(1)
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 20 تشرین الثانی 2013م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
لقد تطرّقنا فیما مضى مراراً، ومن زوایا عدیدة، إلى القیم الإسلامیّة وأهدافها أملاً فی أن یداعب قلوبَنا - ببركة أنوار كلمات الله تعالى وأقوال المعصومین (صلوات الله علیهم أجمعین) - شعاع من نور علّها تُنتَشَل ممّا هی فیه من أوحال الدنس وغیاهب الظلمات.
إنّ من المواضیع التی یتمّ بحثها مراراً وبالتفصیل هو القرب من الله عزّ وجلّ والسبیل إلى نیله. وقد استنتجنا، بالإفادة من الآیات والروایات، وعبر اللجوء إلى البحوث العقلیّة، أنّ السبیل الوحیدة لبلوغ هذا الهدف هی عبادة الله. كما أنّنا قد تحدّثنا حول مفهوم العبادة وأقسامها ومراتبها وكیفیّة تجلّیها فی حیاة الإنسان. وكنّا قد ذكرنا أنّ الطریق إلى قرب الله یكمن فی حركتنا الاختیاریّة ونشاطنا الإرادیّ. فموهبة كهذه لا تُعطى لأحد بالقوّة، ولا إجباراً، ولا إكراهاً، بل إنّ على المرء أن یطلبها، ویسعى إلیها، ویمهّد لها كی یفیضها الله تعالى علیه. وقد قلنا فیما یتّصل بكیفیّة اختیار الطریق الموصل إلى قرب الله وسلوكه بأنّ كلّ حركة إرادیّة إنّما تنشأ من مبدأین: هما المعرفة والإرادة، وهما قضیّتان متغایرتان وقابلتان للانفكاك عن بعضهما؛ فبعض الناس یعلم ما الذی ینبغی صنعه، لكنّه لا یفعل شیئاً، وبعض الأشخاص یرغبون فی فعل شیء، لكنّهم لا یعلمون ما الذی یتعیّن فعله. وقد تناولنا من أجل ذلك بحوثاً حول أنماط المعرفة، والدوافع اللازمة لتكامل الإنسان، والسبیل إلى تقویتها.
إنّ أقوى الحوافز التی من شأنها أنّ تدفع الإنسان لیخطو باتّجاه التقرّب إلى الله هی محبّة الله عزّ وجلّ؛ فكلّما اشتدّت محبّة الإنسان لربّه زادت رغبته فی التقرّب إلیه.
وهنا یكمن سؤال: ماذا نصنع لنحظى بهذه المحبّة؟ فالمحبّة هی من القیم السامیة التی لا یسهل نیلها، وإنّ طی طریقها یحتاج إلى السعی والمثابرة. بالطبع إنّ لجمیع المؤمنین مرتبة من مراتب محبّة الله سبحانه وتعالى. یقول القرآن الكریم: ﴿وَالَّذِینَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للهِ﴾[1] [1]. كما ویبیّن الله تعالى فی آیة اُخرى الحدّ الأدنى من هذه المحبّة بقوله: ﴿قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِیرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَیْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِیلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ یَأْتِىَ اللهُ بِأَمْرِهِ﴾[2] [2]؛ أی إن كان حبّه لهذه الاُمور یفوق حبّه لربّه، ویشكّل مانعاً له من طاعته عزّ وجلّ فإنّه سیكون عرضة لخطر جسیم. فلا یجوز أن یكون حبّ الإنسان لأیّ شیء أكثر من حبّه لله. وهذه هی إحدى مراتب المحبّة اللازمة لتحقّق الإیمان، ولكنّها لیست كلّ شیء. فإنّها لنعمة عظیمة أن یحبّ الإنسان الله حقّاً ویكون مستعدّاً لبذل نفسه فی سبیله وسبیل الإسلام، لكنّ هذا هو الحدّ الأدنى للقضیّة، فأیّ هبوط دون هذا الحدّ یُعدّ خطَراً یحذّر الله عزّ وجلّ منه.
إنّ لله جلّ وعلا عباداً تفوق محبّتهم له مستوى عقولنا. إذ یروى أنّ نبیّ الله شعیباً (على نبیّنا وآله وعلیه السلام) بكى لسنوات طویلة حتّى فقد بصره، فأعاد الله له بصره، فعاد إلى البكاء لأعوام حتّى عمی ثانیة، فردّ الله له بصره مرّة اُخرى، فعاود البكاء لسنین، فأوحى الله تعالى إلیه: «یا شعیب! إن كان هذا البكاء لأجل الجنّة فقد أبحتُها لك، وإن كان من أجل النار فقد حرّمتها علیك» فماذا تطلب بعد ذلك إذن؟ «فقال:» إلهی! أنت تعلم أنّ بكائی لیس خوفاً من جهنّم ولا شوقاً إلى الجنّة «لا بل شوقاً إلیك»، فإنّنی اُحبّك وأطلب لقاءك. «فقال الله تعالى: لأجل هذا أخدَمتُك نبیّی وكلیمی موسى عشر سنین»[3] [3]. فقصّة فرار موسى (علیه السلام) من «مَدیَن» ولقائه ببنات شعیب كانت مقدّمة من أجل أن یرعى موسى لشعیب (علیهما السلام) أغنامه لثمان أو عشر سنین.
لكن ما هی حقیقة هذه المسائل؟ وماذا یعنی البكاء لمحبّة الله بالضبط؟ بل البكاء إلى درجة أن یعمى الإنسان ثمّ یُعاد إلیه بصره حتّى یُفعل به ذلك عدّة مرّات! إنّها لمن المسائل التی لا یسعنا إدراكها جیّداً.
لقد جاء فی الخبر بخصوص مراتب معرفة ومحبّة نبیّ الله إبراهیم (علیه السلام) أنّه عندما ترك (علیه السلام) قوم النمرود متوجّهاً نحو الأرض التی كتبها الله له كان یصطحب معه قطیعاً ضخماً من الأغنام[4] [4]. فنادى جبرئیل فی دجى اللیل بأمر من الله عزّ وجلّ: «سُبّوح قُدّوس» فإذا بجذبة تصیب إبراهیم عند سماعه النداء فیقول: یا مَن ذكرتَ اسم محبوبی! أعِدْه ثانیة ولك نصف غنمی[5] [5]. لا أدری إن حصل لكم ذات مرّة أن تستیقضوا من رقادكم فی منتصف اللیل على صوت تلاوة قرآن، أو أذان، أو مناجاة فتنتابكم حالة من البهجة والسرور؟! أعاد جبرئیل النداء: «سُبّوح قُدّوس» فالتهب شوق إبراهیم (علیه السلام) وقال: لك باقی غنمی أیضاً، أعدها مرّة اُخرى!
أیُّ حالة هذه التی ألـمّت بقلب إبراهیم لدى سماع اسم محبوبه؟ فكیف یكون الحبّ یا ترى، وإلى أیّ درجة یمكن أن یبلغ حتّى یكون إبراهیم (علیه السلام) حاضراً لِیَهَب كلّ ما یملك من أجل سماع اسم محبوبه؟! علینا أن نعلم إجمالاً أنّ المسافة بین محبّتنا ومحبّة نبیّ الله إبراهیم (علیه السلام) هی كالمسافة ما بین السماء والأرض؛ فنحن نحبّ الله، وعلیّ (علیه السلام) أیضاً كان یحبّ الله، لكن شتّان بین محبّتنا ومحبّة أمیر المؤمنین وإبراهیم (علیهما السلام). ولابدّ أن نصدّق أنّه من الممكن أن ینال المرء مثل هذه الدرجات من محبّة الله، وأنّ الكمال الحقیقیّ للإنسان وقیمته الإنسانیّة هما فی أن یكون له مثل هذه العلاقة مع الله جلّ وعلا.
فإذا كانت لهذه الامور حقیقة، وأنّ الأنبیاء قد جاءوا لیسلكوا بنا السبیل الذی سلكوه ویوصلونا إلى المقام الذی وصلوه، فعلینا نحن أیضاً أن نطلب هذه الاُمور. ولا أدّعی بالطبع أنّ من الضروریّ أن نصیر مثلهم؛ فنحن أضأل وأقلّ بكثیر من أن نستطیع نیل أدنى مراتب الحبّ بصدق، وإذا ما أصبنا تلك المرتبة من دون أن نصبح محطّ سخط الباری عزّ وجلّ، فینبغی أن نطیر من الفرح، لكنّه ثمّة من بین عباد الله، ممّن یمتلكون الهمم العالیة والقلوب الطاهرة، قد آمنوا بمسیر الأنیباء (علیهم السلام)، وعلموا بأنّ الكمال هو هذا تحدیداً، وأنّه لابدّ من الحذو حذوهم وسلوك مسلكهم. ویتحتّم القول هنا بأنّ السیر فی هذا الطریق لا یتنافى بتاتاً مع أداء الواجبات الاجتماعیّة والسیاسیّة، وإنّ ما قام به إبراهیم (علیه السلام) من تحطیم الأصنام وما تعرّض له من الإلقاء فی النار كان فی هذا الطریق أیضاً. فالعبودیّة لله عزّ وجلّ وحبّه تسری إلى كلّ شیء، وتظهر تجلّیاتها فی كلّ موضع؛ «حبّ الله إذا أضاء على سِرّ عبد أخلاه عن كلّ شاغل وكلّ ذكر سوى الله»[6] [6].
لكنّ السؤال الذی یتبادر إلى الذهن هنا هو: أنّى لنا أن نوطّد علاقة مع الله مع كلّ ما یُحیط بنا من مشاكل الدنیا، والصراعات، والتهالك على المال والجاه والمناصب؟ فكلّنا یرغب فی أن یصیب شیئاً من هذه المراتب، فماذا نصنع من أجل أن یحلّ حبّ الله فی قلوبنا، فننسى كلّ ما سواه، وتكون كلّ أفعالنا فی سبیله تعالى؟ وقد قلنا مراراً، بأنّ للقیم الإلهیّة، المذكورة فی القرآن والسنّة، والتی تؤیّدها الأدلّة العقلیّة أیضاً، مراتب عدّة. فإنّ للإیمان درجات، وإنّ قلوبنا لتهفوا إلى بلوغ تلك الدرجات والتشبّه بأولیاء الله بمقدار ما نتمتّع به من إیمان بهذه الحقائق. والأمثلة التی ذكرناها تشیر إلى أنّ للمحبّة درجات كثیرة؛ فإحدى درجاتها هی أن نستطیع نحن على الأقلّ ادّعاءها. والدرجة الاُخرى هی محبّة إبراهیم (علیه السلام) وإنّ بین هذا المبدأ وذاك المنتهى مراتب كثیرة لا یمكن إحصاؤها بدقّة. فإذا ادّعى أحدهم أنّه مادام كلّ امتداد قابلاً للقسمة إلى ما لانهایة فإنّه یمكن أن تصل هذه المراتب إلى ما لانهایة، فإنّه لم یُلقِ قوله على عواهنه. فالسیر من هذا المبدأ إلى ذاك المنتهى، والذی نعلم إجمالاً أنّه ممكن وإنّ لم نعلمه تفصیلاً، یتطلّب سیراً تدریجیّاً وطویلاً، ولیست القضیّة أنّ الإنسان یُحقن بمادّة وإذا به قد وصل فجأة إلى ما وصل إلیه إبراهیم (علیه السلام). فلابدّ من المكابدة، ومعرفة الطریق، والكدح، والهمّة لطیّ مراحل من هذا الكمال. فما الذی نصنع من أجل أن نمضی فی هذا السبیل ونزید من حبّنا لله ولأولیائه؟
إنّ محبّة أولیاء الله هی شعاع من محبّة الله عزّ وجلّ؛ فنحن نحبّ الإمام الحسین (علیه السلام) لكونه عبد الله وحبیبه. یروى أنّ رسول الله (صلّى الله علیه وآله) سلّم علیه [فی الطریق] غلامٌ دون البلوغ وبشّ له وتبسّم فرحاً بالنبیّ (صلّى الله علیه وآله) فقال له: «أتحبّنی یا فتىٰ؟ فقال: إی والله یا رسول الله. فقال له: مثل عینیك؟ فقال: أكثر. فقال: مثل أبیك؟ فقال: أكثر. فقال: مثل أمّك؟ فقال: أكثر. فقال: مثل نفسك؟ فقال: أكثر والله یا رسول الله. فقال: أمثل ربّك؟ فقال: الله الله الله یا رسول الله، لیس هذا لك ولا لأحد فإنّما أحببتك لحبّ الله»[7] [7]. تخیّلوا البیئة الثقافیّة التی كانت سائدة فی ذلك العصر! وكیف تمكّن النبیّ (صلّى الله علیه وآله) من تربیة الناس یا ترى كی یتحدّث حَدَثٌ لم یبلغ العاشرة أو الثانیة عشرة من عمره بهذا المنطق؟! فحبّ الإمام الحسین (علیه السلام) وكلّ ما قدّمه الناس له من تضحیات هو لأجل أنّه حبیب الله وعبده الصالح.
فمن أجل أن نسلك طریق محبّة الله سبحانه وتعالى یتحتّم علینا أن نمتلك المعرفة وأن نعلم ما الذی علینا صنعه كی نضاعف من حبّنا لله. بالطبع نحن نعلم إجمالاً بأنّ جمیع الكمالات هی بیده عزّ وجلّ، وأنّه هو من ینبغی أن یفیضها علینا، ولكن نحن بدورنا علینا أیضاً أن نهیّئ فی أنفسنا الأرضیّة والأهلیّة لذلك.
أحیاناً یُطرح السؤال التالی: هل المعرفة هی مقدّمة للمحبّة، أم العكس هو الصحیح؟ بتعبیر أبسط: عندما نقول إنّه ینبغی لنا أن ننمّی محبّتنا لله فهذا یعنی أنّه حتّى وإن كنّا نشعر بقلیل من المحبّة، فإنّنا نرغب فی زیادتها، ومن أجل زیادة المحبّة لابدّ أن نسعى وراء المعرفة. وبناءً على ذلك فالمحبّة مقدّمة على المعرفة. لكنّ الإنسان – من ناحیة اُخرى – لا یحبّ شیئاً إذا لم یعرفه، وإذن فلابدّ من معرفةٍ لحصول هذه المحبّة ابتداءً. إذن یتبادر إلى الذهن هنا سؤال: هل المعرفة هی مقدّمة، أم المحبّة؟
ولا بأس أن نطرح السؤال بشكل أشمل: فنحن جمیعاً نعلم أنّ هناك عاملَین مؤثّرین فی أفعال الإنسان الإرادیّة هما: المعرفة والإرادة. لكن هل ینبغی حصول المعرفة أوّلاً كی تنبثق الإرادة، أم لابدّ من وجود الإرادة ابتداءً كی تحصل المعرفة؟ والجواب هو أنّ العلاقة بین هذه المسائل هی علاقة متماسكة ومتصاعدة؛ فالله سبحانه وتعالى یعطی الإنسان مرتبة من مراتبها مجّاناً. فإن أفاد الإنسان منها على النحو الصحیح، ترتّبت علیها نتائج، وإذا ما أحسن استغلال هذه النتائج أیضاً، فإنّه یصار إلى تدعیم الطرف الآخر من القضیّة، وهكذا. وهذه العلاقة تلاحَظ فی الطبیعیّات أیضاً؛ فلابدّ لأوراق الشجرة – على سبیل المثال – أن تستعمل الهواء، والضوء، والحرارة كی تبقى الشجرة على قید الحیاة. فأوراق الشجرة، لاسیّما فی وقت المطر، تمتصّ الرطوبة لتنقلها إلى الساق التی تنقلها بدورها إلى الجذور، لتحصل هناك عملیّة صنع الغذاء النباتیّ. ثمّ ینتقل هذا الغذاء من الجذور عبر الساق إلى الأغصان والأوراق لتنمو، فتُزهر الشجرة، وتعطی الثمر. فلولا نزول المطر لجفّت الشجرة ولم تعد الجذور تؤدّی وظیفتها ولجفّت شیئاً فشیئاً. فالمطر وضوء الشمس والهواء یصلون إلى الورقة من الأعلى ثمّ ینتقلون إلى الجذور، ثمّ تعود المواد الغذائیّة لتنتقل من الجذور إلى الأوراق ثانیة. وتتكرّر هذه العملیّة مرّة اُخرى. وهذه العلاقة المتأرجحة تتحقّق غالباً فیما یتّصل بالكمالات والقیم الإنسانیّة أیضاً؛ أی إنّ إحداها تكون مقدّمة للاُخرى، فإذا توفّرت هذه تهیّأت الأرضیّة أكثر لنموّ الاولى. وإنّ علاقة الإیمان بالعمل هی نموذج آخر على ذلك؛ فالإنسان یؤمن أوّلاً ثمّ یعمل بمقتضى هذا الإیمان. فإن أنجز المرء عملاً، قَوِی إیمانه، وإنّ قوّة الإیمان ستدفعه إلى الإتیان بعمل أكثر وأفضل. وكلّما استمرّت هذه العلاقة زمناً أطول، فإنّها ستقود إلى مزید من التكامل والنضج وبلوغ المرء كمالات أكثر. وقد تتحقّق هذه العلاقة تارةً بشكل واضح ومن دون واسطة، لكنّها لا تحصل تارةً اُخرى إلاّ بواسطة وحلقة خفیّة نوعاً ما.
على أیّة حال، فلابدّ لنا من معرفة السبیل إلى استكمال محبّتنا. وعلى هذا فإذا قلنا إنّه یتعیّن علینا تقویة معرفتنا من أجل مواصلة طریق التكامل، والتقرّب، والعبودیّة، والمحبّة، واكتساب جمیع القیم الإلهیّة السامیة، فإنّنا لم نتكلّم جزافاً. لكن لابدّ من الالتفات إلى أنّ العلم والمعرفة لیسا هما العلّة التامّة. فالمعرفة تهیّئ البیئة للنموّ والتكامل، بشرط أن یضیف إلیها الإنسان الهمّة والإرادة ومن ثمّ الطلب، وإلاّ فقد تؤدّی مفعولاً عكسیّاً؛ كما هو الحال فی النبات؛ فنفس ذلك الماء الذی یبعث الحیاة فی النبات فإنّه لا یقود - عند غیاب العوامل الاُخرى - إلى عدم نموّ الشجرة فحسب، بل وإلى اندراس جذورها وتفسّخها أیضاً. لكنّ المرء، على أیّة حال، إذا رغب فی سلوك سبیل الله وبلوغ ما یرضاه بارئه من الكمالات، فإنّ اكتساب المعرفة والازدیاد فی العلم یُعدّ شرطاً لازماً لذلك.
نسأل الله جلّ وعلا، ببركة سیّد الشهداء (صلوات الله علیه) وأصحابه المضحّین فی سبیله، وكلّ من یعمُر حبُّ الحسین قلبَه، ویسیر فی مثل هذه الأیّام وغیرها من الأیّام على طریق محبّة الإمام الحسین، أن یتفضّل علینا بتنمیة معرفتنا ومحبّتنا، ویعیننا على مواصلة الطریق التی نحظى فیها برضا ربّنا وبالزیادة فی كمالنا.
وصلّى الله على محمّد وآله
[1] [8]. سورة البقرة، الآیة 165.
[2] [9]. سورة التوبة، الآیة 24.
[3] [10]. إرشاد القلوب، ج1، ص171. بالطبع هذا النمط من الوحی ینطوی على بُعدٍ تربویّ، وهو أن یسمع الناس القصّة فیستوحوا منها الدروس ویدركوا بها الحقائق، وإلا فعلّة بكاء شعیب (علیه السلام) لم تكن لتخفى على الله، وهو عزّ وجلّ أعلم من غیره بسبب بكائه.
[4] [11]. عن أبی عبد الله (علیه السلام) قال: «ما بعث الله نبیّاً قطّ حتّى یسترعیه الغنم یعلّمه بذلك رعیّة الناس» (علل الشرائع، ج1، ص32)؛ أی ما بعث الله نبیّاً إلاّ ویأمره برعی الأغنام كی یكون حسن السلوك مع الرعیّة ولا یتوقّع منهم الكثیر ویتحمّل جهلهم وغفلتهم.
[5] [12]. تفسیر الصافی، ج1، ص505.
[6] [13]. مصباح الشریعة، باب 92، ص192.
[7] [14]. إرشاد القلوب، ج1، ص161.
(2)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 27 تشرین الثانی 2013م نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
ذكرنا أنّ إحدى القیم السامیّة فی الثقافة الإسلامیّة وأهمّ عوامل التقرّب إلى الله تعالى وفق الآیات والروایات والأدلّة العقلیّة هی المحبّة. لكنّ مثل هذا الموضوع لا یُولَى فی محافلنا العلمیّة والثقافیّة والأخلاقیّة ما یستحقّه من الأهمّیة، بل إنّ ثلّة من الناس، وباللجوء إلى تأویلات معیّنة، وعلى الرغم من أنّ دلالة بعض الآیات لا تذر أیّ فسحة للتأویل والتبریر، یتصوّرون أنّ نسبةَ المحبّة إلى الله هی نسبة مجازیّة. فی حین أنّ الباری عزّ وجلّ، من باب المثال، یقول فی آیة ترتبط بحیاتنا المعاصرة ارتباطاً وثیقاً: «یَـٰأَیُّهَا الَّذِینَ ءَامَنُواْ مَن یَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِینِهِ فَسَوْفَ یَأْتِی اللهُ بِقَوْمٍ یُحِبُّهُمْ وَیُحِبُّونَه»[1] [15]؛ فالله عزّ وجلّ یحذّر فی مقام الاستغناء قائلاً: نحن لسنا بحاجة لكم، ولا تتصوّروا أنّكم بإیمانكم تمُنّون على الله. وحتّى إن ارتَدَدتم عن دینكم، فإنّكم لن تضرّوا الله شیئاً، بل إنّه سبحانه سیأتی بقوم یحبّهم ویحبّونه. وهذه الآیة تدلّ بصراحة على الحبّ المتبادل بین الله وبعض عباده، وتأبى التأویلات الواردة فی هذا الباب. ولا تختصّ هذه الآیة بالدلالة المذكورة، بل إنّ عشرات غیرها من الآیات، التی تنسب محبّة الله تعالى للصابرین، والصالحین، والتائبین، ...الخ، تشیر إلى عین هذا المعنى.
لقد وردت أحادیث كثیرة فی محبّة الله، من جملتها الحدیث التالی: «المُحبّ أخلصُ الناس سرّاً لله»؛ أی إنّ الذی یحبّ الله یخلص باطنَه بشكل كامل له عزّ وجلّ، ویخصّص أعماق قلبه له، ولا یدع محلاًّ لأیّ أحد غیره فی قلبه. «وأصدقُهم قولاً»؛ فكلّ المؤمنین یتحدّثون عن محبّة الله وطاعته، والخشیة من عذاب الله وسخطه، لكنّ ادّعاءاتهم تلك لا تترجَم فی میدان العمل، أمّا المحبّ لله فهو صادق فی ادّعائه. «وأوفاهُم عهداً»؛ أی أوفى الناس فی عهده مع الله تعالى. یقول عزّ من قائل: «مِنَ الْمُؤْمِنِینَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللهَ عَلَیْهِ»[2] [16]؛ فجمیع المؤمنین یعاهدون الله على امتثال أوامره ومجانبة أعدائه، لكنّ الذین یوفون بعهدهم ویصدقون فیه قلّة. «وأزكاهُم عملاً»؛ فعملهم أطهر وأنظف من الجمیع. «وأصفاهُم ذكراً» أی إنّ ذكرَه لله تعالى أنقى وأقلّ رتوشاً من ذكرِ غیره له عزّ وجلّ. «وأعبَدُهُم نفساً» فهو یقف كلّ كیانه على عبودیّة الله ولا ینفق ذرّة من وجوده فی غیر ذلك. «تتباهىٰ الملائكةُ عند مناجاته وتفتخر برؤیته»؛ وهذا من آثار هذه المحبّة. «وبه یعمُر الله تعالى بلادَه وبكرامته یُكْرِم الله عباده»؛ فالله جل وعلا یعمر البلدان والمدن بوجود مثل هذا المرء ویُكرِم باقی الناس بواسطة ما یَكُنّ له من احترام ویقیم له من وزن. «یعطیهم إذا سألوه بحقّه ویدفع عنهم البلایا برحمته»؛ فإن سأل الناسُ اللهَ شیئاً بحقّ هذا الإنسان، أعطاهم ما یطلبون، وهو عزّ وجلّ یدفع عنهم البلایا بما یُغدق علیه من رحمة. «ولو علم الخلقُ ما محلّه عند الله ومنزلته لدیه ما تقرّبوا إلى الله إلاّ بتراب قدمَیه»[3] [17].
على الرغم من الأهمّیة البالغة التی تتمیّز بها محبّة الله فی أقوال أهل البیت (علیهم السلام) فإنّنا قلّما نتطرّق إلى هذا الموضوع أو نفكّر فیه. وإنّ من آفات هذه الظاهرة هو جعل محبّة الله فی مقابل محبّة أهل البیت (علیهم السلام) وعدم الاهتمام بالاُولى، وهذا من علامات ضعف الإدراك وضحالة المعرفة. فالحقیقة، على أیّة حال، هی أنّ الثقافة الدینیّة فی مجتمعنا لم تنْمُ وتنضج كما ینبغی لتشقّ هذه المعارف طریقها فی الاُمّة بقوّة وتغذّی أفئدة شباب هذا الجیل النقیّة بهذه الحقائق كی تصل إلى درجة رفیعة من التكامل. وفی واقع الأمر فإنّ تقصیرنا فی مضمار اكتساب محبّة الله یعود إلى ضحالة معرفتنا. لذا نرى من المناسب أن نتحدّث بعض الشیء عن حقیقة المحبّة، وكیفیّة ظهورها، وما یطرأ علیها من شدّة وضعف. وحیث إنّ قضیّة الحبّ هی أمر یحتكّ الناس به ویتداولونه یومیّاً عشرات المرّات، ویدركون مصادیقه بالنسبة لأنفسهم وعوائلهم وأصدقائهم وما إلى ذلك حضوریّاً، فقد یبدو - للوهلة الاُولى - أنّ المحبّة لیست بحاجة إلى تعریف. لكن مع قلیل من التمعّن نجد أنّ معرفتنا بهذه المسائل محاطة بالإبهامات ونحن لا نملك تعریفاً واضحاً لها، بل وإنّنا كثیراً ما نخطئ فی هذا المجال.
اعتماداً على الاُسلوب المتّبَع فی علم المنطق فی تعریف مفهومٍ ما، حیث یتمّ أوّلاً تحدید خصوصیّاته ومحمولات مصادیقه، ثمّ یصار ثانیاً، وعن طریق استقصاء الصفات العارضة علیه وبالإفادة من ذاتیّاته، إلى تشخیص ذلك المفهوم ثمّ نقوم بصیاغة تعریف له من خلال ترك الصفات العارضة والاعتماد على ذاتیّاته، فمن المستحسن أن نبدأ فی تعریفنا للمحبّة من المصادیق التی نلمسها نحن حضوراً ووجداناً.
ونستهلّ بحثنا بمصداق بسیط یُعدّ أفضل وأطهر مصادیق المحبّة، ألا وهو حبّ الاُمّ لأولادها. فإنّ من آثار محبّة الاُمّ لولدها هو اهتمامها به اهتماماً بالغاً. فالمرء إذا لم یحبّ شیئاً فإنّه لا یلتفت إلیه، وسیتساوى عنده وجوده وعدمه، أمّا إذا أحبّه فإنّه سیهتمّ به بدایةً، وسیزداد اهتمامه به كلّما نَمَت محبّته له. ومن آثار المحبّة الاُخرى هی رغبة الحبیب المستمرّة فی البقاء إلى جانب محبوبه، وهی الرغبة التی تتجلّى فی شوق الاُمّ إلى احتضان ولدها، وضمّه إلى صدرها، وتقبیله. كما أنّ من الآثار الاُخرى التذاذ المرء وإحساسه بالطمأنینة جرّاء اهتمامه وتعلّقه بحبیبه؛ فالأمّ عندما تضمّ طفلها تشعر بالطمأنینة والدفء، وما إن تنفصل عنه حتّى یساورها القلق.
ما ذكرناه فی الأمثلة آنفاً عن آثار المحبّة یرتبط بالحبّ بین موجودین. لكن أیمكن القول: إنّ المرء یحبّ نفسه؟ فقد نقول فی حواراتنا المتعارفة: إنّنی أحبّ نفسی. كما ویقال فی البحوث العقلیّة: إنّ أكثر ألوان المحبّة أصالة فی الإنسان هو حبّ الذات. وهذه البحوث تمتدّ وتتوسّع كثیراً حتّى تصل فی النهایة إلى مواطن دقیقة تثیر الكثیر من السؤالات والاستفسارات، من قبیل: لماذا نحن نحبّ الله؟ هل نحن نحبّه من باب أنّه یمنّ علینا بالنعم التی نحبّها ونلتذّ بها؟ فإذا كان الأمر كذلك، فإنّ ما نحبّه أصالةً هو لذّتنا. ولعلّنا نستطیع – إلى حدّ ما - الحدیث عن هذا الضرب من المحبّة فیما یتّصل بالله أیضاً، بل إنّ هناك من الأحادیث الشریفة ما یؤیّد هذا الزعم. وقد أكون كرّرتُ هذه الروایة على مسامعكم مراراً فی نفس هذا المجلس، وهی أنّ الله سبحانه وتعالى قد أوحى إلى نبیّه موسى (علیه السلام) فقال: «حبِّبنی إلى خلقی وحبّب خلقی إلیّ. قال: یا ربّ كیف أفعل؟ قال: ذكّرهم آلائی ونعمائی لیحبّونی»[4] [18]، فإنّنی قد أودعت فی بنی آدم فطرةَ حبِّ مَن أحسن إلیهم، فإنْ هم علموا مقدار إحسانی لهم ونعمائی علیهم لأحبّونی.
وهذه طریقة بسیطة، وسنتطرّق فی بحوثنا القادمة إلى قضیّة أنّ أسهل الطرق لتنمیة حبّنا لله هی التفكّر فی آلائه. أولیس الذی أنعم علینا بكلّ هذه النعم محبوباً؟! لكنّنا إذا حلّلنا هذا النمط من الحبّ جیّداً للاحظنا أنّنا فی هذه الحالة إنّما نحبّ لَذّاتنا بدایةً، وإنّنا نحبّ الله من حیث إنّه یعطینا ما نلتذّ به من النعماء. لكن هل یمكن أن یبلغ المرء فی هذا المضمار إلى مقام یحبّ فیه الله بما أنّه هو الله؟ فإنّنا نعثر فیما لدینا من تراث الأدعیة والمناجاة على ما نصّه: «إلهی! وعزّتك وجلالك لو قرنتنی فی الأصفاد... وأمرت بی إلى النار، وحُلْتَ بینی وبین الأبرار، ما قطعتُ رجائی منك... ولا خرج حبّك عن قلبی»[5] [19]. لكنّ إمامنا زین العابدین (علیه السلام) هو مَن یعلن هذا اللون من الحبّ، ولیس فی میسورنا ادّعاء مثله بهذه البساطة. فلتتخیّلوا بدقّة أنّهم اقتادونا فی أوّل لیلة بعد نزولنا فی القبر أو فی یوم القیامة إلى جهنّم، فهل یا ترى أنّنا سنحبّ الله ونحن فی مثل تلك الحالة؟! لكنّ الآیات القرآنیّة وأحادیث أهل البیت (علیهم السلام) تحدّثنا عن أنّ هناك عباداً یحبّون الله تعالى من أجله هو فحسب. ولعلّ بمقدورنا، من خلال التعمّق فی الآیات والروایات والأدلّة العقلیّة، أن نشمّ ولو نسمة من كیفیّة هذا الضرب من الحبّ، وصحیح أنّ المرء مالم یصبح هكذا، فإنّه لن یدرك كُنْه هذا الحبّ، غیر أنّ مجرّد أن یبذل الإنسان جهداً لنیل ذرّة من هذه المحبّة فهو مَغْنَم عظیم.
نعود الآن إلى تعریف المحبّة ونقول: إذا كان المراد من المحبّة هو حُبّ المرء شخصاً أو شیئاً آخر، فإنّه لا یعود لمحبّة الذات معنىً حینذاك. ولابدّ أن نُذكّر هنا بأنّ قولنا: «نحن نحبّ أنفسنا» إنّما یعود إلى أنّنا نرى نوعاً من الاثنینیّة بیننا وبین أنفسنا؛ فمرادنا من «نحن» هو روحنا المدرِكة، أمّا ما نقصده من «أنفسنا» فهو أبداننا. لكن فلنطرح هذه الشبهة بشكل آخر وبصورة أدقّ، وهو أنّ عین هذا الشخص الذی یقول إنّه یحبّ ذاته، فإنّه یحبّها حتّى وإن لم یدرك شیئاً اسمه «بدن». وهذا التساؤل مطروح أیضاً فی مراتب أعلى فیما یتعلّق بالله سبحانه وتعالى، وهو: هل یمكننا القول: «إنّ الله یحبّ ذاته»؟
لقد ذكر بعض العلماء وأهل المعقول فی هذا الخصوص: انّ أسمى لون من ألوان الحبّ فی الكون هو حبّ الله ذاتَه، وإنّ كلّ أشكال المحبّة الاُخرى إنّما هی شعاع من تلك المحبّة. یقول المرحوم الشیخ محمّد حسین الاصفهانیّ، فی حاشیته على «كفایة الاُصول» فی باب الطلب والإرادة: إنّ أعظم ابتهاج عند الله عزّ وجلّ هو ابتهاجه بذاته. ولعلّ التعبیر ﺑ «الابتهاج» یسمو قلیلاً على لفظة «المحبّة»؛ فهو لا یحبّ ذاته فحسب، بل ویبتهج بها أیضاً[6] [20]. أجل! فقد ساق بعض عظمائنا تعابیر من هذا القبیل. لكن بالطبع هناك أیضاً من یقول فی المقابل: هذا كلام غیر صحیح، ولابدّ من القول بوجود مضافٍ محذوف أو بالمجاز. بل لقد ذكر قوم آخرون: كما جاء فی الخبر بأنّ المراد من عبارة: «آسَفُونَا»، أی «أغضَبونا»، فی قوله تعالى: «فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ»[7] [21] هو «أغضبوا أولیاءنا»، فلابدّ من القول فیما یتّصل بمحبّة الله: إنّ المقصود هو محبّة أولیاء الله تعالى، فالله لیس ممَّن یُحَبّ. لكنّه هناك مَن یؤمن أیضاً بأنّ أحَبَّ موجودٍ فی الكون هو الله جلّ شأنه، وأنّ أرقى درجات المحبّة هی محبّته جلّ وعلا لذاته، وأنّ جمیع أنماط المحبّة الاُخرى إنّما هی شعاع محدود من تلك المحبّة غیر المتناهیة التی یكنّها الله لذاته.
فی میسورنا القول إنّه: عندما یحبّ المرء شیئاً یتولّد فی نفسه إحساس یجذبه نحو ذلك الشیء. ومن هذا المنطلق یمكننا اعتبار أنّ المحبّة هی شكل من أشكال الانجذاب الروحیّ. فكما یجذب المغناطیس الأشیاء الحدیدیّة، فإنّ المحبّة هی حالة من الانجذاب تصیب قلب الإنسان فتجذب روحه وقلبه باتّجاه محبوبه. وهنا یرد سؤال مفاده: كیف تحصل للإنسان هذه الحالة من الانجذاب إلى بعض الاُمور؟ وهل هی محض صدفة، أم إنّها تستبطن حكمةً ما؟
من الجلیّ أنّ بعض الحالات لا تكون باختیار المرء؛ فحبّ الاُمّ لولدها مثلاً خارجٌ عن اختیارها كما یبدو، إذ لیست القضیّة أنّ الأمّ تفكّر بأنّه من الأفضل أن تحبّ ولدَها، ثمّ تقرّر الشروع بحبّه. فهی لا تستطیع أساساً أن لا تحبّه، بل وكأنّها هی غیر مختارة فی هذا الأمر. لكن هل یمكن أن یصنع المرء اختیاراً ما یجعله یحبّ؟ وهل بالإمكان تقویة المحبّة أو إضعافها اختیاراً؟ فعلى الرغم من أنّ الانجذاب القلبیّ هو أبسط تعبیر یمكن استعماله بالنسبة للمحبّة، لكنّه لا یفصح أحیاناً عن حقیقة المحبّة كما ینبغی، وهو لا یخبرنا عن حقیقة هذا الانجذاب وماهیّته أیضاً. فلو عثر المرء على سرّ هذا الانجذاب، لحصل على مفتاح من شأنه أن یحلّ الكثیر من المسائل الاُخرى التی سیأتی ذكرها لاحقاً.
إنّنا عندما نحبّ شیئاً، مثلما إذا كان طعاماً أو لوحة فنّیة أو زهرة جمیلة مثلاً، فذلك یعنی أنّنا سنشعر بالنشوة عند اتّصالنا بذلك الشیء أو اجتماعنا معه. فإذا كان الأمر كذلك فإنّنا سننجذب إلیه، وإلاّ فلا. فلو افترضنا أنّ أحد شخصین یحبّ لوحة فنّیة بینما لا یدرك الثانی، الذی لا یملك أیّ حسّ فنّی، مكمن الجمال فیها، فإنّ انجذاب الأوّل إلى اللوحة یعود إلى التذاذه بها، وسبب عدم انجذاب الثانی إلیها هو عدم شعوره بهذه اللذّة. وهاهنا یُطرح سؤال: لماذا یلتذّ الأوّل باللوحة ولا یلتذّ الثانی بها؟ وهذا السؤال یُطرح بالنسبة لكلّ شیء یحبّه الإنسان. فالمرء سیبنی مع ما یحبّه علاقة تؤدّی إلى التذاذه به. بالطبع إنّ محبّتنا محدودة بالاُمور التی نعرفها نوعاً ما أو نشعر بالنشوة تجاهها. وذات الشیء یصدق على عدم حبّ الناس لأمرٍ ما، وهو أنّ شعوراً كهذا لا ینتابهم؛ فإمّا انّهم لا یدركون جماله، أو إنّه – من باب الصدفة - لا ینسجم مع ذوقهم، فلا یشعرون باللذّة تجاهه. إذن لابدّ من إضافة قید اللذّة إلى تعریف المحبّة والقول: المحبّة هی انجذاب المرء إلى ما یلتذّ بوَصْله. ونُضیف أیضاً: إنّ الالتذاذ یقتضی وجود تناسب بین الـمُدرَك وبین قوى المرء الإدراكیّة. ففیما یتّصل بحاسّة الذوق مثلاً نرى أنّ بعض الناس یحبّون طعاماً معیّناً قد لا یحبّه آخرون. إذن فلابدّ من تناسبٍ بین حاسّة الذوق والطعام الـمُذاق كی تحصل اللذّة. وهنا مكمن التغایر بین الناس فی فهمهم للجمال، وهی قضیّة تصدق حتّى على الحیوانات أیضاً؛ فبعض الحیوانات قد تبعث رؤیتها الاشمئزاز فی نفوسنا، لكنّ بعضها یحبّ البعض الآخر، بل وتلتذّ لرؤیة بعضها البعض. وعلى هذا فإنّ التعریف المبسّط للمحبّة هو الانجذاب إلى ما یتناسب مع قوى الإنسان الإدراكیّة ویلتذّ المرء به.
التعریف الآنف الذكر یختصّ بألوان المحبّة العادیّة التی یمارسها المرء. لكنّ السؤال «ما معنى انّنی اُحبّ نفسی؟» ما زال من دون إجابة، وهو سؤال یُطرح حتّى بالنسبة للباری جلّ وعلا. بل ثمّة سؤال آخر أیضاً هو: أساساً كیف یحبّ الله أمراً؟ أوَیمكن أن یشعر الله بالانجذاب؟ فالانجذاب هو انفعال وضعف وتأثّر، والله لا یقع تحت تأثیر شیء ما. فالانجذاب یصدق عندما تكون ثمّة جاذبیّة تجذب الطرف الآخر نحو الجاذب. فلو أحبّ الله شیئاً بهذه الصورة، لحصل له الانفعال، وهو محال على الله. وشبیه بهذا المضمون نقرأه فی دعاء عرفة للإمام الحسین (علیه السلام) حینما یقول: «إلهی! تقدّس رضاك أن تكون له علّة منك، فكیف یكون له علّة منّی»[8] [22]؛ وهو مبحث غایة فی علوّ المضمون. فطالما نقول فی حواراتنا: نفعل كذا لنرضی الله! لكنّ الإمام الحسین (علیه السلام) یقول فی یوم عرفة: إلهی! لا یسعنی أن أقول: إنّك ترضی نفسك، فما بالك بالقول: إنّنی اُرضیك! فإذا كانت المحبّة بمعنى الانجذاب، فهل إنّ حبّ الله شیئاً یعنی تأثّره بذلك الشیء؟! وهل ینجذب الله إلى أمرٍ ما یا ترى؟! وللردّ على مثل هذه المفاهیم العقلیّة الدقیقة هناك عادةً بضعة طرق متعارفة. أحدها هو قول بعضهم: نحن لا نفقه أیّ شیء فی هذا المجال، وعلینا التزام الصمت. وقد أراح أصحاب هذا الرأی أنفسهم من عناء البحث وألغوا الموضوع من الأساس. أمّا أصحاب الطریق الثانی فیقولون: هذه التعابیر مجازیّة. فهؤلاء یقولون بشكل من أشكال التجوّز فی هذا الباب ویلجأون إلى نمط من الفنون الأدبیّة لحلّ مشكلة الألفاظ.
وأمّا أهل الدقّة والتمعّن فی هذا الوادی فقد توسّعوا فی بحث هذه المفاهیم وقالوا: لیس لنفس الإنجذاب موضوعیّة، بل إنّ المطلوب هنا هو الاتّصال. وحتّى الاتّصال فإنّه لا یحصل إلاّ عندما یكون ثمّة اثنینیّة، أمّا عند غیاب الاثنینیّة، فتحلّ الوحدة محلّها. فالله هو وجودٌ واحد یتّسم بالكمال، وهو بذاته یحبّ ذاته.
إنّ صفات الله تعالى هی عین ذاته، ولیست خارجة عنها، وإنّ ما نشاهده نحن من التعدّد فی هذا المجال یعود إلى نقصٍ فی وجودنا. فكلّما كمُل الوجود أكثر، صار أكثر انسجاماً وبساطةً، وأصبح علمه عین حیاته، وحیاته عین قدرته. فعلم الله، ومحبّته، وكماله كلّها شیء واحد.
إذن فالمحبّة هی ضرب من الانجذاب، أو الارتباط، أو الاتّصال بموجودٍ ما؛ سواء أكان هذا الموجود ذاته، أم هو موجود آخر یُعَدّ كمال الوجود. فإذا تحقّق الكمال، التذّ به كلّ موجودٍ یمتلكه، هذا إذا عرف أنّه «كمال». من هذا المنطلق فإنّنا إذا رغِبْنا فی محبّة الله، فما علینا إلا أن نتعرّف - على قدر ما ترقى إلیه عقولنا - على كمالات الله عبر الطریق التی حدّدها هو نفسه، وأن نحاول اكتساب القدرة على إدراك الكمال. بالطبع هناك شروط اُخرى لذلك سنتعرّض لها فیما بعد.
هذه الأشكال من المحبّة هی اختیاریّة. لكنّ الله، بطبیعة الحال، قد أودع معادنها فی كیاناتنا. أمّا إیصالها إلى مرحلة الوعی، وتفجیرها، والإفادة والانتفاع منها فقد تُرك لاختیارنا نحن، وإنّه یتعیّن علینا نیلها عن طریق تقویة المعرفة وتوفیر الشروط.
رزقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
[1] [23]. سورة المائدة، الآیة 54.
[2] [24]. سورة الأحزاب، الآیة 23.
[3] [25]. مصباح الشریعة، ص192.
[4] [26]. بحار الأنوار، ج2، ص4.
[5] [27]. عدّة الداعی ونجاح الساعی، ص34.
[6] [28]. الابتهاج هو حالة تُعدّ من لوازم المحبّة ودواعی نیلها.
[7] [29]. سورة الزخرف، الآیة 55.
[8] [30]. إقبال الأعمال، ص349.
(3)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 4 كانون الأوّل 2013م الموافق للأوّل من صفر 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.(دوازده)
ذكرنا أنّ لمحبّة الله منزلة هی غایة فی الرفعة فی ثقافة الإسلام والتشیّع، لكنّ قیمتها – مع شدید الأسف – غیر معروفة كما ینبغی لها أن تُعرف. ولقد أوردنا فی المحاضرتین السابقتین بضعة أحادیث عن أهمّیة ومنزلة محبّة الله تعالى كی نستنیر بضیائها، ونتأمّل، بعض الشیء، فی كیفیّة حیازة هذه الجوهرة الثمینة، ونقف على شروطها وآثارها. أمّا الیوم فتعالوا ننهل معاً من معین حدیث آخر رواه المرحوم العلاّمة المجلسیّ (رضوان الله تعالى علیه) عن كتاب «مسكّن الفؤاد» للشهید الثانی[1] [31] وهو: «أوحى الله إلى بعض الصدّیقین[2] [32] [أی بعض الأنبیاء] أنّ لی عباداً من عبیدی یحبّوننی واُحبّهم، ویشتاقون إلیّ وأشتاق إلیهم، ویذكروننی وأذكرهم»[3] [33]، فإنّ لی عباداً (والقول لله تعالى) هذه هی صفتهم. فإنْ أنت عرفت طریقهم واتّبعتهم، فسأحبّك. وأمّا إذا انحرفتَ عن سبیلهم فسأغضب علیك: «فإنْ أخذتَ طریقهم أحببتُك، وإنْ عدَلتَ عنهم مقتُّك».
فقال النبیّ الصدّیق: «یا ربّ وما علامتهم»؟ فذكر الله له من علاماتهم ما یُعدّ غایة فی الغرابة بالنسبة لنا: «قال: یراعون الظلال بالنهار كما یراعی الشفیقُ غَنَمَه، ویحِنّون إلى غروب الشمس كما تحنّ الطیر إلى أوكارها عند الغروب»؛ فمَثَل هؤلاء كمَثَل الراعی الشفیق الرؤوف على غنمه، الذی یراقبها وهی ترعىٰ كی لا تغیب عن ناظریه، فإنّهم یراقبون الظلال طول النهار، حتّى إذا مالت الشمس نحو المغیب، وامتدّت الظلال إلى كلّ مكان، وخیّمت العتمة، استأنسوا بغروب الشمس كما تستأنس الطیر بأوكارها وتعود لتستقرّ فیها مطمئنّة عند الغروب. وكأنّهم كانوا طوال النهار ینتظرون قدوم المساء على أحرّ من الجمر لیلجأوا إلى ركن آمن. «فإذا جَنَّهُم اللیل، واختلط الظلام، وفُرشت الفُرُش، ونُصبت الأسِرّة، وخلا كلّ حبیب بحبیبه»؛ فعندما یتلاشى الضیاء فی أوّل اللیل، ویخیّم الظلام، وتُفرَش الفُرُش وتُعدّ الأسرّة استعداداً للنوم[4] [34]، ویخلو كلّ حبیب بحبیبه، «نَصَبوا إلیّ أقدامهم، وافترشوا إلیّ وجوههم»؛ یقف هؤلاء العباد بین یدَیّ مصلّین، ویخرّون على أعتابی ساجدین، ممرّغین بالتراب جباههم. «وناجَونی بكلامی»؛ فإذا هم قرأوا القرآن، مثلاً، خاطبونی بآیاته. «وتملّقونی بأَنعامی»؛ أی یتحدّثون إلیّ بتملّق[5] [35] ذاكرین ما أولَیتُ علیهم من النعم. «ما بین صارخٍ وباكٍ، وبین متأوّهٍ وشاكٍ [من الصبر على فراقی]، وبین قائمٍ وقاعدٍ [یتفكّر فی توجّه]، وبین راكعٍ وساجدٍ. بعینی ما یتحمّلون من أجلی»؛ فأنا غیر غافل عمّا یتجشّمونه من العناء فی سبیلی، وملتفتٌ إلى ما یتحمّلونه من المشقّات لمحبّتی. «وبسمعی ما یشكُون من حبّی»؛ فأنا أسمع أنینهم وشكواهم من فراقی.
وبعد أن اطّلعنا على علامات أحبّاء الله وأولیائه، تعالوا لننظر كیف یعاملهم جلّ وعلا. یقول تعالى: «أوّل ما اُعطیهم ثلاثاً؛ الأوّل: أقذف من نوری فی قلوبهم فیُخبِرون عنّی كما اُخبِر عنهم»؛ أی إنّهم سیطّلعون على ما فی قلبی كما أطّلع أنا على ما فی قلوبهم. وكأنّ القلوب تغدو مرتبطة مع بعضها فیطّلع كلّ واحد على قلب صاحبه.
«والثانی: لو كانت السماوات والأرضون وما فیهما من مواریثهم لاستقلَلْتُها لهم»؛ أی لو أنّنی وهبتهم كلّ ما فی السماوات وما فی الأرضین وما فیهما، لما استكثرتُه علیهم، ولو وضعت الوجود كلّه بین أیدیهم لقلتُ: إنّهم یستحقّون المزید. واللهُ لا یتكلّم بغیر الواقع، والعیاذ بالله. ألَم یهب كلّ ذلك لأهل البیت (علیهم السلام)؟! ألم یعط جلّ شأنه سیّدَ الشهداء (علیه السلام) العالمَ بأسره؟!
«والثالث: أُقبِل بوجهی علیهم»؛ أی ألتفت إلیهم واُعیرهم كلّ اهتمامی. وإذ أنّنا لا نفهم كیف یكون التفات الباری تعالى لعبده وإعارتُه إیّاه اهتمامَه، یتبعُ عزّ وجلّ كلامه بالسؤال: «أَفَتَرى مَن أقبلتُ علیه بوجهی یعلم أحد ما اُرید أن أُعطیَه»؟! وهو سؤال استنكاریّ ومعناه: لا أحد یعلم؛ كقوله تعالى: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِیَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْیُنٍ»[6] [36]. ولقد وردت إشارات ورموز عن ثمار هذا الإقبال الإلهیّ فی روایات اُخرى سنتطرّق إلیها فی المحاضرات القادمة إن شاء الله إذا مدّنی الله تعالى بالحیاة والتوفیق.
قلنا فی المحاضرة الفائتة إنّه لابدّ، للبحث حول موضوعٍ ما، أن نملك تعریفاً للمفهوم والحقیقة التی نبحث عنها. وأفضل تعریف هو ما یُقتنَص من دراسة المصادیق، والوقوف على لوازمها الذاتیّة. وقد توصّلنا تقریباً، فیما یتّصل بالمحبّة، إلى نتیجة مفادها أنّ المحبّة هی انجذابٌ عن وعی یلتفت فیه القلب إلى المحبوب، ویطلب قربَه، حتّى لا تبقى أیّ مسافة تفصلهما. وضربنا لهذا التعریف من محبّة الاُمّ لولدها مثلاً، وهو أنّها إذا احتضنت طفلها فإنّها لا تقنع بأقلّ من ضمّه بقوّة إلى صدرها، وهی تلتذّ من هذا الاتّصال لذّةً لا یتسنّى قیاسها باللذّات المحسوسة.
وقلنا إنّ المفروض من هذا التعریف للمحبّة هو أنّ المحبَّ غیرُ المحبوب؛ بالضبط كما هو الحال فی المفهوم المتعارف للعِلم، فعندما یقول المرء: أنا أَعلم، فهو یعنی أنّه یعلم شیئاً غیر ذاته، وأنّه ثمّة نوع من التعدّد بین القوّة المدرِكة والشیء المعلوم. لكنّه، بفضل التحالیل العقلیّة، والبراهین والأدلّة المستقاة من الوحی، فإنّ هناك ما یثبت أنّ الروح تحیط علماً بذاتها، بل ولنا أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول فیما یختصّ بالباری عزّ وجلّ: إنّ علم الله هو عین ذاته؛ فقد جاء فی الخبر: «وكمال الإخلاص له نفی الصفات عنه»[7] [37]. وهذا الأمر یجری أیضاً فی مجال المحبّة؛ فالمحبّة التی نمارسها نحن البشر هی أن نحبّ الآخرین، لكنّ التحالیل تشیر إلى إمكانیّة أن یحبّ المرء نفسَه، وأعلى مصادیق هذا النمط من المحبّة هی محبّة الله لذاته.
إنّ سبب حبّ الإنسان لشیءٍ ما هو ما یجده فیه من میزة. وبالتعبیر المتعارف، فإنّ للمحبوب كمالاً قد یكون محسوساً وقد لا یكون، وقد یكون مرئیّاً أو مسموعاً، وهو یُدعى الجمال. وقد تبعث على المحبّة كمالاتٌ اُخرى كالعلم، والتقوى، وما إلى ذلك. فقد نحبّ عبداً معیّناً من عبید الله حبّاً جمّاً فی حین أنّه قد لا یملك میزات ظاهرة، لكنّ تحلّیه بخصوصیّات معنویّة وروحیّة یجعلنا نرى فیه جمالاً معنویّاً فننجذب إلیه.
والقضیّة المهمّة التی یتعیّن الالتفات إلیها هی أنّنا أحیاناً نحبّ أمراً لنفسه، وأنّنا نستمتع بذاته، لكنّنا فی أحیان اُخرى قد نحبّ شیئاً من باب كونه الوسیلة التی توصلنا إلى محبوبنا. فنحن جمیعاً – على سبیل المثال – نحبّ الذهاب إلى كربلاء. فإذا تعهّد أحدهم بنفقات سفرنا إلیها، أو عرض علینا حملنا بسیّارته الخاصّة من باب منزلنا إلى هناك ومن ثمّ إرجاعنا إلى المنزل، فكم سنودّه؟ فلو أنّه لم یفعل ذلك لما أحببناه إلى هذا الحدّ، لكن بما أنّه أصبح وسیلة لإیصالنا إلى محبوبنا الأساسیّ فنحن نحبّه هو أیضاً. هذا النوع من الحبّ، فی الحقیقة، هو حبّ بالعَرَض؛ فالحبّ بالذات هو ذلك الحبّ الذی نكنّه للإمام الحسین (علیه السلام)، لكن بما أنّ هذا الشخص أصبح مقدّمة للوصول إلى المحبوب الرئیسیّ، فسنحبّه هو كذلك.
نستطیع هنا أن نفترض تقسیماً آخر للمحبّة، وهو حبّ متعلّقات المحبوب. فمثلاً: بما أنّنا نودّ السیّدة فاطمة المعصومة فإنّنا نحبّ مدینة قمّ لإنّها (سلام الله علیها) مدفونة فی أرضها. إذ من الواضح أنّه لیس فی مدینة قمّ بحدّ ذاتها ما یجذبنا، وإذا كنّا نحبّها فلأنّ ترابها یضمّ الجسد الطاهر لهذه السیّدة الجلیلة. وحتّى صحنها وحرمها فنحن نعشقهما لكونهما متعلّقین بها، وإنّ رغبتنا فی تقبیل ضریحها أیضاً یرجع إلى تعلّقه بها (سلام الله علیها). وهذا النمط من المحبّة یذكّرنا بالأبیات المعروفة لمجنون لیلى التی یقول فیها:
أمُـرّ عـــلى الدیـــار دیــار لیلىٰ اُقبّـل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبّ الدیار شغَفنَ قلبی ولكن حبّ مَن سَكَن الدیارا
فعندما یرتبط المرء بشخصٍ ما بعلاقة وثیقة وحمیمة فإنّه سیحبّ – مضافاً لحبّه له - كلّ ما یتعلّق به من دار، وكُتب، وثیاب، الخ. فإنّ من لوازم المحبّة أن یسطع على كلّ ما یتعلّق بالمحبوب شعاع من الحبّ. وبالطبع فإنّ هذه المحبّة تختلف باختلاف المراتب والدرجات؛ فكلّما كان الشیء أشدّ إظهاراً للمحبوب، كان أكثر محبوبیّة. لكن، على أیّة حال، فإنّ أقلّ انتساب إلى المحبوب یوجب المحبّة بما یتناسب مع مقدار هذا الانتساب. ویقال لهذا الصنف من المحبّة محبّة بالتبع؛ بمعنى أنّ المحبّ یحبّ ثیاب المحبوب حقّاً، لكن لیس لذاتها، بل لكونّها ثیاب المحبوب. فإنّ حبّ الشیعة لأهل البیت (علیهم السلام)، وتقبیلهم لأبواب مقاماتهم وجدرانها، ومسح رؤوسهم وعیونهم بترابها، هو أمر طبیعیّ. فالذین لا یدركون هذا المعنى لا یفقهون من الحبّ شیئاً، بل ویتّصفون بقلّة الشعور وقسوة الروح وجفافها. فكلّ مَن یمتلك عاطفة جیّاشة سلیمة یدرك أنّ هذا النوع من المودّة طبیعیّ، بل ویستحیل أن لا یكون.
وسنصل فی البحوث القادمة، إن شاء الله، إلى نتیجة مفادها أنّ أعلى وأكثر مراتب الحبّ أصالة ینبغی أن تُوجَّه لأكثر المحبوبین أصالة والذی یمتلك أكثر الكمالات أصالة، ألا وهو الذات القدسیّة المتمثّلة بالباری عزّت آلاؤه، وكلّ ما عداه فهو محبوب بالتبع. ولقد طرقت مسامعكم مراراً قصّة الحوار الذی دار بین ذلك الصبیّ والنبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) حیث قال الأوّل مقارناً حبّه للنبیّ بحبّه لله تعالى: «الله الله الله یا رسول الله! لیس هذا لك ولا لأحد، فإنّما أحببتُك لحبّ الله»[8] [38]؛ أی: هذه المحبّة هی من مختصّات الله، ولا صلة لها بك ولا بأحد غیرك على الإطلاق. فإذا حظینا بالمعرفة الصائبة فیتعیّن أن نكون هكذا، وأن نحبّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) لكونه نبیّ الله عزّ وجلّ. فإن لم نكن على هذه الصورة، فذلك راجع لنقص فی معرفتنا؛ حیث إنّنا أحللنا المحبّة بالتبع محلّ المحبّة الأصیلة. إذن علینا أن نصحّح معرفتنا، وأن نسعى جاهدین لمعرفة الكمال الأساسیّ، وأن نبحث عمّن هو محبوبٌ ذاتاً، وأن نعلم بأنّ الآخرین إنّما یكونون محبوبین تبعاً له.
إنّ شدّة المحبّة وعمقها یرتبطان باللذّة التی یحسّها المحبّ، وإنّ حبّ المحبّ لِلَذّته هو الذی یدفعه إلى حبّ متعلَّق هذه اللذّة أیضاً. وحبّ اللذّة هذا قد یكون عن وعی، وأنّ المرء یعلم أنّه یسعى وراء لذّته؛ كألوان المحبّة المجازیّة التی یعلم المرء فیها أنّ الطرف المقابل إنّما یفتّش عن لذّته ومرحه بحبّه، وإذا كان یلتذّ الآن برؤیته، فإنّه سیتركه غداً ویحبّ شخصاً آخر. لكنّ المحبّ یكون أحیاناً على جانب من الفناء فی محبوبه، والالتفات الكامل إلیه بحیث إنّه لا ینتبه إلى أیّ شیء آخر سواه، حتّى نفسه. وهذه حالة یطلق علیها بعض أرباب المعرفة اسم «حالة الفناء». ولابدّ من القول: إنّ الفانی هنا لا ینعدم، بل إنّ حالة تطرأ على المحبّ لا یلتفت معها لأیّ شیء آخر. وباستعراضنا لهذه الحالة، وسبرنا لأعماق قلب هذا المحبّ سنستنتج أنّه هو الآخر طالب لذّته، لكنّه غیر ملتفت إلى نفسه، ولا إلى لذّته. ولعمری فإنّ هذه لمقامات وحالات تحیّر مَن هم من أمثالنا حتّى فی خطوتها الاُولى. فإنْ وُجدَت مثل هذه المقامات حقّاً، وكان باستطاعتنا نیل نفحة منها، لكنّنا – مع ذلك – فرّطنا بها، فإنّنا لمغبونون غبْناً ما بعده غبْن!
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین.
1 [39]. كما هو شأن الشهید الأوّل فإنّ للشهید الثانی فی رقاب طلبة العلوم الدینیّة حقّاً عظیماً جدّاً. وكأنّ فی الأمر سرّاً أن یستفیض كلّ علماء الشیعة وفضلائهم من مائدة هذا الرجل الـمُعَدّة، ویفیدون من كتابه «شرح اللمعة» فی جمیع الحوزات العلمیّة. وهذا الكتاب، الذی دوّن نصّه الشهید الأوّل، وشرحه الشهید الثانی، یذكّرنا بمنزلة الشهادة فی ثقافة مذهب أهل البیت (علیهم السلام). وإنّ للشهید الثانی، بالطبع، إلى جانب شرح اللمعة، كتباً قیّمة اُخرى أیضاً؛ من جملتها «منیة المرید» الذی تُعدّ مطالعته والإفادة منه ضروریّة جدّاً لطلبة العلوم الدینیّة.
2 [40]. مقام الصدّیقین هو مقام بالغ العلوّ یستخدمه الله لبیان علوّ شأن بعض أنبیائه (علیهم السلام) كما فی قوله: «إِنَّهُ كَانَ صِدِّیقًا نَّبِیّاً» (سورة مریم، الآیتان 41 و56). كما ویذكره فی الآیة رقم 75 من سورة المائدة فی حقّ السیّدة مریم (سلام الله علیها) فی قوله: «وَأُمُّهُ صِدِّیقَةٌ». ویعنی هذا المقام إجمالاً أنّه لا أثر للكذب أو للمَجاز أو لأمثال ذلك فی وجود الصدّیق، فهو مفعم بالصدق من قمّة رأسه إلى أخمص قدمه، ولیس ثمّة تناقض بتاتاً بین قوله وفعله.
3 [41]. بحار الأنوار، ج67، ص26، نقلاً عن «مسكّن الفؤاد» للشهید الثانی.
4 [42]. لم یكن الأمر فی ذلك الزمن كما هو حال الناس فی أیّامنا حیث یبدأ العمل والتجوال والتسلیة مع بدایة اللیل. فلم یكن أحد یفكّر فی البقاء خارج البیت بعد الغروب؛ فالأزقّة تمسی مظلمة أثناء اللیل، ولا یُضاء فی أوّل المساء إلاّ فانوس فی السوق أو الأزقّة كی لا تظلّ حالكة الظلمة.
5 [43]. التملّق مذموم أیّاً كان مقداره أو الشخص المتملَّق له، لكنّ أعلى مراتب التملّق فی حضرة الباری عزّ وجلّ یُعدّ مطلوباً ومحبّذاً.
6 [44]. سورة السجدة، الآیة 17.
7 [45]. نهج البلاغة، الخطبة الاُولى.
8 [46]. إرشاد القلوب إلى الصواب للدیلمیّ، ج1، ص161.
(4)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 11 كانون الأوّل 2013م الموافق للثامن من صفر 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
تُصنَّف المحبّة تصنیفاً آخر حسب شدّتها وضعفها. فكلّنا قد جرّب هذه الحالة؛ وهی أن نحبّ اُموراً، لكن لیس إلى درجة أن یشغل حبّها قلوبنا وندیم التفكیر فیها، بل أن یقتصر على ابتهاجنا عند رؤیتها، ومیلنا إلى الاُنس بها، وعدم كُرهنا إیّاها. لكنّ المحبّة تكون أحیاناً على درجة من الشدّة بحیث تستحوذ على قلب المرء بتمامه فلا یعود یفكّر إلاّ بما تعلّق حبّه به. یقول القرآن الكریم فی وصف المؤمنین: «الَّذِینَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للهِ»[1] [47]، والشدّة هی فی مقابل الضعف؛ فعندما تصبح محبّة البعض لله أشدّ، یغدو حبّهم لما سواه أضعف. فإنّ احتواء القدح على الماء یجعله لا یتّسع لشیء آخر، وإذا اُلقی فیه شیء أثقل من الماء، مثلاً، فإنّ الماء یفیض وینسكب خارج القدح. یقول تعالى: «مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَیْنِ فِی جَوْفِهِ»[2] [48]، فلیس للإنسان غیر قلب واحد. فإنْ شغلَتْ محبّةُ شیءٍ ما قلب المرء لم یعد فیه مجال لشیء آخر. وإذا اُودع فی القلب شیئان، شغل الشیء ذو الحجم الأكبر مجالاً أوسع، وكلّما اشتدّ أحدهما، ضعف الآخر.
وهنا سؤال: كیف لمحبّة شیءٍ ما أن تضطرم، وكیف لمحبّة شیء آخر أن تخبو؟ ولماذا یَكُنّ شخصان لامرئ واحد درجتین من المحبّة، بل وقد یحبّه أحدهم ویبغضه الآخر؟ فأخو یوسف (علیه السلام) الشقیق كان یَكُنّ له مقداراً من الحبّ، أمّا إخوته الآخرون فكانوا لا یودّونه حسداً له، بل وكانوا على استعداد لإهلاكه أیضاً. وكانت علّة حسدهم لیوسف (علیه السلام) قولهم: «لَیُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِینَا مِنَّا»[3] [49]؛ فبما أنّ أبانا یحبّ یوسف وأخاه أكثر منّا، فیتحتّم علینا قتله! وللوقوف على هذا اللون من الاختلاف یتعیّن النظر فی كیفیّة تولّد المحبّة، والعوامل المساهمة فی إیجادها.
