الآیة السابقة بقولها: «وَأَطِیعُوا اللهَ فِیمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ»؛ أی: الآن وقد تولّد فیكم الدافع، ویفترض أنّكم ترغبون فی أن تكونوا من أهل التقوى وتصونوا أنفسكم من المخاطر فإنّ السبیل إلى ذلك هو أن تمتثلوا لأوامر الله ونواهیه، وفی هذه الحالة ستصونون أنفسكم من الأخطار. ومن المناسب أن یُطرح هنا السؤال التالی: بماذا أمر الله تبارك وتعالى وعن ماذا نهى؟ إذن فبعد تحفیز الدافع للعمل والوقایة من الخطر لابدّ أن نعلم ما هی أوامر الله تعالى ونواهیه4. تقول الزهراء (سلام الله علیها) هنا: «وَابتَغُوا العِلْمَ وَتَمَسَّكُوا بِهِ فَإِنَّهُ إِنَّما یَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ»؛ وكأنّها أردات القول: «اعلموا واعملوا به»، بل إنّها تشیر إلى جانب العمل بمزید من التأكید بقولها: «وتمسّكوا»؛ وهو تعبیر یقال للإمساك بإحكام فیما یُخشى فقدانه وضیاعه. فالتمسّك والاستمساك والاعتصام هی اصطلاحات لها نفس المعنى والمفهوم وإنّ مصداقها البارز یكون عندما یحسّ المرء أنّه على وشك السقوط فی بئر أو وادٍ سحیق فیجد حبلاً متیناً أو عروة محكمة إذا أمسك فیها بقوّة حالَ ذلك بینه وبین السقوط. فهذه الحالة هی حالة الاعتصام، حیث یقول عزّ من قائل: «وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِیعاً»5، وهذه الآیة تجسّم عین هذا المعنى تجسیماً؛ ومعناها أنّ الله قد أعدّ حبلاً یقی التمسّكُ به من السقوط فی وادی جهنّم. فالاعتصام بحبل الله یعنی إمساكه بقوّة. وشبیه بهذا التعبیر ما جاء فی آیة الكرسیّ حیث قال تعالى: «فَمَن یَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَیُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا»6؛ فعندما یرید الله عزّ وجلّ أن یؤكّد على الحذر، ومجانبة الكفر، والكون من أهل الإیمان فإنّه یقول: «إذا فعلتم ذلك تكونون قد تمسّكتم بالعروة الوثقى»؛ بمعنى أنّه یفترض أن یفتّش الإنسان عن العروة الوثقى، ولا یمكن فرض حال كهذه إلا عندما یحسّ المرء بالخطر المحدق ویحتمل السقوط المهلك؛ السقوط إلى أسفل السافلین وأعماق جهنّم. وكأنّ الله یقول بذلك: هل ترغبون فی أن أدلّكم على طریقة للتمسّك بقوّة بشیء ینجیكم من هذا السقوط؟ وهو أن تكفروا بالطاغوت أوّلاً، وأن تؤمنوا بالله ثانیاً. إنّه - من الناحیة العملیّة - لابدّ من الاثنین معاً لكن لـمّا كان الكفر بالطاغوت ینطوی على إزالة الفساد والرجس والظلمات فإنّه مقدّم على الإیمان بالله. یقول الله تعالى: «إذا فعلتم ذلك تكونون قد تمسّكتم بعروة بالغة الوثاقة والإحكام»؛ فكلمة «الوثقى» هی صفة تفضیل للمؤنّث تعنی الشیء الأوثق والأكثر مدعاة للاطمئنان، و«العروة الوثقى» هی المقبض الذی لا ینكسر أو لا ینفصم إطلاقاً. فاطمئنّوا إلى أنّ هذا الحبل لن یتمزّق أو یفلت أبداً. وكذا فقد قال النبیّ الأعظم فی حقّ القرآن والعترة الطاهرین (علیهم السلام): «إِنِّی تَارِكٌ فِیكُمُ الثَّقَلَیْنِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا»7؛ فقد استخدم كلمة التمسّك هنا أیضاً؛ ومعناه إنّكم لو تمسّكتم بهذین الأمرین ولم تفلتوهما فلن تضلّوا أبداً. لكنكّم إن لم تمسكوهما بإحكام فإنّكم ستُتركون وشأنكم. وتقول مولاتنا الزهراء فی هذا المقام: «وَابتَغُوا العِلْمَ وَتَمَسَّكُوا بِهِ»؛ أی اذهبوا وتعلّموا ما أوجب الله علیكم من امور وما حرّم فإن علمتم بذلك فتمسّكوا بما علمتم به بكلّ قوّة.
الآیة الأخیرة التی ذكرتها الزهراء (سلام الله علیها) فی هذا المقطع هی قوله تعالى: «إِنَّمَا یَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ»8؛ أی: إنّنی أذكر هذه التوجیهات والتعلیمات هنا لأنّ خشیة الله لا تحصل إلا فی ضوء العلم. ولقد ذكرنا فی بدایة البحث أنّ الدافع للعمل یكون فی ظلّ الإحساس بالخطر، والخوف، والخشیة من الله. فإنّ هذا القدر من التأكید على الخوف من الله هو من أجل أن یشعر الإنسان بأنّه إذا لم یطع الله عزّ وجلّ فسوف یعرّض نفسه للخطر وذلك كی یتولّد لدیه الدافع لحمایة نفسه. ومن هذا المنطلق یقول القرآن الكریم: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِیَ الْمَأْوَى»9. إذن یتعیّن على الإنسان أن یحفظ هذا الخوف وهذه الخشیة ویقوّیهما فی نفسه كی ینهض لطاعة الله. فإنّه لن ینهض لطاعة الله ویقبل بنصیحة الآخرین مالم یحسّ بالخطر یتهدّده، وهذا الإحساس بالخطر یدعى «الخشیة» وهی ما یتولّد فی ظلّ العلم: «إِنَّمَا یَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ»، فمن أجل حصول هذه الخشیة من الله لابدّ من اكتساب العلم.
وهنا ینتهی هذا القسم من الخطبة الشریفة. فإنْ وفّقنا الله تعالى فسنبدأ فی المحاضرة القادمة – إن شاء الله – بطرح القسم الثالث من هذه الخطبة وهو مقصدها الأساسیّ.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. سورة فاطر، الآیة 24.
2. سورة البقرة، الآیتان 48 و 123.
3. سورة آل عمران، الآیة 102 (بالطبع الآیة الشریفة هنا حسب ما جاءت فی سیاق الخطبة وإلا فهی من دون الفاء فی أوّلها).
4. هنا یوجد اختلاف بسیط بین نسخ الخطبة الشریفة؛ فقد وردت فی بعض النسخ عبارة: «واتّبعوا العلم»، لكنّه یبدو لی أنّ النسخة التی تضمّنت عبارة: «وابتغوا العلم» أصحّ.
5. سورة آل عمران، الآیة 103.
6. سورة البقرة، الآیة 256.
7. بحار الأنوار، ج2، ص100.
8. سورة فاطر، الآیة 28.
9. سورة النازعات، الآیتان 40 و 41.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 22 كانون الأوّل 2010م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
نحن مستمرّون فی بحثنا حول خطبة سیّدتنا فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) حیث إنّ ذكر كلامها (علیها السلام) مطلوب من كلّ النواحی؛ إذ أوّلاً: إنّ كلامها هو نور بحدّ ذاته: «كلامكم نور»1. ثانیاً: إنّ من مقتضیات قاعدة المحبّة أن یُلِمّ المحبّ بما وصل إلیه من كلام محبوبه ویحاول فهمه بشكل أفضل والاستفادة من مضامینه. ثالثاً: مضامین هذا الكلام تنیر لنا نحن البشرَ دربَ الحیاة، وتوضّح لنا معالم الطریق إلى السعادة الأبدیّة، وهی الدواء الأنجع لعلاج أمراضنا الاجتماعیّة، فعلینا الإفادة من هذا الكلام وأن نولی اهتماماً كافیاً بتوجیهات أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین) وتعالیمهم.
لقد بحثنا فی المحاضرات الماضیة مقاطع من هذه الخطبة الشریفة وقمنا - بما أسعفَنا به التوفیق - بتقدیم شرح موجز لكلّ مقطع. وقد وصلنا فی بحثنا إلى حیث قالت (علیها السلام): «أَیُّهَا النَّاسُ! اعْلَمُوا أَنِّی فَاطِمَةُ وَأَبِی مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْءاً (عوداً على بدء)، وَلا أَقُولُ مَا أَقُولُ غَلَطاً، وَلا أَفْعَلُ مَا أَفْعَلُ شَطَطاً. «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْكُمْ بِالْمُؤْمِنِینَ رَؤُفٌ رَحِیمٌ»2، فَإِنْ تَعْزُوهُ وَتَعْرِفُوهُ تَجِدُوهُ أَبِی دُونَ نِسَائِكُمْ، وَأَخَا ابْنِ عَمِّی دُونَ رِجَالِكُمْ، وَلَنِعْمَ الْمَعْزِیُّ إِلَیْهِ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، صَادِعاً بِالنِّذَارَةِ، مَائِلاً عَنْ مَدْرَجَةِ الْمُشْرِكِینَ، ضَارِباً ثَبَجَهُمْ، آخِذاً بِأَكْظَامِهِمْ، دَاعِیاً إِلَى سَبِیلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة»3.
فبعد حمد الله تعالى والثناء علیه وذكر آلاء هدایته التی منّ بها على الناس بواسطة نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) والإشارة إلى أهمّ العناوین التی جاءت فی تعالیم هذا النبیّ، تصل (علیها السلام) إلى القسم الثانی من الخطبة حیث توجّه خطابها إلى الناس مباشرة معرّفة نفسها فی بادئ الأمر. وهذه القضیّة تحوز أهمّیة من جهات مختلفة، وما علینا - من أجل الوقوف على أهمّیتها – إلا أن نتصوّر الموقف والأجواء التی اُلقیت فیها الخطبة ونجسّم المشهد بدقّة.
فالقضیّة أنّ هناك نبیّاً قد عاش فی قومٍ مدّة 23 سنة تحمّل خلالها من المصائب والمحن الكثیر. ففی فترة سكناه فی مكّة، التی هی مسقط رأسه ووطنه الأصلیّ، قد حُوصِر خلال عدد من السنین فی وادٍ حتّى أنّ الماء والخبز لم یكن یصل إلیهم إلا بشقّ الأنفس. ثمّ هاجر بعدها إلى المدینة المنوّرة حیث وجد أنصاراً. وشیئاً فشیئاً بدأ عدد المسلمین بالتزاید حتّى وصل حدّاً مكّنه (صلّى الله علیه وآله) من تشكیل مجتمع وتأسیس دولة. وقد انقضت على هذه الدولة سنوات تخلّلتها الحروب والنزاعات مع المخالفین من أمثال مشركی مكّة، والیهود، والنصارى، وغیرهم. وخلاصة الأمر فقد انقضت تلك السنوات الثلاث والعشرین على النبیّ (صلّى الله علیه وآله) حاملة معها مختلف صنوف العذاب والمحن حتّى نُقل عنه (صلّى الله علیه وآله) قوله: «ما اُوذِی نبیّ مثل ما أوذیتُ»4. الآن وقد رحل هذا النبیّ عن هذه الدنیا ولم یمض على مواراة جسده الثرى غیر بضعة أیّام ولم یخلّف من ذكرىً له غیر بنت وحیدة. وقد طرق أسماعنا - بشكل أو بآخر – أنّه من حضیض أیّ ذلّ إلى ذُرى أی عزّ قد نُقل الناس فی ذلك العصر بجهود هذا النبیّ الإلهیّ. فمولاتنا (علیها السلام) تكرّس جانباً من هذه الخطبة الشریفة لتوضیح هذا الموضوع كی یتهیّأ الناس ولو قلیلاً لسماع ما تقوله، ویعوا أنّهم أمام مَن یقفون ومَن هو المتحدّث إلیهم.
فلئلاّ یزعم زاعم فیما بعد قائلاً: «إنّنا لم نكن نعلم مَن هو المتحدّث، ولم نسمع سوى امرأة كانت تتكلّم من وراء ستار؛ ولذا لم نكترث للأمر كثیراً» فقد انبرت الزهراء (سلام الله علیها) بادئ ذی بدء إلى التعریف بنفسها قائلة: «أَیُّهَا النَّاسُ! اعْلَمُوا أَنِّی فَاطِمَةُ»؛ أیّها الناس! افهموا وعُوا مَن الذی یتحدّث إلیكم؟ إنّها البنت الوحیدة التی خلّفها ذلك النبیّ الذی بذل جهوداً جبّارة لهدایتكم وعانى أشدّ المعاناة لأجلكم. إنّها تلك المرأة التی لا یضاهیها أحد فی الاهتمام بالهدف الذی كان یصبو إلیه أبوها والجهود المضنیة التی بذلها فی هذا الطریق وهی ترید أن تقتفی أثره وتسلك سبیله. إنّها الشخص الذی كان النبیّ (صلّى الله علیه وآله) یحرص طوال حیاته على أن یعرّفه لكم بشتّى السبل والوسائل، حتّى قال: «فاطمةُ بَضعَة منّی»5؛ «إنّ الله تعالى یغضب لغضب فاطمة ویرضى لرضاها»6. ففاطمة الیوم هی التی تتحدّث إلیكم. ثمّ تقول: «وَلا أَقُولُ مَا أَقُولُ غَلَطاً» فما أقوله هو عین الصواب والحقیقة، «وَلا أَفْعَلُ مَا أَفْعَلُ شَطَطاً»؛ أی حاشا أن أفعل شیئاً عبثاً أو جزافاً، ففعلی یوافق الحكمة وأوامر الله والعقل موافقة كاملة.
لقد فعلت الزهراء (علیها السلام) بهذا التعریف فعلةً من شأنها أن تثیر لدى مَن كان لا یعرفها من الحضور – هذا على فرض وجود مثل هذا الشخص – الإعجاب بكلامها وتدفعه - على أقلّ تقدیر - إلى التحقیق فی أمرها. وهذه هی أفضل السبل لإتمام الحجّة على الناس.
مع بالغ الأسف فإنّ الدافع الذی دفع فاطمة الزهراء (علیها السلام) إلى بیان هذه الامور لم یُعرف كما ینبغی حتّى بین محبّیها. فلم یكن دافعها (سلام الله علیها) من ذلك یختلف عن دافع النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) فی إبلاغ الرسالة؛ فقد كان قلبه یحترق ألماً على كلّ فرد من أفراد قومه وكان شدید الحزن بسبب انتهاجهم سبیل الضلال وعدم نیلهم للسعادة! وعدم تشخیصهم لجادّة الحقّ! وسلوكهم سبیل الاعوجاج الذی یقودهم إلى عذاب أبدیّ! فقد كان قلبه یتفطّر ألماً وشفقة علیهم حتّى خاطبه الباری المتعال بقوله: «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ یُؤْمِنُواْ بِهٰذَا الْحَدِیثِ أَسَفاً»7؛ أی: أترید أن تُهلك نفسك غمّاً وحزناً لأنّهم لم یؤمنوا بهذا الحدیث؟! فالله تبارك وتعالى یسلّی نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله)؛ فهو (صلّى الله علیه وآله) مظهر رحمة الله الواسعة؛ وقد كان ینتابه الغمّ ویعتصره الألم إلى الحدّ الذی یقول الله سبحانه له: «إنّنا نحبّ أن تتألّم لذلك، لكن لیس إلى هذا الحدّ. أترید أن تُهلك نفسك بسبب عدم إیمانهم»؟! إذن هذا هو الدافع الذی كان یدفع النبیّ (صلّى الله علیه وآله) إلى دعوة الناس إلى الإسلام. وقد استهلّت فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) خطبتها بذكر هذه المیزات التی امتاز بها النبیّ (صلّى الله علیه وآله) كی تقول للناس: إنّنی ابنة ذلك النبیّ؛ فإنْ أنا خاطبتكم فلأنّ قلبی مشفق علیكم، فلا أرید أن تضلّوا، بل أودّ أن تعرفوا الحقّ وتنالوا سعادة الدنیا والآخرة». وهذا هو ما قادها إلى تلاوة هذه الآیة الكریمة: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْكُمْ بِالْمُؤْمِنِینَ رَؤُفٌ رَحِیمٌ»8. فإنّ من الآداب الإسلامیّة أن تُتلى فی الخطبة آیات من الذكر الحكیم. لكن لماذا اختارت (علیها السلام) هذه الآیة بالذات؟ لقد اختارتها لتذكّر الناس بأنّهم أیَّ رجلٍ قد فقدوا، وأنّنی الذكرى الوحیدة التی خلّفها فیكم، والتی تؤمن بالهدف الذی بُعث (صلّى الله علیه وآله) من أجله أكثر من أیّ شخص آخر، وتصرّ على اقتفاء أثره. وهذه الملاحظة لجدیرة بالاهتمام حقّاً؛ فهذه الآیة تنبّهنا إلى هذه القضیّة وهی: أیّ نعمة عظیمة قد منّ الله بها علینا وأیّ أثر كبیر لهذه النعمة على عواقب اُمورنا. فإنّ معظم أشكال الانحراف وأنماط الضلال هی نتیجة لنسیان أنعم الله علینا وكفرانها. إنّه یتعیّن علینا أن نستلهم من نفس هذه الملاحظات العِبَر والدروس فنتفكّر فیما وهبنا الله تعالى فی عصرنا من الآلاء، وكیف أنّ بعض الجاحدین قد أنكروا تلك النعم فهم یتعاملون معها وكأنّهم لم یشاهدوها ولم یعرفوها فهم لا یبادرون إلى شكرها.
على أیّة حال، فالآیة تقول: أیّها الناس! افهموا وعوا أنّه قد جاءكم نبیّ هذه صفاته: فهو من أنفسكم ولیس هو غریباً عنكم لا یعرف أحوالكم ولا یفهمكم. یشقّ علیه كثیراً أن ینالكم أیُّ ألم أو عذاب. أجل، لابدّ أن نعلم أنّه ما من فرد من هذه الاُمّة الإسلامیّة – سواء أكان فی زمان الرسالة، أو فی زماننا الحاضر أو فی المستقبل – تصیبه محنة أو شدّة إلاّ ویحزنُ علیه نبیّنا الكریم (صلّى الله علیه وآله) حزن الأب على مصیبة ولده بل وأشدّ بمئات المرّات. بل إنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) كان یتألّم حتّى على حال المشركین؛ اولئك الذین عادوه بكلّ نذالة ولم یراعوا فی حقّه أبسط قواعد الأخلاق والإنسانیّة. فأیّ قلب یستطیع أن یقاسی كلّ تلك المآسی والآلام ویتحمّل كلّ تلك المشاقّ والصعاب؟! نحن لا نستطیع بحال من الأحوال أن ندرك مدى الألم والعذاب الذی كان یقاسیه نبیّنا الكریم (صلّى الله علیه وآله). فالله عزّ وجلّ یقول له: «أترید أن تُهلك نفسك»؟! إذن فالله وحده یعلم أیّ معاناة قد عاناها النبیّ، وهو جلّ وعلا - من هذا المنطلق - یسلّیه ویواسیه فی القرآن بین الحین والآخر. تقول الزهراء (علیها السلام): هذه هی الصفة الاولى التی كان یتحلّى بها أبی.
أمّا صفته الثانیة فهی أنّه كان یحرص أشدّ الحرص على هدایتكم: «حَرِیصٌ عَلَیْكُمْ». فبعض الناس عندما یُعهد إلیهم بمهمّة فإنّهم ینجزون منها بمقدار ما تملیه علیهم مسؤولیّتهم فحسب ثمّ یتركونها. أمّا الرسول الأعظم (صلّى الله علیه وآله) فلم یكن هكذا، فالله قد أرسل نبیّه برسالة إلى جمیع البشر وكانت وظیفته تتلخّص فی إبلاغ تلك الرسالة بشكل شفّاف وبلیغ وواضح وعلى أتمّ وجه إلى المرسَل إلیهم. لكنّ النبیّ قد أنفق كلّ عمره الشریف فی سبیل أن یكون لهذه الرسالة أقصى درجات التأثیر فی اُمّته. كان حریصاً على أن تطبَّق هذه الأوامر الإلهیّة حتى یصبح الناس من أصحاب الجنّة ویُنتشَلون من نار جهنّم.
وأمّا الصفة الثالثة لأبی الزهراء (صلّى الله علیه وآله) فهی رأفته ورحمته الشدیدة بالمؤمنین. فعندما كان یؤمن قوم به ویجیبون دعوته كانت تغمر قلبَه تجاههم محبّة خاصّة فكان یعینهم ویساعدهم ما استطاع إلى ذلك سبیلاً.
تقول مولاتنا الزهراء (علیها السلام): «فَإِنْ تَعْزُوهُ وَتَعْرِفُوهُ تَجِدُوهُ أَبِی دُونَ نِسَائِكُمْ»؛ إذا كنتم تعرفون أبی وأهل بیته فستعلمون أنّه أبی وأنّنی ابنته، فهو لم یكن أباً لأیّ واحدة من نسائكم. فأنا الوحیدة التی تربطنی مع هذا النبیّ نسبة البنوّة. وهی (علیها السلام) هنا تُلفت أیضاً إلى ملاحظة ترید أن تتناولها بمزید من التفصیل فی آخر الخطبة. ثمّ تقول: «وَأَخَا ابْنِ عَمِّی دُونَ رِجَالِكُمْ»؛ وإن كنتم تعرفون أبی فستعلمون أنّه أخو ابن عمّی ولیس من بین رجالكم مَنْ تربطه به هذه القرابة، فعلیٌّ فقط هو أخو الرسول (صلّى الله علیه وآله). بالطبع عندما یكون شخص ابن عمّ لشخص آخر یكون الثانی ابن عمّ الأوّل بالضرورة؛ لكنّ الزهراء تقول هنا: «النبیّ هو أخو ابن عمّی»، فالناس یعلمون أنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) عندما آخَى بین المسلمین اتّخذ علیّاً (علیه السلام) أخاه وقد كان علیّ (علیه السلام) معروفاً بین الناس بأنّه أخو النبیّ (صلّى الله علیه وآله).
أمّا قصد فاطمة (علیها السلام) من ذكر كلّ هذه الامور وطرح كلّ هذه البحوث فهو إثبات حقّانیّة وإمامة علیّ (علیه السلام) أمام الملأ. فهذه الالتفاتة تدلّ على براعة استهلال لهذا المقصود. فهی تشیر إلى هذه النقاط منذ البدایة كی یفهم الناس مَن هو المتحدِّث إلیهم أوّلاً، وأیّ موضوع سیطرحه علیهم ثانیاً. ولهذا فهی تلمّح منذ هذه اللحظة بأنّ بحثنا یرتبط بابن عمّی علیّ (علیه السلام).
«وَلَنِعْمَ الْمَعْزِیُّ إِلَیْهِ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، صَادِعاً بِالنِّذَارَةِ، مَائِلاً عَنْ مَدْرَجَةِ الْمُشْرِكِینَ، ضَارِباً ثَبَجَهُمْ، آخِذاً بِأَكْظَامِهِمْ، دَاعِیاً إِلَى سَبِیلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة»؛ تقول البتول (سلام الله علیها): إنّنی أنسب نفسی إلیه ونعم المنسوب إلیه. فأنتم تعلمون أنّ هذا النبیّ لم یقصّر قید أنملة فی أداء التكلیف. فهو الذی رفعكم من أخسّ وأحقر مراتب الحیاة الاجتماعیّة إلى أوج العزّة والكرامة. وهو الذی قرن رسالته بالإنذار. فإنّ التنبیه إلى العواقب الوخیمة للعمل السیّئ فی مقام الهدایة لهو أكثر تأثیراً من التذكیر بمنافع تركه. فمن أجل الوقوف أمام ظاهرة التدخین فی المجتمع – على سبیل المثال – یمكن أن نقول: «توقّف عن التدخین كی تحافظ على بدنك سالماً نشیطاً»، فهذه طریقة من طرق الدعایة لمنع التدخین. أمّا الطریقة الاخرى فهی أن نقول: «إنّ من جملة مضارّ التدخین هی الإصابة بالسرطان، وأمراض جهاز التنفّس، واختلالات الجهاز الهضمیّ». فتأثیر الطریقة الثانیة یفوق تأثیر الاولى بكثیر. ومن هنا فقد كان الأنبیاء یولون الإنذار أهمّیة بالغة. وهذه الطریقة یطلق علیها «الإنذار». تقول الزهراء (سلام الله علیها): عندما صدح النبیّ بالرسالة وأظهرها قرن إبلاغها بالإنذار والتحذیر كی یكون أثرها فی الناس أكبر ولئلاّ یتورّطوا بما تورّط به المشركون من سوء العاقبة. فلقد تذرّع (صلّى الله علیه وآله) بكلّ وسیلة ممكنة لإبلاغ الرسالة. فالمرء إذا أراد تحریض أحد للقیام بعمل مّا فإمّا أن یدفعه مِنْ خلفه أو یسحبه مِنْ ثیابه من أمامه. فلقد استخدم النبیّ كافّة السبل والوسائل المتاحة فی الهدایة ولم یألُ أیّ جهد فی ذلك، فقد استنفر كلّ إمكاناته من أجل هدایتكم إلى سواء السبیل وإنقاذكم من الهلكات. وكانت طریقته هی ذات الطریقة التی أمره القرآن الكریم بها بقوله: «ادْعُ إِلَى سَبیلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة»9؛ فقد كان یدعو الناس بالحكمة وبما هو یقینیّ وقطعیّ من الامور، وعبر وعظهم وإرشادهم، إلى الطریق التی رسمها الله تعالى له.
فذكر هذه الامور هی بمثابة المقدّمة كی یتذكّر الناس ما قدّمه النبیّ (صلّى الله علیه وآله) من خدمات ولیعلموا ما للنبیّ من حقّ علیهم، وأنّ التی تتحدّث الآن إلیهم هی امرأة قد آلت على نفسها إلاّ أن تواصل هذا الدرب، وتهدی الناس إلیه، وهی المشفقة علیهم إذ تراهم یزیغون عن الطریق التی رسمها لهم نبیّهم، وینسون ما حباهم الله عزّ وجلّ من الهدایة بواسطة سیّد المرسلین محمّد (صلّى الله علیه وآله).
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. زیارة الجامعة الكبیرة، بحار الأنوار، ج99، ص131.
2. سورة التوبة، الآیة 128.
3. بحار الأنوار، ج29، ص223 - 224.
4. بحار الأنوار، ج39، ص55.
5. بحار الأنوار، ج21، ص279.
6. عیون أخبار الرضا (علیه السلام)، ج2، ص46.
7. سورة الكهف، الآیة 6.
8. سورة التوبة، الآیة 128.
9. سورة النحل، الآیة 125.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارةهذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 29 كانون الأوّل 2010م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«یَكْسِرُ الأَصْنَامَ، وَیَنْكُثُ الْهَامَ، حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلَّوُا الدُّبُرَ، حَتَّى تَفَرَّى اللَّیْلُ عَنْ صُبْحِهِ، وَأَسْفَرَ الْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ، وَنَطَقَ زَعِیمُ الدِّینِ، وَخَرِسَتْ شَقَاشِقُ الشَّیَاطِینِ، وَطَاحَ وَشِیظُ النِّفَاقِ، وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقَاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإِخْلاصِ فِی نَفَرٍ مِنَ الْبِیضِ الْخِمَاصِ، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، مُذْقَةَ الشَّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطَّامِعِ، وَقَبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِئَ الأَقْدَامِ، تَشْرَبُونَ الطَّرْقَ، وَتَقْتَاتُونَ القَدَّ، أَذِلَّةً خَاسِئِینَ، تَخافُونَ أَنْ یَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُم».
بلغنا فی شرحنا للخطبة المباركة لسیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) إلى حیث وجّهت (علیها السلام) خطابها إلى الحاضرین معرّفة بنفسها. ویتبیّن من القرائن أنّ الناس كانوا قد اُعلموا مسبقاً بأنّها (سلام الله علیها) تهمّ بالمجیء إلى المسجد وترید أن تخطب فی الناس. ولقد اجتمع الناس ینتظرون قدومها. وحتّى النساء فقد كنّ مجتمعات خلف الستار إلى جانبها أیضاً. لكنّ الزهراء (علیها السلام) عندما بدأت بتوجیه الخطاب إلى الحضور قالت: «أَیُّهَا النَّاسُ! اعْلَمُوا أَنِّی فَاطِمَةُ وَأَبِی مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِه ...».
لقد تمّ فی ترتیب أقسام الخطبة وتسلسلها مراعاة ملاحظات تتعلّق بعلم النفس هی غایة فی الدقّة واللطافة وإنّ مَن یحمل خبرة فی هذه المسائل یستطیع أن یدرك رموز هذه الكلمات وسرّ هذا الترتیب أكثر من غیره.
كان غرض الزهراء (سلام الله علیها) من إلقائها هذه الخطبة هو إنقاذ الناس ممّا وقعوا فیه من خطأ؛ ذلك الخطأ الذی لا ریب أنّ الشیطان كان دخیلاً فیه، بل كان لبعض الأشخاص أیضاً أثر فی إضلال الناس بشكل أو بآخر، خصوصاً وأنّ نصّ القرآن الصریح یشیر إلى وجود منافقین بین صفوف المسلمین آنذاك. فلقد أحسّت فاطمة الزهراء (علیها السلام) خلال الأیّام القلیلة التی بقیت فیها على قید الحیاة بعد أبیها (صلّى الله علیه وآله) أنّه ثمّة واجب فی رقبتها ویتعیّن علیها أداؤه ومحاولة توضیح ما اشتبه على الناس على الرغم من أنّها كانت تمرّ فی طور نقاهةٍ من المرض. ومن هذا المنطلق فقد انْبَرَت (علیها السلام) بادئ ذی بدء تعرّف الناس بمقام الرسول الكریم (صلّى الله علیه وآله) وتذكّرهم بالجهود المضنیة التی تجشّمها (صلّى الله علیه وآله) فی سبیل هدایة الناس، لاسیّما أهل الجزیرة العربیّة.
تذكّر فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) الناسَ بهذه القضیّة وهی أنّه من أیّ حضیض وذلّة كان خاتم الأنبیاء (صلّى الله علیه وآله) قد انتشل الناس خلال مدّة رسالته وإلى أیّ عزّ ومجد قد رفعهم. لكنّ الناس كانوا یعلمون بما قاساه النبیّ (صلّى الله علیه وآله) من معاناة فی هذا المضمار؛ ذلك أنّه لم یكن قد مرّ على بعثته (صلّى الله علیه وآله) ورحیله زمن طویل. بل من المؤكّد أنّ جیل الشباب أیضاً لم یكن غائباً عن مجریات الأحداث التی واكبت نشوء المجتمع الإسلامیّ الحدیث الوجود وما تحمّله آباؤهم وامّهاتهم من متاعب ومشاقّ كی یصل هذا المجتمع إلى ما هو علیه. غیر أنّ الإنسان كثیر النسیان وهو عندما ینسى أمراً یصبح كالذی لا یعلم به أساساً. فأحیاناً یعلم الإنسان ببعض الاُمور ویلتفت إلى ما یعلم به ویفكّر به عن علم ووعی وإدراك، بید أنّ غبار النسیان - أحیاناً اخرى - یتراكم على معلومات المرء ویغطّیها. فإذا سُئل الإنسان - فی مثل هذه الحالة - عمّا یعلم به فإنّه یستطیع الإجابة لكنّ علماً كهذا لیس له ذلك الأثر المطلوب على تصرّفات المرء وسلوكیّاته.
كانت أحداث صدر الإسلام وما أسمعه عنها تشكّل لغزاً بالنسبة لی منذ طفولتی؛ فكیف یتسنّى لاُناس حضروا مجالس النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وجلسوا عند منبره، وقاتلوا معه لسنین عدیدة - كیف یتسنّى لهم أن یعاملوا البنت الوحیدة التی تركها فیهم هذا النبیّ بمثل هذه المعاملة؟! أو كیف یمكن - مع كلّ ما أوصى به النبیّ (صلّى الله علیه وآله) - أن تحدث واقعة كربلاء، ویعامل المسلمون سبطَ رسولهم بهذه الفظاعة ولم یكن قر مرّ على رحیل النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) عهد طویل؟! فی الواقع لم یكن بمقدوری أن أتصوّر أنّ شیئاً كهذا یمكن أن یحدث، حتّى انطلقت نهضة الإمام الخمینیّ الراحل (قدّس سرّه). فعند مشاهدتی لمجریات الأحداث التی رافقت الثورة انحلّت بالنسبة لی معظم الألغاز وأدركت الى أیّ مدىً أنّ الإنسان كائن كثیر النسیان حقّاً.
وعلى أیّة حال فما من سبیل لإیقاظ مثل هذا الشخص وإخراجه من حالة النسیان سوى سرد قصص الماضی وأحداثه على مسامعه وتذكیره بها كی یتحفّز فی نفسه الدافع. فالعرب قد شاهدوا الوضع الذی كانوا علیه قبل الإسلام باُمّ أعینهم وأنّه إلى أیّ ذرىً من العزّة والشرف قد وصلوا ببركة الإسلام وبفضل قیادة نبیّ الإسلام (صلّى الله علیه وآله). إذن كانوا یعلمون بذلك لكنّهم غافلون عنه. فكلّنا یدرك أیّ خدمة قدّم الإمام الراحل (رحمه الله) لمجتمعنا، بل لجمیع شیعة ومسلمی العالم، بل لكافّة مستضعفی العالم حتّى من غیر المسلمین، لكنّنا – فی كثیر من الأحیان – ننسى أن نشكر هذه النعمة ونقْدِرَها حقّ قدرها.
لقد أودع الله تعالى فی فطرتنا عاملاً یدعونا إلى عدم المرور أمام إحسان الآخرین إلینا مرور الكرام وأن لا یهدأ لنا بال حتّى نشكر هذا المحسن ونعترف بجمیله. وقد تذكّرت فی هذه المناسبة قصّة توضّح مدى طهارة فطرة الإنسان وأیّ دوافع نورانیّة قد أودعها الله عزّ وجلّ فی هذه الفطرة حتّى عند اولئك البعیدین عن حقائق الإسلام. فعندما حصل زلزال «رودبار»1 كنت حینذاك فی الولایات المتّحدة الأمریكیة أحضر مؤتمراً حول الفلسفة، وصادف أن كان الیوم عید استقلال أمریكا. وفی ساعة متأخّرة من اللیل كنت برفقة المضیف وهو أحد أعضاء وفد الممثلیّة الإیرانیّة نسیر من نیویورك إلى نیوجرسی. كنت أجلس فی السیّارة بزیّی وعمامتی هذه وفجأة رأینا سیّارة شوفرلیت كبیرة یستقلّها بعض الفتیان والفتیات وكان سائقها یصرّ على الاقتراب منّا كی یتحدّث ركّابها إلینا. استمرّوا فی التلویح لنا حتّى لم یجد سائقنا بُدّاً من الوقوف على جانب الطریق منتظراً مجیئهم. وإذا بالفتاة التی كانت تجلس فی المقعد الأمامیّ ترفع یدیها وتصیح: «تقبّلوا منّی التعازی بمناسبة زلزال رودبار»! فتلك الفتاة بوضعها ذاك علمَتْ من زیّی أنّنی إیرانیّ فتذكّرت زلزال رودبار ولم یهدأ لها بال حتّى أعربت عن تعازیها ومواساتها لأجل تلك الحادثة. غرضی من هذا هو أنّ الله قد أودع فی ضمائرنا وفطرتنا عوامل تجعلنا لا یقرّ لنا قرار فی بعض المواطن. فمثلاً عندما ینالُ المرء إحساناً من شخص آخر فإنّه لا یستقرّ ولا یهدأ حتّى یُعرب له عن شكره وتقدیره.
فكیف باُناس قد انتُشلوا من أخسّ ظروف الحیاة وبلغوا أرقى ذُرى العزّة والمجد وهم یعلمون أنّ العامل من وراء هذه العزّة والكرامة هو النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله)! فلو أنّهم التفتوا إلى تلك الخدمة العظیمة التی قدّمها لهم النبیّ فلا شكّ أنّ ضمائرهم ستقضّ مضاجعهم وبما أنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) قد فارق الدنیا فإنّهم لن یهدأ لهم بال حتّى یُعربوا عن عمیق شكرهم لذویه. لكنّ الإنسان كثیر النسیان؛ فلقد انقضى زمن على تلك الحادثة والتحق النبیّ (صلّى الله علیه وآله) بالرفیق الأعلى. ولهذا فقد سعت الزهراء (سلام الله علیها) إلى إیقاض هذا الحسّ فی الناس، ورأت أنّ علیها أن تذكّرهم: بأنّكم ماذا كنتم؟ وإلى أیّ منزلة أوصلكم أبی؟ ومن هذا المنطلق فهی تقول فی بدایة الأمر: لقد تحمّل أبی فی سبیل إبلاغ الرسالة الإلهیّة الكثیر من المتاعب والمشاقّ، لكنّ رسالته لم تقتصر على أن یقول لكم: إنّنی أحمل لكم رسالة من الله مفادها أنّه تعالى یقول لكم: «قولوا لا إله إلاّ الله ولا تعبدوا الأصنام» وانتهى! بل إنّ إبلاغ هذه الرسالة یحمل تبعات كثیرة. فلقد آلت الامور إلى النزاعات والقتل والحروب. وقد قاسى الرسول الأعظم (صلّى الله علیه وآله) فی سبیل إبلاغ هذه الرسالة ما قاساه من المعاناة والأذى حتّى قال: «ما اُوذِی نبیّ مثل ما اُوذیتُ»2.
تستعرض الزهراء (سلام الله علیها) هنا لائحة تضمّ بعض خدمات الرسول الأعظم (صلّى الله علیه وآله) فتقول: «لقد منّ الله علیكم إذ أعزّكم بأبی». وهی (علیها السلام) تقتبس هذا الاسلوب فی البیان من القرآن الكریم وتكثر من الاستشهاد بآیات الذكر الحكیم. فلقد استُخدم هذا الاسلوب فی القرآن الكریم بكثرة؛ إذ یقول عزّ من قائل فی الآیتین 24 و25 من سورة الأنفال: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ ءَامَنُواْ اسْتَجِیبُواْ لِلّٰهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا یُحْیِیكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ یَحُولُ بَینَْ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَیْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لا تُصِیبَنَّ الَّذِینَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِیدُ الْعِقَابِ». فبعد أن تطرح الآیةُ موضوعَ طاعة الرسول (صلّى الله علیه وآله) وأنّ طاعته مدعاة لحیاة الإنسان، یتحوّل الكلام إلى لهجة التهدید بقوله تعالى: إذا خالفتم النبیّ فستتورّطون بفتنة عظیمة. ثمّ یتابع عزّ وجلّ فیقول من أجل أن یغرس فی نفوس الناس الدافع لطاعة النبیّ: «وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِیلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِی الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن یَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَیَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّیِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»3؛ فلقد كنتم كالحمائم التی تخاف أن تتخطّفها الصقور حتّى آواكم الله ونصركم ورزقكم من الطیّبات، كلّ ذلك حتّى تشكروا أنعمه ومِنَنه علیكم. فعندما یقول الباری تبارك وتعالى: «لقد مننّا علیكم بهذه النعم حتّى تشكروا» فهو یریدنا أن نشكر كی نبلغ الكمال فنحظى بأهلیّة نیل المزید من الرحمات، فالله سبحانه وتعالى لا یناله من شكرنا نفع ولا یصیبه من كفرنا ضرر.
وكأنّ كلمات الزهراء (سلام الله علیها) جاءت تفسیراً لهذه الآیات، فهی تقول: لقد كان رسول الله (صلّى الله علیه وآله) مولعاً بهدایة الناس حتّى كأنّه كان یدفع الناس من خلفهم ویسحبهم من أمامهم؛ أی كان یبذل قصارى جهده فی هدایة الناس. فلم یقتصر عملُه على الدعوة، بل إنّه لم یألُ جهداً إلّا وبذله ولم یترك معونة إلّا وأسداها حتّى فتح مكّة وكسّر الأصنام وحطّم الجماجم: «حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلَّوُا الدُّبُرَ»؛ وتفرّق جمع الكفّار والمشركین وتشتّتوا ولاذوا بالفرار والهزیمة بعد أن كانوا قد ائتلفوا مع بعضهم على شنّ الحروب على الإسلام كحرب الأحزاب.
«حَتَّى تَفَرَّى اللَّیْلُ عَنْ صُبْحِهِ»؛ وهنا تستعیر (علیها السلام) عبارة هی غایة فی الجمال والبلاغة؛ إذ تشبّه اللیل بستار أسود قاتم قد تمزّق وتفرّى فبان بیاض الصبح من بین مِزَقِه. فلقد كانت الأیّام الاولى للبعثة النبویّة شدیدة المحنة والقتامة على المسلمین الذین قاسوا فیها أشدّ أنواع العذاب والمعاناة حتّى لطُف الله بهم فمزّق ستار اللیل المظلم عن صبح أمل أبلج. «وَأَسْفَرَ الْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ»؛ إذ لم یكن الحقّ حتّى ذلك الحین واضحاً، وإنّ هِمم الرسول (صلّى الله علیه وآله) وجهوده المضنیة هی التی هیّأت الأرضیّة لظهور الحقّ واضحاً وتجلّی أعماقه للناس. «وَنَطَقَ زَعِیمُ الدِّینِ»؛ وكأنّه لم یكن لدى النبیّ (صلّى الله علیه وآله) قبل ذلك الحین ما یقوله؛ حیث لم یكن أحد لیكترث لكلامه. «وَخَرِسَتْ شَقَاشِقُ الشَّیَاطِینِ»؛ فقد كانت الشیاطین تثیر الضجیج والصخب كی لا یصل صوت الحقّ إلى الأسماع. وهذه التعابیر تُعدّ غایة فی الجمال، فكلمة «الشقاشق» هی جمع «شقشقة» وهی جلدة حمراء یخرجها الجمل من حلقه فی حالة الغضب أو السُكر وینفخ فیها فتنتفخ فیهدر فیها، فتظلّ مدّة تتحرّك قرب فمه إلى أن یهدأ فیبتلعها ثانیة، فسُمّیت هذه الجلدة «شقشقة». تقول (علیها السلام): فی ذلك الزمن لم یكن صوت الحقّ یصل إلى مسامع أحد، بل - على العكس – كان هدیر الشیاطین هو الذی یملأ الفضاء، حتّى خمدت شقاشق الشیاطین شیئاً فشیئاً وخرسوا فصدح صوت المنادی بالدین وعلا كلامه فصار مسموعاً ومفهوماً من قبل الناس.
«وَطَاحَ وَشِیظُ النِّفَاقِ»؛ فقد اُقصیت وطُردت عوامل النفاق بعد أن نفذت إلى صفوف المسلمین. «وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقَاقِ»؛ وهنا تشبّه مولاتنا الزهراء (علیها السلام) الكفر والعناد بما یطرأ على الأمر من عُقَد تعیق تقدّمه وانسیابه. فكأنّ مهمّة النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) التبلیغیّة كانت قد أصابتها عُقَد عصیّة على الحلّ، واستمرّ الحال على هذا المنوال حتّى انحلّت تلك العُقَد بالتدریج. «وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإِخْلاصِ»؛ فعندما خرست الشیاطین وسكت الناطقون باسمهم، نطق المنادی بنداء الإسلام، وبلغت دعوة النبیّ - شیئاً فشیئاً - أسماعكم فآمنتم. لكن كم كان عددكم حینذاك؟! «فِی نَفَرٍ مِنَ الْبِیضِ الْخِمَاصِ»؛ كنتم ضمن عدد قلیل من نحیلی الأبدان الشاحبی الوجوه الذین تلتصق بطونهم بظهورهم من شدّة الهُزال؛ فهولاء هم الذین أصبحوا المسلمین المخلصین. «وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ»، وسبق أن أسلفتُ بأنّ هذه الكلمات هی بمثابة تفسیر لآیات القرآن الكریم. فالسیّدة الزهراء (سلام الله علیها) تشیر هنا إلى الآیة المرقّمة 103 من سورة آل عمران التی تقول: «وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِیعاً وَلا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَیْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا»؛ فلقد كانت العلاقات بین القبائل العربیّة تسودها العداوة والبغضاء حتّى جاء الإسلام وزرع بینهم الاُلفة والمحبّة.
ثمّ تعود (سلام الله علیها) إلى استعمال التعابیر الأدبیّة الرائعة من جدید فتقول مخاطبة الحاضرین: لقد كنتم «مُذْقَةَ الشَّارِبِ»؛ أی جرعة الماء التی یتسنّى لأیّ أحد شربها وابتلاعها. «وَنُهْزَةَ الطَّامِعِ»؛ مطمع كلّ طامع. «وَقَبْسَةَ الْعَجْلانِ»؛ وهی الشعلة التی یختطفها المستعجل من دون أن تحترق یده أو تنطفئ النار. فقد كنتم إلى هذه الدرجة من الضعف وعلى وشك الافول، ومع ذلك فقد استمرّت حیاتكم حتّى آلت بكم الاُمور إلى ما أنتم علیه الیوم. «وَمَوْطِئَ الْأَقْدَامِ»؛ أقدام الآخرین. «تَشْرَبُونَ الطَّرْقَ»؛ فمشرَبُكم كان من مشرعة تبول فی مائها الإبل ویلوّثها الوحل. «وَتَقْتَاتُونَ القَدَّ»؛ و«القدّ» یُقال لجلد وأمعاء الخروف بعد ذبحه حیث لا یقتات علیها سوى الفقیر والمضطّر من شدّة الجوع. فقد كنتم مضطرّین لتناول جلد الخروف وأمعائه المجفّفة كغذاء. إذن هكذا كان حال حیاتكم المادّیة. أمّا من الناحیة الاجتماعیّة فكنتم «أَذِلَّةً خَاسِئِینَ»؛ تشكون الذلّ والهوان فلا یكترث بكم أحد. «تَخافُونَ أَنْ یَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ»؛ وهی (سلام الله علیها) هنا تشیر ثانیة إلى الآیة المرقّمة 26 من سورة الأنفال التی سبق أن تلوتها على مسامعكم.
فالزهراء (علیها السلام) تذكّر الناس بهذه الامور من أجل أن توقظ ضمائرهم ولو قلیلاً لیلتفتوا إلى أنّهم أمام مَن یقفون لعلّ أحداً منهم یهتدی إلى سواء السبیل، وإلاّ فإنّ قضیّة فدك لم تكن سوى ذریعة لهدایة الناس.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. هو زلزال بقوّة 7,4 على مقیاس رختر هزّ محافظتی جیلان وزنجان فی شمال غرب إیران فی 21 حزیران 1990م وقد خلّف دماراً لما یقارب 700 قریة وتسبّب فی مقتل 40 – 50 ألف شخص وجرح 60 ألف شخص وتشرید 400 ألف شخص.
2. بحار الأنوار، ج39، ص55.
3. سورة الأنفال، الآیة 26.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 5 كانون الثانی 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«فَأَنْقَذَكُمُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ بَعْدَ اللَّتَیَّا وَالَّتِی، وَبَعْدَ أَنْ مُنِیَ بِبُهَمِ الرِّجَالِ، وَذُؤْبَانِ الْعَرَبِ، وَمَرَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ، أَوْ نَجَمَ قَرْنٌ لِلشَّیْطَانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِینَ، قَذَفَ أَخَاهُ فِی لَهَوَاتِهَا، فَلا یَنْكَفِئُ حَتَّى یَطَأَ جَنَاحَها صِمَاخَهَا بِأَخْمَصِهِ، وَیُخْمِدَ لَهَبَهَا بِسَیْفِهِ، مَكْدُوداً فِی ذَاتِ اللهِ، وَمُجْتَهِداً فِی أَمْرِ اللهِ، قَرِیباً مِنْ رَسُولِ اللهِ، سَیِّدَ أَوْلِیَاءِ اللهِ، مُشَمِّراً نَاصِحاً، مُجِدّاً كَادِحاً، لا تَأخُذُهُ فی اللهِ لَومَةُ لائِمٍ، وَأَنْتُمْ فِی رَفَاهِیَةٍ مِنَ الْعَیْشِ، وَادِعُونَ فَاكِهُونَ آمِنُونَ، تَتَرَبَّصُونَ بِنَا الدَّوَائِرَ، وَتَتَوَكَّفُونَ الأَخْبَارَ، وَتَنْكِصُونَ عِنْدَ النِّزَالِ، وَتَفِرُّونَ عِنْدَ الْقِتَال».
هذا مقطع آخر من الخطبة المباركة لمولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) وقد تلونا المقاطع التی سبقته تباعاً فیما سبق من المحاضرات. وسنقدّم - بادئ ذی بدء - تفسیراً لفظیّاً لكلمات هذا المقطع ثمّ نعرّج بعد ذلك، بتوفیق من الله تعالى، على شرحه وتوضیحه. لقد أوضحت الزهراء (سلام الله علیها) - فیما سبق من مقاطع الخطبة – مدى أهمّیة رسالة النبیّ وما قاساه (صلّى الله علیه وآله) من صنوف المعاناة والعذاب فی سبیل هدایة الناس، فقالت: لقد كنتم تعیشون فی ظروف بالغة القسوة؛ فوضْعُكم الاقتصادیُّ كان من الضعف بحیث لم یكن یتوفّر لدیكم حتّى الماء الصالح للشرب وكنتم تقتاتون على أخسّ أنواع الأغذیة. ولم تكونوا حینذاك ذوی جاه أو منزلة بین الناس، أمّا من الناحیة الثقافیّة فقد كنتم تعیشون فی منتهى الحقارة والمهانة.
«فَأَنْقَذَكُمُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى» من هذا الوضع المشین «بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ» أی بفضله «بَعْدَ اللَّتَیَّا وَالَّتِی»، فلم تكن عملیّة إنقاذكم بالأمر الیسیر بل كانت حصیلة حوادث جمّة. ومن باب الإشارة إلى تفاصیل بعض تلك الحوادث تقول: لقد قاسى النبیّ (صلّى الله علیه وآله) منذ أن بُعث بالرسالة إلى أن أنقذكم شتّى صنوف المحن والشدائد؛ فمن جملتها أنّه: «مُنِیَ بِبُهَمِ الرِّجَالِ، وَذُؤْبَانِ الْعَرَبِ، وَمَرَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ» فقد حارب أشاوس الرجال وذئاب العرب والمتمرّدین من الیهود والنصارى الذین تكالبوا على قتاله. فكان لابدّ - من أجل إنقاذكم - من المقاومة والصمود بوجه جمیع هؤلاء. ثمّ تستشهد (علیها السلام) بعد ذلك بالآیة المرقّمة 64 من سورة المائدة فتقول: «كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ»، لكن كیف یطفئها؟ «أَوْ نَجَمَ قَرْنٌ لِلشَّیْطَانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِینَ، قَذَفَ أَخَاهُ فِی لَهَوَاتِهَا» فمتّى ما بزغ قَرْن الشیطان أو فغرت ذئاب المشركین أفواهها لافتراسكم قذف النبیّ (صلّى الله علیه وآله) أخاه علیّاً (علیه السلام) فی أفواه تلك الذئاب المفترسة. و«اللهاة» هی الزائدة اللحمیّة التی فی نهایة الحلق. «فَلا یَنْكَفِئُ» لا یرجع أو یستسلم «حَتَّى یَطَأَ جَنَاحَها صِمَاخَهَا بِأَخْمَصِهِ» حتّى یسحقهم تحت قدمیه «وَیُخْمِدَ لَهَبَهَا بِسَیْفِهِ، مَكْدُوداً فِی ذَاتِ اللهِ، وَمُجْتَهِداً فِی أَمْرِ اللهِ» فعندما ترتبط القضیّة بالله وبأمره فإنّ علیّاً (علیه السلام) لا یبخل بأیّ جهد أو طاقة، فیتحمّل كلّ مشقّة، ویتجشّم كلّ عناء وعذاب. وقد استخدم النبیّ (صلّى الله علیه وآله) أیضاً عبارة: «فی ذات الله» فی بضع أحادیث قالها فی حقّ أمیر المؤمنین (علیه السلام). فقد روى الفریقان عنه (صلّى الله علیه وآله) أنّه قال: «لا تَسُبُّوا عَلِیّاً فَإِنَّهُ مَمْسُوسٌ فِی ذَاتِ الله»1، وروی عنه أیضاً: «... فَإِنَّهُ خَشِنٌ فِی ذَاتِ الله»2، والزهراء (علیها السلام) تقول هنا: «مَكْدُوداً فِی ذَاتِ اللهِ»؛ أی كان یكدّ كدّاً فی أمر الله. «قَرِیباً مِنْ رَسُولِ اللهِ»، وهنا تؤكّد (سلام الله علیها) على صفة «القرابة» تحدیداً، ذلك أنّ أمیر المؤمنین (علیه السلام) كانت له مع رسول الله قرابة نَسَبیّة بما أنّه ابن عمّه من جانب، وقرابة سببیّة من حیث كونه صهره من جانب آخر، فكانت هذه القرابة خاصّة بعلیّ (علیه السلام).