قلنا سلفاً إنّه ینبغی للمحبّ أن یرى فضیلة أو كمالاً فی المحبوب لتظهر المحبّة تجاهه، وهذا یعنی أنّه لابدّ من وجود كمال فی متعلَّق المحبّة. لكنّه قد یكون للمرء كمال من دون أن یطّلع علیه الناس. ومن هنا فإنّه یتحتّم أن یدرك الطرف المقابل هذا الكمال لتنشأ المحبّة. إذن فمن الواضح أنّ للمعرفة أثراً فی تولّد المحبّة، وأنّه كلّما كانت المعرفة أعظم، كان الحبّ أقوى وأشدّ. وكذا، كلّما اشتدّ الكمال فی المحبوب، أثار فی قلب المحبّ محبّة أكبر.
یُفهم من ذلك أنّ العامل الأوّل المؤدّی إلى اختلاف مراتب المحبّة هو اختلاف مرتبة الكمال الموجود فی المحبوب، وأنّ العامل الثانی لذلك هو اختلاف معرفة المحبّ بكمال المحبوب. كما أنّه لابدّ للمحبّ – علاوة على المعرفة – أن یعتقد بكمالیّة هذه الصفة فی المحبوب، وإلاّ فإنّ عدم اعتقاده بكونها فضیلة فیه سوف لا یدفعه إلى حبّ صاحبها. فالمتدیّنون یحبّون الشخص المتّقی لاعتقادهم بأنّ فی التقوى حُسناً للمرء، أمّا الفسّاق، الذین لا یرون فی التقوى فضیلة، فإنّهم یرمون عمل الشخص المتّقی بالجهل وقلّة الفهم.
كما أنّه لابدّ – بعد كلّ ذلك – من التمعّن والتركیز؛ فكلّما دقّق المرء أكثر فی كمال شیءٍ ما، زاد حبّه له. فضیاء الشمس لا یحرق الورقة فی الأحوال العادیّة، لكنّه إذا رُكِّز على الورقة بواسطة عدَسَة فإنّه سیولّد حرارة تحرقها. ومِثله حال الروح، فهی إذا تمعّنت فی فضیلة معیّنة بشكل كامل، فسوف تتأجّج فیها المحبّة، وسیؤول الأمر إلى الشغف، ومراتب العشق العلیا، والخ.
یتّضح ممّا سبق أنّ اشتداد أو ضعف أیّ واحد من هذه العوامل سیؤدّی إلى اشتداد أو ضعف فی المحبّة. ومن المواطن التی یمكن عندها قیاس نسبة المحبّة تجاه القضایا المتنوّعة بكلّ سهولة هو تزاحم لوازم المحبّة. فإذا دُعی شخص من قبل صدیقین له فی آن واحد فرجّح دعوة أحدهما على دعوة الآخر بلا تردّد، كان ذلك دلیلاً على رجحان محبّته لهذا الصدیق على محبّته للآخر. وحتّى الأطفال فإنّهم یدركون، من خلال تصرّف أبویهم، أیُّ واحد من الإخوة محبوب لدى الأبوین أكثر، ولهذا ینبغی على الوالدین أن یسیطرا على سلوكهما تجاه أطفالهما كی لا یشعروا بالتمییز، وإلاّ فسیمهّدان لبوادر الحسد والأذى والعذاب النفسیّ.
یقول الله عزّ وجلّ فی الآیة الرابعة والعشرین من سورة التوبة: «قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِیرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَیْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِی سَبِیلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ یَأْتِیَ اللهُ بِأَمْرِهِ». فالله تعالى یضع الأب والاُمّ، والأبناء، والإخوان، والأزواج، والعشیرة، والدور، والقصور، والتجارة والأموال فی كفّة، ویضع نفسه [ورسوله] والجهاد فی سبیله فی الكفّة الاُخرى، ثمّ یقول: أیّ واحدة من الكفّتین تفضّلون؟ فمعظمنا یزعم: أنّ حبّی لله أكبر، لكن ما إنْ یواجه مفترق طریقین حتّى یُعلَم إلى أیّ الأمرین یمیل قلبه أكثر. فلیس ثمّة «جبهة» أو جهاد فی الوقت الحاضر ولكلٍّ منّا أن یدّعی أنّ حبّه لله وللجهاد لا ینازعه أیّ حبّ ویصرّ على ادّعائه. لكنّ ظروف الحرب والقتال هی التی من شأنها أن تكشف مدى صدق هذا الادّعاء، فإنْ أنا توجّهتُ إلى الجهاد حینها، عُلِم أنّ حبّی لله أعمق، أمّا إذا التمستُ الأعذار واتّخذتُ الذرائع، فسیصبح معلوماً أنّنی اُحبّ ما سوى الله أكثر. نفهم من ذلك أنّ من أمارات شدّة الحبّ هی استعدادنا للعطاء والتضحیة فی سبیل المحبوب؛ وهذا المعنى نقرأه فی زیارات أهل البیت (علیهم السلام) عندما نقول: «بأبی أنتم وأمّی ونفسی وأهلی ومالی وولدی»[4] [50]؛ فنحن نزعم أنّ كلّ ما عندنا هو فداء لكم! لكن ما هو مدى إیماننا بذلك؟ وإلى أیّ درجة نحن مستعدّون لأن نُظهر عملیّاً أنّنا نحبّ الله وأولیاءه أكثر من أموالنا وأنفسنا؟!
ذكرنا أنّه یجب علینا أن نركّز انتباهنا على المحبوب كی تتحوّل هذه الحالة إلى محبّة ثابتة، وإلاّ فإنّها سوف لا تتعدّى حدّ اللذّة العابرة التی ستخبو وتُنسى بعد حین. فالمحبّة الراسخة من دون نسیان هی رهن بمقدار التفات الإنسان إلى المحبوب، وكلّما عظُم الاهتمام بالأخیر وزاد ذكره، اشتدّ حبّه. والعلاقة بین الذكر والمحبّة هی علاقة متبادلة أیضاً؛ فالمحبّة تبعث على الذكر أوّلاً، لكنّ الإنسان إذا استمرّ فی الذكر اختیاراً، فستزداد محبّته، وهی بدورها ستقود إلى المزید من الذكر، وهكذا. والعكس أیضاً صحیح؛ فقد یصرف الإنسان نفسه عن ذكر المحبوب فتضمر محبّته فی قلبه تدریجیّاً. وهذا یكشف لنا علّة تأكید القرآن الكریم والسنّة الشریفة على ذكر الله؛ یقول عزّ من قائل: «وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِیراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»[5] [51]. فلیس هذا الإصرار عبثاً، لأنّ لكلّ قول أثره على القلب وهو یساعد على تشدید الالتفات إلى الله جلّ شأنه والتوجّه إلیه. فمع كلّ تكرار – سواء أقَوِیَ أم ضَعُف - التفات جدید. فإذا وُفِّق المرء إلى ذكر مستمرّ وثابت لله تعالى، دامت محبّته له مدّة أطول.
وهذه هی آلیّة ظهور المحبّة ونموّها، أو ضمورها وزوال أثرها. ولا بأس أن نفتّش فی أنفسنا لنرى هل نحن نحبّ الله أم لا، وما هی طبیعة محبّتنا له عزّ وجلّ؟ فهل نحن نحبّ الله أكثر من غیره؟ وهل إنّ رُجحان محبّتنا لغیر الله یخضع لمعیار صحیح، أم إنّه بسبب جهلنا؟ إنّ تأمّلنا فی هذه المسائل یساعدنا على قیاس نسبة محبّتنا لله سبحانه وتعالى. فنحن – فی الحقیقة – نقع فی أخطاء كبیرة فی اختیارنا لما نحبّ ومَن نحبّ. فلو فكّرنا بشكل صحیح وتلمّسنا الطریق الصواب فی ذلك، لأحببنا الله أكثر من غیره.
لقد قلنا سابقاً إنّ ممّا یورث ازدیاد المحبّة هو الالتفات إلى شدّة كمال المحبوب. فهل ثمّة فی هذا الكون شیءٌ یفوق الله تعالى فی كماله یا ترى؟! كلّنا یعلم أنّه ما من شیء فی هذا الكون إلاّ وقد اُوجِد بأمر واحد من الله عزّ وجلّ: «إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَیْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَیَكُونُ»[6] [52]. فلقد شعّ من ذلك المصدر غیر المتناهی شعاع ظهَرَ فی أثره كلّ هذا العالم: «وَمَا أَمْرُنَا إِلاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ»[7] [53]؛ وإلا فإنّه ما من جمال فی هذا العالم یمكن أن یمثّل طرف النسبة مع جمال الباری جلّ وعلا.
لقد بحث علماء الریاضیّات فی قضیّة أنّه: هل یمكن رفع قیمة ما لانهایة إلى قوّة ما لانهایة؟ فلنبدأ أوّلاً بالضرب؛ ففی الریاضیّات یمكن افتراض ضرْبِ قیمةِ ما لانهایة بمثلها؛ كأن یكون هناك خطّ غیر متناهٍ فی الطول له عرض غیر متناهٍ أیضاً، فتُكتب صیغته: (ما لانهایة × ما لانهایة). والآن إذا أردنا استخراج حجمه فإنّنا سنضرب حاصل الضرب بما لانهایة أیضاً؛ أی: (ما لانهایة × ما لانهایة × ما لانهایة)، وهی عملیّة ذات ثلاثة مُعامِلات. لكنّ السؤال هو: هل یمكننا افتراض أنّ قیمة المعامِل لا نهایة لها؟ هذا مجرّد فرض. وعلى الرغم من أنّه بعید عن الواقع، ولا یمكن تمثیله فی هذا العالم، لكنّه یساعد كثیراً على تقریب بعض المسائل العقلیّة إلى الذهن.
فی إحدى سفراتی إلى الخارج قبل بضع سنوات كنتُ فی ضیافة أحد النوابغ الإیرانیّین من طلبة الدراسات العلیا فی فرع الریاضیّات فی جامعة «اكسفورد» البریطانیّة، فسألته السؤال التالی: كنّا نفترض للكون ثلاثة أبعاد: الطول والعرض والارتفاع، حتّى جاء «اینشتاین» فأثبت كون الزمن هو البعد الرابع للعالم، الذی یُعدّ – بشكل من الأشكال – من لوازم «الحركة الجوهریّة» التی قال بها «الملاّ صدرا» أیضاً. فهل یجوز افتراض أبعاد اُخرى للعالم یا ترى؟ فانطلاقاً من مقولة كون العالم ذا أربعة أبعاد، فإنّه ثمّة أربعة خطوط تلتقی فی نقطة مركزیّة، فهل لنا أن نفترض خطّاً خامساً مثلاً؟ وإذا كان الجواب بالإیجاب، فإلى أیّ حدّ یمكن أن تزداد هذه الأبعاد؟ أولَیس ثمّة عدد لا نهایة له من الخطوط یمكن أن تلتقی فی نقطة واحدة؟ إذن فلماذا لا نقول: إنّ للكون أبعاداً لا تدركها عقولنا؟! فقال هذا الشخص فی جوابه: من محاسن الصُدَف أنّ هذا البحث مطروح فعلاً، وقد توصّل بعضهم إلى الآن – كفرضیّة قابلة للقبول – إلى افتراض سبعة أو حتّى اثنی عشر بعداً ممكناً، لكن لیس هناك أدنى دلیل على عدم إمكانیّة زیادتها عن هذا العدد.
وعلى الرغم من أنّ تصوّر مثل هذه المسائل صعب إلى حدّ ما، لكنّ بعض المسائل الریاضیّة تسهّل لنا فهم الكثیر من المباحث العقلیّة والدینیّة. فكلّ أصحاب الأدیان فی العالم یقرّون بحقیقة أنّ الحیاة الدنیا متناهیة وأنّ الحیاة الاُخرى غیر متناهیة. فإذا أردنا مقارنة الدنیا بالآخرة، فإنّ غایة ما تصل إلیه عقولنا هو القول: إنّ الآخرة أزید من الدنیا ألف مرّة. لكنّ النسبة بین الواحد والألف هی نسبة بین قیمتین متناهیتین، وإذا كانت الآخرة غیر متناهیة، فلا یوجد أیّ تناسب بین عمر الدنیا وعمر الآخرة. وهی مسألة یمكن إدراكها بسهولة بالغة من خلال صیغة ریاضیّة بسیطة مفادها أنّه لا تناسب بین المتناهی وغیر المتناهی.
ذكرنا أنّه إذا زاد كمال شیءٍ فسیزداد اقتضاء تعلّق المحبّة بهذا الشیء بنفس المقدار. فإن كان لدینا شیئان وكان للأوّل وحدة كمال واحدة وللثانی وحدتان، لاستوجب ذلك أن تتعلّق بالثانی ضعف ما للأوّل من المحبّة. فماذا لو بلغ كمال الثانی إلى مائة أو ألف ضعف؟ ولو وصل مُعامِل هذا الكمال إلى ما لانهایة له، فكم سیستحقّ هذا الشیء من حبّ حینئذ؟ لكنّ حبّ هذا الشیء هنا مشروط بإدراكنا هذا الكمال، وعلمنا بأنّ هذا الشیء یملك هذا الكمال. فالطفل مثلاً یحبّ لُعَبه كثیراً، لكنّه لا یعیر اهتماماً لكثیر من الكمالات الاُخرى، بل وحتّى الجواهر النفیسة. فمن المسلَّم أنّ للطفل عینین وأنّه یرى جمال حبّة الماس، لكنّه یأنس بالحجر الذی یستخدمه فی لعبته أكثر من اُنسه بهذه الماسة الثمینة، ولذا فهو لا یهتمّ بها، بل وإنّه مستعدّ لأن یستبدل بها بضع خرز عادیّة. بتعبیر آخر فالطفل لا یدرك كمال الماسة، ولو أنّه أدرك هذه المیزة فیها لأحبّها هی الاُخرى، لكنّ إدراكه فی هذه المرحلة منحصر بخرز لَعِبه.
إنّ مشكلتنا هی عدم قدرتنا على إدراك الله تعالى. فأغلب ما نأنس به هو مدركاتنا الحسّیة. نعم، إذا أَعمَلنا غایة براعتنا فإنّنا سنُسعف إدراكنا بقوّة الخیال لندرك بعض الاُمور الإضافیّة. فالطفل مثلاً یفهم أنّ اُمّه تحبّه، وهو لذلك یتغنّج علیها ویرتمی فی أحضانها. إنّه یدرك هذا النمط من المحبّة بواسطة قوّة الوهم[8] [54]. فالذات الإلهیّة وحتّى صفات الله وكمالاته غیر قابلة للإدراك والمشاهدة، لكنّ العقل، وبعد تعب ونَصَب لعشرات السنین وتركیز على المسائل العقلیّة والصفات الإلهیّة، یمكنه أن یتوهّم اُموراً فی هذا المجال. فقد جاء فی الخبر: «كلّما میّزتموه بأوهامكم فی أدقّ معانیه مصنوع مثلكم مردود إلیكم»[9] [55]. فإنّ فهمنا قاصر جدّاً، لكنّه بالنسبة لمن لا یدرك أبداً یُعدّ كنزاً ثمیناً.
على أیّة حال فإنّ السبب فی كوننا لا نحبّ الله كما ینبغی عائد لكوننا لا ندرك كمالاته، بل ولا نعرف حتّى كمالات أولیائه، مثل النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وأمیر المؤمنین وسائر الأئمّة الأطهار (صلوات الله علیهم أجمعین) وأبنائهم، بل وقد نبتعد عنهم، للأسف، إلى درجة تثیر فی أذهان البعض تساؤلات عمّا إذا كان العالِم أو المجتهد أو الفیلسوف الفلانیّ – والعیاذ بالله - یعرف الله أفضل أم السیّدة المعصومة (سلام الله علیها) مثلاً.
الطریق الأسهل لاكتساب محبّة الله هی نیلها بالواسطة، وهی طریقة وردت فیها روایات كثیرة تنتهی جمیعها إلى حدیثین قدسیّین، أحدهما هو: «أوحى الله تعالى إلى موسى (علیه السلام): أَحبِبنی وحَبِّبنی إلى خلقی. قال موسى (علیه السلام): یا ربِّ إنّك لتعلم أنّه لیس أحد أَحَبَّ إلیّ منك، [فأنت أحَبّ موجود عندی] فكیف لی بقلوب العباد؟»، فقلوب الناس لیست فی یدی، فكیف أجعلهم یحبّونك؟ «فأوحى الله إلیه: فذكِّرهم نعمتی وآلائی، فإنّهم لا یَذكُرون منّی إلاّ خیراً»[10] [56]فإنّهم قد جُبِلوا على محبّة مَن علموا بحبّه لهم.
أمّا حبّ الله بلا واسطة ضمن تلك الحدود المتاحة للمخلوق فهی تتمثّل بما یملكه شخص النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) والأئمّة المعصومین (علیهم السلام) من معرفة شهودیّة بالله تعالى. ونحن نعلم أنّ هذا النمط من المعرفة هو ممكن، وأنّهم (علیهم السلام) یمتلكون أعلى مراتب المعرفة[11] [57]. وإنّ توقُّعَنا اكتساب هذه الدرجة من المعرفة هو توقّع لیس فی محلّه؛ فهذا الرداء لیس هو على مقاسنا، وإنّ مسافة شاسعة تفصلنا عن هذا المقام، لكنّ ضمیر الإنسان – على الأقلّ – یدفعه إلى الشعور بالحبّ نحو مَن أسدى إلیه خدمة، وهو بودّه أن یعرب له عن شكره كلّما رآه، خصوصاً إذا كانت هذه الخدمة فی ساعة عسرة، فإنّ المرء لن ینساها ما دام حیّاً. هذا هو مقتضى فطرة الإنسان، وقد أودع الله أساس ذلك فی طینة جمیع بنی البشر، فإنّهم ما إن یعلموا بصدق المرء فی حبّه لهم وعدم انتظاره شیئاً منهم فی المقابل، فإنّهم سیحبّونه. فالله تعالى یقول لنبیّه موسى (علیه السلام): «فذكِّرهم نعمتی وآلائی»! فإنّ السبب فی عدم حبّ الناس لی على قدر ما یعلمون وما یستطیعون هو عدم التفاتهم إلى آلائی. وقد ذكرنا أنّ الشرط الأخیر فی تولّد المحبّة هو الالتفات؛ فكلّما بذلنا جهوداً أكبر فی التعرّف على نِعم الله عزّ وجلّ، وأدركنا قیمتها على نحو أفضل، وعلمنا أنّه سبحانه وتعالى قد أولانا إیّاها مجاناً من دافع لطفه وكرمه ومحبّته، فستتنامى محبّتنا له جلّ شأنه.
وفّقَنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1 [58]. سورة البقرة، الآیة 165.
2 [59]. سورة الأحزاب، الآیة 2.
3 [60]. سورة یوسف، الآیة 8.
4 [61]. البلد الأمین، ص309.
5 [62]. سورة الجمعة، الآیة 10.
6 [63]. سورة النحل، الآیة 40.
7 [64]. سورة القمر، الآیة 50.
8 [65]. قوة الوهم (الواهمة) هی قوّة باطنیّة تدرك غیر المحسوسات.
9 [66]. منهاج البراعة فی شرح نهج البلاغة (الخوئیّ)، ج10، ص21
10 [67]. بحار الأنوار (طبعة بیروت)، ج67، ص22.
11 [68]. هذه المعرفة هی معرفة شهودیّة، ولیست معرفةَ إحاطةٍ بذات الله سبحانه وتعالى.
(5)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 18 كانون الأوّل 2013م الموافق للخامس عشر من صفر 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
ذكرنا سلفاً أنّه من أجل اكتساب الدافع لمحبّة الله تعالى فإنّه لابدّ من الوقوف على قیمة هذه الفضیلة. ومن حیث إنّ أفضل السبل لمعرفة هذه الفضیلة هی كلام المتحلّین بأعلى مراتبها، نرى من المناسب بدایةً أن نستعرض روایة عن أهمّیة هذا النمط من المحبّة.
یروى عن الإمام زین العابدین (علیه السلام) أنّه قال: «إذا صار أهل الجنّة فی الجنّة ودخل ولیّ الله إلى جنّاته ومساكنه واتّكأ كلّ مؤمن [منهم] على أریكته حفّته خدّامه»[1] [69]؛ أی: إذا دخل المؤمن الجنّة واستقرّ فیها وانهالت علیه آلاء ربّه ممّا اُعِدّ لكلّ مؤمن من بساتین وقصور واتّكأ على أریكته، جاء عدد غفیر من الملائكة وتحلّقوا حوله وجعلوا أنفسهم فی خدمته. «وتهدّلت علیه الثمار، وتفجّرت حوله العیون، وجرت من تحته الأنهار، وبُسِطت له الزرابیّ، وصُفِّفَت له النمارق، وأتته الخدّام بما شاءت شهوته من قبل أن یسألهم ذلك»؛ أی بُسط من تحته فراش الجنّة الذی هو من أفضل السجّاد، وصُفِّفت له الوسادات للاتّكاء علیها وأتّته الملائكة بما اشتهى قبل أن یطلبه منهم. «ویخرج علیهم الحور العین من الجنان فیمكثون بذلك ما شاء الله»؛ أی تبقى عنده أزواجه من الحور العین إلى المدّة التی یشاء.
حتّى إذا توفّرت للمؤمنین كلّ تلك النعم واستقرّوا هناك بشكل كامل یشرف علیهم الله عزّ وجلّ ویخاطبهم: «ثمّ إنّ الجبّار یُشرِف علیهم فیقول لهم: أولیائی، وأهل طاعتی، وسكّان جنّتی فی جواری! ألا هل اُنَبِّئُكم بخیر ممّا أنتم فیه؟ فیقولون: ربّنا وأیّ شیء خیر ممّا نحن فیه؟! [نحن] فیما اشتهت أنفسنا ولذّت أعیننا من النعم فی جوار الكریم. قال: فیعود علیهم القول. [وإذ أنّه خلاف الأدب أن یقولوا: لا نرید أن تنبّئنا، ولا یوجد شیء أفضل ممّا نحن فیه] فیقولون: ربّنا نعم، فأتنا بخیر ممّا نحن فیه، فیقول لهم تبارك وتعالى: رضای عنكم ومحبّتی لكم خیر وأعظم ممّا أنتم فیه. قال فیقولون: نعم یا ربّنا، رضاك عنّا ومحبّتك لنا خیر لنا وأطیب لأنفسنا». ثمّ یقرأ (علیه السلام) الآیة المرقّمة 72 من سورة التوبة التی تسرد فی مستهلّها آلاء الجنّة: «ثمّ قرأ علیّ بن الحسین (علیه السلام) هذه الآیة «وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِینَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدِینَ فِیها وَمَساكِنَ طَیِّبَةً فِی جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ»».
تُنبئنا أمثال هذه الروایات أنّه ثمّة نِعم تفوق الآلاء المحسوسة، وأنّ المؤمنین - بعدما ینعمون بكافّة النعم والآلاء - إذا أحسّوا بأنّ الله یحبّهم وأنّه راضٍ عنهم فسیشعرون بلذّة تفوق كلّ ما یشعرون به من لذّات جرّاء ما هم فیه من النعم. لذلك فلا ینبغی أن نقصر همّتنا على الاُمور المادّیة والنعم الدنیویّة والأشیاء المرتبطة بالبدن والمحسوسة بالحواسّ الظاهرة.
ینقل أحد الأصدقاء أنّه سمع المرحوم آیة الله الشیخ بهجت (رضوان الله تعالى علیه) یقول فی لیلة بعد صلاته: «لو علم الملوك ما فی الصلاة من لذّة لكانوا على استعداد للتخلّی عن مُلكهم من أجل أن یصیبوا لذّة الصلاة». ولعمری إنّها لاُمور خارجة عن إدراكنا. فنحن نشعر أثناء الصلاة وكأنّنا محبوسون فی قفص ننتظر لحظة الخلاص منه. لكن من حیث انّ آیة الله بهجت لم یتعوّد إلقاء الكلام على عواهنه، وانّه لیس فی مقدور المرء التفوّه بكلام كهذا ما لم یذق بنفسه طعم هذه اللذّة، فإنّ من الواضح أنّ لذّة من هذا القبیل هی موجودة فعلاً.
یقول استاذ آیة الله بهجت، المرحوم آیة الله القاضی (رضوان الله تعالى علیه) جواباً على سؤال حول ما إذا كانت هناك صلاة فی الجنّة أو لا: «أیّ جدوى فی الجنّة یا ترى إذا كانت بلا صلاة»؟! فمضافاً إلى اللذّة التی یحسّها هذا الرجل فی الصلاة فی الحیاة الدنیا فإنّه یطمح أن یتمكّن من الصلاة فی الجنّة أیضاً. فاللذّة التی یشعر بها فی صلاته لا یمكن لعقولنا تصوّرها. وصحیح أنّنا لا نفهم ماهیّة هذه اللذّة، لكن علینا أن نعلم أنّه ثمّة أشیاء من هذا القبیل فعلاً.
نسأل الله تعالى ببركة قائل هذه الروایة ونورانیّتها أن یغمر قلوبَنا الاستعدادُ لطلب مثل هذه المحبّة؛ وهی المحبّة التی تنطوی على كلّ هذه القیمة، والتی تتضاءل أمامها جمیع أشكال المحبّة الدنیویّة.
لقد قلنا سلفاً إنّ أبسط السبل لاكتساب محبّة الله هی التفكّر فی نعمائه عزّ وجلّ. فعندما یشاهد المرء أنّ أحداً قد أسدى إلیه خدمة لا یمكن مقارنتها بخدمات الآخرین من دون انتظار شیء فی المقابل، فإنّه سیحبّه فطریّاً. ومن أجل إدراك هذا الموضوع على نحو أفضل فإنّ من المناسب أن نتذكّر فی خلواتنا خدمةً جلیلةً أسداها أحدهم إلینا فی وقت الحاجة. فالإنسان یتذكّر هذه الخدمة على الدوام وفی كلّ حین. والآن فلنقارن بین خدمات الباری الجلیل وخدمات الآخرین. فأیّ كمّ هائل من الخدمات یمنّ بها الباری تعالى فی كلّ لحظة على كلّ شخص! وهی نعماء لا یستطیع المرء إحصاءها حتّى آخر عمره؛ لقوله تعالى: «وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوهَا»[2] [70].
قبل بضع سنین تحدّث قائد الثورة المعظَّم آیة الله الخامنئیّ (دام ظلّه) فی اجتماع مع مسؤولی النظام الإسلامیّ عن شكر الله تعالى قائلاً: إنّنی اُكابد ألماً مستمرّاً فی یدی الیمنى، وقد أخبرنی الأطبّاء بعد سنوات من العلاج بأنّ هناك عدّة حزم عصبیّة - تتألّف كلّ واحدة منها من ملایین الخلایا العصبیّة – مرتبطة مع بعضها ولابدّ أن تتعاون فیما بینها لتحرّك إصبعاً واحداً. فهناك عدّة مجموعات من الأعصاب تمتدّ من الدماغ إلى أطراف الأصابع یتوقّف أداء كلّ منها على الاُخرى، وإنّ كلّ واحدة منها تتكوّن من ملایین الخلایا العصبیّة الحیّة، وإنّ على جمیع تلك الخلایا أن تتكاتف مع بعضها كی یتمكّن المرء من تحریك إصبع واحد! فنحن نتحرّك فی كلّ لحظة كما نشاء وإنّ جمیع هذه الأعضاء هی تحت تصرّفنا، لكنّنا لم نفكّر یوماً أن نحصی كم من النعم قد اجتمعت لتمكّننا من التفوّه بكلمة واحدة، أو شرب جرعة من الماء. فجمیع هذه الآلاء هی من الله عزّ وجلّ ونحن كلّما تعرّفنا علیها أكثر وفكّرنا فیها ملیّاً، ازداد حبّنا لواهبها. لكنّ هذه المحبّة تتعلّق ذاتاً باللذّة الناجمة عن النعمة.
وإذا حلّلنا هذه المحبّة تحلیلاً عقلیّاً نستنتج أنّ الإنسان – فی الحقیقة – یحبّ النعمة، وهو یحبّ المنعِم بالعَرَض. ومع أنّ هذه المحبّة تُعدّ نفیسة وقیّمة للغایة مقارَنةً بالعبادات الممارَسة بسبب الخوف من العذاب أو الأمل فی نعیم الجنّة[3] [71]، لكنّه ثمّة اُناس یحبّون الله من أجله هو؛ هذا وإن كان لهذه المحبّة أیضاً مراتب ودرجات. فقد نقول أحیاناً إنّنا نحبّ امرأ، لكنّنا فی الواقع نحبّ صفاته. غیر أنّ هناك أشخاصاً تتعلّق محبّتهم بذات الله تعالى، ومن ثمّ تسری منها إلى غیرها. وهذه هی نفس تلك المحبّة التی سَرَت بدایةً إلى النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) ومن ثمّ إلى الأئمّة الأطهار (علیهم السلام) والوجود المقدّس لصاحب العصر والزمان (أرواحنا فداه) ومن ثمّ إلى أولیائه من بعده. فالمحبّة التی نشعر بها نحن تسری من المخلوقات إلى الله تعالى، لكنّه ثمّة اُناس قد ألقى الله محبّته فی قلوبهم، أو بالأحرى: إنّه تعالى قد أراهم جماله وجلاله.
إذا أردنا أن نتسامى ونصعد فوق هذه الدرجة من المحبّة التی تتعلّق ذاتاً بنعم الله عزّ وجلّ فإنّ علینا التفتیش عن محبّة تتعلّق بصفاته. فالإنسان مفطور على الشعور بالتعلّق قلباً بالموجود الذی یملك الكمالات حتّى وإن لم یره أبداً، أو أنّه لا یرجو رؤیته على الإطلاق. فكلّنا – على سبیل المثال – نحبّ حاتم الطائیّ ونثنی علیه مع أنّ أحداً منّا لم یره، بل ولا نتوقّع أن یصیبنا من عطائه وكرمه شیء. فنحن – فی الحقیقة - فی هذا النمط من المحبّة إنّما نحبّ ما فی حاتم من صفة السخاء والكرم فنشعر أنّنا نحبّ مثل هذا الإنسان حتّى وإن لم ننل من كرمه شیئاً. وهذا الأمر یصدق أیضاً على الفدائیّین والأبطال الوطنیّین الذین قدّموا خدمات جلیلة وسطّروا بطولات جسیمة. إذ أنّنا معاشر البشر تغمر قلوبَنا محبّةٌ تجاه أمثال هؤلاء مع أنّنا لا نصیب منهم شیئاً. وإنّ باستطاعتنا تطبیق نظیر ذلك على الله عزّ وجلّ، ولابدّ - من أجل ذلك – من السعی والاجتهاد للتعرّف أكثر فأكثر على صفات الباری تعالى.
إنّ من الطرق التی یستخدمها القرآن الكریم لبناء الإنسان وتهذیبه هی ذكر صفات الله عزّ وجلّ وتكرارها. فالعدید من الآیات القرآنیّة تحتوی على صفات الله، بل إنّ بعضها ملیء بهذه الصفات[4] [72]. فلو تمعنّا قلیلاً فی كلّ واحدة من هذه الصفات وقارنّا آثارها مع غیرها من الأوصاف التی یمتلكها الكُمَّل من الناس فسنكتشف كم انّ هذه الصفات محبوبة.
إنّ من الصفات الإلهیّة التی یسعنا أن نبنی معها علاقة أكثر من غیرها، ونأمل أن نُفید منها فی هذه الدنیا، أو فی الآخرة على أقلّ تقدیر، هی صفة انّ الله تعالى غفور؛ إذ یقول عزّ من قائل: «قُلْ یَا عِبَادِیَ الَّذِینَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ»[5] [73]. فأیّ عظمة تنطوی علیها هذه الصفة! فقد یقضی الإنسان عمراً كاملاً فی الخطیئة، والمعصیة، والغفلة، وعدم المبالاة، والجهل، بل وحتّى السلوك مع ربّه بجرأة وسوء أدب، فیمهله الله عشرات السنین، ومع كلّ ذلك یعود عزّ وجلّ لیقول له: إذا تُبت فسأغفر لك ذنوبك جمیعاً. فالله عزّ وجلّ لا یدع یوم القیامة أحداً غیره یطّلع على ذنوب التائبین، بل ویمحوها حتّى من أذهان الملائكة. وأكثر من ذلك، فإنّ بعض الروایات تذكر أنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) یطلب من ربّه أن لا یجعل حساب اُمّته یوم القیامة فی ید أحد غیره (صلّى الله علیه وآله) كی لا تطّلع الملائكة على معاصیهم، لكنّ الله عزّ وجلّ یقول له: حتّى أنت لا تطّلع على ذنوبهم عندما أغفرها لهم.
ألیس من المناسب أن یتفكّر الإنسان طیلة عمره بأكمله بهذه الروایة، ویجسّد أمام ناظریه جمال صفة أنّ الله تعالى غفور؟! أَوَلا یكون هذا الربّ محبوباً؟! فمن الواضح أنّ صفة كهذه هی صفة محبوبة، بل إنّ فطرة الإنسان تدعوه لمحبّة مثل هذا الموجود إلى حدّ العبادة. فكلّما تأمّلنا أكثر فی صفات الله – لاسیّما تلك التی نشعر بآثارها أكثر – فسیزداد حبّنا لله جلّ شأنه. وهذه المحبّة تتعلّق - فی الحقیقة - بصفات الله. لكنّه لما كانت صفات الله هی عین ذاته[6] [74]، فإنّها تختلف عن المحبّة التی نكنّها لباقی الناس على خلفیّة صفاتهم.
من هذا النمط من المحبّة یمكننا تسمیة بعض أشكال المحبّة المقدّسة تجاه بعض الأشخاص. فإنّ منتهى المنى لدى بعض الناس هو رؤیة قائد الثورة [الإمام الخامنئی (دام ظله)] لمرّة واحدة. هذا النمط من العشق یُعدّ بالنسبة لنا عشقاً اُسطوریّاً، لكنّنا نشاهد نماذج منه مراراً. فنحن نعرف أشخاصاً تُعدّ رؤیة سماحته اُمنیة حیاتهم، وبمجرّد أن تقع أعینهم على جمال وجهه فإنّهم ینقلبون، مع أنّهم لا یطلبون منه شیئاً، بل عندما یُسألون عن مطلبهم فیما إذا رأوه فهم یجیبون: لقد بلغنا كلّ ما أمّلنا؛ فقد كنّا نودّ رؤیته ورأیناه، ولا نرید شیئاً آخر.
كما وتطرق أسماعنا أحیاناً قصص عن عشّاق صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرَجه الشریف) ممّن لا یبغون نیل شیء آخر غیر الوصول إلیه. بل لا یریدون حتى أن یسأل (علیه السلام) اللهَ قضاء حاجتهم بحیث یجعلونه وسیلة لبلوغ أمانیهم. فهذا الكلام غیر موجود فی قاموسهم. فهم یقولون: سواء أكنتُ موجوداً أم غیر موجود، فإنّ رأسی وروحی فداء له! «بأبی أنت وامی ونفس وأهلی ومالی و...».
ومن هنا فإن بالإمكان حبّ امرئ بسبب كمالاته حتّى من دون رؤیته. فقد یقول قائل: رأیت فلاناً وأحببته من أوّل نظرة. فهذا الحبّ لیس غریباً جدّاً؛ فإنّه قد رآه ولو لمرّة واحدة وعَشِقه. لكنّ فطرة الإنسان تقضی بأنّه إذا أدرك كمالاً ما فی امرئ إدراكاً جیّداً فسیحبّه حتّى وإن لم یره، وإنّ منتهى أمله هو الوصول إلیه.
والمحصّلة هی أنّ الطریقة الاخرى لاكتساب محبّة الله سبحانه وتعالى هی التفكیر بصفاته، وانّ الثواب الحاصل جرّاء معرفة الله ومعرفة صفاته هو بسبب هذه البركات. فالبعض یتصوّر أنّ طلب العلوم الدینیّة منحصر فی تعلّم المسائل الشرعیّة وما إلى ذلك، لكنّ الروایات تصرّح بأنّه ما من نعمة فی العالم توازی نعمة معرفة الله تعالى.
اللهمّ بحقّ مَن تحبّهم، مُنّ على قلوبنا المفعمة بالنقص وعدم الأهلیّة بنفحة من تلك النعم المعنویّة!
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1 [75]. تفسیر العیّاشی، ج2، ص96.
2 [76]. سورة إبراهیم، الآیة 34.
3 [77]. فی الحقیقة إنّ هذا النمط من العبادة یتعلّق هو الآخر بذات النعم الفردوسیّة، وهو یمثّل عبادة لله بالعَرَض.
4 [78]. سورة الحشر، الآیات 22-24.
5 [79]. سورة الزمر، الآیة 53.
6 [80]. إنّ من صفات الله السلبیّة التی یتعیّن علینا جمیعاً الإیمان بها هی أنّ صفات الله لا تشبه صفات الإنسان التی هی زائدة على ذاته؛ فإنّ صفات الله الذاتیّة هی عین ذاته، وإنّ صفاته الفعلیّة تعود أیضاً لصفاته الذاتیّة.
(6)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 8 كانون الثانی 2014م الموافق للسادس من ربیع الأول 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
یؤكّد بعض علماء النفس، لاسیّما أتباع النزعة الإنسانیّة والكمالیّة، على أنّ إحدى الحاجات الفطریّة للإنسان هی أن یكون محبّاً ومحبوباً. ویمكننا نحن أیضاً أن نخوض هذه التجربة. بالطبع إنّنا – وبسبب تعلّق خاطرنا، فی أغلب مراحل حیاتنا، بأشخاص كالأب والاُمّ والأقرباء والأصدقاء – لا ندرك جیّداً الفراغ الناجم عن غیاب المحبّة، لكنّ من شأن إجراء دراسة تحلیلیّة لأحوال بعض الأشخاص المصابین بضروب الشعور بالانعزال والاكتئاب وبعض الأمراض النفسیّة، والذین یصل بهم الأمر أحیاناً إلى الانتحار، یبیّن أنّ من جملة الأسباب الرئیسیّة لذلك هو عدم تعلّقهم بالآخرین، وعدم تعلّق الآخرین بهم. ولعلّكم سمعتم فی المقابلات التی تُجرى مع المدمنین وأمثالهم بأنّ أشدّ دواعی الانتحار لدیهم هی شعورهم بأنّه لا أحد یحبّهم ولا هم یحبّون أحداً. وهذه الشواهد تدلّ على فطریّة هذه المسألة. ولعلّ هذا الأمر هو أحد الجذور الفطریّة لمعرفة الله وعبادته، حیث تسوق فطرة الإنسان صاحبَها إلى معرفة الله ومعرفة صفاته الكمالیّة، فیحبّه ویعبده عن حبّ. ومن هنا فإنّه لیس ببعید أبداً أنّ أصل نزوع المرء إلى أن یكون محبّاً ومحبوباً هو نزوع إلهیّ، الغایة منه هدایة الإنسان إلى الله تعالى بصفته المحبوب الحقیقیّ.
فإنّ میلنا إلى أن نكون محبّین ومحبوبین هو حاجة نشعر بها عادةً، لاسیّما عندما تُسَدّ سائر حاجاتنا الطبیعیّة. وبما أنّ مستوى هذه المیول یفوق مستوى الحاجات المادّیة والفیزیائیّة، فإنّ المرء قلّما یهتمّ بها أثناء حالات المرض والجوع والفقر وأمثال ذلك. فالحاجات التی تأتی فی الدرجة الاُولى لاهتمامات الإنسان هی تلك المرتبطة بحیاته. فالطفل – على سبیل المثال – یبكی عند الإحساس بالجوع، لكنّه یبدأ بالاُنس باُمّه - شیئاً فشیئاً - ویستمتع حینما تحتضنه وتلاطفه، وهو ینزعج جدّاً إذا لم تلاطفه أو إذا غضبت علیه. ولقد صنّف بعض علماء النفس حاجات الإنسان وسَمّوا تلك الحاجات التی تقع فی المستویات الأعلى بالحاجات السامیة أو العالیة. والمحصّلة هی أنّ الإنسان یتألّم من العزلة ویرغب فی أن یأنس بشخص آخر وأن تربطه معه رفقة ومحبّة.
لقد أشرنا فی المحاضرات الماضیة إلى أنّ من جملة علل حبّ الإنسان للآخرین هو إدراكه شكلاً من أشكال الكمال فی المحبوب. وهذه الحاجة موجودة فی كیان الإنسان، وهو لذلك یكنّ لبعض الناس مشاعر الحبّ. فالطفل - بدایةً - یحبّ والدیه من حیث إنّ كلّ وجوده متعلّق بهما. وشیئاً فشیئاً یضاف الأقارب والأصدقاء إلى القائمة حتّى یصل الأمر إلى حبّ أشخاص على خلفیّة ما یتمتّعون به من كمال. لكنّ جمیع هذه الأشكال من المحبّة تنطوی على آفات عدیدة. فلیس من بین هذه الأشكال ما یدوم؛ ذلك أنّ الأب والاُمّ والأرحام سیرحلون یوماً عن هذه الدنیا. كما أنّ كمال المحبوب وجماله لیسا بالأمرین الدائمیّین. وناهیك عن هذه الآفة فإنّ جمیع الذین یحبّهم المرء لكمالهم یملكون - فی الغالب – عیوباً أیضاً. فالإنسان فی بدایة المطاف لا یلتفت إلى هذه العیوب، لكنّ الأخیرة تبدأ بعد برهة بالظهور تدریجیّاً، الأمر الذی یقود إلى خفوت المحبّة، بل وقد یصل الأمر إلى أن یحلّ البغض والعداء محلّها، إلى درجة محاولة المحبّ قتل من كان یحبّه. وهذه من جملة آفات المحبّة الدنیویّة. وحتّى فی یوم القیامة فسیتحوّل الذین كانوا یودّون بعضهم فی الدنیا إلى أعداء لما یرونه من ارتكابهم - بسبب حبّهم - أعمالاً ما كان ینبغی لهم أن یرتكبوها؛ كَأَن یتغاضوا – فی حالة المحبّة - عن عیوب الطرف المقابل فیعمدوا – من أجلهم - إلى فعل اُمور لا یرضى بها الله عزّ وجلّ. أی إنّهم یشعرون بأنّ محبّتهم تلك قد غدت سبباً فی عذابهم، وعندها ستتحوّل محبّتهم إلى عداوة؛ كما فی قوله تعالى: «الأَخِلاّءُ یَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاّ الْمُتَّقِینَ»[1] [81]؛ أی إنّ جمیع الأصدقاء والأحبّة سیصبحون أعداء لبعضهم البعض إلا الذین كانت محبّتهم قائمة على التقوى.
البحث الذی خضناه إلى الآن كان یدور حول قیمة محبّة الله وسبل نیلها. وانّ إحدى هذه السبل هی الإفادة من النماذج الطبیعیّة والعادیّة للمحبّة. إذ علینا أن ننظر ما الذی یفعله المرء عندما یرید إقامة علاقة حبّ مع شخص آخر؟ إنّ أفضل لذّة یشعر بها المحبّ تجاه محبوبه هی عندما یبادله المحبوب الحبّ أیضاً. إذن یتحتّم على المرء أن یفعل ما یدفع المحبوب لإقامة علاقة حبّ معه أیضاً، وأن یتصرّف – من أجل ذلك – وفقاً لما یُرضیه. فإذا أراد المرء تكوین علاقة حبّ مع أحد ثمّ بدر منه سلوك لا یحبّذه المحبوب فسوف لن تقوم بینهما علاقة قویّة على الإطلاق؛ إذ لا تقوم علاقة عاطفیّة بین شخصین إلا إذا رضی كلّ منهما – فی اتّجاه معیّن - على صاحبه. وبالطبع فإنّ لهذه الرغبة حالات من الإفراط أیضاً؛ كَأَن یرغب الإنسان فی أن یحبّه محبوبه أكثر من الآخرین أو أن لا یحبّ أحداً سواه. وهذه هی عین الآفة التی ابتُلی بها إخوة یوسف (علیه السلام) فی محبّتهم البشریّة؛ إذ وَدّ كلّ واحد منهم أن یحبّه أبوه أكثر من یوسف (علیه السلام) لكنّهم شاهدوا أنّ أباهم یحبّ یوسف أكثر منهم. وهذا ما دفعهم إلى الإقدام على قتله حتّى انتهوا إلى إلقائه فی البئر. فعلى الرغم من أنّ الحقّ كان یستدعی منهم أن یَكنّوا لیوسف – الذی یتمتّع بكلّ هذه الفضائل والكمالات – أشدّ محبّة، لكنّ أنانیّتهم وحبّهم لذواتهم وصفة الاستئثار فیهم قد دفعهم لیس إلى عدم محبّة أخیهم فحسب، بل وإلى محاولة قتله أیضاً.
والمحصّلة هی أنّ الطریق الطبیعیّة للارتباط عاطفیّاً بالآخرین هی أن یفعل المرء ما یجلب رضاهم. فجمیع الناس یدركون هذا الأمر فطریّاً ویحاولون جاهدین عدم إظهار ما یؤذی محبوبهم كی لا یشكّل عائقاً أمام إقامة العلاقة العاطفیّة معه. فإنْ رغبنا فی إقامة صلة محبّة مع الله تعالى فلابدّ من اتّباع نفس الطریقة. فإذا أتینا بما یرضی الله عنّا، فإنّه تعالى سیحبّنا لا محالة، وسیُصار – تبعاً لذلك - إلى تقویة هذه العلاقة بشكل متصاعد. وقد ذكرت الأخبار التفاتات غایة فی اللطف فی هذا الصدد لا بأس أن نذكر بعضاً منها من باب التیمّن والتبرّك.
لقد امتاز نبیّ الله داوُد (علیه السلام) من بین سائر الأنیباء فی مناجاته مع الله عزّ وجلّ، وعندما كان (علیه السلام) یشتغل فی الدعاء والذكر وتنمیة الحبّ مع ربّه كانت الجدران والجمادات والطیور تردّد معه[2] [82]. بل حتّى الكتاب الذی تركه نبیّ الله داوُد (علیه السلام) فإنّه یحتوی على هذه الحوارات المشحونة بالحبّ بین الله جلّ شأنه وداوُد. بالطبع داوُد هذا هو نفس ذلك الرجل الذی قتل جالوت فی حرب طالوت ضدّ الكفّار، وهو عین ذلك الشخص الشجاع اللامع الذی تمیز من بین سائر الجند بهذه المهارة؛ حیث تمكّن من قتل قائد جیش العدوّ وهزم جیشه شرّ هزیمة. فلقد اصطفاه الله بعد ذلك للنبوّة وأعطاه منصب القضاء والحكم فی الناس. أمّا الملاحظة التی ینبغی التنبّه إلیها هنا فهی أنّه خلافاً لبعض الفِرَق التی تدّعی العبادة والتقرّب إلى الله، والتی تزعم أنّ الإنسان إمّا أن یكون محبّاً لله عابداً له، أو أن یكون ناشطاً اجتماعیّاً، فإنّ الله تعالى اسمه یقدّم لنا اُنموذج داوُد (علیه السلام) الذی یظهر – من ناحیة - بمظهر البطل المغوار الذی یقتل قائد جیش الكفر ویكون سبباً فی النصر، ثمّ یمنحه الله بعد النبوّة منصب الحكم والقضاء، ثمّ تكون له – من ناحیة اخرى – مثل هذه العلاقة مع الله بحیث یتجاذب معه أطراف حدیث ملؤه التفانی والمحبّة. ونتلو الآن نموذجاً من كلام الله تعالى مع نبیّه داوُد (علیه السلام):
«یا داود أبلِغ أهل أرضی أنّی حبیب مَن أحبّنی»، فإنْ رغب امرؤ فی بناء علاقة مودّة معی فأنا على استعداد لذلك. «وجلیس مَن جالسنی، ومؤنسٌ لمَن أنِس بذكری» فاُخرِجُه من عُزلته ووحشته. «وصاحب لمَن صاحَبَنی» فأنا حاضر لرفقته. «ومختار[3] [83] لِمَن اختارنی، ومطیع لمَن أطاعنی، ما أحبّنی أحد أعلَمُ ذلك یقیناً من قلبه إلا قبِلتُه لنفسی وأحببته حبّاً لا یتقدَّمُه أحد من خلقی»؛ أی لا یسبقه أحد من الخلق فی محبّتی له. «مَن طلبنی بالحقّ وجدنی ومَن طلب غیری لم یجدنی». ثمّ یبعث الله سبحانه وتعالى رسالة إلى الناس فیقول: «فارفضوا یا أهل الأرض ما أنتم علیه من غرورها وهلمّوا إلى كرامتی ومصاحبتی ومجالستی ومؤانستی»؛ فأسباب الخداع والغرور هذه لیست هی ضالّتكم الحقیقیّة. «وآنسونی أؤانسكم وأُسارع إلى محبّتكم»[4] [84]؛ فإن أنتم أنستم بی فإنّنی لا أكون أنیساً لكم فحسب، بل ساُخرجكم من وحشتكم وعزلتكم، بل وساُحبّكم أیضاً.
لقد ذكر كتاب «عدّة الداعی» ضمن أخبار نبیّ الله داوُد (علیه السلام) عبارةً تثیر العجب. وإنّ قراءتها - وإنْ كنّا لا نستوعبها جیّداً – لا تخلو من فائدة كی نعلم أنّه - مضافاً إلى الخبز والماء والجاه والمناصب التی نبذل من أجلها جهوداً جبّارة ونقدّم فی سبیلها الغالی والنفیس - فإنّه ثمّة اُمور اُخرى.
یقول ربّ العزّة: «یا داوُد! ذكری للذاكرین»؛ فإذا أنتم ذكرتمونی، فأنا أیضاً سأذكركم. فقد ورد فی بعض الأخبار [ما مضمونه] أنّكم إذا ذكرتمونی فی خلواتكم، فإنّنی سأذكركم فی عرشی ومقامی، وإنْ ذكرتمونی بین الناس، فإنّنی سأذكركم واُنوّه بأسمائكم أمام الملائكة وسكّان السماوات والملأ الأعلى. «وجنّتی للمطیعین، وحبّی للمشتاقین، وأنا خاصّة للمحبّین»[5] [85]؛ أمّا بالنسبة للذین یكنّون لی حبّاً خالصاً، والذین وقفوا قلوبهم علیّ فقط، وطردوا كلّ أنواع الحبّ الاُخرى منها، فإنّنی لهم. ولعمری فإنّ هذا المقطع ینطوی على مبحث غایة فی علوّ المضمون؛ فإنّك عندما تحبّ امرأً فإنّك تقول له: إنّ أموالی تحت تصرّفك. فإن أحببته أكثر فستقول له: فی أیّ وقت تطلبنی فستجدنی فی خدمتك. أمّا فی المرحلة الأخیرة فإنّك ستقول له: روحی فداك. فإنّ آخر ما یتسنّى لامرئ هبته لغیره هو نفسه وروحه. یقول عزّ من قائل: «وأنا خاصّة للمحبّین»! وهذه الدرجة تخصّ الذی یحبّ الله حبّاً خالصاً، وهی، وإن كان التلفّظ بها جمیلاً، لكنّ تحقّقها عملیّاً لیس بالأمر الیسیر، وهی تتطلّب شخصاً كعلیّ بن أبی طالب (علیه السلام) مثلاً. نسأل الله تعالى ببركة محبّته (علیه السلام) أن یشملنا بنفحة من هذه الدرجات!
وجاء فی حدیث آخر عن الإمام الصادق (علیه السلام) ما نصّه: «أیُّما عبدٍ أقبَلَ قِبَل ما یحبّ الله عزّ وجلّ أقبَلَ الله قِبَل ما یحبّ»؛ أی: أیّما عبد أقبل على ما یحبّ الله فإنّ الله سیقبل على ما یحبّ هذا العبد ویولیه اهتمامه. وبعبارة اخرى: فإنّ مَن یهتمّ بما یحبّه الله ویبذل جهده فی سبیل تحقیقه فإنّ الله سیقابله بالمثل. «ومَن اعتصم بالله عصمه الله»؛ أی حفظه. والاعتصام والاستمساك هنا هو كالإمساك بحبل أو عمود بالنسبة لمن سقط من مرتفع إلى الأرض لیحول دون سقوطه. فإذا شعر المرء بهذه الحالة مع الله وأحسّ بأنّه مُعرَّض لخطر السقوط فی جهنّم وفی هاویة الهلاك والضلال والغفلة والرذیلة، وعَلِم بأنّه ما من أحد قادر على إنقاذه إلا الله تعالى، فاعتصم بالله، فإنّ الله سیعصمه ویحفظه. «ومَن أقبَل الله قِبَلَه وعصمه لم یبال لو سقطت السماء على الأرض»؛ فهو مطمئنّ بحفظ الله له. «أو كانت نازلة نزلَت على أهل الأرض فشملتهم بلیّةٌ كان فی حزب الله[6] [86] بالتقوى من كلّ بلیّة. ألیس الله عزّ وجلّ یقول: «إِنَّ الْمُتَّقِینَ فِی مَقامٍ أَمِینٍ»[7] [87]»[8] [88]؛ فالذی یعتصم بالله یكون من المتّقین المشمولین بقوله تعالى: «إِنَّ الْمُتَّقِینَ فِی مَقامٍ أَمِینٍ»، فلا یشعر بالخطر.
إنّ انتهاج المرء منهاجاً یجعله لا یروم إذا أفاق من نومه صباحاً إلاّ فعل ما یحبّه الله جلّ شأنه، لهو أمر یتطلّب أهلیّة عظیمة وهمّة عالیة لسنا نحن من أهلها. لكن لا ینبغی – فی هذا المضمار - أن نیأس تماماً فنحرم أنفسنا من هذا اللطف الإلهیّ. ویبدو أنّه لابدّ للمرء من وضع برنامج لحیاته وأن یبدأ بالاُمور البسیطة؛ كأن یقول: ساُكرّس الیوم هذا المقدار من وقتی لله سبحانه وتعالى فلا أطلب أثناءه غیر مرضاته. فهذا أمر مقدور علیه؛ إذ باستطاعة الإنسان تخصیص ربع ساعة أو نصف ساعة یومیّاً لهذا الأمر. فإذا تمكّن منه، بادر إلى تمدیده شیئاً فشیئاً. وفی المرحلة التالیة سیبادر الله سبحانه وتعالى إلى إعانة هذا العبد ویمدّه بالمزید من الموفقّیة والقدرة على إنجاز ما هَمّ به؛ إذ أنّه: «مَن تقرّب إلَیّ شبراً تقرّبتُ إلیه ذراعاً»[9] [89]. وبغضّ النظر عن هذا، فحتّى الخطوة الاُولى هذه فإنّها لا تتمّ إلا بعنایة من الله عزّ وجلّ؛ إذ أنّه: «ما لم یبادر المحبوب إلى جذب المحبّ فإنّ مساعی المحبّ المسكین ستبوء بالفشل»[10] [90]، فحتّى فی هذه الخطوة فإنّه هو عزّ وجلّ مَن یعینه علیها لكنّه تعالى لا یتظاهر أمام الإنسان بذلك. لكن حتّى هذا العمل، وهو تخصیص المرء لربع ساعة یومیّاً لفعل ما یرضی الله فقط من دون القیام بأیّ شیء آخر، فإنّ له مراتب؛ فإنّ فیه ثواب الجنّة وأمثال ذلك على الأقلّ ولا ینبغی أن نحرم أنفسنا منه ونصاب بالیأس. بید أنّه إذا استطاع الإنسان أن ینجز عملاً صغیراً لیس لشیء سوى لأنّ الله یحبّه، فإنّه سیحظى – تدریجیّاً – بالقدرة على فعل ما هو أكثر وأفضل وأشدّ خلوصاً. كأنْ یصلّی یومیّاً – على سبیل المثال – نافلة بركعتین ویخاطب ربّه قائلاً: إلهی! حتّى وإن ألقیتنی فی جهنّم فإنّنی ساُصلّی هاتین الركعتین لیس لشیء سوى لأنّك تحبّ ذلك.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1 [91]. سورة الزخرف، الآیة 67.
2 [92]. «وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ یُسَبِّحْنَ وَالطَّیْرَ وَكُنَّا فَاعِلِینَ» (سورة الأنبیاء، الآیة 79). نستنتج من قرینة ذكر الطیور مع الجبال أن متابعة الجبال لداود (علیه السلام) فی التسبیح لم تكن مجرّد رَجْع صوت. بالطبع إنّ القرآن الكریم یصرّح بأنّ الجمادات تملك ضرباً من الشعور والإدراك؛ وذلك فی قوله: «وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا یَهْبِطُ مِنْ خَشْیَةِ اللهِ» (سورة البقرة، الآیة 74). كما ویقول عزّ من قائل فی الطیور: «كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِیحَهُ» (سورة النور، الآیة 41).
3 [93]. تأتی كلمة «مختار» بمثابة اسم فاعل واسم مفعول أیضاً؛ فالیاء المتحرّكة ما قبل مفتوح فی «مُختَیِر» و«مُختَیَر» تُقلب إلى ألف فتصبح فی الحالتین «مختار». أمّا هنا فقد جاءت كلمة «مختار» اسم فاعل.
4 [94]. بحار الأنوار، ج67، ص26، نقلاً عن مسكّن الفؤاد للشهید الثانی.
5 [95]. عدّة الداعی ونجاج الساعی، ص252.
6 [96]. جاء التعبیر فی هذه النسخة «حزب الله»، لكنّه من المحتمل – كما جاء فی نسخ اُخرى – أن یكون «حرز الله». وعلى أیّة حال فهو إمّا أن یكون ضمن حزب الله، أو أن یكون فی حرز الله؛ أی فی حفظه.
7 [97]. سورة الدخان، الآیة 51.
8 [98]. الكافی، ج2، ص65.
9 [99]. عوالی اللئالی، ج1، ص56.
10 [100]. فی إشارة لبیت شعر بالفارسیّة یقول: تا که از جانب معشوق نباشد کششی کوشش عاشق بیچاره به جایی نرسد.
(7)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 15 كانون الثانی 2014م الموافق للثالث عشر من ربیع الأول 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
إنّ للمحبة آثاراً وإنّ كلّ محبّ یفهم فطریّاً ما الذی یجب علیه صنعه تجاه المحبوب. إذ من جملة ما یرغب فیه المحبّ هو فعل ما یُرضی المحبوب وما یجعله یحبّه. وكما قد مرّت الإشارة إلیه مسبقاً فإنّ العلاقة بین المحبّة وآثارها هی علاقة متصاعدة ثنائیّة الجانب؛ فالمحبّة – من ناحیة – هی منشأ لآثارها، ولابدّ من المحبّة لظهور هذه الآثار، ومن ناحیة اُخرى فطالما أنّ هذه الآثار هی أفعال اختیاریّة فإنّها نفسها تبعث على ازدیاد المحبّة أیضاً.
ومن جملة آثار المحبّة هی مناجاة المحبوب. إذ أنّ المحبّ یسعى دوماً إلى اغتنام الفرصة لإظهار محبّته لمحبوبه. وهذا الأمر یصدق أیضاً على الله سبحانه وتعالى، فإن كانت هذه المحبّة عن صدق فستظهر هذه الآثار بشكل من الأشكال. وإنّ ظهور الأخیرة یؤدّی إلى نموّ المحبّة، وهكذا تنشط هذه العلاقة المتصاعدة المتناوبة فی هذا المورد أیضاً. فكلّما بالغ العبد فی القیام بلوازم الحبّ، زادت المحبّة، وكلّما ازدادت المحبّة، تضاعفت رغبة العبد فی توطید الصلة ببارئه أكثر.
تؤكّد الأحادیث الشریفة على قضیّة أنّ محبّة الله تقتضی أن تنتاب العبدَ حالةٌ من الخشوع وذرف الدموع والمناجاة معه سبحانه. وقد تضمّنت روایة قرأناها فی إحدى المحاضرات الماضیة هذا المعنى؛ وهو كیف أنّ الله قد أوحى إلى أحد الصدّیقین بأنّ: لی عباداً یحبّوننی وأحبّهم وأنّهم یحنّون أثناء النهار إلى غروب الشمس حتّى إذا جنّ علیهم اللیل هرعوا إلى مناجاتی[1] [101].
وفی خبر آخر یوحی الله عزّ وجلّ لنبیّه موسى (علیه السلام) فیقول له: «یا ابن عمران! هَبْ لی من عینك الدموع، ومن قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ثمّ ادعُنی فی ظُلَم اللیل تجدنی قریباً مجیباً»[2] [102]. وبناءً على هذه الروایة فإنّ الله جلّ وعلا ینصح موسى (علیه السلام) بثلاث نصائح: الاُولى هی: إن كنتً تحبّنی ﻓ «هَبْ لی من عینك الدموع»! إذ أنّ ممّا یحبّه المحبّ هو تقدیم هدیّة إلى محبوبه. والثانیة: «ومن قلبك الخشوع»؛ أی كن خاشع القلب مكسورَهُ تجاهی. والثالثة: «ومن بدنك الخضوع»؛ فینبغی - من بعد خشوع القلب - أن یكون بدنك خاضعاً لی. وفی خطاب لنبیّه عیسى (علیه السلام) یستخدم الله تعالى لفظة «تُبَصبِص» فیقول: «واعلم أنّ سروری أن تُبَصبِص إلَیّ»[3] [103]. فإنّ للكلب – على الرغم من كونه نجس العین – صفاتٍ هی غایة فی الروعة حتّى أنّ بعض الروایات تنصح بتعلّمها منه. فمن هذه الصفات – مثلاً - سجیّة الوفاء. كما أنّ من صفات الكلب الاُخرى هی منتهى الخضوع فی مقابل صاحبه؛ فهو یمرّغ وجهه فی التراب أمام صاحبه، ویحرّك ذنَبه، ویحوم حوله. ویقال لحالة الكلب هذه «تَبَصبُص». وإنّ تأكید الأحادیث على تمریغ الوجه بالتراب بعد سجدة الشكر إنّما هو تجسید لحالة التبصبص هذه. بالطبع إنّ الله عزّ وجلّ لا یشكو من نقص كی یتداركه بإظهار الخضوع والعبادة له أو من خلال البكاء والمناجاة بین یدیه. فالإمام الحسین (علیه السلام) یخاطب الله تعالى فی دعاء عرفة قائلاً: «إلهی تقدّس رضاك أن تكون له علّة منك فكیف یكون له علّة منّی»[4] [104]؛ أی: إلهی! إنّ رضاك أسمى من أن توجِد له أنت العلّة، فكیف لی أنا أن أفعل ما یكون سبباً فی رضاك عنّی. فأیّ شیء هو أنا وما الذی أملك كی أفعل ما یُحدِث تغییراً فی حالك فاُرضیك؟!
ولابدّ أن نذكر هنا أنّ عبارة: «ابتغاء مرضاة الله» وأنّ الله یمكن إرضاؤه هی عبارة صحیحة، لكنّ حقیقتها هی أسمى وأرفع ممّا نظنّ، فإنّ رضى الله لیس معلولاً لعملنا نحن. فمن كلام أمیر المؤمنین (علیه السلام) قوله: «الذی لم تسبق له حالٌ حالاً»[5] [105]. فالله جلّ وعلا لیس بمتغیّر الحال؛ فلا حاله عزّ وجل یتغیّر، ولا أنّنا نكون علّة فی إیجاد حالة له. فكلّ ما نملك نحن هو فقر محض، ولیس لدینا شیء لنعطیه تعالى. لكنّ التعبیر الذی یمكن أن نفهمه نحن فیما یتعلّق بالصلة مع الله وبهذه العبادات فهو أن نفعل ما یجعل الله مسروراً. ومعنى هذا الكلام هو أنّه: ما دام كمالك فی هذه الاُمور، فإنّ الله یحبّها، وإلا فما من نفع یصل إلى الله منها. وعندما یقول البارئ عزّ وجلّ لموسى (علیه السلام): «هَبْ لی من عینك الدموع»، فلا یعنی ذلك أنّ الله هو بحاجة إلى دموع عیوننا، بل إنّ كمالنا هو فی أن نتذلّل فی مقابل ربّنا.
1. بكاء الخوف
لا بأس أن نقدّم هنا بعض التوضیح حول كلامه تعالى: «هب لی من عینك الدموع».
إنّ تصوّرنا عن البكاء بین یدی الله وعبادته ومناجاته هو – عادةً – بكاء الخوف. فعندما یفكّر المرء بنار جهنّم وعذاب الآخرة الألیم ویتجسّدان أمام ناظریه تنتابه حالة من الخوف والخشیة ممّا یدفعه إلى أن یسأل الله أن یتجاوز عن سیّئاته ولا یعذّبه. فهذا ما یتصوّره عامّة الناس بخصوص البكاء بین یدی الله تعالى. أمّا أولیاء الله فإنّ بكاءَهم لیس محدوداً فی هذا الضرب من البكاء، بل لعلّ الأخیر هو أوطأ درجة من درجاته. بالطبع فإنّ مقام البكاء من شدّة الخوف هو – بحدّ ذاته – مقام سامٍ وقیّم، وهو مؤشّر على إیمان المرء بیوم القیامة وما فیه من وعد ووعید، وأنّه لا یرى فی تعابیر القرآن الكریم والأحادیث الشریفة فی هذا الخصوص مبالغة؛ كقوله تعالى: «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِیمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِی سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ»[6] [106]؛ حیث یأمر الله ملائكته وزبانیة جهنّم بأن یأخذوا هذا المذنب العاصی، ویغلّوه فی سلسلة طولها سبعون ذراعاً[7] [107] ثمّ یُسحَبُ إلى نار جهنّم. فهذا صریح القرآن الكریم. فعندما یجسّد المرء هذه الآیات فی مخیّلته فإنّه یحدّث نفسه: إنّنی لا اُطیق لمس مدفأة حتّى لِلَحظة، فكیف لی أن أتحمّل هذه النیران؟! بطبیعة الحال إنّ تصوّر الإنسان لهذه المضامین ومن ثمّ بكاءه بین یدی ربّه كی یخلّصه من النار لهو أمر حسن جدّاً، لكن لا ینبغی أن نظنّ أنّ الأمر منحصر فی هذه القضیّة.