التفتوا جیّداً! عندما ترید الزهراء (علیها السلام) أن تقول للناس: كیف أنقذكم أبی من كلّ هذه المهالك؟ فإنّها تبدأ بوصف أمیر المؤمنین (علیه السلام) فتقول: لقد أنقذكم أبی بواسطة الشخص الذی هذه صفاته: «سَیِّدَ أَوْلِیَاءِ اللهِ، مُشَمِّراً» عن ساعدیه مستعدّاً لكلّ خطب، «نَاصِحاً» طالباً لما فیه كلّ خیر «مُجِدّاً كَادِحاً» فی غایة الجدّ وأقصى درجات الفعالیّة «لا تَأخُذُهُ فی اللهِ لَومَةُ لائِمٍ» فلا یستطیع أن یمنعه من أمر الله أیّ لائم.
واستمراراً فی كلامها توجّه السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) خطابها إلى الجمع المحتشد فی المسجد قائلةً لهم: لقد أسدى النبیّ بواسطة أخیه وابن عمّه علیّ (صلوات الله علیهما) مثل هذه الخدمة إلى الإسلام وإلیكم أیّها المسلمون. لكن ما الذی صنعتم أنتم فی المقابل؟ «وَأَنْتُمْ فِی رَفَاهِیَةٍ مِنَ الْعَیْشِ» لا تفكّرون إلا براحتكم ورغد عیشكم، «وَادِعُونَ» متّكئون مستریحون «فَاكِهُونَ» مشتغلون بالمرح والمزاح والفكاهة «آمِنُونَ» لا تشعرون بأیّ خطر.
لقد ملأت أخبار معارك علیّ (علیه السلام) أطراف العالم وأكنافه فهی لیست ممّا یتطلّب شرحاً وتوضیحاً؛ لكن بما أنّ الزهراء (سلام الله علیها) قد أشارت إلیها فی خطبتها فإنّنی أقول على نحو الإجمال إنّ علیّاً قد اُصیب، فی حرب اُحد فقط، بثمانین جرحاً ما بین ضربة سیف وطعنة رمح، حتّى قالت النسوة اللواتی ضمّدنَ جراحه: كنّا نُدخل خرقة الضماد من طرف الجرح ونخرجها من الطرف الآخر فلا یبدی علیّ أیّ ألم بتاتاً. فأیّ صبر هو صبر علیّ! فالنبیّ كان قد سقط على أرض المعركة جریحاً ینادی الأصحاب بأسمائهم فرداً فرداً إنّنی هاهنا وأطلب منكم أن تهبّوا لنجدتی! لكنّهم كانوا یفرّون من المعركة ناجین بأرواحهم! وقد أشار القرآن الكریم إلى هذه الواقعة بقوله: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ یَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ»3؛ فلقد لذتم بالفرار والرسول خلفكم ینادیكم وهو ساقط على الأرض. ففی تلك الواقعة لم یهبّ لنصرة رسول الله (صلّى الله علیه وآله) غیر علیّ (علیه السلام) وقد تكبّد من أجل إنقاذه ثمانین ضربة وطعنة.
أمّا أنتم فلیس أنّكم لم تفعلوا شیئاً فحسب، بل كنتم «تَتَرَبَّصُونَ بِنَا الدَّوَائِرَ»؛ أی تنتظرون أن ینزل بنا البلاء، ویحلّ بنا ما یضرّنا. «وَتَتَوَكَّفُونَ الأَخْبَارَ»، و«توكَّفَ الخبر» توقَّعه وسأل عنه، وهی حالة مَن هرب من واقعة واختبأ وظلّ یراقب من بعید إلى ماذا ستؤول الامور. فالزهراء (علیها السلام) تقول: كنتم تتوكّفون الخبر من بعید وعلیّ ساقط على الأرض وفی بدنه ثمانون ضربة سیف وطعنة رمح. «وَتَنْكِصُونَ عِنْدَ النِّزَالِ، وَتَفِرُّونَ عِنْدَ الْقِتَال»؛ فعندما یتعیّن علیكم التقدّم تنكصون على أعقابكم، وعندما تُدعَون إلى القتال والحرب تفرّون منها. فهكذا كان حالكم وهكذا كان وضع النبیّ وابن عمیّ! حتّى نصر الله الإسلام فی نهایة المطاف وأنقذكم.
من أجل أن نفهم ولو مقداراً معیّناً من هذا الكلام لابدّ أن نحاول تجسیم المشهد الذی اُلقیت فیه هذه الخطبة بشكل جیّد. كان قد مرّ على رحیل النبیّ الكریم (صلّى الله علیه وآله) ما یناهز الشهرین عندما جاءت فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) إلى المسجد لإلقاء خطبتها، حیث كان الناس لا یزالون مفجوعین بفقد النبیّ الذی منحهم هذه العزّة والسعادة. لم یترك النبیّ غیر هذه البنت وهی قد أخبرت الناس بأنّها ترید أن تخطب فیهم، فاجتمعوا لیستمعوا إلى ما ترید قوله. فما الذی ینبغی قوله فی ظروف من هذا القبیل؟ فلو كانت الظروف طبیعیّة، لكانت – جریاً على القاعدة – قد ذكرت أباها، وعزّت القوم بهذا المصاب الجلل وسألت الله لها ولهم الأجر وقدّمت لهم النصح. لكنّها قالت: «لقد كان أبی وزوجی یقاتلان لإنقاذكم، وأنتم تفرّون من میدان النزال وتهنأون بنوم مریح»! بالطبع لم یكن هذا هو حال الجمیع، فقد كان من بینهم مَن قاتل؛ لكن من الواضح أنّ حال أغلب المخاطبین كان هو ما أخبرتهم به. فعندما كانت تنعتهم بكلّ هذه النعوت لم ینبَرِ أحد منهم بالاعتراض والقول: «لماذا توجّهین إلینا هذه الإهانات؟ فكم قد تحمّلنا من العناء وحاربنا وجاهدنا مع أبیك ونصرناه، و...الخ» بل كان الجمیع یلتزمون الصمت مصغین لما تقول. فلم یرْوِ راوٍ أنّ شخصاً من الحاضرین قد اعترض علیها؛ بل لقد ورد فی بعض النقول أنّ المتصدّین للأمر قالوا لها: «صحیح ما تقولین، لكنّنا كنّا معذورین فیما فعلنا»! فإذا قام المرء بتجسیم هذا المشهد أمام ناظریه بدقّة فسیتبیّن له أنّ هدف الزهراء (سلام الله علیها) من إلقاء هذه الخطبة لم یكن فدكاً أو حفنةً من مال الدنیا.
بطبیعة الحال نحن نعتقد بأكثر من ذلك؛ نعتقد بأنّ المعصومین (صلوات الله علیهم أجمعین) مطّلعون – بشكل أو بآخر – على عواقبهم، لاسیّما وأنّ النبیّ كان قد أخبر فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) أنّه: «أنتِ أوّل من یلحق بی من أهلی»4. فقد كانت (علیها السلام) تعلم أنّ عمرها لن یدوم طویلاً بعد أبیها. فهل من المعقول - یا ترى - أن تسعى وراء الحصول على مال أو لقمة عیش وهی تعلم أنّه لم یبق من عمرها فی هذه الدنیا سوى أیّام معدودات، وبدنها علیل قد أنهكه المرض، وقد رُضّ صدرها ولُطم خدّها وألمُ فراق أبیها یعتصر قلبها؟! إذن فما الغایة التی دفعت الزهراء (سلام الله علیها) - وهی على هذا الحال - إلى مخاطبة أصحاب أبیها - وفیهم الكثیر من بنی هاشم وقریش وأرحامها - بمثل هذه العبارات القاسیة؟ لماذا تذكر خدمات أبیها وبعلها بكلّ تلك التفاصیل؟ فمن الواضح أنّ المسألة لا تقتصر على مزرعة اغتُصبت منها وترید استرجاعها. فهل یُعقل أن یقوم مَن قال له رسول الله (صلّى الله علیه وآله): «أنتِ أوّل من یلحق بی من أهلی» بتحمیل نفسه كلّ هذه المعاناة من أجل المطالبة بمزرعة؟! ثانیاً: هل إنّ استرداد المزرعة یتطلّب توبیخ الناس بهذه الطریقة؟! فلعلّه توجد هناك طریقة أسهل من هذه بكثیر؛ إذ كان بإمكانها (علیها السلام) أن تقول: «أنا بنت رسول الله. إذن احترموا رسول الله فیّ ولا تقطعوا لقمة عیشی»! فلعلّها لو تحدّثت بهذا الاسلوب لما أمعنوا فی مخالفتها؛ بل كان سینضمّ إلى جانبها بعض المسلمین على الأقلّ قائلین: «إنّ هذا لیس شیئاً یُذكر. فلو كان من أموالنا لكُنّا تنازلنا عنه أیضاً». لكنّ استخدامها (علیها السلام) للغة التوبیخ یوحی - بما لا یقبل الشكّ - بأنّ هذه الواقعة لم تكن لمجرّد استرداد مزرعة، بل لقد كانت من أجل قضیّة اخرى.
كانت فاطمة الزهراء (علیها السلام) تشاهد مسیرة رسالة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وهدایته وهی تزیغ عن مسیرها الأصلیّ وأنّ السبیل التی هیّئها الله تعالى بواسطة نبیّه الكریم من أجل سعادة البشر هی على وشك الانحراف. فخشیةُ فاطمة وقلقُها كانا من هذا الانحراف. لكنّه - ومن أجل أن تُثبتَ للجمیع، فی هذه البرهة القصیرة من الزمن، بأنّ الحقّ معها وأنّ الطریق التی سلكها الآخرون هی طریق خاطئة – كان لابدّ أن تفعل فعلةً یبقى خبرها یدوّی إلى أبد الآبدین. كان ینبغی أن تثبت أنّ علیّاً (علیه السلام) هو المؤهّل لخلافة النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) وأنّ الآخرین لا یملكون مثل هذه الصلاحیّة. ومن هذا المنطلق فقد طرحت قضیّة فدك لتبرهن للناس أنّ هؤلاء غیر مؤهّلین للقضاء والحكم من ناحیة، ولیس لهم معرفة بالقرآن والمسائل الشرعیّة من ناحیة اخرى، ولیس لهم تاریخ مشرّف فی عهد النبیّ وفی سوح النزال والوغى.
لم یذكر أیّ من التواریخ أنّ أحداً من اولئك الزعماء المعروفین فی ذلك الزمن كان قد أبدى بعضاً من الشجاعة أو قتل مشركاً أو جرحه. فلم یروِ راوٍ قطّ أنّ أحداً من هؤلاء قد ضرب بسیف فی معركة اُحد! فهذا التاریخ وهذه المعلومات تثبت أنّ هؤلاء لیسوا جدیرین بهذا المنصب؛ إذ لابدّ لمن یخلف رسول الله أن تكون له القدرة على تطبیق أحكامه (صلّى الله علیه وآله). إذن كان یتعیّن على فاطمة (سلام الله علیها) أن تقدّم دلیلاً عملیّاً على أنّ هؤلاء لا یملكون صلاحیّة تطبیق هذه الأحكام؛ ذلك أنّهم لا یحیطون علماً بها.
ألیس أفراد هذا البیت هم اولئك الذین صاموا ثلاثة أیّام وتصدّقوا فی كلّ یوم بخبز إفطارهم وقدّموه إلى یتیم وفقیر وأسیر واكتفوا بالإفطار على الماء؟ هل یحرص أمثال هؤلاء على إشباع بطون أطفالهم؟ إذن لم یكن كلّ ذلك إلا مقدّمة لتنبیه الناس إلى الخطأ الذی ارتكبوه وإفهامهم بأنّه حتّى لو فرضنا جدلاً بأنّه كان لابدّ من انتخاب أحد فإنّه یتعیّن أن یكون الانتخاب على اُسس ومعاییر صحیحة. ومن هذا المنطلق فقد استهلّت (علیها السلام) كلامها بطریقة تستمیل بها عواطف الناس من جهة، وتستنهض فیهم الإحساس بالمسؤولیّة من جهة اخرى. فقد روعِیَت فی هذه الخطبة امور نفسیّة وروحیّة بالغة الدقّة بحیث كانت الغایة منها إعداد الناس لقبول الحقّ، لتكون مقدّمة لرسم النهج القویم للنبوّة والرسالة وتقدیم المعاییر الصحیحة للحاكم الإسلامیّ الذی یفترض أن یستمرّ فی مسیرة النبیّ (صلّى الله علیه وآله)، ولم تشكّل مسألة فدك وأمثالها سوى ذریعة لطرح أمثال هذه المسائل.
بتوفیق من الله تعالى سنستمرّ فی المحاضرات القادمة - إن شاء الله - بسرد تتمّة الخطبة الشریفة كی ننتفع أكثر من بركاتها.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. بحار الأنوار، ج39، ص313.
2. بحار الأنوار، ج21، ص385.
3. سورة آل عمران، الآیة 153.
4. بحار الأنوار، ج28، ص52.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 12 كانون الثانی 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
وصلنا فی سردنا للخطبة المباركة لسیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) إلى المقطع الذی توجّه فیه (علیها السلام) خطابها إلى الحاضرین فی المسجد مذكّرة إیّاهم بالخدمات الجلیلة الجمّة التی قدّمها رسول الله (صلّى الله علیه وآله) إلیهم قائلة لهم: «إنّ الشخص الذی جاهد - طیلة هذه المدّة - أكثر من غیره من أجل رقیّ الإسلام وفی سبیل الدفاع عن المسلمین ومقارعة المشركین كان علیّ ابن أبی طالب (علیه السلام)». وهنا تستخدم الزهراء (علیها السلام) تعابیر هی غایة فی الروعة والبلاغة قد أشرتُ إلیها فی المحاضرة السابقة.
تشیر الزهراء (سلام الله علیها) استطراداً فی كلامها إلى وفاة النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) مبیّنة الحوادث التی تلت رحیله. ومن هنا فصاعداً یزداد لحن خطابها (علیها السلام) حدّةً للحاضرین شیئاً فشیئاً.
لقد ذكرت كتب التاریخ كافّة التفاصیل المتعلّقة بتلك الأحداث مع ذكر أسماء الأشخاص وأفعالهم وتأثیر ما اقترفوه فی ذلك الحین على مسیرة الاُمّة الإسلامیّة، مع أنّ فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) لم تنوّه باسم أحد.
وابتداءً من هذا المقطع یبدأ المبحث الأساسیّ لهذه الخطبة المباركة. ویمكن تناول هذا القسم من الخطبة من عدّة جوانب: الجانب الأوّل هو الجانب الأدبیّ الذی یهتمّ بشرح التعابیر والكلمات. والجانب الثانی الذی یتمّ التطرّق فیه إلى المباحث التاریخیّة للخطبة والتعرّف بشكل دقیق على مجریات الأحداث المشار إلیها فیها. أمّا الجانب الثالث فهو التمعّن فی الغایة الأساسیّة من الخطبة، ألا وهی هدایة الناس والوقوف بوجه الانحراف الذی كان على وشك الوقوع بل كان قد وقع فعلاً. أمّا محور هذا البحث فهو خلافة الرسول الأعظم (صلّى الله علیه وآله) وهو بحث كلامیّ – عقائدیّ. وعلى الرغم من أنّنی لست عدیم الاطّلاع على هذا المبحث غیر أنّ الطابع الغالب على بحوثنا هو الطابع الأخلاقیّ؛ بمعنى أنّ الهدف الذی نرمی إلیه من هذه السلسلة من المحاضرات هو محاولة التفتیش عن قدوة سلوكیّة نقتدی بها فی حیاتنا. ولا أعنی بهذا الكلام - بالطبع - أنّ التطرّق إلى تلك الموضوعات غیر ضروریّ؛ بل هی مواضیع ضروریّة جدّاً ولقد صنّف عظماؤنا وعلماؤنا على مدى أكثر من ألف عام مئات الكتب والكتیّبات فی هذا المجال أحدها هو كتاب «الغدیر». لكنّ ما یستأثر باهتمامنا هنا هو السعی – عبر التمعّن فی تلك المباحث – إلى اكتساب البصیرة فی دیننا لنستعین بذلك على تفسیر حوادث زماننا وتحدید تكلیفنا فی هذا العصر؛ ذلك أنّ هذه الأحداث تشبه تلك، والتاریخ یعید نفسه كما یقال. وحتّى القرآن الكریم فهو یهتمّ بهذا المعنى أیضاً، وهو – من هذا المنطلق – یكرّر سرد تاریخ الأقوام الماضیه، لاسیّما تاریخ بنی إسرائیل، مرّات عدیدة.
إنّ البركات التی حظیت بها الاُمّة الإسلامیّة خلال العقود القلیلة الماضیة، والتی كان من أبرزها انتصار الثورة الإسلامیّة فی إیران، هی بفضل الدروس المستلهمة من التاریخ وببركة مراسم عزاء سیّد الشهداء (علیه السلام) وإحیاء تاریخ كربلاء. فلقد عرفنا الواجب الملقى على عواتقنا فی هذا الزمان، وما الذی ینبغی فعله كی لا نقع فی الفخّ الذی وقع فیه أهل الكوفة فی ذلك العصر. فإنّ عدم إحیائنا لهذه الوقائع والأحداث كان سیترك المجال لغبار التاریخ لیتراكم على وجهها تدریجیّاً فیعمد بعض المرتزقة من كُتّاب التاریخ إلى كتابته كما یحلو لهم ممّا سیؤدّی إلى انحرافنا عن الصراط السویّ. فممّا یدعو إلى الدهشة والعجب أنّه ثمّة أسماء لامعة من العلماء الكبار قد زلّوا فی هذا المضمار وانحرفوا. فهذا الغزالیّ، الذی یُعدّ من كبار ومشاهیر علماء الإسلام وهو صاحب الكتاب المفید والغنیّ فی محتواه «إحیاء علوم الدین»، لكنّه عندما یعرّج على واقعة كربلاء فإنّه یرتكب خطأ فادحاً لا یصدَّق؛ فبعد أن یبدی احترامه لسیّد الشهداء (علیه السلام) یقول ما مضمونه: «لیس لنا أن نلعن یزیداً لاحتمال كونه قد تاب»! ألا یحتمل مثل هذا الاحتمال بالنسبة لكلّ مجرم وظالم؟!
إذن نحن فی صدد استلهام الدروس والعبر من التاریخ وأحداث صدر الإسلام للإفادة منها فیما سیحدث فی المستقبل؛ فنحن نعلم أنّ هذه الأحداث تتكرّر من حیث الماهیّة وإنْ تغیّرت فی الألوان والتفاصیل وهی ستحدث إنْ عاجلاً أم آجلاً. فقد جاء فی الحدیث النبویّ الشریف فیما یخصّ تكرّر تاریخ بنی إسرائیل فی الاُمّة الإسلامیّة: «لو أنّ أحدهم دخل جحر ضبّ لدخلتموه»1. فاحتمال وقوع فتنة اُخرى هو احتمال قویّ جدّاً ووارد؛ ذلك أنّ الشیطان لا یزال حیّاً وهو لم یتراجع عن قسمه فی إبادة بنی آدم، ولیس فی نیّته الحنث بهذه الیمین. ومن جانب آخر فقد أصبح لدیه رصید ضخم من التجارب المتراكمة. فهو إن فَشِل فی هذه الفتنة ولم تجر الامور فیها كما یشتهی فسوف یعمد إلى دراسة مواطن الضعف وتحلیل مواضع الإشكال كی یتلافاها فی المرّة القادمة ویتوَّج مشروعه بالنجاح.
وحیث إنّ مرادنا من مطالعة هذه الخطبة هو الاستبصار من حوادث التاریخ، فإنّه لیس من الضروریّ ذكر الأسماء. فما یهمّنا هنا هو أن نفهم من لحن كلام سیّدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) ما هی الروح التی كان یمتلكها الناس وما هی الأجواء التی كانت مخیّمة على المجتمع فی ذلك العصر. فناهیك عن الشواهد التاریخیّة التی هی قیّمة بحدّ ذاتها، فإنّ المرء یستطیع أن یفهم من لحن هذا الكلام إلى أیّ درجة یمكن أن یتغیّر ابن آدم، وأیّ مخاطر تتربّص له فی مسیرة حیاته. فنحن غیر مصونین عن ذلك، بل من الممكن أن یأتی علینا یوم نرتكب فیه نفس هذه الأخطاء. إذن یتحتّم علینا التعرّف على جذور مثل هذه الأخطاء، فإن اكتشفنا أمثالها فی أنفسنا فإنّه یتحتّم أن نعمد إلى اقتلاعها فوراً. هذا هو مبتغانا الأساسیّ من تحلیل هذه الخطبة.
ذكرنا أنّنا وصلنا فی شرح الخطبة الشریفة إلى سرد الزهراء (علیها السلام) لوقائع ما بعد رحیل النبیّ الكریم (صلّى الله علیه وآله)، إذ تقول (سلام الله علیها): «فَلَمَّا اخْتَارَ اللهُ لِنَبِیِّهِ دَارَ أَنْبِیَائِهِ، وَمَأْوَى أَصْفِیَائِهِ، ظَهَرَ فِیكُمْ حَسِیكَةُ النِّفَاق»2. ولا ریب أنّها (علیها السلام) تقصد بهذا الكلام أشخاصاً بعینهم، لكن – كما قد أشرت سابقاً – لیس من الضروریّ هنا أن نعیّن المصادیق. تقول مولاتنا (سلام الله علیها): «عندما اختار الله عزّ وجلّ لنبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) دار أنبیائه ومأوى أصفیائه ورحل عن هذه الدنیا ظهرت فیكم شوكة النفاق، وبرزت منكم عروقه كما تبرز الشوكة»؛ وهی تعابیر عجیبة للغایة!
ثمّ تقول: «وَسَمَلَ جِلْبَابُ الدِّین»؛ والجلباب هو ما یُلبَس فوق الثیاب؛ أی قد كان للدین جلباب جدید لكنّه اندرس وصار بالیاً برحیل النبیّ (صلّى الله علیه وآله) عن الدنیا. «وَنَطَقَ كَاظِمُ الْغَاوِینَ، وَنَبَغَ خَامِلُ الأَقَلِّین الآفِلینَ»؛ فلقد كان فیكم ضالّون قد أخفوا ضلالهم ولم ینبسوا ببنت شفة عندما كان النبیّ (صلّى الله علیه وآله) على قید الحیاة، لكنّهم – عندما رحل النبیّ (صلّى الله علیه وآله) - انبروا بالكلام. ولم یكن هؤلاء سوى حفنة من الأذلّة الذین لا یُحسب لهم أیّ حساب. «وَهَدَرَ فَنِیقُ الْمُبْطِلِین»؛ والمبطلون هم الذین یتفوّهون بالكلام الفارغ أو الذین یتّصفون بالسلوك الخاطئ. تقول الزهراء (سلام الله علیها): «لقد كان لأهل الباطل فیكم زعیم لم یكن یتفوّه بكلمة فی حیاة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) لكنّه بمجرّد وفاة النبیّ فقد انبرى یهدُر ویعربد كالجمل السكران. تخیّلوا الأجواء! هذا الخطاب إنّما یوجَّه لاولئك الذین كانوا إلى فترة وجیزة یصلّون خلف النبیّ (صلّى الله علیه وآله) ویُعَدّون تلامذته وأصحابه!
«فَخَطَرَ فِی عَرَصَاتِكُم»؛ والفعل: «خَطَرَ» یقال لمن یُفْرِط فی إظهار السلطة. تقول الزهراء (سلام الله علیها): «هذا الرجل المجهول، العدیم الاعتبار، الذی هو من أهل النفاق والباطل صار یصول ویجول فی میدانكم بعد رحیل رسول الله (صلّى الله علیه وآله)». بالطبع هذا الكلام لا یعنی أنّهم جمیعاً كانوا هكذا، بل إنّ المقصود هو بعضهم. «وَأَطْلَعَ الشَّیْطَانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرَزِه»؛ فالشیطان الذی كان یختبئ فیما مضى فی مكمنه قد أخرج رأسه منه الآن عندما رأى ما أنتم علیه كی یمتحنكم ویرى إن كانت الأرضیّة مناسبة لممارسة نشاطه أم لا! «هَاتِفاً بِكُم»؛ منادیاً إیّاكم. «فَأَلْفَاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجِیبِین» ولاتّباعه مستعدّین. «وَلِلْغِرَّةِ فِیهِ مُلاحِظِین»؛ فبمجرّد أن ناداكم أدرتم عیونكم ذات الیمین وذات الشمال مفتّشین عن المنادی ومتسائلین عمّا یقول. «ثُمَّ اسْتَنْهَضَكُمْ» دعاكم إلى التحرّك والنهوض عندما توسّم فیكم الاستعداد «فَوَجَدَكُمْ خِفَافاً» مستعدّین للحركة «وَأَحْمَشَكُمْ فَأَلْفَاكُمْ غِضَاباً»؛ أحبّ أن یرى إلى أیّ مدى یمكنه أن یحرّضكم؛ ففعل ما یثیر فیكم بعض المشاعر. أی أحبّ أن یرى هل ستغضبون لمجرّد إثارته إیّاكم، وتضعون عقولكم جانباً وتتّبعون أحاسیسكم؟ فأیّ تعابیر تلك التی ساقتها الزهراء (علیها السلام) لتفهّمهم سوء الحال الذی هم علیه.
ثمّ تقول (علیها السلام): «فَوَسَمْتُمْ غَیْرَ إِبِلِكُم» فأنتم بدلاً من أن تَسِموا إبلكم (حیث كانت عادة العرب أن تَسِم كلّ قبیلة إبلها بأن تكویها بعلامة خاصّة كی تمیّزها عن إبل غیرها من القبائل) فقد وَسَمتم إبل غیركم، «وَأَوْرَدْتُمْ غَیْرَ شِرْبِكُم»؛ أی عندما استثاركم الشیطان واستنهضكم قمتم بإرواء إبلكم من غیر المشرب المخصّص لها» وقد كان لكلّ قبیلة مكان خاصّ تشرب منه قطعانها الماء. فذلك هو ما أبدیتم من ردود أفعال فی غیر محلّها فی مقابل الشیطان. «هَذَا وَالْعَهْدُ قَرِیب» فلم یكن ردّ فعل كهذا متوَقَّعاً منكم؛ إذ لم یمض على وفاة الرسول (صلّى الله علیه وآله) زمن طویل. فلازال العهد الذی قطعتموه مع النبیّ (صلّى الله علیه وآله) جدیداً ولم تمض على واقعة الغدیر أكثر من سبعین یوماً ونیّف! «وَالْكَلْمُ رَحِیبٌ، وَالْجُرْحُ» الذی أصابنا برحیل النبیّ «لَمَّا یَنْدَمِل» لم یلتئم بعدُ، «وَالرَّسُولُ لَمَّا یُقْبَر»، فقد خدعكم الشیطان وأثاركم فأصغیتم لما یقول والنبیّ (صلّى الله علیه وآله) لم یُدفَن بعد.
لقد وردت فی التاریخ فی هذا الباب قصص لن أتناول تفاصیلها. لكنّ مجمل ما حدث والذی نقله كلّ المؤرّخین تقریباً هو أنّه بعد رحیل النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وبینما كان علیّ (علیه السلام) منشغلاً بتغسیل جنازته وتجهیزه اجتمع حشد من الأنصار من قبیلة الخزرج فی سقیفة بنی ساعدة كی یجعلوا خلافة النبیّ فی قبیلتهم. فعندما علمَتْ قبیلة الأوس بهذا الخبر أقبلوا إلى السقیفة أیضاً، ثمّ وصل الخبر إلى المهاجرین والتحق نفر منهم بجمع الأنصار، حتّى بلغ الأمر حدّ التضارب والعراك واستُلَّت السیوف، وكانت النتیجة هی غلبة المهاجرین ومبایعة الأنصار لهم لِما كان بین قبیلتی الأوس والخزرج من تنافس وخلاف فلم تذعن أیّ واحدة منهما للاخرى. ما نودّ أن نعرفه هنا أنّه لماذا وصل الأمر بأصحاب النبیّ إلى نسیان المیثاق الذی قطعوه على أنفسهم معه (صلّى الله علیه وآله)؟! وهل من الممكن - یا ترى - أن نتعرّض نحن الیوم إلى حادثة مشابهة؟
تقول سیّدتنا الزهراء (علیها السلام) تعلیلاً لما جرى: «ابْتِدَاراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَة»؛ أی إنّ التبریر الذی سقتموه لفعلتكم العجولة هذه هو: «لقد خشینا اشتعال الفتنة بین المسلمین بعد رحیل النبیّ فهرعنا إلى تعیین خلیفة له تجنّباً للفتنة»! وهنا تقتبس (سلام الله علیها) آیة قرآنیّة عمیقة المغزى للغایة فتقول: «أَلا فِی الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَةٌ بِالْكافِرِین»3؛ وهذه الآیة تتناول قضیّة بعض المنافقین ممّن اتّخذوا الفرار من الفتنة ذریعةً لأفعالهم، فكان جواب الله عزّ وجلّ لهم: «إنّكم أنتم الذین سقطتم فی الفتنة». إذن فاطمة (علیها السلام) تقول لهم فی مقطع سابق: «ظَهَرَ فِیكُمْ حَسِیكَةُ النِّفَاق»، ثمّ تقول لهم الآن: «إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَةٌ بِالْكافِرِین».
وهنا لابدّ أن نعلم بأنّ الكفر لا یعنی دائماً إنكار وجود الله وإنكار نبوّة النبیّ، فقد استُخدم مصطلح الكفر فی القرآن الكریم بمعانی مختلفة. وقد جاء فی الخبر أیضاً أنّ للكفر خمسة أنواع. فهناك تعدّد فی معنى «الكفر» بحسب بُعدِه الفقهیّ، أو الكلامیّ، أو الأخلاقیّ. فمن مصادیق الكافر هو ذلك الذی ینكر كلّ ضروریّات الإسلام أو بعضها. وهذا الكفر هو الذی یكون فی مقابل الإسلام. لكنّ الذی نطق بالشهادتین وأقرّ بأنّ كلّ ما جاء به نبیّ الإسلام (صلّى الله علیه وآله) وما قاله هو حقّ فهو مسلم تنطبق علیه جمیع أحكام الإسلام. فالإسلام الظاهریّ یتمثّل بالنطق بالشهادتین والتسلیم للحكومة الإسلامیّة. لكن من الممكن أن یكون لبعضهم هذا النوع من الإسلام وفی الوقت ذاته ینطبق علیهم قوله تعالى: «وَلَمَّا یَدْخُلِ الإِیمَانُ فِی قُلُوبِكُم»4. فهذا الكفر هو فی مقابل الإیمان ولیس فی مقابل الإسلام. فالشخص الذی یسلّم بجمیع ضروریّات الإسلام ثمّ ینكر حكماً من أحكام الإسلام مع علمه بأنّ الله هو الذی شرعّ هذا الحكم، فهو مسلم بالمعنى الأوّل ولا یقدح ذلك بطهارته، لكنّ اعتقاده هذا یمثّل كفراً فی مقابل الإیمان، حتّى وإن أضمر هذا الاعتقاد فی قلبه ولم یظهره على لسانه؛ فالله جلّ وعلا یقول فی حقّ هؤلاء: «أُوْلـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً»5. وإنّ أثر هذا الكفر یظهر فی الآخرة لا فی الدنیا. فنصاب الإیمان الذی من شأنه أن ینجی من عذاب الآخرة هو القبول بكلّ ما أنزله الله تبارك وتعالى، وإنّ إنكار بعضٍ منه هو بمثابة إنكار جمیعه: «وَیَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ... * أُوْلـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً»6. إذن فصریح القرآن الكریم یقول: «إذا قال أحدهم: إنّنی أقبل بعض الإسلام ولا أقبل بعضه الآخر، فهو كافر»؛ وذلك لأنّ المناط فیما قبلناه وآمنّا به هو أنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) قد جاء به عن الله سبحانه وتعالى ولـمّا كان هذا المناط متوفّراً فی كلّ ما أنزله الله تعالى، فإنّ إنكار المرء لأمر من هذه الاُمور یدلّ على أنّ قبوله ببقیّة الاُمور إنّما هو نابع من اتّباعه لهوى نفسه. ومن هذا المنطلق یقول القرآن الكریم: «أُوْلـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً». فهذا الكفر هو غیر الكفر الذی یكون فی مقابل الإسلام، فهو فی مقابل الإیمان، وهذا الإیمان هو الذی یقود إلى النجاة فی الآخرة. وللأسف فإنّه یحصل الخلط أحیاناً بین هذین المصطلحین، وهما یمثّلان معنیَین من خمسة معانی ذكرَتها الروایات للكفر.
ترید فاطمة الزهراء (علیها السلام) أن تُحدث - عبر هذا الكلام - هِزّةً فی نفوس الناس كی یلتفتوا إلى أعماق قلوبهم فیسألوا أنفسهم: هل إنّهم یقرّون بكلّ ما قاله الله وما یعلمون بأنّ الله قد قاله، أم أنّ هناك بعضاً ممّا یعلمون أنّ الله قد قاله لكنّهم لا یرغبون بالقبول به، ولیعلموا بأنّهم إن كانت هذه حقیقتهم فإنّهم كافرون فی واقع الأمر.
أعاذنا الله وإیّاكم
1. بحار الأنوار، ج21، ص257.
2. بحار الأنوار، ج29، ص225.
3. سورة التوبة، الآیة 49.
4. سورة الحجرات، الآیة 14.
5. سورة النساء، الآیة 151.
6. سورة النساء، الآیتان 150 و 151.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 19 كانون الثانی 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
إنّ من الطرق التربویّة التی ینتهجها القرآن الكریم هو لفت انتباه الناس إلى قصص الماضین، وإلى ملاحظات معیّنة فی كلّ قصّة منها، وإنّ من جملة الأهداف المتوخّاة من طرح خطبة الزهراء (سلام الله علیها) هو التأسّی بهذه الطریقة القرآنیّة. علاوة على ذلك فإنّ بإمكاننا - بالنظر إلى تأكیدات قائد الثورة المعظّم (حفظه الله) المتكرّرة بخصوص كسب البصیرة – الإفادة من هذه الخطبة فی مجال التحلّی بالبصیرة.
لا زالت هناك إبهامات لدى البعض حول حقیقة البصیرة وطرق اكتسابها. وأقول هنا من باب المقدّمة: إنّ المقصود من التحلّی بالبصیرة هو أوّلاً: أن لا ینظر الإنسان إلى الظواهر التاریخیّة والاجتماعیّة نظرة سطحیّة، بل أن یفكّر وینظر إلى أعماق هذه الظواهر وما تخبّئه خلف الكوالیس. ثانیاً: أن لا یكتفی بنتائجها المحدودة والعابرة، بل أن یتأمّل فی هذه الحوادث لیتنبّأ بما ستؤول إلیه من عواقب فیما إذا استمرّت. فهاتان الخصیصتان تمیّزان الإنسان المتبصّر. بطبیعة الحال إنّ التوصیة بالتمعّن فی الامور والتفكیر بعواقبها هی توصیة عامّة وكلّیة، إذ یبقى السؤال مطروحاً وهو: ما الذی یتعیّن علینا فعله كی نكون من الذین یفكّرون بأعماق الحوادث وبعواقب الاُمور؟ إنّ من أفضل السبل لاكتساب البصیرة هی مطالعة ما مضى من حوادث التاریخ وإمعان النظر فی سلوكِ مختلفِ الأشخاص فی ذلك الزمن وكیفیّة تعاملهم مع الأحداث؛ فمَن من هؤلاء كان قد تعامل مع الأحداث بسطحیّة وما كانت نتیجة سطحیّته هذه؟ ومَنْ مِنْهم قد أطال التأمّل فیها وفكّر بعواقبها وما كان مآل أمره نتیجة هذه الرؤیة المتعمّقة؟
إنّ من العنایات الإلهیّة التی شملت شعبنا، والتی لم یحظَ، ولا یحظى، ولن یحظى قوم فی العالم بهذا المقدار منها هی التوفیق للإفادة من واقعة عاشوراء. فإنّ قول الإمام الخمینیّ (رحمة الله علیه): «إنّ كلّ ما لدینا هو من محرّمَ وصَفَر» لم یكن مجرّد شعار جافّ غیر مدروس، بل إنّه (رحمه الله) قد قال قوله هذا عن نظرة واقعیّة وعن تحقیق. إنّ سبب إفادتنا من حادثة عاشوراء یرجع إلى أنّنا - طیلة ألف وأربعمائة عام - طالما مررنا من أمام هذه الحادثة وأطلنا التفكیر فیها. إنّنا قد أحیینا هذه الحادثة وأكثرنا من الدراسة والتمحیص فی سلوك مختلف شخصیّاتها ونتائج أعمالهم. ولقد كان انتصار الثورة الإسلامیّة أحد أضخم معطیات هذا التفكّر المتعمّق.
لكن من الأحداث التی لم نُعمِل فیها – مع شدید الأسف – ما یلزم من التأمّل والتعمّق هی قصّة مولاتنا فاطمة الزهراء (علیها السلام). لقد استمرّ عمرها الشریف (سلام الله علیها) بعد رحیل أبیها ما یقارب ثلاثة أشهر، وقد حدثت فی هذه الفترة القصیرة أحداث ضخمة. كان اُسلوب تعاطی فاطمة الزهراء (علیها السلام) خلال هذه المدّة مع مختلف الاُمور اُسلوباً خاصّاً یختلف عن أسالیب الآخرین. لكنّنا لم نتوخّ الدقّة فی دراسة هذا الأمر ولم نسأل أنفسنا: لماذا انتهجت فاطمة (علیها السلام) هذا الاُسلوب فی التعاطی مع الحدث، ولماذا كان موقفها تجاه تلك الأحداث یختلف عن مواقف الآخرین؟ أمّا بعض المؤرّخین فقد تعاطى مع هذه المسألة بقصور نظر شدید فزعم بتوهّمٍ هو غایةٌ فی السذاجة: «لم تكن هذه المسألة ذات أهمّیة تُذكر، فهی لم تَعْدُ كونها خلافاً على مزرعة أرادت الحكومة الإسلامیّة فی حینها إنفاقها على مصالح الدولة الإسلامیّة، لكنّ أهل بیت النبیّ (صلّى الله علیه وآله) اعترضوا بالقول: كلاّ، لقد وهب النبیّ هذه المزرعة لنا ونحن من یجب أن ینتفع منها»! إنّ تفسیر هذه الواقعة بهذه الصورة یُعدّ – فی نظری – أشدّ ظلم یمكن أن یقع على السیّدة الزهراء (سلام الله علیها)؛ ذلك أنّ تفسیراً كهذا یصوّر أنّها (علیها السلام) قد أثارت بین المسلمین خلافات ومجاذبات لیس لسببٍ سوى السعی وراء مال الدنیا! إذن فإنّ من جملة ما یقع على عواتقنا نحن طلبة العلوم الدینیّة هو أن نطیل التفكیر ونُمعِن النظر فی مثل هذه المسائل وأن لا نمرّ من أمامها مرور الكرام أو مروراً ینمّ عن سذاجة وسطحیّة. ومن هذا المنطلق قمنا بطرح الخطبة الفدكیّة لسیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) كی نولیها بعض البحث والتحقیق وننظر ما هو العامل الأساسیّ الذی یقف وراء تلك الواقعة.
وصلنا فی مطالعتنا للخطبة المباركة إلى حیث خاطبت الزهراء (سلام الله علیها) الحضور فی المسجد بلحن حادّ قائلةً: «لقد اُصبتم بالغفلة والرسول لـمّا یُقبَر. فلقد أطلَع الشیطان رأسه من وكره لینظر ما أنتم علیه من حال ویرى إن كانت الظروف مواتیة لإضلالكم أم لا؟ فرأى أنّ الأرضیّة مُعَدّة تماماً وأنّكم قابلون للانجراف بكلّ سهولة إلى حیث یحبّ، فقرّر أن ینفّذ خطّته عن طریقكم. لقد وسوس لكم الشیطان فتصوّرتم أنّ علیكم – من أجل نزع فتیل الفتنة بین المسلمین – الاستعجال فی تعیین خلیفة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) قبل أن یُدفن! غیر ملتفتین إلى أنّ عملكم هذا هو عین إشعال الفتنة، «أَلا فِی الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحیطَةٌ بِالْكَافِرِینَ»1.
نفهم من هذه التعابیر أنّه كان لفاطمة الزهراء (علیها السلام) رؤیة تختلف كلّ الاختلاف عن رؤیة سائر المسلمین فی عصر صدر الإسلام ومعظم المسلمین فی عصرنا الحاضر. فما حصل هو أنّ مسلمی صدر الإسلام، وبذریعة منع حصول الاضطراب والاختلاف فی الاُمّة الإسلامیّة، كانوا قد اجتمعوا ونصّبوا خلیفة لرسول الله (صلّى الله علیه وآله). إذ لم یكن هؤلاء یرون فی خلافة النبیّ أكثر من الرئاسة والحكومة، ولم یكن یدور فی عقولهم سوى أنّه: «قد كان لدینا رئیس وقد رحل عن هذه الدنیا، وعلینا الآن السعی لتعیین رئیس من طائفتنا وقبیلتنا»! كانت هذه مجرّد رؤیة سطحیّة. أمّا رؤیة مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) فقد كانت تختلف كلّ الاختلاف عن هذه النظرة السطحیّة الساذجة.
وفقاً لظاهر الأمر فإنّ فكرة أن یكون الرئیس والحاكم منّا لیست ممّا یجرّ إلى الكفر. فبعیداً عن التشبیه، فإنّه إذا مات رئیس جمهوریّة وانبرى أحد الأحزاب أو إحدى الفئات بالقول: «نحن مَن یعیّن رئیس الجمهوریّة»، فلن یتّهمهم أحد بالكفر! كلّ ما فی الأمر أنّ الناس سیصفونهم بأنّهم طلاب دنیا وهو إشكال أخلاقیّ لیس غیر. لكنّ الزهراء (علیها السلام) تقول فی القوم: «إنّ السبیل التی تسلكونها سوف تؤدّی بكم إلى الكفر، بل إنّ جهنّم محیطة بكم الآن»! إذن هناك بون شاسع بین هذه الرؤیة وبین النظرة السطحیّة التی كانت لسائر المسلمین حینذاك.
ثمّ تواصل الزهراء (سلام الله علیها) خطبتها بلحن أكثر حدّة فتقول: «فَهَیْهَاتَ مِنْكُمْ وَكَیْفَ بِكُمْ وَأَنَّى تُؤْفَكُونَ»؛ وكأنّها تصیح فی الناس بأعلى صوتها: «أیّها الناس! إلى أین یأخذونكم؟! فهذا الطریق ینتهی إلى جهنّم»! فبعد بضعة أیّام من وفاة الرسول (صلّى الله علیه وآله) لیس أكثر تأتی ابنة الرسول، تلك المرأة التی لم تكن قبل ذلك الحین ممّن یخطب فی الرجال، لتخطب فی الناس منادیة فیهم: «أَنَّى تُؤْفَكُونَ وَكِتَابُ اللهِ بَیْنَ أَظْهُرِكُم»؛ هل تعون أیّ طریق یسلكون بكم؟! إنّهم یفرّقون بینكم وبین الحقّ، والقرآن فی أیدیكم»! فلم یكن هؤلاء یتصوّرون بأنّ علیهم الاستناد إلى كلام الله فی أمرهم هذا. فهل یفكّر أحد فی زماننا یا ترى بأنّ علیه من أجل تعیین رئیس للجمهوریّة أن یرجع إلى القرآن فینظر ما الذی یقوله فی هذا الصدد؟! فالناس فی صدر الإسلام قد تعاطوا مع الخلافة بهذه الصورة، فكانت كلّ طائفة من طوائف المسلمین فی ذلك الزمن تحاول أن تجرّ النار إلى قرصها وتجعل زعیم الاُمّة المعیَّن من رجالها. لكنّ فئة مكوّنة من بضعة أشخاص وقفت فی وجه هذا التحرّك ولم توافق علیه. والمراد من كلامنا هذا هو تحلیل كیفیّة تعامل مختلف الأشخاص مع مجریات الأحداث.
تنادی الزهراء (سلام الله علیها) بأعلى صوتها: «عیلكم بالقرآن الكریم، فانظروا ماذا یقول». إذن فرؤیة فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) كانت تتلخّص فی أنّه قد تمّ التفكیر بمرحلة ما بعد وفاة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) والإعداد لها قبل وفاته بسبعین یوماً؛ لیس من قِبل الناس، بل إنّ الله هو الذی قد بتّ فی هذه المسألة بقوله تعالى: «یَا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَیْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ»2. فكأنّ القوم كانوا قد نسوا أنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله)، قبل سبعین یوماً فقط، قد جمع الناس وسط الصحراء فی منتصف الظهیرة فی جوّ لاهب فأخذ منهم البیعة لأمیر المؤمنین علیٍّ (علیه السلام). والعجیب أنّ التاریخ لم ینقل أنّ أحداً من الحضور قد ذكر كلام النبیّ (صلّى الله علیه وآله). فعندما تكون الأرضیّة مُعدّة للشیطان فإنّه یجرّ الناس إلى الغفلة عن أصل الموضوع بهذه الكیفیّة. وهذا بالضبط ما حصل أیضاً فی أحداث فتنة عام 2009م. فقد ظنّ البعض أنّ القضیّة لا تعدو كونها اختلافاً بین مرشّحین، غافلِین عن ماهیّة الید التی كانت تحرّك تلك الأحداث من خلف الستار وما هی مآربها. فهؤلاء الذین اصیبوا بسطحیّة النظر وضیق الاُفق لم یتمعّنوا فی الأمر ولم یسألوا أنفسهم: لماذا التحامل على الإسلام فی الشعارات المرفوعة؟ وما الداعی إلى مهاجمة المشاركین فی عزاء سیّد الشهداء (علیه السلام)؟ ولماذا یُرفَع شعار «الجمهوریّة الإیرانیّة» بدلاً عن «الجمهوریّة الإسلامیّة»؟ ولماذا بادرت أمریكا بكلّ وَلَه وشغف إلى دعم هؤلاء؟ ولماذا تتعامل إسرائیل معهم بمنتهى الودّیة؟ وجواباً على هذه الأسئلة یقول هؤلاء السذّج: «هذه هی الانتخابات، فأمثال هذه الاُمور تحصل فی الانتخابات»! وعین هذه الرؤیة كانت سائدة فی صدر الإسلام أیضاً. فالبعض كان یقول: «لابدّ أن یكون خلیفة النبیّ من قبیلتنا»! والبعض الآخر یقول: «إنّ قبیلتنا أولى منكم بالخلافة»! أمّا المهاجرون فقد قالوا: «نحن أرحام النبیّ وإنّنا أولى بالخلافة من غیرنا»! وقد أماط أمیر المؤمنین علیّ ٌ(علیه السلام) اللثام عن هذا الانحراف فی الیوم الذی جاءوه لاقتیاده عنوةً لانتزاع البیعة منه حین قال لهم: «ألَستُم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول الله (صلّى الله علیه وآله) فأعطوكم المقادة وسلّموا لكم الإمارة؟! وأنا أحتجّ علیكم بمثل ما احتججتم على الأنصار؛ أنا أولى برسول الله...»3، فهل من بین أرحام رسول الله من هو أقرب منّی إلیه؟! إذن فأنا أقول بنفس المنطق الذی غلبتم به الأنصار: أنا الأولى بالخلافة. لكن لم یكن أحد لیصغی أو یكترث لكلام علیّ (علیه السلام)، فقد أجابه أحد هؤلاء النفر بتعبیر قبیح: «ولكنّك حَدَث السنّ، فاترك الأمر لمشایخ القوم فهم أحْمَل لثقله، فإن عَمَّرك الله لَسَلّموا هذا الأمر إلیك»!
فعندما تنادی فاطمة (سلام الله علیها) قائلة: «إلى أین تذهبون؟! لماذا نبذتم القرآن وراء ظهوركم؟» فهی لا تعنی: لابدّ أن یغلب الأوسُ الخزرجَ أو الخزرجُ الأوسَ، فلیس فی ذلك مخالفة للقرآن الكریم، وإنمّا مخالفة القرآن هی عندما یُعمَل بخلاف ما یقول. فخشیة فاطمة (علیها السلام) كانت من أن یُنبذ القرآن الكریم ولا یُعمَل به، وإنّ الداعی لندائها كان أنّه إذا استمرّ هذا النهج، وطوى النسیان - شیئاً فشیئاً - ما یقوله القرآن، وصِیغت لسلوكیّات الناس اُسس غیر اُسسه، واستُلهمت القیم من غیر القرآن الكریم فإنّ أثر الإسلام سیُمحى ولن یبقى من الإسلام شیء. كانت (علیها السلام) تشاهد زیغاً بدأ یلوح فی الاُفق وروحه الكفر، وباطنُه إنكارُ «ما أنزل الله». ولقد ذكرتُ فی المحاضرة السابقة أنّ هذا الكفر لیس هو الكفر الفقهیّ الذی یكون فی مقابل الإسلام، بل هو الكفر الإیمانیّ، أی ما یقابل الإیمان؛ وهو أنّ شخصاً كهذا لا یعتقد ببعض أوامر الله من صمیم قلبه. فهذا النمط من الكفر یورث الشقاء فی الآخرة، لكنّه لا یوجب الكفر الدنیویّ بمعنى النجاسة والارتداد الفقهیّ وما إلى ذلك.
تقول مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها): «كِتَابُ اللهِ بَیْنَ أَظْهُرِكُم» فی أیدیكم، «أُمُورُهُ ظَاهِرَةٌ، وَأَحْكَامُهُ زَاهِرَةٌ، وَأَعْلامُهُ بَاهِرَةٌ، وَزَوَاجِرُهُ لائِحَةٌ، وَأَوَامِرُهُ وَاضِحَة» فقد بیّن أوامره بوضوح كامل، «قَدْ خَلَّفْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُم، أَرَغْبَةً عَنْهُ تُرِیدُون» هل تریدون الإعراض عنه؟ والمعنى: إنّ سلوكیّات مجتمعٍ مّا إمّا أن تكون على أساس تعالیم القرآن الكریم وأوامره أو ترتكز على اُسس اخرى. فأمّا الإسلام فهو یرى أنّ القرآن الكریم هو مصدر أعمالنا وأساسها وأنّه یتعیّن علینا أن نعمل وفقاً لما یقوله، وإنّ وضْع مصدر آخر إلى جانبه یُعدّ شركاً. فإذا اعتمدنا أصوات الشعب، أو میثاق الاُمم المتّحدة، أو أیّ شیء آخر بعنوان كونه مصدراً إلى جوار القرآن نكون قد ارتكبنا شركاً فی التشریع. فقد قال الناس فی ذلك الزمان: «سنحاول أن ننتخب بأنفسنا الشخصَ الذی نراه الأصلح والأنفع لنا» وأهملوا كتاب الله، وهذه كانت بدایة الزیغ والانحراف عن القرآن الكریم. تقول (علیها السلام): «أَرَغْبَةً عَنْهُ تُرِیدُونَ، أَمْ بِغَیْرِهِ تَحْكُمُون»؛ فهل تریدون – حقّاً – الإعراض عن القرآن؟ أم إنّكم تریدون أن تُحَكّموا غیر القرآن علیكم؟! «بِئْسَ لِلظَّالِمِینَ بَدَلاً»4 فإنّكم بذلك تظلمون أنفسكم وتختارون سبیلاً یجافی الحقّ وإنّ الذی یغیّر موقع شیء ویأتی بشیء آخر مكانه بصورة ظالمة فبئس ما اختاره من بدیل وعوض.
ولعلّ فی عبارة: «أَمْ بِغَیْرِهِ تَحْكُمُون» تلمیحاً إلى الآیة الشریفة التی تقول: «فَلا وَرَبِّكَ لا یُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ یُحَكِّمُوكَ فِیمَا شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لا یَجِدُواْ فِی أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَیْتَ وَیُسَلِّمُواْ تَسْلِیماً»5 وهی من أعجب آیات القرآن الكریم. فالله عزّ وجلّ یقسم فیها لنبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) قائلاً: «قسماً بربّك إنّه ما من حقیقة غیر هذه وهی أنّ المسلمین لن یؤمنوا إیماناً حقیقیّاً حتّى یرجعوا إلیك ویحكّموك فیما شجر بینهم ثمّ یسلّموا لما تقول من أعماق وجودهم وصمیم قلوبهم، بل وأن لا یستشعروا حتّى فی قلوبهم أیّ حرج أو انزعاج». إذ من النادر أن تُصدر المحكمة حكماً على شخص من دون أن یجزع وینزعج أو یقول: «الحمد لله الذی أظهر الحقّ»! فالقرآن الكریم یُتْبِع القسم بقوله: «لیس المؤمنون سوى اُولئك الذین یرجعون إلیك فی منازعاتهم، ویقبلون بحكمك أیّاً كان، بل ولا یستشعرون ضجراً أو تبرّماً منه حتّى فی أعماق قلوبهم». فالإیمان الحقیقیّ هو أنّ یسلّم المرء فی مقابل الله عزّ وجلّ ورسوله (صلّى الله علیه وآله) تسلیماً محضاً: «وَیُسَلِّمُواْ تَسْلِیماً».
إنّ الذین یقبلون الیوم بولایة الفقیه بهذه الصورة هم نادرون للغایة. فالمدّعون كثیرون أمّا فی مقام العمل فإنّ الذین یمتثلون لكلّ ما یقوله الولیّ الفقیه هم قلیلون. فعندما یُصدر الولیّ الفقیه حكماً یقول بعضهم: «فلنذهب ونتحدّث إلیه علّه یرجع عن رأیه»! لكنك إذا كنت تقبل بولایته فستمتثل لكلّ ما یقوله من دون أدنى تلكّؤ أو تردّد. فولایة الفقیه تعنی أنّ الفقیه هو خلیفة النبیّ والإمام المعصوم، ویتعیّن علینا أن نسلّم تسلیماً محضاً لكلّ ما یحكم به ونعتقد اعتقاداً راسخاً بأنّ هذا الأمر كأنّه صادر من الإمام المعصوم (علیه السلام). ومن هذا المنطلق جاء فی الخبر: «فإذا حكَم بحُكمٍ ولم یقبله منه فإنّما بحكم الله استخفّ وعلینا ردّ والرادُّ علینا كالرادِّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله»6. وبطبیعة الحال فإنّ البحث فی الولایة المطلقة للفقیه یأتی فی حقل المسائل الحكومیّة وإنّ المسائل الشخصیّة لیست مجالاً لمناقشة الولایة.
ثمّ تقول الزهراء (سلام الله علیها): «وَمَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الإِسْلامِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِی الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِین»7. أمّا علاقة هذه الآیة بما قبلها من أقسام الخطبة فهی أنّه إذا اتّخذ المرء لفعله أساساً غیر كلام الله تعالى وكلام نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) فقد خرج عن جادّة الإیمان وإنّ مآله لا محالة سیكون إلى الكفر. فالشیطان أحیاناً قد یأتی الإنسانَ بمظهر المؤمن. إذن لابدّ أن نتوخّى الحذر الشدید، وأن نعرف معیار الحقّ والباطل وأن لا ننخدع بهذه المظاهر.
أعاذنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. سورة التوبة، الآیة 49.
2. سورة المائدة، الآیة 67.
3. بحار الأنوار، ج28، ص185.
4. سورة الكهف، الآیة 50.
5. سورة النساء، الآیة 65.
6. بحار الأنوار، ج101، ص262.
7. سورة آل عمران، الآیة 85.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 2 شباط 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
نتقدّم لصاحب العصر والزمان (أرواحنا فداه) ونائبه الصالح بالحقّ قائد الثورة المعظّم وكلّ محبّی أهل البیت (علیهم السلام) بالتعازی الحارّة بمناسبة رحیل النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله). ونسأل الله العلیّ القدیر أن لا یفرّق بیننا وبین أهل هذا البیت الطاهر طرفة عین فی الدنیا والآخرة. إنّ وفاة النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) تُعدّ - من وجه من الوجوه - أعظم مصیبة حلّت فی العالم. فالمصیبة هی الحرمان من نعمة أو رحمة، وكلّما عظمت النعمة المحروم منها كبُرت المصیبة بالتَّبَع، ولیس فی عالم الوجود من نعمة للبشر هی أعظم من الوجود المقدّس للنبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله)، فقد أسماه الله تعالى «رَحْمَةً لِلْعالَمِینَ»1؛ إذن فإنّ فقدان هذا الرجل العظیم هی أعظم مصیبة تعرّضت لها البشریّة.
نحن ندرك أیّ حال یكون علیه الناس عندما یفقدون شخصیّة عظیمة مفعمة بالبركة برحیلها عن الدنیا. لكنّ السؤال الذی یتبادر إلى الأذهان هنا هو: هل إنّ البشر بعد رحیل أعظم رحمة إلهیّة من بین ظهرانیهم قد أدّوا حقّ هذه الشخصیّة كما یجب؟ فالتاریخ یخبرنا - مع شدید الأسف - أنّ هذا التوقّع لم یتحقّق. ولابدّ لهذا النمط من سوء المعاملة أن یُدرس ویُناقَش من الناحیة التاریخیّة ویُطرح على طاولة التحلیل أیضاً.
إنّ من الأسباب التی أدّت إلى هذا الأمر هی أنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) كان قد أمر قبل وفاته، وبأمر من الله عزّ وجلّ، بتشكیل جیش وقد أمَّر علیه اُسامة وأصرّ على خروج الناس من المدینة تحت إمرته، وقد كان هذا الأمر تمهیداً قد أعدّه الله تبارك وتعالى من أجل أن لا تقع الفتنة بعد رحیل رسول الله (صلّى الله علیه وآله) وذلك من أجل تثبیت خلافة أمیر المؤمنین (علیه السلام). لكنّ نفراً من القوم كانوا على اتّصال مستمرّ مع المركز وقد خطّطوا للعودة إلى المدینة بمجرّد وفاة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وقد نفّذوا ما خطّطوا له فعلاً. وجریاً على القاعدة فإنّه كان لابدّ لمن بقی فی المدینة - عند مشاهدتهم أنّ حالة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) لیست على ما یرام وأنّها قد تكون اللحظات الأخیرة من عمره الشریف - أن یجتمعوا وأن تطغى علیهم حالة من الحزن والبكاء، كما حصل أیّام استشهاد أمیر المؤمنین (سلام الله علیه). لكنّ السؤال الكبیر الذی یُطرح هنا هو: لماذا لم یحصل ذلك؟!
لقد قُدّمت لذلك تفاسیر مختلفة، فقال البعض على سبیل المثال: «لقد خشی المسلمون من وقوع الاختلاف بعد رحیل النبیّ وأن یؤدّی الفراغ الحاصل فی منصب قیادة الامّة إلى ضعف المسلمین. ومن هنا فقد اجتمعوا واستعجلوا فی تعیین خلیفة رسول الله كی ینقذوا المجتمع من تبعات هذا الفراغ القیادیّ»! وهذا هو من أكثر التفاسیر المطروحة فی حسن الظنّ؛ لكنّه من المستبعَد أن یحظى بالقبول؛ إذ لم یكن هناك – فی الحقیقة – فراغ قیادیّ أساساً. فمنذ سبعین یوماً فقط كان النبیّ قد رفع ید علیّ (علیه السلام) قائلاً: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهٰذَا عَلِیٌّ مَوْلاه»2؛ فأین الفراغ القیادیّ؟! إذن لم یكن فی هذه المسألة أیّ إبهام أو لبس. لكنّ هؤلاء إمّا أن یكونوا قد نسوا ذلك، أو كانت لدیهم دوافع ونیّات اُخرى ولسنا هنا فی صدد إصدار الحكم على سلوكهم، بل نرید أن نذكر ما وقع فی ذلك الحین إجمالاً. فما حصل هو الآتی: لقد اجتمع نفر فی سقیفة بنی ساعدة وبایعوا أحد المهاجرین بالخلافة فی حین أنّ جنازة النبیّ لا زالت ملقاة على الأرض بلا غسل ولا دفن!
ولنفترض أنّهم فعلوا ذلك عن حسن نیّة أو جرّاء نسیانهم، لكنّ الخبر عندما بلغ أمیر المؤمنین سأل (علیه السلام) عن سبب انتهاج القوم هذه الطریقة فی تعیین خلیفة رسول الله، فكان الردّ: «یقولون: إنّنا من أرحام النبیّ»! فكان ردّه (علیه السلام) أنّه لا یوجد من هو أقرب منّی إلى رسول الله؟ فكیف یمكن أن لا یُطرح اسمی على الإطلاق؟! وقد تلت هذه الواقعة أحداثٌ لابدّ أنّها طرقت مسامعكم مراراً؛ فقد اجتمع الناس أمام باب أمیر المؤمنین (علیه السلام) وقادوه بالإكراه إلى المسجد لانتزاع البیعة منه، وغیر ذلك من الأحداث التی إن صحّ ما تناقلته كتب التاریخ عنها – وهو ما یبدو أنّه صحیح – فإنّها كانت حوادث شدیدة ومریعة للغایة ولم یكن من المتوقّع على الإطلاق أن یقابِل المسلمون أهلَ بیت النبیّ (صلوات الله علیهم أجمعین) بهذه الكیفیّة.
فی خضمّ هذه الأحداث كان أمیر المؤمنین (علیه السلام) قد أتمّ الحجّة على الناس فی المسجد، ولم یكتف بذلك بل أخذ یطَرْق أبوابهم فرداً فرداً لیذكّرهم بوصایا النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وبالبیعة التی بایعوه بها. لكنّ الأمر قد انتهى إلى تثبیت خلافة الخلیفة الأوّل. أمّا أهل بیت الرسول (صلوات الله علیهم)، فما عدا الاحتجاجات التی اتمّوا بها الحجّة على الناس، فإنّهم لم یُقدِموا على أیّ عمل آخر ولم یُشهروا سیفاً تفادیاً لشقّ عصى المسلمین وتجنّباً لسوء استغلال الأعداء للوضع. فلو أقدم أهل البیت (علیهم السلام) فی ذلك الحین على خطوات عملیّة لكان قد انتهى الأمر ولم تكن لتمضی فترة طویلة حتّى یُمحى الإسلام ولا یبقى له أثر قطّ.
بعد تثبیت الخلافة توجّه الجهاز الحكومیّ إلى الشؤون الحكومیّة. ووفقاً لبعض الأخبار فقد ابتدأوا بمجیئهم إلى أمیر المؤمنین (علیه السلام) وقالوا له (لنقل من باب المشورة): «الخلافة قد ثُبّتت؛ لكن كیف ینبغی التصرّف بالأموال التی كانت فی ید النبیّ إلى حین وفاته»؟! فأجابهم (علیه السلام) بإنّه ینبغی أن یُتصرّف بها كما كان النبیّ یتصرّف بها فی حال حیاته. قالوا: «فماذا عن أموال خیبر»؟ وكان السؤال عن هذه الأموال یمتاز بمزیّة خاصّة؛ إذ إنّ من جملة أحكام الإسلام أنّه إذا استسلم العدوّ فی مقابل الحاكم الإسلامیّ تاركاً أمواله أو مسلّماً إیّاها له فإنّ تلك الأموال لا تُقَسّم بین المسلمین، بل إنّها تعود إلى شخص الحاكم أی النبیّ (صلّى الله علیه وآله) خاصّة وإنّ له الخیار فی أن یتصرّف فیها بما یرى فیه المصلحة. یقول الله تبارك وتعالى فی الآیة السادسة من سورة الحشر: «فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَیْهِ مِنْ خَیْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلٰكِنَّ اللهَ یُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَنْ یَشَاءُ»؛ فهناك أموال قد أعادها الله إلیكم من دون أن تجیّشوا فی سبیل إعادتها جیشاً أو تدخلوا حرباً بل لقد سلّمها أصحابها إلیكم طواعیة. فمثل هذه الأموال تعود إلى الله وإلى رسوله ولیس لسائر الناس فیها من حقّ. وإن شأن نزول هذه الآیة هی قلاع خیبر والقرى المحیطة بها التی من جملتها قریة فدك.
إذن عندما جاء الخلیفتان الأوّل والثانی إلى أمیر المؤمنین (علیه السلام) قائلین: «ما هو حكم هذه الأموال»؟ أجابهما (علیه السلام) بأنّه ینبغی أن تحكما فیها بما كان رسول الله (صلّى الله علیه وآله) سیحكم فیها أثناء حیاته. قالا: «فماذا عن فدك»، وكانت فدك من جملة هذه الأموال التی وهبها النبیّ للزهراء (سلام الله علیها) وجمیع الناس كانوا یعلمون بهذا الأمر وحتّى بعد وفاة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) كان عامل الزهراء (علیها السلام) ووكیلها هو الذی یشتغل فی رعایة شؤون هذه الأرض. أجابهما أمیر المؤمنین (علیه السلام) أنّ النبیّ هو الذی وهبها للزهراء وهی لها. قالا: «كلا، إنّها لبیت المال ولابدّ من إرجاعها إلیه»! فذهبا وأخرجا عامل الزهراء (سلام الله علیها) من الأرض وتمّ الاستیلاء علیها. أمّا إخواننا من أهل السنّة فإنّهم یبرّرون هذه القضیّة بأنّ هذین كانا یعلمان بمصلحة الإسلام فی هذا الأمر، أو أنّهما كانا یعتقدان بأنّ تصرّفات النبیّ كانت معتبَرة فی زمان حیاته، أمّا بعد وفاته فإنّ لـمَن یخلفه - كائناً من كان - حق ّالتصرّف بأیّ صورة یرى فیها المصلحة.
لم تستمرّ حیاة فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) بعد رحیل النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) أكثر من 75 أو 95 یوماً. وطبقاً لما نقلته كتب التاریخ – التی لعلّ شرح ابن أبی الحدید لنهج البلاغة هو أكثرها جامعیّة فی هذا المجال – فقد أقدمت (علیها السلام) على عدد من الخطوات. ففی مجلس ضمّ الخلیفة الأوّل ومَن كان من المقرّر أن یكون الخلیفة الثانی من بعده جاءت الزهراء (سلام الله علیها) وشكته بحضور جمع من الناس مستنكرة علیه إخراج عاملها من فدك فأجابها: «إنّها لبیت المال ونرید إنفاقها فی مصالح المسلمین»! فأجابته بإنّك تعلم أنّ رسول الله جعلها لی نحلة ولیس للآخرین حقّ فیها. فقالا لها: «كلا، إنّها من المال العامّ المتعلّق ببیت المال ونحن نرى أنّ من المصلحة أن تُصرف فی مصالح الاُمّة الإسلامیّة. فإن ادّعیتِ أنّ هذه المزرعة لك فأتِ بشاهد على ذلك»! فكان ردّ الزهراء (علیها السلام) أنّه لو كان مال فی ید مسلم وادّعیتُه أنا فهل ستطالبنی أنا بالبیّنة أم ستطالب ذلك المسلم؟ فأنا ذات یدٍ وإنّ المدّعی على ذی یدٍ هو الذی ینبغی أن یُقدّم الشهود على مدّعاه. فقانون القضاء الإسلامیّ (بل قانون القضاء فی جمیع أنحاء العالم) ینصّ على أنّه إذا ادّعى شخص مالاً وهو فی ید غیره وجب علیه تقدیم البیّنة على ما یدّعیه. ولم تكتف (سلام الله علیها) بذلك بل إنّها، ومن أجل إتمام الحجّة، جاءت بعلیّ (علیه السلام) واُمّ أیمن كشاهدین. لكنّهما قالا: «علیّ شاهد واحد أمّا اُمّ أیمن فهی امرأة ولا تكفی امرأة واحدة للشهادة»! وهنا أیضاً لابدّ أن نذكّر بأنّ من قواعد القضاء أنّه إذا كان أحد الشاهدین امرأة فإنّه یتعیّن علیها أن تحلف الیمین عوضاً عن الشاهد الآخر. لكنّهما ردّا علیها بكلام غیر مناسب.
وقد حصل حوار آخر أیضاً بین شخص الخلیفة الأوّل ومولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) على انفراد إذ تحدّثت معه بشكل خاصّ وبدلاً من أن تتناول قضیّة أنّها ذات یدٍ ولیس من الضروریّ أن تأتی ببیّنة وأنّها - مع ذلك - جاءت بعلیّ (علیه السلام) كشاهد، فقد طرحت فی هذه المرّة مسألة أنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) كان أحیاناً یقبل بشهادة واحد من الصحابة الذین یثق بهم كثیراً عوضاً عن شهادتین، فكیف بی وقد جئتُك بعلیّ واُمّ أیمن ولم تقبل بهما كشاهدین! فتأثّر الخلیفة فی مقابل هذا المنطق وكتب لها كتاباً یثبت تعلّق المِلْك بها. لكنّ شخصاً صادفها فی الطریق وأخذ منها الكتاب ومزّقه وتجاسر علیها أیضاً. وقد مضى هذا الحدث أیضاً ولم یتمّ الوصول فیه إلى نتیجة حاله فی ذلك حال مسألة الخلافة.
لقد تصوّر البعض أنّ قلق الزهراء (سلام الله علیها) كان مقتصراً على حرمانها من موارد فدك المادّیة! وإنه لمنتهى الجفاء بحقّ الزهراء (علیها السلام) أن نفكّر بهذه الطریقة، فجمیع أموال العالم تساوی قبضة من الرماد فی نظر الزهراء (علیها السلام). إذن هذا لم یكن أصل الموضوع قطعاً، وإنّ ما كان یحزّ فی نفوس أهل بیت الرسول (علیهم السلام) ویؤلمهم هو أنّ تلك التصرّفات كانت سبباً فی سحق أحكام الإسلام التی صرّح بها القرآن الكریم، بالضبط كما نسی الناس البیعةَ التی أخذها منهم رسول الله (صلّى الله علیه وآله) لأمیر المؤمنین علیّ (علیه السلام) حتّى كأنّ شیئاً لم یكن. فقد جاء فی الخبر أنّه عندما نزلت الآیة الشریفة: «وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ»3 أعطى النبیّ (صلّى الله علیه وآله) هذا المال لفاطمة (علیها السلام)، لكنّ سلوك القوم بعد ذلك كان بشكل یخالف أمر الرسول الأعظم ونصّ القرآن الكریم. مضافاً إلى ذلك فإنّ قوانین القضاء الإسلامیّ باتت فی معرض الزوال شیئاً فشیئاً. فإلى أین ستؤول الاُمور إذا استمرّ الوضع على هذا المنوال؟ فإن لم یواجَه هذا النهج الذی ابتدأ الآن فسوف یؤدّی إلى الكفر وحینذاك لن یبقى من الإسلام سوى أثر بعد عین. إذن فإنّ آل الرسول (علیهم السلام) كانوا قلقین من هذه الاُمور تحدیداً. فهذا أمیر المؤمنین (علیه السلام) یشیر إلى نفس هذه النقطة فی رسالة كتبها إلى عثمان بن حُنَیف یقول فیها: «كانت فی أیدینا فدك من كلّ ما أظلّته السماء فشحّت علیها نفوس قوم وسَخَت عنها نفوس قوم آخرین» إلى أن یقول: «وما أصنع بفدك وغیر فدك»4؟! فالقضیّة كانت تتلخّص فی مواجهة هذا التیّار السیاسیّ الحاكم، وإتمام الحجّة على الناس كی یفهموا بأنّ هؤلاء غیر مؤهّلین للحكم، وإنّ المنصب الإلهیّ للخلافة لابدّ أن یكون من نصیب المعصوم (علیه السلام).
لو أردنا أن نفسّر واقعة السقیفة بلغتنا المعاصرة وعبر المفردات المستخدمة فی زماننا فلابدّ أن نقول: إنّ أوّل خطوة فی العالم الإسلامیّ اتُّخذت باتّجاه تحویل المجتمع الإسلامیّ إلى العلمانیّة كانت فی السقیفة؛ فالسقیفة كانت مشروعاً لفصل الدین عن السیاسة. فالقوم ما كانوا یأبون أن یبادروا أحیاناً إلى سؤال علیّ ابن أبی طالب (علیه السلام) حول مسألة شرعیّة، بل لقد فعلوا ذلك فعلاً فی عهد الخلفاء. كما أنّهم ما كانوا یأبون القول: «نحن لا نعلم حكم الإسلام، وعلینا أخذه منك»! لكنّهم كانوا یأبون أن یتسلّم آل بیت الرسول (صلوات الله علیهم أجمعین) مقالید السلطة ویصدّرون الأحكام. فما معنى هذا التفكیك الذی یحصر الحكم والحكومة فی نفر من الناس ویجعل تبیین أحكام الدین على عاتق نفر آخر منهم؟! فهذا لَعمری هو عین العلمانیّة وأساسها.
وحتّى فی یومنا هذا فإنّه یوجد من یحمل نفس هذه الرؤیة بالنسبة لتسلّم المناصب فی هذا النظام القائم فی هذه الجمهوریّة الإسلامیّة. فأمثال هؤلاء إمّا أنّهم لا یقبلون بأصل ولایة الفقیه، أو أنّهم یتعاملون مع هذا المنصب كمنصب شكلیّ ولا یرون وجوب تنفیذ أحكام صاحبه وأوامره. فهم یزعمون أنّ فهمهم للاُمور یفوق فهمه بكثیر، وأنّه هو الذی یجب علیه طاعتهم! فینبغی أن لا نعجَب من تعامل المسلمین مع ابنة الرسول (صلّى الله علیه وآله)، إذ لو رجعنا بذاكرتنا سنتین إلى الوراء لشاهدنا وقائع من هذا الصنف؛ ولشاهدنا كیف تصرّف البعض مع المشتركین فی عزاء سیّد الشهداء (علیه السلام) فی یوم عاشوراء، ومن الذین أصدروا الأوامر بذلك، ومن كان الراضی عن هذا الفعل، ومن الذین یأبون إلى الآن أن یتبرّأوا ممّن قاموا بهذا العمل الشنیع ویدینوهم. بطبیعة الحال لابدّ أن نقرّ لشعبنا الیوم بأنّه أكثر فهماً وإدراكاً للامور من أهل ذلك العصر الذین غیّروا مسیرة التاریخ عبر بعض المغالطات الجزئیّة، وانخدعوا بحدیثٍ موضوعٍ مفاده: «نحن معاشر الأنبیاء لا نورّث، ما تركناه صدقة»5.
إذن فقد وصل الأمر فی نهایة المطاف بقضیّة فدك إلى نسیان أنّها نحلة وأنّها هبة وهبها رسول الله (صلّى الله علیه وآله) لفاطمة (سلام الله علیها) وطُوی سجلّها كما طُوی سجلّ قضیّة الخلافة من قبل. كانت الزهراء (علیها السلام) تعلم أنّها لن تبقى فی هذه الدنیا أكثر من أیّام قلائل، وكانت تحاول فی غضون هذه البرهة القصیرة من الزمن أن تقوم بما من شأنه أن یقوّی دعائم الإسلام ویثبّتها أكثر. ومن هنا فقد سعت إلى طرح القضیّة من باب آخر وهو أنّه: «إذا لم توافق على كون فدك هبة من رسول الله (صلّى الله علیه وآله)، فلا شكّ أنّك تقرّ بأنّها كانت ملكاً للنبیّ أساساً، فذلك ما صرّح به القرآن الكریم ولا یسعك إنكاره. فإن كان الأمر كذلك فإنّنی ابنة النبیّ ووریثته. وبناء علیه فإنّه یجب أن تنتقل فدك إلى ملكیّتی».
وهنا قد وقع الكثیرون فی إشكال فقالوا: «لقد التبس علینا الأمر حقّاً! فلم نفهم ماذا كانت فاطمة الزهراء (علیها السلام) تدّعی حول فدك هل كانت نِحلَة، أم إرثاً»؟ والجواب على ذلك هو أنّها (علیها السلام) ومن أجل مواجهة هذا النظام الذی لا یصلح للخلافة فقد انتهجت سبیلین؛ فهی قد طرحت - أوّلاً - مسألة كون فدك نِحلَة لتوضّح للناس أنّ هؤلاء إمّا أنّهم غیر عارفین بأحكام الله، الأمر الذی یجعلهم غیر صالحین لخلافة رسول الله أساساً، وإمّا أنّهم یخالفون حكم الله متعمّدین، وعندها فمن الأولى أن یثبت عدم أهلیّتهم للخلافة. فإذا طُویت صفحة كونها نِحلة فقد سلكت (سلام الله علیها) سبیلاً آخر للوصل إلى مبتغاها فادّعت كونها تركة یمكن أن تورّث.
وإذا منّ الله علینا بالتوفیق فسنكمل تتمّة هذا المبحث فی المحاضرة القادمة إن شاء الله.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. سورة الأنبیاء، الآیة 107.
2. الكافی، ج1، ص420.
3. سورة الإسراء، الآیة 26.
4. نهج البلاغة، الرسالة 45.
5. عمدة القاری (للعینی)، ج14، ص163؛ وتفسیر الرازی، ج9، ص21؛ وفتح القدیر (للشوكانی)، ج3ـ ص322.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 23 شباط 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
إنّ «اُسبوع الوحدة الإسلامیّة» یُعدّ فرصة ذهبیّة لتوطید العلاقات بین الطوائف الإسلامیّة المختلفة من أجل أن یوثّقوا عُرى الاتّحاد والاتّفاق فیما بینهم فی مواجهة أعدائهم. نشكر المولى العلیّ القدیر أنّه مَنّ علینا بهذه النعمة الجلیلة وهی توفیر الظروف المساعدة ببركة الجمهوریّة الإسلامیّة بغیة إزالة الكثیر ممّا كان عائقاً بین الاُخوة المسلمین من رواسب العداوة والبغضاء الناجمة عن التعصّب الأعمى أو الحدّ منها بنسبة عالیة.
وعلى الرغم من مضیّ ما یربو على ثلاثین عاماً على طرح هذه المسألة وإقامة الاحتفالات السنویّة بهذه المناسبة، غیر أنّه لا تزال هناك بعض الإبهامات تحیط بمفهوم الوحدة الإسلامیّة؛ إذ یتصوّر البعض أنّ المقصود من الوحدة هو توحید المذاهب الكلامیّة والمذاهب الفقهیّة لجمیع الطوائف الإسلامیّة كی یصلوا - من الناحیة العملیّة - إلى حدّ تقلید فتوى مرجعٍ واحد. إنّ توقّعاً كهذا هو بعید كلّ البعد عن الواقع؛ ذلك أنّ الرواسب الذهنیّة القدیمة للإنسان لها تأثیر كبیر على فهمه، بل وعلى سلوكه أیضاً. إذن لا تعنی الوحدة توحید المعتقدات، والأعمال، والسلوكیّات، والفتاوى عند جمیع المسلمین، بل إنّ للوحدة والاتّحاد مفهوماً تشكیكیّاً له مراتب. فإنّ إحدى هذه المراتب تعتبر ضروریّة للجمیع ولابدّ من مراعاتها وإنّ عدم مراعاتها من شأنه أن یُلحق بالإسلام ضرراً جسیماً ولن یصبّ إلاّ فی صالح أعدائه، وهذه المرتبة هی تجنّب طرح الخلافات التی تضع الاخوة المسلمین فی مواجهة بعضهم، حتّى یسبّ أحدُهم الآخر ویبادله الضغینة والعداوة. فینبغی على جمیع المسلمین حثّ الخطى وبذل الجهود للوصول إلى هذه الوحدة التی تقف أمام خلافاتٍ من هذا القبیل، بحیث یعامل أحدهم الآخر باحترام فی مقام العمل ویؤمن كلّ مسلم بوجود حدود لأخیه المسلم یستطیع ضمنها أن یعتقد بما یصل إلیه من العقائد ویعمل وفقاً لما یتّبعه من منهج فقهیّ بكلّ حرّیة؛ بالضبط كالخلافات الموجودة بین الشیعة أنفسهم فی العمل بفتاوى مراجعهم. فهل یا ترى أنّ قولنا: «یتعیّن على الشیعة أن یتوحّدوا فیما بینهم» یعنی أنّ علیهم جمیعاً أن یقلّدوا مرجعاً واحداً؟ إذن لابدّ من تطبیق عین هذه الطریقة على العلاقات بین باقی المسلمین بشكل عامّ. فأكثر ما یشتهر من خلاف بین المسلمین هو الخلاف الفقهیّ؛ إذ أنّ هناك أربعة مذاهب فقهیّة معروفة لدى إخواننا من أهل السنّة وهی المذهب الشافعیّ، والمالكیّ، والحَنَفیّ، والحنبلیّ حیث ینتهی كلّ واحد منها إلى واحدٍ من أربعة من كبار علمائهم بل ویسمّى باسمه أیضاً. فكأنّ أتْباع كلّ مذهب من هذه المذاهب الأربعة یقلّدون مرجعاً ویعملون بفتاواه. ففی هذه الحالة یمكننا القول: اعملوا وفقاً لفتوى مرجعكم فی التقلید ونعمل نحن طبقاً لفتوى مرجعنا فی التقلید. فالوحدة فی هذا المقام تقتضى أن یكون تعاملنا مع باقی المسلمین بالشكل الذی یعترف فیه كلّ منّا بالآخر فلا یؤدّی الخلاف فی بعض المعتقدات الكلامیّة، أو بعض الفتاوى الفقهیّة إلى تكفیر بعضنا البعض. لكنّه یوجد فی مقابل هذا النمط الفكریّ فكر نادر یُدعىٰ «الفكر التكفیریّ» یقول المعتقدون به: «المسلمون الحقیقیّون هم نحن ولیس غیر، أمّا الآخرون فجمیعهم كفّار وإنّ دماءهم وأعراضهم مباحة»! فإن وضعنا هذه الشرذمة من الناس، الذین لا یشكّلون إلاّ طائفة صغیرة من المسلمین، جانباً فسنجد أنّ باقی المسلمین لا یحملون مثل هذه العقیدة، بل لقد تعایشوا كأصدقاء واخوة إلى جوار بعضهم لسنین موغلة فی القِدَم.
لكن لا ینبغی أن نكتفی بهذا الحدّ من النصاب، بل یتعیّن علینا أن نسعى قدر الإمكان لتقلیص هُوّة الخلاف فیما بیننا. فینبغی لمن یجد فی نفسه الأهلیّة للبحث والنقاش من الفریقین أن یعقدوا مجالس ودّیة یسودها جوّ من الإنصاف، بعیدة عن التعصّبات المقیتة لینخرطوا فی حوار مشترك لعلّ ذلك یؤدّی إلى إزالة نقاط الخلاف فی العدید من المسائل العقائدیّة والفقهیّة. فصحیح أنّنا قلنا: لیس من الممكن إزالة جمیع الخلافات، لكنّنا لم نقل: لیس بالإمكان أن نحلّ ولو خلافاً واحداً.
كان المرحوم آیة الله العظمى بهجت (رضوان الله تعالى علیه) یقول: «لا تطرحوا فی مستهلّ حواراتكم مع سائر المسلمین ما یصعب علیهم قبوله، فمناقشات كهذه لا تؤدّی إلى نتیجة مطلوبة. ابدأوا معهم من هذه النقطة وهی أن تقولوا لهم: إنّكم منقسمون إلى أربع طوائف وكلّ طائفة منكم تعتبر الطوائف الاخرى مسلمة، ولا إشكال فی ذلك على الإطلاق. فجمیعكم یقلّدون أربعة من عظماء العلماء الذین عاشوا فی فترة واحدة تقریباً. لكنّ جمیع هؤلاء الأربعة قد استقوا العلم من الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) إمّا بشكل مباشر أو بالواسطة. فأنتم تروُون فی كتبكم أنّ أبا حنیفة قد قال: «لولا السنتان لهلك النعمان»1؛ أی لولا السنتان اللتان تتلمذتُ فیهما عند الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) لكنتُ قد هلكت. كما وتنقلون عنه أیضاً قوله: «ما رأیت أفقه من جعفر بن محمّد»2. فی حین أنّنا نقلّد من تتلمذَ أعاظمُ علمائكم على یده إمّا بصورة مباشرة أو غیر مباشرة. فإذا كان تقلید التلمیذ جائزاً، فكیف یكون تقلید الاستاذ، الذی هو - باعتراف نفس هذا التلمیذ - أفقه أهل زمانه، غیر جائز؟! فلیس لأیّ امرئ منصف أن ینكر ذلك».
وقد كان آیة الله بهجت یذكر المرحوم الشیخ محمود شلتوت كمثال ویقول: «كان المرحوم الشیخ محمود شلتوت یحمل درجة من درجات التشیّع، حیث إنّه قد أفتى بصحّة تقلید الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) كما وقد اُقرّت فی زمانه بعض الأحكام القانونیّة وفقاً لفتاوى الإمام الصادق (علیه السلام) أیضاً. فعندما یشعرون أنّ خلافنا معهم هو خلاف فی المرجعیّة فسیساعد ذلك على توطید علاقتنا معهم وسیكثر الاحتكاك فیما بیننا، وحینئذ ستتاح الفرصة لأن یقرأوا كتبنا وعندئذ ستُحلّ الكثیر من الخلافات بین الطرفین. وهذه هی أنجع السبل لخلق الوحدة بین المسلمین».
بطبیعة الحال یوجد من بین الشیعة ومن بین السنّة على حدّ سواء أشخاص مغرضون ومرضى، لكن لا ینبغی أن یكون وجود أمثال هؤلاء سبباً فی المواجهة بین الفریقین لیصل الأمر – والعیاذ بالله – إلى استغلال الأعداء لهذا الوضع وبثّهم للفتن المؤدّیة إلى إشعال فتیل الحروب الأهلیّة بین الطائفتین؛ وهو ما نشاهد - مع بالغ الأسف – نموذجاً منه فی الباكستان مثلاً. فمراعاة هذا المقدار من الوحدة هو أمر واجب، لاسیّما بالالتفات إلى توصیات قائد الثورة المعظّم (حفظه الله تعالى) فی هذا المجال حیث أصدر فتوى صریحة بحرمة التعرّض بسوء لرموز ومقدّسات سائر طوائف المسلمین. إذن فالسبیل إلى الاقتراب من الوحدة الحقیقیّة التی تقترب فیها معتقداتنا وفتاوانا من بعضها هی فی الجلوس على طاولة البحث والمطالعة والتحقیق فی جوّ صحّی سلیم، وهو أشبه بما یحصل فی الحوزات العلمیّة الشیعیّة. فبعض مراجع الشیعة المعاصرین كانوا فی فترة دراستهم الحوزویّة یشاركون بعضهم فی جلسات البحث ویتتلمذون على ید استاذ واحد، لكنّ فتاواهم قد اختلفت فیما بعد. فالمرجع یعمل بما یراه حجّة علیه بینه وبین ربّه. فالعمل من أجل تقارب الأفكار وتلاقحها لیس أنّه لا ینافی مشروع الوحدة فحسب، بل یكون مكمّلاً ومتمّماً له أیضاً.
لقد اُسّست فی زمان المرحوم آیة الله العظمى السیّد البروجردیّ (رضوان الله علیه) مؤسّسة تحمل اسم «دار التقریب» وقد أرسل المرحوم آیة الله البروجردیّ (رحمة الله علیه) المرحوم الشیخ محمّد تقی القمّی مبعوثاً من قِبله للإقامة فی مصر. وقد عقد الأخیر هناك جلسات متعدّدة مع عدد من علماء الأزهر المنتمین إلى مذاهب مختلفة وقام بإصدار مجلّة تحت عنوان «رسالة التقریب» كان یَنشُر فیها أشخاصٌ ینتمون إلى مذاهب مختلفة مقالاتِهم ویدلی كلّ منهم فیها برأیه فیما یتعلّق بالمسائل الخلافیّة. لكنّه نتیجة لتشنّج العلاقات بین مصر وإیران فی عهد شاه إیران فقد تمّ إغلاق دار التقریب التی كان من ثمارها طبع بعض الكتب الشیعیّة فی مصر ومن جملتها تفسیر مجمع البیان وكتاب المختصر النافع فی فقه الإمامیّة وقد تمّ إدراج كتاب المختصر النافع كنصّ فقهیّ فی كلّیات الحقوق والفقه هناك. فالعلاقات بین المذاهب الإسلامیّة كانت تتقدّم إلى هذا الحدّ من السلامة غیر أنّ الأعداء لم یسمحوا بذلك.
وبعد انتصار الثورة الإسلامیّة تأسّس فی إیران مجمع باسم «مجمع التقریب بین المذاهب الإسلامیّة». وهو عمل لا یرمی إلى رفع الخلافات بالكامل؛ ذلك أنّ شیئاً كهذا لیس أمراً عملیّاً بتاتاً؛ لكنّنا یمكننا الاقتراب من بعضنا أكثر والحدّ من خلافاتنا. فإنّ من جملة سبل التقریب فی نظرنا هی عقد جلسات مباحثة فی أجواء سلیمة فی مجالات مختلفة، وأن یتمّ البحث والتحقیق فی كلّ مجال بما یتناسب معه من طرق وسبل خاصّة؛ كأن یتمّ البحث فی المباحث الكلامیّة بالطرق المتّبعة فی علم الكلام، وفی المباحث الفقهیّة بالطرق الخاصّة بعلم الفقه، وفی المباحث التاریخیّة بالأسالیب المخصّصة بتلك المباحث، وهكذا. أقول هذا القول من أجل أن تتوضّح نقطة مهمّة وهی أنّ هدفنا من الخوض فی خطبة سیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) لیس هو من منطلق العداء أو البغض لأیّ أحد، بل إنّ ما نرمی إلیه هو مناقشة سند تاریخیّ قد اشتغل علیه وأثبته علماء أعلام وباحثون أكفاء. ولعلّ القسم الأعظم من هذه الخطبة قد جاء فی كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید. فقد نقل مصنّف هذا الكتاب، وهو سنّی معتزلیّ المذهب، المقاطع الأشدّ حساسیّة من هذه الخطبة بأسنادٍ عَدّها معتبَرة، بل وإنّه یستفید منها أحیاناً فی مواضع اخرى. كما أنّه نقل فی ذیل هذه الخطبة عن أساتذته مباحث تتطلّب منّا – حقّاً - الوقوف وقفة إجلال وثناء على ما أبداه هذا الرجل وأساتذته من إنصاف.
وتتجلّى أهمّیة الخوض فی هذه الخطبة المباركة عندما نكتشف – مع شدید الأسف – أنّ معظمنا نحن الشیعة، وعلى الرغم ممّا نكنّه من محبّة وافرة لمولاتنا الزهراء (علیها السلام)، لا نملك الاطّلاع الصحیح والكافی على أصل هذه القصّة وتفاصیلها. فنحن لا نعلم ما هی مسألة فدك؟ ولماذا وبأیّ اُسلوب طُرحت؟ وماذا كان ادّعاء فاطمة الزهراء (سلام الله علیها)؟ وما هی المباحث التی تتّصل بهذا الادّعاء؟ فعندما یكون فی أیدنا سند كهذا، وهو عن بضعة الرسول فاطمة الزهراء (علیها السلام)، فما الذی یدعونا لعدم الحرص على الاطّلاع علیه بدقّة؟! والحال أنّ هذا السند یمثّل خطبة ألقتها الزهراء (سلام الله علیها) بعد شهرین وبضعة أیّام فقط من وفاة رسول الله (صلّى الله علیه وآله) وهی الفترة التی تشكّل كلّ العمر السیاسیّ – الاجتماعیّ المستقلّ للزهراء (سلام الله علیها)، وهذه الخطبة هی – تحدیداً - ما نحن بحاجة إلیه فی هذا الیوم.
إنّ من السهل رسم خطّة من أجل التقریب بین المذاهب الإسلامیّة وتوثیق الوحدة بینهم، لكنّ العمل بهذه الخطّة له آداب وطرق خاصّة. إذ یعلّمنا القرآن الكریم أن نبدأ فی النقاش والمباحثة مع مَن یخالفنا الرأی من هذه النقطة وهی أن نقول لهم: «نحن الاثنان نختلف فی قضیّة ومن الممكن أن أكون أنا المصیب وأنت المخطئ، أو تكون أنت على صواب وأنا على خطأ. إذن علینا أن نفتّش معاً عن الدلیل الحقیقیّ وننظر أیّ الموقفین هو الموقف الحقّ». فالقرآن المجید یشیر علینا بهذه الطریقة. فهو عندما یقول: «وَإِنَّا أَوْ إِیَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدىً أَوْ فِی ضَلالٍ مُّبِینٍ»3 فهو یعنی أنّه فی أجواء من هذا القبیل لابدّ أن تقوم الفرضیّة على أنّ الحقّ لا یُعلَم مع مَنْ یكون. إذن هذه هی الطریقة التی یُستهَلّ بها النقاش.
أمّا فی المرحلة التالیة فیتعیّن السعی لطرح المشتركات. وهذا أصل یتّصل بعلم النفس مفاده أنّ طرح نقاط الخلاف فی مستهلّ البحث والنقاش مع شخص سوف لن یفضی بالبحث إلى النتیجة المرجوّة. لكنّك إن ابتدأت بطرح نقاط الاشتراك أوّلاً، وأضْفیتَ طابع المودّة على جوّ النقاش، ثمّ ابتدأت - شیئاً فشیئاً - بطرح المسائل التی تمتاز عن غیرها بكونها أسرع حلاًّ، فستُوَفّق أكثر فی الوصول إلى النتیجة المطلوبة. وبالطبع فإنّ بلوغ النتیجة یعتمد على قدرتنا على المباحثة من ناحیة، وعلى استعداد الطرف المقابل لتقبّل كلامنا من ناحیة اخرى. فإن تحلّى الطرفان بالإنصاف وانتهجا هذا الاسلوب فی النقاش، فسیُسهم ذلك فی تمهید الأرضیّة لتقدّم البحث. فهذا القرآن الكریم یقول: «وَلا تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ»4. فعندما بُعث النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) بالنبوّة لم تكن قضیّة الخلاف بین الشیعة والسنّة مطروحة آنذاك، كما أنّه لم یكن المشركون أصحاب بحث ونقاش فلم یكن لدیهم من دلیل یقیمونه على عدم إیمانهم غیر تقلید أسلافهم. أمّا الیهود والنصارى فقد كانوا علماء وأصحاب قلم وكتابة وقد كانوا یحظون باحترام بین أهل الحجاز، ولهذا فإنّ أغلب السجالات البحثیّة كانت تدور مع علماء الیهود والنصارى. یقول القرآن الكریم فی هذا الصدد: «لا تنتهجوا اسلوب الجدال غیر المجدی عند مناقشة هؤلاء فانّه لا یوصل إلى نتیجة؛ بل ابدأوا من النقطة التی تمهّد لتقدّم البحث؛ قولوا: نحن جمیعاً نؤمن بالله عزّ وجلّ ونعتقد بأنّه سبحانه وتعالى قد أنزل المعارف والعلوم على عباده، وإنّنا نؤمن بكلّ ما أنزله الله على أنبیائكم: «لا نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ»5؛ فنحن نؤمن بالتوراة والإنجیل معاً. وأنتم أیضاً تؤمنون بأنبیاء الله كافّة، ولا تنكرون إلا آخرهم. إذن تعالوا نتحدّث مع بعضنا حول هذا الموضوع، فإن كان كسائر الأنبیاء وأنّه مُرسَل من قبل الله عزّ وجلّ فاقبلوا به. قولوا لهم: «تَعَالَوا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءِ بَیْنَنَا وَبَیْنَكُمْ»6؛ فنحن نشترك بكلام واحد، إذن هلمّوا ننطلق من هذه المشتركات: «أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَیْئاً وَلا یَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ»7؛ تعالوا نبنی على الأصل الذی مفاده: یجب طاعة الله الواحد والإذعان لكلّ ما یقوله تعالى ولیس ما یقوله الآخرون.
وبهذا الاسلوب یُعبِّد القرآن الكریم الطریق للبحث. فقوله: «وَلا یَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ» هو من لوازم التوحید، لكنّ هؤلاء لم یكونوا ملتفتین إلى هذا اللازم. صحیح أنّهم كانوا یقولون: «الله واحد ولابدّ من الإذعان لكلّ ما یقول» لكنّهم كانوا مبتلین بلون من ألوان الشرك. وهنا یقول القرآن: «تعالوا نلتزم بلوازم هذا الكلام». إذن فالله عزّ وجلّ یعلّمنا هنا أن لا نبتدئ فی نقاشنا مع مخالفینا بطرح المسائل التی تمثّل قمّة الخلاف معهم؛ إذ أنّ طرح مسائل من هذا القبیل لا یؤدّی إلى نتیجة مطلوبة. فإذا كنّا نطلب الوصول إلى نتیجة فما علینا إلاّ أن ننطلق من المسائل المتَّفق علیها والتدرّج للوصول إلى حیث تقتضی الظروف والأجواء.
فإذا كان هذا هو النهج الذی ینبغی انتهاجه عند مناقشة الیهود والنصارى، فهل یصحّ الشروع من أشدّ مسائل الخلاف عند المناقشة مع أهل السنّة؟! فمن المسلّم فی مثل هذه الحالة أنّنا لن نصل إلى نتیجة سلیمة، أو أنّ مسیر النقاش سیطول كثیراً ویتعقّد. إذن أسهل الطرق هی أن نقوم باستعراض المشتركات ونطرح السؤال التالی: «هل تحبّون أهل البیت»؟ فأنا شخصیّاً لا أعتقد أنّه من الممكن العثور، من بین ملیار ونصف مسلم، على ملیون مسلم یمكن أن یجیب بالنفی على مثل هذا السؤال. لقد سافرت إلى ما یقرب من أربعین بلداً مختلفاً وكانت لی فی كلّ بلد منها لقاءات مع جماعات من أهل السنّة، ولم أرَ خلال هذه اللقاءات شخصاً واحداً أساء الأدب مع أهل البیت (علیهم السلام). بل إنّ الكثیر من أهل السنّة یَعُدّون المشاركة فی عزاء سیّد الشهداء (علیه السلام) واجباً بعنوان كونه أداءً لأجر الرسالة. إذن یتعیّن علینا الإفادة من هذه الأرضیّة الخصبة، وإنّ عنصراً مشتركاً من هذا القبیل لَیتطلّب إحیاءه والاعتماد علیه.
أمّا فی المرحلة التالیة فلنقترح علیهم طرح التواریخ والأسناد على طاولة البحث والنقاش من دون أیّ تعصّب لنعرف هل إنّ مسلمی صدر الإسلام كانوا قد تعاملوا مع الزهراء البتول (سلام الله علیها) بشكل صحیح أم لا؟ ثمّ - إذا كانت الظروف مواتیة – فسوف نطرح بعد ذلك السؤال التالی: «ماذا كانت نیّتهم من هذا التصرّف»؟ وینبغی أن نقول حینئذ: «قد یرتكب المرء عملاً قبیحاً نتیجة لخطأ مّا. فنحن نعلم أنّ مسلمی صدر الإسلام كانوا اُناساً سطحیّین حدیثی العهد بالإسلام. حتّى إنّ بعضهم كانوا قد اتّبعوا رؤساءهم فی عملیّة إسلامهم فإنْ أسلَم الرئیس أسلم جمیع المرؤوسین، وإن ارتدّ الرئیس ارتدّ الجمیع تبعاً له. ومن هنا فإنّ بإمكاننا من خلال تتبّعنا للتاریخ أن نشاهد أیّ تبعات غریبة وحوادث عجیبة قد حصلت فی صدر الإسلام والتی، كما یقول قائد الثورة المعظّم (مُدّ ظلّه)، كان منشأَها انعدامُ البصیرة».
فإذا استطعنا أن نهیّئ الأرضیّة للجلوس على طاولة واحدة من أجل نقاش وبحث سلیم ومنطقیّ ومستدَلّ ضمن جوّ من الاحترام المتبادل فإنّ هذه الطریقة ستكون مؤثّرة حتماً، لاسیّما فی هذه المرحلة التی وجدت فیها بیئات مختلفة ومتنوّعة للتقریب بین الشیعة والسنّة فی بلدان العالم المختلفة وأضحى بعض علماء الشیعة من أحبّ الناس إلى قلوب الكثیرین من أهل السنّة. إذن علینا أن نغتنم هذه الفرص ونستغلّها فی سبیل توضیح الحقائق أكثر فأكثر، بشرط أن نضع التعصّب الأعمى جانباً ونتحدّث بكلام منطقیّ وباسلوب سلیم.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. مختصر التحفة الاثنى عشریة / لمحمود شكری الآلوسی، ص9.
2. تذكرة الحفاظ / للذهبی، ج1، ص166.
3. سورة سبأ، الآیة 24.
4. سورة العنكبوت، الآیة 46.
5. سورة البقرة، الآیة 136.
6. سورة آل عمران، الآیة 64.
7. سورة آل عمران، الآیة 64.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 2 آذار 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
یدور موضوع بحثنا حول خطبة مولاتنا فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) المعروفة بالخطبة الفدكیّة. ومن أجل المحافظة على ترابط البحث نعرض هنا موجزاً عمّا أوردناه من المباحث السابقة. فالقصّة باختصار هی أنّ جماعة من المسلمین كانوا قد اجتمعوا بعد رحیل رسول الله (صلّى الله علیه وآله) وعیّنوا خلیفة له بذریعة أن لا تبقى الاُمّة من دون زعیم. ولم یُصغ أحد حینها لكلام المعارضین لهذه الطریقة فكانت الغلبة للطرف القائل: «الناس أنفسهم هم الذین یجب أن یعیّنوا خلیفة للنبیّ»! وإنّ من جملة الأعمال التی قام بها الجهاز الحكومیّ منذ الیوم الأوّل لتسلّم مقالید الامور هی أنّه قام بغصب عقار كان النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) قد أعطاه للزهراء (سلام الله علیها) فی حیاته بأمر من الله عزّ وجلّ وذلك بزعم أنّ هذه الأموال یجب أن توضع تحت تصرّف الحاكم! وقد اشتكت فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) على هذا التصرّف عند الحاكم فی حینها. وطبقاً لروایاتنا، بل وأحیاناً روایات أهل السنّة أیضاً فإنّ الخلیفة الأوّل قد كتب لها فی إحدى المرّات كتاباً خطّیاً یقرّ فیه لها بأحقّیتها فی ملكیّة العقار، لكنّ أشخاصاً آخرین لم یتحمّلوا ذلك فعمدوا إلى أخذ هذا الصكّ منها وتمزیقه.
الملاحظة التی لا ینبغی أن تغیب عن الأذهان فی هذا المضمار هی أنّ إصرار مولاتنا الزهراء (علیها السلام) على هذا الأمر، وخلافاً لما یظنّه بعض ضیّقی الأفق والسطحیّین فی التفكیر، لم یكن أبداً سعیاً وراء مصالح مادّیة، بل إنّها (علیها السلام) وبعد یأسها من رجوع الخلافة إلى مسیرها الصحیح باتت تشعر أنّ على عاتقها مسؤولیّة جسیمة وهی تبیین مسألتین لاولئك المعاصرین لها ولأجیال المستقبل أیضاً؛ الاُولى هی إفهام الجمیع بأنّ هذا العمل الذی اُنجِز لم یكن بإجماع من المسلمین، والثانیة هی أنّ الاختیار لم یقع على الشخص المناسب وأنّ الذین تسلّموا مقالید الامور لا یتمتّعون بالأهلیّة لذلك.