2. بكاء الخسران
من ألوان البكاء الاُخرى هو ذلك الذی یكون عند الشعور بالخسران. ولا یدور الحدیث هنا عن الخشیة من العذاب وما یحصل فی المستقبل، بل إنّ الإنسان یئِنّ ویذرف الدمع من شدّة الحسرة والعجز والفاقة. ولعلّ أفضل ما یمكن سوقه للتعبیر عن هذه الحالة هو الإحساس بالخسارة. فإذا تجسّدت فی مخیّلة الإنسان فكرة أنّه خسر عمره، وأنّه كان یملك ثروة وكان بإمكانه أن یصنع بها الكثیر؛ ثروة تفوق قیمة كلّ ساعة منها ملیارات المسكوكات الذهبیّة! فإذا فكّر الإنسان ملیّاً وقال لنفسه: لقد كانت لی فی أفضل أیّام حیاتی - وهی أیّام شبابی، عندما كنت أتمتّع بالنشاط، والقوّة فی الجسم، والاستعداد فی الذهن، وسلامة الفكر والبدن – كانت لی ثروة كان بإمكانی جنی أرباح طائلة منها. لكن أین أنفقتُها یا ترى؟ إذ لم تكن عدیمة الربح لی فحسب، بل لقد ابتُلیت الآن بضَعف فی البدن، ولعلّ ذلك قد جرّ علیّ أمراضاً اُخرى أیضاً. والآن فقد خسرت هذه الثروة ولا أعلم كم ساُعَمِّر بعد الآن، بل وقد یأتی مَلَك الموت هذه الساعة فیقبض روحی! هذه هی حالة الخسران.
ولعلّكم شاهدتم فی التقاریر الریاضیّة كیف أنّ الخاسرین فی السباق یبكون أحیاناً. فرغم أنّ الخاسر بطل من الأبطال، لكنّه یستسلم للبكاء عندما یخسر النزال! فهذا النوع من البكاء لا یكون جرّاء الخوف من العذاب؛ إذ لا أحد ینوی ضربه مثلاً. هذا البكاء ناجم عن الشعور بالخسران؛ فهو یشاهد باُمّ عینیه كیف أنّه فرّط بثروته؛ فقد تمرّن لسنوات عدیدة على أمل الفوز فی هذا النزال لكنّه فشل. فمن الطبیعیّ أن تنهمر الدموع من مقلتیه. وهذا هو ضرب آخر من الدموع، ولعلّه یحظى بأهمّیة أكبر من النوع الأوّل.
3. بكاء الحیاء
النمط الآخر من البكاء هو عندما یتأمّل المرء قُبحَ خطیئته. فعندما یفكّر: أی شیء هو أنا، ومَن هو الله عزّ وجلّ؟ وكم تفضّل علیّ بنعمائه وترحّم علیّ برأفته. فكم أنا عدیم الحیاء إذ أعصی مثل هذا الربّ الذی أمرنی ببعض الأوامر لا لشیء إلا لخیری ومصلحتی! فلا كلام فی هذا النوع من البكاء عن التفریط بنعمة، بل القضیّة هنا هی: كم انّنی دنیء وعدیم الحیاء! وهذا الشعور یفوق النمطین السابقین. فنحن نقرأ فی الدعاء المرویّ بعد زیارة الإمام علیّ بن موسى الرضا (علیه السلام): «ربِّ إنّی استغفرك استغفار حیاء»[8] [108]. فهذه الحالة بالنسبة لاُولئك الذین یتمتّعون بمراتب أعلى من المعرفة هی أشدّ وأقسى. وإنّ قیمة هذه الدموع أكبر بكثیر من تلك المذروفة خوفاً من العذاب. فالمسألة هناك هی خوف العذاب، وغایة المرء من البكاء هی أن لا یحیق به هذا العذاب، أمّا هذه الحالة فهی عبارة عن علاقة مباشرة مع الله یستحی فیها الإنسان من الله ذاته من دون أیّ واسطة.
4. بكاء المحبّین
أمّا هذا اللون من البكاء فهو خاصّ بالمحبّین والمشتاقین. فالذین یلِجون فی وادی المحبّة تنتابهم منذ البدایة حالة المناجاة والتضرّع، وتعذّبهم لوعة الفراق، فتجری – لذلك - دموعهم على وجناتهم. وإنّ من أبلغ الجُمَل المعبّرة عن هذه الحالة هو هذا المقطع من دعاء كمیل بن زیاد، حیث یقول أمیر المؤمنین (علیه السلام): «فهبنی یا إلهی وسیّدی ومولای وربّی صبرتُ على عذابك فكیف أصبر على فراقك»[9] [109]؟!
ینقل المرحوم الصدوق فی كتابه «علل الشرائع» عن رسول الله (صلّى الله علیه وآله) أنّه قال: «بكى شعیب (علیه السلام) من حبّ الله عزّ وجلّ حتّى عَمِی، فردّ الله عزّ وجلّ علیه بصرَه. ثمّ بكى حتّى عمی، فردّ الله علیه بصره. ثمّ بكى حتّى عمی، فردّ الله علیه بصره. فلمّا كانت الرابعة أوحى الله إلیه[10] [110]: یا شعیب! إلى متى یكون هذا أبداً منك؟ [إلى متى تستمرّ فی بكائك هذا] إن یكن هذا خوفاً من النار فقد أجَرْتُك، وإن یكن شوقاً إلى الجنّة فقد أبحتك. قال: إلهی وسیّدی! أنت تعلم أنّی ما بكیت خوفاً من نارك ولا شوقاً إلى جنّتك، ولكن عَقَدَ حبّك على قلبی فلست أصبر أو أراك [حتّى أراك]. فأوحى الله جلّ جلاله إلیه: أما إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا ساُخدِمُك كلیمی موسى بن عمران»[11] [111]، فكان من نتیجة ذلك أن فرّ موسى (علیه السلام) من مصر وقَدِم إلى مَدیَن ورأى بنتی شعیب فأقام هناك ثمانیة أعوام أو عشر سنین. كان ذلك هو الأجر الذی أعطاه الله تعالى شعیباً فی الدنیا وهو أن أخدمه نبیّاً من اُولی العزم كموسى (علیه السلام) لیرعى له غنمه. وهذا هو عین ذلك البكاء الذی طلب الله من نبیّه موسى (علیه السلام) أن یهبه إیّاه. والروایة التی تلوناها فی المحاضرة الفائتة كانت بخصوص نفس هذا النمط من الأشخاص حیث یقول جلّ وعلا: «أنا خاصّة للمحبّین». فأشخاص كهؤلاء لیس لهم فی لیلهم ونهارهم سوى الله، ولا تلهج ألسنتهم بغیره، یعیشون نهارهم منتظرین حلول اللیل كی یعكفوا على عبادته. وعندها یقول عزّ وجلّ: «هَبْ لی من عینك الدموع، ومن قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ثمّ ادعُنی فی ظُلَم اللیل تجدنی قریباً مجیباً»؛ فإذا دعوتنی فی جوف اللیل فستجد أنّنی قریب منك، وساُجیبك.
اللهمّ إنّنا نقسم علیك بحقّ مَن كانت قلوبهم رهن محبّتك، أن تتفضّل على قلوبنا القاصرة أیضاً بنفحة من هذه المعانی السامیة!
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1 [112]. بحار الأنوار، ج67، ص26، نقلاً عن «مسكّن الفؤاد» للشهید الثانی.
2 [113]. إرشاد القلوب، ج1، ص93.
3 [114]. الكافی، ج2، ص502.
4 [115]. إقبال الأعمال، ص349.
5 [116]. نهج البلاغة، الخطبة 65
6 [117]. سورة الحاقة، الآیات 30-32.
7 [118]. أی: 35 متراً.
8 [119]. بحار الأنوار، ج99، ص55.
9 [120]. مفاتیح الجنان، دعاء كمیل بن زیاد.
10 [121]. طبعا إنّ هذا النمط من الحوار بین المحبّ والمحبوب یستبطن أسراراً، من جملتها أن نرویها أنا وأنتم فنقول: لقد كان مثل ذلك حقّاً، وإلا فإنّ الله عالِم بكلّ شیء ولیس بحاجة إلى السؤال.
11 [122]. علل الشرائع، ج1، ص57.
(8)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 22 كانون الثانی 2014م الموافق للعشرین من ربیع الأول 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
لقد تلوتُ على مسامعكم فی إحدى المحاضرات الفائتة روایة یوحی الله عزّ وجلّ فیها لأحد الصدّیقین: «أنّ لی عباداً من عبیدی یحبّوننی واُحبّهم». ثمّ یقول سبحانه فی الروایة نفسها ردّاً على سؤال الصدّیق عن علامات هؤلاء العباد: «یراعون الظلال[1] [123] بالنهار كما یراعی الشفیقُ غَنَمَه، ویحِنّون إلى غروب الشمس كما تحنّ الطیر إلى أوكارها عند الغروب» فعندما تمتدّ الظلال وتغیب الشمس یتوجّهون إلى ركن یناجون الله فیه كما تتوجّه الطیور إلى أوكارها.
لقد أَولَت الآیاتُ القرآنیّة والروایات الشریفة مناجاةَ الله تعالى والصلةَ به فی جوف اللیل اهتماماً بالغاً. وبمطالعتنا الأحادیث القدسیّة الموحاة إلى الأنبیاء الماضین نكتشف أنّ هذا الأمر كان مطلوباً أیضاً حتّى فی الدیانات السابقة. یقول عزّ من قائل فی مستهلّ سورة «المزمّل» التی نزلت على نبیّنا الكریم (صلّى الله علیه وآله) فی أوائل أیّام رسالته: «یَا أَیُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ الَّیْلَ إِلاّ قَلِیلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِیلاً * أَوْ زِدْ عَلَیْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِیلاً»[2] [124]؛ أی: قم اللیل واعكف أثناء نصفه أو ثلثیه أو على الأقلّ ثلثه على العبادة. ثمّ یقول تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ یَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَیِ الَّیْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِینَ مَعَكَ»[3] [125]؛ فالله یعلم أنّك تقوم كلّ لیلة ما بین ثلثها إلى ثلثیها. فعندما یكون لدیك متّسع من الوقت، فإنّك تقوم ثلثَی اللیل، وأحیاناً نصفه، لكنّ عبادتك لم تنقص فی یوم من الأیّام عن ثلث اللیل. والملفت أنّه جلّ وعلا یقول: «وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِینَ مَعَكَ»؛ فأنت لست وحدك الذی تعبدنی بهذه الكیفیّة، بل إنّ جماعة ممَّن آمنوا بك یصنعون ما تصنع. ویقول تعالى فی آیة اُخرى: «كَانُواْ قَلِیلاً مِّنَ الَّیْلِ مَا یَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ یَسْتَغْفِرُونَ»[4] [126]؛ فهم لا یستریحون إلا فی شطرٍ من اللیل أمّا فی الجزء الأكبر منه فإنّهم یمارسون العبادة. وعلى أیّة حال فإنّ للّیل مكانة خاصّة. بالطبع إنّ العبادة مطلوبة دوماً، بل لابدّ لبعض العبادات من أن یُؤتىٰ بها نهاراً، كفریضة الظهر والعصر ونوافلهما وأدعیتهما، لكنّ هذه العبادات تُعدّ باهتة أمام عبادة اللیل وانّ الاهتمام بالأخیرة أكبر.
وروی فی موضع آخر أنّ الله تعالى أوحى لنبیّه موسى (على نبیّنا وآله وعلیه السلام): «یا ابن عمران! كذب مَن زعم أنّه یحبّنی فإذا جنّه اللیل نام عنّی» ولم یذكرنی. ثمّ یقول تعالى: «أَلیس كلّ مُحبّ یحبّ خلوة حبیبه»[5] [127]. فهل یعقل أن تتهیّأ للمرء فرصة الخلوة بحبیبه ثمّ یفوّتها؟! فهل یُعقل من الإنسان الذی یحبّ شخصاً ویطول انتظاره لفرصة الاختلاء به ومجاذبته أطراف الحدیث وبثّه ما یعتلج فی صدره من هموم - هل یعقل، إذا سنحت له فرصة الخلوة به ولیس ثمّة أیّما ضوضاء، أن یتركه ویخلد إلى النوم؟!
وقد وردت فی كتب الأدعیة وأمثالها ألوان من المناجاة الخاصّة باولئك الذین یُحیون أسحارهم ویحتوی بعضها على مضامین رائعة جدّاً تؤكّد على نفس هذا المعنى؛ وهو أنّ الواجبات الشرعیّة والاجتماعیّة ومشاكل الحیاة الیومیّة فی ساعات النهار لا تذر للإنسان مجالاً للمناجاة مع الله والتوسّل به، أمّا اللیل، فهو الوقت الذی تهدأ فیه الأصوات ویحلّ السكون وتحلو الخلوة. وعلى الرغم من أنّ اللیالی فی هذه الأیّام صارت كالنهار وأنّ البعض ینام نهاره ویخرج لیلاً للتجوال والتسلیة، غیر أنّه – على أیّة حال - لا زالت هناك ساعات من اللیل مخصّصة للنوم والاستراحة والخلوة.
فی مناجاة منسوبة للإمام زین العابدین (علیه السلام) یصف فیها ساعات اللیل بهذا الوصف: «إلهی! غارَت نجوم سماواتك، ونامت عیون أنامك... وغلَّقَتْ ملوك بنی اُمَیّة علیها أبوابها، وطاف علیها حرّاسها»[6] [128]؛ إلهی! لقد تغیّرت مواضع النجوم واقتربت إلى الاُفق بعد أن كانت فی كبد السماء، ونامت أعین الناس، وهیمن الصمت والسكون على العالم. وغلّق الملوك أبواب قصورهم ووضعوا علیها حرّاسهم كی لا یَغِیر علیهم أحد لیلاً. فكلّ الأبواب مغلَّقة ولا یؤذَن لأحد بالدخول، أمّا بابك فمفتوح ولیس علیه من حاجب أو مانع: «أبواب سماواتك لمَن دعاك مفتَّحات، وخزائنك غیر مغَلَّقات، وأبواب رحمتك غیر محجوبات». وأنت تدعو أولیاءك، وتوصیهم بإصرار أنْ: هلمّوا إلیّ، فإنّنی على استعداد لغفران ذنوبكم، وقضاء حوائجكم، والاُنس معكم.
وهنا یكمن سؤال: ما هی الخصوصیّة التی تتمتّع بها العبادة والمناجاة فی اللیل؟ وما الضرورة لاختلاء المرء بربّه، وعبادته أثناء اللیل؟ لماذا كلّ هذا الإصرار على صلاة اللیل، وأنّه إذا لم تستطع الإتیان بإحدى عشرة ركعة، فأتِ بثلاث ركعات (الشفع والوتر) على الأقلّ، وإن لم تقدر على الثلاثة، فصلّ ركعة الوتر وحدها. بل إذا لم تُصَلّ هذه الركعة بأكملها، فاكتَفِ - على أقلّ تقدیر - بالحمد والسورة، أو حتّى بالحمد فقط؟ فما هی الخصوصیّة فی الاستیقاظ فی السحر والإفادة من وقت الفراغ فی اللیل؟ لقد دأب النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) فی سنّةٍ لَه على الاستیقاظ ثلاث مرّات فی اللیل؛ فكان یستیقظ فی الاُولى فیأتی بأربع ركعات، ثمّ یستیقظ بعد استراحة قصیرة فیصلّی أربع ركعات اُخریات. ثمّ یعود للاستراحة حتّى یستیقظ للمرّة الأخیرة فیصلّی ثلاث ركعات هی الشفع والوتر. وقد كان بعض عظمائنا وعلمائنا ممّن التزموا بسنّة رسول الله (صلّى الله علیه وآله) هذه یسلكون نفس هذا السلوك.
یقول أبو عبد الله الصادق (علیه السلام) فی حدیث مرویّ عنه: «أَلیس كلّ مُحبّ یحبّ خلوة حبیبه»[7] [129]. ألا یحبّ كلّ عاشق أن یخلو بمعشوقه؟! ألا یرجّح الإنسان الخلوة بمحبوبه على الاجتماع به بحضور الآخرین؟ قد تكون لهذا الموضوع بالنسبة لمختلف الناس أسباب وعللّ شتّى، لكنّ العلّة الأساسیّة والعقلائیّة – ناهیك عن البُعد النفسیّ – هی أنّ مقتضى المحبّة هو أنّ المحبّ یودّ أن تربطه بمحبوبه علاقة خاصّة لیبثّه همّه، ویحاوره، ویُظهر له حبّه. كما أنّ القضیّة الرئیسیّة فی هذا المطلب هی أنّ الإنسان یرغب فی أن یبادله حبیبه نفس العاطفة، وهو یرید – من أجل تقویة هذه العلاقة العاطفیّة الثنائیّة الجانب – أن ینصبّ كلّ اهتمامه على محبوبه، ویركزّ محبوبُه كامل اهتمامه علیه. فلا یخفى على أحد أنّ المحبّ إذا تحدّث إلى محبوبه أحبّ أن یلتفت محبوبُه إلیه، فإذا أعرض الأخیر عنه وتكلّم مع شخص آخر، استاء وانزعج. كما أنّ السبب الآخر فی رغبة الإنسان فی الخلوة بمحبوبه هو أنّه لیس ثمّة فی هذه الحالة مَن یزاحمه على محبوبه، وما من شیء یحرِف انتباهه عنه، بل وقد یُجتَنَب أحیاناً حتّى الضیاء والضوضاء. ولعلّكم شاهدتم كیف أنّ بعض المطاعم تضیء مصابیح خافتة، بل شموعاً، ویحرص الأصدقاء الذین یرتادونها على أن لا ینتبه إلیهم أحد. ولعلّ السبب من وراء الاهتمام الخاصّ الذی تولیه القصائد الغزلیّة والقصص الرومانسیّة لموضوع «المنافِس» هو هذا أیضاً. بالطبع إنّ هذا الأمر قد یكون بسبب الحسد أحیاناً، غیر أنّ له سبباً عقلائیّاً أیضاً وهو أنّ وجود المنافِس یستقطب نصف اهتمام المحبوب. فالمحبّ یوَدّ لو أنّ اهتمام المحبوب موجَّه له فحسب، وإذا شاهد أنّ قلب المحبوب یمیل لشخص آخر وأنّه یحبّه أیضاً، أو أنّ شخصاً ثالثاً یضایق حوارهم، فسینزعج.
بما أنّ الناس لهم تعلّقات شتّى، فإنّه لا مفرّ لهم من هذه المعضلة. فقد لا نعثر فی هذا العالم على عاشق ومعشوق یركّزان كلّ التفاتهما على بعضهما، ولا ینتبهان إلى شیء آخر قطّ. أمّا محبّة الله عزّ وجلّ فتختلف. فعلى الرغم من أنّ لله ملیارات المخلوقین، فإنّهم لو أحبّوه جمیعاً فهو جلّ وعلا یسلك مع كلّ واحد منهم وكأنّه لیس له عبد سواه. إذ أنّه: «لا یشغَلُه شأنٌ عن شأن»[8] [130]. فالتفات الله تعالى لا یتجزّأ لیعطی مقداراً منه لأحد ویعطی مقداراً آخر لثانٍ. فالإنسان لا یخشى من اهتمام الله بغیره إذا علم أنّه تعالى مهتمّ به، وذلك لعلمه بأنّ التفات الله عزّ وجلّ لسواه لا ینقص من التفاته إلیه. فالقلق ینشأ من قلّة اهتمام المحبوب بالمحبّ وخفوت العلاقة القائمة بینهما. لذا فلا مجال للمنافسة فیما یتّصل بالباری تعالى، إذ حتّى لو كان لله تعالى ملیارات من المحبّین فسیتصرّف معهم جمیعاً كما لو أنّه لیس له سوى عبد واحد، فیستطیع الجمیع الاختلاء به واستقطاب اهتمامه من دون أن تضرّ كثرة المحبّین بذلك.
وحیث إنّنا معاشر البشر نقیس هذه الاُمور بأنفسنا، فإنّ استیعابها بالنسبة لنا أمر صعب. فنحن إن أحببنا شخصین فسنمنح نصف قلبنا لهذا ونصفه الآخر لذاك، ومن هنا نتصوّر أنّ حبّ الله هو أیضاً بهذه الطریقة وأنّه تعالى عندما یحبّ جمیع عباده فإنّه – والعیاذ بالله – یقسّم قلبه بینهم جمیعاً. لكنّه لیس الله وحده المنزَّه عن ذلك، بل حتّى بعض عباده الخاصّین فإنّهم لیسوا على هذه الشاكلة أیضاً. فعندما ندخل إلى حرم السیّدة فاطمة المعصومة (سلام الله علیها) نشاهد جموعاً غفیرة من الناس یخاطبونها بشتّى الألسن، ویسألونها مختلف الحوائج، فهل إنّها لا تسمعهم یا ترى؟!
إنّ فهم هذا الأمر صعب بالقیاس بنا نحن البشر العادیّین. فلو تحدّث إلینا ثلاثة أو أربعة أشخاص فی آن واحد فإنّنا لا نستطیع فهم كلامهم جمیعاً ولا نستطیع توجیه الخطاب إلا لواحد أو اثنین منهم، وبمشقّة. صحیح أنّ الخبراء یقولون إنّ الإنسان إذا تمرّن وتدرّب فسیتمكّن من سماع سبعة أصوات كحدّ أعلى فی آن واحد. لكن أین هذا من الاستماع إلى آلاف الناس معاً، والردّ علیهم أیضاً؟! لیس هذا فحسب، بل إنّ أولیاء الله یعلمون أیضاً السبیل إلى قضاء حاجة كلّ فرد، فیسألون ذلك من ربّهم، فیتفضّل الله علیهم بقضائها. وهذا ما یتّصل بالسیّدة المعصومة (سلام الله علیها)، وهی لیست نبیّاً ولا إماماً، بل هی بنت عظیمة الشأن من ذرّیة هذا البیت الطاهر. فأمر المعصوم مختلف؛ فلو نادى أهل العالم أجمع الوجود المقدّس لصاحب العصر والزمان (أرواحنا فداه) فی آن واحد، لسمعهم قاطبة.
ذكرنا أنّ مُنیة الإنسان هی فی أن لا یلتفت محبوبه إلا إلیه وأن یملأ وعاءَه. وهذه الحالة تتحقّق عادة فی الخلوة. وهو أن یرغب الطرفان فی تحقّق الوصل فی الخلوة كی لا یلتفتا إلا إلى بعضهما وتقوم بینهما علاقة روحیّة بأكمل وجوهها. ففی مثل هذه الأحوال، حتّى الضیاء قد یشكّل لهما مصدر إزعاج، فلا یُفید المحبّ من النور إلا بالمقدار الذی یتیح له رؤیة وجه حبیبه. بل وقد یصل الأمر إلى درجة لا یرغب المحبّ فیها حتّى فی رؤیة وجه الحبیب، إذ بمجرّد أن یعلم أنّ اهتمام الطرف الآخر منصبّ علیه فإنّه سیشعر باللذّة. ولهذا فمن الطبیعیّ أن یرغب الإنسان فی الخلوة بحبیبه.
السؤال هنا: هل إنّنا نحبّ الله حقّاً؟ فهل یصحّ أن نُعرض عن الربّ - الذی أسبغ علینا كلّ هذه النعم، ولا زال یحوطنا بلطفه ورحمته وكرمه، على الرغم من كلّ مساوئنا وأقذارنا – ونُسلِم أنفسنا للنوم طول اللیل من دون أن نذكره ولو لمرّة؟! فلا بأس أن یتأمّل الإنسان فی هذا الأمر قلیلاً. فقد أكّدت الروایات أیضاً على أنّه: إذا كُنتَ طالب محبّة، فتفكّر. إذ أنّ التفكّر فی آلاء الله جلّ شأنه، وصفات كماله، وألطافه، وتجاوزه، وتفضّله یبعث على ازدیاد محبّة الإنسان لربّه.
وبالطبع لیست القضیّة هی أنّ الذین ینامون لیلهم حتّى الصباح ولا یستیقظون لصلاة اللیل - مثلاً - لا یحبّون الله، لكنّهم – على أقلّ تقدیر – لا یؤدّون حقّ المحبّة، وقد شغلت قلوبهم مشاغل الحیاة الاُخرى، فلم تَعُد محبّتهم بالمقدار الذی یغلب علیهم. إذ یجب أن نعلم أنّ حدّ نصاب المحبّة هو أن یخصّص الإنسان - على الأقلّ - نصف ساعة من مجموع ساعات لیله لمناجاة ربّه. لاسیّما وأنّه عزّ وجلّ یدعوه، ویصرّ علیه، ویرسل له الرسل، وینزل علیه عدداً من الآیات فی أهمّیة هذا الأمر. فلعمری إنّ إهمال هذا الأمر لهو جفاء، وإنّ على الإنسان أن یبذل غایة وسعه كی یغترف من معین المحبّة هذا غُرفة. ولیعلم أنّ نِعم الباری تعالى لا تنحصر فی المأكولات والمشروبات.
ثمّة سؤال آخر قد یتبادر إلى الأذهان، لاسیّما إلى أذهاننا نحن طلبة العلوم الدینیّة، وهو: صحیح أنّنا نحبّ الله، وأنّنا لا ندّعی ذلك كذباً، لكنّه ثمّة تكالیف قد أوجبها الله علینا؛ فطلب العلم بالنسبة لنا واجب، وعلینا أن نتباحث ونذاكر ونقوم بالبحوث العلمیّة ونبلّغ الدین وما إلى ذلك. فهذه كلّها تكالیف واجبة، أمّا الاستیقاظ عند السحر وأمثال ذلك فمستحبّ. فهل یجوز، من أجل عمل مستحبّ، أن نترك بعض واجباتنا؟ فهذا السؤال قابل للطرح - لفظاً - ومن الواضح أنّ جمیع الفقهاء سیجیبون قطعاً بأنّ الواجب مقدّم على المستحبّ، ولابدّ - عند التزاحم - من ترك المستحبّ وأداء الواجب. لكنّ الحقیقة هی أنّ الأمر لیس بهذه الصورة؛ فما عدا الساعات التی ننفقها طیلة النهار على طلب العلم والمباحثة وأداء الواجبات فإنّ لدینا أوقاتاً اُخرى بحیث إنّنا لو برمجنا وقتنا بشكل جیّد لتسنّى لنا الاستیقاظ ولو لربع ساعة قبل الفجر وتخصیصها لعبادة السحر، فإنْ أصابنا بعض التعب، ففی میسورنا الاستراحة قلیلاً بعد صلاة الصبح. صحیح أنّ النوم بین الطلوعین فیه كراهیة، لكنّه إذا دار الأمر بین الاستیقاظ فی السحر وترك النوم بین الطلوعین، لكان الأوّل أَولَى.
یُنقل أنّ أحد طلاب العلوم الدینیّة قد طرح على الشیخ الأنصاریّ (رضوان الله تعالى علیه) هذه المسألة فقال: إنّنا نرغب فی أداء المستحبّات، لاسیّما نافلة اللیل، غیر أنّ لدینا دروساً وبحوثاً؛ فهل یجوز أن نُنقص شیئاً من مذاكرة الدروس لنتفرغّ – عوضاً عنها - لنافلة اللیل؟[9] [131] فسأله الشیخ الأنصاریّ: شیخنا! هل تدخّن النرجیلة؟ ولما أجاب الطالب: نعم یا شیخنا، فأنا ادخّنها كما یفعل الآخرون[10] [132]، قال الشیخ الأنصاریّ: اُترك واحدة منها وصلّ صلاة اللیل بدلاً عنها. فتدخین النرجیلة یتطلّب بعض المقدّمات، فتحضیر التبغ وإعداد الفحم یستغرق وقتاً. إذن قم بحذف إحداها وصلّ صلاة اللیل بدلاً عنها، فثواب الأخیرة أكبر من تدخین النرجیلة، وعندها لن یكون ثمّة تزاحم.
وفّقنا الله جمیعاً إلى العمل بما یرضاه، وبما فیه سعادتنا إن شاء الله.
1 [133]. هناك احتمال قویّ بأنّ المراد من ذلك هو انتظارهم ذهاب الظلّ قبل الظهر كی یهرعوا إلى صلاتهم فی أوّل وقتها، ثمّ انتظارهم، بعد ذلك، امتداده حتّى یدركوا وقت فضیلة العصر.
2 [134]. سورة المزمّل، الآیات 1-4.
3 [135]. سورة المزمّل، الآیة 20.
4 [136]. سورة الذاریات، الآیتان 17 و18.
5 [137]. أمالی الصدوق، ص356
6 [138]. دعائم الإسلام، ج1، ص212.
7 [139]. أمالی الصدوق، ص356
8 [140]. إقبال الأعمال، ج1، ص201.
9 [141]. لعلّ هذا الطالب لم ینظر إلى أنّ مذاكرةَ الدروس أمر واجب، وأراد أن یعرف أیّ هذین المستحبّین أفضل.
10 [142]. تدخین النرجیلة كان فی الماضی أمراً شائعاً بین عامّة الناس، بل ومتعارفاً أیضاً حتّى بین أوساط طلبة الدین والعلماء.
(9)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 29 كانون الثانی 2014م الموافق للسابع والعشرین من ربیع الأول 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
وصلنا فی محاضرتنا الماضیة إلى أنّه من جملة علامات أحبّاء الله وأولیائه أنّهم ینتظرون حلول اللیل لیهرعوا إلى الخلوة بربّهم ومناجاته. وقد ذكرنا فی علّة اختیار اللیل لمناجاة الله سبحانه أنّه إلى جانب أنّ اللیل هو وقت السكینة وهدوء الأصوات وذهاب الجمیع إلى مضاجعهم، فإنّ الظلمة تساعد الإنسان على التركیز أكثر. وقد اُشیر فی آیات الذكر الحكیم إلى هذه القضیّة فی قوله تعالى: إنّ سبب إصراننا على أن تقوم ثلثَی اللیل أو نصفه هو أنّ عبادة اللیل هی أشدّ أثراً: «إِنَّ نَاشِئَةَ الَّیْلِ هِیَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِیلاً»[1] [143]. كما ویشیر تعالى إلى نقطة اُخرى فی قوله: «إِنَّ لَكَ فِی النَّهَارِ سَبْحاً طَوِیلاً»[2] [144]. فلیس لدیك فی النهار متّسع من الوقت للعبادة المطوّلة، لأنّك مكلَّف فیه بتكالیف جمّة ومرتبط بأعمال ومشاغل كثیرة تمنعك من الخلوة بربّك. وقد أكثرَت الروایات من توصیاتها بإحیاء الأسحار بالعبادة وطول السجود. ومنها روایة نوف البكالیّ التی یصف فیها أمیر المؤمنین (علیه السلام) حال المتّقین فی اللیل والنهار، حیث یقول: «أمّا اللیل فصافّون أقدامهم، تالون لأجزاء القرآن یرتّلونه ترتیلاً... وتارةً یفترشون جباههم وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم تجری دموعهم على خدودهم»[3] [145]. وعلى أیّة حال فإنّه لا نظیر للتأكیدات الواردة على قیام اللیل والسحر، ویندر أن نجد فی المصادر الدینیّة تأكیداً على شیء بهذا الحجم.
وهنا یتبادر إلى الذهن السؤال التالی: لو أنّنا رغبنا بالعمل بتعالیم القرآن الكریم، من قیام ثلثی اللیل للعبادة، وعدم النوم بین الطلوعین، وتأدیة التعقیبات بعد الصلوات، فكیف سننجز باقی أعمالنا یا ترى؟ لاسیّما وأنّ هناك مستحبّات واردة للنهار أیضاً، بل وهناك دعاء لكلّ ساعة من ساعات النهار أیضاً، ولا نكاد ننتهی من هذه الأدعیة حتّى یحین وقت نوافل وفریضتی الظهر والعصر وما ورد بعدهما من أدعیة. فالذی یسهر ثلثی اللیل لا تبقى لدیه رغبة ونشاط للعمل؛ فإذا كان طالباً جامعیّاً، فسیغفو فی الصفّ، وإذا كان عاملاً أو مزارعاً، فإنّه لا یجد فی نفسه القدرة على العمل. كما وأنّ الروایات قد وصفت هؤلاء الأشخاص بأنّ وجوههم صفراء، وألوانهم شاحبة، وشفاههم ذابلة[4] [146]. ففی هذه الحالة سوف لا یُنجَز عمل قطّ. بل إنّ شخصاً كهذا سوف لا یكون لدیه النشاط حتّى لعبادات النهار. فإذا كان هذا هو النموذج المثالیّ للمؤمن، فكیف سنقوم بمهامّنا الاجتماعیّة؟ وأنّى لمجتمع مكوّن من هذا النمط من الأشخاص أن یحظى بالتطوّر العلمیّ ویمارس النشاطات الاجتماعیّة والسیاسیّة ؟ فالقضیّة لیست منحصرة بقیام السحر، إذ أنّ هناك الكثیر من التكالیف الاُخرى ممّا لو عمل المرء بها فإنّه لا تعود ثمّة فرصة ولا قدرة على إنجاز باقی الأعمال. فإذا كان مقتضى العمل بهذه التعالیم هو الخروج بمجتمع ضعیف عدیم النشاط والحیویّة، وهو ممّا لا یرضى به الإسلام، إذن فلماذا كلّ هذا الإصرار والتوصیة على العمل بهذه الاُمور؟
من أجل تهیئة الأذهان لتقبّل الإجابة نشبّه المصادر الدینیّة بالكتب الطبّیة. إذ یكرَّس جانب من هذه الكتب عادةً للأعشاب، والعقاقیر، والأملاح، والأغذیة، وما إلى ذلك. ومن الواضح أنّ كتباً من هذا القبیل تبیّن خواصّ الأعشاب والعقاقیر، وانّ العمل بموجبها لا یعنی بالضرورة التوصیة بتناول جمیع ما ذُكر فیها من أعشاب وعقاقیر. كما أنّ الكتب الأكثر تخصّصاً تتناول أضرار ومحاسن هذه الموادّ. ویتعیّن - من أجل العمل بهذه الكتب - مراجعة الطبیب والعمل بوصفته التی یحرّرها بعد الفحص وإجراء التحالیل المختبریّة. وكلّما كان الطبیب أشدّ حذقاً وتجربة واطّلاعاً على أنواع الأدویة والأغذیة، كانت وصفته أفضل. وهذه المسألة تصدق أیضاً على تعلیمات المصادر الدینیّة. فقد یتصوّر بعض عوامّ الناس، استناداً إلى الروایات التی تتحدّث عن ثواب البكاء على أبی عبد الله الحسین (علیه السلام) أنّ بإمكانهم ارتكاب ما یحلو لهم من الذنوب طیلة العام، فإذا حلّ یوم عاشوراء ذرفوا بعض الدموع فیُغفر لهم! غیر ملتفتین إلى أنّ الروایات المذكورة هی لبیان أنّ ذرف الدموع فی عزاء سیّد الشهداء (علیه السلام) له مثل هذه القدرة، لكنّ أثراً كهذا یتطلّب تحقّق بعض الشروط. لذلك یتعیّن الالتفات إلى أنّ استحسان الروایات (أو ذمّها) لشیءٍ ما لا یعنی ترخیصاً مطلقاً للعمل به. فكما أنّ علینا - فی الأحكام الفقهیّة – الرجوع إلى الفقیه المجتهد الذی یضع جمیع الأدلّة الفقهیّة إلى جانب بعضها، وبعد ملاحظة المطلق والمقیّد، والناسخ والمنسوخ، والعامّ والخاصّ، یخرج بفتوى لیدلّنا على تكلیفنا الشرعیّ، فإنّه یتعیّن - فی المسائل الأخلاقیّة أیضاً - الرجوع إلى المتخصّص فیها، لاسیّما وأنّ معظم هذه المسائل تُعدّ من الواجبات المهمّة للغایة وانّ المتخصّص المتبحّر فی هذه الاُمور سیأخذ جمیع الأدلّة بنظر الاعتبار، فیرخّص الشخص المقابل للقیام بعمل معیّن اعتماداً على حاجته وقابلیّاته.
یروى أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) كان له صدیق نصرانیّ وقد سعى – شیئاً فشیئاً - فی هدایته حتّى دخل الإسلام. ذات لیلة طرق هذا المؤمن باب صدیقه الحدیث العهد بالإسلام سحراً لیصطحبه إلى المسجد لصلاة اللیل. وبعد الانتهاء منها قال له: لقد اقترب الصبح، فلنصبر حتّى نصلّی الصبح. ثمّ حبسه بعد الصلاة حتّى طلوع الشمس لأداء التعقیبات. وفی نهایة المطاف عاد الرجلان إلى دارهما. لكنّ هذا المؤمن عاد سحراً إلى منزل رفیقه لیدعوه مرّة اُخرى إلى صلاة اللیل. فقال له المسلم الجدید: یا فلان! إنّ دینكم حَسَن، لكنّه ینفع العاطلین، فإنّ لی عیالاً وأنا لا اُطیق هذه الحیاة، لقد كان دینی السابق أفضل لی. فأشار الإمام الصادق (علیه السلام) بعد ضربه هذا المثل إلى أنّ هذا المؤمن قد أخرج رفیقه من الإسلام من حیث أدخله فیه[5] [147]. ومن هنا فإنّه لا یجوز وصف منهاج عملیّ لامرئ من دون معرفة قابلیّته، وظروف حیاته، ومقدار معرفته، وسنّه، وقدرته البدنیّة، وواجباته الاُسریّة والاجتماعیّة المختلفة.
وبناءً على ما ذكرنا فإنّ الفقیه المحیط بهذه المسائل یوصی بضربٍ من تقسیم العمل. وبعبارة اُخرى فإنّ العمل بتعالیم الدین لا یعنی أداء جمیع الأعمال فی كلّ حین، بل یتعیّن تقسیم العمل. إذ تدلّ بعض الروایات على ضرورة أن یكون للمرء فی یومه ولیلته عدّة أنواع من العمل. فقد أكّدت بعض الأحادیث على تقسیم ساعات اللیل والنهار إلى ثلاثة أقسام: قسم للنوم وتلبیة حاجات البدن، وآخر لكسب الرزق، وآخر للعبادة. وقد أضافت روایة اُخرى قسماً لمعاشرة الإخوان والتمتّع بالحلال جاعلةً من الأخیر ضماناً لأداء باقی التكالیف بشكل صحیح[6] [148]. ولا نفهم ممّا ذكر أنّ هذه الروایات تقسّم ساعات الیوم واللیلة إلى ثلاثة أو أربعة أقسام متساویة، بل إنّها – إجمالاً - فی مقام النهی عن رتابة الحیاة.
ما نستشفّه من مصادر الدین – سواء الآیات أو الروایات أو سیرة أهل البیت (علیهم السلام) – هو أنّ أعمالنا تنقسم إلى مجموعتین عامّتین: فردیّة واجتماعیّة. إذ انّ لدینا واجبات اجتماعیّة تجاه الأب والاُمّ، والزوج، والولد، والجار، والاُستاذ، والتلمیذ، وصولاً إلى إمام الاُمّة ومسؤولی البلاد، وحتّى الدول الصدیقة والعدوّة. كما وأنّه ثمّة مجموعة اُخرى من التكالیف ترتبط بالشخص نفسه ویتعیّن علیه إنجازها، سواء أوُجد شخص آخر أم لم یوجد. كما أنّ المسائل الفردیّة تنقسم هی الاُخرى إلى ثلاثة أقسام: الحاجات الضروریّة للبدن، والحاجات النفسیّة، والعلاقة مع الله. فالحاجات الضروریّة للبدن[7] [149] هی ممّا یحتاجه جمیع الناس ولیس من مفرّ عنها؛ فجمیع البشر هم بحاجة إلى الطعام واللباس والسكن. ولا یدور الكلام فی مثل هذه الحاجات حول ما إذا كانت تلبیتها - شرعاً - واجبة أو محرّمة أو مستحبّة فی حدّ ذاتها، إذ یتعیّن على كلّ إنسان تأمینها من أجل البقاء. بالطبع إذا نوى المؤمن القیام بهذه الأعمال طاعةً ومرضاةً لله، فستُحسب عبادة أیضاً، لكنّها لیست من التكالیف الواجبة، وإنّها لَمِن مهارة المؤمن أن یستطیع إنجاز جمیع هذه الأعمال – حتّى أشدّها حیوانیّة – بقصد طاعة ربّه وتحویلها إلى عبادة عظیمة (واجبة أو مستحبّة).
أمّا الحاجات النفسیّة فإنّها لا ترتبط بالجسم، لكنّ إنسانیّة الإنسان وروحه هما بحاجة لها. فكلّ امرئ یحتاج لأن یكون عزیزاً وذا كرامة. بالطبع من الممكن أن یبقى الإنسان على قید الحیاة بالتسوُّل، لكن لیس هذا شأن الإنسان المحترم.
وأخیراً فإنّ المجموعة الثالثة من الحاجات هی ما یتّصل بالعلاقة مع الله وعبادته، وهی ما یمكن تصنیفه – بشكل من الأشكال – ضمن حاجات الإنسان النفسیّة أیضاً.
كما وتنقسم المسائل الاجتماعیّة أیضاً إلى قسمین أساسیّین: مادّی، ومعنویّ. وعلاوة على ذلك كلّه فإنّنا معاشر البشر بحاجة إلى شیء آخر ألا وهو طلب العلم. ومن الواضح أنّ طلب العلم هو أمر واجب لكلّ من القضایا الفردیّة والاجتماعیّة. ولیكن فی علمنا – بالطبع – أنّ بإمكاننا إنجاز جمیع هذه الأعمال بنیّة التقرّب إلى الله وطاعته، فتصیر كلّها عبادة.
ومن المطالبات الاُخرى أیضاً هو ما یتّصل بالدفاع والأمن. فإذا تآمر العدوّ – الداخلیّ أو الخارجیّ – على الإخلال باستقرار المجتمع، فلابدّ من وقوف جهاز الأمن والقوّة الدفاعیّة بوجهه. ولیس بوسع شخص واحد سدّ هذه الحاجة، بل إنّها تتطلّب جهازاً منظّماً وضخماً.
فكلّ ما ذكر یمثّل ما نحن بحاجة إلیه فی هذه الحیاة الدنیا، وقد طالَبَنا الإسلام بأن نكون اُنموذجاً وقدوة لغیرنا فی جمیع ذلك. فیتعیّن ممارسة كلّ هذه النشاطات، لكن یتحتّم أن تتّخذ جمیعها وجهة إلهیّة.
یتخیّل البعض أنّ المراد من العبادة، التی یوصَىٰ بممارستها على مدى ثلثی اللیل أو نصفه، هو كلّ ما یقوم به المرء فی سبیل الله، مستندین فی ادّعائهم هذا إلى الحدیث القائل: «العبادة عشرة أجزاء، تسعة أجزاء فی طلب الحلال»[8] [150]. لكنّ القضیّة لیست بهذه الصورة؛ إذ أنّ الروایات التی تدعو الإنسان إلى تخصیص ساعات من یومه لعبادة الله والمناجاة معه لا تقصد شیئاً آخر.
إنّ من أهمّ الأعمال عند العقلاء هی قضیّة إدارة المجتمع، إذ أنّها تطغى على جمیع الشؤون الاُخرى. وهذه الأهمّیة هی على جانب من الكِبَر والضخامة حتّى أن بعض الأخبار قد عدّت فائدة تنفیذ حدّ واحد من حدود الله أكثر من فائدة المطر لأربعین یوماً متوالیة. فعندما أرسل أمیر المؤمنین (علیه السلام) مالك الأشتر إلى مصر بعد أن عیّنه والیاً علیها كتب له عهداً شرح فیه بالتفصیل جمیع أركان الحكومة وكیفیّة التعامل معها وواجب كلّ منها. لكنّه (علیه السلام) طالبه ضمن هذه الأوامر أن یخصّص أفضل أوقات یومه لعبادة الله عزّ وجلّ. والملفت أنّه (علیه السلام) یقول فی هذا العهد: «واجعل لنفسك فیما بینك وبین الله أفضل تلك المواقیت وأجزَل تلك الأقسام، وإنْ كانت كلّها [الأعمال] لله إذا صلحَت فیها النیّة وسلِمت منها الرعیّة... فأَعطِ الله من بدنك فی لیلك ونهارك، ووفّ ما تقرّبتَ به إلى الله من ذلك كاملاً غیر مثلوم ولا منقوص»[9] [151]؛ أی: على الرغم من أنّ كلّ عمل تقوم به لله ویأمَن الناس ضرَرَه فهو عبادة، لكن علیك أن تخصّص أفضل أوقات یومك ولیلتك لعبادة ربّك والمناجاة معه! ثمّ یوصیه بأن لا تثلم هذه العبادة أو تنقصها! فإنّ عبادتك ربَّك فی أفضل ساعات لیلك ونهارك عبادة كاملة غیر منقوصة هی التی ستعینك على القیام بسائر المهمّات.
وطبقاً لتصنیف آخر عامّ فإنّ كلّ واحد من الاُمور المذكورة أعلاه تنقسم إلى واجب ومستحبّ[10] [152]، حیث ینبغی – فی حالة التزاحم بینها – التخلّی عن المستحبّ لصالح الواجب. وهذا أمر واضح. لكنّ المشكلة هی عندما یحصل التزاحم بین الواجب المرتبط بالشخص، مع الواجب المتعلّق بالاُسرة أو المجتمع. فالحفاظ عل السلامة – على سبیل المثال – واجب وعلى المرء أن یهتمّ بسلامة طعامه وتعقیمه من المكروبات. أمّا فی الخطّ الأمامیّ من جبهات القتال، فلا تعود هذه القضیّة محطّ بحث؛ إذ قد یضطرّ المرء هناك أحیاناً إلى الاكتفاء بكسرة خبز شعیر أو شقّ تمرة. لكنّ السؤال المطروح هنا هو: إذا حصل التزاحم بین سلامة المرء وواجب شرعیّ أو عبادیّ كاحترام الوالدین أو الصلاة، فما الذی ینبغی صنعه؟ نفهم من ذلك أنّه حتّى فیما یخصّ الواجبات فإنّ علینا – عند التزاحم – تشخیص ما هو الأوجب.
إنّ بعض العوامل تكون مشتركة بین جمیع الناس فیكون للجمیع - فی ظروف معیّنة - نفس الواجبات الفردیّة والاجتماعیّة، لكنّه ثمّة عوامل تكون مثاراً لاختلاف التكلیف. فعلى سبیل المثال فإنّ تكلیف البنت التی بلغت تسع سنوات من عمرها یختلف عن تكلیف الشباب الذین بلغوا النضج والرشد الكافیین؛ إذ لا یمكن تعلیم البنت ذات السنوات التسع أحكام واجبات أو مستحبّات الصلاة - لاسیّما ما یرتبط بالنیّة - بشكل دقیق، بل قد یتعیّن أحیاناً وَعْدُها بهدیّة لتشجیعها على أداء الصلاة. أمّا بالنسبة للشباب فهل ستُقبل صلاتهم یا ترى إذا أتوا بها أملاً بالجائزة؟! وهذا الاختلاف فی التكلیف ناشئ عن اختلاف السنّ. لكنّ قد یكون الاختلاف أحیاناً بسبب الجنس أیضاً؛ فهناك تغایر بین الرجل والمرأة وإنّ بعض الأحكام تخصّ أحد الجنسین دون الآخر. كما وقد ینجم اختلاف التكلیف عن القابلیّات والمواهب الإلهیّة، بل حتّى إنّ بعض القدرات المكتسَبة قد توجب فارقاً فی التكلیف أیضاً؛ فتكلیف الكادّ من أجل لقمة عیشه مثلاً یختلف عن تكلیف مَن یكون فقره بسبب الكسل والتقاعس أو لأسباب غیر هذه. وأخیراً فإنّ بعض المسائل قد تُستحدث نتیجة بعض الظروف الاستثنائیّة كالحرب أو الزلزال أو أمثال ذلك؛ إذ من الواضح أنْ یطرأ فی مثل هذه الظروف تكلیف جدید على الأشخاص وهو ما یكون فی الغالب بصورة واجب كفائیّ؛ فإذا توفّر مَن به الكفایة، سقط عن الآخرین، أمّا إذا لم یتوفّر فإنّ على الجمیع مدّ ید العون فلا یسقط التكلیف عن كاهل أیّ امرئ.
ولما كان من الضروریّ - بغیة إعداد منهاج سلوكیّ للمرء - أخذ جمیع العوامل المذكورة بنظر الاعتبار فإنّه لابدّ – فی هذه القضیة - من استشارة مَن له إحاطة علمیّة من جهة، وقادر على فهم ظروف الناس من جهة اُخرى. فمن غیر الممكن أن نتوقّع من المبتدئ – لاسیّما الحدَث – أن یأخذ جمیع هذه الامور بنظر الاعتبار فیشخّص الواجب من الأوجب والمهمّ من الأهم. إذ یتحتّم على المتخصّصین فی مجال التربیة والأخلاق أن ینهضوا بهذه المهمّه ویرشدوا من سواهم.
هذه الاُمور تشیر بمجموعها إلى أنّ تكلیف الناس یختلف باختلاف الظروف. فقد یكون الاستیقاظ قبل صلاة الصبح بربع ساعة لأداء صلاة اللیل كافیاً لامرئ، فی حین تكون العبادة لمدّة ثلثی اللیل أو حتّى قیام اللیل كلّه حَسَنة جدّاً لمن لیس فی ذمّته عمل مهمّ أو تكلیف واجب.
والمحصّلة هی انّ لدینا تكالیفَ وواجباتٍ مختلفة، وعلینا أن نحدّد مهامّنا ومكانتنا الاجتماعیّة، وأن نحیط علماً بما تعهّدنا به من مسؤولیّات وما ینبغی أن نتعهّد به؟ علینا أن ننظر أیّ الأعمال والمسؤولیّات مهمَلة ونحن نملك القدرة على إنجازها، ثمّ نختار من بینها ما هو أهمّ لننهض به.
وفّقنا الله وإیاكم إن شاء الله
1 [153]. سورة المزّمل، الآیة 6.
2 [154]. سورة المزّمل، الآیة 7.
3 [155]. كنز الفوائد، ج1، ص90.
4 [156]. قال أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی سیماء الشیعة: «صُفر الوجوه من السهر، عُمش العیون من البكاء، حدب الظهور من القیام، خُمص البطون من الصیام، ذبل الشفاه من الدعاء، علیهم غبَرة الخاشعین»، وسائل الشیعة، ج1، ص92.
5 [157]. وسائل الشیعة، ج16، ص164-165.
6 [158]. عن الإمام الكاظم (علیه السلام): «اجتهدوا فی أن یكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان والثقات الذین یعرفّونكم عیوبكم ویخلصون لكم فی الباطن، وساعة تخلون فیها للذّاتكم فی غیر محرّم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات» (تحف العقول، ص409).
7 [159]. ویطلق على هذه الحاجات فی علم النفس بالحاجات الفسلجیّة.
8 [160]. جامع الأخبار (للشعیری)، ص139.
9 [161]. نهج البلاغة، الكتاب 53.
10 [162]. من حیث إنّه عندما یدور الكلام حول الأعمال التی ینبغی القیام بها، فإنّه لا یكون «المكروه» و«الحرام» محطّ نقاش.
(10)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 5 شباط 2014م الموافق للخامس من ربیع الثانی 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
لقد قال بعض حواریّی عیسى له (علیه السلام): كم هو جمیل أن ینزّل علینا ربّنا مائدة سماویّة لنأكل منها وتكون عیداً لأهل هذا الزمان ومَن سیأتی فی المستقبل! بالطبع لم یكن اُسلوبهم مؤدّباً فی طرح السؤال؛ فقد قالوا له: «هَلْ یَسْتَطِیعُ رَبُّكَ أَن یُنَزِّلَ عَلَیْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ... *...* ...تَكُونُ لَنَا عِیداً لأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا»[1] [163]. لكن نبیّ الله عیسى (علیه السلام) أصلح تعبیرهم حینما سأل الله ذلك فقال فی دعائه: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَیْنَا مَائدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا... وَءَایَةً مِّنكَ»؛ آیةً تدلّ على قدرتك وعظمتك! فكان أنْ أنزَلَ الله علیهم المائدة.
وبالالتفات إلى هذه القصّة یتبادر إلى الذهن السؤال التالی: إذا كان إنزال مائدة طعام من السماء من موجبات احتفاء الأوّلین والآخرین، أفلا یكون من المناسب أن نحتفی بهذه الأیّام المباركة التی تصادف ذكرى انتصار الثورة الإسلامیّة وذلك بما أنزل الله تعالى فیها على اُمّتنا من البركات ممّا یفوق مائدة الطعام آلاف آلاف المرّات؟! فینبغی أن نتذكّر هذه النعم الإلهیّة. وإنّ إقامة الاحتفالات والأفراح والتضرّع إلى الله بالدعاء وممارسة الأعمال العبادیّة شكراً لهذه الآلاء الجسیمة لهی أقلّ واجب یمكن القیام به فی هذا المجال. أسأل الله تعالى أن یمنّ علینا جمیعاً بمعرفة النعم والتوفیق لشكرها أیضاً.
لقد قلنا إنّه لحصول المحبّة تجاه الله عزّ وجلّ فإنّه لابدّ من توفیر أرضیّات روحیّة ونفسیّة. إذ لابدّ أن یعلم المرء أنّ الله هو أحبّ موجود فی هذا العالم كی تترسّخ محبّته فی قلبه شیئاً فشیئاً وینخرط فی زمرة محبّیه ومریدیه جلّ وعلا. ثمّ أشرنا إلى جانب من آثار ولوازم هذه المحبّة استناداً إلى ما یستفاد من القرآن والسنّة وقلنا إنّ حیازة الكثیر من هذه الآثار هو أسهل من حصول نفس المحبّة، وإنّ ترتّب الاُولى على مراتب أدنى من المحبّة یوجب تقویة الأخیرة تدریجیّاً. وقد قلنا أیضاً إنّ من الآثار الطبیعیّة للمحبّة هو رغبة المحبّ فی أن یبادله المحبوبُ الحبَّ أیضاً، وهو أثر على جانب من الأهمّیة بحیث إنّ المحبّ أحیاناً ینتشی من إحساسه بمحبّة المحبوب نشوةً هی أسمى وأنفس من أیّ شیء آخر، بل وتهوّن علیه كلّ ما یتحمّله فی سبیلها من مِحَن ومكاره.
من الأسالیب التربویّة التی یتبنّاها القرآن الكریم هی أنّه إذا أراد الإطراء على صفة معیّنة والحثّ علیها فإنّه یقول: هذا ما یحبّه الله، وإن أراد ردع الناس عن أمر ما یقول: هذا ما لا یحبّه الله. وهذا النمط من الآیات یحاول أن ینبّهنا إلى هذه الحقیقة، وهی: انّ فطرتكم تطالبكم بفعل ما یجعل الله یحبّكم، كما وأنّ علیكم أن تعلموا أنّكم إن فعلتم كذا وكذا فإنّ الله تعالى سوف لا یحبّكم. مضافاً إلى أنّ الأدب القرآنیّ ینتهج اُسلوباً فذّاً حیث إنّ معظم الآیات القرآنیّة تحرص على توطید علاقة متبادلة بین العبد وربّه؛ كقوله تعالى: «رَضِیَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ»[2] [164]، وقوله: «یُحِبُّهُمْ وَیُحِبُّونَه»[3] [165]. وإنّ الالتفات إلى مثل هذه الآیات یساعدنا كثیراً على تنمیة محبّتنا لربّنا من جهة والاطمئنان من محبّته لنا من جهة اخرى. ونرى من المناسب هنا أن نحصی ما عدّه الله حسناً من الصفات وأن نسعى لتقویتها فی أنفسنا، إذ سنضاعف – بذلك - من محبّتنا لربّنا من جهة، وستزداد محبّته عزّ وجلّ لنا من جهة ثانیة.
قد یتبادر إلى أذهان البعض – استناداً إلى الأبحاث الماضیة التی ركّزت أكثر على العبادة والمناجاة والذكر والبكاء – أنّ الإنسان المثالیّ الذی یطلبه الله عزّ وجلّ ویریده الإسلام هو ذلك الذی یتجشّم یومیّاً عناء السهر من أوّل اللیل حتّى السحر، ویواظب على الإمساك بالمسبحة وذكر الله وتبدو علیه أمارات الشحوب والإنهاك، غافلین عن أن نفس هذا الإسلام یقول فی الآیة الرابعة من سورة الصف: «إِنَّ اللهَ یُحِبُّ الَّذِینَ یُقَاتِلُونَ فِی سَبِیلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْیَانٌ مَّرْصُوصٌ»[4] [166]. إذ لا یقول الباری عزّ وجلّ هنا: قاتلوا كالبنیان المرصوص، أو: إذا كنتم كذلك فهذا حسن والله یحبّ ذلك؛ بل یقول: إنّ هناك اُناساً یقاتلون فی سبیل الله من دون أدنى تزعزع، ویصمدون أمام عدوّهم ویقاومونه بصلابة كصفّ مرصوص فلا یُهزمون أبداً. كما ویقول عزّ من قائل فی محلّ آخر: «فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِینَ عَلَى الْقَاعِدِینَ أَجْراً عَظِیماً»[5] [167].
هذا وانّ سیرة النبیّ الأعظم والأئمّة الأطهار (صلوات الله علیهم أجمعین) تحكی فضیلة وأهمّیة الجهاد. وإنّ الاُنموذج الكامل لهذه الفضیلة بالنسبة لنا نحن الشیعة هو سیّد الشهداء (علیه السلام)؛ فهو الاُنموذج الذی لا یشوبه نقص أو عیب. ولم یكن (علیه السلام) من صُفر الوجوه والمنشغلین بالذكر والـمُجهَدین الذین لا یتنفّسون إلا بصعوبة. لقد كان شخصیة أعطت كلّ ما عندها فی سبیل الله، وكان كلّما قُتِل له ابن أو أخ فی میدان القتال فقد كان یزداد وجهه إشراقاً ویصیر أكثر حیویّة، ومن حیث إنّه كان یزداد قرباً من محبوبه لحظة بعد لحظة، فقد كانت تشتدّ عزیمته ویتألّق جماله.
وبناءً علیه ینبغی أن نضع كلّ أبعاد الإسلام فی نظر الاعتبار، وأن نستعین فی منهاجنا العملیّ باُولئك المحیطین بجمیع معارف الإسلام، ولیس بذوی الاُفق الضیّق الذین ینظرون إلى الإسلام من زاویة واحدة، ویقتصرون على مجموعة واحدة من الروایات غافلین عن المواضیع الاخرى. بالطبع فإنّ الناس مختلفون جدّاً من حیث المعرفة والهمّة والإیمان والتقوى، لكنّه یوجد – فی النهایة – أشخاص یتمسّكون ببُعد واحد من الإیمان ویغفلون عن الأشیاء الاخرى، إمّا نسیاناً أو انّهم یتغافلون عنها لأنّها لا تلائم مزاجهم. وعلى أیّة حال فالقرآن الكریم یقول: «إنّ الله یحبّ اُولئك المتأهّبین للجهاد والمقاتلین فی سبیل الله بهذه الكیفیّة»، بل وقد سُمّیت سورة قرآنیّة باسم «الصف» انطلاقاً من هذه الآیة.
بالطبع إنّ الناس قد رُغِّبوا فی القرآن الكریم بصور شتّى بالجهاد والقتال فی سبیل الله، لكنّ الحرب لیست هی مما یكون التمهید لها بأیدینا، كما وأنّ إشعال الحرب لیس بالأمر المطلوب. لكن ما یهمّنا فی الوقت الحاضر هو تقویة هذه الروح فی نفوس الناس بحیث إذا أصدر الیوم صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرَجه الشریف) أو نائبه أمراً بالتوجّه إلى جبهات القتال، فإنّ الجمیع سوف یُهرع لتلبیة هذا الأمر بكلّ فخر وولع؛ بالضبط كالعشق الذی اشتعل فی قلوب الناس تجاه الإسلام والثورة فی السنی الاُولى من فترة الدفاع المقدّس، إذ كانوا یتركون عیشهم وأزواجهم وأبناءهم ویهرعون إلى میدان الحرب بإشارة واحدة من الإمام الراحل (رحمة الله علیه). فهذه الروح هی المهمّة. إذ ینبغی أن یكون الإنسان على اُهبة الاستعداد حتّى إذا قیل لهم: إلى الأمام! فإنّهم لا یتلكّؤون لحظة واحدة. إذ یُحكى عن أحوال العلماء الماضین أنّهم كانوا ینطلقون أیّام الجمعة فی الصحاری لیتمرّنوا على ركوب الخیل والضرب بالسیف لیكونوا على اُهبة الاستعداد فیما إذا ظهر صاحب الأمر (عجّل الله تعالى فرَجه الشریف) فجأة وأصدر الأمر بالجهاد.
فالتحلّی بهذه الروح مهم، لكن - بالطبع - هناك شروط للتحلّی بها؛ فإنّ التعلّق ببعض شؤون الحیاة – حتّى تلك المطلوبة فی الجملة – یُنقص من هذه الروح. فحبّ الوالدین والزوج لیس محظوراً فی الإسلام، لكنّه إذا شكّل عقبة أمام الاستعداد للجهاد فی سبیل الله، فإنّه لا یتناسب مع الإیمان؛ یقول تعالى: «قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِیرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَیْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِی سَبِیلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى یَأْتِیَ اللهُ بِأَمْرِهِ»[6] [168]. وهو تحذیر یدلّ على أنّ الله لا یحبّ هذه الحالة؛ أی: حذار من أن تمنعكم هذه الاُمور عن الجهاد! لأنّها إن منعتكم فهو دلیل على أنّ حبّكم لهذه المسائل أكثر من حبّكم لله. وهذه الحالة هی من الحالات السیّئة التی لا تنسجم مع الإیمان؛ فالحدّ الأدنى من الإیمان هو أن یحبّ المرء الله أكثر من أیّ شیء آخر. بالطبع إن سقف الإیمان هو أن لا توجَّه المحبّة الأصیلة إلا إلى الله وأنّ یحبّ المرء جمیع الأشیاء من أجله جلّ وعلا. لكنّ هذه الدرجة من الحبّ تفوق مستوانا وهی تتطلّب شخصاً كالإمام الحسین (علیه السلام) الذی یقول:
تركتُ الخلقَ طُرّاً فی هواكا وأیتمتُ العیالَ لكی أراكا
فأقلّ ما ینبغی أن یقتصر علیه سعینا هو أن نبذل غایة جهدنا لكی لا تمنعنا التعلّقات الدنیویّة عن أداء التكلیف. إذ أنّ أكبر آفات محبّة الله والجهاد والشهادة فی سبیله هو حبّ الدنیا. فهذان الأمران لا ینسجمان مع بعضهما، فقد جاء فی الخبر أنّه كما أنّ العالم لیس له إلهان وأنّ وجود معبودَین وإلهین أمر محال، فإنّه لا معنى لحبّ إلهین اثنین؛ فلا یمكن أن نحبّ الله تعالى ونحبّ ما یبغضه فی آن معاً. وبناء علیه فإذا كان المرء محبّاً لله فلا یمكن أن یحبّ الدنیا أیضاً، فإنّ التعلّق بالسرّاء والدعة والراحة والرفاهیة لا یتناغم مع حبّ الله عزّ وجلّ. إذن فلابدّ لنا من السعی لتقویة هذه الروح فی أنفسنا كی نُغَلِّب حبّ الله فی قلوبنا على غیره من التعلّقات. لكن بالطبع قد یحصل تزاحم عند أشخاص معیّنین بین واجب كفائیّ وواجب أهمّ. فلمّا كانت قیادة الاُمّة والمجتمع بالنسبة للإمام الخمینیّ الراحل (رضوان الله تعالى علیه) – مثلاً – أوجب من ألف جهاد، فإنّه (رحمه الله) لم یحضر بجسده فی حرب الدفاع المقدّس التی دامت ثمان سنوات.
لكنّ السؤال المطروح هنا هو: ما السبیل إلى تقویة هذه الروح؟ فإنّ الجوّ والوضع اللذین یسودان أثناء الحرب العسكریّة كفیلان لوحدهما بأن یساعدا على تقویة هذه الروح. فعندما كان یؤتَى بأجساد الشهداء الطاهرة من جبهات القتال إلى المدن كانت تثور ثائرة الناس، وتتأجّج مشاعرهم وأحاسیسهم فیغدون أكثر استعداداً وتأهّباً. ویزداد عزم الناس على المشاركة فی الجهاد خصوصاً عندما یكون جثمان الشهید المشیَّع من أصدقائهم أو أرحامهم. فإنّ توجیهات الإمام الراحل (قدّس سرّه) وما كان یستشهد به من آیات وأحادیث مضافاً إلى انقیاد العلماء والعظماء الآخرین له كانت قد بلورت ذلك الجوّ الملكوتیّ الذی تلاشى فی ضوئه ما كان من آفات وشوائب.
بناءً على ما تقدّم فإنّ أجواء الحرب هی بحدّ ذاتها أجواء بنّاءة. وهنا یتعیّن القول بأنّ الحرب بین الحقّ والباطل قائمة باستمرار ولا تنتهی. لكنّ شكلها وهیئتها هی التی تتغیّر؛ فتارة تكون الحرب عسكریّة، وطوراً فكریّة، وحیناً اقتصادیّة، وزماناً سیاسیّة. فالقرآن الكریم یقول فی هذا الصدد: «إِنَّ اللهَ اشْتَرىٰ مِنَ الْمُؤْمِنینَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ»[7] [169]. فبذل المال هو أیضاً ضرب من الجهاد؛ بمعنى أنّه ثمّة جهاد اقتصادیّ أیضاً. كما أنّ هناك جهاداً فكریّاً كذلك، وهو المتمثّل بالحرب الناعمة التی یُعدّ خطرها أكبر وأهمّ بكثیر من الحرب الخشنة العسكریّة. فكلّ ما قلنا بخصوص الجهاد فإنّ له مصداقاً فی هذه المجالات أیضاً. فقد حوصر المسلمون فی صدر الإسلام لبضع سنین فی شعب أبی طالب، وقد منع الأعداء عنهم حتّى الماء والخبز. وكان أمیر المؤمنین (علیه السلام) برفقة عدد من الأشخاص یتسلّلون لجلب قربة من الماء وبعض الطعام للمحاصَرین. لقد كان هذا امتحاناً عظیماً. وهذه هی سنّة الله فی الحیاة، فهو عزّ وجلّ یُخضِع اولئك الذین یرید ترقیتهم لمثل هذه الامتحانات.