ولهذا الغرض فقد قصدت الزهراء (سلام الله علیها) المسجد الذی كان مقرّ الحكومة آنذاك عدّة مرّات ودار بینها وبین خلیفة زمانها كلام. فقد اعترضت علیه فی إحدى هذه المرّات بأنّ فدكاً هی مِلك قد أعطانیه أبی نِحْلَةً «نِحلَة أبی»1 وقد كانت تحت تصرّفی فی زمان حیاته (صلّى الله علیه وآله) وحتّى بعد مماته، فبأیّ حقّ تغتصبها الآن منّی؟! فقیل لها: «لابدّ أن تقیمی البیّنة على ما تدّعینه»! وهذا الجواب یخالف اُصول القضاء الإسلامیّ؛ ذلك أنّه عندما یكون عقار تحت تصرّف شخص فإنّه یكون ذا ید علیه كما یُصطلَح علیه فقهیّاً وإذا ادّعاه شخص آخر فلا ینبغی للقاضی أن یطالب ذا الید بالبیّنة، بل إنّ المدّعی هو من یجب علیه أن یأتی بالبیّنة؛ ذلك أنّ: «البیّنة على المُدّعِی»2، لكنّ المتصدّین لإدارة الجهاز الحكومیّ كانوا قد أصرّوا على موقفهم بالقول: «العقار فی أیدینا فی الوقت الحاضر فإن كان لدیك أیّ اعتراض فإنّ علیك إقامة البیّنة»! فقدّمت الزهراء (سلام الله علیها) أمیر المؤمنین (علیه السلام) واُمّ أیمن كشاهدین على مدّعاها. وطبقاً لسنّة النبیّ الكریم (صلّى الله علیه وآله) فإنّه كان یقبل بشهادة الرجل الواحد بدلاً من الرجلین إذا كان مشهوراً بالصدق ولم یعرف أحد منه الكذب. فقد كان خزیمة بن ثابت من جملة من كان النبیّ (صلّى الله علیه وآله) یقبل بشهادته وحده عوضاً عن شاهدین حتّى لُقّب بأنّه«ذو الشهادتین». فكان حریّ بالقوم فی هذه القضیّة وقد شهد رجل مثل علیّ بن أبی طالب (علیه السلام) أن لا یبتغوا شاهداً آخر. لكنّهم لم یقبلوا بتلك الشهادة وفُضّت الجلسة من دون أن یقرّوا لفاطمة (علیها السلام) بما تدّعیه. ثمّ حدث أن جاءت فاطمة مرّة أو مرّتین اُخریین إلى الخلیفة ودار بعض الكلام بینهما حتّى أنّه لم یتمكّن فی إحداهما أن یقدّم جواباً متقناً فكتب لها صكّاً یثبت ملكیّتها للعقار لكنّ هذا الصكّ قد مُزّق.
فعادت الزهراء (علیها السلام) بعد ذلك وذهبت إلى المسجد لتواجههم بأنّكم إذا رفضتم كون فدك نِحلَة لی، فإنّنی ابنة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) الوحیدة وإذا كان النبیّ قد ورَّث شیئاً فإنّه سیصل لی لا محالة، فاعطونی فدكاً بعنوان الإرث إذن. وهذه المسألة كانت فی الواقع تمهیداً لإثبات عدم أهلیّة هؤلاء المتصدّین للحكومة والقضاء بین الناس. فعندما ادّعت (سلام الله علیها) الإرث قالوا لها: «إنّ الأنبیاء لا یورّثون. فقانون الإرث یسری على عامّة الناس فقط، أمّا النبیّ فإنّ أمواله تُصرف بعد فراقه الدنیا فی سبیل الله».
وكان قدومها إلى المسجد من أجل إلقاء الخطبة الفدكیّة بعد إعلام مُسبَق قد تلا تلك الأحداث. وقد نُصب فی المسجد دونها ستار فقامت (علیها السلام) خلف الستار منشئة هذه الخطبة.
أمّا مقطع الخطبة الذی أودّ سرده الیوم فی هذا المجلس فهو الذی اشتمل على استدلال السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) على بطلان المدّعى القائل بأنّ الأنبیاء لا یورّثون، فقد أرادت (علیها السلام) بهذه الكلمات أن تثبت أنّ هذا الزعم یخالف صریح القرآن الكریم ونصّه، وذلك عندما وجّهت خطابها للخلیفة نفسه قائلة: «وَأَنْتُمُ الآنَ تَزْعُمُونَ أَنْ لا إِرْثَ لَنَا»3؛ بأیّ دلیل تدّعون أنّنی لا أرِث أبی؟! فالزهراء البتول (علیها السلام) تذكر هنا عدّة وجوه لهذا المدّعى ممّا یحكی عمّا تتمتّع به هذه الشخصیّة العظیمة والمعصومة من قوّة الاستدلال وعمق الرؤیة. فإذا أمعنّا النظر بدقّة فی عبارات هذه الخطبة الشریفة فستتجلّى لنا ما تنطوی علیه من قوّة البیان وعمق المعانی. تقول بضعة المصطفى (سلام الله علیها): «وَأَنْتُمُ الآنَ تَزْعُمُونَ أَنْ لا إِرْثَ لَنَا»؛ یعنی: لو افترضنا جدلاً أنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) لم یهبنی فدكاً، إذن فقد كانت من أمواله وأنا التی ینبغی أن أرثه بعد موته، فلماذا تظنّون أن لا إرْث لنا؟! ثمّ تتابع: «أَفَحُكْمَ الجاهِلِیَّةِ تَبْغُونَ»؛ أفتریدون أن تحكموا كما كان یحكم أهل الجاهلیّة وتقولون: إنّ البنت لا ترث أباها؟ «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ یُوقِنُونَ»، وهذه العبارات مقتبسة من القرآن الكریم4، وهو اُسلوب قد اتّبعته (علیها السلام) فی مقاطع مختلفة من هذه الخطبة وقد اتّصفت معظم هذه الاقتباسات بكونها لاذعة وعمیقة المغزى والمضمون. فالزهراء (سلام الله علیها) ترید أن تقول هنا: «إذا كنتم تزعمون أنّنی لا أرث أبی لكونی اُنثى، فاعلموا أنّ هذا الحكم هو حكم عصر الجاهلیّة وأنّ الإسلام قد نسخه».
«أَفَلا تَعْلَمُونَ؟! بَلَى قَد تَجَلَّى لَكُمْ كَالشَّمْسِ الضَّاحِیَةِ أَنِّی ابْنَتُهُ»5. فقد تزعمون وتقولون: «نحن لا نعلم إن كُنتِ ابنة الرسول حقّاً»! فهل أنتم لا تعلمون ذلك حقّاً؟! كلاّ بل هی واضحة لكم كالشمس فی رابعة النهار أنّنی ابنة النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله). إذن فهذا الاحتمال أیضاً لا أساس له من الصحّة.
«أَفَعَلَى عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتَابَ اللهِ وَنَبَذْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُم». لقد ورد فی الكتب الروائیّة لأهل السنّة وكذا فی كتب التاریخ أنّ الخلیفة قال لها: إنّی سمعت رسول الله (صلّى الله علیه وآله) یقول: «إنّا معاشر الأنبیاء لا نورّث، ما تركناه صدقة»6. ولعلّ الزهراء (سلام الله علیها) تشیر فی هذا المقطع من الخطبة إلى هذا الادّعاء، فهی تقول: هذه الروایة على خلاف القرآن الكریم. أیمكن أن یتفوّه النبیّ (صلّى الله علیه وآله) بشیء مخالف للقرآن؟! فلقد نبذتم بقولكم هذا كتابَ الله وراء ظهوركم وتریدون أن تحكموا بما یخالف صریح القرآن «إِذْ یَقُولُ: «وَوَرِثَ سُلَیْمَانُ دَاوُدَ»7». أولَم یكن داوود نبیّاً؟! فكیف تقول: إنّ الأنبیاء لا یورّثون؟! «وَقَالَ فِیمَا اقْتَصَّ مِنْ خَبَرِ یَحْیَى بْنِ زَكَرِیّا إِذْ قَالَ: «فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْكَ وَلِیّاً یَرِثُنِی وَیَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوب»8»؛ فهذا زكریّا (علیه السلام) أیضاً یسأل الله ولداً یرثه ویرث آل یعقوب (علیه السلام). أولم یكن زكریّا نبیّاً أیضاً؟!
«وقال: «وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِی كِتَابِ اللهِ»9». فالاحتمال الآخر أنّكم قد تزعمون: «إنّ الأنبیاء یورّثون لكنّ الوارثین ینقسمون إلى طبقات، وما دامت الطبقة الاُولى موجودة فإنّ الطبقات التالیة لا ترث». فلو كان الأمر كذلك، فمن هو أقرب للنبیّ منّی؟ «وقال: «یُوصِیكُمُ اللهُ فِی أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَیَیْنِ»10، وقال: «إِنْ تَرَكَ خَیْراً الْوَصِیَّةُ لِلْوالِدَیْنِ وَالأَقْرَبِینَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِینَ»11»، فقبل أن یُبلَّغ قانون الإرث كان قد اُوصی بأن یوصی الناس لأولادهم، ثمّ اُبلغ قانون الإرث بصورة إلزامیّة بعد ذلك. وترید (علیها السلام) أن تقول هنا: «لیس ثمّة مَن هو أقرب منّی إلى النبیّ كی یشكّل مانعاً من أن أرِثَه ».
«وَزَعَمْتُمْ أَلاّ حُظْوَةَ لِی وَلا أَرِثُ إرْثَ مِنْ أَبِی وَلا رَحِمَ بَیْنَنَا، أَفَخَصَّكُمُ اللهُ بِآیَةٍ أَخْرَجَ أَبِی مِنْهَا»؟! فإن قلتم: «صحیح أنّ الأنبیاء فی نظر القرآن یورّثون ولم یرد لهذا الحكم ناسخ، لكنّكِ أنتِ بالذات لا ترثین أباك»! بمعنى: أنّ آیات الإرث قد اختصّت بكم وهی لا تشمل أبی! فی حین أنّ أیّاً من الآیات المذكورة آنفاً لم تستثن سیّد المرسلین (صلّى الله علیه وآله). فالأحكام الحقوقیّة سواء فیما یتّصل بالنبیّ وبسائر الناس اللهمّ إلاّ فی أحكام استثنائیّة صرّح القرآن الكریم بأنّها خاصّة بالنبیّ (صلّى الله علیه وآله)، لكنّه یشترك مع الرعیّة فی مقابل أحكام الله الاخرى.
«أَمْ هَلْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَهْلَ مِلَّتَیْنِ لا یَتَوَارَثَانِ؟ أَوَلَسْتُ أَنَا وَأَبِی مِنْ أَهْلِ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ»؟ فقد تزعمون أیضاً: «أنّ الوارث لا یرث إلاّ إذا كان على دین مورّثه». أولستُ أنا على دین أبی؟! أم تقولون: «لا یرثُ مَن یدین بدین معیّن الذی یدین بدین آخر أساساً؛ أی إذا كان المورّث مسلماً مثلاً ووارثه مرتدّاً قد دخل الكفر فإنّه لا یرثه». فهل یعنی هذا أنّنی قد خرجت عن ملّة الإسلام؟! ألم أكن وأبی من أهل دین واحد؟! إذن فهذا الاحتمال لا وجه له أیضاً.
«أَمْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أَبِی وَابْنِ عَمِّی». إذن لا یبقى إلاّ احتمال واحد وهو أن تدّعوا: «إنّ للآیات المذكورة معانی اخرى وإنّ قراءتكم لها تختلف عن قراءتنا! وإنّكم تفهمون عموم القرآن وخصوصه أفضل من أبی (صلّى الله علیه وآله) وزوجی علیّ (علیه السلام)». وقد جاء فی بعض النسخ أنّها (علیها السلام) ألحقت كلامها هذا بالقول: «فَدُونَكَهَا مَخْطُومَةً مَزمُومَةً مَرْحُولَةً تَلْقَاكَ یَوْمَ حَشْرِكَ». فكانت العرب إذا أرادت ترویض الناقة وضعت شیئاً فی أنفها وربطت به لجامها. فكان یقال للشیء الموضوع فی أنف الناقة «خطاماً»، وللناقة الموضوعِ فی أنفها ذلك الشیء «مخطومةً»، كما أنّ العرب تقول للناقة المـُعَدّة للركوب والرحیل «مرحولةً» وتقول للجامها «زماماً»، كما ویقال لتلك الـمُعَدّ زمامها والمربوطة به «مزمومة». إذن فالزهراء (علیها السلام) تخاطب الخلیفة الأوّل بالقول: «خذ ناقة الخلافة هذه فهی مُعَدّة للركوب ولیس من مزاحم لك علیها إطلاقاً، فجهازها مُعَدّ وزمامها فی یدك، فخذها وانطلق بها حتّى یأتی الیوم الذی یأخذ الله تعالى فیه حقّی منك».
عندما تصل الزهراء (سلام الله علیها) بكلامها إلى هذا المقطع تقول: «فَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ»؛ فأنا اُحَكِّم الله بینی وبینك. «وَالزَّعِیمُ مُحَمَّدٌ»، وأَجعلُ من أبی كفیلاً لی فی هذه القضیّة لیدافع ویقیم الدعوى عنّی، «وَالْمَوْعِدُ الْقِیَامَةُ»؛ وسَاُرجِئ جلسة القضاء إلى یوم القیامة، «وَعِنْدَ السَّاعَةِ «یَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ»12»؛ وهنا أیضاً تقتبس كلامها من كلام الله عزّ وجلّ حینما تقول: إنّ الذین یختارون سبیل الباطل سوف یخسرون یوم القیامة. «وَلا یَنْفَعُكُمْ إِذْ تَنْدَمُونَ» فإنّكم ستندمون حینئذ حیث لا ینفعكم الندم شیئاً. «وَ«لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ»13 «مَنْ یَأْتِیهِ عَذَابٌ یُخْزِیهِ وَیَحِلُّ عَلَیْهِ عَذَابٌ مُقِیمٌ»14»؛ وهنا اقتباس آخر من آی الذكر الحكیم، تقول فیه: ستعلمون عن قریب من الذی سیُفتَضَح أمره ویحیق به عذاب أبدیّ. فهی تهدّدهم بكونهم مشمولین بهذه الآیة الكریمة وأنّ الله تعالى سیصدر یوم القیامة حكمه ضدّكم وعندها ستتورّطون بعذاب أبدیّ.
واُؤكّد هنا من جدید على أنّ فاطمة الزهراء (علیها السلام) كانت ترمی من كلّ ذلك إلى أن تُثْبِت للناس أنّ هؤلاء لیسوا جدیرین بهذا المنصب لأنّهم لا یستطیعون حتّى أن یقضوا فی خصومة بسیطة وفقاً لموازین القرآن الكریم وقواعده. فأنّى لهم أن یتولّوا منصب خلافة رسول الله (صلّى الله علیه وآله) وهم لا یدرون من أیّ طرف من طرفَی الخصومة ینبغی المطالبة بالبیّنة؟! فإن كان ولابدّ أن تختاروا أحداً لمنصب الخلافة فیتعیّن – على أقلّ تقدیر – أن یتمتّع من تختارونه بالأهلیّة لذلك.
إذن فالهدف الأساسیّ من كلّ ما أظهرته (علیها السلام) من شفقة والغایة الجوهریّة من كلّ تلك المحاجّات هی أنّها (علیها السلام) أرادت أن ترسم لمن سیأتی بعد 1400 سنة على تلك الحادثة سبیلاً إلى تشخیص الحقّ لیفهم ویدرك إنْ كان هذا الانتخاب انتخاباً صائباً أم لا؛ وإلاّ فإنّ تلاًّ من الذهب لا یعادل فی نظر المعصومین (علیهم السلام) كومةً من الرماد، ولیس لمال الدنیا فی أعینهم أیّ قیمة.
إنّنا فی الوقت الذی ندرك فیه تكلیفنا بأنّه ینبغی أن یكون تعاملنا مع إخواننا من أهل السنّة تعاملاً ودّیاً وحمیماً وأنّ نطلب الخیر لهم باستمرار، فإنّنا غیر غافلین عن مسألة أنّه من جملة الخیر الذی نطلبه لجمیع إخواننا من المسلمین هو أنّه یتعیّن علینا السعی وبذل الجهود من أجل المحافظة على طریق الحقّ سالكةً مفتوحةً دوماً، وإذا صادف وجود أیّ اختلاف فی الرأی فلابدّ - من أجل حلّه - من الرجوع إلى الوثائق والأسناد ذات العلاقة. فلابدّ من توفّر أجواء سلیمة للبحث والمناقشة كی یتمكّن كلّ طالبٍ للحقّ من تشخیصه. فإنّ أشخاصاً من آل بیت الرسول (صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین) كانوا معارضین لهذا النمط من السلوكیّات والتصرّفات التی حصلت فی ذلك الحین. فإن رغب أحد فی معرفة أنّه: مع مَن كان الحقّ؟ فلابدّ له من الرجوع إلى الوثائق والأسناد المتوفّرة من أجل دراستها ومناقشتها. فلو قمنا نحن بحجب تلك الوثائق عن الناس ولم ندع تلك الامور تطرق أسماع الآخرین كی یجیلوها فی أذهانهم ویفكّروا بها ملیّاً فإنّنا - فی الواقع - نكون قد قطعنا طریق تشخیص الحقّ على الآخرین وإنّه سیأتی الیوم الذی سیشتكی فیه علینا نفس إخواننا السنّة عند ربّهم قائلین: «لو أنّكم كنتم قد بیّنتم لنا تلك الحقائق لما كنّا بقینا على ضلالتنا».
إذن فواجبنا الدینیّ یحتّم علینا أنّه فی الوقت الذی نسعى فیه للحفاظ على مودّتنا واُخوّتنا مع جمیع طوائف المسلمین وأن نطلب لهم الخیر، وفی ذات الوقت الذی نسعى فیه للحیلولة دون إیجاد التوتّرات والعداوات والبغضاء بین المسلمین، فإنّه یجب علینا أن ندع باب البحث والتحقیق مفتوحاً على مصراعیه.
نسأل الله العلیّ القدیر أن یوفّقنا جمیعاً لمعرفة الحقّ.
1. الاحتجاج، ج1، ص107.
2. الكافی، ج7، ص361.
3. بحار الأنوار، ج29، ص235.
4. سورة المائدة، الآیة 50.
5. الاحتجاج، ج1، ص102.
6. صحیح البخاری، ج4، ص42 (طبعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزیع / سنة 1401 هـ، 1981م)؛ وشرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید المعتزلیّ، ج16، ص239 (طبعة دار إحیاء الكتب العربیّة / سنة 1962م).
7. سورة النمل، الآیة 16.
8. سورة مریم، الآیتان 5 و 6.
9. سورة الأنفال، الآیة 75.
10. سورة النساء، الآیة 11.
11. سورة البقرة، الآیة 180.
12. سورة الجاثیة، الآیة 27.
13. سورة الأنعام، الآیة 67.
14. سورة هود، الآیة 39؛ وسورة الزمر، الآیة 40.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 6 نیسان 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
الحمد لله الذی تفضّل علیّ بالتوفیق للحضور فی هذا المحفل النورانیّ لأكون فی خدمة الإخوة الأعزّاء. موضوع بحثنا هو خطبة السیّدة الزهراء (سلام الله علیها)، وأنا أرى من الضروریّ فی بدایة العام الإیرانیّ الجدید أن نمرّ بعجالة على ذلك القسم من الخطبة الذی تمّ بحثه خلال المحاضرات الماضیة.
تبدأ الخطبة بالعبارة التالیة: «الْحَمْدُ للهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى مَا أَلْهَم». فالأنبیاء والأولیاء وعلماء الدین یستهلّون خطبهم بحمد الله والثناء علیه. لكنّ صفات الله تعالى ونعماءه التی تُستهلّ بها الخطبة تكون عادةً متناسبة مع الهدف الذی اُنشئت الخطبة من أجله. وفی هذه الخطبة المباركة أیضاً ذُكرت أوصاف خاصّة یمكن من خلال التأمّل فیها التوصّل إلى بعض الحِكَم من وراء تنظیم المقاطع المختلفة للخطبة. وعلى أقلّ تقدیر فإنّ ذكرها یساعدنا أكثر على الوقوف على أهمّیة الخطبة والهدف من إنشائها.
بالإضافة إلى حمد الله عزّ وجلّ والثناء علیه فقد احتوت هذه الخطبة الشریفة على ثلاث مباحث جوهریّة توالت فی إثر بعضها، ألا وهی التوحید، والنبوّة، والمعاد التی هی - فی الحقیقة - أساس الدین. فقد ذُكرت فی بدایة الخطبة، وبطراز خاصّ، الشهادةُ بوحدانیّة الله تعالى. فالتوحید ینهض بدور أساسیّ وجوهریّ فی سعادة البشر وإنّ الشهادة بالتوحید تمثّل - فی واقع الأمر - اعترافاً بهذه النعمة الإلهیّة العظیمة وهی أنّ الله جلّت آلاؤه قد منّ علینا بأكثر عوامل السعادة أصالةً، ممّا لو لم یكن لما كانت باقی الامور ذات فائدة. وبطبیعة الحال فإنّ للتوحید مراتب وشؤوناً مختلفة.
ولا یبتعد الاهتمام بهذه المسألة عن كونه مناسباً مع هدف الخطبة. فكان بإمكان السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) أن تقول: «أشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شریك له». غیر أنّ ذكر هذه الأوصاف والتأكید على أنّ سعادة الإنسان مبنیّة على هذا الاعتقاد إنّما هی مقدّمة للمبحث الذی مفاده أنّ العمل الذی قام به أبی رسول الله (صلّى الله علیه وآله) من أجل المجتمع البشریّ، حیث أنقذهم من الشرك والضلالة وكافّة الشرور، كان عملاً جذریّاً وغایة فی العظمة، ولیس من الممكن مقارنته مع عمل أیّ إنسان آخر؛ ذلك أنّ الشیء الذی بذله (صلّى الله علیه وآله) للاُمّة ووضعه فی متناولها هو أهمّ العوامل وأكثرها أصالة وجوهریّة لسعادة البشر قاطبة إلى یوم القیامة. إذن فالخدمة التی قدّمها الرسول الأعظم (صلّى الله علیه وآله) للمجتمع البشریّ بشكل عامّ والامّة الإسلامیّة ومخاطَبی السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) بشكل خاصّ كانت أنّه عرّفهم بالتوحید وأنقذهم من الشرك والضلال.
من هنا فإنّ هذا المقطع من خطبة فاطمة الزهراء (علیها السلام) یمثّل مقدّمة لبیان قیمة ما قدّمه أبوها (صلّى الله علیه وآله) من خدمات. فأهمّیة التوحید تتجلّى من خلال هذه المقدّمة، لأنّه عندما یفهم المتلقّی أنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) قد بذل مثل هذه الخدمة للبشریّة فإنّه سیدرك مقدار ما لفعله (صلّى الله علیه وآله) من قیمة وما لمعاناته وجهوده فی هذا المضمار من خطورة.
وقد تمّ التركیز فی أثناء الشهادة بالتوحید على صفتین إلهیّتین هما: الربوبیّة التكوینیّة لله تعالى؛ بمعنى أنّ الله قد تلطّف على البشر بنعمة الحیاة، ونعمة الوجود وما یستلزمه الوجود من لوازم. فإنّ كلّ ما یعود إلى الامور التكوینیّة وما ینتفع الناس به یقع ضمن إطار هذه المجموعة؛ ومن جملة هذه النعم هی أنّه جلّ شأنه وفّر فی البیئة المحیطة بالإنسان ما یناسبه من أجل نموّه وحیاته. وهذا اللون من الربوبیّة یشمل جمیع الكائنات والموجودات. أمّا ما یستقطب أهمّیة أكبر بالنسبة للإنسان فهو الربوبیّة التشریعیّة وهدایة البشر. إذ أنّ ما یوجب سعادة المرء فی الدنیا والآخرة هو اكتشاف السبیل القویم للحیاة وهی مهمّة كانت من نصیب الأنبیاء (علیهم السلام). ومن هذا المنطلق فقد عرّجت (علیها السلام) بعد الشهادة بالتوحید على الشهادة بالرسالة مشیرة، فی هذا المقام، إلى عظمة نعمة الأنبیاء، خصوصاً النبیّ الخاتم (صلّى الله علیه وآله) . وهنا تذكر مولاتنا فاطمة (سلام الله علیها) الجهود والأعباء التی قاساها وتحمّلها الرسول الأكرم (صلّى الله علیه وآله) فی سبیل أداء هذه الرسالة الإلهیّة وإیصال هذه الربوبیّة التشریعیّة لله عزّ وجلّ إلى حیّز العینیّة بالنسبة لأهل العالم. فلولا بعث الله سبحانه وتعالى للأنبیاء، لاسیّما النبیّ الخاتم (صلّى الله علیه وآله)، لما تمكّن الناس من تشخیص الصراط المستقیم. ولولا هذه الهدایة وهذه النعمة لبقی الناس فی مستوى الحیوانات، بل وأخسّ منهم أیضاً؛ فالقرآن یصرحّ بأنّ بعض الناس هم أخسّ من البهائم: «أُوْلَـٰئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ»1، ووفقاً لصریح القرآن الكریم أیضاً فإنّ: «شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِینَ كَفَرُواْ»2. إذن فإنّ الذی یستطیع أن ینقذ الإنسان من قعر هذا الحضیض هو الموجودات المقدّسة المتمثّلة بالأنبیاء عامّة وبخاتمهم خاصّة وما جاءوا به (صلوات الله علیهم أجمعین) من تعالیم.
فتذكیر الزهراء (سلام الله علیها) بهذه النقاط من شأنه أن ینبّه الناس إلى ما بذله أبوها من جهود ویقودهم إلى إدراك أنّه أیّ حقّ عظیم لرسول الله (صلّى الله علیه وآله) فی رقابهم. إذن فذكر سمات الرسول الأكرم (صلّى الله علیه وآله) وما كان لجهوده وأتعابه من تأثیر على هدایة الناس ونجاتهم من الضلالة یتناسب هو الآخر مع هدف الخطبة؛ فسیّدتنا فاطمة (علیها السلام) إنّما تذكر ذلك لتقول فیما بعد: «هذا الرجل الذی قدّم كلّ تلك التضحیات كان أبی؛ وهو الذی كان له حقّ علیكم، وأنا ابنته الوحیدة». ثمّ تقول: «فبعد أن أدّى أبی رسالته على أتمّ وجه فضّل الله تعالى أن یقبضه إلى جواره وجوار ملائكته المقرّبین على أن یبقیه فی هذه الدنیا: «ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ إِلَیْهِ قَبْضَ رَأْفَةٍ وَاخْتِیَارٍ، وَرَغْبَةٍ وَإِیْثَارٍ فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ عَنْ تَعَبِ هَذِهِ الدَّارِ فِی رَاحَةٍ، قَدْ حُفَّ بِالْمَلائِكَةِ الأَبْرَارِ، وَرِضْوَانِ الرَّبِّ الْغَفَّارِ، وَمُجَاوَرَةِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ». وهذا المقطع یذكّر بهذه الالتفاتة وهی أنّ الله عزّ وجلّ، وإن اقتضت مشیئته هدایة الناس وإنقاذهم من الضلالة بواسطة أنبیائه (علیهم السلام)، غیر أنّ سنّة الله التكوینیّة لا تقتضی بقاء النبیّ بین ظهرانی الناس إلى الأبد. فالنبیّ إنسان حاله حال سائر الناس وإنّ ظروف وقوانین الحیاة فی هذا العالم حاكمة ومهیمنة علیه أیضاً، وهو المبحث الذی یولیه القرآن الكریم تأكیداً واهتماماً أیضاً. فالنبیّ یحمل رسالة إلهیّة یتعیّن علیه إبلاغها إلى الناس، أمّا فی المرحلة التالیة فالناس هم الذین یتحتّم علیهم النهوض بمسؤولیّة المحافظة على هذه الرسالة الإلهیّة.
وفی أثناء المباحث الآنفة الذكر تشیر الزهراء (سلام الله علیها) أیضاً إلى قضیّة أنّ النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) ومن خلال تبیینه سبیل السعادة وطریق الشقاء للناس فقد نبّههم إلى نتائج أعمالهم الأبدیّة وأنذرهم بأنّ الحیاة لا تقتصر على فترة العیش الدنیویّ القصیرة الأمد فتنتهی بانتهائها، بل إنّ أعماركم القصیرة هذه هی مقدّمة لنیل السعادة السرمدیّة أو الشقاء الأبدیّ.
وبهذه المقاطع من الخطبة قد تمّ تقریر هذه الاُصول الثلاثة المتمثّلة بالتوحید، والنبوّة، والمعاد مع ذكر بعض الأوصاف الخاصّة بما یتناسب مع الهدف الذی ترمی إلیه الخطبة.
عندما تصل الزهراء (سلام الله علیها) إلى هذا المقطع من البحث تقوم بمتابعة خطبتها عبر توجیه خطابها إلى الحضور مباشرة. وهذا الاُسلوب فی الكلام ینطوی – بحدّ ذاته – على طابع بلاغیّ وهو كفیل بأن یلفت انتباه المخاطب ویُفهِمه بأنّ للمتكلّم - من الآن فصاعداً - كلاماً خاصّاً معه.
تقول الزهراء (علیها السلام) هنا: «أیّها الناس! أنتم تعلمون مدى الجهود التی بذلها أبی والمعاناة التی قاساها فی سبیل نشر دین الله سبحانه وتعالى وهدایتكم إلى الصراط المستقیم». فهی (علیها السلام) ترمی بتذكیر الناس بمیزات رسول الله (صلّى الله علیه وآله) إلى انتشالهم من غیاهب غفلتهم من جانب وإثارة عواطفهم من أجل أن تمهّد فی نفوسهم الأرضیّة لقبول كلامها من جانب آخر، وهذا أیضاً من الأسالیب البلاغیّة ومن الطرق التی یمكن استخدامها للتأثیر على الآخرین. فمولاتنا (علیها السلام) أرادت بهذا الاُسلوب أن تنبّههم إلى أنّ الدور الآن فی الحفاظ على تراث رسول الله (صلّى الله علیه وآله)، المتمثّل بالقرآن الكریم والدین الإسلامیّ الحنیف، هو دوركم. وهی بهذه المناسبة تشیر إلى بعض حِكَم الأحكام وفلسفة التشریعات الإلهیّة. وهذا المقطع یحمل التفاتة تُعَدّ هی الاخرى ذات تأثیر على ما ستنتهی إلیه الخطبة من استنتاج؛ ففی خضمّ سَرْد العلل من وراء تشریع بعض الأحكام كالصلاة، والزكاة، وغیرها تقول فاطمة الزهراء (سلام الله علیها): «وَطَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ، وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً مِنَ الْفُرْقَة». إذ أنّ لكلٍّ من الأحكام الإلهیّة توجد مصالح، وأنّ أحد تلك الأحكام هو طاعتنا أهل البیت (علیهم السلام)؛ وذلك لقوله عزّ من قائل: «أَطِیعُواْ اللهَ وَأَطِیعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِی الأَمْرِ مِنكُم»3 وإنّ لهذا التشریع الإلهیّ أیضاً حكمة مهمّة لا ینبغی الغفلة عنها وهی تنظیم ملّة الإسلام، أی الدین الإسلامیّ المقدّس. فلولا إمامتنا لم یكن دین الإسلام لینتظم. ولو احتمل أحدهم أنّ ذكر سائر الأحكام هو من باب المقدّمة من أجل تعیین منزلة الإمامة فلا یكون احتماله مستبعَداً؛ بمعنى أنّ ذكر كلّ هذه المجموعة هو من أجل معرفة هذا العنصر. فهی (علیها السلام) ترید أن تقول: «لقد أنزل الله علیكم هذا الدین وسلّمكم رسول الله (صلّى الله علیه وآله) هذه الأمانة وإنّ من واجبكم حفظ هذه الأمانة بأحسن ما یكون الحفظ». ولأجل ذلك فإنّها (علیها السلام) - بعد سردها لهذه الملاحظات وفی ختام هذا المقطع – تعرّج على وصیّة القوم بالتقوى؛ أی: ما دامت هذه المسؤولیّة ملقاة على عواتقكم فاعلموا أنّكم إن تهاونتم فی حملها ولم تراعوا التقوى فستذهب جهود أبی وهذا الهدف الإلهیّ أدراج الریاح. فقد كان الهدف من الرسالة هو أن تتمكّنوا من وجدان سبیل السعادة لتكون ملّة الإسلام التی تهب الحیاة هی الآمرة الناهیة فیكم، فإذا لم تراعوا هذه المسائل فإنّه لن یمضی أكثر من جیل واحد حتّى لا یبقى من الإسلام إلا أثر بعد عین.
ومن أجل أن تثیر (علیها السلام) فی أذهان الناس قضیّة اخرى فی نفس هذا السیاق قد غابت عنهم فإنّها تتوجّه إلیهم بالخطاب مرّة اخرى فتقول: «إذا كان أبی قد تحمّل شدید المعاناة وبذل قصارى الجهود من أجل هدایتكم فاعلموا أنّه لم یفعل هذا لوحده. فإنّ الشخص الذی كان ناصر أبی فی كلّ المحن والشدائد والذی كان النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) یلجأ إلیه فی طلب النصرة والمعونة لحلّ كلّ معضلة كان هو ابن عمّی علیّ بن أبی طالب (علیه السلام)؛ «... وَبَعْدَ أَنْ مُنِیَ بِبُهَمِ الرِّجَالِ، وَذُؤْبَانِ الْعَرَبِ، وَمَرَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ «كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ»، أَوْ نَجَمَ قَرْنٌ لِلشَّیْطَانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِینَ، قَذَفَ أَخَاهُ فِی لَهَوَاتِهَا». فأنتم تعلمون أنّه لولا علیّ لما انتظم أمر الإسلام. إذن فكما أنّكم مدینون للنبیّ لتلّقیه الوحی من الله عزّ وجلّ وإبلاغه إلیكم، فإنّكم مدینون لزوجی أیضاً لمساعیه من أجل ثبات هذا الدین».
ثمّ تقول: «وأنتم أیضاً قد اعتنقتم الإسلام ابتداءً فی حیاة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) ثمّ نهضتم لنصرته، لكن أصابتكم الغفلة بمجرّد رحیله وسلكتم سبیل الانحطاط؛ «فَلَمَّا اخْتَارَ اللهُ لِنَبِیِّهِ دَارَ أَنْبِیَائِهِ، وَمَأْوَى أَصْفِیَائِهِ، ظَهَرَ فِیكُمْ حَسِیكَةُ النِّفَاق». وحینذاك أخرج الشیطانُ - الذی كان كامناً لكم - رأسَه من جُحره خِلسةً لیتبیّن أحوال مجتمعكم فرآكم مهیّئین للضلالة؛ «أَطْلَعَ الشَّیْطَانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرَزِهِ هَاتِفاً بِكُمْ، فَأَلْفَاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجِیبِینَ، وَلِلْغِرَّةِ فِیهِ مُلاحِظِینَ، ثُمَّ اسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُمْ خِفَافاً، وَأَحْمَشَكُمْ فَأَلْفَاكُمْ غِضَاباً»». ولقد بیّنت الصدّیقة الطاهرة (سلام الله علیها) هذا المبحث باُسلوب هو غایة فی الأدب والبلاغة سبق أن قمت بتوضیحه بحدود فهمی وبما توفّر لدیّ من وقت. فهذه الالتفاتة كانت الموطّئة للإشارة لهذا المبحث وهو: «لقد تهیّأت أرضیّة الزیغ عن مسیر الإسلام منذ الیوم الأوّل لوفاة النبیّ الكریم (صلّى الله علیه وآله) ولقد كان ذلك نتیجة غفلتكم وجهلكم وسباتكم الأمر الذی مكّن الشیطان من التسلّط علیكم وحرفكم عن الطریق القویم».
ومن الضروریّ - إذا سنحت لنا الفرصة یوماً - أن نتطرّق إلى هذه القضیّة ونتحدّث عنها وهی: كیف یتسنّى لاولئك الذین تحمّلوا كلّ تلك الأعباء والمحن أن ینقضوا ما قطعوا على أنفسهم مع رسول الله من عهد فی نفس الیوم الذی فارق (صلّى الله علیه وآله) فیه الدنیا وجنازته لم تزل مطروحة على الأرض لم تُجَهّز بعد؟! حقّاً إنّها لمسألة غامضة، تكتنفها الأسرار لكنّها فی نفس الوقت تحمل دروساً وعبراً أیضاً. فهذا الامتحان غیر مخصوص بهؤلاء القوم، إذ لعلّه یجری علینا أیضاً ببعض مراتبه ودرجاته. لاحظوا أنّنا عندما خطونا فی الطریق الصحیح كیف أنّ الله قد منّ علینا بالهدایة وتفضّل علینا بأن أمّر علینا قائداً حكیماً كی نعرف الطریق ولا نحید عنه، لكن لا ینبغی أن ینتابنا الغرور فنظنّ أنّ سعادتنا أصبحت مضمونة! فمادام الإنسان حیّاً یستنشق هواء هذه الدنیا فإنّه عرضة للمخاطر. فحذار أن نغترّ بأنفسنا ونطمئنّ من مستقبلنا، بل علینا أن نلجأ إلى الله ونسأله حُسن العاقبة والحفظ فی كلّ الأحوال والمراحل. بالطبع هذا بشرط أن لا نقصّر على صعید العمل بما هو ضمن حدود فهمنا واستیعابنا.
على أیّة حال فإنّ الزهراء البتول (علیها السلام) توكّد على هذه النقطة وهی: «لقد أصابتكم الآفات منذ اللحظة الاولى لرحیل أبی (صلّى الله علیه وآله)، وإنّ منشأ تلك الآفات هی الغفلة».
فكلّنا یعلم أنّ الإنسان یمكن أن یخطأ أو یزلّ. فما عدا المعصومین (علیهم السلام) وبعض المتربّین فی مدرستهم فإنّ جمیع من سواهم تقریباً مبتلون بارتكاب الخطیئة والمعصیة. لكنّ الخطأ ینقسم - بشكل عامّ - إلى قسمین؛ فتارة قد یتهاون المرء فیرتكب خطأ، لكنّ خطأ كهذا یكون قابلاً للتدارك. فإذا ترك المرء صلاته حتّى خرج وقتها، لكنّه تاب بعدها توبة نصوحاً وقضاها فإنّ خطأه سوف یمحى. أمّا القسم الآخر من الخطأ فإنّه من النوع الذی إذا ابتدأ لا تكون فیه رجعة ویوصَد السبیل أمام تداركه. وفی مثل هذه الحالة لا یحرم المرء نفسه من البركات والرحمات فحسب بل سیقود ذلك إلى انحراف الآخرین وضلالهم أیضاً. من هذا المنطلق علینا نحن طلبة العلوم الدینیّة أن نلتفت إلى هذا الخطر المحدق أكثر من غیرنا. فلو تفوّه الأشخاص العادیّون بكلام خاطئ أو حتّى انتحلوا مذهباً منحرفاً فمن الممكن بعد أن یثوبوا إلى رشدهم ویلتفتوا إلى خطئهم أن یُشمَلوا بلطف الله عزّ وجلّ وعنایته فیتوبوا. أمّا إذا ألقى امرؤ شبهةً أو طرح موضوعاً غیر مدروس أدّى إلى انحراف ضلالة أحد من الناس، وهو ما نشاهد نماذج غیر قلیلة منه فی عالمنا المعاصر، فكیف یتسنّى له یا ترى أن یتدارك خطأه هذا؟! فإذا كتب شخص مقالة مضلّة وقرأها الآلاف فی داخل البلاد وخارجها وأدّت إلى ضلالتهم، فكیف یمكن تقویم هذا الانحراف؟! فعندما تُبثّ شبهةٌ مّا ویصاب دین المرء جرّاءها بالفساد فلا یمكن الوثوق من إمكانیّة تدارك ما فسد. فإلقاء الشبهة أمر غایة فی السهولة، أمّا جبران عواقبها فهو شدید الصعوبة. فكلّما اتّسعت رقعة هذا الزیغ والانحراف فإنّ ذنبه بالنسبة للمتسبّب به سیبقى ویتأصّل: «وَلَیَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ»4. وعلى العكس من ذلك إذا هدى شخص امرأ فسیشاركه فی كلّ عمل خیر یقوم به الأخیر إلى یوم القیامة.
هذا على صعید الفكر والعقیدة. أمّا على صعید العمل فالأخطاء على نوعین أیضاً؛ فبعضها قابل للتدارك وبعضها الآخر غیر قابل لذلك؛ فإذا اُنیطت بالمرء مسؤولیّة اجتماعیّة ثمّ قام - عوضاً عن خدمة أفراد المجتمع – بتضییع حقوقهم، أو بسنّ أو تنفیذ قانون خاطئ فكیف یمكنه جبران ذلك؟ فالصوت الذی نرمیه فی صندوق الانتخابات معناه أنّنا نسلّط شخصاً على رقاب العباد ولابدّ أن نعلم أنّنا سنكون شركاء فیما یناله هذا الشخص من ثواب أو عقاب على أعماله بنسبة ما لنا من دور فی صعوده إلى سدّة الحكم. إذن یتعیّن علینا أن نتعامل مع مثل هذه الامور ببالغ الحساسیّة لاسیّما فیما یرتبط بنا نحن طلبة العلوم الدینیّة؛ أی فیما یتعلّق بالمسائل الفكریّة والعقائدیّة. ینبغی أن نتوخّى الحذر الشدید من أن نقول أو نكتب كلّ ما یتبادر إلى أذهاننا. كما علینا أن نشعر بالمسؤولیّة أیضاً؛ فلو طرأت على دین امرئ شبهة ضَعُف إیمانه بسببها فمَن هو المسؤول عن ذلك یا ترى؟ وكیف یمكن تدارك ذلك؟ فإن كتب أحدٌ مقالة تحتوی على شبهة ثمّ اكتشف خطأه وتدارك الأمر بكتابة جواب على ما كتبه، فهل سیؤثّر ذلك على المخاطَبین؟
وكأنّ الصدّیقة الزهراء (سلام الله علیها) أرادت بكلامها هذا الإشارة إلى هذه النقطة وهی: «لم یكن أثر غفلتكم أنّكم حُرِمتم من تصدّی القیادة الحكیمة والحقیقیّة لمقالید الامور فحسب، بل إنّكم بغفلتكم هذه قد غیّرتم مسیرة الاُمّة الإسلامیّة وحرفتموها عن وُجهتها، فاغتنم الشیطان الفرصة واستغلّ غفلتكم كی یحرفكم عن خطّ الإسلام الصحیح».
وسنتابع هذا البحث فی المحاضرة القادمة إن شاء الله تعالى.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. سورة الأعراف، الآیة 179.
2. سورة الأنفال، الآیة 55.
3. سورة النساء، الآیة 59.
4. سورة العنكبوت، الآیة 13.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 6 نیسان 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
الحمد لله الذی تفضّل علیّ بالتوفیق للحضور فی هذا المحفل النورانیّ لأكون فی خدمة الإخوة الأعزّاء. موضوع بحثنا هو خطبة السیّدة الزهراء (سلام الله علیها)، وأنا أرى من الضروریّ فی بدایة العام الإیرانیّ الجدید أن نمرّ بعجالة على ذلك القسم من الخطبة الذی تمّ بحثه خلال المحاضرات الماضیة.
تبدأ الخطبة بالعبارة التالیة: «الْحَمْدُ للهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى مَا أَلْهَم». فالأنبیاء والأولیاء وعلماء الدین یستهلّون خطبهم بحمد الله والثناء علیه. لكنّ صفات الله تعالى ونعماءه التی تُستهلّ بها الخطبة تكون عادةً متناسبة مع الهدف الذی اُنشئت الخطبة من أجله. وفی هذه الخطبة المباركة أیضاً ذُكرت أوصاف خاصّة یمكن من خلال التأمّل فیها التوصّل إلى بعض الحِكَم من وراء تنظیم المقاطع المختلفة للخطبة. وعلى أقلّ تقدیر فإنّ ذكرها یساعدنا أكثر على الوقوف على أهمّیة الخطبة والهدف من إنشائها.
بالإضافة إلى حمد الله عزّ وجلّ والثناء علیه فقد احتوت هذه الخطبة الشریفة على ثلاث مباحث جوهریّة توالت فی إثر بعضها، ألا وهی التوحید، والنبوّة، والمعاد التی هی - فی الحقیقة - أساس الدین. فقد ذُكرت فی بدایة الخطبة، وبطراز خاصّ، الشهادةُ بوحدانیّة الله تعالى. فالتوحید ینهض بدور أساسیّ وجوهریّ فی سعادة البشر وإنّ الشهادة بالتوحید تمثّل - فی واقع الأمر - اعترافاً بهذه النعمة الإلهیّة العظیمة وهی أنّ الله جلّت آلاؤه قد منّ علینا بأكثر عوامل السعادة أصالةً، ممّا لو لم یكن لما كانت باقی الامور ذات فائدة. وبطبیعة الحال فإنّ للتوحید مراتب وشؤوناً مختلفة.
ولا یبتعد الاهتمام بهذه المسألة عن كونه مناسباً مع هدف الخطبة. فكان بإمكان السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) أن تقول: «أشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شریك له». غیر أنّ ذكر هذه الأوصاف والتأكید على أنّ سعادة الإنسان مبنیّة على هذا الاعتقاد إنّما هی مقدّمة للمبحث الذی مفاده أنّ العمل الذی قام به أبی رسول الله (صلّى الله علیه وآله) من أجل المجتمع البشریّ، حیث أنقذهم من الشرك والضلالة وكافّة الشرور، كان عملاً جذریّاً وغایة فی العظمة، ولیس من الممكن مقارنته مع عمل أیّ إنسان آخر؛ ذلك أنّ الشیء الذی بذله (صلّى الله علیه وآله) للاُمّة ووضعه فی متناولها هو أهمّ العوامل وأكثرها أصالة وجوهریّة لسعادة البشر قاطبة إلى یوم القیامة. إذن فالخدمة التی قدّمها الرسول الأعظم (صلّى الله علیه وآله) للمجتمع البشریّ بشكل عامّ والامّة الإسلامیّة ومخاطَبی السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) بشكل خاصّ كانت أنّه عرّفهم بالتوحید وأنقذهم من الشرك والضلال.
من هنا فإنّ هذا المقطع من خطبة فاطمة الزهراء (علیها السلام) یمثّل مقدّمة لبیان قیمة ما قدّمه أبوها (صلّى الله علیه وآله) من خدمات. فأهمّیة التوحید تتجلّى من خلال هذه المقدّمة، لأنّه عندما یفهم المتلقّی أنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) قد بذل مثل هذه الخدمة للبشریّة فإنّه سیدرك مقدار ما لفعله (صلّى الله علیه وآله) من قیمة وما لمعاناته وجهوده فی هذا المضمار من خطورة.
وقد تمّ التركیز فی أثناء الشهادة بالتوحید على صفتین إلهیّتین هما: الربوبیّة التكوینیّة لله تعالى؛ بمعنى أنّ الله قد تلطّف على البشر بنعمة الحیاة، ونعمة الوجود وما یستلزمه الوجود من لوازم. فإنّ كلّ ما یعود إلى الامور التكوینیّة وما ینتفع الناس به یقع ضمن إطار هذه المجموعة؛ ومن جملة هذه النعم هی أنّه جلّ شأنه وفّر فی البیئة المحیطة بالإنسان ما یناسبه من أجل نموّه وحیاته. وهذا اللون من الربوبیّة یشمل جمیع الكائنات والموجودات. أمّا ما یستقطب أهمّیة أكبر بالنسبة للإنسان فهو الربوبیّة التشریعیّة وهدایة البشر. إذ أنّ ما یوجب سعادة المرء فی الدنیا والآخرة هو اكتشاف السبیل القویم للحیاة وهی مهمّة كانت من نصیب الأنبیاء (علیهم السلام). ومن هذا المنطلق فقد عرّجت (علیها السلام) بعد الشهادة بالتوحید على الشهادة بالرسالة مشیرة، فی هذا المقام، إلى عظمة نعمة الأنبیاء، خصوصاً النبیّ الخاتم (صلّى الله علیه وآله) . وهنا تذكر مولاتنا فاطمة (سلام الله علیها) الجهود والأعباء التی قاساها وتحمّلها الرسول الأكرم (صلّى الله علیه وآله) فی سبیل أداء هذه الرسالة الإلهیّة وإیصال هذه الربوبیّة التشریعیّة لله عزّ وجلّ إلى حیّز العینیّة بالنسبة لأهل العالم. فلولا بعث الله سبحانه وتعالى للأنبیاء، لاسیّما النبیّ الخاتم (صلّى الله علیه وآله)، لما تمكّن الناس من تشخیص الصراط المستقیم. ولولا هذه الهدایة وهذه النعمة لبقی الناس فی مستوى الحیوانات، بل وأخسّ منهم أیضاً؛ فالقرآن یصرحّ بأنّ بعض الناس هم أخسّ من البهائم: «أُوْلَـٰئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ»1، ووفقاً لصریح القرآن الكریم أیضاً فإنّ: «شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِینَ كَفَرُواْ»2. إذن فإنّ الذی یستطیع أن ینقذ الإنسان من قعر هذا الحضیض هو الموجودات المقدّسة المتمثّلة بالأنبیاء عامّة وبخاتمهم خاصّة وما جاءوا به (صلوات الله علیهم أجمعین) من تعالیم.
فتذكیر الزهراء (سلام الله علیها) بهذه النقاط من شأنه أن ینبّه الناس إلى ما بذله أبوها من جهود ویقودهم إلى إدراك أنّه أیّ حقّ عظیم لرسول الله (صلّى الله علیه وآله) فی رقابهم. إذن فذكر سمات الرسول الأكرم (صلّى الله علیه وآله) وما كان لجهوده وأتعابه من تأثیر على هدایة الناس ونجاتهم من الضلالة یتناسب هو الآخر مع هدف الخطبة؛ فسیّدتنا فاطمة (علیها السلام) إنّما تذكر ذلك لتقول فیما بعد: «هذا الرجل الذی قدّم كلّ تلك التضحیات كان أبی؛ وهو الذی كان له حقّ علیكم، وأنا ابنته الوحیدة». ثمّ تقول: «فبعد أن أدّى أبی رسالته على أتمّ وجه فضّل الله تعالى أن یقبضه إلى جواره وجوار ملائكته المقرّبین على أن یبقیه فی هذه الدنیا: «ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ إِلَیْهِ قَبْضَ رَأْفَةٍ وَاخْتِیَارٍ، وَرَغْبَةٍ وَإِیْثَارٍ فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ عَنْ تَعَبِ هَذِهِ الدَّارِ فِی رَاحَةٍ، قَدْ حُفَّ بِالْمَلائِكَةِ الأَبْرَارِ، وَرِضْوَانِ الرَّبِّ الْغَفَّارِ، وَمُجَاوَرَةِ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ». وهذا المقطع یذكّر بهذه الالتفاتة وهی أنّ الله عزّ وجلّ، وإن اقتضت مشیئته هدایة الناس وإنقاذهم من الضلالة بواسطة أنبیائه (علیهم السلام)، غیر أنّ سنّة الله التكوینیّة لا تقتضی بقاء النبیّ بین ظهرانی الناس إلى الأبد. فالنبیّ إنسان حاله حال سائر الناس وإنّ ظروف وقوانین الحیاة فی هذا العالم حاكمة ومهیمنة علیه أیضاً، وهو المبحث الذی یولیه القرآن الكریم تأكیداً واهتماماً أیضاً. فالنبیّ یحمل رسالة إلهیّة یتعیّن علیه إبلاغها إلى الناس، أمّا فی المرحلة التالیة فالناس هم الذین یتحتّم علیهم النهوض بمسؤولیّة المحافظة على هذه الرسالة الإلهیّة.
وفی أثناء المباحث الآنفة الذكر تشیر الزهراء (سلام الله علیها) أیضاً إلى قضیّة أنّ النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) ومن خلال تبیینه سبیل السعادة وطریق الشقاء للناس فقد نبّههم إلى نتائج أعمالهم الأبدیّة وأنذرهم بأنّ الحیاة لا تقتصر على فترة العیش الدنیویّ القصیرة الأمد فتنتهی بانتهائها، بل إنّ أعماركم القصیرة هذه هی مقدّمة لنیل السعادة السرمدیّة أو الشقاء الأبدیّ.
وبهذه المقاطع من الخطبة قد تمّ تقریر هذه الاُصول الثلاثة المتمثّلة بالتوحید، والنبوّة، والمعاد مع ذكر بعض الأوصاف الخاصّة بما یتناسب مع الهدف الذی ترمی إلیه الخطبة.