یقول الله سبحانه وتعالى فی الآیة المرقّمة 94 من سورة الأعراف: «وَمَا أَرْسَلْنَا فِی قَرْیَةٍ مِنْ نَبِیٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ یَضَّرَّعُونَ»؛ أی: إنّنا ما أرسلنا إلى قوم من نبیّ إلا وابتلیناهم بالشدائد والمكاره لعلّهم یتوجّهون إلى الله بسبب ذلك ویتضرّعون إلیه ویبكون بین یدیه. فعندما یكون الناس فی دعة وطمأنینة فإنّ لذائذ العیش تجعلهم ثملین، أمّا البأساء والضرّاء فإنّها تصقل الإنسان وتكسبه التواضع وتوجهه نحو الله. فالله عزّ وجلّ یعرف عباده، فإذا أرسل لهم رسولاً فإنّه یعرّضهم للشدائد لیهیّئ لهم أرضیّة التضرّع بین یدی ربّهم. وقد ورد هذا المضمون فی الآیة المرقّمة 42 من سورة الأنعام بلفظة «یتضرّعون»[8] [170] ثمّ بیّن عزّ وجلّ بعد ذلك أنّ السبب من وراء عدم التضرّع هو قسوة القلب: «فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَیَّنَ لَهُمُ الشَّیْطَانُ مَا كَانُواْ یَعْمَلُونَ»[9] [171].
وهذه القضیّة مستمرّة؛ فیومٌ جهاد عسكریّ، ویوم حصار فی شعب أبی طالب، ویومٌ تحدث فیه واقعة فی صحراء كربلاء، ویوم یُسجن فیه موسى بن جعفر (علیه السلام). هذه هی الدنیا، ففی كلّ یوم یرى الناس لوناً من ألوان الفتن والبلایا، فالمبرَّؤون من قسوة القلب یقعون تحت تأثیر هذا العامل، فیندمون ویتوبون إلى الله ویقبلون نصائح الأنبیاء (علیهم السلام)، أمّا القاسیة قلوبهم فإنّهم یقولون للأنبیاء: ما هو دوركم؟ ما لكم ولنا أساساً؟ فشعیب (علیه السلام) كان ینصح قومه بعدم التطفیف بالمیزان وعدم الغش فی البیع: «وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِیمِ ذَلِكَ خَیْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِیلاً»[10] [172]. فهل یوجد ما هو أبسط من هذا الكلام وأكثر مقبولیّة عند الناس وأنفع لهم؟ كان یقول لهم إن مساوئ عملكم هذا ستحیق بأنفسكم؛ فإن طففتَ بالمیزان الیوم، فسیغشّك غیرك إذا اشتریت منه غداً! فعندما تتفشّى حالة عدم مراعاة الإنصاف والعدل فی المجتمع، فإنّ من تعامله الیوم بلا إنصاف سیعاملك غداً بنفس الاسلوب. وعندها سیحصل التضخّم والغلاء ممّا سیحیق بضعاف الحال لاسیّما أصحاب الدخل الثابت الذین یتقاضون راتباً شهریّاً. فكان جواب قوم شعیب (علیه السلام): هذا لیس من شأنك: «أَصَلَوٰتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا یَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِی أَمْوَالِنَا مَا نَشَـٰـؤُا»[11] [173]. إذهب واشتغل بصلاتك، فما دخلك بهذه الامور؟! إنّك غیر متّخصص فی القضایا الاقتصادیّة والسیاسیّة! یعنی: إذهبوا یا علماء الدین واشتغلوا بدروسكم ولا تحشروا اُنوفكم بهذه المسائل!
إنّكم تتّهمون الناصحین بالاُمّیة وقلّة الفهم وفساد الفكر وما إلى ذلك ولا تحبّون أن یسدی أحد إلیكم النصیحة. تدّعون كذباً أنّكم تحبّون النقد وأنّ الحقّ دائما مع الطرف الآخر، إذ أنّكم لا تطیقون الإصغاء حتّى إلى النقد الهادئ. لقد بادر العلماء والعظماء وورثة هذه الثورة واُسر الشهداء إلى نصحكم بأن لا تأكلوا الطعم الذی وضعته أمیركا ولا تلهثوا وراء راحة وهمیّة! بل إنّكم لن تبلغوا هذه الرفاهیة الزائفة التی یعدونكم بها. وحتّى لو بلغتموها، فإنّها لا تستحقّ منكم أن تبیعوا عزّة هذا الشعب ومجده، وتنسوا دماء آلاف الشهداء التی سالت على مدى بضع وثلاثین سنة ، كی یعیدوا إلیكم بضعة دولارات هی أساساً من أموالكم! أیّ حماقة هذه! لا تنسوا القیم الإلهیّة! فمن أجل أیّ شیء ثار هذا الشعب؟! ولأی سبب نهض الإمام الراحل (رحمه الله)؟! ولأیّ هدف قدّم الشعب كلّ هؤلاء الضحایا؟ أمِن أجل تخفیض سعر الخبز یا ترى؟ ومن أجل ماذا ألبسَتْ تلك الاُمّ شبّانها الثلاثة أكفانهم بیدها وبعثت بهم إلى جبهات القتال من دون أن تدَعَ حتّى دمعة واحدة تفرّ من مقلتیها؟! أمن أجل إشباع بطنها؟! فلماذا نتناسى القیم؟ والأمَرّ من ذلك أنّنا ننسب ما نفعله إلى الإمام الراحل (قدّس سرّه) وقائد الثورة المعظّم (دام ظله) قائلین: إنّ ما نفعله هو اتّباع للإمام الراحل وامتثال أوامر قائد الثورة!
أعاذنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1 [174]. سورة المائدة، الآیات 112 – 114.
2 [175]. سورة المائدة، الآیة 119.
3 [176]. سورة المائدة، الآیة 54.
4 [177]. عندما تُلحَم المعادن ببعضها یكون اللحام عادةً أصلب من المعدن نفسه ویقال له «مرصوص».
5 [178]. سورة النساء، الآیة 95.
6 [179]. سورة التوبة، الآیة 24.
7 [180]. سورة التوبة، الآیة 111.
8 [181]. «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ یَتَضَرَّعُونَ»
9 [182]. سورة الأنعام، الآیة 43.
10 [183]. سورة الإسراء، الآیة 35.
11 [184]. سورة هود، الآیة 87.
(11)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 12 شباط 2014م الموافق للثانی عشر من ربیع الثانی 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
ذكرنا أنّ محبّة الله لا تأتی لوحدها بل یتعیّن توفیر المقدّمات والأرضیّات الكفیلة بظهورها والتی تُكسب المرء الاستعداد والقابلیّة لتلقّی هذه الرحمة الإلهیّة، فیفیضها الله تعالى علیه. وقد اُشیر فی القرآن والسنّة إلى أنّ لمحبّة الله عزّ وجلّ آفاتٍ وموانعَ إمّا أن تمنع الإنسان من أن یحبّ ربّه منذ البدایة أو أن تزیل المحبّة من قلبه بعد حصولها. فكلّنا یعلم أنّه إذا أردنا أن نكون محطّ اهتمام أحدٍ ما فعلینا أن نعمل ما یحبّه. أمّا إذا صنعنا ما یُبغضه، فمن الطبیعیّ أن لا نحظى بحبّه. إذن فإنّ صنع ما یحبّه الله یساعدنا على طریق الاستعداد للحظوة بمحبّته جلّ وعلا. وقد أشرنا فی المحاضرة الفائتة إلى وجود الكثیر من الآیات التی تتناول الأشیاء التی یحبّها الله سبحانه وتعالى وتلك التی یبغضها. وسنشیر فیما یلی إلى مصادیق اُخرى من هذه الاُمور.
یطرح الله عزّ وجلّ فی الآیة المرقّمة 54 من سورة المائدة قضیّة الارتداد خصوصاً قائلاً: «یَـٰـأَیُّهَا الَّذِینَ ءَامَنُواْ مَن یَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِینِهِ فَسَوْفَ یَأْتِی اللهُ بِقَوْمٍ یُحِبُّهُمْ وَیُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِینَ یُجَاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللهِ وَلا یَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ». فلقد أرسل الله رسوله (صلّى الله علیه وآله) لیدعو الناس إلى الإسلام والقیم الإسلامیّة والتقرّب إلى الله. وقد آمن به فی البدایة نزر یسیر من الناس فتعرّضوا لأذى الأعداء وتعذیب المشركین. وبعد معاناتهم من ألوان المحن وصنوف العذاب ظهر فی المدینة المنوّرة مجتمع فتیّ سُمّی بالاُمّة الإسلامیّة. ومن الطبیعیّ أن یحتاج أفراد هذه الاُمّة إلى المواساة وتقویة العزیمة، فجاءت آیات قرآنیّة جمّة تعدهم بالنصر والعبور من هذه المخاوف والشدائد. لكنّ الله تعالى یطرح - فی خضمّ هذه الأحداث - مسألة الارتداد قائلاً: لا تظنّوا أنّنا سنتضرّر إذا ارتددتم عن دینكم، بل إنّ الله سیستبدل بكم اُناساً هم أفضل منكم، وانّ أهمّ صفة یتحلّى بها هؤلاء هی أنّ الله یحبّهم وأنّهم أیضاً یحبّون الله جدّاً: «یحبّهم ویحبّونه». فإنّ مجیء هاتین العبارتین إلى جانب بعضهما یستبطن مضموناً عمیقاً جدّاً، حیث إنّ المحبّة المتبادَلَة هی غیر تلك التی تكون من طرف واحد.
الخصوصیّة الاُخرى التی تمیّز هؤلاء هی أنّهم أشداء جدّاً فی مقابل الكفّار واعداء الله ولا یبدون أمامهم أیّ لین فی العریكة أو مرونة فی التعامل، أمّا بالنسبة للمؤمنین، وعلى الرغم من أنّ الأخیرین تبدو علیهم فی الظاهر أمارات التخلّف والفقر، فإنّهم یعاملونهم باحترام بالغ: «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِینَ»؛ ففی الوقت الذی یكونون أذلاء على المؤمنین فإنّهم شدیدوا الصلابة أمام الكفّار؛ بحیث انّهم لا یُبدون أیّ مرونة تجاههم، لیس هذا فحسب بل إنّهم یَظهرون أمامهم بمظهر القوّة والقدرة والاستغناء وعدم المبالاة.
أمّا میزتهم الأخیرة فهی انّهم یحبّون الجهاد فی سبیل الله إلى درجة أنّهم لا یخشون ملامة أیّ امرئ فی هذا السبیل: «یُجَاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللهِ وَلا یَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ». فالمجاهدون واُولئك الذین یُظهرون الشدّة والعزّة أمام الكافرین لا یخافون لومة أیّ لائم، بل إنّهم یقولون لهم: «قولوا ما شئتم، فإنّنا قد حدّدنا طریقنا وسنمضی فیه قُدُماً».
هذه الآیة تلهمنا هذا الدرس، وهو أنّنا إذا أردنا أن نصنع ما یجعلنا مورداً لمحبّة الله فعلینا بالتواضع بین یدی المؤمنین. فالمحبوبون عند الله یكونون أذلاء ومتواضعین أمام المؤمنین من حیث إنّهم مؤمنون، فلا یتعاملون معهم بأنانیة أبداً. أمّا فی مقابل الكفّار فإنّهم شدیدو الصلابة ولا یظهر علیهم أمامهم – بما أنّهم كفّار - أیّ خضوع أو تطبیع أو استسلام. فإن رغبنا فی أن یحبّنا الله جلّ شأنه وأن یمنّ علینا بحبّنا له أیضاً فیتعیّن أن نربّی أنفسنا بهذه الطریقة. بالطبع فمن حیث إنّ مناط التواضع هو الإیمان، فإنّه یتغیّر شدّة وضعفاً بالتناسب مع مراتب الإیمان؛ فكلّما زاد الإیمان، تواضَعْنا أكثر، فإنّ الذی یكون فی أعلى درجات الإیمان سیواجَه بأقصى درجات التواضع. وهذا أمر ممكن؛ فباستطاعة الإنسان أن یعزم على هذا الأمر وینجزه، فإذا تكرّر منه، أصبح ملَكَة من ملكاته. أمّا إذا أردنا أن نتحوّل إلى عشّاق لله دفعة واحدة، فهذا محال.
یروی المرحوم آیة الله بهجت (رضوان الله تعالى علیه) عن والد المرحوم السیّد الكشمیریّ - الذی أمضى مدّة من حیاته فی قمّ المقدّسة ودُفن فی مسجد «بالاسر» (جهة الرأس) فی حرم السیّدة فاطمة المعصومة (سلام الله علیها) – أنّه كان شدید الاحترام لأولاده، فعلى الرغم من أنّه هو نفسه كان سیّداً[1] [185] وأنّ سیادة أولاده هی بسبب انتسابهم إلیه، لكنّه لم یكن یسمح لهم أن یضعوا حذاءه أمام قدمیه لیلبسه. وإذا حصل أن فعلوا ذلك صدفة فإنّه كان یستاء من ذلك ویقول: «أبناء السیّدة الزهراء (سلام الله علیها) یضعون أمامی الحذاء»! فعلماؤنا العظام كانوا یحترمون حتّى أبناءهم ویتواضعون أمامهم بسبب كونهم مؤمنین. ونحن أیضاً نستطیع أن نتمرّن على هذا الأمر، فلیس هو بالأمر الصعب.
لكنّ هذه المسألة – بالطبع - تخضع لقیود وشروط. فلا ینبغی للمرء أن یتعدّى على أیّ كافر ویتكبّر علیه. فالمقصود من الكافر هنا هو الكافر المعاند الجحود؛ أی الذی عرف الحقّ ثمّ أنكره عن عمد. فلا ینبطق ذلك على الكافر الذی لم یعرف الحقّ أصلاً، وهو یسعى لمعرفته. كما أنّ هناك كفّاراً كانوا حقّاً طلاب حقیقة وقد بذلوا جهدهم للوصول إلیها، فهؤلاء وإن كانوا كفّاراً فی الظاهر لكن التعامل معهم بودّ وعطف وشفقة قد یدفعهم إلى اعتناق الإسلام؛ بالضبط كما دخل العدید من الكفّار إلى الإسلام فی زمان النبیّ بسبب أخلاقه (صلّى الله علیه وآله). ومن هنا فعندما ینصحنا القرآن الكریم بأن نكون أعزّاء على الكفّار فلا یعنی ذلك أن نتكبّر على كلّ غیر مسلم حتّى وإن كان یسعى لإدراك الحقیقة ولم یدركها بعد، بل یتعیّن علینا أن نتمنّى له الخیر ونتعامل معه بشفقة. فحتّى القرآن الكریم فإنّه قد خصّص سهماً من الزكاة للكفّار بغیة تألیف قلوبهم. فلو بنینا أمرنا على معاداة كلّ كافر، لَما انتشر الإسلام، ولما رغب فیه أحد. لذا فإنّ المراد من «الكفّار» فی قوله: «أشدّاء على الكفّار» هم المعاندون منهم.
یروى أنّ نبیّ الله عیسى (على نبیّنا وآله وعلیه السلام) قال لحواریّیه: «بحقّ أقولُ لكم: إنّ العبدَ لا یَقدرُ على أن یخدُم ربّین ولا محالةَ أنّه یُؤثِر أحدَهما على الآخر وإنْ جَهَدَ كذلك لا یجتمع لكم حبّ الله وحبّ الدنیا»[2] [186]. ویجسّد القرآن الكریم هذا المعنى فی بیان جمیل فی قوله تعالى: «ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِیهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ یَسْتَوِیَانِ مَثَلاً»[3] [187]. إذ تقارن هذه الآیة بین عبدین؛ أحدهما هو عبد لعدد من السادة السیّئی الخلُق والصارمین فهم جمیعاً یشتركون فیه. هذا العبد المسكین كلّما امتثل أمرَ أحد أسیاده اصطدم معه الباقون، فهو فی حالة تعارض باطنیّ مستمرّ ولا یدری كیف یطیع جمیع أسیاده معاً. أمّا العبد الثانی فله سیّد واحد وهو یحظى بالاحترام إن أطاعه؛ فهو یذعن لكلّ ما یقوله سیّده ولا یشكو أیّ تعارض فی باطنه من أنّه أیّ سیّد یطیع. فمن الواضح أنّه لا یمكن أن یكون للمرء عدّة سادة وأن یحظى بقلوبهم جمیعاً بشكل كامل. وكذلك فإنّه من غیر الممكن أن یكون لعبد واحد ربّان. فنبیّ الله عیسى (علیه السلام) یقول فی هذا الحدیث: كما أنّه لیس فی میسور المرء أن یخدم سیّدین، فإنّ حبّ الدنیا وحبّ الله لا یجتمعان فی قلب واحد. فإن أردتَ أن تحظى بحبّ الله، فعلیك أن تتخلّى عن حبّ الدنیا.
علینا أن نؤمن ونصدّق بأنّ الله لا یحبّ لعباده «الدنیا» بما أنّها دنیا. فهو تعالى یرید من عباده أن یلتفتوا إلیه، أو أن یسعوا – على الأقلّ – وراء نعم الآخرة، وأن یحسبوا للآخرة حساباً. علینا أن نفهم أنّ الدنیا لیست هی إلاّ أداة ووسیلة لنیل سعادة الآخرة ولا أصالة لها ذاتاً. بالطبع قد یندر وجود مَن لا توجد فی قلبه ولو ذرّة من حبّ الدنیا. فأولیاء الله - فقط - هم الذین لا تساوی الدنیا عندهم أیّ قیمة. لیس هذا فحسب، بل حتّى الآخرة ونعماؤها فإنّها لا تساوی عندهم شیئاً فی مقابل رضا الباری عزّ وجلّ. بالطبع هذه المسائل أعلى بكثیر من مستویاتنا ولا تدركها عقولنا، لكن فلنعلم أنّ الله لا یریدنا أن نحبّ الدنیا لكونها دنیاً. فإنّ مُؤَدّى كلام جمیع الأنبیاء والأولیاء وآیات الذكر الحكیم هو تنبیهنا لقضیّة أنّ الدنیا هی مجرّد وسیلة ولیست غایة، وأنّ من یظنّ أنّها غایة فهو مخطئ، وستظهر آثار هذا الخطأ فی حیاته. بالطبع جمیعنا یعلم أنّ قلوبنا تنطوی على لون من ألوان حبّ الدنیا. كما أنّ الله لا یكلّف نفساً بما یشقّ علیها، ولا یطالب الجمیع بما لا یقدر علیه إلاّ الأنبیاء والأولیاء، لكنّه عزّ وجلّ وضع حدّ نصاب لذلك، وهو أنّه إذا كان حبّ الدنیا ضمن هذه الحدود فلا إشكال فیه، أمّا إذا تجاوزها فسیشكّل خطراً. فالله نفسه یخاطبنا قائلاً: «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَیَوٰةَ الدُّنْیَا * وَالآخِرَةُ خَیْرٌ وَأَبْقَىٰ»[4] [188].
من التعبیرات القرآنیّة التی تُلهم الدروس وتهزّ فی نفس الوقت هی قوله تعالى: «وَوَیْلٌ لِّلْكَافِرِینَ مِنْ عَذَابٍ شَدِیدٍ * الَّذِینَ یَسْتَحِبُّونَ الْحَیَوٰةَ الدُّنْیَا عَلَى الآخِرَةِ وَیَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ اللهِ وَیَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـٰـئِكَ فِی ضَلالٍ بَعِیدٍ»[5] [189]؛ أی ویل لاُولئك الذین إذا دار عندهم الأمر بین الدنیا والآخرة تركوا الآخرة وفضّلوا الدنیا. فطالما لا یوجد تضادّ، فإنّ هناك مجالاً للاستفادة من المباحات، فلا إشكال فی هذا المقدار وهو أضعف الإیمان. أمّا إذا رجّح الإنسان الدنیا عند التزاحم، فسیُبتلى بضلال بعید.
وشبیه بهذا المعنى ما جاء فی سورة النحل فی الآیة النازلة فی حقّ عمار بن یاسر عندما أظهر الكفر فی مقام التقیّة، وعندما جاء إلى رسول الله (صلّى الله علیه وآله) كان فی غایة القلق. فنزل قوله تعالى: «مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِیمَانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِیمَانِ وَلَـٰـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَیْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِیمٌ»[6] [190]. فلا إشكال فی إظهار الكفر بسبب الإكراه، لكنّ الذین یكفرون عن طیب خاطر فإنّهم یستحقّون عذاباً عظیماً وینزل علیهم غضب من الله. ثمّ یبیّن الله سبحانه وتعالى أنّ سبب هذا الكفر هو ترجیح الحیاة الدنیا على الآخرة وذلك فی قوله: «ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَیَوٰةَ الدُّنْیَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْكَافِرِینَ»[7] [191].
ما یستفاد من الآیتین المذكورتین هو أنّ جوهر الكفر هو حبّ الدنیا. فإنّ السبب فی إنكار الإنسان الحقَّ بعد معرفته هو سعیه وراء لذّات الدنیا. ولا شكّ أنّه إذا صار القلب محلاّ لما یقتضی الكفر، فإنّه لن یكون موضعاً لما هو جوهر الإیمان وفاكهته وكماله. فالكفر والإیمان لا یجتمعان. وكما أنّه محال أن نعبد إلهین اثنین، فإنّنا لا نستطیع أن نجمع بین محبّة الله ومحبّة الدنیا. فإذا رغبنا فی أن نكون محبّین لله، فعلینا أن نُنقص من حبّنا للدنیا حتّى یصل إلى مستوىً لا یتعارض مع آخرتنا ولا یدفعنا إلى ترك العمل بالتكلیف.
لقد بُیّنت هذه القضیّة فی العدید من الآیات والروایات، وهی على جانب من الأهمّیة بحیث إنّ الله تعالى یوحی لأنبیائه (علیهم السلام) باجتناب العالِم المحبّ للدنیا. إذ رُوی عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «إذا رأیتم العالِم محبّاً لدنیاه فاتّهموه على دینكم فإنّ كلّ محبّ لشیءٍ یَحوط ما أحبّ»[8] [192]. أی: لا تكونوا مطمئنّین للعالِم المحبّ للدنیا[9] [193]! فنحن نطلب العالم لنعرف منه معارف دیننا ولنتعرّف بواسطته على سبیل ربّنا. یقول أبو عبد الله (علیه السلام): «إذا وجدتم العالم طالباً للدنیا فلا تطمئنّوا له ولا تتّبعوه! إذ أنّ كلّ محبّ لشیء فهو یحتفظ به». فالمحبّ للدنیا یسعى لحفظ دنیاه وحراستها وهو على استعداد للابتداع فی الدین، وكتمان حقائقه، وغضّ الطرف عن قیمه صیانةً لمكانته. وإنّ المحبّ للدنیا یحرص على عدم التفریط بها، ولا یحترق قلبه على دینكم، وهو لا یخدم دینكم إلاّ إذا كان فی ذلك ما یدرّ بالمنفعة على دنیاه. فإذا افترق دینكم عن دنیاه، فلا یعود له شغل بالدین.
وفی حدیث قدسیّ آخر یوصی الله عزّ وجلّ نبیّه داوود (على نبیّنا وآله وعلیه السلام) أن: لا تجعل العالم المحبّ للدنیا وسیطاً بینی وبینك؛ یقول: «لا تجعل بینی وبینك عالِماً مفتوناً بالدنیا». فإنّ ما یتوقّعه المرء من العالِم هو أن یتعلّم منه شیئاً. وهو – فی الحقیقة – یقوم مقام الوسیط فی تعریف الإنسان بربّه والتقرّب إلیه. یقول عزّ وجلّ: إذا أردت أن تجعل شخصاً ما واسطةً بینی وبینك لتتعلّم منه دینك، وتتقرّب بواسطته إلیّ، فحذار من أن تختار العالِم المفتون بالدنیا لهذه المهمّة. ثمّ یبیّن تعالى علّة هذا الحكم فیقول: «فیصدّك عن طریق محبّتی، فإنّ أولئك قُطّاع طریق عبادی المریدین»؛ وهو كلام غایة فی القسوة والغلظة. یقول عزّ من قائل: هؤلاء قُطّاع طرق ولصوص یقطعون الطریق على كلّ عبد یطلبنی ویقتادونه باتّجاه الدنیا. «إنّ أدنى ما أنا صانع بهم أنْ أنزِع حلاوة مناجاتی عن قلوبهم»[10] [194]، فلا یشعرون بالرغبة فی مناجاتی والتضرّع إلیّ، وإذا ما أتوا بعبادة، فإنّهم یأتون بها على كسل ومضض «وَلا یَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ»[11] [195].
اللهمّ بحقّ مَن تحبّهم، تحنّن على قلوبنا القاصرة أیضاً بنفحة من تلك المواهب.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
1 [196]. السیّد هو الذی یكون من سلالة رسول الله (صلّى الله علیه وآله).
2 [197]. تحف العقول، ص503.
3 [198]. سورة الزمر، الآیة 29.
4 [199]. سورة الأعلى، الآیتان 16 و17.
5 [200]. سورة إبراهیم، الآیتان 2 و3.
6 [201]. سورة النحل، الآیة 106.
7 [202]. سورة النحل، الآیة 107.
8 [203]. الكافی، ج1، ص46.
9 [204]. لقد فسّر البعض عبارة: «فاتّهموه على دینكم» بمعنى: توجیه التهمة إلیه! والحال أنّ «اتّهمه على كذا» یعنی ظنّ به سوءاً ولیس قذفه بتهمة معیّنة. إذ أنّ التهمة لكلّ امرئ حرام لاسیّما المؤمن.
10 [205]. الكافی، ج1، ص46.
11 [206]. سورة التوبة، الآیة 54.
(12)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 19 شباط 2014م الموافق للتاسع عشر من ربیع الثانی 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
قلنا فی المحاضرة الماضیة عبر استشهادنا بروایة نبیّ الله عیسى (علیه السلام) إنّ محبّة الله لا تجتمع مع محبّة الدنیا. لكن ما معنى هذا الكلام؟ هل یعنی أنّ القلب الواحد لا یتّسع لمحبّتین؟ أی: هل إنّ محبّة الله لا تجتمع مع أیّ نمط آخر من الحبّ؟ أم انّ المراد هو المحبّة الكاملة التی إذا وصلت إلى حدّ العشق وهیمنت على القلب بأكمله لم یبق فیه محلّ لشیء ثان؟ أم انّ المعنی هو شیء آخر؟ هل إنّ القلب المشحون بمحبّة الله لا یوجد فیه أیّ موطئ قدم للون آخر من الحبّ، أم انّ الأمر مختلف، وانّ بعض الأشكال الاُخرى من المحبّة یمكن أن تجتمع مع محبّة الله تعالى؟
نقول جواباً على هذا السؤال: إنّ أنواع المحبّة تختلف فیما بینها، وإنّ مثقال ذرّة من بعض أنواعها لا یمكن أن یجتمع مع المحبّة الحقیقیّة لله عزّ وجلّ؛ فلا یستطیع الإنسان أن یحبّ الله ویحبّ عدوّ الله فی آن واحد. لكنّ هذا الأمر ممكن – بشكل من الأشكال - بالنسبة للناس؛ ففی میسور المرء أن یحبّ شخصین یعادی أحدهما الآخر لكنّ فی كلّ منهما حُسْناً معیّناً. أمّا مع محبّة الله جلّ شأنه فهذا الأمر محال. إذ لا یمكن تفكیك الله تعالى والقول: اُحبّ نصفه ولا أحبّ نصفه الآخر. فإنّ «التركیب» هو من صفات الله السلبیّة ولا معنى ﻟ «الجزء» بالنسبة له عزّ وجلّ. فالله هو حقیقة بسیطة وهو یملك جمیع الكمالات بنحو البساطة، ولا یمكن الجمع بین محبّته ومحبّة عدوّه. ومن هنا فإنّ من یتصوّر أنّ فی قلبه هذین النمطین من المحبّة معاً فهو مخطئ، وهو لا یحبّ الله فی الحقیقة، بل ولم یعرفه أساساً.
لكنّه یمكن جمع بعض أشكال المحبّة مع بعض مراتب محبّة الله تعالى، وهو عندما لا یكون لهذه الأشكال من المحبّة – فی ذاتها – تضادّ مع محبّة الله؛ وبعبارة اُخرى: عندما یكون تضادّهما بالعرض. من هذا المنطلق فإنّ مَن یملك أوّل مراتب حبّ الله یمكنه أن یحبّ هذه الامور قلیلاً أیضاً؛ بالطبع بشرط أن لا تتضادّ محبّتها مع محبّة الله وأن لا تغلب علیها؛ یقول تعالى: «قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِیرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَیْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِی سَبِیلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ یَأْتِیَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْفَاسِقِینَ»[1] [207]. فبإمكان الإنسان أن یحبّ والدیه وأولاده ومنزله ومعیشته بمقدار بحیث لا تطغى على محبّة الله. لكنّه إذا اقتضت محبّة الله تكلیفاً معیّناً وشكّلت تلك الأنواع من المحبّة عائقاً أمام القیام بهذا التكلیف، فلا تعود الأخیرة جائزة. ویمكننا العثور على أمثلة واضحة لذلك فی حرب الدفاع المقدّس[2] [208]. فإذا تعیّنت مشاركة شخصٍ ما فی تلك الحرب ثمّ منَعه تعلّقه بالعیال والأولاد عن القیام بتكلیفه، فهو یعنی أنّ تعلّقاته تلك قد غلبت على محبّة الله وهی غیر مجازة. فعلى الرغم من أصالة تلك الأنواع من المحبّة، فإنّها مسموح بها طالما لم تتعارض مع محبّة الله تعالى، أمّا إذا تعارضت معها وغلبت محبّة غیر الله على محبّته جلّ وعلا، فإنّ الله لا یجیزها.
القسم الآخر من المحبّة هو ذلك الذی لا یكون مجازاً فحسب، بل ولازماً أیضاً. وهذا الحبّ لا یمكن فصله عن حبّ الله، وانّ على كلّ من یحبّ الله أن یملك هذه المحبّة فی قلبه. وهذا الأمر یجری على الشؤون العادیّة أیضاً؛ فإنّ من یحبّ امرَأ فإنّه سیحبّ أفراد اُسرته وأصدقاءه وزملاءه فی العمل ومعاشریه أیضاً من أجله. فلیس لنا – على سبیل المثال - فی عصرنا هذا مَن نحبّه ونودّه أكثر من قائد الثورة المعظّم (مُدّ ظلّه)، ولذا فنحن نحبّ ثیابه، وبیته، وكُتبه، وحتّى صورته أیضاً. فإنّ حبّ المرء صورة محبوبه ووضْعَه إیّاها على عینه وقلبه وتقبیلها هو من باب انتسابها إلى محبوبه وحكایتها إیّاه. وإنّ حبّ الناس الضریحَ الذی صُنع للإمام الحسین (علیه السلام) لم یكن بسبب خشبه وذهبه وفضّته، إذ لیس لهذه الامور من قیمة ولا أحد یتجشّم كلّ هذا العناء بسببها. لكنّه عندما یكتسب نفس هذا الخشب وهذه المعادن عنوان ضریح سیّد الشهداء (علیه السلام) فإنّها تحظى بالقیمة وتعمل على إسالة أدمع الناس عند نظرهم إلیها. وكلّنا قد شاهد أیّ كرامات ظهرت بسبب هذا المعدن وهذه الأعواد الخشبیّة، وكم قضت من حوائج الناس، وكم شُفیت من أمراض على طول المسیر إلى كربلاء. فمن الواضح أنّ جمیع هذه الآثار هی بسبب الشرف الذی اكتسبه هذا الضریح جرّاء انتسابه إلى سیّد الشهداء (علیه السلام). فلا یمكن أن یحبّ المرء الحسین ولا یحبّ ضریحه. فهذا هو معنى الحبّ.
هذا النمط من الحبّ یحكی مضمون تلك الأبیات الجمیلة المنسوبة لمجنون لیلى إذ یقول:
أمُرّ على الدیار دیار لیلى اُقَبّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبّ الدیار شغفنَ قلبی ولكن حبّ من سَكَن الدیارا
فإنّنی لست اُحبّ جدران الحیّ، بل اُحبّ تلك التی تسكن فی هذا الحیّ. فإن كنت اُحبّ لیلى فلابدّ أن اُحبّ حیّها بل وجدران حیّها أیضاً. فإن أحبّ المرءُ اللهَ فهو لا یستطیع أن لا یحبّ أعزّ عباده، وإنّ مَن لا یحبّ هؤلاء فهو لا یحبّ الله أیضاً. إنّ شخصاً كهذا یكذب إذا زعم حبّ الله، بل إنّه یحبّ شیئاً ما فی مخیّلته متصوّراً أنّه الله ویقول: إنّنی احبّه. من أجل ذلك فإنّ مَن لا یحبّ رسول الله وأهل بیته (علیهم السلام) لیس له ادّعاء محبّة الله؛ لأنّ هذا محال. اللهمّ إلا إذا لم یكن یعرفه (صلّى الله علیه وآله) ولا یعلم أنّه نبیّ الله وأنّه أشرف عباده وأعزّهم لدیه. إذن من الواضح أنّ هذا النمط من المحبّة لیس أنّه مجاز فحسب، بل ولازم أیضاً ولا ینفكّ عن محبّة الله عزّت آلاؤه.
لكنّه لابدّ من الالتفات إلى أنّ هذه المحبّة لیست محبّة أصیلة. فقیس لم یكن یحبّ دیار لیلى من أجل طینها وآجرها، لكنّه شعاع محبّة لیلى الذی كان یشعّ على جدران وأبواب حیّها. فهذا هو عین ذاك ولیس ثمّة شیء آخر. فإنّك عندما تعشق الإمام الخامنئیّ فإنّك تحبّ صورته أیضاً. فحبّ الصورة لیس شیئاً ثانیاً، بل هو عین حبّ القائد قد سرى إلى هذه الصورة. فحبّ أولیاء الله أیضاً هو من هذا الباب، ولهذا فلیس أنّه غیر مضادّ لمحبّة الله فحسب، بل لابدّ من وجوده ضرورةً، وإن لم یوجد فادّعاء حبّ الله سیكون كذباً.
تدلّ العدید من الأحادیث ممّا یرویه الفریقان على أنّ كلّ امرئ سیكون مع من أحبّ. بل إنّ هناك باباً فی كتب الحدیث تشترك جمیعها فی مضمون واحد وهو أنّ: «المرء مع من أحبّ» وجاء فی ذیل أحدها: «ولو أنّ رجلاً أحبّ حجَراً لَحشره الله معه»[3] [209] یوم القیامة. بمعنى أنّ المحبّة تخلق حالة من الاتّصال بین روح المرء ومحبوبه بحیث لا ینفصلان عن بعضهما وهذه الحالة تظهر فی عالم الآخرة. فعندما یذكر الإنسان ربَّه، یصیر الله جلیسه. بل إذا كتب كلمة: «الله» على ورقة فإنّه لا یستطیع لمسها من دون وضوء. فالورقة هی عین الورقة والحبر ذات الحبر ولیس لأیّ واحد منهما قداسة خاصّة، لكنّك إذا كتبت بالحبر على الورقة بشكل یظهر الله ویذكّر به، فإنّهما سیكتسبان من القداسة ما یجعل فی لمسهما من دون وضوء معصیة.
لعلّكم جمیعاً قد سمعتم باسم «كربلائی كاظم»؛ ذلك القرویّ الاُمّی الذی حفظ القرآن بشكل غیر طبیعی. یقول سماحة آیة الله الخزعلیّ: «كتبتُ على ورقة واوین، وقد كتبت أحدهما بقصد كونه واواً من إحدى سور القرآن الكریم. ثمّ وضعت الورقة أمام كربلائی كاظم وقلت له: ماذا ترى فی الورقة؟ لقد كان اُمّیاً ولا یعرف حروف الألفباء بتاتاً، لكنّه قال: أنا لا أعرف ما كتبت لكنّ هذا الحرف له نور أمّا الثانی فلیس له نور. كما ویُنقل عن المرحوم آیة الله الحائری (رضوان الله تعالى علیه) أنّه وضع كتاب «جواهر الكلام» أمام كربلائی كاظم وسأله: هل تستطیع أن تقرأ منه شیئاً؟ فأجاب: لا یا سیّدی! فأنا اُمّی. لكنّه أشار إلى آیات وكلمات القرآن الموجودة فی الكتاب وقال: فی هذه المواضع یوجد نور.
استناداً إلى ما ذُكر فإنّ لهذا العالم أسراراً قد لا ندركها نحن، لكن لا یحقّ لنا أن ننكرها. وقد یظهر الله عزّ وجلّ أحیاناً اُموراً لتكون حجّة على الناس ولیفهموا أنّه ثمّة اُمور اُخرى إلى جانب تلك القضایا المادّیة ولعب الدنیا ولهوها.
جاء فی الخبر الذی یرویه الفریقان: «عن أنس قال: جاء رجلٌ من أهل البادیة، وكان یعجبنا أن یأتی الرجل من أهل البادیة یسأل النبیّ (صلّى الله علیه وآله) فقال: یا رسول الله! متى قیام الساعة؟ فحضرت الصلاة [فقال النبیّ: الآن وقت الصلاة. ساُجیبك عن سؤالك بعد الصلاة]. فلمّا قضى صلاته قال (صلّى الله علیه وآله): أین السائل عن الساعة؟ قال أنا یا رسول الله. قال: فما أعددتَ لها؟ [وكان غرض النبیّ (صلّى الله علیه وآله) من سؤاله هذا هو لفت انتباهه إلى أنّ ما ینبغی أن تهتمّ به هو أن تعمل ما یفیدك یوم القیامة، فلا جدوى من فهم وقت قیام الساعة] قال: والله ما أعددتُ لها من كثیر عمل صلاةٍ ولا صومٍ إلا أنّی أحبّ الله ورسوله. فقال له النبیّ (صلّى الله علیه وآله): المرء مع من أحبّ [أی: إنّك ستكون معنا یوم القیامة]. قال أنس: فما رأیتُ المسلمین فرحوا بعد الإسلام بشیءٍ أشدّ من فرحهم بهذا»[4] [210].
وینقل صاحب «كشف الغمّة» فی روایة اُخرى عن عبد الله بن صامت ابن أخی أبی ذر أنّه قال: «حدّثنی أبو ذرّ وكان صفوُه وانقطاعُه إلى علیّ وأهل هذا البیت، قال: قلت: یا نبیّ الله! إنّی أحبّ أقواماً ما أبلغ أعمالهم. قال: فقال: یا أبا ذرّ! المرء مع مَن أحبّ وله ما اكتسب؛ [أی: إنّ لكلّ امرئ ما عمل وهو یؤجر علیه. وكما تلاحظون فقد وردت هنا عبارة: «وله ما اكتسب» وهی تعنی أنّ قولنا: مع مَن أحبّ، لا یعنی مساواته لهم فی كلّ شیء، بل إنّه معهم ویراهم، لكنّه لكلّ امرئ ما عمل وسیُثاب علیه]. قلت [أبو ذر]: فإنّی أحبّ الله ورسوله وأهل بیت نبیّه. قال: فإنّك مع من أحببتَ. وكان رسول الله (صلّى الله علیه وآله) فی ملإٍ من أصحابه فقال رجال منهم: فإنّا نحبّ الله ورسوله ولم یذكروا أهل بیته [وقد لا یكونون مغرضین فی ذلك، إذ لعلّهم ذكروا الله ورسوله فقط من حیث إنّهما ذُكرا فی مواضع كثیرة من القرآن الكریم إلى جانب بعضهما]، فغضب (صلّى الله علیه وآله) و قال: أیّها الناس! أحبّوا الله عزّ وجلّ لما یغدوكم به من نعمه، وأحبّونی بحبّ ربّی، وأحبّوا أهل بیتی بحبّی؛ [أی: إن كنتم تحبّون الله فلابدّ من أن تحبّوا محبوبه، ولذا فیتعیّن أن تحبّونی، ولـمّا كنتُ أحبّ أهل بیتی فیتحتّم علیكم أن تحبّوا أحبّائی أیضاً. وكلامه الأخیر (صلّى الله علیه وآله) هذا كان تعریضاً بمن قال: نحبّ الله ورسوله ولم یذكروا أهل البیت (علیهم السلام). فوجّههم (صلّى الله علیه وآله) بأن یحبّوا كلّ من یحبّ. ثم قال:] فَوَالذی نفسی بیده لو أنّ رجلاً صفن بین الركن والمقام [أنفق عمره یعبد الله بین الركن والمقام وهما أقدس محلّین فی المسجد الحرام] صائماً وراكعاً وساجداً ثمّ لقی الله عزّ وجلّ غیر محبّ لأهل بیتی لم ینفعه ذلك. قالوا: ومَن أهل بیتك یا رسول الله أو أیّ أهل بیتك هؤلاء؟ [فذكر (صلّى الله علیه وآله) من صفاته ما یلی] قال: مَن أجاب منهم دعوتی، واستقبل قبلتی [صلّى معی]، ومن خلقه الله منّی ومن لحمی ودمی. فقالوا: نحن نحبّ الله ورسوله وأهل بیت رسوله. فقال: بَخٍ بَخٍ فأنتم إذاً منهم. أنتم إذاً منهم. والمرء مع من أحبّ وله ما اكتسب»[5] [211]؛ أی: مرحى الآن قد أصبتم. فالآن وقد اكتمل فیكم نصاب المحبّة، فستكونون إذن معهم. ثمّ كرّر هذه الجملة: «المرء مع من أحبّ».
بناء على ذلك فلیست جمیع أنواع المحبّة تتنافى مع محبّة الله، فهناك فرق بینها. ففی مرتبة من مراتب محبّة الله یكون نمط من محبّة غیره مجازاً ضمن حدود معیّنة فیجوز للناس حبّ بعض الاُمور الدنیویّة إلى جانب حبّ الله، بالطبع بشرط أن لا تمنع الاُولى أداء بعض التكالیف الواجبة. أمّا اُولئك الذین یحظون بالمراتب العلیا من المحبّة لله فإنّ محبّة غیره لا تجد محلاًّ لها فی قلوبهم أساساً فإنّ محبّة الله تغمر قلوبهم بحیث لا تترك مجالاً لمحبّة غیره، اللهمّ إلاّ تلك المحبّة التی تكون متفرّعة عن محبّة الله ولازمة لها. فهذه المحبّة لا تشكّل عائقاً أمام محبّة الله، ولا تكون مضادّة لها، بل إنّها لا تنفكّ عنها أصلاً.
وفّقنا الله وإیّاكم
1 [212]. سورة التوبة، الآیة 24.
2 [213]. الحرب التی دامت ثمانی سنوات بین الجمهوریّة الإسلامیّة والنظام الصدّامی مدفوعاً من قبل قوى الاستكبار العالمیّ.
3 [214]. الأمالی (للصدوق)، ص210.
4 [215]. علل الشرائع، ج1، ص139.
5 [216]. كشف الغمة، ج1، ص415.
(13)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 26 شباط 2014م الموافق للسادس والعشرین من ربیع الثانی 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
استعرضنا فی المحاضرة السابقة العلاقة بین محبّة الله وغیرها من أشكال المحبّة، وذكرنا أنّ بعض هذه الأشكال - كمحبّة أعداء الله - لا تجتمع مع محبّة الله مطلقاً؛ أمّا البعض الآخر فقابل للجمع معها إلى حدّ ما. كما أنّ نفس هذه الأنماط من المحبّة تنقسم إلى عدّة مجامیع. فمنها ما لا تضادّ بینه وبین محبّة الله. ففی المراحل الأوّلیّة لمحبّة الله فإنّه طالما لم یتعارض هذا النمط من الحبّ مع لوازم محبّته تعالى ولم یمنع الإنسانَ من أداء ما علیه من تكلیف شرعیّ، فإنّه مسموح به، بل وقد یعمل أحیاناً - من باب تقویة العاطفة - على ترقیق القلب ویساعد على ظهور المحبّة لله وزیادتها. وبناءً علیه فإنّ هذا النوع من الحبّ مُجاز طالما لم یزاحم أداء التكلیف ولم یؤدّ إلى ارتكاب المعصیة.
أمّا المجموعة الثانیة من المحبّة فهی تُعدّ من لوازم محبّة الله وغیر قابلة للانفكاك عنها. فعلى سبیل المثال إذا علم المرء أنّ شخصاً معیّناً محبوب من قبل الله، فإنّ من لوازم محبّة الله أن یحبّه هو أیضاً. ولا حاجة للدلیل والبرهان لفهم هذا الأمر إذ أنّنا نمارسه فی حیاتنا الیومیّة. فكلّنا نحبّ كلّ ما یتعلّق بمن نحبّ، اللهمّ إلاّ إذا كان لهذه المتعلّقات من الخصوصیّات ما یتنافر مع أصل هذه المحبّة، حیث تصیر المحبّة – فی هذه الحالة - من جنس القسم الأوّل، أی انّها مذمومة ولا یمكن جمعها مع محبّته عزّ وجلّ.
تحتوی الروایات الشریفة على مباحث جمّة تفصح عن عدم انفكاك محبّة الله عن محبّة أولیائه. بالطبع إنّ تحدید مصادیق ما ورد فی الروایات فی هذا الشأن یتطلّب بحوثاً موسّعة سنتناول بعضها – إن شاء الله – فی المحاضرات القادمة، لكنّ المصداق الأبرز، والذی یعلمه ویعتقد به جمیع المسلمین، هو محبّة أهل بیت النبیّ (صلوات الله علیهم أجمعین) والتی جُعلت فی بعض هذه الروایات لازمة لمحبّة الله عزّ وجلّ، بل ووردت فی حقّها أحیاناً تعابیر غایة فی العمق والدلالة.
رُوی عن أبی عبد الله الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «المحبّ فی الله مُحبّ لله والمحبوب فی الله حبیب الله لأنّهما لا یتحابّان إلا فی الله»[1] [217]. فإن أحبّ امرؤ أحداً فی الله ومِن أجله تعالى، فهو فی الحقیقة یحبّ الله، وفی هذه الحالة فإنّ محبوب هذا الشخص هو محبوب الله أیضاً. فإنّ مَن تتوفّر فیه الأهلیّة لیكون محبوباً فی الله فإنّ الله یحبّه أیضاً. فهذان الأمران هما بمثابة لازم وملزوم. فالمحبّ والمحبوب كلاهما فی الله وإنّ محبّة كلیهما هی محبّة إلهیّة؛ یقول: «لأنّهما لا یتحابّان إلا فی الله». ثمّ یروی الإمام الصادق (علیه السلام) حدیثاً عن رسول الله (صلّى الله علیه وآله) إن لم نقل انّه متواتر فهو مشهور على الأقلّ وقد نقله الفریقان بشكل مكرّر؛ یقول: «قال رسول الله (صلّى الله علیه وآله): المرءُ مع مَن أَحَبّ». بمعنى أنّ المحبّة تؤدّی إلى شكل من أشكال العلاقة بین المحبّ والمحبوب وتتحقّق بینهما المعیّة.
فعندما یحبّ المرؤ شخصاً فی الله یتولّد بینهما نمط من المعیّة محورها الله عزّ وجلّ؛ فهذا یحبّ ذاك فی الله، وذاك أیضاً یصیر محبوباً لهذا فی الله. «فمن أحبّ عبداً فی الله فإنّما أحبّ الله تعالى». ومتابعةً للروایة یستدلّ (علیه السلام) بحدیث آخر لرسول الله (صلّى الله علیه وآله) فیقول: «قال رسول الله (صلّى الله علیه وآله): أفضل الناس بعد النبیّین فی الدنیا والآخرة المُحبّون لله المتحابّون فیه، وكلّ حبّ معلول یورِث بُعداً فیه عداوَةً إلاّ هذین وهما من عین واحدة یزیدان أبداً ولا ینقصان أبداً»؛ فالمحبّة التی لا تكون فی الله، كالمحبّة الدنیویّة، تكون محطّ تزاحم وتظهر آفاتها وتؤدّی – شئنا أم أبینا – إلى العداوة. فقد یظهر من شخص حُسنٌ حیناً فیكون سبباً فی حبّ إنسانٍ له، لكن قد یظهر منه عیبٌ حیناً آخر فیكون مدعاة للعداوة معه. بناء علیه فإنّ كلّ أشكال المحبّة الدنیویّة مصیرها العداوة وتنتهی بضرب من الفراق بین المحبّ والمحبوب وهو ما یستلزم العداوة والبغضاء.
ویستدلّ إمامنا الصادق (علیه السلام) فی هذا الجزء من الروایة بقوله تعالى: «الأَخِلاّءُ یَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاّ الْمُتَّقِینَ»[2] [218]؛ فالذین كانوا أخلاّء وأصدقاء فی الدنیا سیصیرون أعداءً لبعضهم البعض یوم القیامة، أمّا المتّقون فإنّهم مستثنون من هذه القاعدة، وهم الذین یحبّ بعضهم البعض فی الله، ولیس من أجل أغراض ومآرب دنیویّة. ولذا فإنّ كلّ محبّة هی تؤدّی إلى عداوة إلاّ أن یحبّ المرء غیره فی الله؛ فیكون محبّاً فی الله ویكون الآخر محبوباً فی الله، وهی محبّة لا تزول أبداً: «یزیدان أبداً ولا ینقصان أبداً... لأنّ أصل الحبّ التبرّی عن سوى المحبوب». فالمحبّة تقضی بأن یستغرق المحبّ فی حبّ محبوبه ویترك من سواه. فعندما یتبادل شخصان الحبّ فی الله یكون الله المحور الأساسیّ لمحبّتهما، إذ أنّ كلیهما یحبّ الله، كما أنّ هذا یحبّ ذاك لأنّ الله یحبّه، وذاك یصبح محبوباً لأنّ لدیه من المحبّة والكمال بحیث یحبّه الله.
ثمّ یستند أبو عبد الله (علیه السلام) استطراداً فی روایته إلى حدیث عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) فیقول: «قال أمیر المؤمنین (علیه السلام): إنّ أطیبَ شیء فی الجنّة وألَذَّه حبّ الله والحبّ فی الله والحمد لله»؛ أی إنّ اللذّة التی یشعر بها أهل الجنّة بسبب هذه الاُمور تفوق تلك الناجمة عن جمیع نعم الجنّة.
تحدّثنا سابقاً عن لذّة محبّة الله وحبّ الآخرین فی الله، لكنّه (علیه السلام) یعدّ الحمد لله هنا من ألذّ النعم إلى جانب هذین الأمرین وهو أمر یدعو إلى العجب بعض الشیء ویحتاج لتوضیح. فنحن البشر عندما نحمد الله نمنّ علیه – عادة - فنقول: «صحیح أنّ الله أنعم علینا هذه النعمة، لكنّنا حمدناه علیها وأدّینا حقّها» فلا نَعُدّ الحمد نفسه نعمة كی نلتذّ بها هی الاخرى. لكنّ السؤال المطروح هنا هو: ما معنى قوله (علیه السلام) «إنّ أطیبَ شیء فی الجنّة وألَذَّه حبّ الله والحبّ فی الله والحمد لله»؟ فكیف یكون الحمد لله من أطیب الأشیاء؟ بالطبع فقد استدلّ (علیه السلام) هنا بهذه الآیة: «وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ»[3] [219]. فعندما یستقرّ أهل الجنّة فیها وینتهی الأمر ویعلمون أنّهم غیر خارجین منها وباقون فیها إلى أبد الآبدین فإنّهم ینبرون بالقول: «الْحَمْدُ للهِ الَّذِی... الَّذِی أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ»[4] [220]. ومن الواضح أنّ قول ذلك یمثّل منتهى العرفان بالجمیل، لكن كیف یكون هذا الفعل أطیب وألذّ نعمة؟
فلنفترض أنّ امرأ یحبّ شخصاً ما، فإنّ من لوازم هذه المحبّة هو أن یقیم مع محبوبه علاقة حوار رومانسیّ ویخبره بأنّه یحبّه، وهو یلتذّ من نفس هذا الإخبار أیضاً. وبتعبیر آخر فإنّ غایة اللذّة عند المرء هو أن یستطیع أن یصارح صدیقه بأنّه یكنّ له حبّاً جمّاً، وهو یفتّش عن الفرصة المناسبة لمصارحته بذلك. فمجرّد الحبّ القلبیّ هو حالة مریحة ومُرضیة لكنّ لذّة إظهار المحبّة وإقامة العلاقة مع المحبوب تفوق الاُولى بكثیر. فالمحبّة الـمُضمَرة هی كالبذرة المودَعة فی التراب، فمع أنّ الموادّ الموجودة فی براعم وأزهار وثمار الشجرة النابتة من هذه البذرة هی عین المواد التی كانت موجودة فی البذرة، وهی الآن قد نمت وبلغت هذه المرحلة، لكنّ الفاصلة بین البذرة وثمرة هذه الشجرة كبیرة جدّاً. فصحیح أنّ هذه الشجرة قد نمت من نفس تلك البذرة وظهر فیها ما كان مخفیّاً فی البذرة من كمالات، لكنّ للثمرة لذّة مختلفة تماماً.
وكذا أهل الجنّة فإنّهم یلتذّون بآلاء ربّهم. لكنّ بعضهم یحبّ نفس النعم ویأنس بها. فكلّنا یحبّ قصور الجنّة المشیّدة من اللؤلؤ والمرجان وفاكهة الجنّة وأطعمتها و«وَفَوَاكِهَ مِمَّا یَشْتَهُونَ»[5] [221]، و«لَحْمٍ مِّمَّا یَشْتَهُونَ»[6] [222]. لكنّنا لا نتذّكر أنّ الله قد وهبها لنا وأنّنا نحبّ الله لأنّه أسبغ علینا هذه النعم إلاّ بعد التمتّع بها. أمّا محبّو الله فإنهم لیسوا هكذا، فهؤلاء یحبّون نعم الجنّة من باب أنّ الله قد وهبها لهم. فلو اشترى صدیقك كتاباً وأهداه لك، فإنّك ستحبّ هذا الكتاب جدّاً وستشكر صدیقك على أن أهداك إیّاه. لكنّك قد تحبّ الكتاب بسبب أنّ صدیقك هو الذی أهداه لك، وأنّه لو لم یكن منه، لما أعرتَه أهمّیة.
فأحباب الله تعالى یلتذّون بنعیم الجنّة كما نلتذّ نحن به، لكنّ التذاذهم یختلف كثیراً عن التذاذنا؛ فنحن نفرح بنفس النعم، أمّا هؤلاء فینصبّ كلّ اهتمامهم على محبوبهم، وإذا نالوا نعمة فإنّهم سیحبّونها من جهة كونها منه. وهناك بون شاسع بین هذه اللذّة وتلك التی تأتی من نفس النعمة.
وحتّى أولیاء الله فإنّهم یفیدون من نعم الجنّة ویلتذّون بها، لكنّ التذاذهم لا یشبه التذاذنا. فهؤلاء یعدّون هذه النعم لطفاً وعنایةً من الله عزّ وجلّ ویقولون: إنّنا لم نكن نستحقّ كلّ هذا، لكن أیّ كَرَم لله فی أن یغفر لنا ذنوبنا، ویتجاوز عن سیّئاتنا، ویُدخلنا الجنّة، ثمّ لا یكتفی بهذا، بل ویغدق علینا كلّ هذه النعم باستمرار. فهؤلاء العباد تزداد محبّتهم لله یوماً بعد یوم وهم یلتذّون بالنعم من باب كونه هو الذی یمنّ بها علیهم. وهذا هو المراد من أنّ قول: «الحمد لله ربّ العالمین» یمثّل الحوار الرومانسیّ الذی یدور بین أهل الجنّة وربّهم. أمّا نحن، وانطلاقا من الحالة التی نحن علیها الآن، فإنّنا سنلهو فی الجنّة بالورد والعطور والفاكهة وغیرها من النعم وسننسى أساساً أنّه ثمّة إله، وأنّه هو الذی أنعم علینا بكلّ هذا! أمّا قلوب أولیاء الله فإنّها مُلتفتة إلى الله ومُنتظرة لعنایاته منذ الیوم الذی فارقوا فیه هذه الحیاة. وحتّى عندما یمنّ علیهم ربّهم بالاستقرار فی جنّة الخلد فإنّ أكبر لذّة لهم هی أن یتلقّوا من یده نعمة.
كلّنا یعتقد بأنّ أهل الجنّة سیصلون فی یوم القیامة إلى حوض الكوثر وسیشربون من ید أمیر المؤمنین (علیه السلام) بكأسٍ شراباً فردوسیّاً سیمحو كلّ عیوبهم ویطهّرهم من كلّ دنس ورذیلة. ومن الواضح أنّ الإنسان إذا أحسّ بأنّ كلّ هذه الأدناس كانت فیه وأنّها مُحِیَت بید أمیر المؤمنین (علیه السلام) فإنّه سیشعر بلذّة ما بعدها لذّة، لكنّ علیّاً (علیه السلام) له أحباب یشعرون بالنشوة والدهشة لمجرّد أنّهم یشربون هذه الكأس من یده (علیه السلام).
یمارس بعض عباد الله هذا النمط من الحبّ مع محبوبهم. فعندما تكون جمیع النعم فی أیدیهم ویتمتّعون بها یقولون: «الحمد لله»، وهم یلتذّون من هذا الحمد. ولو لم یُذكر ذلك فی الروایات لما تجرّأتُ على نقله بكلّ هذه الصراحة وهذا الحزم. لكنّ الروایة التی ذكرنا تقول: «قال الله عزّ وجلّ: «وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمِینَ» وذلك أنّهم إذا عاینوا ما فی الجنّة من النعیم هاجَت المحبّة فی قلوبهم فینادون عند ذلك: «أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِین»»[7] [223].
كلّنا یعلم بأنّ لله آلاء عظیمة. فالماء البارد فی الصیف - مثلاً - لذیذ جدّاً، لاسیّما إذا كان المرء تائهاً وقد مسّه العطش فی وسط صحراء لاهبة، لكنّ الإنسان لا یجد الدافع إلى الشكر إلاّ حینما یتمتّع بالنعم. فنحن جمیعاً نعلم بأنّ الله قد وهب لنا نعماً جمّة، فكلنا یملك عیناً واُذناً ویداً ورجلاً و...الخ، لكنّنا ننسى أنّها جمیعاً نعم الله عزّ وجلّ، ولهذا فنحن لا نشعر باللذّة من استخدامها، بل ولا نلتفت إلى وجودها أساساً. بالطبع ینبغی الالتفات إلى كونها نعماً، ثمّ الانتباه إلى أنّها من عند الله. وعندها ستحصل حالة هیجان المحبّة فی قلوبنا عند تمتّعنا بها: «هاجَت المحبّة فی قلوبهم». فأولیاء الله عندما یتنعّمون بنعیم الجنّة تهیج المحبّة فی قلوبهم فیقولون نتیجة هذا الهیجان: «الحمد لله ربّ العالمین». وعندما یحصل هذا الهیجان، تنتابهم محبّة جدیدة. وهذه المحبّة الجدیدة أیضاً تقتضی أن تُشبَع بتوثیق العلاقة مع الله، وإشباعها إنّما یكون فی قولهم: «الحمد لله ربّ العالمین».
نسأل الله تعالى أو یمنّ علینا ببركة عنایات ولیّ العصر (أرواحنا فداه) بالتوفیق لأن تجد قطرة من بحار معارف أهل البیت (علیهم السلام) تلك سبیلاً إلى قلوبنا فنطّلع أكثر على عظمة الله وكماله وجماله، ونعلم كم هو محبوب، ثمّ نحبّ – فی ضوء محبّته – أحبّاءَه وأولیاءَه، حتّى نقول: «الحمد لله ربّ العالمین» إنّ شاء الله.
1 [224]. مصباح الشریعة، ص194 – 196.
2 [225]. سورة الزخرف، الآیة 67.
3 [226]. سورة یونس، الآیة 10.
4 [227]. سورة فاطر، الآیتان 34 و35.
5 [228]. سورة المرسلات، الآیة 42.
6 [229]. سورة الطور، الآیة 22.
7 [230]. مصباح الشریعة، ص194 – 196.
(14)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 12 آذار 2014م الموافق للعاشر من جمادی الاولى 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
ذكرنا فی المحاضرات الماضیة أنّه لا یمكن جمع محبّة الله مع حبّ ما یبغضه عزّ وجلّ. بل لقد ذكرَت بعض الروایات أیضاً أنّ السبیل لمحبّة الله هی خصومة أعدائه وبُغض ما لا یحبّه. فقد روی عن عیسى (على نبیّنا وآله وعلیه السلام) أنّه قال للحواریّین: «تحبّبوا إلى الله وتقرّبوا إلیه. قالوا: یا روح الله! بماذا نتحبّب إلى الله ونتقرّب؟ قال: ببُغض أهل المعاصی، والتمسوا رضا الله بسخطهم»[1] [231]؛ أی: بغض أهل المعاصی - لمعصیتهم بالطبع – وإذا دار الأمر بین رضا الله ورضاهم، فأَسخِطوهم مرضاةً لله. «قالوا: یا روح الله! فمَن نجالس إذاً؟ قال: مَن یذكّركم اللهَ رؤیتُه، ویزید فی علمكم منطقُه، ویرغّبكم فی الآخرة عملُه»[2] [232].
وكما تلاحظون فإن المنهاج العملیّ الذی تطرحه الروایة لاكتساب محبّة الله هو خصومة أهل المعاصی وأعداء الله. طبعاً لا ینبغی أن نتصوّر أنّ علینا معاداة كل من ارتكب معصیة. فالمراد بأهل المعاصی هم الذین بنوا أمرهم على المعصیة، وإلاّ فالمعصیة یمكن أن تصدر من أیّ شخص إلاّ المعصوم. والروایات مشحونة بمثل هذه التعابیر، وكلّ مطّلع على المصادر الإسلامیّة یدرك هذا المعنى. وبتعبیر أكثر علمیّة فإنّ تكرار بعض السلوكیّات یؤدّی إلى إكسابها حالة من الثبات فتتحوّل إلى ملَكَة عند الإنسان، حتّى تصبح جزءاً من شخصیّته. إذن لابدّ من معاداة كلّ سارق ومتعاطٍ للرشوة وغشّاش وكلّ من صار الخداع والكذب جزءاً لا یتجزَّأ من شخصیّته وأن یكون العداء له بسبب هذه الصفات. أمّا اُولئك الذین غلبتهم شهوتهم صدفةً فنظروا نظرة حرام، أو تفوّهوا بكلمة نابیة فی حالة سیطرة الغضب علیهم فهم لیسوا من أهل المعاصی. لأنّ حالات كهذه هی حالات عرضیّة تحصل مرّةً ثمّ سرعان ما تنتابهم حالة الندم فیتوبون.
ویُنقل عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) أنه قال فی حدیث آخر: «طلبتُ حبّ الله عزّ وجلّ فوجدتُه فی بغض أهل المعاصی»[3] [233]. نفهم من ذلك أنّ بغض أهل المعاصی یُعِدّ قلب الإنسان لمحبّة الله تعالى.
كما ویقول أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی روایة اُخرى: «إیّاك أن تحبّ أعداء الله أو تصفی ودّك لغیر أولیاء الله»[4] [234]. وهنا توجد التفاتة مهمّة: فهو (علیه السلام) لم یقل: إیّاك أن تحبّ غیر الله أو غیر أولیائه. فقد تكون المحبّة أحیاناً سطحیّة وتحصل للمرء فی حالة معیّنة ثمّ تزول؛ كأن یرى المرء فی شخص ما عملاً جمیلاً أو صفة حسنة فیحبّها لكنّه ینساها بعد مدّة، وهذا النمط من المحبّة یختلف عن تلك المحبّة الصافیة والنقیّة التی تستقرّ فی قلب الإنسان وتترسّخ فیه. یقول (علیه السلام): اجعل محبّتك الصافیة والنقیّة والراسخة خاصّة لأولیاء الله، ولا تُكنّ مثل هذه المحبّة لغیر أولیاء الله! ثمّ یتابع (علیه السلام) فیقول: «فإنّ مَن أحبّ قوماً حُشر معهم». وقد ذكرنا فی المحاضرات الماضیة أنّ هذا المضمون إذا لم یكن متواتراً فهو على الأقلّ مستفیض. حتّى أنّه ورد بعد إحدى تلك الروایات ما نصّه: «ولو أنّ رجلاً أحبّ حجراً لَحشره الله معه یوم القیامة»[5] [235]. نسأل الله تعالى أن یحشرنا یوم القیامة مع تربة سیّد الشهداء (علیه السلام).
وعلى أیّة حال فإنّ من لوازم محبّة الله هی محبّة أولیائه، لكنّ هذه الأخیرة لها مراتب. فتارةً یحبّ المرء الإنسانَ العابد والمتّقی والمحسن والعالِم، ...الخ وهو یعلم أنّ الله تعالى یحبّه أیضاً. فإنّ الدافع لمحبّة مثل هذا الإنسان فی هذه الحالة هو هذه الصفات، هذا على الرغم من أنّه إذا التفت المرء لمحبّة الله لهذا الإنسان لزاد حبّه له طبعاً. فقد جُبل الإنسان على حبّ كلّ ما هو حسَن حتّى وإن لم یلتفت إلى درجة إیمان المحبوب ومقدار ارتباطه بالله جلّ وعلا. أمّا إذا كانت المحبّة لله أكثر خلوصاً، فإنّها ستوصل المرء إلى درجة أنّه إذا أحبّ شخصاً آخر فلا یكون حبّه إلا لانتساب الأخیر إلى الله من دون أن یكون فی قلبه أیّ شیء آخر یدفعه لذلك. بالضبط كما لو أحبّ المرء إنساناً ما فإنّه سیحبّ صورته أیضاً، وهو - فی هذه الحالة - لا یحبّ شیئین اثنین. فلیس ثمّة فی حبّ الصورة موضوعیّة، لكنّ حبّها یمثّل فی الحقیقة شعاعاً من محبّة صاحبها. فاُولئك الذین تصبح قلوبهم خالصة لله تعالى، فإنّهم سیحبّون - فی الدرجة الاُولى - النبیّ الأكرم وأهل بیته (صلوات الله علیهم أجمعین) من باب كونّهم مرایا له جلّ شأنه.
بالطبع بما أنّ محبّة الله تعالى لم تغمر تمام قلوبنا وبما أنّنا نحبّ الله إلى جانب آلاف الأشیاء سواه، فنحن - أحیاناً - قد نحبّ النبیّ الأعظم، أو الإمام المعصوم، أو أبا الفضل العبّاس (علیهم السلام) أكثر من الله نفسه! وهذا یعود إلى عدم معرفتنا الله جیّداً. أمّا الذین كملت محبّتهم لله فإنّهم – أساساً – لا یلتفتون إلى ما سواه التفاتاً رئیسیّاً ومستقلاًّ، ولا یرون لأنفسهم شیئاً سوى العبودیّة لله تعالى. ومثل هؤلاء إذا أحبّوا أشخاصاً غیر الله فإنّهم سیحبّونهم من منطلق كونهم عباداً لله، والعبد لا یملك شیئاً ولیس له شیء من نفسه.
فلیس ثمّة أیّ تنافٍ بین حبّ الصالحین وحبّ الله تعالى. بل إنّنا معاشر البشر نعرف الله بأعماله ونعتقد بأنّه هو الذی خلقنا. وإنّ معرفتنا بأفعاله - التی هی من قبیل كونه رحیماً وغفّاراً ورزّاقاً، والتی تُعدّ سائغةً لنا وتتناغم مع مصالحنا - یدفعنا إلى حبّه عزّ وجلّ. ولعلّ هناك من الناس ممّن لو فكّر فی بدایة الطریق فی غضب الله وعذابه لما تولّدت حتّى هذه المحبّة فی قلبه. ولكن إذا كملت المحبّة، فلا یعود المرء یحبّ الله على خلفیّة أفعاله، بل إنّه سیقف على علمه وقدرته وحیاته وصفاته الذاتیّة. ففی هذه المرحلة سیدرك المرء صفات الله الذاتیّة وكمالاته وسیعرف الله على هذه الخلفیّة فیحبّه. بل إنّ بعض عباد الله یَصِلون إلى مقام بحیث إنّ الله یریهم نفسه بنحو من الأنحاء؛ لقوله تعالى: «فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقاً»[6] [236]. فأمثال هؤلاء یحبّون ذات الله جلّ شأنه، ویدركون – فی حدود معرفتهم – كمالاً لا نهایة له فیفنون فی هذا الكمال والجمال. وتلك مراتب أعلى من مستویاتنا.
وعلى أیّة حال فإنّه لیس ثمّة تضادّ بین هذه الأنماط من المحبّة كما أنّها لیست محظورة أیضاً. فإنّ محبّة غیر الله إنّما تكون محظورة إذا تعارضت مع محبّته عزّ وجلّ. فإنّ المرء فی هذه الحالة إذا أطاع الله، عُلِم بأنّه یحسب لله حساباً أكبر ویحبّه أكثر. أمّا إذا طفح قلب الإنسان بمحبّة الله فاستوعبته بأجمعه فلا یعود حینئذ لمحبّة أولیاء الله حساب منفصل عن محبّته تعالى، وسیصبحون كصورة المحبوب وثیابه حیث إنّ المرء یحبّها لمحبّته لصاحبها؛ فحبّ صورة المحبوب وثیابه هو شعاع من محبّة المحبوب یشعّ على هذه الأشیاء.
ما ذُكر من مراتب ودرجات للمحبّة یصدُق أیضاً على البغض والعداء. فإنّ من لوازم محبّة الله هی محبّة أولیائه وبغض أعدائه. وإذا لم تكن المحبّة هكذا فهی لیست كاملة ولا تدوم. ومن هذا المنطلق تُعدّ معاداة أعداء الله واحدة من السبل لاكتساب محبّته جلّ وعلا. فإنّ محبّة أحبّاء الله ومعاداة أعدائه تشبه – من الناحیة العملیّة – قوّتَی الجذب والدفع اللتین تتوفّران فی أیّ كائن حیّ. إذ أنّ لكلّ كائن حیّ صنفین من النشاطات التی تبقیه حیّاً؛ فهو یجتذب إلى نفسه - من ناحیة - الاُمور المفیدة التی تتلاءم مع ذاته، ویدفع عنها - من ناحیة اُخرى - الأشیاء التی تتنافى مع وضعه وحاله. وهذا ینطبق أیضاً على المعنویّات؛ فمن أجل أن تنمو المحبّة فی قلب الإنسان فلابدّ من تغذیتها. فكلّما فكّر الإنسان فی صفات الله تعالى الحسنة وآلائه، نَمَت هذه المحبّة، وكلّما زادت محبّته لأولیاء الله، نَمَا حبّه له جلّ شأنه أیضاً. والمثال الواضح على ذلك هو ثوب الشهید؛ فكلّما اشتاق أهل الشهید إلیه نظروا إلى ثوبه وضمّوه إلى صدورهم وقبّلوه، فهم بذلك یحیون ذكراه فی قلوبهم. فلو قُطِعت هذه العلاقة تماماً ولم یكن من آثار الشهید فی البیت شیء، فستخبو هذه المحبّة تدریجیّاً ویطویها النسیان. وبناء على ذلك فكلّما أظهر المرء المزید من المحبّة لآثار محبوبه، ترسّخ، بل نَمَا، حبّه له. والأمر كذلك بالنسبة للبغض؛ فكلّما أبدى الإنسان المزید من العداء لأعداء الله، زاد بغضه لهم ونَمَت - نتیجة لذلك – محبّته لله أكثر، ممّا سیحثّه على دفع كلّ ما یضرّ بمحبّة الله من قلبه. وهذه حقیقة قابلة للإثبات حسب قواعد علم النفس وعبر التجربة من جهة، وثمّة شواهد جمّة علیها فی الآیات القرآنیّة والأحادیث الشریفة من جهة اُخرى.
لقد أكّد قائد الثورة المعظّم (دام ظلّه) فی لقائه الأخیر بأعضاء مجلس خبراء القیادة، استناداً إلى الآیات القرآنیّة – أكّد على هذه القضیّة، وهی أنّ من جملة واجباتنا هی تعیین الحدّ الفاصل بین الصدیق والعدوّ، فإنّه: «لا تَجِدُ قَوْماً یُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْیَوْمِ الآخِرِ یُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِیرَتَهُمْ»[7] [237]. یعنی: إذا آمن المرء بالله وبیوم القیامة فمن غیر الممكن أن یودّ أعداء الله. ثمّ یقول تعالى: «أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِی قُلُوبِهِمُ الإِیمَانَ وَأَیَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَیُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِی مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِینَ فِیهَا رَضِیَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». فعلامة حزب الله فی القرآن هی أنّهم لا یوادّون أعداء الله جلّ شأنه. فمن الواضح أنّ مودّة الإنسان لأعداء الله هی من أجل نیل لمنفعة وإنّ النأی بالنفس عنها یحتاج إلى مجاهدة. فأوّل آثار هذه المجاهدة هو أنّ الله یرسّخ الإیمان فی قلب هذ المرء. والجائزة الثانیة التی یمنحها الله لأمثال هؤلاء هی تأییده إیّاهم بروح إلهیّة ورِزْقهم فی الآخرة والجنّة. وفی نهایة المطاف فإنّ منتهى ما یمنّ الله علیهم هناك هو حالة من الرضا المتبادل بین الله وبینهم وهو مقام غایة فی العلوّ ولذّة ما بعدها لذّة.
سورة الممتحنة أیضاً تستهلّ آیاتها بقوله تعالى: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ ءَامَنُواْ لا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّی وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِیَاءَ تُلْقُونَ إِلَیْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ یُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِیَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِی سَبِیلِی وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِی تُسِرُّونَ إِلَیْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَیْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن یَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِیلِ». فإنّكم – أیّها المؤمنون – تریدون أن تودّوا كفّاراً قد أنكروا ما نزل علیكم من القرآن والدین. وهم لم ینكروهما فحسب، بل إنّهم قد أخرجوا النبیّ (صلّى الله علیه وآله) وإیّاكم من دیاركم وشرّدوكم بسبب إیمانكم هذا. أفتقیمون علاقات مودّة وصداقة مع أمثال هؤلاء؟! فإن كنتم تدّعون أنّكم تجاهدون فی سبیل الله وتحبّونه وتبتغون مرضاته، فلا یجوز أن تفعلوا ذلك، إذ یستحیل الجمع بین هذین الأمرین. ثمّ یقول عزّ من قائل: «تُسِرُّونَ إِلَیْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَیْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ»؛ فإنّكم تبادلونهم خفیة علاقات الودّ والمحبّة متصوّرین أنّه لن یحیط أحدٌ علماً بذلك؟! فأنا أعلم أفضل من غیری بما أخفیتم وما أعلنتم. فإنّ من یفعل ذلك فقد ضلّ سواء السبیل.
فی آیة اُخرى من نفس السورة، والتی قد تلاها السیّد القائد (حفظه الله) أیضاً، یقول ربّ العزّة: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِی إِبْرَاهِیمَ وَالَّذِینَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَٰؤُاْ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَیْنَنَا وَبَیْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِاللهِ وَحْدَهُ»[8] [238]. أی: یجب علیكم أن تتأسّوا بإبراهیم (علیه السلام)، حیث كان یعیش مع ثلّة قلیلة فی مدینة یعبد كلّ أهلها الأصنام. بل إنّ مهنة عمّه أو والد زوجه - الذی كان یعیش معه – كانت هی الاُخرى نحت الأصنام. لكنّ إبراهیم وأصحابه، وعلى الرغم من كلّ المضایقات، كانوا قد صمدوا أمام قومهم وقالوا لهم بكلّ صراحة: إنّنا بریئون منكم جمیعاً على الرغم من سطوتكم وعظمتكم وحضارتكم وصناعاتكم وتقنیتكم، ولیس منكم فحسب، بل وممّا تعبدون أیضاً. فنحن أعداء لكم إلى الأبد حتّى تؤمنوا بالله الواحد. ثمّ یستثنی القرآن الكریم من حالة التأسّی بإبراهیم فیقول: «إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِیمَ لأَبِیهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ». فقد كان إبراهیم (علیه السلام) یدعو آزر إلى عبادة الله الواحد ونبذ عبادة الأصنام، لكنّه لم یكن یصغی إلیه. فقال له فی نهایة الأمر: بما أنّنا نعیش معك وأنّ لك حقّاً فی رقبتنا، فسأستغفر لك الله. تقول الآیة الكریمة: حتّى هذه العبارة لا تقولوها لأعداء الله، ولا تَعِدوهم بالاستغفار أیضاً!
لكن لماذا استُثنی هذا الاستغفار یا ترى؟ فقد یكون استغفارنا لهم من باب الدعاء لهم بالهدایة والمغفرة. فلماذا لا ینبغی أن نفعل ذلك أیضاً؟!
یوضّح الله عزّ وجلّ هذه القصّة فی آیة اُخرى فیقول: «وَمَا كَانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِیمَ لأَبِیهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِیَّاهُ فَلَمَّا تَبَیَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ»[9] [239]. فصحیح أنّ إبراهیم (علیه السلام) قد وعد آزر بهذا الوعد لكونه عمّه ولأنّه كان قد تكفّل بتربیته، لكنّه عندما علم أنّ آزر لا یتخلّى عن بغضه لله تبارك وتعالى فقد أعلن براءته منه. فقد یكون بغض الإنسان ناجماً عن الغفلة وسوء التفاهم والخطأ أحیاناً فیبغض أحداً عن غیر قصد. فشخص كهذا قد یبادر إلى الاعتذار إذا علم بخطئه. فمن منطلق أنّ الإنسان یرجو لمثل هذا الشخص الهدایة ونبذ العداء فلا مانع من الاستغفار له. لكنّه إذا تمكّن العداء والبغض من قلبه واستفحل فیه، فلا تعود هناك فائدة، بل لا یعود الاستغفار له جائزاً حینئذ.
فلا یُنتظَر من زعماء الولایات المتّحدة أن یتحلّوا بخصال الآدمیّین. فقد تمّ اختبارهم لمئتی سنة، ولقد اختبرناهم نحن على مدى ثلاثین أو أربعین سنة على الأقلّ وخبرنا بغضهم وعداءهم جیّداً. وأفضل اختبار لهم كانت هذه المفاوضات الأخیرة وما بدر منهم من كلام، حیث لم تزل المفاوضات فی مراحلها الاُولى حتّى أجهزوا بأطماعهم على كلّ اتّفاق ولم یلتزموا بأیّ تعهّد. یقول القرآن الكریم: إذا بلغ الإنسان هذا الحدّ فلا یجوز لك حتّى أن تستغفر له، أو تُظهر له طلاقة الوجه. إذ حتّى إبراهیم (علیه السلام) فإنّه عندما علم أنّه لیس ثمّة من سبیل لهدایة آزر وأنّ عداءه لربّه قد بات جزءاً لا یتجزّأ من شخصیّته، فقد تبرّأ منه. لكنّ الله تعالى فی الوقت ذاته ینهانا عن التأسّی بإبراهیم (علیه السلام) فی هذه القضیّة وأن لا نَعِد أعداء الله بالاستغفار. فصحیح أنّ الإنسان قد یبرم مع عدوّه صفقة لمصلحةٍ ما، ولا بأس فی ذلك. لكنّه ینبغی أن أقول له: إنّنی عدوٌّ لك، وإنّك عدوٌّ لی، ولیس هناك أمل فی الوفاق والوئام بیّننا. فبما أنّك بحاجة إلیّ وأنا بحاجة إلیك فإنّنا نبرم معاً هذه الصفقة؛ لكنّ – بالطبع – ینبغی أن تكون صفقة واضحة المعالم، ووفقاً للقوانین، وخاضعة لظروف متماثلة؛ لا أن تفتح لهم الباب للدخول إلى بلدنا متى ما شاءوا، والاتّصال بكلّ مَن یرغبون الاتّصال به، وارتكاب أیّ حماقة وحیاكة أیّ مؤامرة تخطر فی بالهم، فی الوقت الذی لا یسمحون لدبلوماسیّینا حتّى باجتیاز مجالهم الجوّی! فهذا لیس بتصرّف منطقیّ، والإسلام لا یسمح بذلك.
وقد نزلت سورة قرآنیّة كاملة فی هذا الشأن. فسورة المممتحنة تستهلّ آیاتها بالقول: إیّاكم ومودّة أعداء الله، فالله یعلم أنّ منكم من یذهب خفیة للحوار معهم وإعطائهم الوعود. یقول: «وَأَنَا أَعْلَمُ». وهذه من المواطن التی ینسب الله تعالى فیها العلم لنفسه من دون القول: «والله یعلم» أو: «إنّا نعلم». بل یقول: «أنا أعلم»؛ بمعنى: إنّ شأنكم مع شخصی أنا. «وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَیْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ». فحتّى لو لم یطّلع أحد على ذلك، فأنا على علم بما تقیمونه فی الخفاء مع أشخاص معیّنین من علاقات، وبما تقدّمون لهم من وعود. فمَن یرتكب منكم هذه الحماقة فقد ضلّ!
لقد وقف إبراهیم (علیه السلام) مع أنصاره القلیلین بكلّ صلابة قائلین: نحن لا نمزح معكم ولا نجاملكم. ومع أنّه لیس بیننا من ثأر، فبما أنّكم مشركون بالله تعالى وأعداءٌ له، ونحن مؤمنون بالله وأحباؤه فإنّ العداوة والبغضاء بیننا لا تزول، اللهمّ إلاّ أن تؤمنوا بالله. فلابدّ أن یكون المؤمن صلباً وأن لا ینتابه الضعف أمام الكفّار، وأن یعلنها بوضوح: إنّنی نذرت وجودی وكیانی للدین ولله ولأولیائه، أمّا أنتم فقد كرّستم حیاتكم لبغض الله وعدائه وتحاولون جاهدین إبادة الدین وإهلاك أولیاء الله. إذن فلا یمكن أن تقوم بیننا علاقة صداقة واُخوّة. هكذا ینبغی أن یكون المؤمن، وحتّى لو كانت قواه الظاهریّة والبدنیّة فی منتهى الضعف، فلا یجوز أن یركع أمام الكافر؛ ذلك أنّه: «للهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنینَ»[10] [240]
[1] [241]. تحف العقول، ص44.
[2] [242]. لقد ذُكرت هذه الروایة فی بعض الكتب الروائیّة كاُصول الكافی بشكل مستقلّ: «یا روح الله! مَن نجالس؟ قال: مَن یذكّركم اللهَ رؤیتُه ویزید فی علمكم منطقُه ویرغّبكم فی الآخرة عملُه» (الكافی، ج1، ص39).
[3] [243]. مستدرك الوسائل، ج12، ص173.
[4] [244]. غرر الحكم ودرر الكلم، ص170.
[5] [245]. وسائل الشیعة، ج14، ص502.
[6] [246]. سورة الأعراف، الآیة 143.
[7] [247]. سورة المجادلة، الآیة 22.
[8] [248]. سورة الممتحنة، الآیة 4.
[9] [249]. سورة التوبة، الآیة 114.
[10] [250]. سورة «المنافقون»، الآیة 8.
(15)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
لقد قلنا فی تعریف المحبّة إنّه من الواضح أنّ ما نجده فی أنفسنا وما نملك – كما یصطلح علیه - علماً حضوریّاً به لیس هو بحاجة إلى تعریف. وكذا هو الحال بالنسبة للمحبّة، فنحن جمیعاً نمارسها ونعرف ما هی. لكن بما أنّه قد یحصل أحیاناً خطأ فی مقام تفسیر المعطیات الحضوریّة والبحث فیها ونقلها فقد حاولنا طرح تعریف للمحبّة. وبالطبع فإنّ ید المعرِّف فی مثل هذه التعاریف مبسوطة إلى حدٍّ ما وباستطاعته أن یتناول المفهوم بشكل موسّع أو مضیّق. وذكرنا فی توضیحنا لمفهوم المحبّة أنّ المحبّ یشعر بانجذابه نحو المحبوب وأنّ المحبوب یفعل فعل المغناطیس فی اجتذابه المحبّ نحوه. وتبعاً لذلك یشعر المحبّ بالمیل إلى توطید علاقة أعمق مع المحبوب وتقلیص المسافة بینهما كی لا تبقى ثمّة أیّ واسطة بینهما. ولابدّ من الالتفات هنا إلى أنّ هذا النمط من الانجذاب هو انجذاب عن إدراك، لأنّ الانجذاب من دون إدراك وعلم لیس هو بمحبّة. فقد وسّع البعض تعریف المحبّة لیشمل معظم الأشیاء التی لا شعور لها؛ فالحكماء – على سبیل المثال – یقولون: إنّ «الهیولى الاُولى» تحبّ وتطلب الصورة وهی تحاول جذب الصورة نحوها. ومن الواضح أنّ الهیولى الاُولى لیست هی موجودةً بالفعل ولیس لها شعور أو إدراك، ولا یصدق معنى المحبّة بالنسبة لها حقیقةً، إلاّ أنّه حصل هنا لون من توسیع المفهوم وحالة من التجوّز. وعلى أیّة حال فإنّ المرء یشعر فی حالة المحبّة بأنّه ینجذب نحو شخص أو شیء ما وهو یحبّ - عن غیر وعی منه - التقرّب إلیه ویحسّ باللذة من ذلك.
إنّ كلّ كائن ذی شعور یحبّ – أصالةً وبالذات – نفسه أوّلاً وكمالاته ثانیاً. وبالطبع فإنّ حبّ الكمال هذا ینشأ من نفس ذاك الحبّ للذات؛ فمن حیث إنّه یحبّ نفسه، فهو یودّ أن یصیر كاملاً. وفی إثر هذه المحبّة تأتی محبّة كلّ شیء یكون سبباً فی حصول هذا الكمال. فمن حیث إنّ الإنسان – مثلاً – یعتقد بأنّ فی العلم كماله، فإنّه یحبّ العلم، ولـمّا كان المعلّم والكتاب والمدرسة وسائل لبلوغ هذا الكمال، فإنّه سیحبّ هذه الاُمور أیضاً. فلو كان الإنسان كائناً بسیطاً وكان كماله منحصراً فی شیء واحد لوجدناه محبّا لذلك الشیء دائماً ولما تعلّقت محبّته أصالةً بشیء آخر. لكنّ الإنسان كائن متعدّد الأبعاد وله أبعاد طولیّة وعرضیّة كثیرة، وهو لذلك یرى كماله فیما یتناسب مع هذه المراتب والمجالات الوجودیّة. فكمال قوّة الإنسان الجسدیّة یختلف عن كمال قوّة الواهمة عنده وهذا لا یشبه كمال قوّة العقل لدیه؛ ولهذا فإنّ إدراك المعانی العقلیّة الكلّیة لیس بكمال بالنسبة للعین مثلاً. لأنّ ما یرتبط بالعین هو المشاهدات، ولو كان الإنسان عیناً فقط، لأحبّ كلّ ما تلتذّ به العین، ولأصبح ذلك كمال عینه. إلا أنّ للإنسان قوى شدیدة الاختلاف فیما بینها. وحتّى قوى الإنسان الجسدیّة فهی تختلف فیما بینها اختلافا كبیراً، بل وقد یحصل نوع من التضادّ بین هذه الاُمور.
وهذه هی میزة الإنسان. فنفس هذا الاختلاف فی القوى والقابلیّات والعوامل المختلفة یهیّئ الأرضیّة لأعمال شتّى، بل ویمهّد – فی نهایة المطاف – للامتحان والاختیار. فالإنسان كائن یجب علیه أن یختار بنفسه ما الذی علیه صنعه وكم علیه أن یثابر. فلو أنّه اُكره على سلوك مسیر معیّن، فهو لا یصل إلى الكمال الإنسانیّ. فالله عزّ وجلّ یقول: «لَوْ یَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِیعاً»[1] [251]. فالله سبحانه وتعالى لا یهدی الناس بالإجبار، بل یهدیهم باُسلوب بحیث یبقى ثمّة مجال للاختیار: «فَمَن شَاءَ فَلْیُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْیَكْفُرْ»[2] [252]. فإنّ المیزة التی تؤهّل الإنسان لأن یكون خلیفة الله فی الأرض هی أنّ علیه أن یصطفی بنفسه فی حالة التزاحم ویختار – من بین الطرق المتعدّدة المتاحة أمامه - الطریق التی ینبغی علیه سلوكها. فإنّ شتّى أنواع اللذّات تُعرض على الإنسان ولیس جمیعها هو ممّا یوجب كماله. بل قد یكون بعضها مضرّاً بالنسبة له أیضاً؛ فعیوننا تتمتّع بالنظر إلى كلّ جمیل[3] [253]، لكن لیس كلّ نظرة إلى جمیل ستبلغنا الكمال المنشود. فإنّ النظر إلى بعض الأشیاء یستلزم اُموراً ویجرّنا إلى حیث الحرمان من سعادة الدارین. ففی مثل هذه المواطن لابدّ من غضّ البصر؛ یقول تعالى: «قُل لِّلْمُؤْمِنِینَ یَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ»[4] [254]. فعلى الرغم من أنّ فی رؤیة الأشیاء الجمیلة متعة للبصر، لكن نحن الذین ینبغی أن نقرّر ما الذی علینا النظر إلیه وبأیّ مقدار، وما الذی ینبغی ترجیحه على ماذا؟
وفقاً للمعرفة التی حبانا بها الدین فإنّنا نعلم بأنّ علینا إنفاق كلّ ما اُوتینا من قوى وإمكانیّات فی سبیل التقرّب إلى الله جلّ شأنه. فكمالنا الحقیقیّ یكمن فی قربنا من الله عزّ وجلّ. وحسب ما نتمتّع به من إدراك عقلیّ فإنّ أسمى شیء نحبّه ینبغی أن یملك أقصى درجات الكمال. وبناءً علیه، واستناداً إلى الدلیل العقلیّ، فإنّ الهدف الرئیسیّ الذی یتحتّم علینا السعی لتحقیقه هو أن نحبّ الله تعالى، وننبذ كلّ ما یتعارض مع هذا الحبّ؛ إذ أنّ أمراً كهذا یتنافى مع كمالنا، بل ویولّد فینا النقص ویوجب السقوط. أمّا الذین لا یملكون مثل هذه المعرفة الإلهیّة، ویؤمنون - انطلاقاً من نزعاتهم الإنسانیّة المختلفة - بالأصالة للإنسان فیقولون: كلّ ما یملكه الإنسان فهو حسن، ولابدّ لكلّ شیء آخر أن یكون فی سبیل الإنسان أیضاً، إلى درجة أنّهم أوجَدوا بعض النزعات المتطرّفة فی المذهب الإنسانیّ. فمثل هذه النزعات ترى كلّ محبّة مقدّسة وأنّ محبّة الإنسان لأیّ شیء وبأیّ صورة هی مقدّسة أیضاً. أمّا فی المذاهب التوحیدیّة فالأمر یختلف، فإذا تعارض لون من ألوان الحبّ مع محبّة الله تعالى فهو مذموم، بل وإذا استلزمت محبّة الله تعالى بغض بعض الناس، فیتعیّن اكتساب هذا البغض. لكنّنا نلاحظ أنّنا - حتّى بعد اكتسابنا للتربیة الدینیّة وما سمعناه من كلمات عظمائنا - لسنا كذلك. وهنا یُطرح السؤال التالی: لماذا نحن هكذا؟ وأین هو مكمن النقص؛ بحیث إنّنا لا نستطیع أن نحبّ الله طبقاً لما یأمرنا به العقل، وما تقرّ به تعالیم القرآن والسنّة؟
القضیّة الاُخرى تتعلّق بكون المحبّة اختیاریّة أو غیر اختیاریّة. فعندما نرجع إلى أنفسنا نرى أنّ الأمر لیس على هذا النحو بحیث إنّ باستطاعتنا أن نحبّ أیّ أحد كان متّى ما شئنا أو أن نبغض أیّ شخص كان متّى ما لم نشأ محبّته، بل – وفقاً لما یصطلح علیه أهل المعقول – فإنّ المحبّة هی كیفیّة نفسانیّة تأتی عن طریق المقدّمات والأسباب. بناءً على ذلك فإنّنا إذا علمنا من خلال العقل أو الشرع بأنّ المحبّة كمال ویتحتّم اكتسابها، فإنّ علینا أن ننظر أوّلاً ما هو السبیل لكسب هذه المحبّة وما هی الاُمور التی یمكن أن تثیرها فی أنفسنا. وبعبارة اُخرى: صحیح أنّ المحبّة لیست فی أیدینا بحیث نحبّ ما نشاء متّى نشاء ونبغض ما نشاء متى نشاء، لكنّ بعض أسباب إیجاد المحبّة هی فی متناول أیدینا، ومن هذا المنطلق فإنّنا مكلَّفون فی اكتساب المحبّة وإنّ تكلیفنا یكمن فی تهیئة المقدّمات الاختیاریّة للمحبّة، وهذه المقدّمات هی فی أیدینا، وإلاّ فإنّه لا یمكن أن نكلَّف بتوفیر الأسباب غیر الاختیاریّة للمحبّة.
لقد ذكرنا أنّ الإنسان – وبدافع الفطرة – یحبّ نفسه ویحبّ كماله أیضاً، فإنْ علِم بأنّ كماله فی شیءٍ ما فسیحبّ ذلك الشیء. فكیف إذا علمنا بأنّ محبّة الله عزّ وجلّ هی الإكسیر النفیس والكمال الأعظم الذی یمكن أن یناله إنسان؟ عند ذاك فمضافاً إلى معرفة السبیل لاكتساب هذه المحبّة فإنّه ینبغی الوقوف على موانعها؛ إذ لیس ثمّة من جدوى من سلوك الطریق مع وجود الموانع والعراقیل. إذن فیتعیّن تشخیص كلّ ما یقف حجر عثرة فی طریق اكتساب الكمالات والعمل – مبدئیّاً - على النأی بالقلب عنه، ثمّ تهیئة أنفسنا لنیل كلّ ما هو مطلوب وقیّم.
إنّ إحدى السبل الطبیعیّة لاكتساب المحبّة، والتی أكّدت علیها الأحادیث الشریفة أیضاً، هی التفكّر فی أفعال الله والتعرّف على نعمه عزّ وجلّ. فإنّ علاقة الإنسان بما یوجب كماله هی علاقة فطریّة، وإنّ نعم الله عزّت آلاؤه هی من موجبات بقاء وجود الإنسان ونموّه، ومن ثمّ كمال روحه. من أجل ذلك فكلّما أدركنا قدر هذه النعم أكثر فسیزداد حبّنا لله تعالى بشكل طبیعیّ. فالله سبحانه وتعالى یطالب بعض أنبیائه فی جملة من الأحادیث القدسیّة بأن: «أحِبَّنی وحبّبنی إلى خلقی»؛ أی واجعل الآخرین یحبّوننی. وحینما قال له هذا النبیّ (علیه السلام): «یا ربّ! إنّك لَتعلم أنّه لیس أحبّ إلیّ منك، فكیف لی بقلوب العباد؟ فأوحى الله إلیه: فذكّرهم نعمتی وآلائی»[5] [255]. فلقد خلقتُ هؤلاء وجبلتهم على حبّ مَن أنعم علیهم. فإن علموا بأنّ الله هو الذی وهبهم كلّ ما هو محبوب، وأنّ باستطاعته أیضاً أن یعطیهم كلّ ما له الأثر فی سعادتهم فی الدنیا والآخرة، فإنّهم سیحبّوننی.
لكنّ السؤال الذی یتبادر إلى الذهن لدى الاطّلاع على مثل هذه الروایات هو: ما حاجة الله لمحبّتنا كی یأمرنا بحبّه؟ فقد یعتقد بعض ذوی المعرفة الضحلة بالله وأولیائه بأنّه كما أنّنا معاشر البشر نرغب فی أن یحبّنا الناس ویحترمونا ویهتفوا باسمنا فإنّ الله هو كذلك. لكنّ كلّ مَن یعرف الله فإنّه سیدرك على الأقلّ بأنّه تعالى لیس بحاجة إلى شیء؛ فهو لیس بحاجة إلى عبادتنا ولا إلى محبّتنا. فمحبّتنا لا تزید على ذات الله شیئاً، وبسبب أعمالنا لا ینال جلّ وعلا مقاماً. بالطبع إنّ كلّ موحّد یعلم بذلك إجمالاً، لكنّ الذین تلقّوا المزید من العلم واتّسع تبحّرهم فی هذه الاُمور وزاد اطّلاعهم على معارف أهل البیت (علیهم السلام) فإنّهم واقفون أكثر من غیرهم على قضیّة أنّ ذات الله تعالى لا تشكو من أیّ نقص وأنّه ما من شیء باستطاعته أن یكون ذا أثر فیها، بل وما من أمر یمكنه أن یُدخل السرور إلیه جلّ شأنه أو یثیر سخطه. وإنّ ما یَرِد من تعابیر من أنّ الله غضب على قوم أو رضی عن آخرین فإنّها تُساق بما یتناسب مع فهمنا، ولاستنهاض هممنا، أمّا روحها وحقیقتها فهی أسمى من هذا المعنى بكثیر. فمثل هذه التعابیر هی من التعابیر المتشابهة التی ینبغی تجریدها من لوازم النقص ثمّ إسنادها إلى الله تعالى. وقد اُشیر فی بعض الروایات وحتّى فی طائفة من الأدعیة والمناجاة وخطب نهج البلاغة إلى أنّ سَوق مثل هذه التعبیرات هو ضرب من المجاز. ولعلّ أشهر ما یدلّ على ذلك هذا المقطع من دعاء عرفة: «إلهی تقدّس رضاك أن تكون له علّة منك، فكیف یكون له علّة منّی»[6] [256]. فوجود الرضا فی الذات الإلهیّة لیس معلولاً بعلّة أوجدها الله نفسه، فما بالك بأن أصنع أنا ما یوجب حصول الرضا فی ذاتّه تعالى! فمَن أنا وما الذی فی یدی كی اُوجب الرضا فی ذات الله؟! فإنّ رغبة الله فی أن نحبّه هی من باب أنّ كمالنا هو فی حبّنا لله وأنّ الله یحبّ أن نصیر من الكاملین.
فإنّ من لوازم كمال ذات الله عزّ وجلّ هی حبّه لكمالات آثار ذاته. فالمحبّة هی كالنور، حیث إنّ للنور فی النقطة التی صدر منها أقصى درجات الإضاءة، ثمّ یشعّ – شیئاً فشیئاً – على ما حوله ویذهب إلى ما هو أبعد من ذلك حتّى قد ینتقل إلى الغرفة المجاورة أیضاً. فهذا هو الضیاء أساساً. فذات النور هی أنّه إذا سطع من مبدأ معیّن فإنّه سیضیء ما حوله وما یتعلّق به. وكذا المحبّة، فهی نور[7] [257] إذا وُجِد أضاءَ كلّ متعلّقاته. وهذا كلام مجرَّب بالكامل؛ فعندما یحبّ المرء أحداً، فإنّه سیحبّ ثیابه وبیته واسمه وكتابه، وكلّما اشتدّت هذه المحبّة، سرت إلى متعلّقاته الأبعد. بل إنّ میزة المحبّة هی هذه، وإذا لم تتّصف بهذه المیزة فإنّها لا تكون محبّة أساساً.
فالله عزّ وجلّ یحبّ نفسه أكثر من أیّ شیء آخر، بل إنّ محبّته لذاته لا نهایة لها، ذلك أنّ كمال الله لیس له نهایة. ومن هنا فإنّه لیس ثمّة ما هو أشدّ محبوبیّة من الله سبحانه، ولا ریب أنّ محبّة الله لذاته – وهو العالِم بكلّ شیء والعارف بذاته أكثر من أیّ شیء آخر - تسمو على محبّته للأشیاء كلّها، وبما أنّ المحبّة تسری إلى الآثار أیضاً، فإنّ محبّة الله تكون أزید لكلّ ما هو أقرب منه. وعلى هذا الأساس فإنّ أكثر مخلوقات الله محبوبیّة لدیه هو الوجود المقدّس المتمثّل بالنبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله). فمحبّة الله ترتبط بذاته هو، وعندما تشعّ على آثاره فستشمل كلّ ما له أكبر قدر من الكمال الحقیقیّ، بل حتّى أبعد الأشیاء من الله من حیث الكمال فإنّها لا تكون محرومة من محبّته بالكامل.
وبتعبیر آخر: فبما أنّ الله یحبّ ذاته، فإنّه یحبّ أیضاً الكمالات المرتبطة بذاته والتی هی كمالات حقیقیّة، وإنّ محبّته تزداد لكلّ موجود یحوز على أكبر قدر من كمالاته تعالى. ومن هنا فإنّ محبّة الله جلّ وعلا تكون أكبر لكلّ مَن هو أقرب إلیه وأكثر علاقة معه واتّصالاً به. فإنّ قول الله لنا: أحبّونی، هو من باب أنّ محبّتنا إیّاه تؤدّی إلى قربنا منه وإنّ حبّه تعالى یشتّد لكلّ ما هو أشدّ قرباً منه. وهذا هو عین الكمال المنشود الذی هو شعاع من الكمال الإلهیّ. فالله یحبّ نفسه ویحبّ كلّ تلك الكمالات أیضاً ویرید منّا أن نحظى بهذه الكمالات ونحبّه ونعبده ونشكره كی نكون أكمل. وأبسط تعبیر عن هذا المضمون هو ما عبّر به هذا البیت لجلال الدین الرومیّ حیث قال:
لم أخلق الخلق طلباً للمنفعة بل لكی أجود على العباد[8] [258]
فهو تعالى ینشد كمالنا. فعندما یقول: اشكرونی، واعبدونی، وأحبّونی فهو من باب أنّه یرغب فی أن نتكامل نحن، لا أن یضاف شیء ما إلى كمالاته هو. فكلّ ما هو ممكن الوجود فهو مُلك لله تعالى، وما من شیء یضاف إلیه. وإنّ كلّ ما یَخلُقه هو فإنّه سیحظى بالوجود.
بناءً علیه فإنّ طلب الله تعالى من نبیّه بأن: «حبّبنی إلى خلقی» نابع من أنّ كمال العباد هو فی حبّهم لی، وبما أنّنی أودّ أن یبلغوا الكمال فإنّنی اُوصیك بأن تفعل ما یزید فی حبّهم لی.
هذا الموضوع من شأنه أن یمهّد لنا الأرضیّة لكی نطیل التفكیر فی سبل محبّة الله تعالى، والعراقیل التی تواجهها، وأن نفید أقصى درجات الإفادة من توصیات وتوجیهات أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین).
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
(16)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 16 نیسان 2014م الموافق للسادس عشر من جمادی الثانی 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
لقد قلنا إنّ التأمّل فی حالات وتجارب الإنسان الباطنیّة مفید لفهم كیفیّة نموّ المحبّة وتكاملها. بل ویمكن القول إجمالاً إنّ الإنسان لا یحبّ شیئاً إلاّ إذا لمس فیه جاذبیّة أو كمالاً أو وجد فیه ما یجعله محبّذاً ومرغوباً. وهذا الكمال هو مفهوم عامّ یدلّ على كلّ أمر وجودی یمكن أن یترك آثاراً محبَّذة ومطلوبة، وهو یشمل الجمال وسائر الفضائل الإنسانیّة الاُخرى. لكنّ هذا الكمال بمفرده لا یكفی لدفع الجمیع لحبّ حامله، بل یتعیّن معرفة حامل هذا الكمال والعلم بأنّه أمر محبوب ومطلوب. بالطبع لابدّ هنا أیضاً من الالتفات المستمرّ إلى هذه المعرفة؛ ذلك أنّها قد تُنسى بعد حصول التفات عابر. فالمحبّة - بوصفها حالة ثابتة ومستقرّة – إنّما تتحقّق عندما یلتفت المرء إلى هذا الكمال.
فهناك فرق بین مجرّد علمنا بوجود الشیء، وبین التفاتنا إلى وجوده. فكلّنا یعلم – مثلاً - أنّ الله حاضر فی كلّ مكان، لكنّ هذا العلم غیر كاف لترك الأثر المطلوب، فهو لا یكون مؤثّراً إلاّ إذا التفتنا إلى حضور الله سبحانه وتعالى. وكذا هو الحال فی سائر الامور. فمجرّد علمنا بأنّ لله كمالاً لا یثیر محبّة راسخة ولا یترك أثراً. فمحبّة كهذه هی بحاجة إلى التفات وتركیز، وكلّما كان هذا التركیز أشدّ، زاد ثبات المحبّة ورسوخها. وهذه هی الحالة التی یعبّر عنها بالاُنس، وهو أن یكون المرء ملتفتاً إلى محبوبه فی الیقظة والنوم، وعند الجلوس والقیام، وأثناء العمل، وعند العبادة، ولدى المطالعة، و...الخ. وهی حالة من المیسور حصولها، وما قصص الحبّ التی یضجّ بها تراث مختلف الثقافات إلا نماذج لمثل هذه المسائل. وبناء علیه فمن أجل رسوخ المحبّة فإنّه یتحتّم – مضافاً إلى العلم بوجود الكمال وإدراك أنّه محبّذ ومرغوب فیه – الالتفات إلى وجود هذا الكمال، وإنّ التركیز على هذا الالتفات یقود إلى حالة لا یمكن أن تفارق الإنسان حتّى تجعله دائم التفكیر فی صاحب هذا الكمال والالتفات إلیه دونما اختیار منه تقریباً.
فإن حصلت لدینا مثل هذه الحالة تجاه الله جلّ وعلا، فهی حالة ذات قیمة عالیة جدّاً. فإنّنا نتلو – بشقّ الأنفس - بعض الأذكار كی تعیننا على الالتفات إلى ربّنا. وإذا خطر ببالنا، فإنّنا نأتی بتسبیح فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) بعد الفراغ من الصلاة، وهو الذی إن التفتنا إلى معانیه تذكّرنا الله بعض الشیء. لكنّه فی میسور الإنسان أن یصل إلى مقام بحیث یحصل لدیه التفات وتوجّه ثابت إلى الله عزّ وجلّ إلى درجة أنّه لا یعود قادراً على نسیانه إطلاقاً. وهذا أمر ممكن؛ فعندما یكون مثل هذا النمط من الحبّ ممكناً بین إنسانین، فلماذا لا یكون میسوراً مع من لا نهایة لكماله وجماله؟!
یقول نوف البكالیّ، وكان من أخصّ أصحاب أمیر المؤمنین (علیه السلام): «رأیتُ أمیر المؤمنین صلوات الله علیه مولِّیاً [عن الناس] مبادراً [على عجلة من أمره] فقلتُ: أین ترید یا مولای؟ فقال: دعنی یا نوف إنّ آمالی تَقَدَّمُنی فی المحبوب». أی: اتركنی وشأنی فإنّ لدیّ فی محبوبی آمالاً تتقدّمنی وتدعونی إلیها. «فقلت: یا مولای! وما آمالك؟ قال: قد علِمَها المأمول واستغنیتُ عن تبیینها لغیره». فإنّ الذی عقدتُّ آمالی علیه یعلم بها، ولا حاجة لذكرها للآخرین. لكن لـمّا كان (علیه السلام) یودّ نوفاً ولا یحبّ أن یخیّب أمله فی الإجابة فقد قال له: «كفى بالعبد أدباً أنْ لا یُشرِك فی نعمه وإِرَبه غیر ربّه»[1] [267]؛ أی: إنّ مقتضى أدب العبودیّة هو أن لا یرى العبد النعمَ إلاّ من ربّه ولا یطلب حاجاته إلاّ منه عزّ وجلّ. فإذا كان عبداً حقّاً، فما شأنه بالآخرین؟! «أَلَیْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ»[2] [268]؛ أی: ألیس الله كافیاً لعبده؟!
فأمیر المؤمنین (علیه السلام) لیس ممّن یتلاعب بالألفاظ أو ینشد شعراً فیه مبالغة. هذا مع العلم أنّ ما یقوله هو فی حدود إدراك السامع، وإنّ ما یدركه هو وما وصل إلیه هو أسمى من ذلك بكثیر. فقد تحصل مثل هذه الحالات لمن تربّوا فی مدرسة أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین) أو الذین قطفوا ثماراً من شجرتهم. بل قد یكون ثمّة اُناس یمضون كلّ عمرهم على هذا النحو، فهنیئاً لهم!
أجول بناظری برّاً وبحراً |
أراك ولا أرى فیها سواكا |
|
وفی كلّ البلاد وفی البوادی |
ترى عینی جمالَك لا عداكا |
|
فكلّ صغیرة فی الكون تحكی |
معالمَ قدّك الجذّاب ذاكا[3] [269] |
فقد یكون «بابا طاهر» قد أنشد هذه الأبیات تعبیراً عن واقع یعیشه أو حالة مرّت به أو ملَكَة یتمتّع بها، الله العالم. أمّا أصل وجود مثل هذه الحالة فهو أمر واقع وإن لبعض عباد الله مثلَ هذه العلاقة مع ربّهم. فإنّ أسمى درجات المحبّة التی یمكن أن یشعر بها المرء تجاه الله تعالى هی أن یكون كلّ التفاته وجمیع حواسّه منصبّة على الحضرة الإلهیّة بحیث یرى كلّ حُسن وجمال وكمال شعاعاً من كمالات الله تعالى ونافذة لمشاهدة كمال وجمال المعبود. بالطبع إنّ التحدّث بمثل هذه الاُمور شیء یسیر وممتع، وقد نقع على أمثالها فی كلمات العرفاء وأشعار الشعراء. نسأل الله أن یكون هؤلاء من الواصلین. فنحن نعترف أنّنا لا نملك من هذه الحقائق شیئاً، لكنّ الذین بلغوها یملكون جوهرة ثمینة ونفیسة للغایة. فالذین هم من أمثالی لا یمكنهم أن یطمعوا بمثل هذه الدرجة، بید أنّه من الممكن أن نحظى بمراتبها الأدنى والأخفّ. والسبیل إلى ذلك – كما قلنا – هو أن یعرف المرء كمالات محبوبه كی تكون محبّته له ثابتة راسخة.
بالطبع إذا فكّر الإنسان لوحده بالله وبكمالاته فلا یترتّب على ذلك أثر یذكر. فإنّ من ألطاف الباری عزّ وجلّ هی أنّه قد جعل لمن هو من أمثالی طرقاً إذا ما سلكها وصل فی النهایة إلى الكمال. ومن هذه الطرق هی أن یفكّر الإنسان بالأشیاء المحبوبة عند الله أو الأشخاص الذین یحبّهم تعالى والذین باستطاعة الإنسان التعرّف علیهم وإدراك كمالاتهم أكثر. فقد روی أنّ رجلاً طلب من رسول الله (صلّى الله علیه وآله) أن یعلّمه ما یصنع لیكون محبوباً عند الله وعند أنبیائه (وكأنّه كان یشكو ممّا نشكوه نحن؛ إذ أنّه یعلم أنّ هذا الأمر هو كمال رفیع وقیّم جدّاً لكنّه لا یعرف السبیل إلیه) فأوصاه (صلّى الله علیه وآله) أن یحبّ ما یحبّه الله ویبغض ما یبغضه الله! فلمّا كانت مخلوقات الله ونعمه أقرب إلینا فإنّنا نستطیع أن ندرك كمالاتها ونلتفت إلیها بشكل أفضل. فإذا استمرّ الإنسان فی السیر فی هذا الطریق فإنّه سینال المحبّة لله بمعونة هؤلاء العظماء شیئاً فشیئاً.
ولعلّ هذا هو أحد أسرار جعل الله تعالى أجر رسالة نبیّنا (صلّى الله علیه وآله) فی مودّة ذوی القربى[4] [270]، لاسیّما وأنّ الآیة تستخدم لفظة «المودّة» ولیس «المحبّة». فقد یكون الإنسان محبّاً من دون أن یترك هذا الحبّ أثراً على سلوكه، لكنّه إذا كانت محبّته هذه على مستوى العمل أیضاً، قیل إنّها مودّة. فأجر رسالة النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) هی أن نحبّ أهل بیته (صلوات الله علیهم أجمعین) حبّاً یترك بصماته على تصرّفاتنا. فلعلّنا جمیعاً نلاحظ أنّ مَن یحبّ شخصاً فإنّه یرغب - عن غیر وعی – فی أن یتشبّه به. فأنا أذكر عندما كنّا نحضر درس الإمام الخمینیّ الراحل (قدّس سرّه) كان أحد زملائنا یحاول تقلید الإمام حتّى فی مشیته. فقد كان الإمام یمسك بعباءته أثناء المسیر بطریقة خاصّة. وقد كان زمیلنا ذاك یحاول تقلید الإمام فی مشیته ویمسك بعباءته كما یمسكها ویتكلّم كما یتكلّم. فمن الطبیعیّ أنّ الإنسان إذا أحبّ أحداً فإنّه یرغب فی أن یتشبّه به.
وقد أشرتُ فی المحاضرات الفائتة أیضاً إلى أنّ أحبّ المخلوقات إلى الله هم النبیّ وأهل هذا البیت الطاهر (صلوات الله علیهم أجمعین). فإنْ سعَینا إلى تنمیة محبّتنا لهم (علیهم السلام) بحیث تترك تلك المحبّة أثراً على سلوكیّاتنا وحاولنا التشبّه بهم، فقد عثرنا على طریق جیّد جدّاً للتعرّف على الله أكثر، وإنّ هذا لممّا یُعِدّ الإنسان ویمهّد له الطریق لیفیض الله تبارك وتعالى علیه محبّته.
إنّ من جملة المواضیع المطروحة فی هذا السیاق هی أنّنا غیر قادرین على صبّ كلّ التفاتنا وتركیزنا على الله تعالى وأولیائه. فحیاتنا فی هذه الدنیا لا تتیح لنا ذلك. بالطبع إذا توصّل البعض إلى معرفة أنّ كلّ الوجود هو شعاع من إرادة الله جلّ وعلا لاستطاع أن یشاهد الله فی كلّ مكان، ویرى كلّ شیء فی الوجود مظهراً ومرآةً له سبحانه. فهذا أمر ممكن ولیس بالمحال. لكنّنا لسنا على هذا النحو. ففی حیاتنا آلاف القضایا التی ینبغی الالتفات إلیها. فهذه حقیقة لا تُنكر وهی أنّ الإنسان فی بدایة سیره – سواء فی صلواته أو فی سائر عباداته – لا یستطیع التركیز على نحو كامل، فضلاً عن أن یستطیع أن یكون دائم الالتفات فی اللیل والنهار وأثناء النوم والیقظة. فإنّ مسائل من هذا القبیل هی أشبه بالأساطیر بالنسبة لأمثالنا، لكن لا یجوز إنكارها. فلقد خلق الله لهذه الآفاق الرفیعة رجالاً. ولكنّنا – على أیّة حال – لسنا هكذا.
وقد یحصل بین هذه الاهتمامات تضادّ أحیاناً، بحیث لا یمكن الجمع بین الالتفات إلى أمرین فی آن واحد، ولا یمكن التعلّق بكلیهما معاً. فإذا حضر أحدهما طردَ الآخر، أو جعله باهتاً على الأقلّ؛ بالضبط كالخلّ والعسل إذا خُلطا سویّة، إذ سیقضی الخلّ على حلاوة العسل وسیزیل العسل حموضة الخلّ، فیتأثّر كلّ منهما بالآخر ویؤثّر فیه. بل وقد یزول أحدهما كلّیاً ویترك الساحة للآخر. وكذا هو الحال مع الانشداد إلى بعض الأشیاء حیث إنّه لا ینسجم مع التعلّق بالله تعالى ولا یمكن الجمع بین الاثنین. فلو كان بین صدیقین من أصدقائنا عداوة شدیدة فلا یمكننا أن نحبّ الاثنین حبّاً جمّاً. بالطبع إنّ بین هذا المثال وقضیّة محبّة الله بوناً شاسعاً جدّاً. فإنّ لكلّ واحد من صدیقینا جهاتٍ متعدّدة ولنا أنْ نحبّ كلّ واحد منهما من جهة معیّنة، لكن من المستحیل أن یكون لدینا نفس التعلّق بالاثنین وأن تربطنا بهما علاقة حمیمة.
إذن فما معنى أن یحبّ الإنسان – الذی یَنشُد حبّ الله – أعداءَ الله عزّ وجلّ؟ «لا تَجِدُ قَوْماً یُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْیَوْمِ الآخِرِ یُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ»[5] [271]. فمحال أن یكون المرء مؤمناً بالله والیوم الآخر ثمّ یبادل من عادى الله المحبّةَ. ومن هنا فإنّه إذا أراد المرء أن یحبّ الله، فعلیه أن یُخرج محبّة عدوّه من قلبه، وطالما بقیت الأخیرة فیه، فإنّ الاولى لن تدخله. فكلّ شیء قد نهى الله تعالى عنه، فهو مبغوض من حیث إنّه منهِیّ عنه. فالذنوب، لاسیّما الكبیرة منها، یبغضها الله. فإن كانت محبوبة لدى الإنسان، فطالما بقی حبّها فی قلبه، فإنّه لا یدخله حبّ الله، وإن دخله فسیكون باهتاً جدّاً ولا یثبت ولا یدوم. وعلیه، فإن كان الإنسان ممّن یفتّش عن محبّة راسخة لله، فعلیه أن یطرد من قلبه كلّ ما یبغضه جلّ وعلا؛ فحبّ المعصیة لا یجتمع مع حبّ الله.
بالطبع ثمّة درجات أدنى من ذلك لا یحصل فیها مثل هذا التضادّ، لكن حتى هذه الامور لا یمكن الجمع بینها بالكامل. یقول تعالى: «قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِیرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَیْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِی سَبِیلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ یَأْتِیَ اللهُ بِأَمْرِهِ»[6] [272]. فهو أمر خطیر أن یحبّ الإنسان كلّ هذه الاُمور (الآباء والأبناء والأزواج، ...الخ) أكثر من الله! وعلامة ذلك هو أنّ هذا الحبّ لا یتناغم مع الخروج للجهاد. ونشیر هنا إلى أنّ الجهاد – بالطبع – لا یقتصر على الجهاد المسلّح العسكریّ، فالجهاد العلمیّ والثقافیّ هو أیضاً ضرب من الجهاد. فمن الواضح أنّ اُموراً من قبیل محبّة الزوج والأولاد والمنزل والأموال لیست محرّمة بذاتها، لكنّ الله عزّ وجلّ یهدّد بالقول: إذا فضّلتم لذائذ الدنیا على العمل بما یحبّه الله وبما أمر به وكان حبّكم لها یفوق حبّكم لله ولما كلّفكم به من واجبات «فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ یَأْتِیَ اللهُ بِأَمْرِهِ»!
فقد أودع الله – بحكمته – فی كلّ اُمور الدنیا لذّة لینتفع الإنسان منها ویؤمّن مصالح حیاته المادّیة. فلو لم یكن فی الطعام لذّة لما تناوله، ولنسیه، ولمرِض، بل ومات من أثر الجوع. فهذه اللذّة المودَعَة فی الطعام وفی سائر الاُمور اللذیذة هی السبب فی البقاء. فوجود هذه اللذائذ أساساً هو من حِكَم الله تعالى، ولابدّ أن تكون، لكنّه إذا انشدّ الإنسان إلیها بحیث تشغل كلّ اهتمامه وتركیزه، وتسیطر على كلّ أفكاره وكلامه، وتتزاحم مع واجباته وتكالیفه، فهاهنا مكمن الخطر، وإنّ إنساناً كهذا لا ینال محبّة الله تعالى.
فإذا رام المرء محبّة ربّه تعیّن علیه أوّلاً أن یطرد من قلبه بالكامل كلّ ما یبغضه الله، ویحاول جهده أن لا یحبّ الذنوب والأعمال التی یكرهها جلّ شأنه. وإذا صادف أن ارتكب إثماً، فعلیه أن یتوب من فوره. وفی المرحلة التالیة علیه أن لا یتعلّق بالمباحات تعلّقاً یحول بینه وبین القیام بتكالیفه. فإنّ العمل بمقتضى ذلك یمهّد الأرضیّة للإنسان كی یحبّ نِعم الله تعالى وكمالات أولیائه عند التفكیر بها. وبهذه الطریقة یُهیَّأ قلب الإنسان تدریجیّاً لیكون مؤهَّلاً لكی یُلقی الله جلّت آلاؤه فیه نور محّبته.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
[1] [273]. بحار الأنوار، ج91، ص94.
[2] [274]. سورة الزمر، الآیة 36.
[3] [275]. ترجمة شعریة لبیتی شعر بالفارسیة للشاعر الإیرانی «بابا طاهر» یقول فیهما:
بـه دریـا بنگـرم دریــا تـو بینــم به صـحرا بنگـرم صـحرا تو بینم
به هرجا بنگرم کوه ودر ودشت نشـان روی زیبای تـو بینـم
[4] [276]. «قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَىٰ» (سورة الشورى، الآیة 23).
[5] [277]. سورة المجادلة، الآیة 22.
[6] [278]. سورة التوبة، الآیة 24.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 23 نیسان 2014م الموافق للثالث والعشرین من جمادى الثانیة 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
وصلنا فی المحاضرات الماضیة إلى نتیجة مفادها أنّ محبّة الله عزّ وجلّ لا تجتمع مع محبّة أعدائه، لكنّها تجتمع مع محبّة ما یحبّه الله أو محبّة ما لا یحبّه ولا یبغضه (على فرض وجوده). وبالطبع فإنّ مراتب مطلوبیّة هذه المحبّة مختلفة. ونأمل هنا أن نفید من الآیات القرآنیّة والأحادیث الشریفة فی التوسّع فی هذا المبحث.
لقد حثّت روایات كثیرة على حبّ المؤمنین عبر تعابیر شتّى من قبیل «الحبّ فی الله»، و«حبّ المؤمن»، و«حبّ أحبّاء الله»، و«المتحابّین فی الله». فقد روی عن إمامنا زین العابدین (علیه السلام) قوله: «إذا جمع الله عزّ وجلّ الأوّلین والآخرین قام منادٍ فنادى یُسمِع الناس فیقول: أین المتحابّون فی الله؟ قال: فیقوم عُنُق من الناس فیُقال لهم: اذهبوا إلى الجنّة بغیر حساب. قال: فتلقّاهم الملائكة فیقولون: إلى أین؟ فیقولون: إلى الجنّة بغیر حساب. قال: فیقولون: فأیّ ضرب أنتم من الناس؟ فیقولون: نحن المتحابّون فی الله»[1] [279].
كما ویقول الباری عزّ وجلّ فی حدیث المعراج: «وجبَتْ محبّتی للمتحابّین فِیَّ»[2] [280]. وقد وردت فی بعض الأحادیث القدسیّة أیضاً مضامین نادرة تتضمّن نقولاً غایة فی الروعة. فقد أوحى الله عزّ وجلّ فی بعض هذه النقول إلى موسى (على نبیّنا وآله وعلیه السلام) فقال: «هل عملتَ لی عملاً قطّ؟ قال: إلهی صلّیت لك، وصمتُ وتصدّقتُ وذكرتُ لك. فقال: إنّ الصلاة لك برهان، والصوم جُنّة، والصدقة ظلّ، والذكر نور [بمعنى أنّ جمیع ما ذكرتَ من أعمال فهو لك]، فأیّ عمل عملتَ لی؟ فقال موسى (علیه السلام): دُلّنی على عمل هو لك. فقال: یا موسى! هل والیتَ لی ولیّاً وهل عادیت لی عدوّاً»[3] [281]؛ أی إنّ ما یكون لی هو أن تحبّ أحداً من أجلی أو أن تبغض شخصاً بسبب بغضه لی. وقد جاء فی ختام هذه الروایة ما نصّه: «فعَلِم موسى أنّ أحبّ الأعمال الحبّ فی الله والبغض فی الله».
كما ونُقل عن الإمام الجواد (علیه السلام) فی حدیث آخر: «أوحى الله إلى بعض الأنبیاء: أمّا زهدك فی الدنیا فتَعَجُّلك الراحة، وأمّا انقطاعك إلیّ فیُعَزِّزُك بی، ولكن هل عادیت لی عدوّاً ووالیت لی ولیّاً»؟[4] [282] فإنّ عدم تعلّقك باُمور الدنیا وانتهاجك الزهد یخلّصك من بعض الهموم، فلا ینبغی أن تَعدّ الزهد لحسابی، بل إنّه من أجل دَعَتك وراحتك، وإنّ انقطاعك إلیّ وقطع آمالك بغیری فهو یهبك العزّة. «ولكن هل عادیت لی عدوّاً ووالیت لی ولیّاً»؟ فالمحبّة والمعاداة هما من أجلی أمّا الأعمال الاُخرى فهی من أجلك.
وهنا یطرح السؤال التالی: ما میزة المحبّة فی الله كی یقول تبارك وتعالى: إنّ الصلاة والصیام وباقی العبادات هی لك، لكن أن تحبّ فیَّ فهو لی؟ فما الذی یمیّز هذه المحبّة عن غیرها من العبادات؟
یبدو أنّ الدلیل على ذلك هو أنّ محبّة الإنسان الآخرین فی الله هی – فی الحقیقة - عین محبّة الله ولیست عملاً مستقلاًّ. فكلّ من الصلاة والصیام والزكاة وسائر العبادات هی أعمال مستقلّة عن غیرها وعندما ینجز المرء أیّ واحدة منها فهو یتوقّع منها المثوبة، لكن من الواضح أنّه عندما یحبّ الإنسان الله تعالى فإنّه سیحبّ أولیاءه أیضاً. فحینما یحبّ المرء أحداً حبّاً جمّاً فإنّه سیحبّ كلّ ما یتعلّق به أیضاً. فحبّ الإنسان لصورة المحبوب - على سبیل المثال - لیست منفصلة عن حبّه للمحبوب نفسه، فكلّ امرئ یحبّ صورة حبیبه. ومن هنا فإنّ حبّ الإنسان مخلوقاً من مخلوقات الله من أجل الله یمثّل امتداداً لمحبّة الله یشعّ على محبوبه ولیس شیئاً آخر. وهذا هو ما یحبّه الله كثیراً وما یبعث على تكامل الإنسان.
من هذا المنطلق فقد جاءت روایات كثیرة فی حبّ المؤمن تؤكّد على أنّ هذا العمل هو من أسمى العبادات وهو لا ینافی محبّة الله. لیس هذا فحسب بل إنّه محطّ تأكید الله أیضاً، فهو تعالى ینتظر من الإنسان المؤمن أن یتحلّى بهذه الفضیلة إلى جانب ممارسته باقی العبادات. هذا وقد جاء فی بعض الأحادیث أنّه إذا التقى المؤمنان فإنّ أفضلهما هو أشدّهما حبّاً لصاحبه: «إنّ المسلمَین یلتقیان فأفضلهما أشدّهما حبّاً لصاحبه»[5] [283].
ومن جملة روایات هذا الباب هی تلك التی تحثّ على محبّة الفقراء. فقد روی عن النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) أنّ الله تعالى قد أمره بحبّ المؤمن الفقیر. كما ورد فی حدیث المعراج أنّ الله أوحى إلى نبیّه (صلّى الله علیه وآله): «یا أحمد! محبّتی محبّة الفقراء»[6] [284]. ویقول أیضاً فی فقرة اُخرى من الحدیث ذاته: «فادن الفقراء وقرّب مجلسهم منك، وأبعد الأغنیاء وأبعد مجلسهم عنك»!
ومن جملة ما ورد فی هذا الباب هو ما قاله رسول الله (صلّى الله علیه وآله) لأمیر المؤمنین (علیه السلام): «یا علیّ! إنّ الله تبارك وتعالى وهَب لك حبّ المساكین والمستضعفین فی الأرض فرضیتَ بهم إخواناً ورضوا بك إماماً»[7] [285]. وهذا التأكید یطرح هذا التساؤل: ما هی المیزة التی تدعو الإنسان إلى حبّ المؤمنین الفقراء أكثر من سائر المؤمنین؟
یبدو أنّ أحد أسباب التأكید على حبّ الفقراء هو استحقاقهم للحبّ أكثر من غیرهم. فمناط كون المرء محبوباً هو قربه من الله وإنّ إمكانیّة تقرّب الفقراء إلى الله هی أكثر ممّا عند غیرهم. فالثراء بطبیعته یقضی بغفلة المرء عن ربّه وابتلائه بالغرور والتكبّر. فأمثال هؤلاء المصابین بالآفات والابتلاءات والذین تملأ طریقهم الموانع والعقبات قد لا یصلون إلى الهدف أو یبلغونه متأخّرین على الأقلّ. فقد ذكرت الآیات القرآنیّة أنّ الإنسان إذا شعر بالغنى والقدرة فإنّه لا یذعن للحقّ ویصاب بالغرور والعصیان: «كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَیَطْغَىٰ * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَىٰ»[8] [286]. بالطبع هذا لا یعنی أنّ الثروة هی العلّة التامّة للابتعاد عن الله جلّ شأنه. فكما هی الأعراض الجانبیّة التی تذكرها الكتب الطبّیة للأدویة فإنّ هذه المسائل هی من قبیل الاقتضاءات وهی تعنی أنّها قد تؤثّر فی بعض الظروف وقد لا تؤثّر فی ظروف اُخرى. فإنّ شعور الإنسان بالاستغناء یقتضی حالة الطغیان والغرور. لكنّه من الممكن أن لا یُبتلى المتربّی فی مدرسة الأنبیاء بالغرور والكبر، بل قد یكون أكثر تواضعاً من غیره بكثیر أیضاً. ولهذا فمن حیث إنّ الفقراء هم عادةً أقلّ ابتلاء من غیرهم بالغرور والتكبّر والطغیان وأمثال ذلك فإنّهم أقلّ مرضاً من غیرهم، وإنّ ما یكون أقلّ مرضاً یحظى بمحبوبیّة أكبر.
الدلیل الآخر على كون محبّة الفقراء مطلوبة یرتبط بالمحبّ نفسه. فقد لا تنطوی محبّتنا للفقراء على ما تحتویه محبّتنا للأغنیاء من الأغراض؛ إذ قد یكون حبّ المرء لذوی الامتیازات من قبیل أصحاب المناصب والعناوین والثروات وما إلى ذلك بدافع الإفادة من امتیازاتهم، ممّا لا یجعل محبّتهم خالصة لوجه الله. أمّا فی محبّة الفقیر فلا نعثر على هذا الدافع؛ إذ لیس لدى الفقیر ما یُسیل لعاب الإنسان. وعلى هذا فإنّنا عندما نحبّ المؤمنین الفقراء تكون محبّتنا أكثر خلوصاً، أمّا إذا تدخّلت عوامل اُخرى فی هذه المحبّة كالثروة ولوازمها، من قبیل المنصب والمكانة الاجتماعیّة، فقد یكون حبّ المرء لأمثال هؤلاء لأمله فی أنّهم قد ینفعونه فی ساعة العسرة ممّا یجعل حبّه لهم مشوباً بدوافع نفسانیّة ودنیویّة.