عندما تصل الزهراء (سلام الله علیها) إلى هذا المقطع من البحث تقوم بمتابعة خطبتها عبر توجیه خطابها إلى الحضور مباشرة. وهذا الاُسلوب فی الكلام ینطوی – بحدّ ذاته – على طابع بلاغیّ وهو كفیل بأن یلفت انتباه المخاطب ویُفهِمه بأنّ للمتكلّم - من الآن فصاعداً - كلاماً خاصّاً معه.
تقول الزهراء (علیها السلام) هنا: «أیّها الناس! أنتم تعلمون مدى الجهود التی بذلها أبی والمعاناة التی قاساها فی سبیل نشر دین الله سبحانه وتعالى وهدایتكم إلى الصراط المستقیم». فهی (علیها السلام) ترمی بتذكیر الناس بمیزات رسول الله (صلّى الله علیه وآله) إلى انتشالهم من غیاهب غفلتهم من جانب وإثارة عواطفهم من أجل أن تمهّد فی نفوسهم الأرضیّة لقبول كلامها من جانب آخر، وهذا أیضاً من الأسالیب البلاغیّة ومن الطرق التی یمكن استخدامها للتأثیر على الآخرین. فمولاتنا (علیها السلام) أرادت بهذا الاُسلوب أن تنبّههم إلى أنّ الدور الآن فی الحفاظ على تراث رسول الله (صلّى الله علیه وآله)، المتمثّل بالقرآن الكریم والدین الإسلامیّ الحنیف، هو دوركم. وهی بهذه المناسبة تشیر إلى بعض حِكَم الأحكام وفلسفة التشریعات الإلهیّة. وهذا المقطع یحمل التفاتة تُعَدّ هی الاخرى ذات تأثیر على ما ستنتهی إلیه الخطبة من استنتاج؛ ففی خضمّ سَرْد العلل من وراء تشریع بعض الأحكام كالصلاة، والزكاة، وغیرها تقول فاطمة الزهراء (سلام الله علیها): «وَطَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ، وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً مِنَ الْفُرْقَة». إذ أنّ لكلٍّ من الأحكام الإلهیّة توجد مصالح، وأنّ أحد تلك الأحكام هو طاعتنا أهل البیت (علیهم السلام)؛ وذلك لقوله عزّ من قائل: «أَطِیعُواْ اللهَ وَأَطِیعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِی الأَمْرِ مِنكُم»3 وإنّ لهذا التشریع الإلهیّ أیضاً حكمة مهمّة لا ینبغی الغفلة عنها وهی تنظیم ملّة الإسلام، أی الدین الإسلامیّ المقدّس. فلولا إمامتنا لم یكن دین الإسلام لینتظم. ولو احتمل أحدهم أنّ ذكر سائر الأحكام هو من باب المقدّمة من أجل تعیین منزلة الإمامة فلا یكون احتماله مستبعَداً؛ بمعنى أنّ ذكر كلّ هذه المجموعة هو من أجل معرفة هذا العنصر. فهی (علیها السلام) ترید أن تقول: «لقد أنزل الله علیكم هذا الدین وسلّمكم رسول الله (صلّى الله علیه وآله) هذه الأمانة وإنّ من واجبكم حفظ هذه الأمانة بأحسن ما یكون الحفظ». ولأجل ذلك فإنّها (علیها السلام) - بعد سردها لهذه الملاحظات وفی ختام هذا المقطع – تعرّج على وصیّة القوم بالتقوى؛ أی: ما دامت هذه المسؤولیّة ملقاة على عواتقكم فاعلموا أنّكم إن تهاونتم فی حملها ولم تراعوا التقوى فستذهب جهود أبی وهذا الهدف الإلهیّ أدراج الریاح. فقد كان الهدف من الرسالة هو أن تتمكّنوا من وجدان سبیل السعادة لتكون ملّة الإسلام التی تهب الحیاة هی الآمرة الناهیة فیكم، فإذا لم تراعوا هذه المسائل فإنّه لن یمضی أكثر من جیل واحد حتّى لا یبقى من الإسلام إلا أثر بعد عین.
ومن أجل أن تثیر (علیها السلام) فی أذهان الناس قضیّة اخرى فی نفس هذا السیاق قد غابت عنهم فإنّها تتوجّه إلیهم بالخطاب مرّة اخرى فتقول: «إذا كان أبی قد تحمّل شدید المعاناة وبذل قصارى الجهود من أجل هدایتكم فاعلموا أنّه لم یفعل هذا لوحده. فإنّ الشخص الذی كان ناصر أبی فی كلّ المحن والشدائد والذی كان النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) یلجأ إلیه فی طلب النصرة والمعونة لحلّ كلّ معضلة كان هو ابن عمّی علیّ بن أبی طالب (علیه السلام)؛ «... وَبَعْدَ أَنْ مُنِیَ بِبُهَمِ الرِّجَالِ، وَذُؤْبَانِ الْعَرَبِ، وَمَرَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ «كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ»، أَوْ نَجَمَ قَرْنٌ لِلشَّیْطَانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِینَ، قَذَفَ أَخَاهُ فِی لَهَوَاتِهَا». فأنتم تعلمون أنّه لولا علیّ لما انتظم أمر الإسلام. إذن فكما أنّكم مدینون للنبیّ لتلّقیه الوحی من الله عزّ وجلّ وإبلاغه إلیكم، فإنّكم مدینون لزوجی أیضاً لمساعیه من أجل ثبات هذا الدین».
ثمّ تقول: «وأنتم أیضاً قد اعتنقتم الإسلام ابتداءً فی حیاة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) ثمّ نهضتم لنصرته، لكن أصابتكم الغفلة بمجرّد رحیله وسلكتم سبیل الانحطاط؛ «فَلَمَّا اخْتَارَ اللهُ لِنَبِیِّهِ دَارَ أَنْبِیَائِهِ، وَمَأْوَى أَصْفِیَائِهِ، ظَهَرَ فِیكُمْ حَسِیكَةُ النِّفَاق». وحینذاك أخرج الشیطانُ - الذی كان كامناً لكم - رأسَه من جُحره خِلسةً لیتبیّن أحوال مجتمعكم فرآكم مهیّئین للضلالة؛ «أَطْلَعَ الشَّیْطَانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرَزِهِ هَاتِفاً بِكُمْ، فَأَلْفَاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجِیبِینَ، وَلِلْغِرَّةِ فِیهِ مُلاحِظِینَ، ثُمَّ اسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُمْ خِفَافاً، وَأَحْمَشَكُمْ فَأَلْفَاكُمْ غِضَاباً»». ولقد بیّنت الصدّیقة الطاهرة (سلام الله علیها) هذا المبحث باُسلوب هو غایة فی الأدب والبلاغة سبق أن قمت بتوضیحه بحدود فهمی وبما توفّر لدیّ من وقت. فهذه الالتفاتة كانت الموطّئة للإشارة لهذا المبحث وهو: «لقد تهیّأت أرضیّة الزیغ عن مسیر الإسلام منذ الیوم الأوّل لوفاة النبیّ الكریم (صلّى الله علیه وآله) ولقد كان ذلك نتیجة غفلتكم وجهلكم وسباتكم الأمر الذی مكّن الشیطان من التسلّط علیكم وحرفكم عن الطریق القویم».
ومن الضروریّ - إذا سنحت لنا الفرصة یوماً - أن نتطرّق إلى هذه القضیّة ونتحدّث عنها وهی: كیف یتسنّى لاولئك الذین تحمّلوا كلّ تلك الأعباء والمحن أن ینقضوا ما قطعوا على أنفسهم مع رسول الله من عهد فی نفس الیوم الذی فارق (صلّى الله علیه وآله) فیه الدنیا وجنازته لم تزل مطروحة على الأرض لم تُجَهّز بعد؟! حقّاً إنّها لمسألة غامضة، تكتنفها الأسرار لكنّها فی نفس الوقت تحمل دروساً وعبراً أیضاً. فهذا الامتحان غیر مخصوص بهؤلاء القوم، إذ لعلّه یجری علینا أیضاً ببعض مراتبه ودرجاته. لاحظوا أنّنا عندما خطونا فی الطریق الصحیح كیف أنّ الله قد منّ علینا بالهدایة وتفضّل علینا بأن أمّر علینا قائداً حكیماً كی نعرف الطریق ولا نحید عنه، لكن لا ینبغی أن ینتابنا الغرور فنظنّ أنّ سعادتنا أصبحت مضمونة! فمادام الإنسان حیّاً یستنشق هواء هذه الدنیا فإنّه عرضة للمخاطر. فحذار أن نغترّ بأنفسنا ونطمئنّ من مستقبلنا، بل علینا أن نلجأ إلى الله ونسأله حُسن العاقبة والحفظ فی كلّ الأحوال والمراحل. بالطبع هذا بشرط أن لا نقصّر على صعید العمل بما هو ضمن حدود فهمنا واستیعابنا.
على أیّة حال فإنّ الزهراء البتول (علیها السلام) توكّد على هذه النقطة وهی: «لقد أصابتكم الآفات منذ اللحظة الاولى لرحیل أبی (صلّى الله علیه وآله)، وإنّ منشأ تلك الآفات هی الغفلة».
فكلّنا یعلم أنّ الإنسان یمكن أن یخطأ أو یزلّ. فما عدا المعصومین (علیهم السلام) وبعض المتربّین فی مدرستهم فإنّ جمیع من سواهم تقریباً مبتلون بارتكاب الخطیئة والمعصیة. لكنّ الخطأ ینقسم - بشكل عامّ - إلى قسمین؛ فتارة قد یتهاون المرء فیرتكب خطأ، لكنّ خطأ كهذا یكون قابلاً للتدارك. فإذا ترك المرء صلاته حتّى خرج وقتها، لكنّه تاب بعدها توبة نصوحاً وقضاها فإنّ خطأه سوف یمحى. أمّا القسم الآخر من الخطأ فإنّه من النوع الذی إذا ابتدأ لا تكون فیه رجعة ویوصَد السبیل أمام تداركه. وفی مثل هذه الحالة لا یحرم المرء نفسه من البركات والرحمات فحسب بل سیقود ذلك إلى انحراف الآخرین وضلالهم أیضاً. من هذا المنطلق علینا نحن طلبة العلوم الدینیّة أن نلتفت إلى هذا الخطر المحدق أكثر من غیرنا. فلو تفوّه الأشخاص العادیّون بكلام خاطئ أو حتّى انتحلوا مذهباً منحرفاً فمن الممكن بعد أن یثوبوا إلى رشدهم ویلتفتوا إلى خطئهم أن یُشمَلوا بلطف الله عزّ وجلّ وعنایته فیتوبوا. أمّا إذا ألقى امرؤ شبهةً أو طرح موضوعاً غیر مدروس أدّى إلى انحراف ضلالة أحد من الناس، وهو ما نشاهد نماذج غیر قلیلة منه فی عالمنا المعاصر، فكیف یتسنّى له یا ترى أن یتدارك خطأه هذا؟! فإذا كتب شخص مقالة مضلّة وقرأها الآلاف فی داخل البلاد وخارجها وأدّت إلى ضلالتهم، فكیف یمكن تقویم هذا الانحراف؟! فعندما تُبثّ شبهةٌ مّا ویصاب دین المرء جرّاءها بالفساد فلا یمكن الوثوق من إمكانیّة تدارك ما فسد. فإلقاء الشبهة أمر غایة فی السهولة، أمّا جبران عواقبها فهو شدید الصعوبة. فكلّما اتّسعت رقعة هذا الزیغ والانحراف فإنّ ذنبه بالنسبة للمتسبّب به سیبقى ویتأصّل: «وَلَیَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ»4. وعلى العكس من ذلك إذا هدى شخص امرأ فسیشاركه فی كلّ عمل خیر یقوم به الأخیر إلى یوم القیامة.
هذا على صعید الفكر والعقیدة. أمّا على صعید العمل فالأخطاء على نوعین أیضاً؛ فبعضها قابل للتدارك وبعضها الآخر غیر قابل لذلك؛ فإذا اُنیطت بالمرء مسؤولیّة اجتماعیّة ثمّ قام - عوضاً عن خدمة أفراد المجتمع – بتضییع حقوقهم، أو بسنّ أو تنفیذ قانون خاطئ فكیف یمكنه جبران ذلك؟ فالصوت الذی نرمیه فی صندوق الانتخابات معناه أنّنا نسلّط شخصاً على رقاب العباد ولابدّ أن نعلم أنّنا سنكون شركاء فیما یناله هذا الشخص من ثواب أو عقاب على أعماله بنسبة ما لنا من دور فی صعوده إلى سدّة الحكم. إذن یتعیّن علینا أن نتعامل مع مثل هذه الامور ببالغ الحساسیّة لاسیّما فیما یرتبط بنا نحن طلبة العلوم الدینیّة؛ أی فیما یتعلّق بالمسائل الفكریّة والعقائدیّة. ینبغی أن نتوخّى الحذر الشدید من أن نقول أو نكتب كلّ ما یتبادر إلى أذهاننا. كما علینا أن نشعر بالمسؤولیّة أیضاً؛ فلو طرأت على دین امرئ شبهة ضَعُف إیمانه بسببها فمَن هو المسؤول عن ذلك یا ترى؟ وكیف یمكن تدارك ذلك؟ فإن كتب أحدٌ مقالة تحتوی على شبهة ثمّ اكتشف خطأه وتدارك الأمر بكتابة جواب على ما كتبه، فهل سیؤثّر ذلك على المخاطَبین؟
وكأنّ الصدّیقة الزهراء (سلام الله علیها) أرادت بكلامها هذا الإشارة إلى هذه النقطة وهی: «لم یكن أثر غفلتكم أنّكم حُرِمتم من تصدّی القیادة الحكیمة والحقیقیّة لمقالید الامور فحسب، بل إنّكم بغفلتكم هذه قد غیّرتم مسیرة الاُمّة الإسلامیّة وحرفتموها عن وُجهتها، فاغتنم الشیطان الفرصة واستغلّ غفلتكم كی یحرفكم عن خطّ الإسلام الصحیح».
وسنتابع هذا البحث فی المحاضرة القادمة إن شاء الله تعالى.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. سورة الأعراف، الآیة 179.
2. سورة الأنفال، الآیة 55.
3. سورة النساء، الآیة 59.
4. سورة العنكبوت، الآیة 13.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 13 نیسان 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«ثُمّ رَمَت بطرفها نحو الأنصار فقالت: یَا مَعشَرَ النَّقِیبَةِ وَأَعْضَادَ الْمِلَّةِ، وَحَضَنَةَ الإِسْلامِ! مَا هَذِهِ الْغَمِیزَةُ فِی حَقِّی، وَالسِّنَةُ عَنْ ظُلامَتِی؟! أَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ أَبِی یَقُولُ: الْمَرْءُ یُحْفَظُ فِی وُلْدِهِ؟ سَرْعَانَ مَا أَحْدَثْتُمْ، وَعَجْلانَ ذَا إِهَالَةٍ، وَلَكُمْ طَاقَةٌ بِمَا أُحَاوِلُ، وَقُوَّةٌ عَلَى مَا أَطْلُبُ وَأُزَاوِلُ. أَتَقُولُونَ: مَاتَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِه».
موضوع بحثنا یدور حول الخطبة الفدكیّة للسیّدة الزهراء وقد ذكرنا أنّها (سلام الله علیها) بعد حمد الله عزّ وجلّ والثناء علیه والشهادة برسالة النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) وسرد أوصافه وكمالاته فإنّها (علیها السلام) قد توجّهت بخطابها إلى الناس ببضعة مقاطع مستخدمة تعابیر مختلفة ومذكّرة إیّاهم بما علیهم من واجبات وتكالیف. فقد قالت فیما قالت: «أَنْتُمْ عِبَادَ اللهِ نُصْبُ أَمْرِهِ وَنَهْیِهِ، وَحَمَلَةُ دِینِهِ وَوَحْیِهِ، وَأُمَنَاءُ اللهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَبُلَغَاؤُهُ إِلَى الأُمَم»؛ فقد خاطبت الناس مستخدمة عنوان «عباد الله» قائلة لهم: «أنتم نُصب أمر الله تعالى ونهیه، وحَمَلة وحیه ودینه، واُمناؤه، وقد حمّلكم الله أمانة فی أعناقكم أنتم مكلّفون بحفظها من جهة، وبإبلاغها إلى الآخرین من جهة اُخرى». ومرادها من هذا المقطع هو تبیین المسؤولیّة الملقاة على عاتق الناس فیما یتعلّق بحفظ أحكام الدین وإبلاغها إلى الأجیال القادمة، وهی مسؤولیّة جسیمة وخطیرة للغایة لا تكون فی العادة محطّ اهتمام أحد. فالزهراء (علیها السلام) تؤكّد على هذه النقطة وتقول: «أُمَنَاءُ اللهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَبُلَغَاؤُهُ إِلَى الأُمَم». ثمّ تُتبِع هذا التذكیر ببعض الأمثلة لهذه الأمانة والحِكَم من تشریعها وتختتم هذا المقطع بالقول: «فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ».
ثمّ تستهلّ المقطع التالی بعبارة: «أَیُّهَا النَّاسُ! اعْلَمُوا أَنِّی فَاطِمَةُ وَأَبِی مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِه»؛ فهی تخاطب الحاضرین هذه المرّة أیضاً مستخدمة عنوان «أیّها الناس» معرّفة نفسها لكلّ من یصدق علیه عنوان «الناس» كی یعلم المخاطبون من هو المتحدّث إلیهم وكیف ینبغی لهم أن یستمعوا لهذا الكلام ویتلقّوه. فهی (علیها السلام) تقول: «إنّنی ابنة ذلك الرجل الذی أنقذكم من تعاسة وشقاء الدنیا والآخرة. فلقد كان وضعكم المعیشیّ من البؤس إلى درجة أنّكم لم تكونوا تملكون ماء صالحاً للشرب ولا طعاماً مناسباً للأكل، وكنتم تحیون حیاة فقر وبؤس یقتل الأخ فیها أخاه. فرسول الله (صلّى الله علیه وآله) هو الذی انتشلكم من هذا الوضع المزری: «وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ... تَشْرَبُونَ الطَّرْقَ، وَتَقْتَاتُونَ القَدَّ، أَذِلَّةً خَاسِئِینَ، تَخافُونَ أَنْ یَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُم، فَأَنْقَذَكُمُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ بَعْدَ اللَّتَیَّا وَالَّتِی». والأهمّ من ذلك هو أنّكم كنتم قوماً ضالّین تعبدون الأصنام ولا تعرفون دین الحقّ فعرّفكم بالله الواحد وجاءكم بأفضل دین منه تعالى، وهداكم إلى أعلى مراتب الكمال الإنسانیّ. فلیس هناك أحد فی هذا العالم قد أسدى للبشریّة مثل هذه الخدمة. لقد تحمّل رسول الله (صلّى الله علیه وآله) عندما كان بین أظهركم أشدّ المحن وأقسى المعاناة وأصعبها ولم یكن له فی خضمّها ناصر ومعین غیر علیّ (علیه السلام). فبینما كنتم تتنعّمون فی دعة من العیش وراحة بال كان علیّ (علیه السلام) یقذف بنفسه فی أفواه الأفاعی المفغورة نصرة لدین الله، حتّى كانت نتیجة ذلك أن توطّدت دعائم الإسلام واستقرّ الدین بفضل جهاد النبیّ وعلیّ (صلوات الله علیهما): «وَبَعْدَ أَنْ مُنِیَ بِبُهَمِ الرِّجَالِ، وَذُؤْبَانِ الْعَرَبِ، وَمَرَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ، أَوْ نَجَمَ قَرْنٌ لِلشَّیْطَانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِینَ، قَذَفَ أَخَاهُ فِی لَهَوَاتِهَا، فَلا یَنْكَفِئُ حَتَّى یَطَأَ جَنَاحَها صِمَاخَهَا بِأَخْمَصِهِ، وَیُخْمِدَ لَهَبَهَا بِسَیْفِهِ... وَأَنْتُمْ فِی رَفَاهِیَةٍ مِنَ الْعَیْشِ، وَادِعُونَ فَاكِهُونَ آمِنُونَ» فأصبتم ما أصبتم من الشرف والفخر». وكان بیانها (صلوات الله علیها) لأوصاف رسول الله (صلّى الله علیه وآله) هو من باب المقدّمة لبیان مسألة اخرى؛ إذ أرادت أن تُلحِق هذه المقدّمة بالقول: «فما دام النبیّ حیّاً كانت تلك الاُمور محطّ افتخار الجمیع وقبولهم. ولكن ما الذی حلّ بكم بمجرّد أن رحل النبی عن هذه الدنیا؟ لقد ظهرت فیكم بعد رحیله میول تنمّ عن نفاق: «ظَهَرَ فِیكُمْ حَسِیكَةُ النِّفَاق» وتغلّب علیكم الشیطان. فعوضاً عن حفظ عهدكم مع النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وحراسة ما ائتمنكم علیه فإنّكم نسیتم كلّ شیء، وكأنّه لم یبق فیكم من الإسلام غیر الاسم أمّا حقیقة الإسلام فنسیتموها». ثمّ تشیر (علیها السلام) إلى خطأین فادحین ارتكبه هؤلاء القوم فتقول: «الخطأ الفادح الأوّل الذی ارتكبتموه هو أنّكم خالفتم عهد النبیّ وجنازته لا زالت مطروحةً على الأرض، أمّا الخطأ الثانی فهو أنّكم نبذتم أحكام الإسلام الواضحة خلف ظهوركم؛ فغصبتم أموالی وقلتم خلاف نصّ القرآن الصریح: إنّك ِلا ترثین أباك مدّعین أنّ الأنبیاء لا وارث لهم»! وقد جاء فی بعض الأخبار أنّ الزهراء (سلام الله علیها) قالت للمتصدّی لمنصب الخلافة: «یَا ابْنَ أَبِی قُحَافَةَ! أَفِی كِتَابِ اللهِ أَنْ تَرِثَ أَبَاكَ وَلا أَرِثَ أَبِی»1؟! ثمّ تقول موبّخة الناس استقباحاً منها لتلك الحركة التی قاموا بها وبنبرة غیر المكترث: «فَدُونَكَهَا مَخْطُومَةً مَزمُومَةً مَرْحُولَةً تَلْقَاكَ یَوْمَ حَشْرِكَ» وهی عبارة تتضمّن تقریعاً عنیفاً للمخاطَبین.
«ثمّ رَمَت بطرفها نحو الأنصار». حتّى هذه اللحظة كان مخاطَبو فاطمة (سلام الله علیها) هم عامّة الناس. لكنّها فی هذا المقطع، وطبقاً لما تناقلته الروایات المختلفة، فإنّها تلتفت بوجهها نحو الأنصار موجّهة الخطاب إلیهم. وستتّضح من سیاق الكلام الحكمة من هذا التوجیه للخطاب. فكأنّها وقد بلغت هذه النقطة من الخطبة قد أشاحت بوجهها عن المهاجرین ولسان حالها یقول لهم: «إنّكم قد أقدمتم على غصب الخلافة، إذن فخذوا ما استحوذتم علیه واغربوا بعیداً».
كان الأنصار یتمتّعون بمكانة مهمّة فی العالم الإسلامیّ آنذاك. فهم الذین نصروا الدین الإسلامیّ بدعوتهم لرسول الله (صلّى الله علیه وآله) وإیوائهم للمهاجرین عندما كانوا مشرّدین قد استولى مشركو مكّة على ممتلكاتهم وأخرجوهم من دیارهم. فعندما هاجروا إلى المدینة لم یكن لدیهم من مأوى یلجأون إلیه أو مصدر كسب یرتزقون منه، فكان أهل المدینة هم الذین آووهم وأشركوهم فی أموالهم. وبعد ذلك آخى الله عزّ وجلّ عبر مراسم خاصّة بین المهاجرین والأنصار. هذا مضافاً إلى أنّه من دون نصرة الأنصار للمهاجرین لم یكن الأخیرون قادرین على التصدّی للمشركین فی المعارك التی فرضوها على المسلمین. وهذا مقتضى الأسباب الظاهریّة. فدعم الأنصار كان - فی الحقیقة - سبباً فی انتشار الإسلام، وإنّ هذه المیزة التی تمتّع بها الأنصار هی التی دفعت الزهراء (سلام الله علیها) إلى أن توجّه آخر سهام خطابها إلیهم علّهم یستیقظون من سباتهم.
وكما قد أسلفتُ مراراً وتكراراً فإنّ كلّ هذا الكلام وهذه الاحتجاجات كانت من أجل أن تخطو (علیها السلام) خطوة فی سبیل هدایة الناس وتسترعی انتباه الأجیال القادمة أو بعض من عاصرها إلى ما ارتكبه هؤلاء من أخطاء جسیمة فیتبیّنوا طریق الحقّ القویم. فهناك احتمال هو أقرب ما یكون إلى الیقین وهو أنّه لولا هذه الخطبة لما كنّا الیوم نعرف مَن هی فاطمة الزهراء (علیها السلام). فإنّ كلّ ما عرفه المسلمون بعد رحیل النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) من الحقّ والحقیقة كان بفضل هذه الكلمات التی ألقتها بضعة الرسول (علیها السلام) فقد مثّلت نقطة الانطلاقة لذلك.
بعد أن یئست الزهراء (علیها السلام) من المهاجرین التفتت نحو الأنصار محاولة استمالة عواطفهم من خلال أصلٍ متّبَع فی علم النفس؛ أی بمعزلٍ عن البحث المنطقیّ والاستدلالیّ مع المتصدّی لكرسیّ الخلافة فقد حاولت (علیها السلام) استثارة عواطف الأنصار علّهم یعون أنّه یتعیّن علیهم اتّباع أهل البیت (علیهم السلام). هذا الاسلوب الذی انتهجته البتول (سلام الله علیها) فی الخطاب یعلّمنا درساً عظیماً مفاده أنّ الحركات والثورات الاجتماعیّة لا تنطلق دائماً فی ظلّ المنطق العقلانیّ القویّ؛ بل إنّ العامل الأساسیّ المحرّض لتلك الحركات هو - فی الأعمّ الأغلب - المشاعر والأحاسیس. فالمشاعر والعواطف هی التی تتولّى صیاغة الحركات وإشعال الثورات. فالزهراء (علیها السلام) حتّى هذه اللحظة كانت تخاطب الناس بكلام مستدَلّ، لكنّها ترید من الآن فصاعداً استثارة عواطفهم؛ ومن هذا المنطلق فقد قالت لهم: «یا معشر الأنصار! یا مَن كانت نصرتهم سبباً فی انتشار الإسلام. فأنتم الذین احتضنتم الإسلام وربّیتموه فی ربوعكم. أنتم نقباء العالم الإسلامیّ. كیف تغفلون مثل هذه الغفلة بعد كلّ تلك الخدمة التی أسدیتموها للإسلام؟! أین إحساسكم بالمسؤولیّة؟! أین وَلّى حماسكم وأین ذهبت عواطفكم؟! أما سمعتم أبی رسول الله (صلّى الله علیه وآله) یقول: «الْمَرْءُ یُحْفَظُ فِی وُلْدِهِ»؟ فحفظ احترام المرء بعد موته یكون فی احترام ذرّیته. وهل تعرفون ذرّیة للنبیّ غیری؟ ألا تعرفون كیف تردّون الجمیل لذلك النبیّ الذی قدّم لكم كلّ تلك الخدمات؟ الآن وأبی لیس بین أظهركم ألا ینبغی احترام أبنائه؟ أین ذهبت عواطفكم الإنسانیّة؟
«یَا مَعشَرَ النَّقِیبَةِ» نخب المجتمع ومشاهیره «وَأَعْضَادَ الْمِلَّةِ» الذین صُنتم ملّة الإسلام وحفظتموها كساعد قویّ لها، «وَحَضَنَةَ الإِسْلامِ» الذین حضنوه كما تحضن الأمّ طفلها وتربّیه. یا مَن تملكون كلّ هذا الماضی المشرق ویا مَن كنتم العون والناصر لكلّ ما حقّقه الإسلام من تقدّم! «مَا هَذِهِ الْغَمِیزَةُ فِی حَقِّی» ما الذی أصابكم لتقابلونی بكلّ هذه اللامبالاة، «وَالسِّنَةُ عَنْ ظُلامَتِی» فأنتم تتفرّجون على ما یقع علیّ من ظلم من دون أن تحرّكوا ساكناً أو تنبسوا ببنت شفة! فهل أنتم نائمون یا ترى؟ ألستم الذین قدّموا للإسلام وللنبیّ كلّ تلك التضحیات؟! «أَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ أَبِی یَقُولُ: الْمَرْءُ یُحْفَظُ فِی وُلْدِهِ؟ سَرْعَانَ مَا أَحْدَثْتُمْ، وَعَجْلانَ ذَا إِهَالَةٍ» وهذا مثل عربیّ یُضرب عندما یراد أن یقال: سرعان ما انحرفتم عن جادّة الصواب وأخطأتم الطریق.
واستباقاً لما قد یقول الأنصار من أنّه: «أجل لقد ظلموكِ؛ ولكن لیس فی أیدینا حیلة» فقد قالت (سلام الله علیها): «وَلَكُمْ طَاقَةٌ بِمَا أُحَاوِلُ، وَقُوَّةٌ عَلَى مَا أَطْلُبُ وَأُزَاوِلُ» فإنّكم قادرون على تلبیة ما أطلب، فما هو عذركم إذن؟ كیف یمكن الجمع بین وضعكم الحالیّ هذا مع سابق تضحیاتكم؟!
ولئلا یقولوا أیضاً (بتعبیری الشخصیّ): «كان لأبیك حقّ علینا ما دام حیّاً فقد نصرناه لأنّه هدانا إلى سواء السبیل ومنحنا العزّة. أمّا الآن وقد رحل عن هذه الدنیا فنحن إنّما لا نمدّ إلیك ید العون لأنّ أباك لم یعد موجوداً بیننا وقد انتفى بذهابه ما كان له من حقّ علینا»، أقول فقد قالت مولاتنا الزهراء (علیها السلام) تداركاً لهذا القول المفترَض: «أَتَقُولُونَ: مَاتَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِه» فهل إنّ دلیلكم على عدم نصرتكم لی هو: أنّنا لا ننصركِ لأنّ أباكِ لم یعد حیّاً؟ فإن كان هذا هو منطقكم فقد جاءكم الردّ فی القرآن الكریم وشأن نزوله موجود أیضاً؛ ففی معركة اُحُد وبعد أن ترك المسلمون مضیق اُحد وجُوبِـهوا بهجوم المشركین أصابهم ضعف شدید وتكبّدوا خسائر فادحة، حتّى أنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) نفسه قد اُصیب بجروح أیضاً. ومن أجل إضعاف معنویّات المسلمین أكثر فقد استخدم المشركون طریقة الحرب النفسیّة مشیعین أنّ النبیّ قد قُتل، فی حین أنّه قد جُرح فقط. وعندها نزل قوله تعالى: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن یَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَیْهِ فَلَن یَضُرَّ اللهَ شَیْئاً وَسَیَجْزِی اللهُ الشَّاكِرِینَ»2. فلقد جاءكم رسول الله (صلّى الله علیه وآله) لیعرّفكم بالدین ویبیّن لكم الصراط القویم كی تعملوا وفقاً لما جاءكم به. فقد أدّى ما على عاتقه من واجب وهداكم، وقد جاء الآن دوركم لتنهضوا بمهمّة المحافظة على دین الله عزّ وجلّ وتُحیُوا أحكامه وسُنَنه. فواجبكم هو إحیاء قِیَم هذا الدین فی الدنیا وأن لا تدعوها تأفل وتزول. وبناء علیه فإنّه ینبغی أن تقاوموا أعداء هذا الدین بمزید من الصلابة والصمود كی لا یتعرّض الإسلام للخطر. هل تتذكّرون هذه الآیة؟ هذه الآیة مذكورة فی نفس المصحف الذی تقرأونه یومیّاً فی بیوتكم جهراً وإخفاتاً، بلحن ومن دون لحن، وبصور مختلفة. من المؤكّد أنّكم لم تنسوا قول القرآن: «أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ» أی تركتم دینكم. أجل فلقد كان رحیل النبیّ الكریم (صلّى الله علیه وآله) مصاباً جلَلاً للغایة أصاب عالم الإنسانیّة. لكنّ رحیله لا یسوّغ لكم نبذكم لدینكم وترككم لأحكامه!
ثمّ تتابع سیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) هذا المقطع مبیّنة عظمة هذه المصیبة، وسأتّحدث عن ذلك فی المحاضرة القادمة إن وُفِّقتُ إلى ذلك إن شاء الله.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. بحار الأنوار، ج29، ص226.
2. سورة آل عمران، الآیة 144.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 20 نیسان 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
وصلنا فی شرحنا للخطبة الفدكیّة المباركة إلى حیث رمت فاطمة (سلام الله علیها) بطرفها نحو الأنصار موجّهة خطاباً مهمّاً إلیهم، وقد نقلنا قسماً منه فی المحاضرات الفائتة. وقد كان هذا القسم بحاجة إلى مزید من التوضیح، لكنّنی أخشى أن یؤدّی الإسهاب الكثیر إلى الملل، لذا ساُواصل فی هذه المحاضرة شرح الخطبة الشریفة.
تستمرّ الزهراء (علیها السلام) فی خطابها للأنصار مستخدمة تعبیراً آخر. لقد كان الأنصار یتكوّنون من قبیلتین رئیسیّتین هما الأوس والخزرج. وقد ذكر التاریخ أنّ جدّتهم العلیا كانت تسمّى «قیلة»؛ ولهذا كان مجموع أفراد القبیلتین یُدعَون: «بنی قیلة». لكنّهم انقسموا بعد موت قیلة إلى طائفتین عُرفت إحداهما بـ «الأوس» والثانیة بـ «الخزرج».
تخاطب الزهراء (سلام الله علیها) الأنصار بالقول: «إِیهاً (وهی كلمة تحذیر) بَنِی قِیلَهَ! أَاُهْضَمُ تُرَاثُ أَبِی وَأَنْتُمْ بِمَرْأىً مِنِّی وَمَسْمَعٍ، وَمُنْتَدىً وَمَجْمَعٍ، تَلْبِسُكُمُ الدَّعْوَةُ، وَتْشَمَلُكُمُ الخِبْرَةُ، وَأَنْتُم ذَوُو العَدَدِ وَالعُدَّةِ، وَالأَدَاةِ وَالقُوَّةِ، وَعِنْدَكُمُ السِّلاحُ وَالْجُنَّة»؛ أی: «إنّی أوجّه لكم تحذیراً یا أبناء قیلة! فهل صحیح أنّ إرث أبی یُداس ویُسحَق وأنتم تنظرون وتسمعون وأنا فی جمعكم وأنتم حاضرون؟! فلو كنتم لا تسمعون نداء استغاثتی التمستُ لكم عذراً؛ ولو كنتم لا تعلمون الحقّ مع مَن فقد تكونون معذورین أیضاً؛ ولو كنتم تعلمون وتعرفون لكنّكم غیر قادرین على المعونة والنصرة فمن الممكن أیضاً أن أعذركم؛ لكنّ دعوتی قد طرقت مسامعكم وقد وعیتموها وأدركتموها جمیعاً، وإنّ جمعكم لكثیر، وأنتم تتمتّعون بالعُدّة والعدد، والقوّة والمدد، وبحوزتكم الأسلحة والدروع». ویُستشفّ من هذه التعابیر أنّ فاطمة الزهراء (علیها السلام) كانت تتوقّع من الأنصار نصرتها وقمع مَن سلبها حقّها حتّى بالسلاح إذا لزم الأمر.
«تُوَافِیكُمُ الدَّعْوَةُ فَلا تُجِیبُونَ، وَتَأْتِیكُمُ الصَّرْخَةُ فَلا تُغِیثُونَ» فعلى الرغم من أنّكم تسمعون دعوتی، لكنّكم لا تجیبوننی، ومع أنّ صرخة استغاثتی عالیة فإنّكم لا تغیثوننی!
«وَأَنْتُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْكِفَاحِ» الشجاعة والبسالة، «مَعْرُوفُونَ بِالْخَیْرِ وَالصَّلاحِ، وَالنُّخَبَةُ الَّتِی انْتُخِبَتْ، وَالْخِیَرَةُ الَّتِی اخْتِیرَت» من بین المسلمین «لَنَا أَهْلَ الْبَیْتِ».
وكما ذكرتُ فی المحاضرة السابقة فقد أرادت السیّدة الزهراء (علیها السلام) أن تستغلّ كلّ العوامل من أجل إرشاد الأنصار؛ أی أن تستفید من المنطق العقلیّ من جهة، والمنطق الشرعیّ من جهة اُخرى، والمنطق العاطفیّ من جهة ثالثة. فهذه المقاطع هی أشدّ میلاً إلى طابع التحریض العاطفیّ للأنصار منها إلى غیره. فمن أجل تشجیعهم فإنّها (علیها السلام) تذكّرهم فی سیاق كلامها هذا بماضیهم وتسرد لهم خدماتهم التی قدّموها للإسلام.
«قَاتَلْتُمُ الْعَرَبَ، وَتَحَمَّلْتُمُ الْكَدَّ وَالتَّعَب». وحیث إنّ الأنصار عرب فإنّنا نفهم من هذا القول أنّ مسألة القومیّة لم تكن مطروحة آنذاك، بل المهمّ هو الحقّ والباطل. تقول فاطمة الزهراء (علیها السلام) هنا: «على الرغم من قلّة جماعتكم فقد نهضتم لقتال جحافل العرب المنحرفین والمعادین للإسلام وتحمّلتم فی سبیل ذلك صنوف المشاقّ وألوان العناء».
«وَنَاطَحْتُمُ الأُمَمَ، وَكَافَحْتُمُ الْبُهَم» و«المناطحة» تُطلَق على العراك بین الحیوانات إذا كان بقرونها. تقول (علیها السلام): «لقد ناطحتم العرب المشركین المخالفین للإسلام وحاربتموهم وجهاً لوجه، وقاتلتم فحول العرب وشجعانهم بكلّ بسالة وإقدام».
«لا نَبْرَحُ أَوْ تَبْرَحُونَ، نَأْمُرُكُمْ فَتَأْتَمِرُونَ، حَتَّى إِذَا دَارَتْ بِنَا رَحَى الإِسْلام»؛ فما كان بعضنا ینفصل عن البعض الآخر، وما كنّا نذهب إذا لم تأتوا، لكن كلّ ذلك كان یدور فی إطار الآمِر والمؤتمِر. فكنّا نأمركم وكنتم تمتثلون وتطیعون، حتّى دارت رَحى الإسلام بأیدینا.
«وَدَرَّ حَلَبُ الأَیَّامِ، وَخَضَعَتْ ثَغْرَةُ الشِّرْكِ، وَسَكَنَتْ فَوْرَةُ الإِفْكِ، وَخَمَدَتْ نِیرَانُ الْكُفْرِ، وَهَدَأَتْ دَعْوَةُ الْهَرْجِ، وَاسْتَوْسَقَ نِظَامُ الدِّین» وهنا تستخدم (علیها السلام) تعابیر أدبیّة هی غایة فی اللطف والجمال؛ فهی تشبّه ما مضى من الأیّام منذ صدر الإسلام وحتّى ذلك الیوم باُنثى الحیوان المرضع التی كان ضرعها جافّاً من اللبن حتّى إذا أنجبت ولیدها امتلأ ضرعها ودرّ منه اللبن. إذ تقول بضعة المصطفى (سلام الله علیها): «لقد درّ حلیب الأیّام غزیراً، وهدأت أصوات الشرك التی كانت تصمّ الآذان، وخمدت فورة الكذب والبهتان». بمعنى أنّ المشركین فی بادئ الأمر كانوا یطلقون شتّى التهم وأنواع البهتان على المسلمین، بل وعلى شخص النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله)، وهو دأب شیاطین الإنس والجنّ عندما ترید الغلبة على خصومها. تخاطب الزهراء (علیها السلام) الأنصار قائلة: «لقد أبلیتم بلاءً حسناً فی قتالكم طاعة للأوامر حتّى سكتت صرخات الشرك الصاخبة، وسكن فوران البهتان والكذب، وخمدت نیران الكفر، وهدأت دعوات مَن نادى بالفتنة والهرج والمرج، وانسجم نظام الدین. فهذه هی أعمالكم التی قمتم بها بإرشاد وهدایة منّا. لقد تجشّمتم كلّ هذا العناء، وقاتلتم، وضحّیتم، حتّى أثمرت شجرة الإسلام، ودارت رحاه؛ أی استتبّ حكم الإسلام، واُسّست الدولة الإسلامیّة.
«فَأَنَّى حُرْتُمْ بَعْدَ الْبَیَانِ، وَأَسْرَرْتُمْ بَعْدَ الإِعْلانِ، وَنَكَصْتُمْ بَعْدَ الإِقْدَام»؛ فبعد أن مضت ثلاثة وعشرون عاماً على هذا الأمر وتمكّنت دولة مقتدرة وعزیزة من تسلّم مقالید الامور كیف ترجعون حیارى؟! لماذا أصبحتم فی حیرة من أمركم لا تدرون ما تصنعون بعد أن تبیّن الحقّ واتّضح؟! وكیف تحوّلتم إلى العمل فی الخفاء، وعقد الاجتماعات السرّیة، وحیاكة المؤامرات ضدّنا بعد دفاعكم عن الإسلام وعنّا أهل البیت فی العلانیة؟! ما الذی حصل لكم لتنكصوا وتتراجعوا بعد الإقدام ودخول میدان النزال؟!
«وَأَشْرَكْتُمْ بَعْدَ الإِیمَانِ، بُؤْساً لِقَوْمٍ نَكَثُوا أَیْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ «وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ»1 وهذه من جملة تلك التعابیر العنیفة جدّاً. فسیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) تخاطب المسلمین الذین كانوا أنصار الإسلام والذین قد أسْدَوا خدمات جلیلة له، أو – كما تقول (علیها السلام) - الذین قام النظام الإسلامیّ أساساً على أكتافهم، تقول لهم: هل «أَشْرَكْتُمْ بَعْدَ الإِیمَانِ»؟! ومن الواضح أنّ هذا الشرك لیس هو من نوع عبادة الأوثان؛ ذلك أنّه لم یعبد أحد منهم الأصنام فی ذلك الزمان. فهو من نوع الشرك الذی یقول فیه القرآن الكریم: «اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ»2؛ أی إنّ الیهود والنصارى اتّخذوا قادتهم وكبراءهم أرباباً لهم عوضاً عن الله عزّ وجلّ. بمعنى أنّ الإذعان لأوامر غیر الله هو شرك تشریعیّ؛ فالقبول بحكومة لم تأت عن حقّ هو لون من ألوان الشرك، إذ یجب على الإنسان الموحّد أن لا یرى غیر الله ربّاً وأن یطیع الله وحده. فإن أطاع غیر الله من دون دلیل وبشكل لم یؤدّ به إلى طاعة الله كان ذلك شكلاً من أشكال الشرك.
وفی متابعتها للخطبة تعود الزهراء (علیها السلام) مرّة اُخرى لاستخدام تعابیر لاذعة لكنّها لا توجّه الخطاب بشكل صریح هذه المرّة، هذا وإن كان المصداق المقصود من الخطاب واضحاً. تقول (علیها السلام): «الویل لقوم نكثوا میثاقهم مع الله عزّ وجلّ بعد أن عاهدوه». ثمّ تقتبس آیة من الذكر الحكیم تتحدّث عن الكفّار الذین عقدوا أیمانهم مع الله ورسوله ثمّ نقضوا عهدهم وعادوا إلى الكفر من جدید. هذا النمط من الاقتباسات هنا یرجع إلى العناصر المشتركة الموجودة فی هذه التعبیرات؛ فالمشركون الذین تعهّدوا بطاعة الله ورسوله ثمّ نقضوا عهدهم هم نفس اُولئك الذین أخرجوا النبیّ من دیاره وحملوا سیوفهم لحرب عَبَدة الحقّ. فالسیّدة الزهراء (سلام الله علیها) ترید أن تقول هنا: «لماذا تسكتون عن الذین شرّدوكم عن أرضكم وبدؤوكم بالحرب؟ هل تخافونهم؟ فإن كنتم مؤمنین فعلیكم أن تخافوا من الله وحده. فمهما كان لدى هؤلاء من القدرة فإنّ عددكم أكبر منهم بكثیر وإنّ الذین عمدوا إلى هذا العمل هم نفر قلیل لیس غیر، وبإمكانكم أن لا تتعاونوا معهم، هذا أوّلاً. ثانیاً: كنتم تستطیعون أن توقفوهم عند حدّهم؛ فما دامت القوّة والسلاح بأیدیكم، إذن بمقدوركم أن تستلّوا سیوفكم وتمنعوهم من فعل ذلك». وفی ذلك إشارة إلى ضرورة عدم الخوف من الطرف المقابل فی مثل هذا الظرف، بل لابدّ من الذود عن الحقّ مهما كانت الظروف، وعندها فإنّ الله سیمدّنا بالعون والغلبة أیضاً.
أستعرضُ هنا بشكل إجمالیّ بعض النقاط البارزة التی یمكن أن نتّخذها درساً لنا فی زماننا الحاضر أیضاً. أوّلاً علینا أن نعلم أنّ المسألة هی على جانب من الجدّیة بحیث إنّه لن یكون للغفلة عنها مصیر غیر الشرك. فعلى الرغم من أنّ السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) قد طرحت مسألة الإرث، غیر أنّها لم تكن إلا ذریعة لتقول لهم: «لقد زغتم عن جادّة الإسلام، ونكثتم أَیمانكم مع الله ورسوله، ووطأتم أحكام الله تحت أقدامكم»، وفی كلامها (علیها السلام) إنذار بأنّه إذا تعاطى المرء مع مثل هذه المسائل الاجتماعیّة بحالة من اللامبالاة، ولم یبد حساسیّة تجاهها، وفضّل الدعة والراحة، فإنّ ذلك سیقوده إلى الشرك والخروج عن الدین، وإن لم یجرّه إلى الكفر الظاهریّ فسوف یؤول به حتماً إلى الكفر الباطنیّ.
ولو لم تحدث فی الآونة الأخیرة تلك الأحداث المعروفة فقد نتصوّر أنّ فی هذا الكلام بعض المبالغة، وأنّه لا معنى لطرح الشرك فی موضوع غصب الإرث. لكن علینا أن نفهم أنّه عندما یتمّ التغاضی عن حكم قرآنیّ فمن الممكن أن یُتَغاضَى عن الحكم التالی أیضاً. فحینما یدوس المرء على العهد الذی عاهد به الله تعالى فأیّ ضمانة ستبقى لالتزامه بباقی العهود والمواثیق؟ فجمیع الذین تخاطبهم الزهراء (سلام الله علیها) الیوم كانوا قد بایعوا الله منذ سبعین یوماً فقط؛ حتّى قال تعالى: «یَدُ اللهِ فَوْقَ أَیْدِیهِمْ»3، فقبل سبعین یوماً فقط كانوا قد بایعوا مَن نصّبه الله عزّ وجلّ؛ أی قطعوا عهداً على أنفسهم أن یحموه بأموالهم وأنفسهم ویعتبروه خلیفة للنبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله). فعندما یُنسى عهد كهذا مع كلّ ما اكتنفه من مقدّمات وتحضیرات فی یوم الغدیر، فأیّ ضمانة ستظلّ یا ترى للالتزام بباقی العهود؟ وعندما ینحرف هذا المسیر عن الحقّ فلن ینتهی إلاّ إلى السقوط؛ إذ حینما بدأ اُناس بتسلّق سفح جبل على نحو تدریجیّ على مدى ثلاثة وعشرین عاماً حتّى اقتربوا من قمّته وبلغوا ذروة العزّة والاقتدار والشرف لكنّهم نسوا كلّ ما اُسدی إلیهم من خدمات فی هذا المضمار فإنّ أوّل ما سیُعابون علیه هو كفران النعم الإلهیّة. فمخاطبو فاطمة (علیها السلام) كانوا اُناساً قد نالوا ببركة النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) الشرف الظاهریّ من جهة (أی بعد سابق الفضائح، والفقر، وقتل الإخوان، ووأد البنات، وأشكال ما كانوا غارقین فیه من الفساد فقد تحوّلوا إلى اُمّة شریفة أضحت أسوة لباقی الاُمم) والشرف الباطنیّ من جهة اخرى حتّى اُزیحت كتل لیل الشرك والكفر المظلم من قلوبهم وسطع نور الإیمان ونور معرفة الله وملائكته وأنبیائه فی نفوسهم. فأی شرف یمكن أن یُتصوَّر فوق ذلك؟ وأیّ خدمة یمكن افتراضها تكون أجلّ ممّا قدّمه نبیّ الإسلام (صلّى الله علیه وآله) للعرب؟ والله قد واصل مَنّه علیهم فی هذا الزمان أیضاً، فمن أجل بقاء هذه العزّة واستمرار هذا الشرف الظاهریّ والباطنیّ فقد دلّهم بعد رحیل النبیّ الكریم (صلّى الله علیه وآله) على من هو أشبه الناس بالنبیّ. فهل من المستساغ أن ینسوا كلّ تلك النعم قائلین: «أجل، لقد أنجز النبیّ كلّ تلك الخدمات. أمّا الآن وقد رحل عنّا فقد ولّت تلك الخدمات وإنّ من واجبنا نحن أن نعیّن رئیسا لهذه الاُمّة وأن نجعل الحاكمیّة للشعب»؟! فأوّل عیب یمكن أن یُنسَب إلى هذا المسیر هو أنّه كفران لآلاء الله سبحانه وتعالى من جانب، وكفران لنعمة نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) فی عدم مراعاة أهل بیته (علیهم السلام) ونكث للعهد معه من جانب آخر، وكفران لنعمة أهل البیت ولاسیّما شخص أمیر المؤمنین (صلوات الله علیه) الذی كان أفضل من یلیق بمنصب الخلافة بعد النبیّ من جانب ثالث. فهل یصحّ أن یتمّ نسیان كلّ ذلك على خلفیّة بعض الأوهام أو المصالح المادّیة؟ لقد علم هؤلاء أنّه بتسلّم علیّ (علیه السلام) لمقالید الاُمور فإنّه سیقف سدّاً منیعاً أمام سوء استغلالهم للمناصب، وسیعطّل كلّ أشكال الوساطات القائمة حول محور الرفاقة والقرابة والحزبیّة. لقد بدّد هؤلاء، نتیجة غفلتهم تلك، كلّ ما نالوه من عزّة وفخر فی الدنیا والآخرة وما حظوا به من شرف الإنسانیّة. فأهمّ شرف یمكن أن یناله الإنسان هو التزامه بالعهد والمیثاق. وإنّ أسمى قیمة اجتماعیّة معتبَرة عند جمیع الاُمم والأقوام والأعراق هی الوفاء بالعهد. فلولا هذا الالتزام لألـمّت بالمجتمع حالة من الفوضى. فهل یستحقّ اُناس كهؤلاء أن یكونوا أسیاد العالم وقدوة تقتدی بها سائر الاُمم والشعوب؟! فالمشروع الإسلامیّ كان یصبو إلى تنشئة اُناس یكونون اُسوة للعالمین. لكنّ البعض وبسبب مآربهم المریضة، والبعض الآخر جرّاء ما یعانونه من جهالة وقلّة إدراك لم یَدَعوا هذه الشجرة تؤتی اُكُلها من أجل تأمین السعادة الأبدیّة لجمیع سكّان المعمورة.
أعاذنا الله وإیّاكم والسلام علیكم ورحمة الله
1. سورة التوبة، الآیة 13.
2. سورة التوبة، الآیة 31.
3. سورة الفتح، الآیة 10.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 27 نیسان 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
ذكرنا فی المحاضرة الفائتة كیف أنّ مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) التفتت إلى الأنصار مذكّرة إیّاهم فی بادئ الأمر بسابق أفعالهم الحسنة وما كان لهم فی الإسلام من ماضٍ مشرق قائلة: «ألستم الذین نصرتم الإسلام وقاتلتم أعداءه وآویتم الذین شُرّدوا عن دیارهم». ثمّ تقول لهم بنبرة الملامة والتقریع: «ما الذی دهاكم بعد هذا التاریخ المشرق حتّى تخلّیتم عن نصرتنا وتركتمونا؟ ما الذی جعلكم تنسون العهد الذی قطعتموه لنا»؟ ثمّ تقول (علیها السلام) بعد ذلك: «أَلا وَقَدْ أَرَى أَنْ قَدْ أَخْلَدْتُمْ إِلَى الْخَفْضِ» أی الراحة، «وَأَبْعَدْتُمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْبَسْطِ وَالْقَبْضِ» أی أقصیتم من هو أهل لإصلاح الاُمور، ألا وهو أمیر المؤمنین (علیه السلام)، «وَخَلَوْتُمْ بِالدَّعَةِ» فأصبحَتْ دأبكم «وَنَجَوْتُمْ مِنَ الضِّیقِ» المعاناة والشدّة «بِالسَّعَة» عبر اللامبالاة وطلب الراحة، «فَمَجَجْتُمْ مَا وَعَیْتُم» أی لفظتم ما ابتلعتم من أفواهكم فكأنّكم تقیّأتموه، «وَدَسَعْتُمُ الَّذِی تَسَوَّغْتُم» واستفرغتم ما شربتم من سائغ الشراب. ثمّ تقتبس (سلام الله علیها) الآیة الثامنة من سورة إبراهیم مستشهدة بها حینما تقول: «فَـ «إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِی الأَرْضِ جَمِیعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِیٌّ حَمِیدٌ».
نلاحظ أنّ فاطمة (علیها السلام) توجّه من خلال كلامها إنذارات شدیدة اللهجة للحاضرین، وتستشهد بالآیات المتعلّقة بالكفّار والمشركین، وهی ترید أن تُلفِت من خلال ذلك إلى هذه النقطة وهی أنّ عاقبة أمركم ونهایة الطریق التی تسلكون هی الكفر والشرك، واعلموا أنّكم إن كفرتم أنتم ومن فی الأرض جمیعاً فإنّ الله غنیّ عنكم ولن ینال ذلك من كبریائه عزّ وجلّ قید أنملة. فلا تظنّوا أنّ عملكم هذا سیُلحِق الضرر بالله وأولیائه، بل إنّكم أنتم الذین سیحیق بهم الضرر والخسران.
وصولاً إلى هذا المقطع تكون الزهراء (علیها السلام) – فی الحقیقیة – قد أتمّت ما كان فی نیّتها من موعظة للناس، أمّا فی المقطع التالی فإنّها تبیّن هدفها من كلّ هذه المواعظ والتذكیر فتقول: «لا تظنّوا أنّنی قد قلت ما قلت غیر عارفة بكم أو أنّنی أتوقّع منكم ما لا ینبغی توقّعه؛ بل إنّنی على معرفة جیّدة بحالكم وأعلم جیّداً ما هو داؤكم، وأنّ كلماتی لا تؤثّر فیكم؛ لكنّنی أردت أن أكشف عمّا یعتلج فی صدری من سخط علیكم من ناحیة، وأن اُتمّ علیكم الحجّة من ناحیة اًخرى».
«أَلا وَقَدْ قُلْتُ مَا قُلْتُ عَلَى مَعْرِفَةٍ مِنِّی بِالْخَذْلَةِ الَّتِی خَامَرَتْكُمْ» أی على معرفة بأنّ خذلاننا وعدم الاكتراث بنا یخامر الآن وجودكم ویمتزج بكیانكم، «وَالْغَدْرَةِ الَّتِی اسْتَشْعَرَتْهَا قُلُوبُكُمْ» وأنّ قلوبكم مضمرة للمكر والحیلة بحقّنا، «وَلَكِنَّهَا فَیْضَةُ النَّفْسِ، وَنَفْثَةُ الْغَیْظِ، وَخَوْرُ الْقَنَاةِ، وَبَثَّةُ الصَّدْرِ، وَتَقْدِمَةُ الْحُجَّةِ» لكنّ ما قلتُه كان ممّا فاض به الصدر المكروب من الآلام والمآسی، وهو انفجار لما اعتلج فیه من الغضب والقلق، وإتمام للحجّة علیكم كی لا تقولوا یوماً: «لم نكن نعلم»! أو: «كنّا نظنّ أنّ هذا الأمر قد تمّ برضاك»!
«فَدُونَكُمُوهَا فَاحْتَقِبُوهَا دَبِرَةَ الظَّهْرِ، نَقِبَةَ الْخُفِّ، بَاقِیَةَ الْعَارِ، مَوْسُومَةً بِغَضَبِ اللهِ وَشَنَارِ الأَبَد»؛ فهذه ناقة الخلافة، وهذا أنتم. فاركبوها! لكن اعلموا أنّ ظهر هذه الناقة ملیء بالجروح وأقدامها مفعمة بالقروح ولا تستطیع أن توصلكم إلى مقصدكم، وستبقى وصمة عار هذا العمل تلاحقكم إلى الأبد. «مَوْصُولَةً بِنَارِ اللهِ الْمُوقَدَةِ «الَّتِی تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ»1» وسیؤدّی بكم هذا العمل إلى نار الله الموقدة التی تطّلع على القلوب والسرائر. وهنا أیضاً تشیر السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) إلى آیة قد نزلت بشأن الكفّار والمشركین. «فَبِعَیْنِ اللهِ مَا تَفْعَلُونَ» فأعمالكم هی أمام عین الله تعالى «وَسَیَعْلَمُ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَیَّ مُنْقَلَبٍ یَنْقَلِبُونَ»2. «وَأَنَا ابْنَةُ نَذِیرٍ «لَكُمْ بَیْنَ یَدَیْ عَذابٍ شَدِیدٍ»3» فأنا ابنة ذلك الرجل الذی كان ینذركم من العذاب الإلهیّ الشدید. «فَاعْمَلُوا «إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ»4»؛ فافعلوا ما یروق لكم ونحن أیضاً سنفعل ما نرید، وانتظروا ونحن أیضاً منتظرون.
وهنا تختتم مولاتنا فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) كلامها. لكن هناك من یردّ علیها وهی بدورها تجیب على هذا الردّ، ولعلّنا سنتطرّق إلى هذا المقطع فی المحاضرة القادمة إن وفّقنا الله إلى ذلك. لكن ثمّة بضع ملاحظات یمكن أن تُستفاد من الجُمَل الأخیرة التی ساقتها البتول (علیها السلام) فلنقف عندها:
الملاحظة الاُولى هی الاقتباسات القرآنیّة التی استشهدت بها الزهراء (سلام الله علیها) والتی تشیر إلى الكفر والشرك وهی تنطوی على تحذیر للمسلمین مفاده: لا تظنّوا أنّ الذی آمن، وأقام الصلاة، وجاهد، وآتى الزكاة، وجاء بغیر ذلك فقد ضُمنت سعادته، فقد تكون عاقبة المرء - كائناً من كان ومهما طالت المسافة التی قطعها فی جادة الصواب - عاقبة خطیرة وینتهی إلى الكفر. وإنّ ما من شأنه أن یجرّ الإنسان إلى الكفر والشرك هو الخروج عن تلك الجادّة والانحراف عنها. فشخص كهذا لا یلتفت فی بادئ الأمر إلى عِظم خطئه بسبب قربه من جادّة الحقّ؛ لكنّه كلّما أوغل فی مسیره ابتعد أكثر عن جادّة الصواب حتّى یضیّع الطریق ولا یتمكّن من الإیاب والعودة. فهذا هو أعظم خطر یهدّد حتّى المؤمنین والصالحین. فلا نظنّن أنّنا إذا قضینا عمراً فی دراسة العلوم الدینیّة، والدعوة إلى الله، والعبادة، والجهاد، وما إلى ذلك فإنّه لا ضیر علینا إذا ارتكبنا بعض الذنوب والمعاصی! فعلینا أن نحذر كلّ الحذر؛ فلعلّ نفس هذه المعصیة هی التی ستفتح لنا باب الزیغ عن طریق الحقّ وعندها سیبتعد الإنسان العاصی عن الله عزّ وجلّ مع كلّ خطوة یخطوها فی هذا السبیل إلى أن یتوغّل فی وادی الكفر والضلال فلا یرى إلى جانبه من كانوا یحفّون به من الرفاق المؤمنین، بل سوف لا یجد فی نفسه المیل إلى معاشرتهم أساساً، وعلى العكس فإنّه سیجد نفسه واقفاً فی خطّ المواجهة مع المؤمنین وأهل الحقّ. فهذا الخطر یتهدّد كلّ إنسان، اللهمّ إلا من لجأ إلى الله سبحانه وتعالى واستعاذ به فحفظه الله وأولیاؤه ومدّوا له ید العون نتیجة هذا اللجأ والاستعاذة.
الملاحظة الاخرى التی تستحقّ الاهتمام هی المعانی والمصطلحات المختلفة للكفر والشرك. فعندما یقال: إنّ إصرار الإنسان على المعصیة یجرّه إلى الكفر فهذا لا یعنی أنّه سینكر الله ورسوله والمعاد؛ مع أنّ الأمر – بالطبع - قد یتطوّر إلى هذا الحدّ أحیاناً؛ كما قد شاهدنا فی زماننا كیف أنّ اُناساً كانوا من أهل العبادة والتقوى فآلت بهم الاُمور إلى التشكیك بكلّ شیء، بل لقد صرّحوا أیضاً بأنّه لا یتوفّر فی أیدینا أیّ دلیل عقلیّ على وجود الله تعالى. لكنّه لیس من لوازم كلّ شكل من أشكال الكفر أن ینكر المرء وجود الله والنبیّ والدین بشكل صریح، بل إنّ للكفر معنیَین مهمّین لابدّ أن نضعهما فی الحسبان باستمرار. فأحد معانی الكفر هو المعنى الفقهیّ وهو الكفر فی مقابل الإسلام. فكلّ مَن نطق بالشهادتین فهو مسلم وإنّ ذلك كافٍ لصیانة نفسه وماله. فالإسلام الفقهیّ الظاهریّ یثبت بنطق الشهادتین الذی من لوازمه إجراء أحكام الإسلام على الشخص فی الظاهر؛ فبدنه - على سبیل المثال - یكون طاهراً، والزواج منه جائزاً، وما إلى ذلك. لأنّ الكفر الموجب لنجاسة المرء هو إنكار الشهادتین أو كلّ ما یوجب إنكارهما؛ أی إنكار الضروریّات التی یعلم المنكِر أنّ إنكارها یقود إلى إنكار الرسالة.
أمّا المعنى الثانی فهو الكفر فی مقابل الإیمان. وطبقاً لهذا المعنى فإنّ كلاًّ من الكفر والإیمان هو شأن قلبیّ، وإنّ نتیجة هذا الإیمان هی النجاة فی الآخرة. فإذا آمن المسلم أنّ ما جاء به النبیّ من قِبل الله هو حقّ ولم یساوره شكّ فی أیّ واحد من أحكام الله، فهو مؤمن حقیقیّ. لكنّه إذا لم یقبل فی قرارة قلبه بحكم من أحكام الله عزّ وجلّ فسیكون مصداقاً لقوله تعالى: «یَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ»5؛ أی نؤمن ببعض الاُمور ونكفر ببعضها، والقرآن الكریم یقول بحقّ هؤلاء: «أُوْلَـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً»6. فالإیمان القلبیّ هو أن یؤمن المرء بما یقوله الله من أعماق قلبه سواء أعَلِم بحكم الله تفصیلاً أم لم یعلم به. فمن الممكن أن لا یعلم الإنسان حكم الله على نحو تفصیلیّ لكنّه یعتقد بأنّ كلّ ما یقوله الله تعالى فهو حقّ. وإنّه فی مثل هذه الموارد یُخفق البعض ولا یستطیعون أن یقبلوا قلبیّاً ببعض الأحكام. فأمثال هؤلاء هم فی الحقیقة كفّار فی الباطن؛ ذلك أنّهم لا یقبلون ببعض أحكام الله سبحانه. فالإیمان الحقیقیّ یكمن فی القبول والإذعان أمام كلّ ما أنزله الله جلّت آلاؤه. فعندما تقول الزهراء (سلام الله علیها): «إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِی الأَرْضِ جَمِیعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِیٌّ حَمِیدٌ»7 فلابدّ أن نفهم أوّلاً أنّها (علیها السلام) لا تستشهد بآیة من دون مناسبة، بل إنّ قصدها من هذا الاستشهاد هو: «إنّنی أستشعر خطر الكفر یهدّدكم». وهذا الكفر هو الذی یكون فی مقابل الإیمان؛ أی إنّكم بإصراركم على هذا الفعل لن تكونوا من أهل النجاة فی الآخرة وإن كنتم فی ظاهر الأمر فی عداد المسلمین وكانت أرواحكم وأموالكم مصونة، وهكذا كان یعامَل المنافقون فی صدر الإسلام. فالقرآن الكریم یصرّح فی الكثیر من الآیات بالقول: إنّ المنافقین لا إیمان لهم وهم یدّعون الإیمان مجرّد ادّعاء: «وَاللهُ یَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»8، لكن لم یذكر التاریخ أبداً أنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) كان قد أخرجهم من المدینة، ذلك أنّ الإسلام الظاهریّ هو غیر الكفر الباطنیّ.
وفیما یتعلّق بالاُمور المستحبّة فإنّه إذا علم الشخص أنّ العمل الفلانیّ أمر مستحبّ لكنّه لم یأت به قطّ، فلا یضرّ ذلك بإیمانه؛ لكنّه إذا قال: «أنا لا أقبل بهذا العمل المستحبّ»! فإنّ ذلك یشكّل كفراً باطنیّاً. فإذا كان إنكار عمل مستحبّ یؤدّی إلى الكفر، فما بالكم بإنكار أمر قد أخذ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) البیعة علیه بحضور جمیع المسلمین؟ ألا یوجب إنكاره الكفر؟! فإنّ ما ترمی إلیه الزهراء (سلام الله علیها) هو هذا النمط من الكفر.
أمّا الملاحظة الاخرى فتكمن فی الالتفات إلى المبحث الذی نوّهتْ به بضعة المصطفى (علیها السلام) فی ختام الخطبة. تقول (سلام الله علیها): «على الرغم من أنّنی أعلم أنّ كلامی هذا لن یؤثّر فیكم، لكنّنی أقول ما أقول نتیجة ما ضاق به صدری من فوران الغضب وما طفح فیه من المآسی والآلام». لكن لماذا تقول الزهراء ذلك؟ یظنّ البعض أنّ مراد الزهراء هو: «إنّنی، وبسبب ما اعتلج فی صدری من عظیم الألم والكرب، قد فقدتُّ السیطرة على نفسی فتفوّهت بما تفوّهت به تنفیساً لكربتی وتخفیفاً عن قلبی». لكنّنا نعتقد أنّ الزهراء (علیها السلام) هی أصلب بكثیر من أن تقع تحت تأثیر أحاسیسها وغمّها وهمّها فتفقد السیطرة على نفسها. إذن فالداعی من وراء قولها هذا هو أنّ المسلمین كانوا قد سمعوا من لسان النبیّ (صلّى الله علیه وآله) مراراً وتكراراً قوله: «إنّ الله عزّ وجلّ یغضب لغضب فاطمة ویرضى لرضاها»9. فمولاتنا الزهراء (علیها السلام) ترید أن تقول هنا بصراحة: «إنّنی غاضبة علیكم، وإنّ غضبی هذا هو مؤشّر على غضب الله تعالى»، ومن أجل ذلك فقد أتْبَعت كلامها هذا بالقول: «إنّ عملكم هذا سیقودكم إلى جهنّم»، ذلك أنّ الذی یحلّ علیه غضب الله لا یكون له سبیل للنجاة من نار جهنّم. إذن فإنّ بیان هذا المعنى إنّما یصبّ فی وادی إتمام الحجّة أیضاً. فكلامها هذا كان بمثابة السهم الأخیر الذی أطلقته (سلام الله علیها) من أجل هدایة هؤلاء القوم. فكلّ ذلك كان من دافع المحبّة التی تكنّها الزهراء تجاه الناس ورغبتها فی نجاتهم، حتّى وإن لم تكن النتیجة غیر إنقاذ شخص واحد فقط. ومن هنا فهی تقول فی نهایة المطاف: «وَتَقْدِمَةُ الْحُجَّةِ»؛ أی لم یكن ما قلته إلاّ من أجل إقامة الحجّة وإتمامها علیكم.
وهناك ملاحظة اُخرى تسترعی اهتمامنا أیضاً ألا وهی أنّه على الرغم من أنّ الأنصار كانوا أوّل من نقض المیثاق مع رسول الله وهرع لتعیین الخلیفة من بعده، لكنّ فاطمة الزهراء (علیها السلام) تقول عندما توجّه الخطاب لهم: «إنّكم أنتم الذین نصرتم الإسلام، وبسیوفكم انتصر دین الحقّ». ثمّ تقول بعد ذلك: «فما الذی دهاكم الیوم لتنكصوا على أعقابكم وتسمحوا بانحراف الإسلام والسلاح بأیدیكم وإنّ بوسعكم النهوض حاملین السلاح لتقویم هذا الاعوجاج»؟! بمعنى أنّها (علیها السلام) فی الوقت الذی توبّخ الأنصار قائلة: «إنّ عملكم هذا سیجرّكم إلى الكفر وشقاء الدنیا والآخرة» فإنّها لا تنكر صفاتهم الحسنة وماضیهم الوضّاء. وهذا یعنی أنّه: لا عملكم القبیح هذا یدعو إلى نسیان سوابق فضائلكم، ولا ماضیكم المشرق ذاك یشكّل عذراً لما اقترفتم الآن من شنیع فعالكم. فالمرء یكون ممدوحاً ومحطّ ثناء إذا أتى بفعل خیر فی أیّ مرحلة من عمره، لكنّه إذا ارتكب الخطیئة فی مرحلة اُخرى منه فسیكون محطّ توبیخ وتقریع، فلا یشكّل ماضیه عذراً لأخطائه فی المستقبل، ولا توجب خطایاه المستقبلیّة إنكار سابق فعاله الحسنة. فإن اُثنی على شخص فی زمنٍ مّا فلا یعنی ذلك أنّه أصبح ولیّاً من أولیاء الله ولن یصیبه عیب أو نقص إلى أبد الآبدین، بل علینا نحن أیضاً أن نثنی على الشخص ونمتدحه ما دام سائراً على النهج القویم، فإن زاغ عن هذا النهج وأضحى عاملاً لتضعیف القیم الأصیلة للإسلام والثورة عمدنا إلى تنحیته جانباً. فلا ینبغی أن نتصوّر أنّ ماضی الأشخاص یشكّل عاملاً لضمان مستقبلهم. وكذا إذا كان امرؤ عاصیاً فی مرحلة من عمره ثمّ تاب وآب إلى جادّة الصواب فلا ینبغی أن نرفضه ونحذفه. إذن فالمیزان فی الثناء على الأشخاص أو تقریعهم، أو فی اختیارهم لمسؤولیّة معیّنة أو تنحیتهم عن هذا المنصب هو حالهم وضعهم فی الوقت الحاضر.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. سورة الهمزة، الآیة 7.
2. سورة الشعراء، الآیة 227.
3. سورة سبأ، الآیة 46.
4. سورة هود، الآیتان 121 و122.
5. سورة النساء، الآیة 150.
6. سورة النساء، الآیة 151.
7. سورة إبراهیم، الآیة 8.
8. سورة التوبة، الآیة 107.
9. عیون أخبار الرضا، ج2، ص26.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 4 أیار 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا. (50)
نتقدّم بتعازینا الخالصة لصاحب العصر والزمان الإمام المهدیّ المنتظر (عجّل الله تعالى فرَجه الشریف) وجمیع محبّی أهل البیت (علیهم السلام) بمناسبة ذكرى شهادة الصدّیقة الطاهرة بضعة المصطفى فاطمة بنت رسول الله (سلام الله علیها). لقد انتهى بحثنا فی هذا المحفل الشریف حول الخطبة الفدكیّة المباركة إلى حیث رمت الزهراء (سلام الله علیها) بطرفها – بعد إیراد خطبة طویلة – نحو الأنصار مذكّرة إیّاهم بالمسؤولیّة الملقاة على عاتقهم فی تلك المرحلة الزمنیّة ألا وهی الدفاع عن أهل البیت (علیهم السلام) وحقوقهم، ومنذرة إیّاهم عبر الاستشهاد بآیات من الذكر الحكیم تتضمّن لهجة هی غایة فی الشدّة.
من الممكن أن یتصوّر المرء طبیعة الجوّ الذی ساد المجلس بعد استماع الناس إلى كلمات فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) التی امتازت فی بضعة مواطن بشدّة اللهجة وبإثارة أحاسیس الناس وعواطفهم، ولا ریب أنّ تهدئة الأجواء فی ظروف كهذه تحتاج إلى فنّ ومهارة كبیرین. من هنا فقد انبرى المتصدّی لمقام الخلافة بالكلام باسلوب یمتاز بذكاء خاصّ وبلهجة ملؤها المحبّة والتودّد لأهل البیت (علیهم السلام)، وهی ردّة فعل تدلّ حقیقةً على ما یمتاز به هؤلاء الأشخاص من نبوغ حادّ فی مثل هذه المواقف. فإنّ الاُمور التی طرحها فی جوابه للزهراء (علیها السلام) تحتاج – فی الواقع – إلى إخضاعها لدراسة معمّقة من قبل علماء النفس؛ ذلك أنّه لم یكن بالإمكان التحدّث بأفضل من ذلك من أجل تهدئة الحاضرین. وسأتلو علیكم متابعة لبحثنا كلام المسمّى بالخلیفة الأوّل كی تتعرّفوا على لحن قوله.
«فأجابها أبو بكر عبد الله بن عثمان وقال: یا بنت رسول الله! لقد كان أبوك بالمؤمنین عطوفاً كریماً رؤوفاً رحیماً وعلى الكافرین عذاباً ألیماً وعقاباً عظیماً» فلقد كانت كنیته أبا بكر واسمه عبد الله بن عثمان. لقد حاول أبو بكر بهذا الاسلوب أن یخمد ما یظهر أنّه فورة غضب الزهراء (علیها السلام) ویقول لها: علیك أن تحذی حذو أبیك فی التعامل معنا برأفة ولا تتفوّهی بالكلمات اللاذعة والقاسیة معنا. «إن عزوناه» إذا فتّشنا فی نسب أبیك «وجدناه أباك دون النساء» أی دون سائر النساء؛ یعنی بما أنّك تنتسبین إلیه فأنت الأَولى فی اتّباعه والتأسّی به منّا، «وأخا إلفك دون الأخلاء» فقد كان أخاً لزوجك من دون باقی الأصدقاء «آثره» آثر علیٌّ أباك «على كلّ حمیم» صدیق «وساعده فی كلّ أمر جسیم». لكن هناك احتمال آخر وهو أن یكون الضمیر راجعاً إلى النبیّ؛ فیكون المعنى أنّ النبیّ هو الذی آثر علیّاً على باقی الأصحاب وكان یقدّم له ید العون باستمرار. «لا یحبّكم إلاّ سعید ولا یبغضكم إلاّ شقیّ بعید» عن رحمة الله «فأنتم عترة رسول الله الطیّبون والخِیَرة المنتَجَبون، على الخیر أدلّتنا وإلى الجنّة مسالكنا».
كانت غایته من هذا الكلام تهدئة ما انتاب الناس من حالة الغلیان والاضطراب، التی تشیر إلى أنّ تعامل الزهراء (علیها السلام) معهم كان تعامل الخصم مع خصمه وأنّهم أعداء أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین). «وأنتِ یا خیرة النساء وابنة خیر الأنبیاء صادقة فی قولك، سابقة» للآخرین «فی وُفور عقلك» فنحن نعترف بأنّ ما ذكرتیه لا یُعَدّ كلاماً واهیاً «غیر مردودةٍ عن حقّك» لا یحقّ لأحد أن یسلُبكِ حقّكِ «ولا مصدودةٍ عن صدقكِ» ولا أحد یستطیع أن یكذّب أو ینكر قولكِ الحقّ.
كان كلامه إلى هذه العبارة یصبّ فی إطار تلطیف الأجواء كی یشعر الناس بأنّ الجوّ یمتاز بالودّیة، لكنّه عرّج بعد ذلك إلى الموضوع الأساسیّ. فالقضیّة هی أنّ السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) وبعد قصّة انتخاب ما یُدعَى بالخلیفة كانت قد أحاطت – من خلال بعض الكلمات المحكمة واللاذعة وفی أوقات متعدّدة - أداء جهاز الخلافة بدائرة من الشكوك، مُظهِرةً – بذریعة طرح قضیّة غصب فدك – عدم كفاءة المتصدّین للخلافة وأهلیّتهم لهذه المهمّة وهو ما مرّ بیانه فی المحاضرات السابقة.
أمّا الطرف المقابل فقد ابتدأ بعد هذه العبارات بسوق بعض الاستدلالات التی تُظهر أنّ عمله كان صائباً. یقول: «والله ما عدوتُ رأی رسول الله ولا عملتُ إلاّ بإذنه». فعندما هدأت الأجواء وأراد أن یثبت - بتصوّره - حقّانیته أقسم بالله أنّه لم یُخالف رأی النبیّ، ولم یُقدم على أیّ عمل من دون إذنه! «والرائدُ لا یَكذِبُ أهْلَه» وهو مثل عربیّ مفاده: أنّ دلیل القافلة لا یكذب على أصحابها. أمّا مراده فهو: أنّنی الآن دلیل هذه الاُمّة وقائدها، وأنا لا أكذب علیكم، وقد أقسم أیضاً بأنّ ما یقوله هو عین الصدق. «وإنّی اُشهد الله وكفى به شهیداً أنّی سمعت رسول الله (صلّى الله علیه وآله) یقول: نحن معاشر الأنبیاء لا نورّث ذهباً ولا فضّة ولا داراً ولا عقاراً وإنّما نورّث الكتاب والحكمة والعلم والنبوّة وما كان لنا من طعمة فلوَلِیّ الأمر بعدنا أن یحكم فیه بحكمه» فنحن لا نورّث مالاً، وإن تركنا مالاً فإنّ لِـمَن یتولّى ولایة الأمر من بعدنا صلاحیّة التصرّف فیه كما یرى. «وقد جَعَلْنا ما حاوَلْتِهِ فی الكُراع والسلاح یقاتل بها المسلمون ویجاهدون الكفّار ویجالدون المرَدَة الفجّار» أی: لقد كرّسنا ما ذكرته (مزرعة فدك) لیُصرَف فی إعداد الخیل والسلاح لیستفید منها المسلمون فی قتالهم مع كفّار الخارج ونزالهم مع مَرَدة الداخل. «وذلك بإجماع من المسلمین، لم أنفرد به» بهذا الحكم «وحدی ولم أستبدّ بما كان الرأی عندی» ولم أكن مستبدّاً فی اتّخاذه.
لحدّ هذه المرحلة من النقاش قد تمّ لعب دورین؛ دور تهدئة الناس، ودور طرح هذا الموضوع وهو: أنّ عملی هذا كان منسجماً مع ما رأیتُ من تكلیفی الشرعیّ، ثمّ إنّنی لم أنفرد أو استبدّ فی رأیی بل كان ذلك بإجماع المسلمین وموافقتهم أیضاً. أمّا النقطة الثالثة التی طرحها فهی: إنّنی لو أردت غصب حقّك لأنفقتُ ما أخذته على نفسی، لكنّنی قد وضعته فی متناول المسلمین. بل إنّه قد تعدّى ذلك بالقول: إنّنی أضع أموالی الخاصّة تحت تصرّفك تفعلین بها ما تشائین. ففدك هی مال المسلمین، أمّا أموالی الخاصّة فهی متعلّقة بی أنا: «وهذه حالی ومالی هی لكِ وبین یدیكِ لا تُزوَى عنكِ ولا ندّخر دونك» فلیس أحد یحول بینك وبینها ونحن لا ندّخرها لأنفسنا أیضاً، «وأنتِ سیّدة اُمّة أبیكِ والشجرة الطیّبة لبنیكِ، لا ندفع ما لك من فضلك، ولا یوضع فی فرعك وأصلكِ، حكمك نافذ فیما ملكَتْ یدایَ» فنحن لا نمنعك ممّا جُعل وخُصّص لك، ولا نُنْقِص ما كان فی أصلك ولا ما كان فی فروع هذه الشجرة. وإنّ حكمك نافذ فیما هو تحت تصرّفی الشخصیّ من الأموال. «فهل ترین أن اُخالف فی ذاك أباكِ» أی: هل تظنّین أنّنی – الذی جعلتُ أموالی الخاصّة تحت تصرّفك – سأحول بینك وبین ما جعله أبوك لك؟! فإنّه یتعیّن علیّ، طبقاً للحدیث الذی سمعته من أبیك، أن اُنفق ما تتحدّثین عنه فی مصالح المسلمین!
بالنظر إلى النقاط الثلاث التی وردت فی الردّ على كلام الزهراء البتول (سلام الله علیها) نرى من المناسب أن نلفت انتباه الحضور إلى بضع نقاط لا تخلو من فائدة فی حیاتنا أیضاً.
لقد زعم المتحدّث فی القسم الأوّل من الجواب: أنّنی مطیع ومحبّ لك، ومعارض لكلّ من عارضك. وقد أشهد الله على نفسه أنّه لا یستطبن أیّ عداوة تجاهها (علیها السلام) وأنّ ما فعله لا یخرج عن إطار العمل بالتكلیف. وبغضّ النظر عن من هو الشخص الذی قال ذلك وفی أیّ ظرف قاله، فثمّة سؤال یُطرح هنا من باب كونه مبحثاً كلّیاً وعامّاً وهو: لو أنّ أحدهم، وفی أثناء حدث اجتماعیّ معیّن، بیّن لنا طریقاً واتّخذ من القَسَم – من أجل جلب انتباهنا - سبیلاً لإثبات مدّعاه فما هو تكلیفنا تجاهه؟ ومن أجل التفتیش عن جواب لذلك لابدّ أن نفهم أنّ المؤسّس لهذه الحیلة هو إبلیس. فلقد قال لآدم وحواء (علیهما السلام): «أنا أنصحكما أن تأكلا من الشجرة التی مُنعتما منها. ولا أقول ذلك إلاّ طلباً لخیركما وحرصاً علیكما». ومن أجل إقناعهما بما قال فقد أقسم على قوله: «وَقَاسَمَهُمَا إِنِّی لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِینَ»1 فكان قسَم إبلیس هذا مدعاة لاستمالة آدم وحواء إلى الأكل من الشجرة ووقع ما وقع. كانت هذه هی الحیلة الاولى التی استخدمها إبلیس لإضلال البشر. وهذه القصّة لن تنتهی حیث إنّ تلامذة إبلیس وأولیاءه قد تعلّموا منه الدرس على أتمّ وجه. وقد استُخدم الاُسلوب فی زمان رسول الله (صلّى الله علیه وآله) أیضاً، حیث یخاطب القرآن الكریم الرسول الأكرم بالقول: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ یَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ یَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِینَ لَكَاذِبُونَ»2؛ أی عندما یأتیك المنافقون ویقولون: نشهد إنّك رسول الله، ویقسمون على أنّهم یؤمنون بك حقّاً، فلا تصدّقهم! فإنّهم یكذبون. ویُعلَم من ذلك أنّ المنافقین عندما علموا أنّهم سیُنبَذون من المجتمع إذا أظهروا المعارضة للنبیّ وسیُفتضَح أمرهم أكثر، فإنّهم قد عمدوا إلى التظاهر بالإیمان. یقول الباری عزّ وجلّ ردّاً علیهم: أجل، فالله یعلم إنّك رسول الله، لكنّه یشهد أیضاً إنّ هؤلاء كاذبون. ثمّ یقول بعد ذلك: «اتَّخَذُواْ أَیْمَانَهُمْ جُنَّةً»3 فهؤلاء اتّخذوا من أیمانهم درعاً تقیهم من معارضتكم وهجماتكم. وهذا هو ذات الدرس الذی علّمه إبلیس لأولیائه. فهل استمرّ استخدام أمثال هذه الحیل بعد ذلك التاریخ أیضاً؟ لقد شاهدنا فی عصرنا مراراً كیف أنّ البعض یدّعی: »نحن سائرون على نهج الإمام الراحل (قدّس سرّه)، ولیس لنا من نهج غیر هذا النهج، ولا نتفوّه بكلام یخالف كلامه. وإنّنا نقبل بولایة الفقیه، وسنبقى متمسّكین بهذا النهج حتّى النهایة«. لكنّه تبیّن بعد حین أنّهم كاذبون؛ فلا هم یعترفون بخطّ الإمام الراحل (قدّس سرّه) ولا هم یقرّون بولایة الفقیه، ولم تكن مزاعمهم إلا حیلة علّمهم الشیطان إیّاها وقد أجادوا تعلّمها واتّخذوها وسیلة لخداع شعبهم، لیصدّقهم النجباء والطیبّون من أبناء الشعب فیما یقولون. لكنّ أبناء شعبنا الیوم یمتازون بالذكاء والفطنة مضافاً إلى الطیبة والطهارة، فمن خلال ما تراكم لدیهم من تجارب لم یعودوا یصدّقون ما یقوله هؤلاء بهذه البساطة. لكن ما زال ثمّة بعض البسطاء والسذّج من الناس ممّن ینطلی علیهم كلام أمثال هؤلاء. یقول القرآن الكریم فی هذا المجال: »هؤلاء یتّخذون من أَیمانهم هذه درعاً تقیهم من هجماتكم. فاحذروا أن تنطلی علیكم حیلهم. فلو كانوا صادقین فیما یقولون لبانت مزاعمهم على أرض الواقع، فلو كانوا سائرین على نهج الإمام ونهجه حقّاً لتبیّنوا ما یقوله خلیفته من بعده وعملوا بأوامره. ولو كانوا متّبعین لخطّ الإمام كما یدّعون إذن فلماذا یخالف سلوكُهم سلوكَه؟! ولو كانوا یقبلون بمبدأ ولایة الفقیه فلماذا لا یعملون بأوامر الولیّ الفقیه ونواهیه؟!
إذن یتعیّن علینا أن نستلهم هذا الدرس من هذه القصّة، وأن لا ننخدع بالأَیمان المغلّظة والادّعاءات الواهیة لبعض من تبدو علیهم أمارات الصلاح، فلا نصدّق ادّعاءاتهم إلا إذا تُوّجت أقوالهم بالأفعال. بالطبع من الممكن للمرء فی إطار القضایا الشخصیّة أن یتغاضى عن حقّه، لكن عندما یتعلّق الأمر بالدین، وبحقوق المجتمع، وبمصالح البلاد فلا ینبغی التغاضی والتسامح ببساطة. فی مثل هذه الامور ینبغی على المرء أن یتیقّن وأن لا ینخدع بمجرّد الادّعاء والقَسَم وحسن الظاهر. لكن علینا أن لا ننسى أیضاً فنتورّط باتّهام كلّ من ادّعى الصلاح وفعل الخیر بالكذب؛ فما دامت هناك أمارات عملیّة تؤیّد مدّعاه فیتعیّن علینا أن ندعمه ونقف إلى جانبه، وبمجرّد أن نكتشف فیه علامات الانحراف نتوقّف عن دعمه. هذا هو درس عامّ یعلّمنا أن لا نتعاطى مع الامور بسذاجة، فالتسامح لیس محبّذاً خصوصاً فی المسائل الاجتماعیّة والامور الدینیّة، إذ لابدّ أن تكون للمرء فی كلّ خطوة یخطوها فی حیاته حجّةٌ أمام الله تعالى.
النقطة الثانیة هی ادّعاؤه بأنّه سمع هذا الحدیث عن رسول الله (صلّى الله علیه وآله). وهنا نواجه هذا السؤال: ما هو تكلیفنا تجاه من یدّعی مثل هذا الادّعاء؟ یقول القرآن الكریم فی هذا الصدد: «إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا»4، ومن هنا فإنّه إذا لم یكن للخبر سند معتبر فلا قیمة له على الإطلاق. لكن على فرض أنّ الراوی هو محطّ ثقّة لكنّ مضمون حدیثه لا ینسجم مع السیاق القرآنیّ فماذا سنفعل عندئذ؟
یقول نبیّنا الكریم (صلّى الله علیه وآله) فی هذا المجال: «قد كثُرت علَیّ الكَذَّابة وستكثر... فإذا أتاكم الحدیث فاعرضوه على كتاب الله وسنّتی فما وافق كتاب الله وسنّتی فخذوا به وما خالف كتاب الله وسنّتی فلا تأخذوا به»5. إذن فهو (صلّى الله علیه وآله) یضع فی أیدینا مقیاساً لكشف صحّة الحدیث. فهذا حدیث قد رواه أحدهم لنا، ولنفترض أنّ الراوی صادق، لكن تعالوا ننظر ماذا یقول القرآن الكریم فی الآیة السادسة عشرة من سورة النمل: «وَوَرِثَ سُلَیْمَانُ دَاوُدَ» وكذا فی الآیتین الخامسة والسادسة من سورة مریم: «فَهَبْ لِی مِن لَّدُنكَ وَلِیّاً * یَرِثُنِی وَیَرِثُ مِنْ ءَالِ یَعْقُوبَ»، أمّا هذا الراوی فیقول: «لقد سمعت النبیّ یقول: ما من نبیّ قد ترك إرثاً فالأنبیاء لا یورّثون غیر العلم». لكن هذا یخالف صریح القرآن الكریم من ناحیة ویعارض التاریخ القطعیّ من ناحیة اخرى.
وعلى فرض أنّ سند الحدیث ومضمونه صحیحان فإنّه لا یُوصل إلى مراد الراوی أیضاً؛ ذلك أنّ الحدیث یقول: «نحن معاشر الأنبیاء لا نورّث». إذ أن المعنى الصحیح للحدیث بالرجوع إلى آیات القرآن الكریم یكون هكذا: نحن معاشر الأنبیاء بما أنّنا أنبیاء فإنّنا نورّث العلم والحكمة؛ إذن فهذه العلوم هی إرثنا فقدّروها حقّ قدرها. وبعبارة اخرى إنّ لكلّ شخص إرثاً بلحاظ شخصیّته الحقیقیّة، وإرثاً من نوع آخر بلحاظ شخصیّته الحقوقیّة. فالشخصیّة الحقوقیّة للأنبیاء (أی مقام النبوّة) لا تترك للاُمّة إرثاً سوى العلم والحكمة، أمّا الشخصیّة الحقیقیّة للنبیّ – حالها فی ذلك حال سایر الناس – فهی تورّث المال للزوج والأولاد.
وحتّى لو فرضنا جدلاً أنّ الروایة مرویّة عن النبیّ حقّاً وأنّ قصده (صلّى الله علیه وآله) من هذا القول هو أنّ المال الذی یتركه الأنبیاء (علیهم السلام) لا یندرج تحت حكم الإرث، فإنّها أیضاً لا تحقّق الهدف الذی رمى الراوی إلیه، ذلك أنّ الحدیث یقول: لا یملك أحد صلاحیّة التصرّف بالأموال التی یتركها النبیّ إلا ولیّ الأمر من بعده، وإنّ ولیّ الأمر هو ذلك الشخص الذی عیّنه النبیّ بنفسه. فقد قال (صلّى الله علیه وآله) قبل سبعین یوماً فقط من هذه الحادثة: «مَن كنتُ مولاه فهذا علیّ مولاه»6؛ إذن فإنّ أموال رسول الله (صلّى الله علیه وآله) طبقاً لهذا الحدیث تكون تحت تصرّف أمیر المؤمنین علیّ (علیه السلام).
إذن فإنّ جمیع مساعی الزهراء (سلام الله علیها) كانت تصبّ فی إفهام الطرف المقابل أنّ ما تفعلونه خطأ فادح وأنّكم بعملكم هذا تحرفون مسیرة الحكومة الإسلامیّة عن وجهتها الحقیقیّة.
والسلام علیكم ورحمة الله
1. سورة الأعراف، الآیة 21.
2. سورة «المنافقون»، الآیة 1.
3. سورة «المنافقون»، الآیة2 .
4. سورة الحجرات، الآیة 6.
5. بحار الأنوار، ج2، ص225.
6. بحار الأنوار، ج37، ص115؛ وإقبال الأعمال، ص456؛ وشرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید المعتزلیّ (طبعة مكتبة آیة الله المرعشیّ النجفیّ فی قمّ المقدّسة، سنة 1404 هـ . ق)، ج2، ص289.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 11 أیار 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
وصلنا فی شرحنا للخطبة الفدكیّة المباركة إلى حیث قالت الزهراء (سلام الله علیها) فی مقام الاحتجاج لمن یدعى كونه الخلیفة الأوّل وهو الذی استولى على مزرعة فدك: «إذا لم تقبل بكون فدك نحلة لی من أبی قد أعطانیها فی حیاته عملاً بالأمر الإلهیّ: «وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ»1، فاعترف على الأقلّ بكونها ملكاً لأبی انتقل لوارثیه بعد مماته، وحیث إنّه لا وارث له غیری فلابدّ أن تكون فدك ملكی الآن. فبأیّ ذریعة استولیت علیها؟ ثمّ التفتت نحو الأنصار وبعد أن سردت بعض فضائلهم لامتهم على عدم نصرتهم لجبهة الحقّ. ویمكن أن نخمّن أنّ جوّ المجلس أضحى متشنّجاً عندما وصلت (سلام الله علیها) إلى هذا المقطع من خطبتها. وهنا التفت الخلیفة الأوّل إلى أنّ حالة من التوتّر قد خیّمت على المجلس ولابدّ من ترطیب الأجواء. فشرع بادئ ذی بدء بالثناء على البتول (علیها السلام) بالقول: «جمیعنا ممتنّ لأبیك، وبما أنّك ابنته ووریثته، فنحن نكنّ لك المحبّة والمودّة، بل إنّنی على استعداد لأن أهبك مالی الخاصّ. وإنّ وضع الید على فدك لم یكن خارج نطاق ما ارتأیتُه من مصلحة الاُمّة، ولم أتفرّد فی قراری هذا بل كان بإجماع من المسلمین كافّة. لكنّنی اُقسم أنّنی قد سمعت رسول الله (صلّى الله علیه وآله) یقول: نحن معاشر الأنبیاء لا نورّث وما كان لنا من أموال فهی توضَع تحت تصرّف ولیّ الأمر بعدنا. وقد رأیت من الصلاح إنفاق هذا العِقار على مصالح المسلمین وتأمین نفقات الجهاد».
بطبیعة الحال فقد تأثّر بعض السذّج والذین یمتازون بسطحیّة الفكر من الناس بكلامه إلى حدّ ما، وهذا ما دفع الزهراء (سلام الله علیها) إلى متابعة حدیثها قائلة: «سُبْحَانَ اللهِ مَا كَانَ أَبِی رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ عَنْ كِتَابِ اللهِ صَادِفاً، وَلا لأَحْكَامِهِ مُخَالِفاً، بَلْ كَانَ یَتْبَعُ أَثَرَهُ وَیَقْفُو سُوَرَه»؛ عجباً! لم یكن أبی لینطق بما یخالف حكم الله. فقد اشتملت مهمّته على تبیین أحكام الله تعالى وكان هو یعمل بها أیضاً. «أَفَتَجْمَعُونَ إِلَى الْغَدْرِ اعْتِلالاً عَلَیْهِ بِالزُّور»؛ فهل تریدون عبر المكر والحیلة أن تنسبوا الخطأ إلى النبیّ لتبرّروا تصرّفاتكم؟! «وَهَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ شَبِیهٌ بِمَا بُغِیَ لَهُ مِنَ الْغَوَائِلِ فِی حَیَاتِه»؛ وهی جملة تحمل الكثیر من الأسرار. إذ تقول فاطمة الزهراء (علیها السلام): «إنّ فعلكم هذا یشبه الغائلة التی نفّذتموها فی زمان حیاة النبیّ (صلّى الله علیه وآله)». وهی هنا تطرح القضیّة بشكل مجمل. غیر أنّ شارحی الخطبة، ولاسیّما ابن أبی الحدید المعتزلیّ، وهو من أهل السنّة، ینقل فی هذا المورد عن أساتذته والمؤرّخین، الذین من جملتهم الواقدیّ فی كتابه «المغازی» حادثة تفصّل هذا الإجمال مفادها أنّ جماعة من المنافقین كانوا قد تآمروا لاغتیال النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله)، فكمنوا له لیلاً عندما كان یمرّ من طریق جبلیّة مخطّطین لإفزاع ناقته كی تنفر وتلقی به (صلّى الله علیه وآله) فی الوادی. لكنّ النبیّ علم بالمؤامرة فباءت مساعیهم بالفشل. ووفقاً للقرائن المتوفّرة، لاسیّما النصّ الذی أورده الواقدیّ فی مغازیه، فإنّ قصد الزهراء (سلام الله علیها) من كلامها هذا هو مؤامرة اغتیال النبیّ (صلّى الله علیه وآله). ومن هنا فهی تقول: إنّ ما تصنعونه بی الیوم أشبه ما یكون بالدسیسة التی حیكت لاغتیال النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) أیّام حیاته، فهذه الواقعة هی استمرار لتلك وأنتم لا تنوون من ذلك غیر إقصائنا كی لا یبقى من هذا البیت ومن أهداف النبیّ الأعظم أثر یُذكر.
«هذَا كِتَابُ اللهِ حَكَماً عَدْلاً، وَنَاطِقاً فَصْلاً» فإن لم تكونوا تبیّتون غرض سوء وأنّ التكلیف قد التبس علیكم حقّاً فارجعوا إلى القرآن الكریم واعملوا بما یحكم به، فهو یَقُولُ: «یَرِثُنِی وَیَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ»2 وهی (سلام الله علیها) ترمی بالاستشهاد بهذه الآیة إلى القول: إذا كان ما تقوله - من أنّ الأنبیاء لا یورّثون - صحیحاً فلابدّ أن یكون أنبیاء الله (علیهم السلام) أنفسهم مطّلعین على هذه المسألة. فإن كان الأمر كذلك فلماذا یسأل نبیّ الله زكریّا (علیه السلام) الله تعالى الوارث؟ ثمّ تذكر (علیها السلام) آیة اُخرى تنقض هذا الادّعاء بكلّ صراحة فتقول: «وَوَرِثَ سُلَیْمانُ دَاوُدَ»3. فلو كانت قضیّة عدم توریث الأنبیاء قاعدة ثابتة فكیف یقول تعالى فی كتابه العزیز: «وَوَرِثَ سُلَیْمانُ دَاوُدَ»؟ وفی ذلك دلیل ناصع على أنّ هذا الحدیث غیر صائب، أو – غایة ما فی الأمر – أنّنا یمكن أن نعلّل قولك بأنّك أخطأت فی سماع كلام رسول الله (صلّى الله علیه وآله)، فقد یكون الحدیث هكذا: «إنّ العلماء ورثة الأنبیاء. إنّ الأنبیاء لم یوَرِّثوا دیناراً ولا درهماً ولكن ورّثوا العلم، فمَن أخذ منه أخذ بحظّ وافر»4؛ ومعناه أنّنا معاشر الأنبیاء لا نترك لاُمَمنا مالاً بعنوان الإرث، بل إنّ اُممنا ترث منّا العلم. فالغایة من هذا الكلام هی تشجیع الناس على طلب ما تركه لهم أنبیاؤهم من العلوم والمعارف، وهو لا یعنی أنّه من حیث كون النبیّ فرداً من أفراد المجتمع وأنّه خاضع للأحكام الإلهیّة فهو لا یورّث أمواله لأبنائه كما یفعل سائر أفراد الاُمّة. إذن فلا یمكن أن یكون ما تزعم - من أنّ ما تركه النبیّ یكون تحت تصرّف ولیّ الأمر من بعده - صحیحاً لأنّه یخالف صریح القرآن الكریم.
«وَبَیَّنَ عَزَّ وَجَلَّ فِیمَا وزّعَ مِنَ الأَقْسَاطِ، وَشَرَعَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْمِیرَاثِ، وَأَبَاحَ مِنْ حَظِّ الذُّكْرَانِ وَالإِنَاثِ مَا أَزَاحَ بِهِ عِلَّةَ الْمُبْطِلِینَ، وَأَزَالَ التَّظَنِّیَ وَالشُّبُهَاتِ فِی الْغَابِرِینَ» فلقد أنزل الله تعالى فی كتابه آیات فی الإرث وعیّن فیها سهم كلّ وارث وبیّن الاختلاف بین إرث الذكر والانثى. وهو یقول فی كتابه: كلّ المسلمین یرثون من مورّثیهم. وبناء علیه فلا مجال للشبهة التی تطرحون وهی أنّ أباكِ لم یترك لكِ مالاً ترثینه وأنّ كلّ ما تركه یجب أن یُنفق على مصالح المسلمین. فحكم القرآن هذا لا یتضمّن الاستثناء وهو جارٍ على كلّ مسلم.
كَلاّ «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِیلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلَىٰ ما تَصِفُونَ»5 وهی تقتبس هنا الآیة الواردة فی قصّة یوسف الصدیق (علیه السلام)؛ حیث إنّه عندما ألقى إخوة یوسف (علیه السلام) به فی غیاهب البئر وجاءوا أباهم بقمیص یوسف الملطّخ بالدماء قالوا له: لقد تركنا یوسف عند متاعنا فلمّا عدنا وجدنا أنّ الذئب قد أكله ولم یبق منه سوى هذا القمیص الملطّخ بالدماء. فقال نبیّ الله یعقوب (علیه السلام): «كلّ ما تقولونه وتبیّنونه إنّما هو من تصویرات النفس والشیطان؛ أی إنّكم تكذبون علیّ وتریدون خداعی. لكنّنی سأصبر صبراً جمیلاً وسأستعین بالله الواحد الأحد على ما تزعمون». فتلاوة مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها) لهذه الآیة على مسامعهم یعنی قولها: كما قد كذب أبناء یعقوب (علیه السلام) على أبیهم فإنّكم تكذبون علیّ وتحوكون لی الحیل والمكائد لكنّه لابدّ أن أصبر فی مثل هذه الأحوال حتّى یحكم الله بحكمه.
لم یصل الخلیفة بعد الكلمات الأخیرة التی أدلت بها بضعة الرسول (علیها السلام) إلى مبتغاه، فقد كان یبتغی من كلّ تلك الإطراءات والكلام المعسول بحقّ الزهراء البتول (علیها السلام) أن یهدّئ الأجواء المتوتّرة لیبلغ الى ما یصبو إلیه من مآرب. لكنّ كلمات فاطمة (سلام الله علیها) قلبت الوضع من جدید وأدرك الناس حینها أنّ القضیّة هی غیر ما یُدَّعى فالزهراء تقول: إنّكم تمارسون التحایل، وتختلقون الأكاذیب، وتریدون تكرار تلك المؤامرة التی حاولتم من خلالها قتل النبیّ (صلّى الله علیه وآله). یاله من كلام عجیب!
ولـمّا شاهد أنّ الأجواء قد انقلبت مرّة اُخرى انبرى بالكلام ثانیة فقال: «صدق اللهُ ورسولُه وصدقت ابنتُه» فلقد تلوت علینا آیات من القرآن الكریم وإنّ الله ورسوله صادقان فیما یقولان، كما وأنّك صادقة أیضاً باعتبارك ابنة ذلك الرسول. وتابع الكلام المعسول قائلاً: «أنتِ معدن الحكمة، وموطن الهدى والرحمة، وركن الدین، وعین الحجّة» وهی أوصاف عجیبة للغایة! بالطبع عندما تكون الغایة هی إطفاء غضب المقابل وإخماد سخطه فإنّه یقال له: «لا اعتراض لدینا على ما تقول، فإنّنا نكنّ لك كلّ الإخلاص والولاء». وانطلاقاً من هذا المنطلق بدأ بالقول: إنّنی لا اكذّبك قطّ! وسطّر هذه الصفات العجیبة للزهراء (سلام الله علیها)؛ فقد وصفها بركن الدین، والركن من البناء إنْ خُرِّب هَوى البناء برمّته؛ إذن فهو یقول لها: إنّك تمتلكین هذه المنزلة والمكانة من الدین وأنا مؤمن بذلك، «لا ادلی بجوابك، ولا أدفعك عن صوابك لا أُبَعِّد صوابكِ، ولا أُنكِر خطابك، هؤلاء المسلمون بینی وبینكِ قلّدونی ما تقلّدتُ، وباتّفاق منهم أخذتُ ما أخذتُ، غیر مُكابر ولا مستبِدّ ولا مستأثر، وهم بذلك شهود»؛ لقد ذكرتِ اُموراً لا اُكذّبها، لكنّنی لن أعمد إلى الإجابة فلا اُرید الاستمرار فی هذا البحث ولا الردّ على ما تقولینه، وسأترك الأمر من الآن فصاعداً إلى المسلمین كی یحكموا بأنفسهم. إنّنی لم أتولّ هذا المنصب باختیار منّی، بل قلّدنی إیّاه المسلمون. كما أنّ الاستیلاء على فدك لم یكن برأیی الشخصیّ بل كان باتّفاق جمیع المسلمین! فلم أشأ أن أستبدّ برأیی أو أن أستأثر بشیء لنفسی. فالناس هم الحكم بینی وبینك، وأنا اُوافق على كلّ ما تُجمع علیه كلمة المسلمین! وإنّ الناس لشهود على أنّنی لم أقم بهذا الأمر بمفردی.