الملاحظة الاُخرى التی تسترعی الانتباه فی هذا المجال هی أنّ قید «فی الله» قد جاء فی جمیع الروایات التی تشیر إلى كون محبّة الآخرین مطلوبة؛ كقوله: «المتحابّین فی الله». وهنا یكمن السؤال التالی: ماذا یعنی هذا القید «فی الله»؟ وما هو المعیار لمعرفة إن كان حبّ المرء للآخرین فی الله أم لیس فیه؟
فمن المؤكد أنّه ثمّة دوافع عدیدة للحبّ. وإنّ بمقدور الإنسان أن یختبر بعض هذه الدوافع بنفسه. فإذا كانت المحبّة لله مثلاً لم تؤثّر تصرّفات الطرف المقابل فیها؛ فإذا أحبّ الإنسان الشخص الفلانیّ فی الله ولأجله، سیكون الأمر عنده سیّان إن قابله هذا الشخص بالوفاء أو بالجفاء.
المعیار الآخر الذی باستطاعة الإنسان قیاسه بنفسه نوعاً ما هو أنّه إذا كانت محبّته فی الله فإنّها ستكون أكبر لكلّ من هو أكثر قرباً من الله، وإلاّ فعلیه أن یشكّ فی كون هذه المحبّة لله أو لأمر آخر.
لقد ذكرت الأحادیث الشریفة خصوصیّات لاُولئك الذین یحبّون الآخرین فی الله، ومن جملتها ذلك الحدیث المعروف الذی یقول فیه الحواریّون لعیسى (على نبیّنا وآله وعلیه السلام): «یا روح الله مَن نجالس؟ قال: مَن یُذَكّركم اللهَ رؤیتُه ویزید فی عِلمكم منطقُه ویُرَغّبكم فی الآخرة عملُه»[9] [287]. فمن الواضح أنّ المرء سوف یحبّ مثل هذا الشخص فی الله؛ فرؤیته تذكّرك بالله لا بالشیطان والهوى، وكلامه یزید فی علمك ولا یجرّك إلى الغفلة ویلهیك بلغو لا طائل تحته، بل وحتّى إذا صمت فإنّ مشاهدة سلوكه یُرَغّبك فی الآخرة والعمل لها. ولابدّ أنّكم رأیتم من العظماء من هم على هذا النحو.
المرحوم الشیخ المشكینیّ كان هكذا، فهو حتّى فی فصل الشتاء كان یرتدی عباءة رقیقة ورخیصة الثمن. فما كانت الألبسة الفاخرة والزینة وأمثال ذلك لتخطر فی بال المرء أبداً عند رؤیته. فعلى الرغم من أنّنی عاشرته قرابة الأربعین عاماً، فإنّنی لم أسمع منه یوماً كلاماً فی غیر محلّه أو غیر نافع، فكلامه كان إمّا فی العلم والتقوى أو فی المسائل الاجتماعیّة لمعرفة التكلیف. ویندر أن یوجد شخص لا یتأثّر من مجلسه.. أذكر أنّه أثناء لقاء أعضاء مجلس خبراء القیادة مع السیّد القائد (حیث كنّا نتشرّف بلقاء سماحته مرّتین فی السنة) كان سماحته یأمره بوعظ الحاضرین فكان المرحوم المشكینیّ یعظ أعضاء المجلس فی حضرة السیّد القائد. كان یطرح فی موعظته روایات عالیة المضامین ومباحث مفیدة ونفیسة وما كان من أمثالی إلاّ ویقع تحت تأثیر كلامه ویشعر بالتحوّل. فمن الواضح أنّ المرء یحبّ أشخاصاً كهؤلاء، وأنّ حبّه لا یكون من أجل اُمور دنیویّة. فهذا الحبّ نابع من أنّ رؤیة الشیخ المشكینیّ، وسلوكه، والاستماع إلى كلامه، ومعرفته بالحقّ، وعرفانه بالجمیل وتواضعه كانت جمیعها تذكّر الإنسان بالله. لكنّه ثمّة أمثلة اُخرى غیر الشیخ (رحمه الله) تكون مشتبهة وقد تتدخّل فیها دوافع اُخرى.
من المناسب أن یسعى الإنسان إلى معرفة دوافعه عن كثب ویحاول نبذ الاُمور التی تنطوی على طابع دنیویّ وشخصیّ. فعندما یكون العمل خالصاً لوجه الله، یكون أثره عمیقاً جدّاً؛ وهو أثر لا یمكن مقارنته حتّى بالعمل الذی یشوبه واحد بالمائة من الشوائب. فالخلوص بالنسبة لتأثیر الأعمال هو إكسیر لا یمكن قیاسه بأیّ شیء آخر. إذ یقول الباری عزّت آلاؤه: «أنا خیر شریكٍ مَن أشركَ معی غیری فی عملٍ عمِلَه لم أقبله إلاّ ما كان لی خالصاً»[10] [288] وساُسلّم سهمی لهذا الشریك قائلاً له: هذا أیضاً لك! بالطبع إنّ الله لا یبخل فی تقبّل هذا أیضاً ولا یدعه من دون أثر، لكنّ ما یكون ذا أثر أصیل وعمیق كالكیمیاء التی تحوّل النحاس إلى ذهب فهو العمل الخالص. فإن كان العمل كذلك فسیكون ذا أثر فی دنیا فاعله وفی آخرته أیضاً. رزقَنا الله وإیّاكم ورزق الجمیع من ذلك.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
[1] [289]. الكافی، ج2، ص126.
[2] [290]. بحار الأنوار، ج74، ص21.
[3] [291]. جامع الأخبار، ص128.
[4] [292]. تحف العقول، ص455.
[5] [293]. الكافی، ج2، ص127.
[6] [294]. إرشاد القلوب إلى الصواب، ج1، ص201.
[7] [295]. بحار الأنوار، ج36، ص347.
[8] [296]. سورة العلق، الآیتان 6 و7.
[9] [297]. الكافی، ج1، ص40.
[10] [298]. الكافی، ج2، ص295.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 30 نیسان 2014م الموافق للثلاثین من جمادى الثانیة 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
تحدّثنا فی المحاضرات الماضیة قلیلاً عن سبل اكتساب محبّة الله وقلنا إنّ الحیاة الدنیا تقتضی ممّن هم فی المراتب الدنیا من المعرفة أن یحبّوا الأشیاء المادّیة والمحسوسة بحیث تمثّل الأخیرة لذّة لهم بشكل أو بآخر. لكنّه بعد أن یمنّ الله تبارك وتعالى علینا بمعرفته، كلٌّ بحسب استحقاقه، فإنّ أرضیّةً لمحبّته ستتهیّأ فی أنفسنا شیئاً فشیئاً. وفی مثل هذه المراتب، وكما أوصت به الروایات، فإنّه من أجل نیل محبّة الله عزّ وجلّ یتعیّن - عادةً - التفكّر فی آلائه جلّ وعلا. فإنّ الإنسان قد جُبل بشكل فطریّ وطبیعیّ على حبّ كلّ من یسدی إلیه خدمة أو ینعم علیه. ومن هنا فإنّنا كلّما أطلنا التفكیر فی أنعم الله وآلائه وتعمّقنا فی إدراك قیمتها، فإنّه سیتهیّأ فی قلوبنا مناخ أوسع لمحبّته. ولحسن الحظّ فإنّ الكثیر من آیات الذكر الحكیم تنهض بهذا الدور وتذكّر بأنعم الله سواء تحت شعار «آیات الله» أو تحت عنوان ذكر النعم الخاصّة، وهی تحاول أن تجعلنا نستوعب مدى نفاسة هذه النعم التی منّ الله بها علینا!
لكنّنا معاشر البشر، وبسبب ما ابتلینا به من صنوف الضعف وألوان النقص، لا نفكّر بقیمة آلاء الله كما ینبغی. والقرآن الكریم فی هذا المجال یخاطبنا بهذه اللهجة: «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»[1] [299]؛ فهو یقول لنا: یجب أن تفكّروا بهذه النعم وتتمعّنوا فی مدى قیمتها ونفاستها كی تشكروها. لكنّنا، وعلى الرغم من أنّنا نقرأ هذه الآیة عشرات المرّات، فإنّنا وبكلّ بساطة ننبذها فی كلّ مرّة وراء ظهورنا ولا نفكّر حتّى لبضع دقائق بمدى عظمة هذه النعم. ونحن لا ننتبه إلى أنفسنا ولا نصاب بالصدمة إلاّ عندما تتعرّض إحدى هذه النعم للخطر وعندها نكتشف مدى أهمّیة هذه النعمة. لكن لمّا كان الله تعالى یعلم بأنّ سلّم رقیّنا وتسامینا یكمن فی محبّتنا إیّاه فإنّه یتغاضى عن تقصیراتنا ویعید تذكیرنا بآلائه ویوعز لأنبیائه بأن ذكّروا الناس بأنعمی كی یحبّونی. وقد یشتكی الله من البشر أحیاناً بقوله: «وَقَلِیلٌ مِّنْ عِبَادِیَ الشَّكُورُ»[2] [300]. ومع كلّ هذا التأكید من قبل الله على الشكر فإنّ الشاكرین قلیلون.
من الواضح أنّ هذا النمط من المحبّة یتعلّق أصالةً بالنعم؛ فنحن ابتداءً نكتسب محبّة غیر الله ثمّ ننفذ من خلالها إلى محبّة الله. فمثلاً عندما یفكّر المرء بعینه یكتشف أنّه یحبّها وأنّه على استعداد لبذل الملایین بل الملیارات من أجل سلامتها. فإذا أدركنا مدى حبّنا لهذه العین فإنّنا سنحبّ مَن وهبنا إیّاها. وهذا النمط من الحبّ هو بسبب قصورنا وضعفنا، ولكن ما فی الید حیلة. وحتّى بالنسبة لمعرفة الله فإنّنا نتعامل معها بنفس الطریقة. لكنّه ثمّة نمط آخر من الناس فی مجال اكتساب معرفة الله وهم الذین یخاطبون ربّهم قائلین: «بك عرفتُكَ وأنت دللتَنی علیك»[3] [301]؛ أی: إلهی! لقد عرفتك عن طریقك ولیس عن طریق مخلوقاتك. فأنت مَن أخذتَ بیدی ودللتنی علیك. وحتّى فیما یخصّ المحبّة فقد رُوی عن أئمّتنا (صلوات الله علیهم أجمعین) أنّهم یخاطبون ربّهم بمضامین من قبیل: إنّنی اُحبّك أنت لا غیرك، ولا اُحبّ غیرك إلاّ فیك. وهی مضامین غایة فی الروعة، لكنّنا لا ندرك معانیها جیّداً. بید أنّه بمقدورنا أن نصدّق إجمالاً بأنّ لله عبیداً یدركون اُموراً هی أعلى من مستوى فهمنا بكثیر.
فنحن – بشكل طبیعیّ – نعرف النبیّ (صلّى الله علیه وآله) ابتداءً، لكنّنا كلّما أطلنا التفكیر فی عظمة نعمة وجوده (صلّى الله علیه وآله) والبركات التی حظینا بها بسببه ازداد حبّنا له. لكن النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) نفسه یقول: أحبّونی فی الله، وأحبّوا أهل بیتی وعترتی فیَّ. بمعنى أنّ المحبّة تبدأ من الأعلى؛ فمحبّة الله هی البدایة، ثم تسری هذه المحبّة من الله إلى نبیّه (صلّى الله علیه وآله) ومن الأخیر إلى أمیر المؤمنین وفاطمة الزهراء وأولادهما المعصومین (سلام الله علیهم أجمعین)، ثمّ إلى أولیائهم من بعدهم. وهذا هو شكل من أشكال سریان المحبّة الذی لا نعرفه جیّداً.
وللتقریب إلى الأذهان نقول: تنقسم المحبّة إلى نمطین: أصیلة وتابعة. وقد تحدّثنا فی المحاضرة السابقة بعض الشیء عن علّة كون المحبّة فی الله من أفضل العبادات، حیث ذكرنا أنّ هذه المحبّة لیست فعلاً مستقلاً، بل إنّها شعاع من نفس محبّة الله عزّ وجلّ. إذ لابدّ من وجود دافع لأفعالنا نحن البشر، أیّاً كانت هذه الأفعال. لكنّنا عندما نحبّ الله تعالى، فإنّنا سنحبّ أولیاءه بشكل عفویّ. ولیس لهذه المحبّة سبب وعلّة، فإنّ محبّة المقرَّبین إلى الله لا تمثّل فعلاً منفصلاً عن محبّة الله نفسه. وهذا بالضبط كحبّنا لضریح السیّدة فاطمة المعصومة (سلام الله علیها) وباب حرمها وتراب صحنها على خلفیّة حبّنا لها (سلام الله علیها). ویطلق على هذا النمط من المحبّة: المحبّة التابعة.
إذا كان للإنسان محبوب واحد أصیل فقط وهو الله، فإنّه النموذج المثالیّ للمحبّة فی الله. إذ لابدّ أن یكون للإنسان محبوب واحد، وأن لا یحبّ باقی الأشیاء إلاّ لكونها من متعلقّات وأشعّة هذا المحبوب. فهذا سیّد الشهداء (علیه السلام) یخاطب ربّه فی یوم عرفة قائلاً: «أنتَ الذی أزلتَ الأغیار عن قلوب أحبّائك حتّى لم یحبّوا سواك»[4] [302]. ففی هذه الحالة تكون محبّة رسول الله وأهل بیته المنتجیبن (علیهم السلام) شعاعاً من محبّة الله تبارك وتعالى، ولیس شیئاً آخر. وهذا اللون من المحبّة له قیمة عظمى. فإذا أصبح الإنسان بهذه الصورة فسیكون مصداقاً للروایة القائلة: «...فلو عَلِم الخلقُ ما محلّه [المحبوب عند الله] عند الله ومنزلته لدیه ما تقرّبوا إلى الله إلاّ بتراب قدمیه»[5] [303].
إنّ الواصلین إلى محبّة الله عن طریق محبّة المخلوق تكون محبّتهم للآخرین مستقلّة فی بدایة الأمر؛ بالضبط كما یحبّ المرء وردة بسبب جمالها ورائحتها العطرة، إذ قد لا یخطر بباله بدایةً أنّه ثمّة ربّ قد خلقها. لكنّه إذا فكّر بالذی منح هذه الوردة كلّ هذا الجمال، وتأمّل بكیفیّة نشوء هذه الألوان الزاهیة والعطور الفوّاحة من تراب ملوّث وأسمدة قذرة، وبمن دبّر كلّ ذلك، فإنّه ستتهیّأ له سبیل للتحوّل من هذه المحبّة إلى محبّة الله جلّ شأنه.
فهذه المحبّة ستحدّ تدریجیّاً من استقلالیّة محبّة المخلوق وتحوّلها إلى محبّة تابعة. فالفنّ الذی مارسه الله عزّ وجلّ فی عملیّة خلق روح الإنسان هو فنّ مدهش للغایة؛ فالمحبوب الذی یكون – بادئ ذی بدء - محبوباً للمرء بالأصالة یفقد بریقه وتتلاشى أصالته! فالمتمعّن فی كلام أئمّتنا المعصومین (صلوات الله علیهم أجمعین) یلاحظ كیف أنّهم یرسمون للإنسان هذا الطریق بغیة تربیته؛ فهم یحثّونه - بدایةً - على حبّ الصدیق المؤمن: «ما التقى مؤمنان قطّ فتصافحا إلاّ كان أفضلهما إیماناً أشدّهما حبّاً لصاحبه»[6] [304]. ومن الواضح أنّ قیمة هذه المحبّة تنبع من إیمان المحبوب، وأنّ أنواعها الاُخرى لیست هی ذات قیمة، بل وقد تكون أیضاً مثاراً للمتاعب وعقبة أمام محبّة الله عزّ وجلّ.
وقد نقلت الروایات ما مضمونه أنّ المؤمنَین إذا تصافحا شعّ نور أحدهما على الآخر وكان لقاؤهما سبباً فی ازدیاد نورانیّتهما. كما وجاء فی الخبر أیضاً: «إنّ ملَكاً مرّ برجل على باب فقال له: ما یقیمك على باب هذه الدار؟ فقال: أخٌ لی فیها أردتُ أن أسلّم علیه. فقال له الملَك: بینك وبینه قرابة أو نزعَتكَ إلیه حاجة؟ فقال: لا ما بینی وبینه قرابة ولا نزعتنی إلیه حاجة، إلاّ أُخُوَّة الإسلام وحُرمَتُه فأنا أسلّم علیه وأتعهَّدُه لله ربّ العالمین. فقال له الملك: أنا رسول الله إلیك وهو یُقرئك السلام ویقول لك: إیّایَ زرتَ ولی تعاهدْتَ وقد أوجبتُ لك الجنّة وأعفیتك من غضبی وأَجَرتُك من النار»[7] [305]؛ أی: إنّك لم تأت لزیارة أخیك المؤمن هذا بل أتیت لزیارتی وعلیّ ضیافتك. وجاء فی حدیث آخر: «انّ المؤمنَین إذا التقیا فتصافحا أنزل الله عزّ وجلّ بینهما مائة رحمة تسعة وتسعون منها لأشدّهما حبّاً لصاحبه»[8] [306]. وبالطبع فإنّه لا تكون لهذه المحبّة كلّ هذه المیزات إلاّ إذا كانت فی الله ولیس لأجل حبّ الدنیا.
إنّ محبّة المؤمن لأخیه هی السبیل الممهّدة لنموّ المعرفة والمحبّة والكمال والتقوى ومن ثمّ التقرّب إلى الله تعالى، وهذا هو الداعی من وراء كلّ هذا الحثّ من قبل الله تعالى علیها. فعندما یلتقی المؤمنُ بالفاسق یشعر وكأنّ رائحته النتنة قد زكّمت أنفه، أمّا إذا التقى بالمؤمن وتجاذب معه أطراف الحدیث – حتّى وإن لم یقصد من ذلك شیئاً – انبعث فی قلبه نور وأحسّ برغبة أكبر فی القرآن وأهل البیت (علیهم السلام) وذكر الله تعالى.
وعلى الرغم من كون هذا النمط من المحبّة متعلّقاً بالمخلوقات، غیر أنّه إذا لم یتعارض مع محبّة الله سبحانه وتعالى وكان عنصر الإیمان داخلاً فی متعلَّقه – ولو بعنوان جزء العلّة – فإنّه سیؤدّی تدریجیّاً إلى اشتداد إخلاص المحبّة لله وازدیادها، وهو ما سیقود شیئا فشیئا إلى سلب الأصالة من المخلوقات المحبوبة. وفی هذه المرحلة لا تعود ثمّة محبّتان، بل محبّة الله فحسب. وبتعبیر آخر فإنّ الإنسان فی هذه الحالة لا یعود یرى فی وجود أخیه المؤمن غیر الاُمور الإلهیّة وهو یحبّه لأجلها. وهنا تتحوّل هذه المحبّة الأصیلة إلى محبّة تابعة. وهذا لعمری شیء عجیب، وإنّ المرء إذا ما اهتمّ به فسوف یتولَّد عنده بسبب هذا الضرب من المحبّة للاُمور الدنیویّة وبتوفیق من الله عز ّوجل ّوعبر التوسّل بأهل بیت العصمة والطهارة (علیهم السلام)، مزید من الالتفات والتوجّه إلى الله تعالى.
ومن هنا فلابدّ لنا من الاهتمام بمحبّة أحبّاء الله وأن نحبّ بالدرجة الاُولى كلّ مؤمن. فإن كان المؤمن من ذرّیة رسول الله (صلّى الله علیه وآله) فستناله محبّة أكبر لأنّ انتسابه لأولیاء الله أشدّ. ثمّ تنمو محبّة الإنسان لكلّ مَن فاق الآخرین فی التقوى والعلم حتّى یصل به الأمر إلى حبّ أعظم العلماء لا لسبب إلاّ لأنّه خادم متواضع من خدّام صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرَجه الشریف)؛ فإمامنا الخمینیّ الراحل (قدّس سرّه) كان یقول عند ذكره الوجود المقدّس المتمثّل بصاحب الزمان: «روحی وأرواح العالمین لتراب مَقدَمه الفداء».
یروی أحد فضلاء الحوزة العلمیّة الكبار عندما تشرّف بحج بیت الله الحرام فی السنوات الاُولى بعد انتصار الثورة الإسلامیّة: فی یوم من الأیّام كنت جالساً فی المسجد الحرام وإذا بشخص كان یجلس إلى جواری یقول لی بالعربیّة: أأنتَ إیرانیّ؟ قلت: أجل. قال: أنا استاذ جامعیّ من مصر أحبّ الإمام الخمینیّ ولدیّ سؤال. فقلت: تفضّل. قال: فی الحقیقة إنّنی كنت أتصوّر أنّ العالم الإسلامیّ لم ینجب بعد النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) شخصیّة بعظمة الإمام الخمینیّ، لكنّنی أحیاناً أسمع فی كلامه عبارة تثیر عجبی، فهو أحیاناً ینوّه باسم شخص ثمّ یقول: روحی لتراب مقدمه الفداء! فمن هو هذ الشخص؟ قلت: هذا الشخص هو نفسه المذكور فی كتبكم. ثم نقلتُ له روایة أو روایتین عن صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرَجه الشریف).
لاحظوا أنّ هذا الاستاذ المصریّ قد نال حبّ صاحب الأمر (عجّل الله تعالى فرَجه الشریف) من خلال حبّه الإمام الخمینیّ (رحمه الله). فالاختلاف الموجود بین الوجود المقدّس المتمثّل بالإمام الراحل (رضوان الله تعالى علیه) والوجود المبارك لصاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرَجه الشریف) هو بحیث إنّ نفس الإمام الخمینیّ یقول: إنّ تراب قدمه أشرف من روحی، وإنّ روحی هی فداء لهذا التراب! وهذه لنعمة عظمى قد وهبها الله لنا نحن الشیعة على وجه الخصوص. بالطبع إنّ الكثیر من أهل السنّة قد بلغوا مراتب من محبّة أهل البیت (علیهم السلام)، لكنّ هذا الفخر قد حظینا به نحن الشیعة خاصّةً وهو أنّنا نحبّ أهل البیت (علیهم السلام). لكنّ الشیطان لا یكفّ عن الكید لنا حتّى فی هذه القضیّة.
عندما نطّلع على الروایات التی تتحدّث عن أهمّیة محبّة أهل البیت (علیهم السلام) ونشعر بالحبّ تجاههم، فإنّ الشیطان یبعث فی أنفسنا الغفلة والغرور حتّى نتصوّر أنّنا بلغنا مرامنا، وأنّه ما دمنا نحبّ الإمام الحسین (علیه السلام) فلنفعل ما یحلو لنا! فإنّ الحسین سیشفع لنا وتصبح أفعالنا مقبولة. وقد اهتمّ أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین) أنفسهم بهذه القضیّة وحذّروا أصحابهم من الابتلاء بهذه الغفلة. إذ یروی المرحوم الشیخ الطوسیّ حدیثاً عن الإمام الباقر (سلام الله علیه) یخاطب فیه جابر الجعفیّ قائلاٍ: «یا جابر! بلّغ شیعتی عنّی السلام، وأَعلِمهم أنّه لا قرابة بیننا وبین الله عزّ وجلّ، ولا یُتقرَّب إلیه إلاّ بالطاعة له. یا جابر! مَن أطاع الله وأحبّنا فهو ولیّنا، ومن عصى الله لم ینفعه حبّنا»[9] [307]. وقد روی عنه (علیه السلام) أیضاً: «والله ما معنا من الله براءة، ولا بیننا وبین الله قرابة، ولا لنا على الله حجّة»[10] [308]؛ أی: ما لنا حجّة تُكره الله على قبول قولنا؛ إذ أنّه: «فلِلّٰهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ»[11] [309]، ولیس لأیّ أحد على الله حجّة. ثمّ یقول (علیه السلام): «ولا نتقرّب إلى الله إلاّ بالطاعة فمَن كان منكم مطیعاً لله تنفعه وَلایتنا ومَن كان منكم عاصیاً لله لم تنفعه ولایتنا، ویحَكم لا تغترّوا، ویحَكم لا تغترّوا»؛ أی لا تخدعوا أنفسكم، فسبیل السعادة هو العبودیّة لله، وإنّ محبّتنا إنّما تنفعكم إذا سرتم فی هذا الطریق، لكنّها لا تحلّ محلّها.
كما وجاء فی اُصول الكافی عن أبی جعفر الباقر (سلام الله علیه)[12] [310] أیضاً: «أیكتفی مَن انتحل التشیّع أن یقول بحبّنا أهل البیت»؟! وهل یستقیم أمره بمجرّد ذلك؟! ثمّ یقول (علیه السلام): «فلو قال: إنّی أُحبّ رسول الله، فرسولُ الله (صلّى الله علیه وآله) خیر من علیّ (علیه السلام)»؛ فلو كان الأمر بالقول والحبّ، فلیقلّ إنّی اُحبّ رسول الله (صلّى الله علیه وآله) فهو أفضل من علیّ (علیه السلام). أی: لو كان مجرّد القول والحبّ نافعاً فلیقل: إنّی أحبّ محمّداً (صلّى الله علیه وآله) عوضاً عن قوله: إنّی اُحبّ علیّاً (علیه السلام). فمجرّد هذه الادّعاءات لا تجدی نفعاً، إذ أنّه (یتابع علیه السلام): «لیس بین الله وبین أحد قرابة»[13] [311]، وإنّ سبیل المدّعِی لحبّنا لیست هی سبیل المعصیة. وحتّى لو ارتكب الخطیئة وزلّت قدمه فعلیه أن یتوب من فوره ویهرع إلى التوسّل، ویستحی منّا بأنّه كیف یكون من شیعتنا ثمّ یأتی بهذه الفعلة، وذلك كی یتدارك أمره بسرعة.
فلابدّ أن یكون للمحبّة عمق. فإن أحببنا رسول الله وأهل بیته (صلوات الله علیهم أجمعین) فمن منطلق أنّهم محبوبون عند الله. فیتعیّن أن تكون هذه المحبّة فرعاً لمحبّة الله كی یتحقّق منها الأثر الذی نصبو إلیه. ومن هنا یتحتّم أن نعیش دوماً حالة التأرجح بین الخوف والرجاء وأن لا نتصور بأنّ المحبّة فی قولهم: إنّ محبّة أهل البیت (علیهم السلام) تحلّ كلّ معضلة، هی من ذلك النمط الدنیویّ! فهذا ضرب آخر من المحبّة عبّر عنه أئمّتنا (علیهم السلام) بما مضمونه أنّ: مَن أحبّنا لم یخالفنا.
بالطبع لا ینبغی أیضاً أن ندع الیأس یتسلّل إلى أنفسنا بأنّه ما دمنا من أهل المعاصی فإنّه لیس ثمّة سبیل للنجاة. فقد كان هناك ممّن أمضوا سنین طویلة من أعمارهم غارقین فی المعاصی ومقترفین لأفظع الذنوب، لكنّ حبّ أهل البیت (علیهم السلام) كان مستقرّاً فی أعماق قلوبهم، حتّى برز فی نهایة المطاف فأصلح أمرهم فی لحظة الامتحان والاختبار. والنموذج البارز لأمثال هؤلاء هو المرحوم طیّب (رحمه الله)[14] [312].
[1] [313]. سورة النحل، الآیة 78.
[2] [314]. سورة سبأ، الآیة 13.
[3] [315]. إقبال الأعمال، ج1، ص67.
[4] [316]. إقبال الأعمال، ج1، ص349.
[5] [317]. بحار الأنوار، ج67، ص23.
[6] [318]. المؤمن، ص31.
[7] [319]. وسائل الشیعة، ج12، ص56.
[8] [320]. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج9، ص67.
[9] [321]. الأمالی للطوسی، ص296.
[10] [322]. وسائل الشیعة، ج15، ص234.
[11] [323]. سورة الأنعام، الآیة 149.
[12] [324]. هذه الروایات الثلاث مرویّة عن الإمام الباقر (علیه السلام) ممّا یشیر إلى أنّ اُناساً فی زمانه كانوا یتصوّرون بأنّ محبّتهم لأهل البیت (علیهم السلام) تكفیهم.
[13] [325]. الكافی، ج2، ص74.
[14] [326]. هو «طیّب حاج رضائی» اشتهر فی طهران أیّام حكم الشاه بالبلطجة هو وأعوانه وكانت له هیبة وشوكة عظیمتان لكنّه كان محبّاً لعلماء الدین وعاشقاً للإمام الحسین (علیه السلام) وكان ینظّم أكبر موكب عزاء أیّام شهر محرّم الحرام. إبّان اندلاع الثورة الإسلامیّة فی إیران طلبت منه الحكومة مساعدتها فی ارتكاب مجزرة المدرسة الفیضیّة فی قتل مجموعة من طلاب علوم الدین فرفض. ثمّ عمد إلى رفع صور الإمام الخمینیّ (رحمه الله) على أعلام موكبه، وحرّض على انتفاضة الجماهیر فی إثر اعتقال الإمام غیر آبهٍ بتحذیرات جلاوزة النظام الحاكم، فما كان من الأخیرین إلاّ أن ألقوه فی السجن طالبین منه بعد التعذیب الجسدیّ القاسی أن یعترف زوراً بأنّه قد فعل ما فعل مقابل مبلغ من المال استلمه من آیة الله الخمینیّ فی مقابل إطلاق سراحه واسترداد هیبته فرفض قائلاً: «لن اتّهم ابن الإمام الحسین زوراً»، وأصرّ على موقفه متجاهلاً مكانته وهیبته حتّى اُعدِم. (المصدر: موقع حوزة نت الالكترونیّ: www.hawzah.net [327]).
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
سبق أن ذكرنا أنّ لمحبّة الله درجات وأنّ الناس مختلفون فی هذا المضمار، بل قد یشكّ البعض حتّى فی إمكانیّة حبّ الله أساساً. ویرى البعض الآخر بأنّه لا معنى لمحبّة الله ویفسّرها بأنّها ضرب من محبّة أنعمه ورحمته تبارك وتعالى. لكنّ الإنسان إذا أدرك فی الجملة بأنّه إذا أحبّ نعمة أحبّ ولیّها ومنعمها أیضاً فإنّه سیقتنع شیئاً فشیئاً بأنّه بالإمكان حبّ الله عزّ وجلّ.
إنّ مشكلتنا الأساسیّة نحن معاشر البشر هی أنّ إدراكنا، فی المراحل الابتدائیّة، هو إدراك مادّی وحسّی؛ فلا یتوفّر لنا التصدیق والإیمان بغیر المحسوسات بسهولة، ولا نستطیع - تبعاً لذلك - أداء حقّها. فكلّنا – مثلاً - یعتقد بأنّ الله حاضر فی كلّ مكان، لكنّنا مادمنا لا نرى الله بأبصارنا فإنّنا لا نرتّب على اعتقادنا هذا ما ینبغی من الأثر، بل وننساه أحیاناً بالكامل. وهذه المشكلة تنطبق على كلّ ما یتعلّق بالله بما فی ذلك محبّته سبحانه تعالى.
فأغلب أصناف الحبّ الذی نمارسه إنّما هو متعلّق بالمحسوسات؛ فبدءاً من أشكال المحبّة الطبیعیّة والفطریّة بین الاُمّ وولدها، ووصولاً إلى ألوان المحبّة الاكتسابیّة، وغیرها من أنواع المحبّة المتداولة فإنّ لجمیعها منشأ حسیّاً وإنّ الاتّصال بالمحبوب والاُنس به یتمّ فیها عبر الأدوات الحسّیة. وهذا بالتحدید هو ما یجعلنا نواجه المشاكل عندما نحاول الرقیّ والتسامی من الحسّیات إلى ما فوقها. ومن هنا فإنّه یتعیّن علینا، من أجل نیل هذه المعارف، الاستعانة بالواصلین إلى هذه المراتب والدرجات، ونخصّ بالذكر الأنبیاء والمعصومین (صلوات الله علیهم أجمعین) الذین قد بلغوا ذروة الكمال بأنفسهم. ولا ینطبق ذلك على المحسوسات. فعندما یواجه المرء أمراً سارّاً فإنّه یمیل إلیه فی بادئ الأمر. فإذا تكرّرت هذه العلاقة مرّتین أو أكثر فإنّه سیبدأ بالاُنس بهذا الشیء أكثر فأكثر ویلتذّ بمعاودة الارتباط به. ولیس الإنسان فی مثل هذه المواطن بحاجة إلى كثیر من العناء، فعندما تتوفّر جاذبیّة المحبّة فی امرئ فإنّ الإنسان یشعر بالحبّ تجاهه عفویّاً حتّى یبلغ هذا الحبّ تدریجیّاً درجة بحیث لا یكون فی میسور الإنسان نسیانه إذا أراد ذلك.
أمّا فیما یختصّ بالله جلّت آلاؤه فعلى الرغم من كلّ هذا التأكید على ذكره فإنّه یتحتّم علینا أن نُجهد أنفسنا ونطیل التمرّن إذا ما أحببنا أن نكون ذاكرین له. والحال أنّه إذا نشأت فی قلوبنا محبّة جادّة تجاه الله تعالى فسوف لا نعود بحاجة إلى بذل جهد كبیر من أجل ذكره. فالذین ذاقوا لطائف حبّه جلّ وعلا فإنّهم یعدّون ذلك سرّاً بینهم وبین ربّهم ویبذلون قصارى جهدهم فی أن لا یذكروا الله كثیراً أمام الآخرین كی لا یلتفت أحد إلى حالهم. فإذا ما أدركنا - بفضل أحادیث المعصومین (صلوات الله علیهم أجمعین)، لاسیّما ما ورد عنهم من أدعیة ومناجاة – بأنّ هناك - حقّاً - اُموراً من هذا القبیل، فإنّنا سنلتفت حینها إلى التفكیر بما ینبغی صنعه لننال نحن أیضاً غرفةً من هذا المحیط المترامی الأطراف.
القضیّة الاُخرى هی ما قد نصاب به من غرور بسبب هذا الحبّ فنخال أحیاناً أنّنا قد بلغنا غایة الكمال وأنّه لیس ثمّة فوق ما وصلنا إلیه من قمّة. فالإنسان فی مثل هذه الحالة یحدّث نفسه بأنّ الآخرین لا یفهمون مثل هذه الاُمور، فهم یلهثون وراء لذائذ الدنیا المادّیة ویسأمون من صلاتهم، أمّا أنا فإنّ لی مع الله اُنساً وفی صلاتی لذّة. فهنا تكمن معضلة اُخرى وهی: كیف لنا أن ننتشل أنفسنا من حبائل الشیطان هذه ونقف على حقیقة أمرنا وما هو محلّنا من الإعراب أساساً؟
فلقد أكّدت بعض الروایات على ضرورة عدم تناول الطُعم الذی أعدّه لكم الشیطان وأن لا تتصوّروا، إذا أحسستم بمحبّةٍ تجاه الله وأولیائه، بأنّكم قد حلّقتم فی الأعالی وأصبحتم خیرة البشر. فلابدّ أن نفهم أنّه، على الرغم من أنّ هذا النمط من المحبّة العابرة والسطحیّة حقیقیّ ولسنا كاذبین فی ادّعائنا إیّاها، فإنّ ثمّة بوناً شاسعاً بین هذه المحبّة وتلك التی بلغها عباد الله الصالحون الكُمَّل. لكنّنا – مع شدید الأسف – نغفل أحیاناً ویخدعنا الشیطان الرجیم فنكتفی بما لدینا من محبّة سطحیّة. وقد اهتمّت بعض الأحادیث بهذه القضیّة وهی ضرورة عدم التوقّف عند هذه الأشكال السطحیّة والضحلة من المحبّة، وأن یعرف المرء - ابتداءً - المقدار الحقیقیّ الذی یحمله من الحبّ، ثمّ یعلم أنّه ثمّة اُناس یفوقونه فی مراتب الحبّ، كی لا یصاب بالغرور والكِبْر.
إنّنا عندما نحبّ شخصاً ما فإنّنا – فی المرحلة الاُولى – نُسرّ لرؤیاه لكنّ عدم رؤیته لا تضیرنا. أمّا إذا نمت محبّتنا له بعض الشیء فإنّنا سنحسّ بنقص إذا لم نره لیوم واحد. فإن اشتدّت هذه المحبّة أكثر فإنّنا سننزعج كثیراً من عدم رؤیا المحبوب وسنعجز عن أداء واجباتنا الاُخرى حتّى نراه. كما أنّ من آثار المحبّة الاُخرى هی محاولة المرء إسداء خدمة لمن یحبّ. فإن زاد حبّه له قلیلاً فإنّه سیرغب فی تقدیم كلّ ما یملك له. فهل نحن - الذین ندّعی حبّ الله تعالى وأولیائه - هكذا حقّاً؟! هل إنّنا نشعر بالنقص یا ترى إذا لم نذكرهم یوماً؟! وهل سنحس بفراغ إذا لم نقرأ زیارة سیّد الشهداء (علیه السلام) لیوم واحد، إذا كنّا قد عقدنا العزم على قراءتها یومیّاً مثلاً؟! فالمرء یحسّ بذلك مع أصدقائه العادیّین، وإذا شعر بأنّ شیئاً ما یسرّهم فإنّه سیفعله لا محالة؛ فإن لم یكن لدیه مال، اقترض كی یصنع ما یُدخل السرور على محبوبه. بل إنّ مجرّد شعور المرء بأنّ محبوبه راضٍ عنه یُعدّ أعظم لذّة بالنسبة له. فهل إنّنا كذلك فی علاقتنا مع الله عزّ وجلّ وأولیائه؟!
مع شدید الأسف فإنّنا نقصّر أحیاناً فی القیام بأمر ما حتّى مع علمنا بأنّه یسرّ صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرَجه الشریف). وعلى الرغم من علمنا أحیاناً بأنّه (علیه السلام) یستاء من بعض التصرّفات ویشتكی من قیامنا بها لكنّ الشیطان یخدعنا فنعمد إلى ممارستها. إذن لـمّا كان الله قد حبانا بدرجة من محبّته ومحبّة أولیائه فإنّه یتعیّن علینا أوّلاً أن نقیس الدرجة التی نحتلّها نحن وما هو مقدار محبّتنا، ثمّ نحاول تطویرها، وأن ندرك كیف كان أحبّاء الله الحقیقیّون وأین وصلوا.
روی عن أمیر المؤمنین (سلام الله علیه) أنّه قال: «القلب المحبّ لله یحبّ كثیراً النصب لله، والقلب اللاهی عن الله یحبّ الراحة»[1] [328]. فإنّ من جملة علامات محبّة الإنسان شخصاً ما هی رغبته فی تقدیم خدمة له وتحمّل المتاعب لأجله، بالضبط كالأمّ التی تلتذّ بعنائها مع ولدها وسهرها على راحته. وهذه الروایة تشیر إلى هذه القضیّة؛ فهی تقول: إنّ القلب الذی یحبّ الله یرغب فی أن یتعب لأجله، أمّا القلب الغافل الخالی من محبّته تعالى فهو یفتش عن الدعة والراحة. فإنّ المحبّ لله یكون دائم الاجتهاد فی تحقیق ما یحبّه ربّه، أمّا الذی لا یحظى بهذه المحبّة فإنّه یكتفی بالصلاة الواجبة كحدّ أعلى، فلیس هو من أهل المثابرة والعمل وبذل الجهد، بل من طلاب الراحة.
فإنّ من أمارات عدم مصداقیّة ادّعاء حبّ الله تبارك وتعالى وأهل بیت الرسول (صلوات الله علیهم أجمعین) هی إعفاء النفس من المسؤولیّة ساعة العمل وتحویله إلى الآخرین. فحبّنا لهم لا یتجاوز رغبتنا فی رؤیتهم والكون إلى جوارهم، فی حین أنّنا لا نتحمّل العمل من أجلهم. وفقاً للروایة أعلاه یقول أمیر المؤمنین (علیه السلام): إنّ علامة قلب المحبّ لله هی حبّه للعمل وبذل الجهد فی سبیله إلى حدّ التعب والإعیاء. ثمّ یقول: «فلا تظنّ یا ابن آدم أنّك تدرك رفعة البرّ بغیر مشقّة»؛ فلا تظنّن أنّك قادر على بلوغ المقامات العالیة من دون تعب ونصب. فبعض الناس یتجشّمون عناء التفكیر بأنفسهم ولا یكلّون من المطالعة، لكنّهم لیسوا من أهل العمل والمثابرة فی سبیل الله، فهم لا یطیقون طرق باب فقیر لیلاً أو قضاء حاجة صدیق لهم. وهم لیسوا ممّن یخطون خطوة واحدة فی طریق هدایة امرئ. «فإنّ الحقّ ثقیل مُرّ». فإذا رُمت بلوغ المقامات العالیة فعلیك الاستعداد لتحمّل الأعباء الثقیلة من ناحیة وتذوّق المرارات من ناحیة اُخرى. فلا تتصوّرنّ أنّ بالإمكان قضاء عمرك كلّه بالحلاوة والسرّاء والابتسامة. فالأمر لیس على هذا المنوال. فإنْ رغبت فی الوصول إلى مكانة مرموقة فلابدّ من الكدّ وتحمّل المرارات!
وجاء فی خبر آخر أنّ أعرابیّاً سأل أمیر المؤمنین (علیه السلام) أن یبیّن له درجات المحبّین (وهو لأمر عجیب حقّاً؛ فنحن المتعلّمون لا نسعى إلى معرفة درجات المحبّین، لكنّ أعرابیّاً یأتی إلى أمیر المؤمنین طالباً منه بیان هذه الدرجات له). فأجابه (علیه السلام): «أدنى درجاتهم مَن استصغر طاعتَه، واستعظم ذنبَه، وهو یظنّ أنْ لیس فی الدارین مأخوذٌ غیرُه»[2] [329]؛ فأدنى درجات المحبّ هی أنّه لا یرى لخدماته وطاعاته قیمة؛ فكلّ ما أتى به من عمل فإنّه یراه قلیلاً ولا یلیق بالله تعالى. بالطبع إنّ المراد من هذا المحبّ هو ذلك الذی نفذت المحبّة إلى أعماق قلبه، وإلاّ فیمكن الحصول على أشكال المحبّة السطحیّة من دون ذلك. فالمحبّون یعلمون أنّ المحبّة الخالصة هی شعور المحبّ بعدم أداء حقّ المحبوب وأنّه لابدّ من فعل المزید مهما فعل من أجله.
العلامة الثانیة هی: «واستعظم ذنبه»؛ فإنْ أتى المحبّ بما لا یرضی المحبوب لم یعد قادراً على النظر فی وجهه. فهو یخشى أن یؤنّبه بالقول: تدّعی محبّتی ثمّ تتصرّف معی بهذه الطریقة! لقد خُنتنی! فلقد فعلتَ ما نهیتك عنه! لكنّنا – مع الأسف – ندّعی حبّ الله تعالى ثمّ نذنب من الصباح حتّى المساء بكلّ سهولة. فلیست هذه هی المحبّة الحقیقیّة. فالمحبّة الحقیقیّة هی أن یرى المرء ذنبَه – مهما كان صغیراً – على جانب من الضخامة بحیث لا یستطیع رفع رأسه فی حضرة ربّه.
أمّا العلامة الثالثة فهی أصعب من الثانیة بعض الشیء؛ وهی قوله: «وهو یظنّ أنْ لیس فی الدارین مأخوذٌ غیرُه»؛ فهو لا یستعظم ذنبه فحسب، بل یتصوّر أنّه لیس فی هذه الدنیا من سیؤاخَذ على فعلته غیره. فهو یقول: إنّ ذنبی أعظم من ذنوب الجمیع، فذنب الجمیع قابل للغفران، لكنّنی سیّئ إلى درجة أنّ ذنبی لا یغتفر. وهذه لعمری منتهى ما یمكن أن یستشعر الإنسان فی حضرة محبوبه من ذلّة ومهانة. وسبب ذلك هو أنّ ذروة المحبّة هی أن یفنى المرء فی محبوبه. وهی حالة لا یشعر المحبّ فیها بالأنانیّة لنفسه، وأنّه یفدی كلّ ما لدیه لمحبوبه. فالمحبّة تقتضی مثل هذه الاُمور. فالذی یحبّ الله حبّاً حقیقیّاً والمبتلى – بطبیعة الحال – ببعض الزلاّت یتعیّن علیه أن یستاء من هذه الزلاّت ویرى نفسه مستحقّاً لأقسى درجات التوبیخ.
حینما وصل أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی كلامه إلى هنا انقلب الأعرابیّ ووقع مغشیّاً علیه، حتّى إذا أفاق قال: هل [ثمّة] درجة أعلى منها؟ فمن العظمة بمكان أن یصل الإنسان إلى مرتبة یرى نفسه أكثر إثّما من الجمیع وأكثر استحقاقاً للمؤاخذة والتوبیخ منهم، فهل من درجة أعلى من ذلك؟ فقال (علیه السلام): «نعم سبعون درجة»؛ فهذه المرتبة التی قلتها لك هی اُولى مراتب المحبّة، وهناك ثمّة سبعون درجة أعلى منها أیضاً وإنّ المسافة بین كلّ منها هی كالمسافة بین هذا المحبّ والناس العادیّین.
على هذا الأساس فمن أجل أن نخطو فی طریق محبّة الله وننال – على الأقلّ – درجتها الاُولى یتعیّن علینا أن لا ندع إلى قلبنا سبیلاً لما لا یحبّه الله تعالى، وهذا هو الذی سیدفعنا للمضیّ قُدماً فی هذا الطریق. إذ یقول إمامنا جعفر الصادق (علیه السلام) فی هذا الخصوص: «إذا تخلّى المؤمن من الدنیا سَما ووجدَ حلاوة حبّ الله»[3] [330]؛ أی: إذا فرغ قلب المؤمن من الدنیا فإنّه سیحظى بالرفعة والعلوّ حتّى یتذوّق حلاوة محبّة الله تبارك وتعالى. لكنّ قدرة الإنسان على إنقاذ نفسه من الانشداد إلى الدنیا سهلة على اللسان، ذلك أنّ لدینا آلاف الأصناف من التعلّق بلذّات الدنیا. لكن لنعلم أنّنا إذا رُمنا تذوّق حلاوة محبّة الله فما علینا إلاّ أن نطرد محبّة الدنیا من قلوبنا. ویتابع (علیه السلام) قوله: «وكان عند أهل الدنیا كأنّه قد خُولِط»؛ فإذا رآه الناس قالوا: فقَد عقله. ولعلّكم قد شاهدتم أو سمعتم عن بعض من تنتابهم حالات غیر طبیعیّة فی الحبّ حیث لا یستطیعون السیطرة على أنفسهم جیّداً فیقول فیهم الآخرون: كأنّهم قد خولطوا وفقدوا صوابهم. «وإنّما خالط القوم حلاوةُ حبّ الله فلم یشتغلوا بغیره»؛ لكنّ الحقیقة هی أنّ محبّة الله قد تمكّنت من أعماق قلوبهم إلى درجة أنّها لم تُبق مجالاً لشیء آخر فیها فلم یعودوا قادرین على الاشتغال بشیء آخر أساساً، فإنّ ما ذاقوه من المحبّة لا یدعهم یلتفتون إلى أمر آخر بتاتاً.
وروی عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) أیضاً فی حدیث آخر: «مَن أحبّ أن یعلم كیف منزلته عند الله فلینظر كیف منزلة الله عنده»[4] [331]. فإنّ أَحَبّ شیءٍ عند المحبّ هو أن یبادله المحبوب الحبّ. فعندما یحبّ امرؤ شخصاً ما فإنّه یودّ أن یعرف شعور المحبوب تجاهه، وإلى أیّ درجة یحبّه، وما الذی یجول فی قلبه بخصوصه. فإذا انطوى قلبنا على محبّة صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرَجه الشریف) فإنّ رغبةً ستحدونا لمعرفة رأیه (علیه السلام) فینا؟ فإذا أحبّ أحدٌ أن یعرف موقف الله منه وإلى أیّ مدىً یحبّه، فعلیه أن ینظر إلى المكانة التی یحتلّها الله جلّ وعلا فی قلبه. فكما أنّ ذكرنا متلازم مع ذكر الله، فإنّ هذین أیضاً متلازمان؛ فإنّ منزلتنا ومقامنا عند الله وأولیائه یعتمد على ما نكنّه لله ولأولیائه فی قلوبنا من منزلة ومقام.
وهنا یتبادر إلى الذهن سؤال هو: ما السبیل إلى معرفة منزلة الله عندنا؟ فنحن نكثر التنویه بعظمة الله ومنزلته على مستوى الكلام، ونسجد على الأرض ونمرّغ جبیننا فی التراب بین یدیه، لكنّ هذا كلّه لا یشیر إلى مدى عظمة ومكانة الله عندنا. فلو دار الأمر بین شیئین، أحدهما اُخرویّ یریده الله تعالى، والآخر دنیویّ تهفو إلیه نفوسنا، فأیّهما سنرجّح على الآخر؟ فلو كنّا نشاهد فی بیتنا الفلم الذی نحبّه على شاشة التلفزیون فحان وقت الصلاة، فهل سنمیل إلى متابعة الفلم یا ترى أم سننتظر قول المؤذّن: «الله أكبر» كی نهرع إلى الصلاة؟ ففی مثل هذا الموقف إذا ترك الإنسان مشاهدة التلفزیون وقام للصلاة عُلم حینها أنّ له مكانة كبیرة عند الله عزّ وجلّ.
فلنعلم أنّ حیاتنا برمّتها ملیئة بمثل هذه الامتحانات. فهل إنّنا نقوم بما نقوم به یا ترى بدافع رغبتنا فیه أم على خلفیّة أنّ الله یطلبه منّا؟ وهل إنّنا ندرس لأنّنا نحبّ ذلك أم لأنّ صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرَجه الشریف) یرید منّا ذلك؟ وهل إنّنا نذهب لتبلیغ الدین لما یعود علینا ذلك بالمصلحة والنفع أم لأنّه یُدخل السرور إلى قلب إمامنا (علیه السلام)؟ فهذه الاُمور تشیر إلى مكانة الله فی قلوبنا، وهی تخبرنا أیضاً بمنزلتنا عند الله. ثمّ یقول (علیه السلام): «فإنّ كلّ من خُیِّر له أمران: أمر الدنیا وأمر الآخرة فاختار أمر الآخرة على الدنیا فذلك الذی یحبّ الله، ومَن اختار أمر الدنیا فذلك الذی لا منزلة لله عنده» وإنّ ما یریده الله لا یحظى عنده بأهمیّة. وإنّ فی ذلك امتحاناً لنعلم مدى عمق ما نحمله من صنوف الحبّ ولنعرف ما هی قیمتنا ومنزلتنا عند الله عزّ وجلّ.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
[1] [332]. مجموعة ورام، ج2، ص87.
[2] [333]. مستدرك الوسائل، ج1، ص133.
[3] [334]. الكافی، ج2، ص130.
[4] [335]. جامع الأخبار، ص178.
كما أشرنا فیما مضى فقد یكون سبب المحبّة اللذّة التی یشعر بها الإنسان من علاقته بالمحبوب. فإنّ مشاهدة زهرة أو سماع تغرید بلبل مثلاً یبعث على لذّة آنیّة فی نفس الإنسان ممّا یدفعه إلى حبّ منشئهما. فإذا تكرّرت هذه العلاقة فإنّها سترسخ بشكل من الأشكال ممّا یؤدّی إلى اُنس المرء بالمحبوب. وفی مثل هذه الحالة فإنّ المحبّة ترتبط بما یحسّه الإنسان من لذّة تجاه المحبوب، فإذا اختفت هذه اللذّة، تلاشت المحبّة أیضاً. لكنّ المرء أحیاناً یحبّ شخصاً لصفة أو لكمال ثابت فیه. فقد یحبّ الإنسان عالِماً لعلمه وتقواه ومعرفته. فمثل هذا الإنسان سیستمرّ فی حبّ هذا العالِم حتّى وإن لم یره لمدّة من الزمن، إلاّ إذا طرأ تحوّل على نفس هذا العالِم.
فقد خلق الله تعالى الإنسان فی هذا العالم وأودع فیه قابلیّة التحوّل. وقد ضرب القرآن أمثلة على ذلك كی ننتبه ولا نتخیّل أنّ الإنسان إذا حافظ لمدّة على سلوك حسن وكمال خاصّ فإنّه سیبقى هكذا حتّى أبد الآبدین. فالله عزّ وجلّ یقول: «وَاتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ الَّذِی ءَاتَیْنَاهُ ءَایَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّیْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِینَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ»[1] [336]. لقد كان هذا الرجل عالماً من علماء بنی إسرائیل وكان عابداً ومستجاب الدعوة، لكنّه بات یفقد تدریجیّاً روح التقوى والإخلاص ویمیل إلى الدنیا ولذائذها، حتّى وصل به الأمر شیئاً فشیئاً إلى درجة قول القرآن الكریم فیه: «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ»[2] [337]. فإنّ مقتضى المسیر المنطقیّ والعقلیّ فی مثل هذه الحالات هو أن تتغیّر المحبّة إذا تغیّر المحبوب؛ فإذا كنّا نحبّ امرأ لكونّه عبداً لله ومن أهل التقوى والإخلاص والعبادة، فلا یعود ثمّة معنىً لحبّنا إیّاه إذا تحوّل إلى منافق وصار عبداً للدنیا.
بید أنّه قد یكون لموجود صفة ثابتة لا تقبل الزوال. فإن عَلِم الإنسان بثبات هذا الكمال فی المحبوب، فسیدوم حبّه له ویظهر هذا الحبّ - بالتناسب - على أعماله؛ فسیذكره دوماً، ویتلفّظ باسمه باستمرار، ویحبّ كلّ سلوك منسوب إلیه؛ اللهمّ إلاّ إذا ظهَرَ فی المحبّ نفسه إِشكال معیّن حال دون استمرار محبّته له؛ وإلاّ فإنّ مقتضى الكمال الراسخ فی المحبوب هو دوام المحبّة له. فالإنسان نفسه قد یصاب أحیاناً بآفة كالنفاق مثلاً فإذا به - بعد أن كان یحبّ امرأً لإیمانه - یبغضه لنفس هذا الإیمان.
إنّ أخفض درجة من المحبّة یمكن أن نكنّها لله تعالى هو حبّه من أجل آلائه التی أسبغها علینا. بالطبع إذا اقتصر سبب محبّتنا على هذه النعمة الآنیّة، فإنّها ستزول بزوالها. فلو أحبّ العلیل اللهَ لمجرّد أنّه شفاه من علّته، فإنّ هذه المحبّة ستخبو إذا عاوده المرض ثانیة أو أنزل الله علیه - لمصلحة ما - مصیبة أو بلاءً آخر. وهذا ما یجعل بعض الناس یُظهرون الحبّ لله تعالى حیناً ولا یشعرون بأیّ محبّة له عزّ وجلّ حیناً آخر. أمثال هؤلاء كانوا یتوقّعون من الله اُموراً لكنّ الله لم یرَ المصلحة فی إعطائهم إیّاها أو أنّه قد امتحنهم ببعض المصائب. فإذا علموا أنّ كلّ ما یحصل لهم هو من عند الله لم تصمد محبّتهم له تعالى. هذه الآفة تتعلّق بالمرتبة النازلة من المحبّة التی یكنّها الإنسان لربّه؛ فلمّا كانت العلّة المسبّبة لها ضعیفة وقابلة للتغییر كان معلولها (أی المحبّة) ضعیفاً أیضاً.
لكنّ الإنسان عندما یكون فی مستوى أعلى من المحبّة فإنّه یحبّ الله لكمالاته. فكما أسلفنا فإنّنا إذا أحببنا شیئاً فهو بسبب ما یملكه هذا الشیء من الكمال. بناءً على ذلك فكلّما صدّقنا أكثر بأنّ كلّ كمال فهو موجود بشكل غیر نهائیّ عند الله سبحانه وتعالى، فإنّ حبّنا له عزّ وجلّ سیزداد أكثر. لكنّه، وكما عبّر الإمام الراحل (رحمه الله)، فإنّ قضیّة تمتّع الله بهذه الكمالات لم تدخل إلى قلوبنا.
المرتبة الأعلى من المحبّة هی أنّه إذا اقتضت بعض صفات الله هذه - وهی صفات كمالیّة - ضررَنا فی بعض الأحیان فإنّنا نستمرّ فی إنجاز واجباتنا الإلهیّة والثبات على إیماننا. فبالنتیجة إنّ نفس صفة الحكمة الإلهیّة هذه هی التی تقضی بأن نُمتَحن: «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَیْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِینَ»[3] [338]. فالله عزّ وجلّ یسلب منّا بعض الاُمور ویبتلینا ببعض المصائب كی یمتحننا. وفی مثل هذه الحالة إذا كان الإیمان والمعرفة، وتبعاً لهما المحبّة، ضعیفة، فقد ینتهی الأمر إلى البغض أیضاً. فإنّ سبب خروج بعض الأشخاص من الدنیا كفّاراً وعدم استعدادهم للتلفّظ بالشهادتین ساعة الاحتضار هی أنّ لهم تعلّقات وهم یرون أنّ الله یفرّق بالموت بینهم وبین ما یحبّون. یرون كیف أنّ الله یبعدهم عن الأشیاء التی بذلوا من أجلها على مدى سنین طویلة جهوداً مضنیة وأحبّوها حبّاً جمّاً، ولهذا فهم غیر حاضرین لنطق الشهادتین. بید أنّ الإیمان إذا كان أكمل فسیلتفت الإنسان إلى أنّ كلّ ما یجری حوله ینمّ عن حكمة، وإنّ ملاحظة ذلك ستكون بحدّ ذاتها سبباً لنشوء المحبّة فی قلبه. وهذا ما یفسّر سبب عدم انخفاض محبّة الأولیاء لربّهم عند نزول النوازل، بل إنّ الأخیرة تدعوهم إلى المزید من الالتفات لربّهم. فهم یخاطبون ربّهم بالقول: إلهی! لك الحمد أنّك أنت الذی وهبتنا هذه النعمة، ولك الحمد على أن سلبت منّا ما رأیت صلاحنا فی سلبه منّا؛ ونحن نعلم أنّك ستعطینا بسبب ذلك أفضل منه فی الجنّة. لك الحمد أن ألهمتنا الصبر كی نكون شاكرین لك فی هذه المصیبة. ولهذا فإنّ نفس هذه المصیبة تدفع أولیاء الله إلى ممارسة المزید من العبادة لربّهم.
قد یتبادر إلى الذهن السؤال التالی: كیف یكون الله محبوباً مع كلّ هذا الإنذار بالعذاب وبجهنّم؟ فإنّ ربّاً كهذا هو مخیف أكثر منه محبوباً! وإنّ كثرة ما ورد فی الشرع المقدّس من الأمر بالخوف من الله وخشیته یدلّ على ضرورة الخوف من الله، وإنّ الإنسان لا یحبّ من یخشاه.
أمّا الجواب على هذا السؤال فهو لا شكّ أنّ المحبّة البسیطة والسطحیّة تكون متزعزعة، فهی توجَد یوماً وتنعدم یوماً آخر. وفی مثل هذه الحالة فإنّنا سنحبّ الله تعالى حیناً، ونبغضه - والعیاذ بالله - حیناً آخر: «وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ»[4] [339]. فقد یصل الأمر بابن آدم إلى أن یكره سماع اسم الله عزّ وجلّ، وهی حالة تأتی من سحطیّة المعرفة. أمّا إذا فكّرنا فی كمالات الله سبحانه وتعالى، فسوف لا نكون هكذا. فإنّ لله جمیع الكمالات بصورتها غیر المتناهیة، ولا یمكن قیاسها بأیّ مقیاس. فإن آمن الإنسان وصدّق بأنّ موجوداً ما یتمتّع بكلّ هذه الكمالات فهو لا یقدر إلاّ أن یحبّه، وكلّما زادت معرفته به، زاد حبّه له بنفس النسبة. فهو فی حالة كهذه سیعدّ المصیبة والبلاء امتحاناً من قبل الله تبارك وتعالى وهو ما یهیّئ له المناخ للمزید من التكامل. وكذا الحال مع إنذارات الله عزّ وجلّ فسیراها من دافع رحمته. یقول لنا: اخشوا جهنّم فإنّ نارها تفعل كذا وكذا، كی لا نفعل ما نستوجب به جهنّم؛ فجهنّم هی نتیجة أعمالكم؛ أی إنّ أعمالكم الدنیویّة تتحقّق فی عالم الآخرة بهذه الصورة، وإنّكم أنتم الذین توقدون هذه النار بأنفسكم. فإنذار الله لنا هو لردعنا عن الوقوع فی ورطة. فهو یرید منعنا عن فعل ما نستوجب به العذاب. وبناء على ذلك فإنّ نفس هذا الإنذار لابدّ أن یدعونا إلى حبّ الله أكثر.
كما أنّ من جملة الصفات التی توجب محبّة الله هی التفكیر بأنّه تعالى قد أرسل إلى البشر رسلاً كی لا یؤول الناس إلى التعاسة والشقاء، وهو یحذّرنا باستمرار من أن نضلّ الطریق. فما هو الداعی من وضع علامات المرور مثلاً؟ أهی لمصلحة الناس أم للإضرار بهم؟ من الواضح أنّ وجود هذه العلامات هو لصالح الناس وهی موضوعة فی الطرقات لتفادی الأخطار؟ فإن أدرك الإنسان أنّ الإنذارات الإلهیّة هی كعلامات الطریق وُضعت لتنبیه الناس إلى الأخطار ولئلاّ یضلّوا الطریق، فسیزداد لربّه حبّاً. وفی النهایة إذا علم المرء أنّ كلّ هذه الاُمور، حتّى الإنذار من العذاب الأبدیّ، صادرة عن حكمة، فإنّه سیحبّ الله أكثر. فالحكمة هی صفة كمالیّة، وإنّ كلّ كمال هو محبوب. ولمّا لم یكن للحكمة الإلهیّة من نهایة، فلابدّ من حبّها حبّاً لا نهایة له.
سبق أن قلنا فی المحاضرات الفائتة إنّ من جملة العلامات على كون محبّة الله حقیقیّة هی أنْ نرى كم نحن نحبّ أولیاءه جلّ وعلا، ومدى اهتمامنا بالسلوكیّات التی ینصحنا الله تعالى بها. علینا أن نعلم أنّ محبّة النبیّ الأكرم وأهل بیته (صلوات الله علیهم أجمعین) واتّباعهم فی مقام العمل تُعدّ من لوازم محبّة الله عزّ وجلّ: «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْكُمُ اللهُ»[5] [340]. وقد مررنا فی المحاضرة الماضیة على روایة تذكر هذا المعنى؛ وهو أنّه إذا خُیّر الإنسان بین عملین أحدهما دنیویّ والآخر اُخرویّ فقدّم الاُخرویّ على الدنیویّ فهو دلیل على حبّه لربّه، أمّا إذا فضّل العمل الدنیویّ فهو علامة على أنّ محبّته للدنیا أكبر. فعندما تحبّون الإمام الخامنئیّ (حفظه الله) فلابدّ أن تُكنّوا لولده الحبّ أیضاً لانتسابه إلیه. فإنْ عشق الإنسانُ امرَأً فإنّه سیعشق حتّى الزقاق والمنزل الذی یعیش فیه. فهذه الاُمور هی من لوازم المحبّة. وبناءً علیه فإذا كنّا نحبّ أهل البیت (علیهم السلام) فیتعیّن أن نحبّ كلّ ما یتعلّق بهم. وأوّل مرتبة من هذا الحبّ هو حبّ السادة من أولادهم. وهذه أوّل نسبة. فإذا ارتكب شخص علویّ معصیة فإنّ علینا أن نحبّه أیضاً لعَلَویّته. بالطبع لابدّ من بغض ما أتى به من معصیة، لكنّ انتسابه هذا هو انتساب ثابت ویتعیّن محبّته لهذا السبب.
إذا أحبّ المرء علیّاً (علیه السلام) فإنّه سیحبّ صفاته أیضاً، وإنّ من جملة صفات كماله، والتی یعرفه العالم بأسره بها، هی عدله. فما بالنا لو أنّنا كنّا فی زمان علیّ (علیه السلام) فأصابنا بسبب عدله ضرر، فما كنّا سنصنع حینها؟ هل كنّا سنحبّه أیضاً؟ من الواضح أنّ ذلك سیخلّف فی نفوس ذوی الدرجات الضعیفة من المحبّة – شاءوا أم أبوا - أثراً سلبیّاً وسیخفض من مستواها. لكنّ التاریخ یحدّثنا عن اُناس زاد حبّهم لعلیّ (علیه السلام) بسبب عدله ذاك، بل وعندما كان یصیبهم ضرر مادّی فإنّ حبّهم تجاهه لم یكن یخفّ. لیس هذا فحسب، بل كان یتضاعف أیضاً.