فی الحقیقة عندما لم یعثر الخلیفة فی مقابل آیات القرآن الكریم وكلام الصدّیقة الطاهرة (سلام الله علیها) على ردّ مقنع، ولم تكن الأجواء لتسمح بإطالة البحث فی هذه المسألة أكثر من ذلك فقد رأى أنّ أنجع السبل للتخلّص من هذا المأزق هو وضع الزهراء (علیها السلام) فی مواجهة المسلمین. ومن هنا فقد حاول الإیحاء بأنّه طالما أنّ جمیع الناس قد وافقوا على كلّ ما حصل، فإنّ كلّ ما مضى من الأعمال فهو صحیح وصائب. ویشیر أمیر المؤمنین (صلوات الله علیه) فی بیانه لهذه القصّة إلى أنّ القوم ومن أجل غصب الخلافة وفدك منّا فقد استندوا إلى إجماع المسلمین قائلین: «إنّ الله لا یجمع اُمّتی على ضلال»6
من المناسب هنا أن یتمّ إخضاع مسألة الإجماع المذكور إلى بحث وتحلیل من بُعدها التاریخیّ كی یُكشف عن ماهیّة هذا الإجماع أوّلاً، وما یحمله من حجّیة بخصوص هذه المسألة ثانیاً، وأنّه لماذا لم ینطق أحد بشیء بعد الاستناد إلى هذا الإجماع ثالثاً.
فأمّا الإجماع على الخلافة فهو أشبه بالهزل منه بالجدّ. فواقعة السقیفة - التی ینقلها مؤرّخو أهل السنّة ومحدّثوهم أنفسهم - كانت قد ابتدأت بنزاع وقع بین طائفتین من الأنصار على الخلافة فی السقیفة. وعندما علم نفر من المهاجرین (ممّن تسلّموا مقالید الخلافة فیما بعد) بالأمر هرعوا من فورهم إلى السقیفة واشتبكوا مع القوم هناك. أمّا الخلیفة الثانی فیروی الواقعة بالقول: «فارتفعت الأصوات وكثر اللغط فلمّا أشفقتُ من الاختلاف قلت لأبی بكر: اُبسط یدك أبایعك. فبسط یده فبایعته وبایعه المهاجرون وبایعه الأنصار وانتهى الأمر ولم ینطق أحد بشیء بعدها»7! هذا هو «الإجماع» المزعوم. وقد رُوی عن الخلیفة الثانی قوله أیضاً: «إنّ بیعة أبی بكر كانت فلتة... غیر أنّ الله وقى شرّها»8! فلو كان الأمر محطّ اتّفاق المسلمین وإجماعهم، وأنّهم لم یختلفوا فیه، بل ولم یخطئوا فیه أیضاً، فما بال الخلیفة الثانی یقول: «فلتةٌ وقى الله شرّها»! وكیف یقول یا ترى: «فلمّا أشفقتُ من الاختلاف قلت لأبی بكر: اُبسط یدك أبایعك»! فإن كانت القضیّة قضیّة إجماع كان لابدّ من جمع الآراء والإدلاء بالأصوات. وكان یتحتّم علیهم – على الأقلّ – أن یسألوا الآخرین عن آرائهم، ویمنحوا كلّ امرئ الفرصة لإبداء رأیه بحرّیة. كیف یتمّ الحدیث عن الإجماع وقد وصل الأمر فی بدایته إلى سلّ السیوف من أغمادها فعمد هو إلى بسط یده إلى أبی بكر لمبایعته وقایةً من إراقة الدماء؟! ثمّ یقول بعدها بلسانه: كان ما قمنا به تصرّفاً غیر مدروس؟! فلم یكن هؤلاء یمثّلون جمیع الاُمّة. ألم یكن سلمان وأبو ذرّ والمقداد وعمّار والآخرون من الاُمّة؟! ولو افترضنا أنّ الإجماع كان قد حصل على الخلافة وعلى غصب فدك، فالسؤال هو: مَن هم الذین شاركوا بآرائهم فی هذا الإجماع؟! أین الوثیقة التی تثبت أنّ الناس قد قالوا لهم: هلمّوا وقوموا بهذا الأمر؟ لقد استند الخلیفة الأوّل بنفسه إلى حدیث رواه عن النبیّ مفاده أنّ صلاحیّة التصرّف فی الأموال التی أترُكها تكون لولیّ الأمر من بعدی. فحتّى لو صحّ هذا الحدیث لتعیّن – على أساس البیعة التی أخذها رسول الله (صلّى الله علیه وآله) من المسلمین فی غدیر خمّ قبل سبعین یوماً فقط – جعلها تحت تصرّف علیّ (علیه السلام) لا أن یُخرِجوا وكیل علیّ والزهراء (سلام الله علیهما) من العِقار ویستولوا علیه!
وعلى أیّة حال فقد كانت هذه الواقعة، كما عبّرت عنها الزهراء (سلام الله علیها)، مؤامرة وغائلة خطیرة للغایة تشبه تلك التی حاكوها لقتل النبیّ فیما مضى. فلا ینبغی أن نغفل عن هذه النقطة وهی أنّ مولاتنا فاطمة (علیها السلام) قد استخدمت فی حقّ هؤلاء مثل هذه العبارات، واستشهدت لذلك بآیات قد نزلت فی الكفّار والمشركین والمنافقین، وأنّها شبّهت هذا التیّار بأبناء یعقوب (علیه السلام) كلّ ذلك كی یعرف ولو نفر من المسلمین حقیقة الإسلام ویشخّصوا سبیله القویم ویفهموا ممّن یجب أن یأخذوا معارف دینهم. فلو قال قائل إنّه: «لولا خطبة فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) هذه لما عُثر الیوم على أثر للتشیّع» لم یكن كلامه جزافاً. فبقاء التشیّع بل وحتّى التراث الذی ورثه أهل السنّة من معارف أهل البیت (علیهم السلام) هو رهن بهذه الخطبة الشریفة.
نسأل الله العلیّ القدیر أن لا یحرمنا من موالاتها فی الدنیا والآخرة.
والسلام علیكم ورحمة الله وبركاته
1. سورة الإسراء، الآیة 26.
2. سورة مریم، الآیة 6.
3. سورة النمل، الآیة 16.
4. الكافی، ج1، ص34.
5. سورة یوسف، الآیة 18.
6 . الإحتجاج علی أهل اللجاج للطبرسی، ج 1، ص 115؛ الخصال للشیخ الصدوق، ج 2، ص 549.
7. تاریخ الطبری، ج2، ص446 - 447.
8. تاریخ الطبری، ج2، ص446؛ وفی شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید المعتزلی، ج2، ص26 جاءت العبارة عن قول الخلیفة الثانی هكذا: «... كانت فلتة وقى الله شرها».
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 18 أیار 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
وصلنا فی المحاضرات السالفة إلى المقطع الأخیر من خطبة الزهراء (سلام الله علیها) حیث قد دار حوار طویل بینها (علیها السلام) وبین من كان یسمّى بالخلیفة الأوّل، وقد استشهدت الزهراء فی أجوبتها اللاذعة بآیات من الذكر الحكیم. حتّى قال أبو بكر فی نهایة المطاف: «إنّنی لم أتربّع على كرسیّ الخلافة إلاّ بمشورة الناس فهم الذین أمّرونی علیهم، وإذا كنت قد تصرّفت بعِقار فدك فلم یكن ذلك إلاّ بموافقة الرعیّة. فهذه أنت وهؤلاء الناس، وإن شئتِ اعملی بما یقولون». فردّت علیه الزهراء (علیها السلام) ردّاً عنیفاً، ثمّ التفتت ثانیة إلى المسلمین وقالت لهم:
«مَعَاشِرَ المُسْلِمِین الْمُسْرِعَةَ إِلَى قِیلِ الْبَاطِلِ، الْمُغْضِیَةَ عَلَى الْفِعْلِ الْقَبِیحِ الْخَاسِرِ أَفَلا تَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ «أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها»1، كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَا أَسَأْتُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَأَخَذَ بِسَمْعِكُمْ وَأَبْصَارِكُمْ، وَلَبِئْسَ مَا تَأَوَّلْتُمْ، وَسَاءَ مَا بِهِ أَشَرْتُمْ، وَشَرَّ مَا مِنْهُ اغْتَصَبْتُمْ، لَتَجِدُنَّ وَاللهِ مَحْمِلَهُ ثَقِیلاً، وَغِبَّهُ وَبِیلاً، إِذَا كُشِفَ لَكُمُ الْغِطَاءُ، وَبَانَ مَا وَرَاءَهُ بإورائه الضَّرَّاءُ، وَبَدَا لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَحْتَسِبُوُنَ «وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ»2؛ أی: یا معاشر المسلمین المسرعة إلى الكلام الباطل والمغضیة بطرفها والمتسامحة عن الفعل القبیح والخاسر. ألا تتدبّرون فی كلمات القرآن الكریم أم إنّ قلوبكم موصدة ومقفلة؟! لا بل إنّ قبیح فعالكم قد أظْلَمَ قلوبكم فسلبكم الله سمعَكم وأبصاركم. فبئسما فسّرتم به آیات الباری عزّ وجلّ، وما أسوأ ما أشرتم إلیه من رأی! وأیّ عوضٍ سیّئ تلقّیتم نتیجة فعلتكم هذه! فبالله اُقسم إنّ عبء عملكم هذا سیكون علیكم عظیماً، وثقله كبیراً، وستؤولون إلى أسوأ العواقب. وعندما یحین الیوم الذی یُكشف فیه الغطاء عن أعمالكم ویظهر ما خفی تحته من أفعالكم ستظهر لكم من الله تعالى من البلایا والشدائد ما لم تكونوا تحتسبون وسیخسر حینئذ أهل الباطل خسراناً شدیداً.
ومن الجلیّ - جریاً على القاعدة - فإنّه عندما یترك المتصدّی للخلافة الأمر إلى الناس ویقول: إنّنی قد عملت برأیهم، فلابدّ أن یُبدی الناس - إذا كان لدیهم شعور بالمسؤولیّة – معارضة لذلك لاسیّما وأنّ الزهراء (سلام الله علیها) قد اشتكت منهم غیر مرّة بسبب عدم نصرتهم للحقّ. لكنّ الناس - مع ذلك كلّه - أصرّوا على التزام الصمت ولم ینبسوا ببنت شفة. ولهذا فقد توجّهت (سلام الله علیها) بخطابها إلى الناس معترضة على قبولهم بالكلام الباطل وغضّ الطرف والتسامح عن مخالفة الحقّ؟! قائلة لهم: اعلموا أنّكم ستتورّطون بتبعات وعواقب هذا العمل وستندمون یوماً على فعلتكم هذه حیث لن یجدی الندم نفعاً.
تحتوی هذه الجمل على التفاتات قیّمة لا تختصّ بذلك الزمن وأهله بل یمكننا نحن أیضاً أن نستلهم منها الدروس والعبر فی زماننا هذا.
لقد اقتبست مولاتنا الزهراء (علیها السلام) فی هذا المقطع عدداً من آیات القرآن الكریم. فإذا تصوّرنا الموقف وجدنا امرأة تقف فی محكمة رسمیّة مدّعیة غصب مالها من غیر سبب، وهی فی صدد ذكر آیات من القرآن الكریم لإثبات مدّعاها، فبأیّ آیة یمكنها أن تستشهد لذلك؟ وفقاً للقاعدة فإنّه یتعیّن عیلها أن تستشهد بآیات من قبیل: «لا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَیْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ»3، أو قوله تعالى: «لا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَیْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ»4. لكن لأیّ سبب تخاطبهم (سلام الله علیها) بالقول: «أأصبحتم كفّاراً وتركتم دین الله سبحانه وتعالى؟ أتریدون سلوك سبیل النار الخالدة»؟!
من المسَلّم أنّ فاطمة الزهراء (علیها السلام) لا تقول قولاً اعتباطیّاً أو من دون تمحیص وتأمّل، وإنّ الآیات التی تلتها خلال هذه الخطبة الشریفة عجیبة للغایة. فعندما أشارت فی بدایة الخطبة إلى واقعة السقیفة وتغییر وجهة الخلافة قالت: یزعم أهل السقیفة أنّهم عجّلوا فی تعیین خلیفة الرسول تفادیاً لوقوع الفتنة وحدوث الفوضى فی الاُمّة، لكن: «أَلا فِی الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَةٌ بِالْكَافِرِینَ»5؛ فهؤلاء هم أساساً فی قلب الفتنة وإنّ جهنّم محیطة بهم من كلّ جانب. ثمّ تقول متابعةً: أتریدون بحكمكم هذا أن تبتغوا دیناً غیر الإسلام؟! «وَمَن یَبْتَغِ غَیْرَ الإِسْلامِ دِیناً فَلَن یُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِی الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِینَ»6. فهذه الآیة إنّما تنفع كجواب لاُولئك المنادین بالتعدّدیة الدینیّة والقائلین بأنّ جمیع الأدیان حسنة ولا یهمّ بأیّها نتدیّن، لكنّ بأیّ حجّة تقتبس الزهراء (سلام الله علیها) هذه الآیة فی مقام المطالبة بحقّها المغتصَب؟ ولماذا استشهدت بقوله تعالى: «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِیَّةِ یَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ یُوقِنُونَ»7؟ أی: «أتریدون إحیاء أحكام الجاهلیّة؟! فأیّ حكم هو أفضل من حكم الله؟ أم تریدون التخلّی عن حكمه عزّ وجلّ»؟! فهل ادّعى القوم ذلك یا ترى؟ كلاّ، فلم یظهر ذلك من كلامهم إطلاقاً، بل كان أبو بكر یحاول جهده الحفاظ على احترام فاطمة، لكنّها (سلام الله علیها) كانت تردّ علیه ردوداً عنیفة لاذعة. فمن جملة الآیات التی استشهدت بها (علیها السلام) هی الآیة التاسعة والثلاثون من سورة هود التی یقول فیها تعالى: «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن یَأْتِیهِ عَذَابٌ یُخْزِیهِ وَیَحِلُّ عَلَیْهِ عَذَابٌ مُّقِیمٌ»، والقرآن الكریم یستخدم هذا الاسلوب فی القول حینما یخاطب الكفّار والمشركین. لكنّ الزهراء كانت تخاطب بنفس هذه اللهجة اُناساً یقیمون الصلاة وشخصاً بایعه الناس خلیفةً لرسول الله (صلّى الله علیه وآله)، فأیّ حكمة من وراء ذلك یا ترى؟
وكذا الحال عندما تشتكی فاطمة (سلام الله علیها) من عدم نصرة المسلمین فنراها تقول، من باب التبریر: لعلّكم ظننتم أنّ الأمر قد انتهى برحیل النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وأنّكم تستطیعون بعد رحیله أن تفعلوا ما تشاءون، فی حین أنّه: «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِیْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن یَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَیْهِ فَلَن یَضُرَّ اللهَ شَیْئاً وَسَیَجْزِی اللهُ الشَّاكِرِینَ»8. وهذه آیة عجیبة تستحقّ الوقوف عندها والتأمّل فی سبب استشهاد فاطمة الزهراء (علیها السلام) بها فی هذا المقام بالذات. یقول الباریّ عزّ وجلّ فی هذه الآیة: «أفینبغی أن تتخلّوا عن دین الله تعالى وتنكصوا على أعقابكم إذا مات رسول الله (صلّى الله علیه وآله) أو قُتل؟! إنّكم إن فعلتم ذلك فلن تضرّوا اللهَ سبحانه فی شیء، أمّا إذا شكرتم نعمة ربّكم فسیثیبكم الله على شكركم». ترید الزهراء (علیها السلام) من خلال ذكر هذه الآیة فی مجلس كهذا أن تقول: إذا ظننتم أنّكم غیر مسؤولین عن الدفاع عنّا وحمایتنا بعد رحیل النبیّ (صلّى الله علیه وآله) فستكونون مصداقاً لهذه الآیة وعلیكم أن تعلموا أنّكم بفعلتكم هذه لن تتسبّبوا بأیّ ضرر لله جلّ شأنه بل إنّكم أنتم الذین ستخسرون. ثمّ تُتبع ذلك بذكر قوله تعالى: «وَقَالَ مُوسَىٰ إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِی الأَرْضِ جَمِیعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِیٌّ حَمِیدٌ»9؛ فإنّكم إن كفرتم أیّها المسلمون وكلّ سكان المعمورة فلن تضرّوا الله قید أنمُلة ولن ینال كبریاءَه أیُّ غبار. فلماذا تسوق بضعة الرسول (سلام الله علیها) هذه الآیة فی هذا الموطن بالذات؟ أكان فی المجلس من ینوی التخلّی عن دینه یا ترى؟!
وعندما طُرح بحث كون فدك إرثاً ورُدّ على الزهراء (سلام الله علیها) بالقول: إنّ الأنبیاء لا یورّثون، قالت (علیها السلام): «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِیلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ»10؛ وهی تقصد بهذا القول: لیست القضیّة أنّ الأمر قد التبس علیكم وأنّكم حقّاً لا تعلمون أنّ النبیّ یورّث أیضاً، حاله فی ذلك حال بقیّة الناس، بل إنّكم قد أعددتم هذا السیناریو بأنفسكم لتنفّذوا ما تحبّون على أرض الواقع، وما علَیّ إلاّ أن أصبر حتّى تتحقّق إرادة الله عزّ وجلّ.
وفی المقطع الذی ذكرناه الیوم من الخطبة تستشهد الصدّیقة الطاهرة (علیها السلام) بالآیة الرابعة والعشرین من سورة محمّد (صلّى الله علیه وآله)، ومن ثمّ تقتبس مفاهیم الآیة الرابعة عشرة من سورة المطفّفین وتوردها بصیغة الخطاب، والآیة هی: «كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ یَكْسِبُونَ». فمن الحقائق التی یؤكّد علیها القرآن الكریم هی أنّ الأعمال القبیحة للإنسان تؤدّی به بشكل تدریجیّ إلى عدم إدراك الحقّ وضعف الإیمان حتّى ینتهی إلى الكفر؛ كما تصرحّ الآیة الثالثة والعشرین من سورة الجاثیة فتقول: «أَفَرَءَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن یَهْدِیهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ»؛ أی: إذا أصبح الهوى هو معبود المرء من خلال إذعانه لأهواء نفسه فإنّ الله سیعمی بصره ویصمّ سمعه ویضلّه إن كان من أهل العلم والفهم ویجعل على بصره غشاوة وفی سمعه وقراً. فمَن الذی یستطیع هدایة مثل هذا الإنسان؟ إنّ شخصاً كهذا لا یكون قابلاً للهدایة على الإطلاق. ومثل هذا المضمون موجود أیضاً فی الآیة الرابعة عشرة من سورة المطفّفین حیث یقول عزّ من قائل: «كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ یَكْسِبُونَ»؛ فإنّ سیّئات من كانوا یواجهون الله عزّ وجلّ بالخطایا والمعصیة وقبائحهم قد تجمّعت كالصدأ فی بواطنهم وتراكمت كالرین والطین على مرآة قلوبهم فلم تعد تعكس أیّ نور.
تخاطب الزهراء (علیها السلام) المسلمین قائلة: لقد اتّبعتم ما أملَتْه علیكم أهواؤكم ونزواتكم فجئتم بأعمال أدّت إلى اسوداد قلوبكم، ونتیجة لذلك لم تعودوا تدركون شیئاً. لكن سیكشف الله یوماً الغطاء عمّا خفی من أعمالكم ویُظهر ما لم تكونوا تحتسبون، وحینذاك ستفهمون أیّ خطیئة عظیمة اجترحتم: «فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْیَوْمَ حَدِیدٌ»11. والسؤال المـُلِحّ هنا هو: ما الذی دفع الزهراء (سلام الله علیها) فی مجلس كهذا إلى الاستشهاد بهذه الآیات التی یخاطب الله فیها الكفّار والمشركین؟ والسبب هو أنّها (علیها السلام) كانت تشاهد، بما اُوتیَتْ من البصیرة الثاقبة واطّلاعها على الحقائق، أنّ ما بدأ بالظهور من انحراف عن مسیر الحقّ سوف لن ینتهی إلاّ إلى الكفر والشرك: «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِینَ أَسَاؤُواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بِآیَاتِ اللهِ وَكَانُواْ بِهَا یَسْتَهْزِؤُونَ»12.
لقد كنتُ على معرفة بطالب جامعیّ متدیّن. وعندما ذهب هذا الطالب إلى لندن لطلب العلم سمع أنّ بعض أفران الخبز هناك تدهن الفرن بزیت الخنزیر لتسهیل عملیّة إخراج الخبز منها. فأخذ یبحث عن فرن یستعمل الزیت النباتیّ كی یطمئنّ من حلّیة الخبز الذی یتناوله. فهل تصدّقون أنّ هذا الشخص نفسه قد وصل به الأمر فیما بعد إلى إنكار أصل الدین والوحی والنبوّة وكلّ شیء. فلیست القضیّة أنّ كلّ فاسق كان فاسقاً منذ البدایة. بطبیعة الحال یوجد من هو فاسد من البدایة، لكنّ القرآن الكریم یقول: «وَاتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ الَّذِی ءَاتَیْنَاهُ ءَایَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّیْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِینَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ»13؛ فقد كان یوجد اُناس آتیناهم من النعم الجمّة والمعارف العمیقة وقد كانوا صالحین منذ بدایة أعمارهم ومستجابی الدعوة، لكنّهم بدأوا شیئاً فشیئاً بالمیل والركون إلى أهوائهم حتّى أصبحوا كالكلاب. فلقد بلغ الأمر بالمسلمین - الذین قاتلوا مع النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وصاحبوه - أن توبّخهم الزهراء (سلام الله علیها) وتعنّفهم بهذه الصورة. لماذا؟ ذلك أنّها (علیها السلام) كانت ترى أنّه لن تكون لهذا الزیغ والانحراف عن الحقّ من عاقبة سوى الكفر. فإن نحن بنینا أمرنا على عدم الاكتراث لأحكام الله عزّ وجلّ وأصبحنا تدریجیّاً نمیل إلى القول: «أجل، الإسلام والنزعة الإسلامیّة أمر جیّد، لكنّ زمان هذه المواضیع قد ولّى من غیر عودة وقد حلّ محلّها زمان القومیّة والقیم الإنسانیّة»! فلا ننتظرنّ إلاّ عاقبة من هذا القبیل.
لم یكن أحد بعد رسول الله (صلّى الله علیه وآله) لیتمكّن من المحافظة على الإسلام إلا أن یكون أشبه الناس به (صلّى الله علیه وآله) وإنّ الله جلّ وعلا قد مَنّ على المسلمین إذ خلق إنساناً كهذا وعرّفهم به؛ أمّا المسلمون فقد تخلّوا وابتعدوا عنه وقد شكّل هذا التصرّف نقطة الانطلاقة على طریق الباطل. ولهذا فقد وصل الأمر بهؤلاء المسلمین إلى قتل سبط الرسول الأعظم فی كربلاء أبشع قتلة. فإنّ كون المرء مصلّیاً وصائماً لا یشكّل بالضرورة دلیلاً على كونه إنساناً صالحاً من جمیع النواحی، بل لابدّ من النظر إلى عقائده. فإن قال: «أجل، لقد قال الله إنّ علیّاً هو الولیّ بعد رسول الله، لكنّنا نرى الصلاح فی أن یتصدّى شخص آخر للخلافة»، فهذا یعنی أنّه قد جعل نفسه فی عرض وجود الله عزّ وجلّ! فهذا الإمام الصادق (علیه السلام) یقول فیمن یردّ حكم نائب المعصوم: «فإذا حَكَم بحُكْمنا فلم یقبله منه فإنّما استخفّ بحكم الله وعلینا ردّ، والرادّ علینا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله»14، فكیف یكون الردّ على كلام هذا الشخص مؤدّیاً إلى الشرك بالله؟ وذلك لأنّه یحكم بحكم الله تعالى، ومن هنا فإنّ الذی یخالف كلامه فهو یضع كلامه فی عرض كلام الله ویقول: قانون الله قانون، وقانونی هو قانون أیضاً! وهذا هو معنى الشرك.
إذن فإنّ ما وجّهته فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) من تهدیدات وتوبیخات للقوم هو من أجل أن تقول لنا: حذار من الانفصال عن محور الحقّ. إذ أنّ علیّاً مع الحقّ والحقّ مع علیّ15، فمباینة علیّ (علیه السلام) یعنی الزیغ والانحراف وهی تقود فی نهایة المطاف إلى الكفر. إذن علینا أن نقدِر نعمة الولایة حقّ قدرها. فلقد جهد علماؤنا الأعلام لمدّة 1400 سنةً للحفاظ على مذهب التشیّع من أجل أن یصل إلینا، ولقد أمَرَنا أئمّتنا الأطهار (علیهم السلام) من أجل صیانة هذه النعمة والوقوف أمام الانحراف عن سبیل الحقّ بالقول: «علیكم بالرجوع إلى حَمَلة علومنا فی زمان غیبتنا. فهؤلاء هم الحكّام علیكم ولهم الولایة علیكم أیضاً». فولایة الفقیه لم تصل إلى أیدینا بسهولة، وهی لا تعنی المحبّة والاُلفة فحسب؛ فبعض أهل السنّة یقول: «إنّ معنى كلام النبیّ (صلّى الله علیه وآله) عندما قال: «من كنت مولاه فهذا علیّ مولاه»16 هو: مَن كان یحبّنی وكنتُ أحبّه فلیحبّ علیّاً أیضاً. ونحن نحبّ علیّاً». فكم عانى صاحب كتاب «العبقات» وصاحب كتاب «الغدیر» وأمثالهما كی یثبتوا أنّ المراد من المولى لیس هو المحبّة فحسب، بل الولایة؛ بمعنى أنّ طاعة علیّ (علیه السلام) هی فرض علیكم.
وقد یبادر البعض فی زماننا أیضاً إلى القول: إنّ ولایة الفقیه تعنی أنّ علینا أن نحبّ الفقهاء. والحال أنّها تعنی أنّ طاعة الولیّ الفقیه هی واجبة تماماً كطاعة المعصوم (علیه السلام). لذا فإنّ من المناسب فی المرحلة الاُولى أن نؤمن نحن بهذه المسألة، لنعمد فی المرحلة الثانیة إلى رفع ما علق فی أذهان الآخرین من شبهات حولها.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. سورة محمّد (صلّى الله علیه وآله)، الآیة 24.
2. سورة غافر، الآیة 78.
3. سورة النساء، الآیة 29.
4. سورة البقرة، الآیة 188.
5. سورة التوبة، الآیة 49.
6. سورة آل عمران، الآیة 85.
7. سورة المائدة، الآیة 50.
8. سورة آل عمران، الآیة 144.
9. سورة إبراهیم، الآیة 8.
10. سورة یوسف، الآیة 18.
11. سورة ق، الآیة 22.
12. سورة الروم، الآیة 10.
13. سورة الأعراف، الآیتان 175 و 176.
14. الكافی، ج1، ص67.
15. قال رسول الله (صلّى الله علیه وآله): «علیّ مع الحقّ والحقّ مع علیّ» (بحار الأنوار، ج10، ص432).
16. الكافی، ج1، ص420.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 25 أیار 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
نحمد الله العلیّ القدیر أن وفّقنا لشرح الخطبة الفدكیّة لمولاتنا فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) خلال مجموعة من المحاضرات. ولا بأس أن نشیر هنا إلى أنّ للزهراء (علیها السلام) خطبة اُخرى قصیرة تُذكَر عادة جنباً إلى جنب مع الخطبة الفدكیّة، وسنقوم بإذن الله بتقدیم شرح موجز لها عبر بضع محاضرات.
بعد أن انتهت سیّدتنا فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) من خطبتها غادرت المسجد متوجّهة إلى منزلها وهی ساخطة على الناس غیر راضیة عنهم. وقد اشتدّ فی المنزل مرضها حتّى وافاها الأجل بسببه بعد بضعة أیّام. لكنّ جماعة من نساء المهاجرین والأنصار ذهبن لعیادتها فی أیّام اشتداد مرضها، فكان أن اغتنمت (علیها السلام) الفرصة لإلقاء خطبة ثانیة هی تلك التی أشرنا إلیها فی بدایة البحث.
ولابدّ قبل البدء بشرح عبارات الخطبة من الالتفات إلى النقطة التالیة وهی أنّ الزهراء (علیها السلام) قد سعت، على الرغم من مرضها الشدید، إلى اغتنام فرصة اجتماع نساء المهاجرین والأنصار لتبیین بعض الاُمور التی لم یكن بیانها بهذه الكیفیّة ممكناً فی موضع آخر. ولم یتمّ التطرُّق فی هذه الخطبة إلى شأن فدك وغصب الأموال بل قد انصبّ اهتمام الزهراء فیها على مسألة إمامة أمیر المؤمنین (علیه السلام) وتغییر مسیر الإمامة والولایة. فی الحقیقة فإنّنا نستطیع القول: إنّ هذه الكلمة هی أفضل وأكمل وأنجع ما دافعت به الزهراء (سلام الله علیها) عن حیاض الولایة والإمامة، وقد ذكرت فی هذه العبارات القصیرة نسبیّاً (حیث من الواضح أنّ حالتها لم تكن لتسمح لها بإلقاء خطبة مطوّلة) مباحث هی غایة فی العمق والشدّة وقمّة فی إعطاء العبر والإنذار فكان من شأنها أن تهزّ القلوب المتأهّبة والمستعدّة.
إذن فقد كان قصدها (علیها السلام) الذود عن قضیّة الولایة والإمامة فیما تبقّى لها من عمرها الشریف وتبیین الحقائق أمام الملأ قدر المستطاع كی یدركوا خطورة ما اقترفته أیدیهم وما سینتج عن هذا العمل من تبعات وتداعیات خطیرة. كما أنّ هناك بعداً أكثر عمقاً لهذه الخطوة التی قامت بها الزهراء (سلام الله علیها) وهو أنّ دفاعها عن حصون الإمامة وعن أمیر المؤمنین (سلام الله علیه) لم یكن من منطلق عاطفیّ أو اُسریّ أو استناداً إلى علاقتها الشخصیّة بزوجها وما إلى ذلك. صحیح أنّ الدفاع عن الزوج أمر مستحسَن؛ غیر أنّ ما قامت به الزهراء (سلام الله علیها) كان یسمو على قضیّة الدفاع عن حقّ الزوج بكثیر. فلمّا كانت الإمامة هی العلّة الـمُبقِیة للإسلام، فإنّ الذود عن إمامة أمیر المؤمنین (علیه السلام) یعنی الدفاع عن الإسلام برمّته. فإنّنا نستطیع أن نقول بكلّ جرأة وصراحة: إنّه لولا الدور الذی نهض به علیّ بن أبی طالب (سلام الله علیه) مع كلّ ما اكتنف هذا الدور من مظلومیّة ومحدودیّة، لَما بقی من الإسلام شیء، فما بالكم بحقّانیة مذهب التشیّع ومعارف أهل البیت (علیهم السلام)! ومن هذا المنطلق یتعیّن القول فی تحلیل وتقییم ما قامت به الزهراء على فراش المرض وإلقائها لهذه الخطبة الغرّاء: إنّ القضیّة الاُولى التی تمّ تناولها فی هذه الخطبة هی حمایة الولایة والإمامة، والثانیة هی الدفاع عن الإسلام. لكنّه ثمّة بعد آخر أكثر عمقاً لهذا التحرّك. فالمرء قد یخرج أحیاناً إلى جبهات القتال والجهاد دفاعاً عن الإسلام، لكنّك إذا فتّشت فی أعماق قلبه وجدت أنّ الخوف من النار، ورجاء الثواب، والشوق إلى الجنّة والحور والقصور هو الذی دفع به إلى الجهاد. فهل كان دفاع أئمّتنا المعصومین ولاسیّما شخص الزهراء (صلوات الله علیهم أجمعین) عن الإسلام مجرّد أداء لتكلیف شرعیّ یا ترى، أم كان ینطوی على أمر أعمق؟ فی الحقیقة كان البعد الأشدّ غوراً لهذا الموقف هو الرأفة بالناس والشفقة علیهم. فقد كانت الزهراء (سلام الله علیها) تعلم علم الیقین أنّ حرمان الناس من هذا الدین یعنی ابتلاءهم بالتعاسة والشقاء فی الدنیا، وتورّطهم بالعذاب الإلهیّ الأبدیّ فی الآخرة. ومن هنا فقد سعت إلى هدایة الناس ما استطاعت إلى ذلك سبیلاً، فلقد تجسّد فی كیان الزهراء (سلام الله علیها) جوهر وجود ذلك الرجل الذی یقول الباری سبحانه وتعالى فی وصفه: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِیزٌ عَلَیْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْكُم بِالْمُؤْمِنِینَ رَءُوفٌ رَّحِیمٌ»1. ولذا كانت الزهراء (علیها السلام) تحاول جهدها حتّى آخر نفس من أنفاسها أن تعرّف - ولو شخصاً واحداً - بالحقّ وتهدیه إلى سواء السبیل وتنقذه من غیاهب الضلالة والعناد وحبّ الدنیا. إذن فقد كان للزهراء (سلام الله علیها) لبیان هذه الحقائق - فی الواقع - ثلاثة دوافع هی فی طول بعضها؛ الأوّل هو قضیّة الدفاع عن الإمامة، والثانی هو الذود عن حیاض الإسلام، والثالث هو الحرص على دین الناس والشفقة علیهم؛ فلقد كانت من الشفقة علیهم إلى درجة السعی لاغتنام أیّ فرصة من أجل هدایتهم.
«لمّا مرِضت فاطمة (سلام الله علیها) المرضة التی تُوفّیت فیها دخلت علیها نساء المهاجرین والأنصار یعُدْنها فقلن لها: كیف أصبحت من علّتك یا ابنة رسول الله؟». وكان باستطاعتها (علیها السلام) أن تجیب على سؤالهنّ عن حالها باختصار وتنهی الموضوع بكلّ بساطة، لكنّها اغتنمت الفرصة وأجابت عن سؤالهنّ عن أحوالها بخطبة: «فحمدت الله وصلّت على أبیها» كما هو متعارف فی الخطب الإسلامیّة، «ثمّ قالت: أَصْبَحْتُ وَاللهِ عَائِفَةً لِدُنْیَاكُنَّ، قَالِیَةً لِرِجَالِكُنَّ»؛ لقد أصبحت تاركة لدنیاكنّ متنفّرة ومتذمّرة منها أشدّ التنفّر والتذمّر، وساخطة أعظم السخط على رجالكنّ (حیث إنّ المسؤولیّة الرئیسیّة لما وقع كانت فی أعناق الرجال ولم تكن النسوة مسؤولات عن ذلك بشكل مباشر). «لَفَظْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَجَمْتُهُم» (وها هی (سلام الله علیها) تلجأ مرّة اُخرى إلى استخدام تعابیر غایة فی البلاغة یعجز اللسان عن إعطائها حقّها وبیان عمقها الأدبیّ). فالعرب إذا أرادوا اختبار سلامة التمرة قبل أكلها فإنّهم یعضّونها بأسنانهم لفحصها؛ ویقال لمن یفعل ذلك: إنّه «عَجَمَ» التمرة. فالزهراء (سلام الله علیها) تقول: لقد اختبرت رجالكنّ لأرى كیف هم، ففهمت من الاختبار الأوّل أنّهم فاسدون، فلَفَظْتهم من فمی؛ أی نبذتهم من فمی وطرحتهم. وإنّما یقال للفظ إنّه «لفظٌ» لأنّه عبارة عن هواء یخرج من الفم عن النطق. «وَسَئِمْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ سَبَرْتُهُم». فتارة لا ینظر المرء عند شراء الشیء إلاّ إلى ظاهره، لكنّه تارة اُخرى یقلّبه ویتفحّصه بدقّة كی یعلم جودته من عدمها فیقال: إنّه «سَبَرَه» وهو تفحّص أعماق الشیء. تقول فاطمة (علیها السلام): لقد سئمت رجالكنّ ومللتهم بعد أن اختبرتهم بتمعّن وتفحّص.
تنفرد كلّ لغة بتعابیر خاصّة لبیان تنفّر المرء وملله من شیء معیّن، ومنها اللغة العربیّة التی تتضمّن هی الاُخرى ألفاظاً بلیغة فی هذا الجانب وقد استخدمت فاطمة الزهراء (علیها السلام) للإفصاح عن نفرتها وسأمها من رجال تلك النسوة تعابیر قد استُخدم بعضها فی القرآن الكریم أیضاً؛ فالباری عزّ وجلّ یستعمل كلمة «بعداً» فی حقّ قوم عاد وثمود، عندما یقول: «أَلا بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ»2 «أَلا بُعْداً لِّثَمُودَ»3 وهی تعطی معنى اللعن؛ لأنّ الرجل إذا لُعِن فقد طُرد من رحمة الله تعالى، وهو نفس المعنى الذی تعطیه كلمة «بعداً». وقد تُستعمل للتعبیر عن هذا المعنى تعابیر اُخرى مشابهة لذلك الذی اختارته الزهراء (سلام الله علیها) هنا عندما قالت: «فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ» أی قبحاً للسیف إذا كَلّ ولم یَعُد یقطع بعد أن كان حادّاً قاطعاً؛ ومعناه: كم هو قبیح أن نرى السیف قد أصبح كلیلاً وغیر قاطع عندما نكون بحاجة إلیه للجهاد. وتابعت (علیها السلام): «وَاللَّعِبِ بَعْدَ الْجِدّ»؛ أی قبحاً للمزاح فی الأمر المهمّ والخطیر بعد اتّخاذ قرار جدّی؛ ومعناه: إنّكم قد اتّخذتم الإسلام، الذی هو عامل حیاتكم وسعادتكم فی الدنیا والآخرة والذی یتعیّن علیكم التعامل معه بكلّ جدّ وحزم – اتّخذتموه لهواً ولعباً. «وَقَرْعِ الصَّفَاةِ» فالذی یرغب بأن یُفتح له الباب علیه قرع مطرقته، وإنّ من الحماقة بمكان قرع صخرة صمّاء بدلاً من الباب. ترید الزهراء (سلام الله علیها) القول: إنّ الله قد جعل لكم باباً من الرحمة وإنه ینبغی لكم قرع تلك الباب كی تنهال علیكم رحمته. لكنّكم وبدلاً من قرع باب رحمة الله رحتم تقرعون صخرة صمّاء لا تنفعكم بشیء، وعوضاً عن طرق باب العلم، والرحمة، والسعادة، فإنّكم لجأتم إلى من هو أشبه بالصخرة فلا یُفتح لكم بابه مهما طرقتموه. «وَصَدْعِ الْقَنَاةِ» إنّ ذلك الرمح الذی شحذتموه فی الماضی وكان یجب أن تستخدموه الآن قد فقد قدرته وكفاءته. «وَخَتلِ الآرَاءِ وَزَلَلِ الأَهْوَاء» فلقد أخطأتم فی جمیع آرائكم وأمعنتم فی الانغماس فی أهوائكم؛ فعوضاً عن السیر فی إثر الحقّ سرتم خلف أهوائكم، وبدلاً من إبدائكم للرأی الصواب رحتم تبدون الآراء الفاسدة. فأیّ رجاء أرجوه فیكم بعد الیوم؟
ثمّ تقول مقتبسة كلامها من الآیة الثمانین من سورة المائدة: «وَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَیْهِمْ وَفِی الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ». وقد امتازت الآیات التی استشهدت بها الزهراء (علیها السلام) فی خطبتها بالشدّة واللهجة اللاذعة والقاسیة ممّا یحكی عن عمق فراستها (سلام الله علیها) واستشرافها لتبلور تیّار بدأت بوادره تظهر فی السقیفة لكنّه استمرّ فیما بعد. فاستشهادها (علیها السلام) بتلك الآیات یشیر إلى أنّ هذه الحركة حتّى إذا لم تكن كفراً بالفعل فإنّ طبیعتها توحی بأنّها ستنتهی إلى الكفر لا محالة. فقد أرادت (سلام الله علیها) أن تقول باقتباسها لهذه الآیة: «أیّ ذخیرة غیر مباركة ادّخرها رجالكنّ لأنفسهم! إنّها ستكون سبباً لسخط الله علیهم سخطاً یخلّدهم فی العذاب». ونحن نعلم أنّ الخلود فی العذاب إنّما یكون للكافر، وأنّ المؤمن مهما عُذّب فإنّ عذابه یكون مؤقّتاً. نفهم من ذلك أنّ مولاتنا (علیها السلام) أرادت باقتباسها لهذه الآیة أن تقول: «إنّ مرتكبی هذا العمل اُناس خارجون عن الدین، أو – على أقلّ تقدیر – قد سلكوا طریقاً ینتهی بهم إلى الكفر».
«لا جَرَمَ لَقَدْ قَلَّدْتُهُمْ رِبْقَتَهَا» نتیجة لما أبداه هؤلاء من تصرّف فإنّنی من جهتی قد وضعت حبل الخلافة حول رقبة هذا البعیر. «وَحَمَّلْتُهُمْ أَوْقَتَهَا» ووضعت حملها الثقیل على ظهور هؤلاء القوم، «وَشَنَنْتُ عَلَیْهِمْ غَارَاتِهَا» ونهضت لمقارعتهم، «فَجَدْعاً، وَعَقْراً، وَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِینَ»؛ وهنا أیضاً تستفید (سلام الله علیها) من تعابیر هی ممّا یُستخدم فی باب الدعاء على الشخص ولعنه، قد تكون بعضها غریبة على الأدب الفارسیّ. فمن عادة العرب أن یقولوا عندما یریدون الدعاء على أحد: «جدعاً»؛ أی جدع الله أنفك، و«عقراً» والعقر هو قطع إحدى قوائم البعیر بالسیف أو غیره لیسقط، «وبعداً»؛ أی سلّط الله على هؤلاء القوم الظَّلَمة البعیدین عن رحمة الله منتهى الخزی والمذلّة.
ثمّ قالت: «وَیْحَهُمْ! أَنَّى زَعْزَعُوهَا عَنْ رَوَاسِی الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ وَالدَّلالَةِ، وَمَهْبِطِ الرُّوحِ الأَمِینِ، وَالطَّبِینِ بِأُمُورِ الدُّنْیَا وَالدِّین»؛ الویل لهم! إذ زحزحوا حمل الخلافة عن مكانه وحرفوه عن مسیره وجعلوه فی موضع لا یُؤْمَن علیه فیه ولا یصلح لاستقراره. وفی هذا القول دلیل على أنّ غایة الزهراء (علیها السلام) من خطبتها السابقة كانت إثبات عدم أهلیّة المتصدّین للخلافة لها، فقد أرادت إفهام الناس أنّ هؤلاء لا یصلحون لخلافة رسول الله (صلّى الله علیه وآله) بتاتاً، وحتّى لو افترضنا جدلاً بأنّ للناس الحقّ فی انتخاب الإمام علیهم، فبئس الاختیار لهذا الذی اختاروه.
لقد شبّهت الزهراء البتول (علیها السلام) مقام الرسالة وشؤونها بالجبال الشُمّ حین قالت: «إن خلافة الرسول الأكرم (صلّى الله علیه وآله) منزلتها الجبال الشامخة للرسالة لكنّ القوم رموها فی قعر واد سحیق. فهذا المنصب لا یستحقّه إلاّ اُولئك العارفون بمصالح الرعیّة فی دینهم ودنیاهم حقّ المعرفة.«أَلا ذٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِینُ»4 وهذا خسران بیّن واضح؛ فقد اختار الله عزّ وجلّ لتلك النعمة العظیمة موضعاً مناسباً ورفیعاً كی تنهلوا أنتم من معینها إلى أبد الآبدین وتعمروا بها لیس دنیاكم فحسب بل وآخرتكم أیضاً، لكنّكم قد فرّطتم بهذا الفعل بدنیاكم وآخرتكم معاً. فهل من خسران أكبر من هذا الخسران؟
وسنكمل ما تبقّى من الخبطة فی المحاضرات القادمة إن شاء الله تعالى.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. سورة التوبة، الآیة 128.
2. سورة هود، الآیة 60.
3. سورة هود، الآیة 68.
4. سورة الزمر، الآیة 15.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 1 حزیران 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
تلوت على مسامعكم فی المحاضرة الفائتة جانباً من خطبة الزهراء (سلام الله علیها) التی ألقتها فی جمع نساء المهاجرین والأنصار وقدّمت لما قرأته شرحاً موجزاً بمقدار ما أسعفنی التوفیق لذلك. وقد بلغنا منها تلك العبارة التی تقول (علیها السلام) فیها: «وَمَا الَّذِی نَقَمُوا مِنْ أَبِی الْحَسَنِ (علیه السلام)؟ نَقَمُوا وَاللهِ مِنْهُ نَكِیرَ سَیْفِهِ، وَقِلَّةَ مُبَالاتِهِ لِحَتْفِهِ، وَشِدَّةَ وَطْأَتِهِ، وَنَكَالَ وَقْعَتِهِ، وَتَنَمُّرَهُ فِی ذَاتِ اللهِ ...».
بعد أن أتمّت فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) فی الأیّام الأخیرة من عمرها الحُجّة على الناس وعلى المتصدّین للخلافة من دون الوصول معهم إلى نتیجة أرادت فی هذا المجلس أن تبیّن علّة تخلّی الناس عن أمیر المؤمنین (علیه السلام). ومن أجل فهم العلّة من وراء ترك الناس لأمیر المؤمنین (سلام الله علیه) ومبایعة غیره علینا بادئ ذی بدء تقدیم هذه المقدّمة وهی: ما الذی تتوقّعه الرعیّة من الحاكم؟ ومن هو الحاكم المثالیّ؟
القسم الأوّل من الامور التی تطلبها الرعیّة من الحكومة هی اُمور عامّة یتوقّعها كلّ شعب - مهما كانت اتّجاهاته الفكریّة والعقائدیّة - من زعیمه، ومنها تنفیذ القانون الذی أقرّه الشعب بشكل صحیح، والذی من لوازمه معاقبة الخارجین عن هذا القانون. فأفراد المجتمع ینتظرون من الحاكم محاكمة ومعاقبة مَن یتمرّد عمداً على القانون ویتجاوز على حقوق الآخرین. كما وإنّ من مطالبات الشعب العامّة من حاكمه هو أن یكون الأخیر رؤوفاً بعامّة الرعیّة وطالباً لخیرهم فی الظاهر والباطن. ومنها أیضاً أن لا یفكّر الحاكم بنفسه وأن یفكّر جدّیاً بتأمین مصالح المجتمع وخدمة الرعیّة، لا أن یسعى لكنز الثروة وجمع الامتیازات لنفسه.
هذا النمط من المطالبات یطالب به كلّ شعب من حكومته، ویكون الحاكم مثالیّاً بالنسبة لكافّة المجتمعات البشریّة إذا توفّرت فیه هذه الخصوصیّات. أمّا المجتمع الإسلامیّ فإنّه - مضافاً إلى ما سبق - ینتظر من حاكمه صیانة القیم الإسلامیّة وإشاعتها على صعید المجتمع؛ أی أن یجعل الرعیّة تسیر على صراط التوحید القویم ویجتهد فی أن لا یُبتلى أفراد الاُمّة بضروب البدع والآفات الفكریّة والانحرافات العقائدیّة. فإذا انتهج الحاكم - فی مقام العمل - سبیل التسامح واللامبالاة ولم یتعاط مع هذه القضایا بجدّیة كبیرة فسینقسم الناس حیال ذلك إلى طائفتین عادةً؛ فالظلمة والمتجاوزون على حقوق العباد والذین یسیؤون التصرّف ببیت المال سیستبشرون ویرضون عن الحاكم إذا أمنوا من جانبه العقاب ولاحظوا منه انعدام الحزم فی التعامل مع تجاوزاتهم. أمّا سائر الناس فإنّهم عندما یشاهدون الحیف الذی ینزل بهم والحقوق التی تضیع منهم فسیستاءون ولا یرضون عن هذا الحاكم. فحینما تؤمَّن مصالح المتنفّذین وأصحاب الثروات ورؤوس الأموال فإنّهم سیحاولون بشتّى الحیل والوسائل إقناع الآخرین وإلهاءهم عن مزاحمتهم وخلق المشاكل لهم؛ وهی أسالیب تشاهَد فی كلّ بلد من بلدان العالم، وقد لا یتسنّى العثور فی هذه الدنیا على بلد لا تُستخدم فیه تلك الحیل والأسالیب الشیطانیّة؛ ذلك أنّه لا یخلو بلد من وجود فئة من الخواصّ والنُّخب یلتفّون حول حاكمه الذی یكون بحاجة إلى آرائهم، ومساعداتهم المالیّة، وما یتمتّعون به من نفوذ وسلطة. ولهذا تكون أیادیهم مطلقة فی التصرّف ببیت المال كیفما شاءوا، ولكی لا تثور الشعوب علیهم فإنّهم یحاولون إلهاءها بكلّ الوسائل المتاحة. وهذا الوضع أضحى عادیّاً وطبیعیّاً فی العدید من الحكومات والبلدان. أمّا الدین الإسلامیّ فهو لا یرضى بذلك.
لقد أعطى علیّ (علیه السلام) المثل الأعلى للحاكم الإسلامیّ، ولولا حكومته لما توفّر الآن فی أیدینا اُنموذج للحكم الإسلامیّ الحقیقیّ.
عندما وجّه الصحفیّون الأجانب فی فرنسا للإمام الخمینیّ الراحل (قدّس سرّه) سؤالاً عن نمط الحكومة التی یعتزم تشكیلها إذا انتصر فی مقارعته لشاه إیران ونجح فی إسقاطه، أجاب سماحته: «سأشكّل حكومة مشابهة لحكومة علیّ (علیه السلام)». فالعدوّ والصدیق فی جمیع أقطار العالم وأكنافه یعلم عن عدل علیّ (سلام الله علیه)، فلقد كانت حكومته اُنموذجاً یُحتذى على طول تاریخ البشریّة. فالحاكم العادل الحقیقیّ - حسب الرؤیة الإسلامیّة - هو الرجل الذی یكون حازماً فی تعامله مع المتعدّین، ولا یتّخذ مع الظلمة جانب اللین والمداهنة والتسامح، ولا یمیل فی حكمه إلى قومه وعشیرته وحزبه، ...الخ، بل یقیم الحقّ أینما كان. هذا هو نموذج الحكم الإسلامیّ المثالیّ.
لقد عرف الناس علیّاً (علیه السلام) حقّ المعرفة؛ فلقد شاهدوا عدم مفارقته لرسول الله (صلّى الله علیه وآله) طرفة عین طیلة ثلاث وعشرین سنة من عمر الرسالة وخبروا سلوكه وتصرّفاته عن كثب. فلقد علم الجمیع أنّ علیّاً لا یلین أمام الحقّ وفی مقابل الحكم الإلهیّ، وأنّ القریب والغریب عنده سواء عند إقامة الحقّ. إذن فالناس قد عرفوا علیّاً (سلام الله علیه) بهذه الصفات وعلموا أنّه لیس ممّن یسعهم خداعه أو استغلاله لأغراضهم.