روی أنّ غلاماً أسودَ دخل على أمیر المؤمنین (علیه السلام) وأقرّ أنّه سرق، فلم یقبل منه أمیر المؤمنین ذلك حتّى سأله ثلاث مرّات وقال: «یا أمیر المؤمنین طهّرنی فإنّی سرقتُ». وحیث إنّ المجرم إذا اعترف ثلاث مرّات كان على القاضی إجراء الحدّ علیه، أمَر (علیه السلام) بقطع یده (أربع أصابع من یده). فحمل الأسود أصابعَه ومضى فاستقبله ابن الكوّاء فقال: «من قطع یدك؟ فقال: لیثُ الحجاز وكبش العراق ومُصادم الأبطال، المنتقم من الجُهّال، كریم الأصل، شریف الفضل، مَحِلّ الحرمین، وارثُ المشعرَین، أبو السبطین، أوّل السابقین، وآخر الوصیّین من آل یٰس، المؤیَّد بجبرائیل، المنصور بمیكائیل، الحبل المتین، المحفوظ بجند السماء أجمعین، ذاك والله أمیر المؤمنین..». فتعجّب ابن الكوّاء وقال له: «قطَع یدك وتثنی علیه؟! قال: لو قطّعنی إرباً إرباً ما ازددتُّ له إلاّ حبّاً. فدخل [ابن الكوّاء] على أمیر المؤمنین وأخبره بقصّة الأسود. فقال (علیه السلام): یا ابن الكوّاء إنّ محبّینا لو قطّعناهم إرباً إرباً ما ازدادوا لنا إلاّ حبّاً، وإنّ فی أعدائنا من لو ألعقناهم السمن والعسل ما ازدادوا لنا إلاّ بغضاً». ثمّ قال للحسن (علیهما السلام): «علیك بعمّك الأسود»؛ أی إذهب وأحضره إلى هنا. «فأحضر الحسن الأسود إلى أمیر المؤمنین وأخذ [أمیر المؤمنین] یده ونصبها فی موضعها... وتكلّم بكلمات یخفیها فاستوت یده»[6] [341]؛ أی شُفیت ببركة دعاء أمیر المؤمنین (علیه السلام). فمن الواضح أنّ محبّة من هذا القبیل لم تكن بسبب مال أعطاه إیّاه أمیر المؤمنین أو لاحترامه له. لقد كانت نابعة من كون علیّ عبّداً لله ومظهراً لعدله وحبّه ولطفه و... عزّ وجلّ. وحیث إنّ هذه الصفات ثابتة فإنّ المحبّة فی هذه الحالة تكون راسخة أیضاً ولا تتغیّر. أمّا لو كان سبب الحبّ مثلاً بعض الدنانیر التی أعطاه إیّاها أمیر المؤمنین، لَذَهب حبّه عندما یسترجع منه المال.
علینا أن نسعى لأن نُخرج محبّتنا من حالتها السطحیّة والطفولیّة وأن نعطیها عمقاً أكبر. فلابدّ أن یكون للمحبّة دعامة قویّة. یجب أن تكون لنا بالله وبأولیائه معرفة راسخة لا تهزّها الریاح وأن لا نكتفی بمجرد نقلٍ أو كلام أو شعر فی وصفهم. یقول المرحوم العلاّمة الطباطبائیّ (رحمة الله علیه): قمت - امتثالاً لنصیحة اُستاذی المرحوم العلاّمة القاضی - بمطالعة مجموعة كتاب «بحار الأنوار» لمرّة واحدة لأستخرج منه سنن النبیّ وما كان یحبّه (صلّى الله علیه وآله) واُحاول العمل بها ولو لمرّة واحدة على الأقلّ. فوصلت أثناء البحث إلى روایة تقول إنّ النبیّ (صلّى الله علیه وآله) كان یحبّ جراد البحر. یقول العلاّمة: فقرّرت أن أتناول هذا الطعام ولو لمرّة واحدة فی عمری لمحبّة النبیّ له. ففتّشتُ عنه كثیراً حتّى عثرت علیه وتناولته فی النهایة. هكذا تكون المحبّة؛ فالمحبّ یجتهد فی مجال التشبّه بالمحبوب، واقتفاء أثره، والفناء فیه ما أمكنه ذلك.
جاء فی الخبر أنّ رجلاً دخل على أبی عبد الله الصادق فقال (علیه السلام) له: «ممّن الرجل»؟ أی: من أیّ طائفة من الناس أنت؟ فقال: من محبّیكم وموالیكم؟ فقال له الإمام (علیه السلام): «لا یحبّ اللهَ عبدٌ حتّى یتولاّه، ولا یتولاّه حتّى یوجِب له الجنّة»؛ فإنّ الذی یحبّنا یحبّ الله والذی یحبّ الله تعالى یقبل الله ولایتَه ویصیر ولیّه، وإذا قبل الله ولایة امرئ فسیدخله الجنّة لا محالة. ثمّ قال له (علیه السلام): «من أیّ محبّینا أنت»؟ أی: من أیّ طائفة من محبّینا؟ فلم یحر الرجل جواباً. فبادر سدیر الصیرفیّ، وكان من خواصّ أصحابه (علیه السلام)، الإمامَ بالسؤال: «وكم محبّوكم یا ابن رسول الله»؟ أی: كم هی أصناف محبّیكم؟ فقال: «على ثلاث طبقات: طبقةٌ أحبّونا فی العلانیة ولم یحبّونا فی السرّ» فهم یظهرون لنا المحبّة لكنّهم لا یحبّوننا فی الباطن. إنّهم یلهجون باسمنا فی الظاهر، أمّا فكرهم وسلوكهم ومنهاجهم فمنهاج الطواغیت: «أحبّونا فی العلانیة وساروا بسیرة الملوك، فألسنتهم معنا وسیوفهم علینا». ولعلّ الإمام (علیه السلام) قد قصد بهذا المقطع بنی العبّاس الذین كانوا یظهرون محبّة أهل البیت (علیهم السلام) أمام بنی أمیّة لكنّهم لم یقلّوا عن الأخیرین فی تجاسرهم على أهل البیت (علیه السلام) وما أنزلوه فیهم من المصائب.
«وطبقة یحبّوننا فی السرّ ولم یحبّونا فی العلانیة» لأنّ الظروف لم تسمح لإظهار محبّتهم لنا. فهم یسایرون الناس فی الظاهر لكنّهم یُكنّون لنا فی أعماق قلوبهم الحبّ؛ «ولعمری لئن كانوا أحبّونا فی السرّ دون العلانیة، فهم الصوّامون بالنهار، القوّامون باللیل، ترى أثر الرهبانیّة فی وجوههم، أهلُ سلمٍ وانقیاد» فهم ینصاعون لنا دون نقاش.
أمّا الطبقة الثالثة: «وطبقةٌ یحبّوننا فی السرّ والعلانیة. هم النمط الأعلى، شربوا من العذب الفرات[7] [342] وعلموا تأویل الكتاب، وفصل الخطاب، وسبب الأسباب، فهم النمط الأعلى؛ الفقر والفاقة وأنواع البلاء أسرع إلیهم من ركض الخیل، مسّتهُم البأساء والضرّاء وزُلزلوا وفُتنوا، فمن بین مجروح ومذبوح، متفرّقین فی كلّ بلاد قاصیة، بهم یشفی الله السقیم، ویُغنی العدیم، وبهم تُنصَرون، وبهم تُمطَرون، وبهم تُرزَقون، وهم الأقلّون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً وخطراً»[8] [343].
وهنا قال الرجل: فأنا من محبّیكم فی السرّ والعلانیة. قال جعفر (علیه السلام): «إنّ لمحبّینا فی السرّ والعلانیة علامات یُعرفون... خلالٌ أوّلها أنّهم عرفوا التوحید حقّ معرفته، وأحكموا علم توحیده والإیمان بعد ذلك بما هو وما صفته، ثمّ علموا حدود الإیمان وحقائقه وشروطه وتأویله» وعملوا بها، فصاروا من محبّینا الخُلَّص بعد اجتیازهم هذه المراحل.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
[1] [344]. سورة الأعراف، الآیتان 175 و176.
[2] [345]. سورة الأعراف، الآیة 176.
[3] [346]. سورة البقرة، الآیة 155.
[4] [347]. سورة الزمر، الآیة 45.
[5] [348]. سورة آل عمران، الآیة 31.
[6] [349]. مناقب آل أبی طالب علیهم السلام لابن شهرآشوب، ج2، ص336.
[7] [350]. لعلّ فی هذا التعبیر إشارة إلى الروایة التی تقول بأنّ الله سبحانه وتعالى عندما خلق العالم خلقَ عینین من الماء إحداهما عذب فرات وماء الثانیة ملح اُجاج، فخلق أولیاءه من هذا العذب الفرات.
[8] [351]. بحار الأنوار، ج65، ص275.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 21 أیار 2014م الموافق للحادی والعشرین من رجب 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
21
لقد ذكرنا أنّ لمحبّة الله مراتبَ مختلفة وأنّها فی مرتبتها النهائیّة تغمر قلب الإنسان تماماً ولا تذر لمحبّة غیره جلّ وعلا موطئ قدم: «أنت الذی أزلتَ الأغیار عن قلوب أحبّائك حتّى لم یحبّوا سواك»[1] [352]. وهنا تتبادر الشبهة التالیة إلى الذهن وهی: إذا كان الحال هذا فأین هو موضع حبّ أهل البیت (علیهم السلام) وأولیاء الله والمؤمنین وغیرهم من الذین ورد الثناء على محبّتهم؟ وهل إنّ الواصل إلى المحبّة الكاملة لله تعالى لا یعود یحبّ رسول الله وأهل بیته (صلوات الله علیهم أجمعین)؟ وهل إنّه لا یعود یحسّ بالحبّ تجاه أبویه وأولاده وزوجه؟! وقد وصلنا فی ردّنا على الشبهة المبیّنة أعلاه إلى النتیجة التی مفادها أنّ هذه الأنماط من المحبّة لا تتحقّق بشكل مستقلّ إذا اكتملت المحبّة لله، أمّا فی المراتب الأقلّ كمالاً من محبّة الله، فمن الممكن أن تتحقّق تلك الأشكال من المحبّة بصورة مستقلّة ولا یتعیّن حینها إلاّ بذل الجهد لتغلیب محبّة الله علیها؛ حیث یقول تعالى: «وَالَّذِینَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للهِ»[2] [353]. بالطبع حتّى المحبّة الكاملة التی یكنّها الإنسان لربّه لا تتنافى مع محبّته لأهل بیت العصمة والطهارة (علیهم السلام) وهذا یرجع إلى كون الأخیرة هنا غیر مستقلّة بذاتها وأنّها تُعدّ من شؤون محبّة الله تبارك وتعالى. وقد أشرنا مراراً وتكراراً إلى أنّ حقیقة المحبّة هی بحیث إنّ الأخیرة إذا تحقّقت سطع نورها على لوازم المحبوب وآثاره أیضاً. ومن حیث إنّ أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین) لیسوا مستقلّین بحدّ ذاتهم، وإنّ كمالهم یكمن فی كونهم عباداً كاملین لبارئهم، فإنّه بالإمكان حبّهم إلى جانب المحبّة الكاملة لله العلیّ القدیر. وهذا الحبّ الأوّل لیس فقط لا ینافی الحبّ الكامل لله عزّ وجلّ، بل إنّه مطلوب وواجب أیضاً.
جاء فی الخبر عن أبی عبد الله جعفر بن محمّد عن أبیه (علیهما السلام) عن جابر بن عبد الله الأنصاریّ أنّه قال: «جاء أعرابیّ إلى النبیّ (صلّى الله علیه وآله) فقال یا رسول الله، هل للجنّة من ثمن [یدفعه الإنسان لیحصل علیها]؟ قال: نعم. قال ما ثمنها؟ قال: لا إله إلا الله، یقولها العبد الصالح مخلصاً بها» أی: كلمة التوحید بشرط أن یقولها عبد صالح عن إخلاص. «قال: وما إخلاصها [كیف تكون عن إخلاص]؟ قال: العمل بما بُعثتُ به فی حقّه، وحبّ أهل بیتی. قال: وحبّ أهل بیتك لَمِن حقّها»؟ أی إذا قلت لا إله إلا الله عن إخلاص واستوفیت العمل بالتوحید فهل لابدّ من محبّة أهل بیتك أیضاً؟ «قال: أجل، إنّ حبّهم لأعظم حقّها»[3] [354]، وذلك لقوله تعالى: «قُل لاّ أَسْئَلُكُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَىٰ»[4] [355]؛ فالأجر الحقیقیّ الذی طالب به النبیّ (صلّى الله علیه وآله) هو مودّة أهل بیته (علیهم السلام) لیس غیر وهو فی الواقع ثمن الجنّة. فقد أوجب النبیّ على الناس الاعتقاد بالجنّة فی مقام التشریع، وفی مقام التكوین فإنّه هو (صلّى الله علیه وآله) من یقسّم الجنّة بین الناس. وهذا ما یفسّر كون أخیه علیّ بن أبی طالب (علیه السلام) «قسیم النار والجنّة»[5] [356]. من هذا المنطلق فإنّ محبّة أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین) لیست فقط غیر زائدة إلى جانب محبّة الله، بل إنّ الثانیة لا تكتمل من دونها وإنّه من المتعیَّن على الإنسان أن یعرف هذا الحقّ ویؤدّیه لأهله.
لقد روینا فی المحاضرة الماضیة حدیثاً عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) یقسّم فیه محبّی أهل البیت إلى ثلاث طوائف: فطائفة من الناس یحبّونهم بالسرّ والعلانیة، وآخرون یحبّونهم بألسنتهم أمّا قلوبهم فمع غیرهم، وأمّا القسم الثالث منهم فیحبّونهم بقلوبهم لكنّهم یفتقدون همّة إظهار هذه المحبّة والسعی والمثابرة فی هذا الطریق. وعند التأمّل فی كلامه (علیه السلام) نكتشف أنّ هؤلاء الذین یُظهرون المحبّة لیسوا هم من محبّی أهل البیت فی الحقیقة؛ فهم یتظاهرون بحبّ أهل البیت (علیهم السلام) لكنّ قلوبهم مع غیرهم، بل وإنّ سیوفهم قد تكون علیهم أیضاً. فهؤلاء هم كالمنافقین الذین یُظهرون الإیمان إذا اجتمعوا مع المؤمنین، أمّا إذا التقوا بأصحابهم فیقولون: لقد كنّا نستهزئ فقط: «وَإِذَا لَقُواْ الَّذِینَ ءَامَنُواْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَیَاطِینِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ»[6] [357]. وبناءً علیه فإنّ أصحاب هذه الطائفة لیسوا فی الحقیقة من المحبّین، والـمَقْسَم فی الروایة هم مُدّعُو المحبّة؛ وكأنّه (علیه السلام) یقول: المدّعون لمحبّتنا هم ثلاثة، فبعضهم منافق وهو لا یحبّنا حبّاً حقیقیّاً أبداً. وانطلاقاً من هذه الروایة فإنّ المحبّین الحقیقیّین لأهل البیت هم على صنفین؛ فصنف منهم تكون قلوبهم، بالإضافة إلى أیدیهم وألسنتهم، مع أهل البیت (علیهم السلام)، أمّا الصنف الثانی فهم الذین قلوبهم فقط مع أهل البیت أمّا على مستوى العمل فلا یقدّمون أیّ تضحیة فی سبیلهم. بالطبع هناك من الروایات ما یقسّم محبّی أهل البیت إلى ثلاثة أقسام سنورد هنا نموذجین منها:
یروی أبو حمزة الثمالیّ عن إمامنا زین العابدین (علیه السلام) أنّه قال: «قال رسول الله (صلّى الله علیه وآله): فی الجنّة ثلاث درجات وفی النار ثلاث دركات»[7] [358]. وهنا یقسّم (علیه السلام) درجات الجنّة والنار بشكل عامّ إلى ثلاثة أقسام. بالطبع لقد ذكرت بعض الأحادیث للجنّة سبعین درجة وذكر بعضها الآخر لها عدداً أكبر من الدرجات الفرعیّة أیضاً، لكنّها – من زاویة معیّنة – تقسّم بشكل عامّ إلى ثلاث درجات: «فأعلى درجات الجنّة لمن أحبّنا بقلبه ونصرَنا بلسانه ویده»؛ فأعلاها هی من نصیب اُولئك الذین قدّموا فی سبیلنا التضحیات بأیدیهم وأعمالهم مضافاً إلى حبّهم إیّانا بقلوبهم وإظهارهم لذلك على ألسنتهم. «وفی الدرجة الثانیة مَن أحبّنا بقلبه ونصرنا بلسانه»؛ فالطبقة الوسطى من الجنّة هی من حصّة اُولئك الذین أحبّونا بقلوبهم وأظهروا حبّهم لنا بألسنتهم لكنّهم قصّروا بحقّنا على صعید العمل. «وفی الدرجة الثالثة مَن أحبّنا بقلبه»؛ أمّا الطبقة النازلة منها فیحتلّها الذین یحبّوننا حقّاً، لكنّهم یفتقدون همّة التبلیغ لنهجنا والدفاع عنّا والتضحیة فی سبیلنا. وهذا ما یتعلّق بالجنّة. أمّا النار فهی الاُخرى تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأوّل هو أسفلها، وهو ما عبّر عنه القرآن الكریم بقوله: «فِی الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ»[8] [359]، وهو مخصّص لمن یبغض أهل البیت (علیهم السلام) بقلبه، وینال منهم بلسانه، وینشط ضدّهم فی عمله: «وفی أسفل الدرْك من النار مَن أبغضنا بقلبه وأعان علینا بلسانه ویده، وفی الدرك الثانیة من النار مَن أبغضنا بقلبه وأعان علینا بلسانه»؛ ففی القسم الثانی منها اُولئك الذین یُظهرون بغضهم لنا بألسنتهم لكنّهم لا یمارسون ضدّنا عملا ًمّا. «وفی الدرْك الثالثة من النار مَن أبغضنا بقلبه»؛ فهؤلاء یضمرون البغض لنا لكنّهم لا یروّجون ولا یشجّعون على العداوة لنا.
وعن أبی عبد الله الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «قال رسول الله (صلّى الله علیه وآله) لأمیر المؤمنین (علیه السلام): إنّما مَثَلُك مَثَل «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ»؛ فإنّه مَن قرأها مرّة فكأنّما قرأ ثُلُث القرآن، ومَن قرأها مرّتین فكأنّما قرأ ثلثَی القرآن، ومَن قرأها ثلاث مرّات فكأنّما قرأ القرآن». وقد كان هذا الحدیث - وهو أنّ قراءة سورة التوحید تعادل ثواب قراءة ثلث القرآن وأنّ مَن قرأها ثلاثاً فكأنّما قرأ القرآن كلّه - معروفاً فی ذلك الزمان. ثمّ یقول (صلّى الله علیه وآله) له: إنّ محبّتك یا علیّ لا تشبه الذكر والصلاة وأعمال الجوارح، فمحبّة أمیر المؤمنین لا تتناسب أبداً مع الأعمال الاُخرى للإنسان. یقول (صلّى الله علیه وآله): «وكذلك مَن أحبّك بقلبه كان له مِثل ثلث ثواب أعمال العباد» وهنا القیاس بأعمال العباد «ومَن أحبّك بقلبه ونصرك بلسانه كان له مثل ثلثَی ثواب أعمال العباد» فإذا كان المرء، بالإضافة إلى حبّه إیّاك بقلبه، یُبدی هذا الحبّ على لسانه وینقله إلى الآخرین كان له ثواب ثلثی أعمال العباد. «ومَن أحبّك بقلبه ونصرك بلسانه ویده كان له مثل ثواب العباد»[9] [360]؛ فهو بالإضافة إلى ذلك كلّه مستعدّ للتضحیة فی سبیلك حتّى إذا كلّفه ذلك حیاته، فإنّ الله سیعطیه ثواب كلّ أعمال العباد الصالحة. «فهُم النمط الأعلى [فی حبّ أهل البیت (علیهم السلام)]. الفقر والفاقة وأنواع البلاء أسرعُ إلیهم من ركض الخیل، مسّتهم البأساء والضرّاء وزُلزِلوا وفُتِنوا، فمن بین مجروح ومذبوح متفرّقین فی كلّ بلاد قاصیة»[10] [361]؛ فإنّ مصیرهم فی ساحة القتال من أجلنا هو إمّا الجرح أو الذبح.
وكما تلاحظون فهناك ملازَمة فی هذا الحدیث بین محبّة أهل البیت (علیهم السلام) ونزول البلاء والمصائب. فإنّ النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) یقول فی روایة اُخرى أیضاً: «إنْ كنتَ تحبّنی فأعِدَّ للفقر تجفافاً أو جلباباً»[11] [362]، وكانوا فی قدیم الزمان یرتدون فی الحرب، للوقایة من النبال، ما یشبه الدرع ویسمّى «التجفاف»، بل ویضعونه على خیولهم أیضاً؛ والمعنى: إن كنت تحبّنا حقّاً فأعدّ ما تحفظ به نفسك من البلاء! كما ویروی أمیر المؤمنین (علیه السلام) عن رسول الله (صلّى الله علیه وآله) قوله: «والله للفقرُ أسرعُ إلى محبّینا من السیل إلى بطن الوادی»[12] [363] أی السیل الهابط من قمّة الجبل إلى أسفل الوادی. فكن یقظاً، فإنْ كنتَ رجلَ نزال، فاستعدّ! فهذا الإمام الحسین (علیه السلام) أیضاً یقول: «والله البلاء والفقر والقتل أسرع إلى مَن أحبّنا من ركض البرَاذین ومن السیل إلى صِمرِه»[13] [364]؛ والبراذین هی الخیول المُعَدّة للحمل، والصِمر هو المحلّ الذی یستقرّ فیه الماء بعد انحداره.
والسؤال المطروح هنا هو: لماذا لابدّ لمن تزداد محبّته لأهل البیت (علیهم السلام) أن یُبتلى بالفقر والمحن؟ ما هذه المنظومة الإلهیّة التی توجب ازدیاد البلاء لكلّ من تكون محبّته لأهل البیت أكثر من غیره؟ وهذا التساؤل یقودنا إلى سؤال أعمق وأوسع حول أصل الامتحان ألا وهو: لماذا یمتحن الله تبارك وتعالى عباده؟ فإن كان الله یعلم مَن مِن عباده سیدخل الجنّة ومَن منهم سیذهب إلى النار فلماذا یأتی بهم إلى هذه الدنیا لیمرّوا بكلّ هذه المراحل ویُبتلوا كلّ یوم بشتّى صنوف الامتحانات والشدائد؟
الإجابة على هذا التساؤل تتطلّب بحثاً مسهباً وقد تناولناه فی الماضی فی مواضع اُخرى[14] [365]. ویتعیّن القول فی الجملة: إنّ «الامتحان» هو من المفاهیم التی أكّد علیها القرآن الكریم عبر عدّة مفردات كـ «الامتحان» و«البلاء» و«الاختبار» و«التمحیص» وهو من السنن الإلهیّة القطعیّة؛ لقوله تعالى: «الَّذِی خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَیَوٰةَ لِیَبْلُوَكُمْ أَیُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً»[15] [366]؛ فالله إنّما خلق الموت والحیاة فی هذا العالم أساساً لیمتحنكم. وجواباً على السؤال أعلاه نقول: لابدّ من تفسیر التعبیر بالامتحان، حاله حال العدید من التعابیر الاُخرى الواردة بخصوص الله عزّ وجلّ. یقول علماء الكلام والتفسیر حول مثل هذه التعابیر: إنّ سَوق أمثال هذه التعابیر یأتی لتفهیمنا نحن البشر، وهی تنطوی على وجوه نقص لابدّ من إقصائها فیما یتّصل بالباری جلّ وعلا. فنحن معاشر البشر عندما نمتحن إنساناً فإنّنا نبغی فی الأعمّ الأغلب رفع جهلنا حوله. لكن لیس هذا هو هدف الله تبارك وتعالى من الامتحان، بل إنّ هدفه هو توفیر مناخ یساعد على إبراز ما یستتر فی صدور الناس، بل إنّ هذا العالَم قد خُلق أساساً من أجل ذلك. فالله عزّ وجلّ یعلم بما سیجری على النطفة بعد انعقادها وإلى أین سینتهی بها الأمر، لكنّه مالَم یمتلك الإنسان الاستعداد للكفر والإیمان والفهم والشعور، فإنّه لا یكون لنموّه وكماله معنىً. فإنّ فلسفة وجود هذا العالم هی تهیئة الظروف لتكامل الإنسان. فكما أنّ جسم الطفل ینمو وتطرأ علیه تغییرات جمّة منذ مرحلة النطفة وحتّى یبلغ أشدّه ویصیر شابّاً، فحتّى على صعید المعنویّات فإنّه من أجل أن یبلغ ما یطلب، علیه أن یختار بنفسه وأن لا تكون له على الله حجّة.
فأصل الامتحان فی هذا العالم هو من السنن الإلهیّة، وإنّ كلّ مَن یجتاز مرحلة إلى مرحلة أعلى منها یشتّد امتحانه طبعاً؛ بالضبط كصعوبة امتحانات السنة الثانیة بالنسبة للسنة الاُولى وكلّما انتقل الطالب إلى مرحلة دراسیّة أعلى فإنّ علیه خوض امتحان أصعب. وكذا على الصعید المعنویّ، فإذا نما الإنسان وتكامل على هذا الصعید فإنّ علیه خوض اختبارات أشقّ. فمن أجل حصول المرء على كمال یكون له أثر كبیر على سعادته ولا یمكن قیاسه مع سائر الكمالات فإنّه سیواجه امتحانات غایة فی الصعوبة والشدّة. فعلى إنسان كهذا أن یثبت كم هو صامد على محبّته، وكم هو مستعد لتحمّل المشاقّ فی سبیل محبوبه، من دون أن یَقطِب له حاجب، بل أن یكون مسروراً من حیث إنّه یستطیع أن یثبت لمحبوبه كم قدّم من التضحیات فی سبیله، بل إنّ إنساناً كهذا یلتذّ ممّا یقاسیه من البلایا.
فمحبّة أهل البیت (علیهم السلام) هی موهبة لا یمكن قیاسها بأیّ شیء آخر. فلا تُعطىٰ مثل هذه الفضیلة لأیّ أحد بسهولة ولابدّ من نیل الأهلیّة لحیازتها. فمن أجل الحصول على أوّل درجاتها یتمّ إخضاع المرء إلى امتحان بسیط، فإنْ تكامَل قلیلاً، اشتدّ الامتحان بعض الشیء، وكلّما تقدّم أكثر على هذا الطریق زاد الامتحان صعوبة. حتّى یصل هذا الكمال إلى المرتبة التی بلغها أصحاب سیّد الشهداء (علیه السلام) الذین كان علیهم أن یخوضوا ذاك الامتحان فی یوم عاشوراء. فلقد قالوا: لو أنّنا نُقتل سبعین مرّة ثمّ نُبعَث فسنواصل هذا الدرب. لقد أقسموا ولقد صدّقهم أبو عبد الله (سلام الله علیه) أیضاً. فلم یكن ادّعاؤهم ذاك زیفاً. فلقد تهیّأت حینها الظروف بحیث اُتیح لهم أن یثبتوا إنْ كانوا حقّاً على استعداد للتضحیة أم لا.
تأسیساً على هذا فإنّ سبب تعرّض محبّی أهل البیت (علیهم السلام) لامتحان أصعب هو أنّ الموهبة التی وهبهم الله إیّاها لا تُقاس بأیّ شیء آخر. فإن رغبوا فی الاستمرار فی هذا الطریق، فما علیهم إلاّ تحصیل الأهلیّة له واجتیاز هذه المراحل بالتدریج. فإنّ قولهم (علیهم السلام) إنّ محبّینا سیُبتلون بصنوف البلایا فهو لإثبات صدق مدّعاهم وتوفیر الأرضیّة لهم للمزید من الرقیّ. وهذا النموّ والرقیّ لا یظهر إلاّ إذا قدّموا تلك التضحیات، وإنّ الله – ومن منطلق لطفه – یهیّئ مناخاً یتمكّنون فیه من خوض مثل هذا الامتحان لیجتازوه برفعة وشموخ؛ إذ أنّ:
الحبّ متمرّد ودمویّ بطبعه كی یقصی كلّ ما هو غریب[16] [367]
رزقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
[1] [368]. إقبال الأعمال، ص349.
[2] [369]. سورة البقرة، الآیة 165.
[3] [370]. الأمالی للطوسی، ص583.
[4] [371]. سورة الشورى، الآیة 23.
[5] [372]. بحار الأنوار، ج7، ص337.
[6] [373]. سورة البقرة، الآیة 14.
[7] [374]. بحار الأنوار، ج27، ص93.
[8] [375]. سورة النساء، الآیة 145.
[9] [376]. بحار الأنوار، ج27، ص94.
[10] [377]. بحار الأنوار، ج65، ص275.
[11] [378]. بحار الأنوار، ج41، ص4.
[12] [379]. الاختصاص، ص311.
[13] [380]. بحار الأنوار، ج64، ص246.
[14] [381]. فی میسور القارئ الرجوع إلى كتاب «طوفان فتنه و كشتى بصیرت» (طوفان الفتن وسفینة البصیرة) لسماحة الاُستاذ للوقوف على الإجابة.
[15] [382]. سورة الملك، الآیة 2.
[16] [383]. فی إشارة لبیت شعر بالفارسیّة یقول: عشق ز اول سرکش و خونی بود تا گریزد هر که بیرونی بود.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 28 أیار 2014م الموافق للثامن والعشرین من رجب 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
ذكرنا فیما مضى انّ لمحبّة الله مراتبَ لا تُحصى ولا تُعدّ وانّ بعضها عصیّ على الفهم بالنسبة لنا، أمّا بعض مراتبها الاُخرى فإنّها من لوازم الإیمان وإنّ كلّ مؤمن لابدّ أن یملك المرتبة الاُولى من مراتب محبّته سبحانه وتعالى. كما وقلنا أیضاً إنّ محبّة أولیاء الله لها درجات، وقد أوردنا فی المحاضرة الماضیة بعض الأحادیث فی درجات محبّة أهل البیت (علیهم السلام). وقد أشرنا كذلك إلى أنّ أعلى مراتب محبّة الله هی من مختصّات الأولیاء الذین لیس لهم سوى محبوب أصیل واحد؛ فهؤلاء لا یرون غیر الله أهلاً للمحبّة أصالةً، ومن بعد الله فإنّ شعاعاً من محبّتهم لله تبارك وتعالى یشعّ على الأنبیاء والأئمّة المعصومین (علیهم السلام) وأولیاء الله والمؤمنین بما یتناسب ومقدار قربهم من الله. بالطبع الذین هم من أمثالی بعیدون كلّ البعد عن تمنّی مثل هذه المراتب، لكن لـمّا كان الاطّلاع على هذه المراتب یؤدّی أحیاناً إلى رفع هممنا، وعدم تعلّق قلوبنا بالأشیاء الدنیئة، وإلى التفكیر برفع مستوى محبّتنا لله ولأولیائه، فسنحاول، بالإفادة من أقوال أهل بیت العصمة والطهارة (صلوات الله علیهم أجمعین)، استخلاص بعض الإشارات إلى هذه المراتب.
انطلاقاً من تعالیم القرآن الكریم والسنّة الشریفة فإنّ بوسعنا - إجمالاً - الخروجَ بنتیجة مفادها أنّه ثمّة اُناس ینظرون إلى الحیاة والوجود بنظرة مختلفة، ویرون العالم بشكل یختلف بعض الشیء عمّا نراه نحن، وحتّى مطالبهم فإنّها تختلف قلیلاً عن مطالباتنا. فالقرآن الكریم یقسّم الناس، ضمن تصنیف عامّ، إلى قسمین؛ وهو تصنیف واسع جدّاً بحیث إنّ كلّ قسم من هذین القسمین ینشعب إلى طوائف مختلفة. ولعلّ أوضح هذه التصنیفات هو ما جاء فی قوله تعالى: «مَّن كَانَ یُرِیدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِیهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِیدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ یَصْلَـٰهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْیَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ كَانَ سَعْیُهُم مَّشْكُوراً»[1] [384]. فمن جملة الألقاب التی یطلقها القرآن الكریم على الحیاة الدنیا هو «العاجلة»؛ أی: العابرة. یقول عزّ من قائل: بعض الناس یحبّ هذه الحیاة العابرة ذات اللذائذ المحدودة جدّاً والتی تنقضی بلمح البصر. فنحن نعطی هؤلاء بعض ما یحبّون ومن ثمّ یدخلون النار بتوبیخ وحالة من الاندحار. لكن هناك فی المقابل من یحبّ الآخرة ویبذل كلّ ما بوسعه من أجلها. وهنا یسوق القرآن الكریم بخصوص أمثال هؤلاء تعبیراً هو غایة فی علوّ المضمون فیقول: إذا كان هؤلاء مؤمنین فإنّ الله سیعمد بنفسه إلى شكرهم وتثمین جهودهم. وفی هذا التصنیف یستعرض القرآن الكریم القمّتین؛ فهناك قطبان وهناك مراتب عدیدة تقع بینهما یقترب بعضها من قطب، ویدنو بعضها من القطب الآخر.
استعرضنا فی المحاضرة السابقة روایة تجعل للجنّة ثلاث درجات. وقد ورد بخصوص بعض هذه الدرجات أنّ أصحابها یبذلون غایة مجهودهم فی عبادة ربّهم. ثمّ یقول: هؤلاء حتّى عندما یدخلون الجنّة فإنّهم لا یدخلونها طمعاً فی طیورها وفاكهتها: «قد أعطوا المجهود من أنفسهم لا من خوفِ نارٍ ولا من شوقِ جنّة، ولكن ینظرون فی ملكوت السماوات والأرض فیعلمون أنّ الله سبحانه وتعالى أهلٌ للعبادة»[2] [385]. فالنظر فی ملكوت السماوات والأرض هو مقام یناله أمثال نبیّ الله إبراهیم (علیه السلام). تقول الروایة: هؤلاء المؤمنون ینظرون فی ملكوت السماوات والأرض فیعرفون أنّ الله هو أهل للعبادة ولیس غیره لها بأهل. فلا شیء أرفع من عبادة الله بالنسبة لهؤلاء، فلیس ثمّة خوف من جهنّم ولا طمع فی الجنّة. فإذا نال هؤلاء مثل هذه المعرفة أعطاهم الله تعالى تحفة، وهی أن یودع محبّته الخاصّة فی قلوبهم. فإذا ما استقرّت محبّته عزّ وجلّ فی قلوبهم علموا أنّه لیس دون الله شیء هو أهل للحبّ أو العبادة. وعندها لا تلتفت قلوبهم إلى غیر الله تبارك وتعالى ولا تتعلّق إلاّ بما یحبّه.
عندما بلغ رسول الله (صلّى الله علیه وآله) مقام المعراج دار بینه وبین الله حوار خاصّ، حیث كان الله عزّ وجلّ یتحدّث وهو (صلّى الله علیه وآله) یصغی، أو كان النبیّ یسأل والله یجیب. وحتّى جبرئیل فإنّه لم یكن موجوداً هناك. وقد أورد كتاب «إرشاد القلوب» للدیلمی مقتطفات من هذا الحوار یبتدئ كلّ مقطع منها ﺑ «یا أحمد». هذا الحدیث ینطوی على بحر من المعارف، وإنّ ما ذكره وخاض فیه كبار العرفاء ومُدَّعو المقامات العالیة فی هذا المضمار یُعدّ هابطاً جدّاً قیاساً به. ولا شكّ أنّ الحوار الذی یدور بین ربّ الأرباب وأعزّ عباده لابدّ أن یكون على هذا المستوى. فالحدیث المذكور هو بمثابة دورة كاملة للسیر والسلوك ترسم – من خلال أسالیب تربویّة خاصّة - الطریق لمعرفة الله ومحبّته من ناحیة، وتزوّد المرء بالشحنة والحافز لسلوكها من ناحیة اُخرى.
فی هذا المقطع من الحدیث یبادر الله عزّ وجلّ رسولَه الكریم (صلّى الله علیه وآله) بالسؤال فیما إذا كان یعلم بالأمر أم لا؟ فیجیبه النبیّ الأكرم: لا، قُل لأتعلّم. فیبیّن الله تعالى ذلك حتّى یقول: فإذا فعل المرء ذلك أسكنتُ فی قلبه حبّی: «فإذا فعل ذلك أسكنتُ فی قلبه حبّاً»[3] [386]. لكنّ اُسلوب البیان الذی اتّبعه الحدیث هو ممّا یثیر الدافع فی الإنسان أیضاً. فكلّنا نرغب فی محبّة الله وتهفوا قلوبنا إلى مرتبة عالیة منها، لكنّنا نفتقد الدافع إلى ذلك، فی حین أنّنا نملك – مع الأسف - حافزاً أكبر بالنسبة لشؤون حیاتنا الحیوانیّة الیومیّة. بالطبع نحن لا ننزعج من كوننا نحبّ الله تعالى، بید أنّه لیس لدینا الحافز لعقد العزم على ذلك والمثابرة علیه والتقدّم فی هذا الطریق.
من الناحیة التربویّة یتّصف بیان الحدیث بأنّه مُرَبٍّ للغایة، فهو یبدأ بهذا السؤال: «یا أحمد» أیّها الرسول العزیز! «هل تدری أیّ عیش أهنىٰ وأیّ حیاة أبقىٰ»؟ فالالتفاتة التربویّة فی هذا السؤال هی أنّ كلّ كائن حیّ یحبّ حیاته فطریّاً ویرغب فی استمرارها ویرید أن یهنأ بها. وهذا مبدأ مهمّ قد استخدمه نصّ القرآن الكریم أیضاً؛ وذلك فی قوله تعالى: «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَیَوٰةَ الدُّنْیَا * وَالآخِرَةُ خَیْرٌ وَأَبْقَىٰ»[4] [387]؛ فإنّكم تؤثرون الحیاة الدنیا على الآخرة. لكن ألستم تسعون وراء خیركم وتفتّشون عن سعادتكم؟ ألستم تبحثون عن حیاة باقیة؟ فإنّ ما تطلبونه من الدنیا لیس متوفّراً فیها. إنّها الآخرة التی سرّاؤها أكبر ودوامها أكثر. فالحیاة الدنیا فانیة، فحتّى لو عمّرنا فیها مائة عام – على سبیل المثال – فإنّها لا تعادل حتّى لمح البصر فی مقابل العمر الذی لا نهایة له. فهی فانیة من ناحیة، ویتحتّم علینا فیها تحمّل مئات الأعباء والمشقّات كی نحظى بساعة من الهناء والراحة. فكم من الأعباء یتعیّن على الإنسان تحمّلها لبناء منزل، وكم من الترتیبات ینبغی له تهیئتها لتشیید أربع جدران بسقف لیعیش فیها؟! ویندر جدّاً أن یُوَفّق المرء إلى زواج خالٍ من المتاعب والمشاقّ؛ فلابدّ أن یفتّش لفترات طویلة ویخطب ویتنازل أمام بعض الشروط، وما الذی سیحصل فی النهایة؟ وهل سیحصل على قرین یتّفق مع رغبته أم لا؟ هذا هو حال الدنیا. فمن أجل تناول وجبة طعام كم على المرء أن یعدّ من المقدمات؟ بدءاً من زارع الحنطة والرزّ، وصولاً إلى مربّی الأغنام، والقصّاب الذی یهیّئ اللحم، انتهاءً بالطاهی الذی یحضّر الطعام ویضعه أمامك جاهزاً على المائدة. كلّ هذه الخطوات هی مقدّمات وإنّ على المرء تأمین ودفع نفقاتها، كلّ ذلك من أجل أن یضع لقمة الطعام فی فیه ویبتلعها فیلتذّ بمذاقها. فما من لذّة تسبقها، كما ولیس ثمّة بعدها سوى التعب والنصب. هذه هی الدنیا. أمّا فطرتنا فتطالب دوماً بعیش هنیء، وحیاة طیّبة بعیدة عن المصاعب والمتاعب، وأن تتّصف بالبقاء. من أجل ذلك یخاطب الله عزّ وجلّ نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) لیلة المعراج قائلاً: «هل تدری أیّ عیش أهنى وأیّ حیاة أبقى»؟ فمن الواضح أنّ ذكر شیء كهذا یثیر - بحدّ ذاته - فی نفس الإنسان الدافع للسعی وراءه. «قال: اللهمّ لا»، وهذا تحدیداً هو ما یقتضیه الأدب؛ فكلّ أحد فی مقابل الله تبارك وتعالى لا یعلم أیّ شیء. «قال: أمّا العیش الهنیء فهو الذی لا یفتر صاحبه عن ذكری»؛ فصاحب العیش الباقی والهنیء هو ذلك الذی لا یكلّ عن ذكر الله. وهل یملّ الإنسان من ذكر حبیبه یا ترى؟! وهل انّ فی ذكر المحبوب كللاً أو مللاً؟! «ولا ینسىٰ نعمتی». فقد وهبتُ الإنسان فی هذه الدنیا نعماً جمّة، لكنّه أوّلاً لا یلتفت إلى كونها من النِعَم أساساً ویغفل عن ذلك، وثانیاً إنّه ینسى أنّنی أنا الذی وهبته إیّاها. فإنْ طلبتَ تلك الحیاة المثلى فینبغی أن لا تنسى آلائی. «ولا یجهل حقّی»؛ فإنّ إعطائی إیّاه هذه النعم یوجب لی حقّاً علیه، وینبغی أن لا ینسى هذا الحقّ. «یطلب رضای لیلَه ونهارَه» فمثل هذا الإنسان یسعى طوال اللیل والنهار وراء ما یرضی ربّه عنه.
هذا ما یخصّ العیش الهنیء أمّا فیما یتعلّق بالحیاة الباقیة فیقول عزّ من قائل: «وأمّا الحیاة الباقیة فهی التی یعمل لنفسه حتّى تهون علیه الدنیا وتصغر فی عینیه». فمن أجل نیل الحیاة الباقیة ینبغی أن تهون علیك الحیاة الدنیا وتصبح عدیمة القیمة بالنسبة لك، أی علیك أن تبرمج حیاتك وتمنهج لسلوكك بما یؤدّی إلى تضاؤل الدنیا فی عینك. فهذا أمیر المؤمنین (علیه السلام) یقول أیضاً فی نهج البلاغة فی السیاق ذاته: «كان لی فیما مضى أخ فی الله وكان یُعظِمه فی عینی صِغَر الدنیا فی عینه»[5] [388]. فالكبیر فی عین علیّ (علیه السلام) هو من تصغر الدنیا فی عینه. وهنا أیضاً یقول عزّ وجلّ: إذا أردتَ الحیاة الباقیة فعلیك أن تنتهج من السلوك ما یصغّر الدنیا فی عینك، وتنظر إلى ما هو أعظم منها كی تصغر فی نظرك، وإلاّ فإنّ بیتاً مساحته مائة متر هو كبیر بالنسبة لنا، ولا نستطیع التغاضی عنه. وناهیك عن المنزل الذی مساحته مائة أو ألف متر، فإنّ الكرة الأرضیّة بما فیها من البراری والبحار، بل وحتّى المنظومة الشمسیّة والمجرّات فإنّها لن تصغر فی أعیننا إلاّ إذا شاهدنا عظمةً یتلاشى أمامها كلّ ما ذكرنا. «ویُؤثِر هوایَ على هواه»؛ أی یقدّم ما اُرید على ما یرید. «ویبتغیَ مرضاتی ویُعظِّمَ حقّ عظمتی ویذكرَ علمی به ویراقبَنی باللیل والنهار» فهو دائم الذكر لی، یراقبنی باعتباری حاضراً وعالِماً بكلّ ما یفعل، یعلم أنّنی مشرف على كلّ حیاته وأحواله وأفكاره وسلوكیّاته. فلابدّ من البدء من هذه النقطة، فهذا هو الطریق.
إذا وفّقنا الله فسنتعرّف فی محاضراتنا القادمة بعض الشیء على رؤیة أنبیاء الله وأولیائه إلى الوجود وكیف ینظرون إلى هذا العالم والناس والملذّات وإلى الاُمور التی نعدّها غایة فی الأهمّیة والقیمة ونبذل فی سبیلها كلّ وجودنا وكیاننا، وكیف أنّهم یغضّون الطرف عن كلّ ما ذُكر فی لحظة واحدة وبكلّ سهولة؟ فإذا استوعبنا رأیهم فی الوجود، وكیف كانوا ینظرون إلى هذا العالم، وما الذی كانوا یسعون وراءه فیه، فسیساعدنا ذلك على عدم الانخداع بهذه الدنیا التی یقول فیها القرآن الكریم: «فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا»[6] [389]. فلو أجرینا بعض الحسابات لوجدنا أنّ هذا تحدیداً هو رأس كلّ فساد؛ فإنّ سبب كلّ أشكال الفساد هو لهث الناس وراء اللذائذ الحیوانیّة الدنیویّة. فلو أنّهم ترفّعوا عن ذلك ووسّعوا اُفق نظرهم لَصغُرَت هذه الاُمور فی نظرهم ولعرفوا أنّها لا تستحقّ التكالب والتصارع. ولحسبوا هذه الاُمور لُعباً یلعب بها الأطفال ویتشاجرون ویتصالحون علیها ثمّ یرمونها بعیداً. فالقرآن الكریم یرى الدنیا برمّتها بهذه الرؤیة حین یقول: «وَمَا الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ»[7] [390]. فالحیاة الدنیا بأجمعها ما هی إلاّ آلة للخداع والتحایل، أمّا الحقیقة فهی شیء آخر. وبما أنّ عقولنا لا تصل إلى ذلك، فإنّ قلوبنا تَنشَدّ إلى هذه الاُمور على نحو تافه. رحم الله الشیخ غلام رضا الیزدیّ فقد كان صلب كلامه من على المنبر هو: عزیزی! غیّر عقلیّتك! لذا یتعیّن علینا أن نبدّل عقلیّاتنا، ونغیّر نظراتنا. بل إنّ هذا المبدأ یمثّل روح القرآن، ونهج الأنبیاء، وصُلب حیاة الأئمّة الأطهار (علیهم السلام)، لكنّهم كانوا یتسامحون معنا علّهم یفلحون فی دفعنا تدریجیّا خطوة إلى الأمام. وإلاّ فإنّ أساس القضیّة هو أنّ علینا أن نغیّر نظرتنا إلى الوجود، وأن نعلم بأنّ المطلوب هو شخص وشیء آخر. فحذار من أن یبهرنا زخرف هذه الدنیا وزبرجها، فما دمنا منبهرین بها فلن ننال تلك المحبّة المنشودة. صحیح أنّ المرء إذا آمن بأنّ الله هو من وهب هذه النعم فإنّه سیحبّ الله بمقدار إیمانه. أمّا إذا أراد حصر حبّه بالله سبحانه وتعالى، فهو لیس بالأمر الهیّن. فمثل هذه المحبّة لا ینالها إلاّ مَن أفرغ قلبه من كلّ ما سوى الله، والسبیل إلى ذلك هی تلك التی علّمها عزّ وجلّ نبیَّه لیلة المعراج. بالطبع هذه الكلمات تفصح عن حادثة وقعت هناك كی یرویها النبیّ الأكرم (صلّى الله علیه وآله) لنا، وإلاّ فنحن نعلم أنّ الذی یبلغ مقاماً بحیث یخلّف وراءه جبرئیل لیس هو بحاجة لمثل هذه الموعظة. فهذه الكلمات هی – بتعبیر المعقول - من أجل تحویل العلم الحضوریّ إلى علم حصولیّ. فقد رأى (صلّى الله علیه وآله) كلّ شیء، لكنّه طلب بیانه، فبیّنه الله تعالى له كی ینقله لنا.
[1] [391]. سورة الإسراء، الآیتان 18 و19.
[2] [392]. بحار الأنوار، ج74، ص26.
[3] [393]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.
[4] [394]. سورة الأعلى، الآیتان 16 و17.
[5] [395]. نهج البلاغة، الحكمة 289.
[6] [396]. سورة لقمان، الآیة 33. وسورة فاطر، الآیة 5.
[7] [397]. سورة آل عمران، الآیة 185. وسورة الحدید، الآیة 20.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 11 حزیران 2014م الموافق للثالث عشر من شعبان 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
23
متابعة لبحثنا فی محبّة الله ذكرنا أنّ من الروایات التی تطرّقت إلى هذه المسألة، والتی شكّل هذا المبحث الهدف الرئیسیّ لجمیع مباحثها، هو الحدیث القدسیّ الذی ینقل الحوار الذی دار بین نبیّ الإسلام (صلّى الله علیه وآله) والله عزّ وجلّ فی لیلة المعراج، والذی لو ادُّعِی أنّه ینطوی على دورة تربویّة إلهیّة كاملة فی السیر والسلوك ویتضمّن أسمى المعارف فی هذا الباب، لما كان هذا الادّعاء جزافاً.
یستهلّ هذا الحدیث بحثّه من نقطة هی غایة فی الأهمّیة من الناحیة التربویّة، وهی تنسجم تماماً مع القواعد التربویّة لعلم النفس. إذ یقول الله عزّت آلاؤه لنبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) فی هذا الحدیث: «هل تدری أیّ عیش أهنى وأیّ حیاة أبقى»؟ ومن الطبیعی فی مثل هذا المقام أن یُظهر النبیّ (صلّى الله علیه وآله) الجهل فی مقابل الله عزّ وجلّ، «قال اللهمّ لا». فقال الله تبارك وتعالى: «أمّا العیش الهنیء فهو الذی لا یفتُر صاحبه عن ذكری، ولا ینسىٰ نعمتی، ولا یجهل حقّی، یطلب رضای لیلَه ونهارَه»[1] [398]؛ فإنّ مَن یتمتّع بالعیش الهنیء هو ذلك الذی یذكر الله على الدوام بحیویّة ولا ینتابه ضعف أو فتور فی هذا السبیل، وهو لا ینسى نعمی مادام حیّاً، ولا یجهل حقّی، وهو یجهد لیله ونهاره فی سبیل إرضائی. فإنّ عیشاً كهذا هو أهنأ عیش.
كلّنا یعلم أنّ كافّة توصیات النبیّ الأكرم وأهل بیته الأطهار (صلوات الله علیهم أجمعین) والأحادیث القدسیّة صحیحة ونحن نوافق تعبّداً على أنّ العیش الهنیء هو ما ذكروه، لكنّه ثمّة سؤال یتبادر إلى الذهن بهذا الخصوص وهو: ما هی العلاقة بین العیش الهنیء وذكر الله؟ وكیف یا ترى ینعم الإنسان بأهنأ عیش إذا لم ینس آلاء بارئه؟
وللإجابة على هذا السؤال ینبغی أن ننظر – بعیداً عن توصیات أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین) – ما هی موجبات العیش الهنیء؟
فمن الواضح أنّ الحیاة الدنیا فیها الكثیر ممّا یلتذّ به الإنسان وما یقتضی امتلاكه العیش حیاةً هنیئة مریحة، لكنّ القضیّة هی أنّنا لا نشعر دائما باللذّة من تمتّعنا بهذه النعم. فقد تكون أسباب اللذّة متاحة أحیاناً لكنّنا لا نشعر بها لكوننا غیر ملتفتین إلى ما هو متوفّر لدینا من عواملها. على سبیل المثال فإنّنی عندما أتحدّث إلیكم اُحاول أن أتكلّم بطریقة تدعوكم إلى الإنصات إلى ما أقول وفهمه. فإن بحّ صوتی ولم أستطع الكلام، فسوف لا أنال مقصودی. إذن تخیّلوا كم من الشروط یتعیّن توفّرها كی یتمكّن الإنسان من الكلام؟ إذ یتعیّن وجود الهواء. ولابدّ للمتكلّم من امتلاك الحنجرة والأوتار الصوتیّة كی یمرّ الهواء حال خروجه من الرئة بمخارج الفم فیصدر الصوت. كما أنّ على المتكلّم - مضافاً إلى ذلك كلّه - أن یتعلّم كیفیّة النطق، فلا أحد یجید النطق ذاتاً عند ولادته. كلّ هذه الأسباب هی جزء من مقدّمات الكلام، لكنّ الإنسان، وقبل أن یفكّر بكلّ واحدة من هذه النعم على حِدة، غیر ملتفت إلى أنّ القدرة على النطق هی بحدّ ذاتها نعمة أیضاً وانّ باستطاعته الالتذاذ بلسانه. وكذا كم من الشروط ینبغی توفّرها من أجل شرب قدح من الماء النظیف والنقیّ ممّا لو فكّرنا بها لشعرنا بلذّة كبیرة. والمثال الآخر على ذلك هی الصحّة. فجمیعنا أصحّاء بشكل أو بآخر، لكنّنا غافلون تماماً عن كون الصحّة نعمة من النعم. فإن ابتُلی الإنسان بمرض لبضعة أیّام ورقد فی إثره فی المستشفى لَلَجأ إلى النذر والدعاء وتلاوة الأذكار والأوراد كی یتماثل للشفاء، وعندها سیدرك أیّ نعمة كانت هذه الصحّة! غیر أنّنا نتمتّع جمیعاً بهذه النعمة من دون أن نلتذّ بها وذلك بسبب غفلتنا عنها.
انطلاقاً ممّا ذُكر فإنّه یتحتّم علینا من أجل أن تهنأ حیاتنا أن نلتفت إلى ما یتوفّر لدینا من أسباب اللذّة. فعندما نجهل ما فی حوزتنا من النعم فستنقلب حیاتنا إلى مرارة وسننزعج ونغضب لأقلّ محنة تصیبنا. من هنا فإنّ من شروط تمتّع الإنسان بعیش هنیء هی التفاته إلى ما هو متاح له من أسباب اللذّة. فكلّما كثر التفاته إلى ما فی حوزته من الخیر، زاد عن حیاته رضاً. وفی المقابل فكلّنا یحتمل وقوع أنواع البلایا فی حیاته، ولیس من بیننا من یعلم ما هو مقدَّر له وما الذی سیحصل فی اللحظة التالیة. بل حتّى عندما ینعم الإنسان بحیاة هنیئة وادعة فإنّ مجرّد تفكیره باحتمال وقوع البلاء سیبعث على انزعاجه وتكدّر عیشه. فحینما لا یعلم المرء ما الذی سیحصل بعد ساعة وهو یحتمل أنّ أیّ بلاء یمكن أن یحلّ بأولاده ووالدیه وزوجه وأصدقائه فی أیّ لحظة، وهو لا یعلم بما یمكّنه من أن یحول دون ذلك، فإنّه سوف لا یتمتّع بعیش هنیء. فإذا أحبّ الإنسان التمتّع بحیاة وادعة هنیئة من جمیع النواحی فعلیه – من ناحیة – أن یلتفت إلى أنه أیّ نعم نفیسة وُضعت تحت تصرّفه! وكلّما زاد عرفانه بقدر هذه النعم تعاظم التذاذه بها وهنأ عیشه أكثر. كما لابدّ - من ناحیة اُخرى – أن یریح باله من أنّه ما من شدّة ستصیبه وأنّه مصان من كلّ ألم وبلاء ومخاوف. وَلنَدَع عنّا ما ذهبت إلیه بعض المدارس الفلسفیّة الغربیّة – بعد أن شاهدت أنّه لا مفرّ من الاضطراب والقلق فی حیاة الإنسان وأنّه یسعى دوماً للخلاص منهما أو یلجأ إلى المسكرات والمخدّرات من أجل تجاهلهما على الأقلّ – من أنّ الاضطراب هو العنصر المقوّم للإنسان وأنّ الأخیر لا یُعدّ إنساناً بلا اضطراب!
من الجلیّ أنّ الإنسان إذا كوّن علاقة مع من بیده كلّ النعم والقادر على رفع جمیع البلایا فإنّه سینعم براحة البال ویذهب عنه كلّ قلق واضطراب. فالسبیل الوحید للراحة والطمأنینة وكذا عدم الاضطراب والقلق من المستقبل هو أن یعلم الإنسان أنّه ثمّة مَن بیده كلّ ذلك. لكنّ هذا وحده غیر كافٍ أیضاً. فقد یقول قائل: إنّ كلّ ذلك بیده عزّ وجلّ وهو قادر علیه، لكن من أین لنا أن نعلم أنّه سوف یفعل ذلك؟! فإذا أدرك الإنسان حقیقة أنّ الله تعالى هو على جانب من الرأفة والرحمة بحیث إنّه لا یفعل له إلاّ ما فیه مصلحته، فستتغیّر نظرته إلى الحیاة. فعلینا أن نعلم أنّه حتّى الشدائد قد تكون أحیاناً وسیلة لخیر الإنسان. فالناس یكدّون ویشقون ویتصبّبون عرقاً من أجل تقاضی أجر عملهم، لكنّهم راضون بذلك ومستمرّون فی السعی والعمل. بناءً على ذلك فمن الممكن أن یكون الكدّ والتعب فی هذا العالم نعمة، لكنّنا لا نعی ما ینفعنا وما یضرّنا، ولا نعرف السبیل للحصول على ما ینفعنا ودرء ما یضرّنا. أمّا الذی یؤمن بالله تبارك وتعالى، ذلك الربّ الذی یملك ما لا نهایة له من القدرة والعلم والرحمة، فلا ینتابه أیّ قلق. وكلّما قوی هذا الاعتقاد واشتدّ هذا الالتفات فسینعم الإنسان بمزید من السكون والطمأنینة.
وكنموذج على هذا النمط من الناس هو سماحة الإمام الخمینیّ الراحل (رضوان الله تعالى علیه). فقد أقسم مرّة إبّان فترة النضال ضدّ الطاغوت: «إنّنی لم أخش شیئاً حتّى هذه اللحظة». وقد یحمل البعض هذا الكلام على محمل المبالغة، لكنّ الذین عرفوا الإمام یدركون جیّداً أنّه لیس من أهل الثرثرة واللعب بالألفاظ، فهو لم یقل شیئاً من عند نفسه على الإطلاق. وحتّى هذا الكلام فقد قاله لمصلحة ما، وإلاّ فهو لم یكن ممّن یُثنی على نفسه ویتفاخر بعلمه وكماله وفضیلته.
وهنا یطرأ هذا السؤال: أنّى للمرء أن یكون هكذا؟ ولنتصوّر هنا طفلاً. فعندما یضع هذا الطفل یده فی ید أبیه فهو یعلم أنّه ما من أحد یستطیع أن یمسّه بسوء. فالضرر فی نظره هو أن یقوم أحد أقرانه بضربه. إنّه یحدّث نفسه بأنّ: أبی شجاع، وعندما تكون یدی فی یده فسوف لا یجرؤ أحد على إیذائی. إذن عندما تكون ید العبد فی ید الله عزّ وجلّ وحینما لا یتّكل ولا یعتمد إلاّ علیه تعالى، فسوف لا ینتابه أیّ ألم أو حزن، لاسیّما إذا علم بأنّ خیره هو فیما أراده له ربّه.
إنّ من أفضل ما یُدخل السرور إلى قلوبنا هو أن نلتذّ بكلّ ما یسعنا الالتذاذ به. لكنّ المشكلة هی أنّنا لا نلتفت إلى التذاذنا بالنعم المختلفة. فعندما یشتغل المرء فی تناول الطعام ویلتذّ به فإنّه لا یتمتّع باللذائذ الاُخرى التی لا یمكن جمعها مع تناول الطعام كالمطالعة وغیرها. فإنّ باستطاعة الإنسان أن یلتذّ بخمسة أشكال من النعم فی آن واحد كحدّ أعلى، لكنّه ثمّة من حولنا مئات الأسباب للذّة ونحن بإمكاننا الإفادة منها جمیعاً، بَید أنّنا غافلون عن وجودها تماما. إذن علینا أوّلاً أن نلتفت إلى ما یوجد من حولنا من أسباب اللذّة. وأحد هذه الأسباب هو الصحّة؛ فكم من أسباب الراحة قد توفّرت لكلّ عضوٍ، بل لكلّ جزء من أعضاء بدننا، وقد منّ الله علینا بهذه النعم لكنّنا غیر ملتفتین إلیها من الأساس، وبطبیعة الحال فإنّنا لا نلتذّ بها أیضاً. فقد ینفق المرء أحیاناً بضعة ملایین من أجل علاج أحد أسنانه! فإذا كانت قطعة عظم صغیرة فی فم المرء قد عمل هو نفسه على خرابها تستحقّ بضعة ملایین من النقود، فكم تساوی كلّ أسنانه إذن؟! فحینما نفكّر ملیّاً نجد أنّ كلّ واحد منّا یملك فی فمه ثروة تعادل مئات الملایین، لكنّنا غافلون عنها ولا نشعر تجاهها بأیّ لذّة. وهذا هو حال كلّ عضو من أعضاء بدننا. فإنْ أصاب أحدَها مكروه وتوّفر المال لكان المرء على استعداد لإنفاق مئات الملایین من أجل علاجه. فهذه ثروة طائلة، لكنّنا غیر ملتفتین إلیها. فلو أنّنا التفتنا إلى قیمة ونفاسة ما لدینا لشعرنا باللذّة أشدّ ما تكون اللذّة.
بناءً على ذلك فإنّه من أجل أن نهنأ برغد العیش فإنّه یتحتّم علینا أوّلاً أن نعرف النعم ولا ننساها: «لا ینسى نعمتی». فإن نحن عدمنا النعمة أو ملكناها ونسیناها فسوف لا نشعر باللذّة وستمسی حیاتنا ناقصة، أمّا إذا التفتنا إلى أنعم الله فستتضاعف لذّتنا أضعافاً. إذن فإنّ عدم التفاتنا إلى النعم یجعلنا نفرّط بكلّ هذه اللذّات وتفقد حیاتُنا ما ینبغی لها من الهناء، فالحیاة لا تكون هانئة إلاّ إذا التذذنا فیها قدر ما نستطیع، ولا یحصل ذلك إلاّ من خلال معرفتنا بما نملك وإدراكنا لما فیه من الفائدة والقیمة.
النقطة الاُخرى التی تفوق فی مستواها ما ذُكر أعلاه هی حاجة الإنسان إلى عطف وملاطفة ولیّ نعمته ورأفته به. فكلّ واحد منّا قد عاش مرحلة الطفولة وشاهد الأطفال أیضاً. فحاجة الطفل إلى الغذاء أمر بیّن، وهو سیتناول الغذاء ویشبع أیّاً كان الشخص الذی یهیّئه له، لكنّه لا یصیب المقدار الكافی من اللذّة إلاّ إذا تغذّى على ید أبویه وكانت التغذیة مصحوبة بالملاطفة والحنان. إذ من الممكن إرضاع الطفل بواسطة القنّینة، لكنّ اللذّة التی یحسّها الطفل وهو یرضع من ثدی اُمّه لا یمكن مقارنتها بتلك التی یشعر بها أثناء الرضاعة من القنّینة. وحتى علماء النفس فقد أثبتوا أن الطفل الذی یرضع فی حضن اُمّه ومن ثدیها یشعر بلذّة خاصّة وتلبّىٰ حوائجه وتتكامل عواطفه وأحاسیسه. فإلى جانب الآلاء المادّیة فإنّنا معاشر البشر بحاجة إلى نعم روحیّة أیضاً؛ فنحن بحاجة إلى مَن یلاطفنا ویمسح على رؤوسنا بیده الحانیة. وإنّ لحاجتنا إلى هذه الملاطفة والحنان أنواعاً ومراتبَ، وهی أشدّ من حاجة الطفل إلى مداعبة اُمّه، لكنّنا أضعنا الطریق وانهمكنا فی اللهث وراء استقطاب محبّة الناس واحترامهم تخیّلاً منّا بأنّ أمثال هذه الاُمور هی التی تُشبع رغبتنا إلى الملاطفة والحنان، أمّا تلك الملاطفة وذلك الحنان [الإلهیّان] فإنّهما أعظم وأسمى بكثیر من هذه الاُمور وفیهما غایة اللذّة.
فلو عمل المرء طیلة حیاته على تنمیة ما كان یشعر به من لذّة ملاطفة اُمّه له فسوف یفتّش فی كِبَره على اُمّ لا تفتأ تلاطفه وتمسح بیدها الحنون على رأسه فی كلّ حال؛ فی نومه ویقظته، وفی صحّته وسقمه، وفی سفره وحضره، وهی تخاطبه دائماً بالقول: تعال أیّها العزیز! لماذا أبطأت عنّی؟ إذ یُروى فیما یتّصل بشوق الله تبارك وتعالى لأوبة العاصین أنّ مسافراً فی أرض فلاة یصیبه الإعیاء فیترجّل عن بعیره لیأخذ قسطاً من الراحة فإذا به یستیقظ من رقدته فلا یرى أثراً للبعیر ولا لما یحمله من زاد وماء. فیهیم على وجهه طلباً لراحلته وزاده من دون جدوى، حتّى یأخذ منه الإعیاء مأخذاً فتخور قواه ویخرّ على الأرض مستسلماً للموت، فإذا به وهو فی الرمق الأخیر یفتح عینه فیرى البعیر واقفاً عند رأسه ومعه الزاد والماء. یقول الخبر: «إنّ الله تعالى أشدّ فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده فی لیلة ظلماء فوجدها، فالله أشدّ فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حین وجدها»[2] [399].
لو أدرك الإنسان صفات الله تعالى هذه لما تمالك نفسه. أیّ إله هذا! وأیّ نعمة هذه! فبأیّ نعمة یمكن قیاس هذه النعمة یا ترى؟ فلو جُمعت كلّ اُمّهات الأرض ووُضعت محبّتهنّ جمیعاً معاً لما ساوت قطرة من بحر محبّة الله عزّ وجلّ. وهذه النعمة متوفّرة لدینا فعلاً، لكنّنا لا نعلم بوجودها أساساً، وإنّ عدم التفاتنا إلیها یحرمنا من الالتذاذ بها. أمّا الإنسان الذی لا ینسى الله ولا حقّه أبداً، فمن الطبیعیّ أن یسعى دوماً لفعل ما یرضی الله عنه؛ لأنّ لازم المحبّة هو أنّه عندما یحبّ الله، فهو یرید من الله أن یحبّه أیضاً، وهو یعلم أنّ الله إذا أحبّه فستدوم هذه النعم، وإلاّ فإنْ سخط الله عزّ وجل علیه فسیسلب منه نعمه أیضاً.
خلاصة القول فإنّه من أجل التمتّع بعیش هنیء لابدّ من بضعة اُمور. إذ یتعیّن أوّلاً أن نحیط علماً بالنعم المتوفّرة أو التی یمكن أن تتوفّر. ثمّ ینبغی أن نعرف الذی بیده هذه النعم، والذی یمكنه توفیرها لنا، أو درء البلایا عنّا؟ فطالما التفتنا إلى هذه الاُمور فإنّنا سنلتذّ بالنعم، أمّا إذا نسیناها، فسوف لا نلتذّ بها؛ وهو قوله: «لا ینسَىٰ نعمتی». و«لا یفتر صاحبه عن ذكری» فهو لا یكلّ عن ذكر الله عزّ وجلّ دائماً. فإنْ مَلَك الإنسان النعمة من دون أن یعرف معطیها فسوف لا یزول اضطرابه، لأنّه سیقول: صحیح أنّ النعمة موجودة الآن، لكن من أین لی أن أعلم أنّها ستبقى، أو أنّ البلاء لن یحلّ؟ إذن لابدّ أن یعرف أنّه ثمّة قدرة لا نهایة لها لیعتمد علیها. فالله سبحانه هو الذی یمنّ بالنعم وهو مَن یستطیع أن یدیم علیه هذا الحال، كما أنّه هو وحده القادر على رفع البلاء.