تقول الزهراء (سلام الله علیها) فی هذا المقطع: «إنّ العلّة من وراء عدم تأیید عامّة الناس لعلیّ (علیه السلام) هو سجایاه الحسنة، وإلاّ فلیس بوسع المرء العثور على أیّ عیب فیه». فأیّ امرئ كان یعرف الإسلام أكثر من علیّ (علیه السلام)؟ ومَن من الناس كان یفوق علیّاً (علیه السلام) عطفاً وشفقة على الضعفاء والأیتام والفقراء والأرامل؟ فالجمیع كانوا یعلمون أنّ علیّاً (سلام الله علیه) لم یكن یتحمّل دمعة یتیم. لقد شاهدوا باُمّ أعینهم كیف أنّه (علیه السلام) كان یحفر الجداول ویزرع بساتین النخیل ثمّ یوقفها للفقراء من دون أن ینتفع هو منها، بل كان یبیت هو وأطفاله وعیاله جیاعاً بعد أن یدفعوا ما عندهم من قلیل الطعام إلى سائل. فقد یقول قائل: إنّ هذه لصفات حسنة للغایة وإنّ أیّ اُمّة ستحبّ زعیمها إذا اتّصف بهذه السجایا. إذن فلماذا أقصوا علیّاً (علیه السلام) عن مسند الخلافة؟
أجل فالناس كانوا قد عرفوا علیّاً (سلام الله علیه) حقّ المعرفة، غیر أنّ خواصّ القوم كانوا یطلبون منه أن یحسب لهم حساباً خاصّاً یختلف عن عامّة الرعیّة، لكنّ علیّاً لم یكن من هذا الصنف من الرجال. فعلیّ (علیه السلام) كان من ذلك النمط الذی عندما جاءه أخوه الفقیر یطلب منه زیادة سهمه من بیت المال قرّب من یده حدیدة مُحماة تذكیراً له بعذاب الله الألیم. إذن فلقد أحسّ القوم من علیّ (علیه السلام) أنّه لیس من الصنف الذی یسعهم التفاهم معه. فكانوا على استعداد لأن یتغاضوا عن كلّ حسنات علیّ (علیه السلام) وسجایاه الحمیدة ویضعوا أیدیهم بید من یحسب لهم حساباً خاصّاً.
تقول فاطمة (سلام الله علیها): «وما الذی نَقَموا من أبی الحسن (علیه السلام)»؛ ما هو العیب الذی كان فی علیّ (علیه السلام) كی ینفضّوا من حوله؟! ومن باب الاحترام فقد كانت (علیها السلام) تذكر أمیر المؤمنین بكنیته. «نقموا والله منه نكیر سیفه، وقلّة مبالاته لحتفه»؛ فإنّ العیب الذی أخذوه على علیّ (علیه السلام) هو أنّ أحداً لم یكن یصمد أمام سیفه فی ساحة الوغى. فلقد شاهدوا كیف أنّه (علیه السلام) لا یخاف الخطر أو القتل عندما تحین ساعة النِزال. «وشدّة وطأته»؛ فقد كان یخطو بثبات وعزم، لا بتسامح ومداهنة. «ونكال وقعته»؛ فإن أنزل العقاب بأحد فإنّ ضربته تكون شدیدة تلقّن درساً قاسیاً. «وتنمّره فی ذات الله»؛ وهذا تعبیر بلیغ وظریف للغایة وهو مشتقّ من «النمر»؛ فالعرب تعتقد بأنّ النمر یمتاز من بین السباع بصفة خاصّة وهی أنّه یكون دائم الغضب ومتأهّباً للنزال على الدوام. ومن هنا فإنّهم یطلقون صفة التنمّر على الرجل إذا كان دائم التأهّب للقتال ولا یُؤخَذ على حین غِرَّة. وعبارة «تنمّره فی ذات الله» تعنی أنّه عندما یتعلّق الأمر بالله عزّ وجلّ یكون علیّ (سلام الله علیه) على أتمّ الاستعداد ویتعاطى مع التكالیف الإلهیّة بحزم كامل لا یلین. وهذا هو العیب الذی أخذه الناس على علیّ (علیه السلام) إذ ما كان لهم أن یطیقوا ذلك منه. فلقد حدث أن كان أمیر المؤمنین (سلام الله علیه) مرّة على رأس سریّة فی مهمّة خاصّة فلمّا رجعوا جاء بعضهم إلى رسول الله (صلّى الله علیه وآله) وشكوا إلیه حزم علیّ (علیه السلام) وشدّته، فكان جواب النبیّ (صلّى الله علیه وآله) لهم أن قال: «ارفعوا ألسنتَكم من شكایة علیّ فإنّه خَشِن فی ذات الله»1؛ فعندما یتّصل الأمر بالله جلّ شأنه وبحكمه فإنّه لا یُبدی (علیه السلام) من جانبه أیّ تهاون أو لین، وإذا تعلّق الموضوع بحقوق الرعیّة فلا یغضّ الطرف عن شیء قید أنملة، بینما إذا ارتبطت المسألة بحقّه الشخصیّ فإنّك تراه یتغاضّى عن كلّ شیء.
«وَتَاللهِ لَوْ مَالُوا عَنِ الْمَحَجَّةِ اللاّئِحَةِ وَزَالُوا عَنْ قَبُولِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ لَرَدَّهُمْ إِلَیْهَا وَحَمَلَهُمْ عَلَیْهَا»؛ فوالله لو انحرفت الاُمّة وزاغ الناس عن السبیل القویم لأرجعهم علیّ (علیه السلام) إلى جادّة الحقّ ولم یذرهم ینحرفون عنها. فالانحراف فی الرأی أو النهج - سواء أكان عن سهو أو عن عمد - قد یصیب أیّ مجتمع وإنّها لفضیلة عظیمة تُسجَّل للحاكم إذا تمكّن من ردع المجتمع عن الزیغ عن سبیل الحقّ. «وَلَسَارَ بِهِمْ سَیْراً سُجُحاً»؛ و«السیر السُّجُح» هو حركة البعیر بهدوء بالغ بحیث لا یؤذی راكبه. فالإبل فی ذلك الزمان كانت المركب المناسب الذی یستخدمه العرب فی أسفارهم البعیدة. وعندما تنطلق القافلة فإنّ سائق الإبل هو الذی كان یتولّى تنظیم حركتها والحرص على عدم إیذائها لراكبیها، فیحثّها على الإسراع فی السیر إذا لزم الأمر الإسراع ویحدّ من سرعتها إذا كان الإبطاء ضروریّاً. تقول الزهراء (سلام الله علیها) فی هذه الجملة: «لو أنّ علیّاً (علیه السلام) هو الذی أخذ بزمام الحكومة لساق قافلة إبل الاُمّة بحیث لا تتخلّف الرعیّة عن القافلة من ناحیة، ولا یصابون بتعب السفر أو نصبه من ناحیة اُخرى، وسیبلغون مقصدهم بكلّ یسر من ناحیة ثالثة. «لا یَكْلُمُ حِشَاشُهُ»؛ فقد جرت العادة عند القدماء أن یجعلوا رباطاً فی أنف البعیر للسیطرة على حركته، فالراكب یوجّه البعیر إلى الوجهة التی یشاء من خلال تحریك هذا الرباط. لكنّ البعض كانوا یسحبون الرباط بشدّة إذا أرادوا توجیه البعیر فیجرحون بذلك أنفه، أو یركلون بأرجلهم فخذی البعیر وجنبیه بعنف فیصاب فخذه بالكدمات والجروح لاسیّما فی الأسفار الطویلة التی تستمرّ أیّاماً ویتواصل معها ركل جنبی البعیر. قصد مولاتنا الزهراء (علیها السلام) من هذا التشبیه أنّه: لو أنّهم تركوا أزمّة إبل الخلافة لعلیّ (سلام الله علیه) لساقها إلى المقصد بكلّ هدوء وسلاسة من دون أن یتسبّب فی إیذائها إو إیذاء راكبیها: «وَلا یَكِلُّ سَائِرُهُ، وَلا یُمَلُّ رَاكِبُه»؛ فلا الإبل تتخلّف عن القافلة، ولا راكبها یصیبه الإعیاء والضجر. «وَلأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلاً نَمِیراً صَافِیاً رَوِیّاً تَطْفَحُ ضَفَّتَاهُ، وَلا یَتَرَنَّقُ جَانِبَاهُ، وَلأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً». فمصادر میاه الشرب كانت تحوز أهمّیة بالغة عند العرب فی ذلك الزمن. فقد كان سكّان البادیة یعیشون فی صحراء قاحلة وكان بالقرب من مقرّ كلّ قبیلة ینبوع ماء أو واحة تتجمّع فیها میاه الأمطار یستخدمها أفراد تلك القبیلة كمصدر للمیاه. تقول فاطمة البتول (علیها السلام): «لو أنّ علیّاً تسلّم زمام الحكومة لسار بالناس بكلّ هدوء وطمأنینة ولأوصلهم فی الموعد المناسب إلى ینبوع ماء لیس ماؤه بالملوّث بل هو صاف زلال على الدوام یتدفّق ویفور ویطفح من ضفّتیه فیشرب منه أفراد القافلة حتّى یرتووا. فإنّ علیّاً (علیه السلام) إذا قاد الاُمّة وتزعّمها فانّه لا یبقى فی الاُمّة ضمآن».
«وَنَصَحَ لَهُمْ سِرّاً وَإِعْلاناً». سبق أن قلنا إنّ الزعیم المثالیّ هو ذلك الذی یكون رؤوفاً بالرعیّة بكلّ ما فی الكلمة من معنى ولا یشغله شاغل غیر خدمتهم فی السرّ والعلانیة؛ وعلیّ (سلام الله علیه) كان كذلك. «وَلَمْ یَكُنْ یَتَحَلَّى مِنَ الْدُّنْیَا بِطَائِلٍ»؛ فمن صفات الحاكم المثالیّ الاُخرى هی عدم تفكیره بنفسه أو ادّخار شیء له. فعلیّ (علیه السلام) كما تقول سیّدتنا الزهراء (سلام الله علیها) لم یكن یقتنی شیئاً من فَضْل الدنیا وزینتها. «وَلا یَحْظَى مِنْهَا بِنَائِلٍ غَیْرَ رَیِّ النَّاهِلِ وَشُبْعَةِ الْكَافِلِ»؛ ولم یكن یمدّ یده إلى بیت المال إلا بمقدار جرعة ماء یروی بها ضمأه وقلیل من الطعام یسدّ به رمقه. «وَلَبَانَ لَهُمُ الزَّاهِدُ مِنَ الرَّاغِبِ، وَالصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ» وعندها سیمتاز الزاهد الحقیقیّ عن طالب الدنیا ویتبیّن الذی یدّعی الحقّ من صاحب المزاعم الجوفاء الكاذبة. ثمّ تستشهد (سلام الله علیها) بقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَیْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ یَكْسِبُونَ»2؛ فالسنّة الإلهیّة تقضی بأنّه إذا أصبح أهل البلدان (المجتمعات البشریّة) من أهل التقوى والإیمان (أی اعتقدوا بالمعتقدات الصائبة وتقیّدوا بالقیم) فسیُنزل علیهم الله فی هذه الدنیا بركات من السماء والأرض. لكنّهم – مع الأسف – قد كذّبوا عوضاً عن الإیمان. ولهذا فإنّنا سنعاقبهم بما اجترحوا من السیّئات. یقول الباری عزّ وجلّ هنا: «إذا أصبح المجتمع من أهل التقوى» أی هذا الحكم وهذه السنّة ترتبط بالمجتمع لا بالفرد. فقد یكون فی المجتمع بعض الصالحین، لكنّه إذا فسد المجتمع فإنّ الله سیُنزل العقاب بكلّ المجتمع.
«وَالَّذِینَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـٰؤُلاءِ سَیُصِیبُهُمْ سَیِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُم بِمُعْجِزِینَ»3. كم هو جمیل هذا الربط! فالزهراء (سلام الله علیها) تستشهد بالآیة السابقة كقاعدة كلّیة وتجعلها كُبرى القیاس ثمّ تشیر بعدها مستخدمة اسم الإشارة «هؤلاء» إلى مجتمع عصرها. بمعنى: حتّى هؤلاء القوم فإنّهم إذا ظلموا فستحیق بهم عواقب أعمالهم ولن یستطیعوا أن یُعجِزوا الله كی یكفّ عن تطبیق سننه. الإشارة إلى هذه الآیة یحمل عبرة عمیقة وضرباً من التنبّؤ بالمستقبل؛ ومعناها: استناداً إلى هذه الآیة الشریفة فإنّ العذاب الإلهیّ سیحیق بأفراد هذا المجتمع لا محالة بسبب تخلّفهم عن حكم الله تعالى، وإهمالهم له، ونقضهم لبیعتهم.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1. إعلام الورى بأعلام الهدى، ص131.
2. سورة الأعراف، الآیة 96.
3. سورة الزمر، الآیة 51.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 8 حزیران 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
تطرّقنا فی المحاضرات الأخیرة إلى الخطبة التی ألقتها فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) على نساء المهاجرین والأنصار اللواتی جئن لعیادتها. ویمكننا فی الواقع أن نقسّم هذه الخطبة إلى ثلاثة أقسام. ففی القسم الأوّل توبّخ (علیها السلام) المهاجرین والأنصار على تركهم لعلیّ (علیه السلام) وحرمان أنفسهم من سعادة الدارین. وفی القسم الثانی تقارن الزهراء (سلام الله علیها) بین علیّ (علیه السلام) ومَن اختاره الناس خلیفة علیهم فتقول: «أهل البیت (علیهم السلام) هم قادة المجتمع البشریّ وهداته، أمّا هؤلاء فهم التابعون المتخلّفون عن الركب. فكیف تتركون القادة الهداة وتتمسّكون بالتابعین»؟! أمّا فی القسم الثالث فإنّها (علیها السلام) تتنبّأ بما سیكون علیه مصیر هذه الاُمّة.
بلغنا فی المحاضرة الماضیة إلى حیث تقول الزهراء (سلام الله علیها): «أَلا هَلُمَّ فَاسْمَعْ» وهی عبارة تُستعمل عند إظهار التعجّب من أمرٍ مّا «وَمَا عِشْتَ أَرَاكَ الدَّهْرُ عَجَبَا» وهو مثل عربیّ معناه: كلّما امتدّ عمرك أراك الدهر فی كلّ یوم جدید شیئاً عجیباً. وشبیه بذلك ما یقال بالفارسیّة: لو لم یرَ المرء فی كلّ یوم أمراً عجیباً أصابه العمى. «وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ» وهذه العبارة مقتبسة من الآیة الخامسة من سورة الرعد. «لَیْتَ شِعْرِی إِلَى أَیِّ سِنَادٍ اسْتَنَدُوا» وهنا توجّه كلامها إلى نساء المهاجرین والأنصار قائلة: بأنّ رجالكم قد أساءوا الاختیار وأخطأوا السبیل. والأمر العجیب الذی تشیر إلیه الزهراء (علیها السلام) بشكل إجمالیّ: ما هو الدلیل والمعیار الذی استند إلیه المهاجرون والأنصار فی سلوكهم لهذه الطریق؟! هل كان المال هو السبب؟ فنحن نعلم أنّ أحداً لم یدفع لهم درهماً ولا دیناراً. هل كان الذین انتخبوهم ذوی شخصیّات مرموقة وشهرة كبیرة بحیث إنّ الجمیع یعرفهم ویحبّهم؟! فإنّنا نعلم أنّهم لم یكونوا من هذا القبیل من الناس. هل كان المنتخَبون من أهل العبادة والتقوى الفائقة ممّا جعلهم محبوبین عند العامّة حتّى سارعوا إلى اختیارهم؟ كلاّ، فإنّهم لم یُعرَفوا بهذا القدر من العبادة والتقوى. هل كان المختارون فی السقیفة من الشجعان الأشاوس الذین تشهد لهم سوح الوغى بمختلف صور البسالة ویشار إلیهم بالبنان لبطولاتهم؟ كلاّ، فلم یكن هذا الامتیاز من نصیبهم أیضاً. یاللعجب! إذن ما السبب الذی دفع الناس بعد انقضاء بضع ساعات فقط على رحیل الرسول الكریم (صلّى الله علیه وآله) إلى اختیار هؤلاء؟!
یُنقل عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) أنّ تبریر القوم لفعلتهم هو أنّ خلافاً قد وقع بین المهاجرین والأنصار، ولـمّا كنّا نحن المهاجرین من قرابة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وأهل بلده فقد جعلوا الخلافة فینا! لكنّه إذا كانت علّة الاختیار هی القرابة من رسول الله (صلّى الله علیه وآله) فإنّنی علاوة على كونی من أبناء بلده فإنّنی ابن عمّه وزوج ابنته ومن عترته، فلِمَ لم یقع الاختیار علَیّ؟! فإن كان المناط فی الانتخاب هی القرابة للنبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) فمَن هو أقرب إلیه منّی یا ترى؟! «إذا احتجّ علیهم المهاجرون بالقرب من رسول الله (صلّى الله علیه وآله) كانت الحجّة لنا على المهاجرین بذلك»1، «أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم علیهم بالقرابة من رسول الله فأعطوكم المقادة وسلّموا إلیكم الإمارة وأنا أحتجّ علیكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار»2.
تقول مولاتنا الزهراء (سلام الله علیها): لیتنی علمت ما هو السند الذی استندوا إلیه فی هذا الأمر. «وَإِلَى أَیِّ عِمَادٍ اعْتَمَدُوا وَبِأَیَّةِ عُرْوَةٍ تَمَسَّكُوا»؛ فإنّ الإنسان إذا شعر بقرب سقوطه من مكان مرتفع سارع للتشبّث بموضعٍ مّا والتمسّك بعروة وُثقى تنجیه من السقوط، لكنّ هؤلاء القوم الذین تمسّك الناس بهم لا یشكّلون عروة محكمة وُثقى. «وَعَلَى أَیَّةِ ذُرِّیَّةٍ أَقْدَمُوا وَاحْتَنَكُوا» وما هو المعیار الذی جعلهم یتّبعون هؤلاء القوم؟ وما الدلیل الذی دفعهم إلى إعطاء ظهورهم لذرّیة النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وعترته وسیطروا علیهم؟! ثمّ تستشهد (سلام الله علیها) بآی من الذكر الحكیم فتقول: ««لَبِئْسَ الْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِیرُ»3 «وَبِئْسَ لِلظَّالِمِینَ بَدَلاً»4 أی بئس البدل الذی اتّخذه الظالمون. «اسْتَبْدَلُوا وَاللهِ الذَّنَابَى بِالْقَوَادِمِ وَالْعَجُزَ بِالْكَاهِل» فعوضاً عن وقوع اختیارهم على مَن له قصب السبق فی الإسلام فی التقوى والشجاعة والبسالة وفی جمیع الفضائل الاخرى فقد اختاروا مَن تخلّف عن أمثال هذه الاُمور ولم یمتز بأیّ فضیلة أو كمال، وبدلاً من أخذهم بالرأس فقد أخذوا بالذنَب.
«فَرَغْماً لِمَعَاطِسِ قَوْمٍ یَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعاً»5 «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا یَشْعُرُون»6؛ والمعاطس جمع «معطس» وهو موضع العطاس؛ وهو ما یقال للأنف إذا اُرید التعبیر عنه بأدب. وقد جرت عادة العرب أن یقولوا لمن یریدون إذلاله وتحقیره بشدّة أو الإخبار عن هلاكه: «رغم أنفه»؛ أی: مُرِّغ أنفه فی التراب. إذن فمعنى قولها (علیها السلام) هو: «فلتمرَّغ فی التراب اُنوف من یحسبون أنّهم قد أحسنوا صنعاً فی حین أنّهم من المفسدین غیر أنّهم لا یدركون ذلك». «وَیْحَهُمْ «أَفَمَنْ یَهْدِی إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لا یَهِدِّی إِلاّ أَنْ یُهْدَىٰ فَمَالَكُمْ كَیْفَ تَحْكُمُونَ»7، تعود (علیها السلام) هنا للتمسّك بالقرآن فتقول متسائلة: «هل یجب اتّباع الشخص الذی یدلّ على طریق الحقّ ویهدی إلیه أم إنّه ینبغی السیر وراء من لا یعرف الطریق وهو نفسه یحتاج إلى دلیل وهادٍ؟! فمَن هو الأولى بالاتّباع منهما؟
ثمّ تطرح البتول (سلام الله علیها) بعد ذلك أمراً عبر اُسلوب یشوبه الاستهزاء والسخریة، وهو فنّ من فنون البلاغة التی استخدمها القرآن الكریم أیضاً. فلقد جاء فی الآیة التاسعة والأربعین من سورة الدخان أن أهل النار إذا أصابهم الظمأ وطلبوا الماء ناولهم زبانیة جهنّم ماء حمیماً یحرق أحشاءهم قائلین لهم: «ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِیزُ الْكَرِیمُ»؛ إشرب! فإنّك على جانب من العزّة والاحترام عندنا ممّا یجعلنا نقدّم لك هذا الماء المغلیّ. فإذا قُدِّم للمرء ماء مغلیّ یحرق أحشاءه ثمّ قیل له: «هنیئاً مریئاً! أیّ شراب لذیذ هذا! نحن نقدّم لك هذا الشراب احتراماً لك!» فإنّ لهذه الكلمات وقعاً على نفسه هو أشدّ إیلاماً وإحراقاً من الماء المغلیّ نفسه. فلیس هناك صنف من أصناف العذاب بما فی ذلك العذاب النفسیّ إلاّ وهو موجود فی نار جهنّم.
فالاُسلوب الساخر الذی تستخدمه الزهراء (سلام الله علیها) فی هذه الخطبة یتّخذ هذه الحالة. فهی (علیها السلام) تقول: «أَمَا لَعَمْرِی لَقَدْ لَقِحَتْ فَنَظِرَةٌ رَیْثَمَا تُنتجُ ثُمَّ احْتَلبُوا مِلْءَ الْقَعْبِ دَماً عَبِیطاً وَذُعَافاً مُبِیداً»؛ هل أنتم فرحون جدّاً بأن استولیتم على ناقة الخلافة وامتطیتموها وأطلقتهم لها العنان مسرعین؟! فقرّوا عیناً بها! لكنّه قسماً بالله إنّه لن یمضی وقت طویل حتّى تضع هذه الناقة الحبلى حملها، وحینئذ لن تحصلوا منها على لبن طازج فیه شفاء لكم كما تظنّون، بل ستحلبون من ضرعها وعاء طافحاً بدم عبیط، وسمّ زعاف یكون فیه هلاككم. «هُنَالِكَ یَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ»8 وحینئذ سیخسر السالكون لسبیل الباطل. «وَیعرفُ التَّالُونَ غِبَّ مَا أسّسَ الأَوَّلُون» وسیعرف التالون لكم ما أسّستم لهم من سوء العاقبة. «وَأَبْشِرُوا بِسَیْفٍ صَارِم» فإنّی اُبشّركم أنّه لن تكون عاقبة أمركم إلاّ سیفاً قاطعاً لا یرحمكم؛ ولعلّها (علیها السلام) تشیر بهذه العبارة إلى دولة بنی اُمیّة وأمثال الحجّاج الثقفیّ. «فَیَاحَسْرَتَى لَكُمْ وَأَنَّى بِكُم» فإلى أین تُؤخَذون وبأیّ عاقبة ستُبتلون؟! «وَقَدْ عَمِیَتْ عَلَیْكُم» فإنّ ما یخبّئه المستقبل لكم خفیّ مُبهم (لكنّنی أرى بوضوح ما ستؤول إلیه اُموركم وبأیّ ورطة ستقعون). «أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ»9؛ فهل لی أن أجبركم على ما تكرهون؟ (فأنّى لی أن اُكرهكم على السیر فی الطریق التی رسمها لكم الله ورسوله)؟
كما قد أسلفتُ فإنّه یمكن تقسیم كلام الزهراء (سلام الله علیها) هذا إلى ثلاثة أقسام: فهی (علیها السلام) توبّخ المهاجرین والأنصار فی القسم الأوّل لتركهم علیّاً (علیه السلام). ثمّ تقدّم لعملهم هذا توضیحاً بقولها: «لقد تركتم علیّاً (علیه السلام) خوفاً من حزمه فی الحكم وأحببتم أن یتصدّى للخلافة من یمكنكم التفاوض معه وتقسیم المصالح بینكم وبینه. فقد فتّشتم عمّن یتّصف باللین ولا یكون صارماً. وخلاصة القول فإنّ مشكلة علیّ (علیه السلام) هی صرامته فی الأمر. وهذا من أعظم الدروس التی یمكننا استلهامها من هذه الواقعة التاریخیّة ومن خطبة الزهراء (سلام الله علیها) وتطبیقها على حیاتنا الاجتماعیّة. فإنّنا إذ نفتخر من بین ملیار ونصف ملیار مسلم فی العالم بأنّنا من أتباع أهل البیت (علیهم السلام) علینا أن نبذل جهدنا للتشبّه بهم. علینا أن نعلم أنّ علیّاً (علیه السلام) لم یكن نهجه الركون إلى كلّ من یؤمّن له مصالحه على أحسن وجه ومداهنته والوصول إلى صیغة تفاهم معه. فلو تقصّیتم هذا المبدأ تاریخیّاً لوجدتّم أنّ كافّة الانحرافات التی ابتلی بها المسلمون فی حیاتهم السیاسیّة الاجتماعیّة على مرّ التاریخ كانت بدایتها قصّة من هذا القبیل؛ وهی أنّ أشخاصاً لم یقنعوا بحقوقهم وكانت تحدوهم نیّات الخروج - ولو بعض الشیء - عن الاُطر التی رسمها لهم الدین الإسلامیّ الحنیف، وهو ما شكّل انطلاقة للفساد، والزیغ، وإراقة الدماء، والعداوات، وقتل المسلم لأخیه وغیرها من المفاسد. وفی المقابل فإنّه حیثما وُجد مَن دأبُه العمل ضمن الاُطر الإسلامیّة واجتناب اتّباع الهوى فإنّه یصیب خیر الدنیا والفخر والشرف فیها، وینال الخیر فی الآخرة أیضاً.
فلو كان بالإمكان السفر - لفترة قصیرة - إلى مائة عام فی المستقبل ثمّ العودة ثانیة إلى عصرنا الحالیّ ودراسته وتحلیله كقضیّة تاریخیّة لانكشفت لنا قضایا زماننا بالكامل. إذن لم یحن الوقت بعدُ لتحلیل ما نعیشه من قضایا معاصرة. لكنّه عندما تنتهی القضیّة وتضع الحرب أوزارها یكون بمقدورنا الجلوس لاستعراض أحداثها وأن نسأل أنفسنا: ما الذی صنعناه؟ وما الذی صنعه الآخرون؟ وماذا كانت النتیجة؟
أنا شخصیّاً أعتقد أنّ الكثیر ممّن جاءوا إلى كربلاء یوم الطفّ وشاركوا فی قتل سیّد الشهداء (علیه السلام) لم یكونوا حینها یدركون جیّداً أبعاد الجریمة البشعة التی ارتكبوها. فبعض هؤلاء كانوا من قادة جیش علیّ (علیه السلام) فی حرب صفّین، ومن اُولئك الذین حضروا لسنوات طویلة مجالس علیّ (سلام الله علیه) وجلسوا تحت منبره واستمعوا لكلامه. فعمر بن سعد كان قبل أیّام قلیلة من واقعة عاشوراء متردّداً فیما یصنع؟ فعندما عُرض علیه مُلك الریّ بات لیلته یذرع المكان جیئة وذهاباً متردّداً بین قبول هذا المنصب أو التورّط بعذاب الله عزّ وجلّ؛ أی إنّه كان یعلم بأبعاد القضیّة، لكنّ الكثیرین لم یكونوا یدرون ما یصنعون. وكذا الحال مع الذین اجتمعوا فی السقیفة فإنّهم لم یكونوا یفهمون جسامة وخطر ما یرتكبون وأیّ عواقب سوء تنتظر فعلتهم هذه وأیّ مسؤولیّة ستُثقل كاهلهم نتیجة ذلك. تقول سیّدتنا فاطمة (علیها السلام): إنّكم الآن لا تدركون خطورة ما تفعلون؛ لكنّنی اُخبركم بأنّ هذه الناقة حُبلى وستفهمون عن قریب أیّ خطأ جسیم قد اقترفتم.
إذن الدرس الذی ینبغی لنا استلهامه من هذه الواقعة هو أنّه عندما یتعلّق الأمر بالمسائل الاجتماعیّة ومصالح اُمّة من الاُمم فلا ینبغی المرور من أمامها مرور الكرام بل لابدّ من وزن الاُمور وتحلیلها بدقّة، وإلاّ فلن یكون لنا أیّ شبه بعلیّ وبآل علیّ (علیهم السلام). ویتحتّم علینا – فی المسائل السیاسیّة الاجتماعیّة على أقلّ تقدیر – أن نتأمّل جیّداً فی عواقب الاُمور ولا نفكّر بنتائجها العابرة وآثارها التافهة فقط. ویتعیّن علینا أن نفكّر - ما وَسِعَنا التفكیر – بما سیحدث فی الیوم التالی، أو فی السنة القادمة، أو – إذا كنّا من أصحاب الهمم العالیة – فی القرن التالی. علینا أن نقوّی هذه الروح فی أنفسنا وأن ندع التهاون والتسامح فی أمثال هذه القضایا جانباً. لابدّ من التأكّد من أنّ الأمر الذی نهمّ بإنجازه یندرج فی إطار تأدیة التكلیف الشرعیّ لتكون لدینا أمام الله تعالى حجّة للقیام به. ثمّ نعمد إلى إنجازه بكلّ حزم وصلابة ونثبت على موقفنا. علینا – فی كلّ لحظة – أن ننظر فیما یریده الله جلّ شأنه منّا، فإن شمّرنا عن سواعدنا فینبغی فی مقام العمل أن ندع التهاون والتسامح ومراقبة فلان والاستماع لكلام فلان جانباً؛ ذلك أنّ أمثال هذه الامور لا تنسجم مع مدرسة علیّ (علیه السلام) قطّ. فإن أحببنا أن نكون من شیعة علیّ (سلام الله علیه) ومن أتباعه حقّاً فعلینا أن نكون بعیدی النظر، فی المسائل الاجتماعیّة على الأقلّ، وأن نزن الاُمور، ونتأمّل فی عواقبها، ولا نتّبع أهواءنا ونزواتنا.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1. شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید المعتزلی، ج6، ص5.
2. شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید المعتزلی، ج6، ص11.
3. سورة الحج، الآیة 13.
4. سورة الكهف، الآیة 50.
5. سورة الكهف، الآیة 104.
6. سورة البقرة، الآیة 12.
7. سورة یونس، الآیة 35.
8. سورة الجاثیة، الآیة 27.
9. سورة هود، الآیة 28.
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 15 حزیران 2011م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
لقد مرّ علینا عام ونحن منشغلون بشرح الخطبة الفدكیّة لفاطمة الزهراء (سلام الله علیها) وقد كرّسنا الجلسات الأخیرة للحدیث عن خطابها الذی وجّهته لنساء المدینة اللواتی أتین لعیادتها. فعندما شعرت الزهراء (علیها السلام) بعد كلّ ما قدّمته من موعظة وبیّنته من حقائق أنّ كلامها لن یكون له وقع فی نفوس الناس وأنّهم لن یحملوه على محمل الجدّ قرّرت (سلام الله علیها) أن تطلق آخر سهم بقی فی جعبتها، ألا وهو الإنذار ممّا ینتظر عمل الإنسان من سوء العواقب الدنیویّة.
فمن بین الطرق المتَّبَعة فی عملیّة الإرشاد والدعوة تأتی «البشارة» بعنوان كونها الطریقة المثلى والتی عادةً ما تُتَّبع فی بادئ الأمر كی تسهم فی جلب انتباه المخاطب. فرسل الله تعالى یكونون فی البدایة «رُسُلاً مُّبَشِّرِینَ»1 یذكّرون الناس بما یترتّب على الإیمان والعمل الصالح واتّباع الدین الحقّ من الآثار الحسنة. ثمّ تأتی الطریقة التالیة فی الأهمّیة من حیث التأثیر بعد البشارات والمتمثّلة بالإنذار من عذاب الآخرة. أمّا بالنسبة لضعیفی الإیمان فحتّى الإنذار من العذاب الاخرویّ لا یكون ذا أثر كبیر فیهم؛ ومن هنا فإنّ آخر ما یؤثّر فی أمثال هؤلاء هو الإنذار ممّا یمكن أن تتسبّب به المعصیة من تبعات دنیویّة؛ ذلك أنّ أثر التخویف من مصائب الدنیا وأهوالها یكون أشدّ على ذوی الإیمان الضعیف من التخویف من عذاب الآخرة. وهذا ما جعل الزهراء (سلام الله علیها) تقول فی ختام حدیثها لنساء المدینة: «لقد حقّقتم ما صبوتم إلیه وأنتم راضون فرحون بفعلكم، لكن اعلموا أنّه لن یمضی زمن طویل حتّى تحلبوا من هذه الناقة بدل اللبن الطازج دماً عبیطاً وسیُسَلّط علیكم من لا یرحمكم». إذ من المسلّم أنّه عندما ینتاب الاُمّة انحرافٌ مّا ویتولّى قیادة سفینتها اُناس یفتقدون الأهلیّة العلمیّة لذلك من جهة، ویفتقرون إلى اللیاقة الأخلاقیّة والمعنویّة من جهة اُخرى، ولا یتمتّعون بالمشروعیّة من جانب الله عزّ وجلّ من جهة ثالثة فإنّ مصیر هذه السفینة سیكون معروفاً.
هناك قرائن كثیرة تشیر إلى أنّ الأكثریّة الساحقة من الناس فی ذلك العصر كانوا یفتقرون إلى البصیرة فی الاُمور الاجتماعیّة وكانوا مبتلین بسطحیّة التفكیر، وسرعة الانخداع. فلعلّ الكثیر ممّن ارتكبوا هذه الخطیئة العظمى لم یكونوا یدركون ما یصنعون، وكانوا یظنّون أنّها حرب قبلیّة بین قبیلتین. فجُلّ ما كان یفكّر به الناس فی ذلك العصر هو ما سیصیبونه من فائدة وربح جرّاء تلك الصراعات والنزاعات. ولربّما كانوا یعلمون إجمالاً بأنّهم یقترفون خطیئة، لكنّهم لم یكونوا یدركون فداحة العواقب المترتّبة على هذا العمل والمسؤولیّة الجسیمة التی سیتحمّلونها بسببه إلى یوم القیامة. لكن كان هناك - فی نفس الوقت - أشخاص یمتازون بحدّة الذكاء والدهاء المفرط وقد لا یقلّ ذكاؤهم ودهاؤهم فی انحرافهم واعوجاجهم عمّا یتمتّع به بعض الدهاة من ساستنا المعاصرین. فإنّ التأمّل فی بعض الوثائق یوحی بأنّ هؤلاء كانت لهم الید الطولى فی حیاكة المؤامرات ورسم الدسائس. فرغم قلّة عددهم فقد كانوا یضعون من الخطط ما یجعل الغالبیّة العظمى من الناس ینخدعون ویتّبعونهم.
إذن فنحن ندّعی أمرین: الأوّل هو أنّ هذا العمل كان غایة فی الضخامة والخطورة وأنّ آثاره السیّئة ستستمرّ إلى یوم القیامة، وأنّ كلّ من وضع حجر الأساس لهذه القضیّة ولعب دوراً بارزاً فیها فهو شریك فی هذا العمل. أمّا ادّعاؤنا الثانی فهو أنّ الأغلبیّة الساحقة من الناس فی ذلك العصر لم یدركوا مدى خطورة هذا الفعل.
قد یقول قائل: إذا كانت الغالبیّة العظمى من الناس تجهل عاقبة هذا الفعل إذن فإنّ ذنبهم لیس عظیماً. ویتعیّن القول ردّاً على ذلك: لا ریب أنّ ذنب هذه الفئة لا یوازی ذنب تلك الثلّة القلیلة التی تصدّت لهذا العمل، لكن – فی الوقت نفسه – لا یعنی ذلك أنّ هؤلاء لا یتحمّلون أیّ مسؤولیّة أو تقصیر؛ ذلك أنّ القضیّة - أوّلاً - كانت على جانب من الوضوح بحیث لو تأمّل بها أیّ امرئ جیّداً وحلّلها تحلیلاً منصفاً فسیصل إلى نتیجة مقنعة. فلو افترضنا أنّ البعض لم یكن یدرك أهمّیة مسألة الخلافة، لكن ألم یبذل النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) من الجهود فی التعریف بأهل البیت (علیهم السلام) وتقدیمهم على أنّهم اُناس معصومون لا سبیل إلى الخطأ إلیهم وأنّ قولهم وفعلهم حجّة للآخرین ممّا لا یدع مجالاً لأیّ أحد لإنكار هذه الخصال فیهم؟ لقد كان رسول الله یقف یومیّاً بباب منزل علیّ وفاطمة (علیهما السلام) ویقول: «السلام علیكم الصلاة یا أهل البیت، إنّما یرید الله لیذهب عنكم الرجس...»2. وبناء علیه فلو لم یكن اُناس ذلك العصر واعین بالفعل، كان بإمكانهم السؤال والتقصّی عن هذا الموضوع. فالعقل والنقل معاً یدلاّن على أنّه إذا كان بإمكان المرء السؤال والفحص عن قضیّة، ثمّ قصّر فی ذلك فهو مسؤول قطعاً. كما أنّه یُقال للعالِم غیر العامل فی یوم القیامة: «أفلا عملت»؛ أی لماذا لم تعمل بعلمك؟ ویقال للجاهل: «أفلا تعلّمت»؛ أی لماذا لم تتعلم3؟
لقد نقل نساء المهاجرین والأنصار كلام الزهراء (سلام الله علیها) وشكاواها الكثیرة إلى رجالهنّ فأرسلوا إلیها یعتذرون قائلین: نحن إنّما لم ندعمك ولم نقف إلى جانبك لأنّنا كنّا قد بایعنا شخصاً آخر. فلو أنّك سارعت قلیلاً فی طرح قضیّتك لكنّا وقفنا إلى جانبك! فأجابتهم (علیها السلام): إنّ عذركم غیر مقبول بتاتاً. فإن كان نقض البیعة قبیحاً إلى هذا الحدّ فلماذا نقضتم بیعة الغدیر إذن؟!
قد یعترض أحدهم بالقول: «هذا تفسیرك الشخصیّ للاُمور وهو نابع من التعصّب؛ أمّا تفسیر الأئمّة الأطهار (علیهم السلام) لها فیختلف»! فإنّ إحدى الشبهات التی تشاع الیوم ضدّ التشیّع هی: «إنّ ما ینسبه الشیعة لمخالفیهم هو كلام ملَفّق لیس له أیّ أساس من الصحّة بل حتّى أئمّتهم لا یقبلون به أیضاً»! وأنا أرى من المناسب أن أطرح هذه المسألة فی هذه المحاضرة (وهی الأخیرة من هذه السلسلة خلال هذا العام حتّى حلول شهر رمضان القادم) وهی أنّ قضیّة كون زعماء حادثة غصب الخلافة یعدّون شركاء فی كافّة الجرائم التی ارتُكبت وتُرتكَب بعد ذلك التاریخ هی من المسلّمات عند أهل بیت العصمة والطهارة (صلوات الله علیهم أجمعین) بل لقد اُشیر إلى هذه القضیّة فی الزیارات المأثورة عنهم أیضاً؛ أذكر هنا - على سبیل المثال - مقاطع من الزیارة الجامعة لأئمّة المؤمنین التی نقلها المرحوم السیّد بن طاووس فی «مصباح الزائر» والمرحوم الشیخ عبّاس القمّی فی ملحقات «مفاتیح الجنان». إذ تطرح هذه الزیارة - من ناحیة - تحلیلات ترتكز على اُسس اجتماعیّة ونفسیّة لتاریخ ما بعد عصر الرسول الأكرم (صلّى الله علیه وآله) وتبیّن الدوافع والعوامل التی تقف وراء الانحرافات الحاصلة فی ذلك الزمن، وتقدّم - من ناحیة اُخرى – وصفاً لما ارتُكِب فی ذلك العصر من أخطاء جسیمة وما نتج عنها من تبعات.
تقول هذه الزیارة إنّ الإیمان الحقیقیّ لم یدخل إلى قلوب البعض فی زمان النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) بل كانت قلوبهم مملوءة بأقذار الشرك ومشحونة بأدران الكفر لكنّهم كانوا یتظاهرون بالإسلام. فعندما لحق المصطفى (صلّى الله علیه وآله) بربّه انتهجوا طریقة المباغتة وأخذوا المسلمین على حین غرّة واغتنموا فرصة غیابه (صلّى الله علیه وآله) كی ینفّذوا مآربهم الدنیئة: «القلوب المُنتِنَة من قذر الشرك والأجساد المُشحَنَة من دَرَن الكفر، أضبّوا على النفاق وأكبّوا على علائق الشقاق. فلمّا مضى المصطفى صلوات الله علیه وآله اختطفوا الغرّة وانتهزوا الفرصة». وهذا المقطع یدلّ على أنّ هذه الواقعة لم تحدث صدفة بل كان مخطَّطاً لها مسبقاً. ثمّ تقول الزیارة بعد قلیل: «وأسرعوا لنقض البیعة» التی بایعوا بها فی یوم الغدیر «ومخالفة المواثیق المؤكَّدة» التی اُخِذت منهم. «فحُشر سِفْلَة الأعراب وبقایا الأحزاب إلى دار النبوّة والرسالة» فاجتمع الأراذل والأوباش من بقایا الأحزاب الذین ائتلفوا على ضرب الإسلام واجتثاث اُصوله بباب بیت الزهراء (سلام الله علیها). «حتّى نقضوا عهد المصطفى فی أخیه عَلَم الهدى» فقد وصلت بهم الوقاحة وانعدام الحیاء إلى درجة نقض البیعة التی أخذها منهم النبیّ (صلّى الله علیه وآله) لأخیه علیّ بن أبی طالب (سلام الله علیه). «وجَرَحوا كبد خیر الورى فی ظلم ابنته واضطهاد حبیبته... وخذلوا بعلها... ونقضوا طاعته، وجحدوا ولایته... وقادوه إلى بیعتهم مُصلِتَةً سُیُوفَهَا مُقذِعَةً أسنَّتَها... یدعونه إلى بیعتهم التی عمّ شومها الإسلام»؛ فراحوا یسحبون علیّاً (علیه السلام) سحباً لأخذ البیعة لهم منه وسیوفهم مستلّة نحوه ورماحهم مُشرَعة فی وجهه.
لقد طرح أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین) هذه المسائل كی لا یتركوا مجالاً لنسیان هذه الحادثة وضیاعها فی خضمّ الشبهات. ومع ذلك فنحن نرى أنّ هناك من الشیعة من یطرح هذه الشبهات ویقول: هذه النُّقُول لا تتمتّع بالاعتبار. فالمسألة أساساً هی أنّ الناس فی ذلك الحین أرادوا العمل بقواعد الدیمقراطیّة، والنظر فیمن حصل على كمّ أكبر من الأصوات! فقد كتب أحد مَن یُصطلَح علیهم «الخبراء فی الشؤون الإسلامیّة» ما یلی: لقد كان علیٌّ (علیه السلام) وصیّ رسول الله (صلّى الله علیه وآله) لكنّ وصایته كانت بهذا المعنى: وهو أنّ النبیّ قد رشّحه لمنصب الخلافة وقال: حسب رأیی فإنّه خلیفة جیّد، لكنّ الرأی النهائیّ لكم؛ فلكم أن تنتخبوا من تشاءون!
إنّ غایتی من استعراض هذه المقاطع من الزیارة هو إبراز موقف أهل البیت (علیهم السلام) من هذه البیعة وتلك الحادثة.
تقول الزیارة فی مقطع آخر: «یدعونه إلى بیعتهم التی عمّ شومها الإسلام». ثمّ تحصی الزیارة بتعبیرات اُخرى النتائج المترتّبة على هذه البیعة المشؤومة بالقول: «عَقَّتْ سلمانَها، وطردتْ مقدادَها، ونفتْ جُندَبَها، وفتقتْ بطن عمّارها»؛ فمن نتائج هذه البیعة أنّها أودت بسلمان إلى العزلة مع ما كان یتمتّع به من مقام رفیع، ونفت أبا ذرّ، وشقّت بطن عمّار. ومع أنّ هذه الوقائع قد حصلت على مدى أعوام من الزمن إلاّ أنّ جمیعها تُعدّ من نتائج وآثار تلك البیعة. «وسلّطتْ أولاد اللعناء على الفروج والدماء». ثمّ تعرّج على قصّة یوم الحرّة حیث اجتاح جیش یزید بن معاویة المدینة وأباح كلّ شیء فیها: «وأغارت على دار الهِجرة یوم الحَرَّة وأبرَزَت بنات المهاجرین والأنصار للنَّكال والسُّورَة»؛ أی هتكوا حرمة بنات المهاجرین والأنصار باسم الإسلام! فالزیارة تَعتبِر جمیع تلك الوقائع من نتائج تلك البیعة، وأنّ الذین أوجدوا هذا الانحراف فی الاُمّة هم شركاء فی كلّ تلك الذنوب والمعاصی.
وفی موضع آخر من الزیارة جاء ما نصّه: «یا مَوَالیَّ! فلو عاینكم المصطفى» لیت النبیّ (صلّى الله علیه وآله) كان موجوداً لیعاین ما فعلته اُمّته بكم «وسهام الأمّة مُغرَقَة فی أكبادكم، ورماحهم مشرَعَة فی نحوركم، وسیوفها مُولَغَة فی دمائكم، یشفی أبناءُ العواهر غلیل الفسقِ من ورعكم وغیظَ الكفر من إیمانكم»، والمقطع الأخیر هذا یشیر إلى التفاتة مرتبطة بعلم النفس، وهی دافع أهل السقیفة من هذا الفعل. حیث تقول: إنّ العامل الرئیسیّ الذی قاد هؤلاء القوم إلى القیام بما قاموا به هو الحسد، فقد كانوا یحسدونكم على ما تتمتّعون به من الإیمان والنورانیّة فی حین أنّهم یفتقرون إلى مثل هذه الكمالات. فقد كانوا اُناساً عدیمی الإیمان تنطوی قلوبهم على آثار الكفر والنفاق. «وأنتم بین صریع فی المحراب...»؛ وهنا تبدأ الزیارة بسرد أشكال وأصناف الظلم التی وقعت على أهل البیت (علیهم السلام) واحداً واحداً؛ بدءاً من أمیر المؤمنین (علیه السلام) الذی فلقوا هامته الشریفة، وسیّد الشهداء (سلام الله علیه) الذی رفعوا رأسه المبارك على الأسنّة، وسائر الأئمّة الذین قضوا مسمومین خلف قضبان السجون... الخ، كلّ ذلك تعدّه الزیارة من نتائج تلك البیعة.
وبشكل عامّ فإنّ الزیارة تشیر إلى خمس ملاحظات بخصوص الأحداث التی وقعت فی زمان فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) سأستعرضها هنا بشكل متسلسل: أوّلاً: إنّ الذین تزعّموا عملیّة غصب الخلافة كانوا اُناساً متحیّنین للفرص قد فاجأوا الناس بغصبهم للخلافة. ثانیاً: إنّهم قد نقضوا بیعتهم التی بایعوها قبل سبعین یوماً وإنّ الأعذار التی قدّموها فی نقضهم لها غیر مقبولة. ثالثاً: إنّ جماعة من سفلة الناس وأوباشهم قد هجموا على بیت النبیّ (صلّى الله علیه وآله)، التی كان جبرئیل (علیه السلام) لا یدخلها من دون إذن، وأخذوا البیعة عنوةً من أمیر المؤمنین (علیه السلام) وهو عمل لا ینسجم حتّى مع الموازین غیر الإسلامیّة. ثمّ تسرد الزیارة عشرة من الجرائم التی اقتُرِفت بعد ذلك الحین وتعتبرها من نتائج تلك البیعة: الاُولى: طرد أمثال سلمان وأبی ذرّ والمقداد الذین یُجمع المسلمون على أنّهم من أفضل المؤمنین. الثانیة: تسلّط أولاد الزنا على أموال الناس وأعراضهم. الثالثة: وضع البِدَع وتغییر الأحكام. الرابعة: تخریب الكعبة. الخامسة: اجتیاح المدینة وإباحتها. السادسة: هتك حرمة الفتیات المسلمات. السابعة: قتل أمیر المؤمنین (صلوات الله علیه). الثامنة: سمّ الإمام الحسن (علیه السلام) ورمی جنازته بالنبال. التاسعة: استشهاد سیّد الشهداء (سلام الله علیه). والعاشرة: قتل سائر الأئمّة الأطهار (صلوات الله علیهم أجمعین). فالزیارة ترى أنّ جمیع تلك الجرائم البشعة هی من ثمار تلك البیعة المشؤومة.
هذه الملاحظات تكشف لنا عن مدى أهمّیة المسائل السیاسیّة والاجتماعیّة. ومن هذا المنطلق فقد أشرنا مراراً وتكراراً إلى ضرورة أخذ ما یُنجَز من أعمال فی حقل المسائل الاجتماعیّة بمزید من الجدّیة. فتدارك الأخطاء التی تُرتكَب على صعید المسائل الفردیّة یكون سهلاً فی الغالب، لكن ما هو السبیل إلى تدارك الخطایا التی تقود إلى فساد اجتماعیّ؟ فلو افترضنا أنّ الضالعین فی إشاعة هذا الفساد أو إیجاد ذلك الزیغ قد انتبهوا یوماً إلى خطئهم وأرادوا تداركه، فكیف یتداركون ما اقترفه معاویة – مثلاً – من جرائم؟ أو ما ارتكبه الاُمویّون من فجائع؟ فإنّ ما یرتكب إلى یوم القیامة من جرائم مترتّبة على ما اقترفته أیدیهم لا یمكن تداركه بأیّ حال من الأحوال؛ فلقد حَرَموا الملیارات من البشر من حقوقهم المتمثّلة بالانتفاع من وجود الإمام الحقّ. فلقد كان من حقّ البشر كافّة أن ینتفعوا من معارف وعلوم قادةٍ ومربّین قد عیّنهم الله تعالى لیصلوا فی ظلّ حكوماتهم وسیاساتهم إلى الظفر بالعزّة والسعادة فی الدنیا والآخرة. ومن هنا یتعیّن علینا أن نكون یقظین وواعین للواجبات الاجتماعیّة الملقاة على عواتقنا.
لقد أحیى الإمام الخمینیّ الراحل (رضوان الله تعالى علیه) دفعة واحدة قسماً عظیماً من المسائل الإسلامیّة؛ أی مسائل الإسلام السیاسیّة والاجتماعیّة التی مرّ علیها قرون من الزمن یغطّیها غبار النسیان والغفلة. فما الذی كان رأی علمائنا وفقهائنا قبل نصف قرن فی المسائل السیاسیّة والاجتماعیّة یا ترى؟ لقد كان التدخّل فی المسائل السیاسیّة تهمة لا تُغتفَر، وكان إذا قیل لعالم الدین إنّه سیاسیّ فقد سقط من أعین الناس. إذن فالإمام الخمینیّ (قدّس سرّه) هو الذی جعل من الخوض فی میدان السیاسة من أوجب الواجبات حین قال: «حفظ النظام الإسلامیّ أوجب من الصلاة». فالإمام (رحمة الله علیه) بحقّ یشترك فی كلّ ثواب یترتّب على هذا العمل إلى یوم القیامة. ونحن أیضاً بما اُوتینا من سعة وجودیّة نستطیع أن نلعب دوراً إیجابیّاً أو سلبیّاً فی هذا المجال. فباستطاعتنا أن ننجز ما یجعل الناس تغترف من بركاته لمئات من السنین ونكون شركاء فی كلّ ما یجنونه من الثواب. كما ونستطیع أیضاً عن طریق التعلّق بالدنیا وملذّاتها الخسیسة أن نُخلِی كواهلنا من بعض واجباتنا فنحرم، بسبب إهمالنا وتكاسلنا، عدداً من البشر من نعمة الهدایة، أو نؤدّی بهم – لا سمح الله – إلى سبیل الغیّ والضلالة فنشاركهم إلى یوم القیامة بكلّ ما یقترفون من ذنوب وآثام.
أعاذنا الله وإیّاكم
1. سورة النساء، الآیة 165.
2. بحار الأنوار، ج35، ج223؛ ومسند الإمام أحمد بن حنبل، ج3، ص259 (طبعة دار صادر / بیروت)؛ والمستدرك للحاكم النیسابوری، ج3، ص159.
3. عن الصادق (علیه السلام) فی قوله تعالى: «فَلِلّهِ الْحُجَّةُ البَالِغَةُ» (سورة الأنعام، الآیة 149): «إنّ الله تعالى یقول للعبد یوم القیامة: أكنتَ عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتّى تعمل. فیخصمه وذلك الحجّة البالغة» (بحار الأنوار، ج1، ص178).