«ولا یجهل حقّی» وهذا المقطع مرتبط بتلك النعمة المعنویّة الأكثر دقّة وهی أنّنا بحاجة إلى المداعبة والرأفة والحنان من قبل شخص عظیم. فلو علمنا بأنّه باستطاعتنا أن نكوّن علاقة مع أعظم موجود هو واجب الوجود ویتحلّى بأعلى درجات الرحمة، والإفادة من عطفه ورأفته فسوف نفكّر ملیّاً بكیفیّة تكوین علاقة معه وما ینبغی صنعه من أجل أن یُحسن الظنّ بنا ویُسبغ علینا هذه النعم ویدفع عنّا البلایا.
والآن تأمّلوا تعابیر الحدیث مرّة اُخرى وتبیّنوا ما علاقتها بالعیش الهنیء. فهل لا زلنا نرى مثال العیش الهنیء فی حیاة الملیاردیر الفلانیّ الذی یملك المزارع الواسعة والطائرة الشخصیّة والدخل الضخم والقصر الفخم؟ فلو درسنا القضیّة جیّداً لوجدنا أنّه لا یملك أكثر من بطن واحدة، ولیس طعامه إلاّ من نفس هذه الحبوب والفاكهة واللحم والطیر والحیوانات. فمهما كان طعامه راقیاً فهو لا یستطیع أن یأكلّ إلاّ ملء بطن واحدة. وهو لا یحتاج لمكان یزید على مترین لینام. فنحن نتخیّل أنّ الذی یملك برجاً ذا مائة طابق یلتذّ بنومه مائة مرّة أكثر ممّا نلتذّ به نحن! ونتصوّر أنّه من أجل نیل كلّ أصناف اللذّات فلابدّ أن نملك مفاتیح المصرف المركزیّ للبلد الفلانیّ لنسحب منه متّى نشاء وما نشاء من رصید الدولار والیورو! فی حین أنّ اللذّة التی یحسّها العبد المؤمن جرّاء اُنسه بالله جلّ وعلا هی غیر قابلة للقیاس بتلك اللذّات. فهذه اللذّة مضمونة البقاء، أمّا تلك فلا یُعلَم مآلها. ثمّ إنّنا نعلم أنّ كلّ ذلك هو مجرّد خیال، وأنّه كم علینا أن نكدّ ونشقى كی نوفّر مال إجارة منزلنا فی نهایة كلّ شهر.
فلو أنّنا فتحنا هذا الحساب ونظرنا إلى الوجه الآخر من العملة لشاهدنا أیّ ضرب من النعم قد أسبغ الله علینا وهی فی متناولنا الآن وأنّنا لا نلتذّ بها بسبب عدم التفاتنا إلیها. إنّها نفس تلك النعم المتوفّرة فی أبداننا وأرواحنا، وتلك النعم المترتّبة على الارتباط بالله والاُنس به والتی تنطوی كلّ واحدة منها على طیف واسع من اللذّات التی لم نذق حتّى نموذجاً من معظمها، بل إنّنا بالكاد نصدّق أنّ مثل هذه الاُمور موجودة فعلاً. أمّا إذا امتلك المرء هذه النعم حقّاً، فإنّه سیعیش أهنأ حیاة على الإطلاق.
رزقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
[1] [400]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.
[2] [401]. الكافی، ج2، ص435.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 18 حزیران 2014م الموافق للعشرین من شعبان 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
24
تحدّثنا فی المحاضرة السابقة عن العیش الهنیء من وجهة نظر الحدیث القدسیّ الذی خاطب به ربّ العزّة نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) لیلة المعراج. وقد ذكرنا أنّ الله عزّ وجلّ كان قد سأل رسول الله (صلّى الله علیه وآله) فی حینها عن أمرین؛ أوّلهما العیش الأهنأ وثانیهما الحیاة الأبقى. فالسؤال الأوّل كان عن الكیفیّة والثانی عن الكمّیة، كما یصطلح علیه؛ ونعنی بها الكمّیة المتّصلة بالطبع. ولقد أشرنا فی المحاضرتین الماضیتین إجمالاً إلى أنّ هذین الأمرین هما من حوائج الإنسان الفطریّة، فالأخیر قد خُلق طالباً للذّة العیش وهناء الحیاة. فلو ادّعى مُدّعٍ أنّنی لا أسعى وراء أیّ رغد ولا أفتّش عن أیّ لذّة، فلابدّ أن یكون مُبتلىً بمرض ما حسب الظاهر. ففطرة الإنسان طالبة للسعادة والراحة وهی لا تستطیع أن تكون غیر ذلك. فلو نظر كلّ امرئ إلى باطنه لاكتشف أنّه یطلب السرّاء دوماً وهو إنْ عمد إلى القیام ببعض الأعمال الشاقّة والمضنیة أو حتّى مارس الریاضة الروحیّة، كما یفعل مرتاضو الهند، فهو لاعتقاده بأنّه سینال فی إثر هذه الریاضات اُموراً فیها غایة اللذّة وإنّ ما یتجشّمه من مصاعب إنّما هی مقدّمة لما سیجنیه من هناء فیما بعد.
وكذا الحال بالنسبة لبقاء الحیاة؛ فالإنسان فطرةً یحبّ أن تدوم حیاته، وإنّ دوام الحیاة بحدّ ذاته مطلوب من قِبله. فالناس یرغبون فی أن تطول أعمارهم، لكنّ الفطرة بذاتها لا تُخبر الإنسان عن وعی أین تكمن هذه الحیاة الباقیة. بالطبع ثمّة علامات فطریّة لهذه الحیاة وإنّ تفكیر الإنسان بالحیاة بعد الموت من شأنه أن یرشده إلى الحقیقة. أّما سبب ذمّ الأدیان السماویّة، لاسیّما الإسلام، لطویلی الأمل والذین یودّون لو یعمّروا ألف سنة یرجع إلى أنّ أمانی هؤلاء تنحصر فی الحیاة الدنیا وأنّ همّهم هو زیادة أعمارهم الدنیویّة لیس غیر. فالباری تعالى یقول مثلاً فی ذمّ الیهود فی الآیة المرقّمة 96 من سورة البقرة: «یَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ یُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن یُعَمَّرَ». كما أنّ مطالبة الله الیهودَ بتمنّی الموت فی سورة الجمعة یعود إلى ادّعائهم محبّتَه عزّ وجلّ: «قُلْ یَـٰأَیُّهَا الَّذِینَ هَادُواْ إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِیَاءُ للهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِینَ»[1] [402]. فلیس الموت بمطلوب بذاته؛ غیر أنّ مَن یدّعی أنّه ولیّ لله، ویعتقد بالمعاد بعد الموت، وأنّ أولیاء الله سیحظون بلقائه فی ذلك العالم، فلا ینبغی أن یفرّ من الموت. فمراد الآیة الكریمة هو: إذا كنتم صادقین فی محبّتكم لله فلابدّ أن تحبّوا لقاءه أیضاً، وبما أنّ لقاءه غیر میسّر لكم فی هذا العالم، إذن فعلیكم أن تتمنّوا الموت للانتقال إلى العالم الذی یتسنّى لكم فیه لقاؤه تبارك وتعالى. ومن هنا فإنّ الموت لیس مطلوباً لأحد بحدّ ذاته، وإنّ القرآن الكریم لا یشیر على أحد بالرغبة فی الموت. فالكلام هنا هو دعوة لمعرفة الحیاة الحقیقیّة، وأنْ نعرف فیما إذا كانت الحیاة التی تطلبها فطرتنا هی نفس هذه الحیاة المصحوبة بالآلام والمتاعب والحرمان والبلایا، أم انّ هناك حیاة اُخرى هی الحیاة الحقیقیّة؟
كلّنا یعلم أنّ القرآن الكریم یرى أنّ الحیاة الحقیقیّة تكون بعد هذا العالم. فالله عزّ وجلّ یقول: «إِنَّمَا الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ»[2] [403]. فالحیاة الدنیا لیست هی بحیاة، إنّما هی لعب ولهو. «وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِیَ الْحَیَوَانُ»[3] [404]؛ فالحیاة الحقیقیّة هی عالم الآخرة. ومن هنا فإنّ ذمّ الله سبحانه وتعالى لطول الأمل وتمنّی العمر الطویل هو ذمّ للناس وإنكارٌ علیهم لعدم معرفتهم الحیاة الحقیقیّة وعدم إدراكهم بأنّ هذه الاُمور هی مجرّد لعب وأنّ تعلّق قلوبهم بها من شأنه أن یحرمهم من الحیاة الاُخرى. إذن فمن الواضح أنّه ما دمنا طلاّب حیاة بالفطرة، فإنّ جهلَنا ماهیّة الحیاة الحقیقیّة وأین ومتى تكون، سیجعلنا نبذل قصارى جهدنا للبقاء أحیاء. بالطبع قد تكون الأمراض والآلام والبلایا أحیاناً من الشدّة إلى درجة تُنهك الإنسان حتّى یتصوّر أنّه سیرتاح بموته، ولذا فهو یتمنّى الموت. لكنّ هذا التمنّی للموت هو غیر محبّذ. فلا یكون تمنّی الموت مطلوباً إلاّ إذا كان عن إیمان بأنّ الحیاة الحقیقیّة هی الحیاة الآخرة، وهناك سیتنعّم الإنسان بالنعم الإلهیّة الخاصّة ویحظى بلقاء الله فی نهایة المطاف. فالسبب فی أنّ أولیاء الله یُظهرون أحیاناً رغبتهم فی الموت ویطلبونه هو اعتقادهم بأنّ العالم الآخر هو عالم اللذّة والهناء والسعادة الأبدیّة ورضا الله، فهم یسألون الله تعالى الرحیل عن هذا العالم بأسرع ما یمكن. فهذا النمط من طلب الموت هو نمط مطلوب ومحبَّذ، ومن هذا المنطلق یقول الله سبحانه للیهود: «قُلْ یَـٰأَیُّهَا الَّذِینَ هَادُواْ إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِیَاءُ للهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِینَ».
لكنّه ثمّة تمَنٍّ غیر مطلوب للموت وهو ما یجرّ إلى الانتحار عند تأزّم الاُمور. فقد تسلّط محن الدنیا وما یجری فیها من المآسی وما یتعرّض له المرء من الإهانات والبلایا والإخفاقات - تسلّط على الإنسان من الضغوط ما یدفعه إلى الیأس حتّى یتصوّر أنّ الموت سیریحه من جمیع تلك الضغوط. فالإنسان حتّى فی هذه الحالة إنّما یُقدِم على الانتحار طلباً للراحة، لا لأنّ الموت مطلوب بالنسبة له. أمّا سبب قیامه بذلك فهو ضعف إیمانه وعدم علمه بأنّه لیس بالضرورة أن ینعم كلّ من یرحل عن هذه الدنیا بالراحة، فالله عزّت آلاؤه یقول: «وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ»[4] [405]، ویقول: «وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَىٰ»[5] [406]. إذن لیعلم المبتلون بالفضائح والمعانون من أشكال الحرمان والمهانة أنّهم إذا كانوا من أهل العذاب فی الآخرة فإنّ عذابها سیكون أكبر فضیحة وأشدّ صعوبة ومشقّة.
وفوق ذلك فإنّ الله عزّ وجلّ الذی قدّر للإنسان هذه الحیاة الدنیا أراد له أن یفید منها لنیل سعادته الأبدیّة. وبناءً علیه فحتّى طلب استمرار هذه الحیاة الدنیا فیما یوجب الازدیاد من رضا الله تعالى وسعادة الآخرة فهو طلب محبّذ، وما سؤالنا اللهَ العمرَ الطویل فی الدعوات أو دعاء الناسِ اللهَ من أجل أن یمنّ على الآخرین بطول العمر إلاّ من هذا القبیل. كما أنّ الدعاء الذی یكرّره قائد الثورة الإسلامیّة (دامت بركاته) دوماً فی كلامه: «زنده باشید» (أی: دمتم، أو أدام الله بقاءكم) والذی یدعو فیه بدوام العمر للآخرین یستند هو الآخر إلى أنّ الحیاة هی نعمة عظیمة للغایة، وهو یعنی بذلك: أمدّ الله فی أعماركم كی تتمكّنوا فی ظلّها من بلوغ السعادة الأبدیّة.
تأسیساً على ما مرّ فإنّ محاولة الانتحار أو تمنّی الموت للارتیاح من مصائب الدنیا هو أمر مذموم، بل وقد یُعدّ من أعظم الكبائر أحیاناً، وفی المقابل فإنّه لا عیب على الإطلاق فی طلب الحیاة الأبدیّة وهو ممّا ترومه فطرة الإنسان، بل وقد خلق الله ابن آدم لذلك: «إنّما خُلِقتم للبقاء لا للفناء»[6] [407]؛ أی إنّ الله قد خلقكم من أجل حیاة باقیة خالدة، لا من أجل حیاة عابرة مؤقّتة أو موت بطیء تدریجیّ؛ إذ نستطیع أن نعتبر الحیاة الدنیا شكلاً من أشكال الموت البطیء، لأنّ أمدها ینقص كلّ یوم، ونحن نفرّط بجزء منها فی كلّ یوم، وهذا لَعمری ضرب من الموت التدریجیّ. فالحیاة الحقیقیّة هی تلك التی لا تنقص أبداً. فلو عمّر المرء آلاف السنین فی الجنّة، فلا ینقص من عمره شیء وهو مستمرّ إلى أبد الآبدین.
من الجلیّ أنّ المعتقدین بأنّ الحیاة الآخرة هی الحیاة الحقیقیّة التی لا نهایة لها والتی تخلو من كلّ أشكال التعب والعذاب[7] [408] یسعون لنیل مثل هذه الحیاة والإفادة منها. وهذا المقطع من الحدیث القدسیّ ناظر إلى هذا الجانب؛ یقول الباری جلّ جلاله: «وأمّا الحیاة الباقیة فهی التی یعمل لنفسه حتّى تهون علیه الدنیا وتصغُر فی عینیه وتعظُم الآخرة عنده»[8] [409]؛ فهذه هی الحیاة الحقیقیّة.
وكما تلاحظون فإنّ كلّ كلمة من هذا الحدیث الشریف تمثّل عصارة من معارف الإسلام المزكّیة للنفس والمربّیة لها. فقوله: «فهی التی یعمل لنفسه» یشیر إلى حقیقة أنّه مهما عمل الإنسان فی هذه الدنیا فهو عائد لنفسه فی نهایة المطاف. فقد یتخیّل المرء أنّه یبغی خدمة الآخرین، لكنّ التمعّن بدقّة فی خفایا الأمر یوحی بأنّه حتّى هذا العمل فهو لنفسه أیضا. فقد ذكرنا أنّ الإنسان یرغب فی أن یخدم محبوبه ویصنع له ما یستطیع. فعلى الرغم من أنّ العاشق هنا - وفقاً للظاهر - لا یفعل شیئاً لنفسه، لكنّ المتعمّق فی المسألة سیستنتج أنّ العاشق یشعر فی أثناء خدمته لمحبوبه بلذّة لا یشعر بمثلها لو أنّه عمل لنفسه. وحتّى اُولئك الذین ینفقون أموالهم فی اُمور الخیر ومساعدة الفقراء بعیداً عن الریاء والشهرة فعلى الرغم من أنّهم غیر راغبین فی الأجر فی ظاهر الأمر، لكنّ التفحّص فی هذا العمل یقود الإنسان إلى نتیجة مفادها أنّ أمثال هؤلاء یرون الكمال الإنسانیّ فی ذلك ویرغبون فی نیل هذه الفضیلة.
فتحلّی الإنسان بالإیثار هی فضیلة عظمى، وإنّ المرء الـمُؤْثِر لیلتذّ بسبب إیثاره، لاسیّما إذا اُلحقَت بذلك ملحقات اُخرى كخلود الاسم بسبب الفضیلة. فعندما یلاحظ الإنسان أنّ التاریخ قد خلّد اسم حاتِم الطائیّ بعد مئات السنین بسبب كرمه، فإنّه سیلتذّ من كرمه وجوده بالمال أكثر من التذاذه بتمتّعه به، ولذا فهو یعمل لنفسه أیضاً. وهناك آیات قرآنیّة كثیرة، كقوله تعالى: «لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَیْهَا مَا اكْتَسَبَتْ»[9] [410]، وقوله: «فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا یَضِلُّ عَلَیْهَا»[10] [411] تشیر إلى هذا المعنى، وهو أنّ الإنسان مهما عمل فإنّه یعمل لنفسه؛ فهو إن اهتدى فلمصلحته وإن ضلّ فهو الذی سیخسر.
من هذا المنطلق فحتّى هذا الحدیث فإنّه عندما یرید – فی مقام التربیة - تقویة الدافع لدى المتلقّی ویحثّه على السعی لطلب الحیاة الاُخرویّة، فإنّه یعرّفه فی البدایة على أنّها حیاة باقیة وأنّك طالب لها بالفطرة وعلیك أن تسعى لها، لكنّ سعیك هذا هو فی الحقیقة لك. فإذا علم الإنسان أنّ ما یقوم به یصبّ فی مصلحته فسیقوى الدافع لدیه.
یقول تعالى: «وأمّا الحیاة الباقیة فهی التی یعمل لنفسه حتّى تهون علیه الدنیا»، فعندما یقوم المرء بعمل لنفسه فمن الواضح أنّه قد شخّص ما هو العمل الذی ینفعه حقیقةً. وفی هذه الحالة فمن المفترض أنّه قد شخّص الحقّ، وعلِم أین تكمن سعادته، وما هو العمل الذی یصبّ مائة بالمائة فی مصلحته ویدرّ علیه أفضل النتائج ولا یخسر فیه. فالكثیر من الناس لا یملكون مثل هذا التصوّر وهم یُقدِمون على عمل تخیّلاً منهم أنّ فیه مصلحتهم فإذا بهم یخسرون. بل «إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِی خُسْرٍ * إِلاّ الَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ»[11] [412]؛ فالناس عموماً هم فی حالة خسران، وعكس ذلك هو حالة استثنائیّة. والنموذج الأبرز على هذا الخسران هم اُولئك الذین یقتلون أنفسهم فی العملیّات الإرهابیّة الانتحاریّة جرّاء حماقتهم متصوّرین أنّ ذلك سیورثهم النفع الأبدیّ! فمن الواضح أنّ تصوّراً كهذا هو تصوّر باطل، وأنّ هؤلاء لم یشخّصوا العمل الذی یصبّ فعلاً فی مصلحتهم. فعندما یعلم الإنسان بوجود الآخرة ویدرك أنّ السعادة الأبدیّة لا تكون إلاّ هناك وأنّ علیه نیلها بسعیه وكدّه، فإنّه سیسعى فی هذا الاتّجاه. والعلامة على أنّ عمله هذا صحیح وأنّه سیقوده إلى السعادة والحیاة الباقیتین هی أن لا یعیر لكلّ ما یعارض هذه الحیاة أهمّیة. فعندما یشتغل المرء فی المطالعة على سبیل المثال فإنّه قد یستطیع التمتّع بلذّة اُخرى إلى جانب المطالعة لكنّه إذا آمن بأنّ الدقّة الأكبر فی المطالعة ستزید من فهمه لما یقرأ وتسرّع من بلوغه الهدف المطلوب من المطالعة فإنّه سیهمل باقی اللذّات، وبما أنّ الهدف المرجوّ من المطالعة مهمّ فإنّه سیكرّس أكثر وقته لها ولا یعیر باقی الاُمور أهمّیة تُذكر.
الشرط الأساسیّ لمعرفة الحیاة الآخرة هو أن یكون سعی الإنسان بحیث تهون الاُمور الدنیویّة فی عینه وتصبح غیر ذات أهمّیة. وعندها ستذهب قیمتها، وسیكتفی من الحیاة والصحّة بما یكون ضروریّاً لعمله، ولا تكون همّته فی التمتّع بحیاة مرفّهة ونیل أصناف اللذائذ ومختلف التفنّنات؛ ذلك أنّ طاقة الإنسان محدودة وهو إنْ أنفقها فی شیء ضعف عن أداء الاُمور الاُخرى، ومن هنا فإنّ شؤون الدنیا لا تكون ذات أهمّیة لدیه. بالطبع إنّ الدنیا بما هی دنیا وبما تحویه من لذائذ مادّیة لا یمكن جمعها مع الآخرة، لكنّ الاُمور الدنیویّة قد تكون أحیاناً مقدّمة للآخرة فیتعلّق بها أمر إلهیّ أو تكلیف شرعیّ، ومن هنا تكون نفس هذه الدنیا أمراً من اُمور الآخرة، ولا تكون مستحقّة للذمّ الوارد للدنیا. وفی هذه الحالة فحتّى لو انطوت هذه الدنیا على لذائذ مادّیة جمّة، فمن حیث إنّها أمر الله وهی تمارَس امتثالاً لأمره عزّ وجلّ فسوف لا یجری علیها حكم الاُمور الدنیویّة.
بطبیعة الحال إنّ النأی عن الدنیا لا یعنی التفرّغ للعبادة والتزام المناهج الأربعینیّة فی الصومعات والسرادیب، بل إنّ المراد من الدنیا هنا هو أن یرغب المرء فی شیء بسبب لذّاته المادّیة. أمّا إذا كان للإنسان فی سعیه الدنیویّ دوافع إلهیّة، وكانت الغایة من دراسته العلوم مثلاً حفظ عزّة الإسلام وصیانة المسلمین من الذلّ والمهانة فی مقابل الكفّار، فلیس ذلك من حبّ الدنیا فی شیء، وهو سیورثه سعادة الآخرة إلى جانب ما له من آثار فی هذه الدنیا.
فعندما یستوعب المرء ماهیّة الهدف الاُخرویّ وقیمة الآخرة بشكل صحیح ویصبح هذا الهدف قیّماً بالنسبة له فسوف یدرك أنّه كلّما تنازل عن الآخرة فقد خسر. وهنا سوف لا یعیر للدنیا أهمّیة وستصغر الأخیرة فی عینه. فنسبة الدنیا – مهما طالت وزادت منافعها – إلى الآخرة كنسبة المتناهی إلى غیر المتناهی. فلو حاولنا الحساب بالكمّیات للاحظنا أنّ عمر ألف سنة فی الدنیا هو أقلّ من لمح البصر بالنسبة للآخرة، وهو لیس ذا قیمة فی مقابل عمر الآخرة الأبدیّ الذی لا نهایة له. فإذا أدرك الإنسان قیمة الآخرة صغُرت كلّ الحیاة الدنیا فی عینه، وعظمت – فی المقابل – الآخرة فی نظره: «وتعظم الآخرة عنده». وقد روی عن أمیر المؤمنین علیّ (علیه السلام) فی نهج البلاغة أیضاً قوله: «كان لی فیما مضَى أخٌ فی الله وكان یُعظِمُه فی عینی صِغَر الدنیا فی عینه»[12] [413].
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
[1] [414]. الآیة 6.
[2] [415]. سورة محمّد (صلّى الله علیه وآله)، الآیة 36.
[3] [416]. سورة العنكبوت، الآیة 64.
[4] [417]. سورة الرعد، الآیة 34.
[5] [418]. سورة فصّلت، الآیة 16.
[6] [419]. غرر الحكم و درر الكلم، ص272.
[7] [420]. «الَّذی أَحَلَّنا دَارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا یَمَسُّنا فیهَا نَصَبٌ وَلا یَمَسُّنا فیها لُغُوبٌ» (سورة فاطر، الآیة 35).
[8] [421]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.
[9] [422]. سورة البقرة، الآیة 286.
[10] [423]. سورة الزمر، الآیة 41.
[11] [424]. سورة العصر، الآیتان 2 و3.
[12] [425]. نهج البلاغة، الحكمة 289.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 30 حزیران 2014م الموافق للیلة الثالثة من شهر رمضان 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«وأمّا الحیاة الباقیة فهی التی یعمل لنفسه حتّى تهون علیه الدنیا وتصغُر فی عینیه وتعظُم الآخرة عنده»[1] [426].
25
لقد ذكرنا فی المحاضرات الماضیة فی إشارة إلى المقطع أعلاه من حدیث المعراج أنّ الله یقول فی مقام تعریف أهنأ عیش وأبقى حیاة انّ الأخیرة تكون من نصیب من تصبح الدنیا فی عینه - نتیجة كدّه وسعیه - هیّنة وغیر ذات قیمة. وهنا قد یتبادر السؤال التالی إلى الذهن: ما هو السبب فی قوله إنّ الحیاة الباقیة هی من نصیب مَن یعمل على أن تكون الدنیا فی عینه هیّنة وحقیرة؟
من الواضح أنّه عندما یدور الكلام حول الحیاة الأبدیّة تكون للبحث اُصول ثابتة وقضایا مفروضة الصحّة، أوّلها أنّه ثمّة بعد الحیاة الدنیویّة العابرة حیاةٌ اُخرى باقیة. فطرح سؤال من هذا القبیل على مَن لا یؤمن بهذه الحقیقة لیس فی محلّه. والأصل الآخر هو أنّ علینا السعی والعمل من أجل نیل السعادة فی الحیاة الأبدیّة. إذ قد تُطرح حول جمیع هذه المسائل شبهات لدى بعض الشباب، نرى من المناسب أن نشیر إلیها.
إنّ أعقد معضلة كانت تواجه الأنبیاء هی إثبات قضیّة أنّه ثمّة عالم آخر بعد عالمنا هذا سنحیا فیه بعد الموت. فلم تواجه قضیّة إثبات وجود الله وضرورة عبادته صعوبة بالغة من قبل الأنبیاء؛ ذلك أنّ أصل وجود المعبود كان محطّ قبول الجمیع، فأغلب الناس كانوا معتقدین بوجود معبود یتعیّن عبادته. وقد اقتضت رسالة الأنبیاء فی هذا المجال تبلیغ شعار «لا إله إلا الله» والقول للناس: «...أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ»[2] [427]. إذ كان على الأنبیاء (علیهم السلام) أن یخبروا الناس أنّ الآلهة التی تعبدونها لا تستحقّ العبادة؛ إذ كیف یمكن أن یكون الذی تنحتونه بأنفسكم من الحجر والخشب إلهاً لكم وأن یكون أهلاً للعبادة؟! ولم یكن لدى الناس جواب على هذا الاستدلال العقلیّ سوى القول: «بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَیْنَا عَلَیْهِ ءَابَاءَنَا»[3] [428]؛ فهذه سنّة آبائنا وأسلافنا، فقد ألفیناهم یفعلون ذلك ونحن نقتفی آثارهم: «إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ»[4] [429].
لكنّ المسألة الاُخرى التی كان الأنبیاء یؤكّدون علیها كثیراً هی قضیّة وجود الیوم الآخر، وهی أنّ الناس یحیون ثانیة بعد الموت ویحاسَبون على أعمالهم وأنّ كلّ امرئ سیثاب أو یعاقَب على ما قدّمه. فإثبات هذه المسألة كانت غایة فی الصعوبة، إذ لم یتمّ إحیاء قوم حتّى ذلك الحین كی یشاهدهم الناس. وهذا ما جعل الكثیر من الناس یقولون: «إِنْ هَـٰذَا إِلاّ أَسَاطِیرُ الأَوَّلِینَ»[5] [430]. بل وكانوا أحیاناً یستهزئون بالأنبیاء لهذا السبب قائلین: لقد ظهر مجنون یدّعی أنّ الإنسان یتمّ إحیاؤه ثانیة بعد أن یموت ویُقبَر: «أَفْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةُ»[6] [431]!
إذن فإثبات المعاد للناس كان من أصعب ما واجهه الأنبیاء، فلم یكن الناس لیصدّقوا بسهولة أنّهم سیُبعثون مرّة اُخرى بعد موتهم وسیعیشون حیاة لا نهایة لها هی الحیاة الحقیقیّة. من أجل ذلك فقد حاول البعض - بغیة إظهار الانسجام والتكیّف مع من آمن بهذه العقیدة - تأویل هذا المفهوم كغیره من المفاهیم، فقالوا، مثلاً: «الآخرة هی مفهوم قیمیّ وأخلاقیّ». وقد تستغربون من سماع ذلك، لكن لا بأس أن تعلموا أنّه ثمّة شخص معمّم قبل الثورة كان یُدعى «آشوری»، وقد تمّ إعدامه بعد الثورة بسبب ارتداده، كان قد كتب فی كتاب له تحت عنوان التوحید: «لیس «الله» بموجود عینیّ وحقیقیّ، بل هو تصوّرنا الذهنیّ للكمال المطلق»! وكان یقول أیضاً: «عبارة «لا إله إلا الله» هی لإثبات وجود مثال أخلاقیّ، ولیس لنا فی هذا المجال أیّ مشكلة أو خلاف مع المادّیة الفلسفیّة التی تعنی إنكار الله؛ فنحن نختلف مع الماركسیّین فی المادّیة الأخلاقیّة». وكان ثمّة من یقول أیضاً: «الآخرة لا تعنی أنّ الإنسان سیُبعث بعد الموت حقّاً، بل هی فی مقابل الدنیا وتعنی القیمة؛ فالدنیا تعنی الربح، والآخرة هی القیمة! فلو فعلتم ما یدرّ علیكم بالنفع، فهذه هی الدنیا، أمّا إذا قمتم بنفس هذا الفعل لما یحمله من قیمة، فهذه هی الآخرة، وإنّ دعوة الأنبیاء إلى الآخرة إنّما هی دعوة إلى التمسّك بالقیم وفعل الخیرات لما لها من قیمة» (وهو تفسیر مشابه لنزعة «كانت» فی الأخلاق).
فلا یصیبنّكم العجب من سماع أمثال هذا الكلام! فبعض الشخصیّات المعمّمة، والتی تمارس الیوم نشاطات سیاسیّة واسعة أیضاً، كانت تروّج فی درس تفسیرها لرؤیة مفادها أنّ: «الیوم الآخر یعنی یوم الثورة! بمعنى أنّه على الشعب أن یمارس أوّلاً نشاطات سرّیة حتّى یحین زمان الثورة. وانّ ساعة الثورة هی تلك التی یقول عنها القرآن الكریم: «إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِیَةٌ»، لكنّه لا ینبغی لأحد أن یعلم بها: «أَكَادُ أُخْفِیهَا»[7] [432]».
الأصل الثابت الثانی الذی افترضناه لهذا البحث كان ضرورة السعی فی هذه الدنیا لنیل سعادة الآخرة. بید أنّه كان هناك من الأشخاص مَن لم ینكر الآخرة، لكنّه یقول: «الآخرة عالم آخر قد یُبعث المرء فیه ثانیة بعد موته وكما أنّه كان یعمل فی هذه الدنیا فسیعمل فی ذلك العالم أیضاً. فالقرآن عندما یطرح الحوار القائم بین أخوین یشیر إلى هذه الرؤیة فیروی عن قول أحدهما: «مَا أَظُنُّ أَن تَبِیدَ هَـٰذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّی لأَجِدَنَّ خَیْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً»[8] [433]. فعلى فرض وجود الآخرة، فلا ینبغی أن نقلق بسببها؛ فحتّى لو اقتادونا بین یدی الله فی ذلك العالم فمثلما سعینا فی هذه الدنیا وحصلنا على هذه الثروات فباستطاعتنا هناك أن نعمل بشكل أفضل ونحصل على ما هو أفضل من ذلك»! ومن المثیر أن تعلموا هنا أیضاً أنّ أحد السیاسیّین - ممّن كان یُظهر تدیّناً فائقاً وكان یشغل مناصب فی أوائل أیّام انتصار الثورة - كان قد كتب فی كتابه: «من المحتمل أن تكون الجنّة فی أحد الأجرام السماویّة وأنّه سیكون باستطاعة البشر بعد تفوّقهم العلمیّ والصناعیّ أن یصنعوا من الأجهزة ما یمكّنهم من المهاجرة إلى هناك؛ أمّا المتخلّفون علمیّاً والاُمّیون فسیبقون فی جهنّم هذه الأرض»!
لكنّ تفاسیر من هذا القبیل لا تنسجم مع الاُصول الثابتة الـمُقرَّة فی معتقداتنا. فنحن نعتقد بأنّ الإنسان وبعد رحیله عن هذه الدنیا وتفسّخ بدنه وتحوّل عظامه إلى تراب سیُبعث مرّة اُخرى ویرى ثمار أعماله التی قدّمها فی الحیاة الدنیا؛ وهذا یعنی أنّنا – أوّلاً - نؤمن بالآخرة، وثانیاً: نرى أنّ الآخرة هی مفهوم حقیقیّ، ولیس مفهوماً قیمیّاً وأخلاقیّاً، وثالثاً: نعلم أنّ الآخرة تأتی بعد عالم الدنیا وتبدأ بعد الموت، ورابعاً: نعتقد بأنّ سعادة الآخرة لا تُنال إلاّ من خلال أعمال هذه الدنیا: «إنّ الیوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل»[9] [434]. وإنّه بالاستناد إلى هذه الاُصول الثابتة یخاطب الله نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) لیلة المعراج بقوله: «وأمّا الحیاة الباقیة فهی التی یعمل لنفسه حتّى تهون علیه الدنیا».
لكن لماذا أشار أوّلاً إلى هذا المبحث؟ والجواب هو: لأنّ الدنیا مهمة جدّاً فی نظر الكثیر منّا. فعلى الرغم من اعتقادنا بالآخرة فنحن لا نعتقد بأنّها على هذا القدر من الأهمّیة. وباستثناء بعض الدقائق التی نشغلها بأعمال من قبیل الصلاة فنحن نقضی أغلب أوقاتنا فی الیوم واللیلة بالكدّ والمثابرة فی سبیل الدنیا والتفكیر بها، بل حتّى وقت راحتنا ونومنا فنحن نخصّصه للدنیا أیضاً. فإذا تصوّرنا صبیّاً بلغ الحلم لتوّه، أو شابّاً على أعتاب تأسیس حیاته المستقلّة فإنّ كلّ همّه وغمّه ینصبّ على أنّه كیف سیؤمّن دخلاً جیّداً، وعن أیّ طریق سیكسب معاشه، وما السبیل لامتلاك بیت مناسب واقتناء سیّارة جیّدة والتزوّج من امرأة صالحة والتمتّع بحیاة كریمة؟ فهذه المسائل تشغل ذهنه باستمرار ممّا یجعل الدنیا فی نظره عظیمة ومهمّة. فإن أراد امرؤ إدارة مدینة أو دولة، أو المضیّ فی طریق التقدّم العلمیّ والصناعیّ، فسوف لا یجد الوقت للتفكیر فی المسائل الاُخرى. فإذا اقترحتَ علیه – والحال هذه – أن یتفرّغ ساعة لتلاوة دعاء أبی حمزة الثمالیّ عوضاً عن التفكیر بهذه الاُمور، فما هی ردّة الفعل التی تتوقّعها منه؟
أذكر فی أوائل عهد قدومی إلى مدینة قمّ المقدّسة حیث لم تكن شوارعها مُعبَّدة بیدَ أنّ البلدیة شرعت بتعبید أحد الشوارع. فإذا بامرأة عجوز على حاشیة الطریق كانت تمرّ على مقربة من العمال المشتغلین بتعبید الطریق فقالت وقد أثارتها آلات ومكائن التعبید: ماذا یصنع هؤلاء المعمّمون یا ترى؟ فإن كانوا صادقین فلیأتوا ویعبّدوا الطرق كما یفعل هؤلاء!
فمن الطبیعیّ أن تكون الامور المتعلّقة بالحیاة الدنیا مهمّة بالنسبة لنا؛ إذ أنّ لنا حاجات وعلینا السعی لتلبیتها. بل وقد نستغرق عشرات السنین فی نیل بعض مطالبنا. ولذا فمن الطبیعیّ جدّاً أن یقیم المرء لشؤون الدنیا - بدءاً من المأكل والملبس والمسكن والحاجات الجنسیّة وصولاً إلى المنصب والمكانة الاجتماعیّة - وزناً. فلو قیل لنا فی هذا الخضمّ: اعملوا على أن تعظم الآخرة فی أعینكم، فما معنى ذلك؟ هل یعنی أن نهتمّ بالآخرة بمقدار ما نقیم للدنیا من وزن؟ فهل من تناسب بین الدنیا والآخرة یا ترى كی نستطیع المقارنة فیما بینهما؟ فالدنیا متناهیة والآخرة غیر متناهیة، ولا یمكن تصوّر أیّ نسبة بین المتناهی واللامتناهی. ناهیك عن أنّه مَن من الناس له أن یدّعی أنّه یسعى لآخرته بمقدار ما یعمل لدنیاه؟ فالله الذی خلَقَنا والذی یعرفنا حقّ المعرفة یقول: «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَیَوٰةَ الدُّنْیَا»[10] [435]؛ أی: لیس أنّكم لا تساوون بین الآخرة والدنیا ولا تعملون لآخرتكم بالمقدار الكافی فحسب، بل إنّكم تؤثرون دنیاكم على اُخراكم. فلعلّ معظمنا قد واجه هذا التزاحم بین أمر دنیویّ وآخر اُخروی وقال: فلننظر فی أمر دنیانا فی الوقت الحاضر، ثمّ نفكّر قلیلاً بأمر الآخرة فیما بعد!
لقد جاء الأنبیاء لتفهیمنا بأنّ حیاتكم الدنیا وما تكسبون فیها لا یمكن أن تشكّل طرفاً فی عملیّة تناسب مع الآخرة التی هی الحیاة الأصیلة. فالأصل هناك وعلیكم أن تعرفوا ذلك ولا یمكنكم أن تتصرّفوا على هذا الأساس إلاّ إذا أصبحت الدنیا صغیرة فی نظركم ولم تكترثوا لها. بالطبع لابدّ من التذكیر هنا بأنّ أكثر الأعمال الدنیویّة حیوانیّة قد یتحوّل إلى تكلیف شرعیّ وأمر اُخرویّ وعندها سیكون له حساب آخر. فبحثنا یدور حول قضیّة أنّه إذا أردنا أن تكون الآخرة ذات أهمّیة عندنا وأن نبلغ ما تتحدّث عنه هذه الروایة فلا ینبغی أن نطلب الدنیا من أجل الدنیا وملذّاتها. فإن أفلحنا فی ذلك حصلنا على ذلك الثواب. والخطوة الاُولى فی هذا السبیل هی أن تصغر الدنیا فی أعیننا. لكن ما الذی ینبغی صنعه كی تصغر الدنیا فی أعیننا؟ فالسبیل إلى ذلك هو ما علّمنا القرآن الكریم فی قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِی الدُّنْیَا وَالآخِرَةِ»[11] [436]. إذن علینا أن نقارن بین الدنیا والآخرة. فینبغی أن نعلم أوّلاً ماهیّة هذه الدنیا، وخصوصیّاتها، وما توفّره لنا من لذّات، ثمّ نعرف فی المقابل ما هی الآخرة؟ لكنّ المشكلة تكمن فی أنّنا - فی مقام التصوّر - نعلم أنّ الدنیا تتضمّن اُموراً محدودة قلیلة القیمة، وأنّ الآخرة غیر محدودة، أمّا فی مقام التصدیق القلبیّ والإیمانیّ المؤثّر فی أعمالنا فنحن ضعفاء.
إذا أردنا المضیّ فی هذا الطریق فعلینا أوّلاً أن نحلّ هذه المسألة فی أنفسنا وهی أنّ الدنیا لیست هی غایتنا. فنحن – إن شئنا أم أبینا - منطلقون فی طریق سفرنا هذا وسوف نجتازه لا محالة. بالطبع إنّ تصدیق هذا الأمر لیس بالأمر الصعب جدّاً؛ ذلك أنّنا نرى باُمّ أعیننا أنّ طبیعة الدنیا لا ثبات فیها وأنّها فی حالة مرور. لكنّ المعضلة التی واجهها جمیع الأنبیاء هی إثباتهم للبشر أنّ غایتهم الأساسیّة من حیاتهم هی الآخرة وأنّه لا ینبغی أن یوظّفوا جمیع طاقاتهم ومساعیهم فی سبیل الدنیا: «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَیَوٰةَ الدُّنْیَا * وَالآخِرَةُ خَیْرٌ وَأَبْقَىٰ * إِنَّ هَـٰذَا لَفِی الصُّحُفِ الأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِیمَ وَمُوسَىٰ»[12] [437]. فإنّه باتّباعنا الأنبیاء والسیر على نهجهم، یمكن أن تصبح كلّ مساعینا التی نقوم بها لأجل الدنیا والتی نجنی ثمارها فی هذه الدنیا أیضاً ذات أثر فی آخرتنا. فنحن نكدّ لجنی المال من أجل توفیر الغذاء كی نُشبع بطوننا. فهذا الكدّ والسعی له آثار دنیویّة بالنسبة لنا، لكنّه فی المیسور أن یتحوّل نفس هذا العمل إلى عبادة فنجنی منه نتائج اُخرویّة. هذا هو فنّ الدین، ولعمری فإنّه ما من مدرسة بشریّة یمكنها أن تقدّم لنا مثل هذا الفنّ. فجمیع الاُمور الدنیویّة التی تُعدّ فی حدّ ذاتها صغیرة وحقیرة وغیر ذات قیمة، یمكن أن تكون لها قیمة بالتبَع أو بالعَرَض، وأن تحمل لنا أعلى درجات القیم فیما لو أنجزناها بهدف الآخرة ومن أجلها وفی سبیل الله. وفی هذه الحالة نكون قد لبّینا حاجاتنا المادّیة وأشبعنا لذّاتنا الدنیویّة من جهة، ونكون قد عمّرنا منزل آخرتنا وأمَّنّا سعادتنا النهائیّة التی خُلقنا من أجلها من جهة ثانیة.
فلقد أحببتُ أن اُشیر إجمالاً إلى أنّ الخطوة الاُولى على طریق الوصول إلى ما بیّنه الله عزّ وجلّ لنبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) فی لیلة المعراج هو محاولتنا أن نفهم بأنّ الدنیا فی حدّ ذاتها لیست ذات قیمة، لكنّها من الممكن أن تكون وسیلة للآخرة وعندها ستحظى بقیمة هی غایة فی العلوّ والرفعة. والفارق بین الأمرین یعتمد على نظرتنا إلى الدنیا ونیّتنا من أعمالنا وسلوكیّاتنا.
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
[1] [438]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.
[2] [439]. سورة الكهف، الآیة 110.
[3] [440]. سورة البقرة، الآیة 170.
[4] [441]. سورة الزخرف، الآیة 23.
[5] [442]. سورة النمل، الآیة 68.
[6] [443]. سورة سبأ، الآیة 8.
[7] [444]. سورة طٰه، الآیة 15.
[8] [445]. سورة الكهف، الآیتان 35 و36.
[9] [446]. نهج البلاغة، الخطبة 42.
[10] [447]. سورة الأعلى، الآیة 16.
[11] [448]. سورة البقرة، الآیتان 219 و220.
[12] [449]. سورة الأعلى، الآیات 16 – 19.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 1 تموز 2014م الموافق للیلة الرابعة من شهر رمضان 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
26
تناولنا فی المحاضرات السالفة مقطعاً من حدیث المعراج یخاطب الله تعالى فیه نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) بالقول: «وأمّا الحیاة الباقیة فهی التی یعمل لنفسه حتّى تهون علیه الدنیا وتصغُر فی عینیه وتعظُم الآخرة عنده»[1] [450]، وهو یعنی أنّ الخطوة الاُولى لوصول الإنسان إلى الحیاة الباقیة المطلوبة هی أن تصغر الدنیا فی عینیه. ومن أجل استیعاب هذه المسألة بدقّة والحكم علیها وتقییمها بشكل صحیح لابدّ أوّلاً من الوصول إلى فهم صحیح ودقیق لمفهومی «الدنیا» و«الآخرة».
مفردة «آخر» هی صیغة فاعل من أصل «أَخَرَ» الذی لا یستعمل فعله إلاّ فی أبواب «التفعیل» و«التفعّل» و«الاستفعال»، ولیس له استخدامات فی صیغه المجرّدة والمزیدة الاُخرى. وتُستعمل هذه الكلمة عادةً فی مقابل «الأوّل»؛ كقوله: «هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ»[2] [451]، وهاتان الكلمتان متضایفتان؛ بمعنى أنّهما تُستخدمان لأمرین بینهما تقدّم وتأخّر، فأحدهما أوّل والثانی آخِر. أمّا كلمة: «الآخرة» بتاء التأنیث فوفقاً لقاعدة فی الأدب العربیّ فإنّ الموصوف المؤنّث لبعض الصفات یُحذف بسبب كثرة الاستعمال؛ مثل: «حسنة» و«سیّئة» و«خطیئة». فالأصل فی «الحسنة» هو «الخصلة الحسنة» حیث حُذفت كلمة «الخصلة» تدریجیّاً وبقیت صفة «الحسنة». وقد استُخدمت هذه الكلمة فی القرآن الكریم أیضاً فی قوله تعالى: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَیْرٌ مِّنْهَا»[3] [452]. وحتى كلمة «الآخرة» فقد ذُكرت فی القرآن الكریم مراراً بعنوان كونها صفة لكلمات مؤنّثة ویُستشَفّ من ذلك أنّ هذه المفردة هی الاُخرى كانت فی سائر الأمثلة صفة لموصوف مؤنّث وقد نُسی موصوفها شیئاً فشیئاً لتحلّ هی محلّه؛ مثل قوله: «الدَّارَ الآخِرَةَ»[4] [453]، و«النَّشْأَةَ الآخِرَةَ»[5] [454]. ویمكننا أن نفهم من خلال المعنى اللغویّ لكلمة «الآخرة» واستعمالاتها القرآنیّة - حیث جاءت تارة فی مقابل «الدنیا» واُخرى فی مقابل «الاُولى» - أنّ لدینا حیاتین: «إِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَىٰ»[6] [455]؛ فالحیاة الاُولى هی التی تكون فی هذه الدنیا وهی قریبة، والحیاة الاُخرى التی هی فی العالم الآخر وهی بعیدة.
تُستخدم كلمتی «الدنیا» و«الآخرة» بعدّة وجوه؛ فقد یُراد من «الدنیا» هذا العالم والنظام المهیمن علیه، ویراد من «الآخرة» ذلك العالم الذی یأتی وتتحقّق تفاصیله بعد عالم الدنیا. فالقرآن الكریم لم یعدّ النظام الموجود فی هذا العالم نظاماً باقیاً ودائمیّاً، بل أكّد على أنّه سیتلاشى وسیزول كلّ من الشمس والقمر والكواكب: «وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ»[7] [456]، «وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ»[8] [457] (أی انطفأت)، «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ»[9] [458]، أو «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ»[10] [459]. فهذه الآیات تتحدّث عن نشأة یتغیّر فیها كلّ شیء ولا یبقى على ما نراه علیه فی هذا العالم، وتتحوّل فیها منطقة الوجود إلى منطقة مستویة تخلو من أیّة وعورة: «فَیَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَىٰ فِیهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً»[11] [460]. لكن ما الذی سیحدث بعد ذلك؟ لا نعلم. لأننا لا نفهم إلاّ ما قد مارسناه وشاهدنا نماذج له فی هذا العالم؛ كإنتاج المادّة من تراكم الطاقة، أو تولّد الطاقة من إشعاع المادّة.
ومن خصوصیّات الآخرة هو وجود الجنّة والنار وكون الجنّة واسعة جدّاً: «وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»[12] [461]، أی سماوات وأرض هذا العالم. ومن خصوصیّات عالم الآخرة أیضاً أنّه یمتاز فیه الصالح عن الطالح، والحسن عن القبیح، والحزن عن الفرح، واللذّة عن العذاب، خلافاً لعالم الدنیا الذی قد تجتمع فیه هذه الصفات المتضادّة، بل وقد تمتزج مع بعضها أیضاً؛ فقد تكون لشخص واحد شخصیّتان: إحداهما صالحة تتّصف بصفات حسنة والثانیة طالحة بسجایا سیّئة. أمّا فی عالم الآخرة فتنفصل كلّ هذه الاُمور عن بعضها البعض؛ وهو ما یعبّر عنه القرآن الكریم: «یَوْمَئِذٍ یَصَّدَّعُونَ»[13] [462]. فلا یمكن أن یجتمع الصالحون والطالحون معاً فی ذلك الیوم، بل ستُجعل كلّ طائفة منهم فی مكان معزول عن الآخر یُدعى أحدهما الجنّة والثانی النار. ففی الجنّة لن یكون ثمّة أیّ عذاب أو مشقّة أو تعب أو نصب أو ملل أو ضعف أو غمّ أو حزن. كما لن یكون ثمّة فی النار أیّ راحة أو طمأنینة أو فرح.
فأوّل استخدام لمفردتَی «الدنیا» و«الآخرة» هو إطلاقهما على هذین العالمین اللذین یتقدّم أحدهما على الآخر ولا تبقى موجودات الأوّل على حالها فی الآخرة. وقد أشارت آیات من الذكر الحكیم إلى هذا المعنى، كقوله تعالى: «وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ»[14] [463]، أی اضطرمت فیها النیران، وقوله: «فَیَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً»، یجعل منطقة الوجود قاعاً مستویاً لا تموّج فیه. ففی ذلك الیوم تلتصق الشمس بالقمر وتتناثر النجوم؛ أی ستختفی قوّة الجاذبیّة التی كانت تسیطر علیها وتنظّم مدار كلّ منها. كلّ هذه العبارات تشیر إلى أنّ النظام المهیمن على عالم الدنیا سیتغیّر فی الآخرة ولن تبقى أیّ ظاهرة فی الأخیر على ما هی علیه الیوم. إذن فالموجودات الدنیویّة لیست هی من سنخ الاُخرویّة. بالطبع نحن لا نعلم أیّ نمط من الموجودات ستكون هذه الأخیرة، لكنّنا نعلم – اعتماداً على القرآن والسنّة – أنّ نوعین من الكائنات الموجودة فی هذا العالم وهما الإنس والجنّ سیحافظان على أنفسهما فی العالم الآخر مع حدوث بعض التغییرات فی جمیع ظواهرهما من المادّة والشخصیّة والهویّة. فإنّ لأفراد هذین النمطین من الكائنات عالمین هما دار الدنیا ودار الآخرة؛ فهم یعیشون الیوم فی هذا العالم، أمّا بعد الموت فسیُبعثون ثانیة فی العالم الآخر لیبدأوا حیاة جدیدة لیس لها نهایة.
وفی هذا المقام یتمّ دراسة الحیاة الدنیا والحیاة الآخرة من زاویة علم الوجود، حیث تُبحث الحقائق الخارجیّة والاختلافات الماهویّة والخصوصیّات الوجودیّة لكلّ منهما. وعلى هذا الأساس فلا یسعنا تحدید ما إذا كانت الدنیا هی الأفضل أم الآخرة، كما لا نستطیع أن نعلم إنْ كانت الكرة الأرضیّة أفضل أم كرة القمر. إذ أنّ لكلّ واحد منها خصائصَه الوجودیّة الخاصّة به ولا یَرِد على أیّ منها ثناء أو ذمّ من هذه الجهة. ولعلّ هذا هو الأساس الذی استند إلیه أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی ردّه على مَن ذمّ الدنیا فی حضرته حیث قال: «إنّ الدنیا دار صِدق لمَن صدَقها... ودار موعظة لمَن اتّعظ بها، مسجد أحبّاء الله، ومصلّى ملائكة الله،... ومتجَر أولیاء الله»[15] [464]. فأیّ سوء فی الدنیا یا ترى؟ فهاهنا المسجد الذی یهوی فیه أحبّاء الله على الأرض سُجّداً لربّهم، وهاهنا مصلّى ملائكة الله. وإنّ كلّ من یصدُق مع الدنیا تَصدُق الدنیا معه، فهی لا تُخفی عن أحد حقائقها، وإن فتّش المرء بصدق عن الموعظة والعبرة فستكون أفضل واعظ له. وهی متجَر أولیاء الله؛ فلولاها لما كان لأولیاء الله محلّ یتاجرون فیه بفعل الخیرات ویجنون لآخرتهم الأرباح. فأیّ مذمّة لدنیاً هذه صفاتها؟!
بالطبع من الممكن، انطلاقاً من هذا المفهوم، مقارنة الخصوصیّات الوجودیّة للدنیا والآخرة مع بعضها. فعالم الدنیا على سبیل المثال بكلّ ما بُیِّن له من سعة بسماواته السبع والمسافة التی تبلغ خمسمائة سنة بین كلّ سماء واُخرى، وسعة المنظومة الشمسیّة ونسبتها إلى مجرّة درب التبّانة، وغیر ذلك من الأرقام والأبعاد المذكورة بخصوص مسافات وحدود العالم، نقول هذا العالم مع كلّ هذه السعة التی لا یمكن تصوّرها بشكل صحیح ومع كلّ ما اُوتی من عظمة لا یسع الإنسان إلاّ أن ینحنی أمامها خضوعاً وإجلالاً، لا یمكن قیاسه بالجنّة التی أعدّها الله سبحانه وتعالى لأولیائه فی العالم الآخر؛ فعرضُ تلك الجنّة بعرض جمیع هذه السماوات والأرض. كما أنّ عمر هذا العالم لا یساوی شیئاً أمام عمر العالم الآخر. لكنّه ما من واحدة من هذه الصفات تندرج فی مقام التقییم. وحتّى القرآن الكریم فإنّه یقول بالنسبة لمقارنة من هذا القبیل: «اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِینَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَیْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِی الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَیْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ یَهِیجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ یَكُونُ حُطَاماً»[16] [465]؛ فحیاتكم فی هذا العالم، مع كلّ ما له من عرض وطول، لا تعدو كونها لهواً ولعباً وانّ كلّ ما تتفاخرون به من أموال وممتلكات وحسَب ونسب إنّما مَثَله كمَثَل مطر یفرح به المزارعون، لكنّ الزرع الأخضر الذی ینبت بسببه والذی یُعجب المزارعین سرعان ما یصفرّ ویجفّ فتنثره الریاح هنا وهناك. هذا هو مَثَل الدنیا؛ فهی كالشخص الیافع أو الشابّ الذی یذهب عنه نشاطه وغضاضته شیئاً فشیئاً حتّى یشیخ ثمّ تكون النتیجة «إنّا لله وإنّا إلیه راجعون»: «اللهُ الَّذِی خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَیْبَةً یَخْلُقُ مَا یَشَاءُ»[17] [466]؛ فالله قد خلق ابن آدم لیمرّ بكلّ هذه المراحل حتّى یموت فی نهایة المطاف.
فهذه مقارنة بین الحیاة الدنیا والحیاة الآخرة وهی لا تدلّ بالضرورة على سوء الحیاة الدنیا، بل هی تذكیر بأنّ الاُولى تختلف عن تلك التی تأتی بعدها اختلافاً كبیراً. فالمحاسبات الـتی تجری فی ذلك العالم تختلف عمّا هو موجود هنا، كما أنّ كلّ ما هو موجود فی هذا العالم من عقود وجعل واعتبارات، بما فی ذلك العلاقات النسبیّة والسببیّة، سیزول: «فَلاَ أَنْسَابَ بَیْنَهُمْ»[18] [467].
الاستخدام الآخر لمفردتی «الدنیا» و«الآخرة» هو لبیان العلاقة والنسبة فیما بینهما، والإرشاد إلى مقدار ما ینبغی أن نعمل لهذا العالم ومقدار ما یجب أن نعمل لذلك العالم. وفی هذه الحالة أیضاً فإنّ الدنیا لیست بمذمومة، لكنّها – بالطبع – قلیلة وحقیرة مقارنة بالآخرة: «قُلْ مَتَاعُ الدُّنْیَا قَلِیلٌ»[19] [468]. ومع ذلك فحتّى فی هذا المقام فإنّ الكلام لا یدور عن كون الدنیا سیّئة والآخرة جیّدة.
أمّا الاستخدام الثالث لمفردة: «الدنیا» والذی تُذكر فیه بالذمّ فهو یراد به التعلّق بها. فعندما یُقال إنّ فلاناً من الناس قد صارت الدنیا كلّ همّه وانحصرت فیها جمیع أهدافه ومقاصده، وأنّه لم یعد یقیم للآخرة وزناً بل نسیها أو أنكرها، فهذا هو التعلّق المذموم بالدنیا، الذی یعبَّر عنه بطلب الدنیا وحبّها والانشداد لها والذوبان فیها، والذی هو محطّ ذمّ، والذی غالباً ما عبّر عنه القرآن الكریم بتعبیر «إرادة الدنیا»، كقوله تعالى: «مَن كَانَ یُرِیدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِیهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِیدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ یَصْلَـٰهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً»[20] [469]، «فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ یُرِدْ إِلاَّ الْحَیَوٰةَ الدُّنْیَا * ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ»[21] [470]. فالمتعلّقون بهذه الدنیا هم اُناس جُهّال قد نسوا الحیاة الأبدیّة وتخیّلوا أنّ هذه الحیاة القصیرة العابرة الملیئة باللعب واللهو والاعتبارات الدنیویّة هی كلّ شیء. فالتعلّق بالدنیا والانشداد لها هو المذموم، ولیست الحیاة الدنیا نفسها. فمن حیث إنّه باستطاعة هذه الحیاة أن تؤمّن لنا السعادة الأبدیّة فإنّها نفیسة للغایة؛ بالضبط كحزمة الأوراق المالیة التی وإن كانت مجرّد ورق بید أنّه یمكننا شراء أشیاء قیّمة ونفیسة بها وهی – لهذا – قیّمة بالنسبة لنا. فإذا نظرنا إلى الدنیا من هذه الزاویة فسوف نجد أنّها لیست غیر مذمومة فحسب، بل هی نعمة عظمى منّ الله بها علینا، ولولا هذه النعمة لما بلغ أولیاء الله الكمال ولما استحقّوا الأجر والثواب. فسوء الدنیا ینبع من تعلّق قلوبنا بها وتضحیتنا بالآخرة فی سبیلها وصیرورتنا مریدین لها. «مَن كَانَ یُرِیدُ حَرْثَ الدُّنْیَا نُؤْتِهِ مِنْهَا»[22] [471]؛ أی: من كان یرید زراعة هذه الدنیا فسنعطیه نفس النتیجة التی تعلّق قلبه بها ثمّ إنّه لن یجنی فی الآخرة شیئاً: «ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ یَصْلَـٰهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً» بل وسیدخل جهنّم مدحوراً ذلیلاً. لكنّه: «مَن كَانَ یُرِیدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِی حَرْثِهِ»؛ فمن أراد زراعة الآخرة فسنبارك له فی زراعته ونزیده منها.
بناءً على ما تقدّم فإن لمصطلحَی «الدنیا» و«الآخرة» ثلاثة استخدامات: الأوّل بیان الخصوصیّات الوجودیّة للعالم الذی نعیش فیه الیوم فی مقابل العالم الذی یخلقه الله تبارك وتعالى بعد فناء الأوّل وتلاشی نظامه وهو عالم باقٍ لیس للفناء سبیل إلیه. والثانی یعنی جانباً من حیاة الإنسان الذی یتمتّع بحیاتین؛ حیاة هی فی هذا العالم فی مقابل حیاة اُخرى تكون فی العالم التالی. والثالث: التعلّق بهذا القسم من الحیاة. وكأنّ هذا المعنى كان فی الأساس موصوفاً ثمّ حُذف؛ مثل «حبّ الدنیا» أو «إرادة الدنیا». وكما أسلفنا من أنّ «الآخرة» هی صفة حلّت محلّ موصوفها، فإنّ «الدنیا» أیضاً هی صفة تمّ تناسی موصوفها تدریجیّاً فحلّت هی محلّ الاسم. فذمّ الدنیا أخلاقیّاً یرجع فی الواقع إلى موصوف خفیّ فی بواطننا، ألا وهو التعلّق بالدنیا. فالحیاة فی هذه الدنیا بمعزل عن هذا التعلّق محبَّذة وقیّمة، لأنّها نعمة عظیمة قد أسبغها الله علینا كی نزید بواسطتها فی علمنا وكمالنا ونكتسب بسببها الأجر والثواب لآخرتنا. فالذمّ هو للتعلّق بالدنیا والانخداع بها وإحلالها محلّ الآخرة، وجعل الوسیلة محلّ الغایة. ومن هنا فإنّها تُعرَّف بعبارة: «مَتَاعُ الغُرُورِ»[23] [472].
الآخرة التی ینغبی لنا الإیمان بها هی الحیاة النهائیّة بعد الموت التی سنُثاب أو نُعاقب فیها على أعمالنا. وحتّى من الناحیة القیمیّة فلابدّ أن تصغُر الدنیا جدّاً فی أعیننا؛ لأنّ الهدف ینحصر فی ذلك العالم وانّ عالم الدنیا برمّته لا یساوی حتّى رمشة عین فی مقابل عمر یستمرّ ألف عام. فالآخرة لا نهایة لها أمّا الدنیا فمتناهیة. بالطبع إنّ علینا – فی مقام التقییم – أن نقدر هذه الدنیا حقّ قدرها، إذ انّ ما لا نهایة له من السعادة لا یتسنّى اكتسابه إلاّ من خلال هذا العمر الدنیویّ القصیر الذی لا یعدو كونه لعباً ولهواً. فإذا تعلّقت قلوبنا بهذه الدنیا وصار هذا التعلّق عقبةً أمام السیر نحو الآخرة، فنحن خاسرون. وعلى هذا الأساس یقول مولانا أمیر المؤمنین (علیه السلام): «ولَدنیاكم أهون عندی من ورقةٍ فی فِیّ جرادة تقضمها وأقذر عندی من عُراقَة خنزیر یقذف بها أجذَمُها»[24] [473]؛ أی: أقذر من عظم خنزیر میّت فی ید شخص مصاب بالجذام. أمّا إذا أنفق عمر هذه الدنیا فی العبادة فإنّ كلّ لحظة فیها أثمن عند علیّ من مُلك آلاف من سنین الدنیا، بل إنّه لا یبیع حتّى ثانیةً واحدة منها بكلّ زخارفها.
نقول ذلك لنعلم ما الذی ینبغی لنا أن نسعى وراءه فی مقام العمل وتقییم الاُمور وتحدید الهدف فی حیاتنا. فلابدّ أن یكون همّنا هو حثّ الناس على عدم نسیان الآخرة. فإنّ جمیع الأنبیاء قد جاءوا لإثبات أمرین هما الإیمان بالله والإیمان بالیوم الآخر. ونحن من دون هذه المعتقدات سنمسی أخسّ حتّى من الحیوانات. یقول جلّ وعلا فی كتابه العزیز: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِینَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ یُؤْمِنُونَ»[25] [474]. فقیمة الإنسان هی بإیمانه بالله واعتقاده بالیوم الآخر. ومن هنا فلابدّ أن نحمل هذا الهمّ وهو أنّ لا ندع الناس یضلّون عن عقیدتهم وینسون أنّه ثمّة حیاة آخرة، وأنّها هی الهدف، وأنّ هذه الدنیا هی مجرّد وسیلة.
إنّ مسألة الاعتقاد بالیوم الآخر كانت أهمّ ما أكّد علیه الأنبیاء، وانّ قوام إنسانیّة الإنسان وفهمه الصحیح وقیمة معرفته تكمن فی الإیمان بأنّ عالم الآخرة هو القسم الأساسیّ من حیاة الإنسان وأنّ الحیاة الدنیا بالنسبة لذلك العالم هی أشبه ما تكون بالمرحلة الجنینیّة. فالقرآن الكریم یقول: «إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِیَ الْحَیَوَانُ»[26] [475]. فالحیاة أساساً هی هناك. فحتّى الكافر یقول یوم القیامة: «یَالَیْتَنِی قَدَّمْتُ لِحَیَاتِی»[27] [476]؛ أی: یالیتنی فكّرت بحیاتی وقدّمت لها شیئاً! ففی مثل ذلك الیوم یلتفت الكافر إلى أنّ ما مضى فی الدنیا لم یكن حیاةً، بل موتاً بطیئاً، أمّا الحیاة الحقیقیّة فهی هنا.
إنّ العمود الفقریّ لجمیع الأدیان هو الاعتقاد بالتوحید والمعاد. وهذا هو أساس جمیع القیم وإنّ سلوكیّات جمیع الناس تتشكّل وتُقیَّم على أساس هذه العقیدة، وهی العقیدة التی ینبغی لكلّ مسلم أن یكون همّه الأوّل هو صیانتها والحفاظ علیها.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
[1] [477]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.
[2] [478]. سورة الحدید، الآیة 3.
[3] [479]. سورة النمل، الآیة 89.
[4] [480]. سورة القصص، الآیة 77.
[5] [481]. سورة العنكبوت، الآیة 20.
[6] [482]. سورة اللیل، الآیة 13.
[7] [483]. سورة الإنفطار، الآیة 2.
[8] [484]. سورة التكویر، الآیة 2.
[9] [485]. سورة القیامة، الآیة 9.
[10] [486]. سورة التكویر، الآیة 1.
[11] [487]. سورة طٰه، الآیتان 106 و107.
[12] [488]. سورة الحدید، الآیة 21.
[13] [489]. سورة الروم، الآیة 43.
[14] [490]. سورة التكویر، الآیة 6.
[15] [491]. نهج البلاغة، الحكمة 131.
[16] [492]. سورة الحدید، الآیة 20.
[17] [493]. سورة الروم، الآیة 54.
[18] [494]. سورة «المؤمنون»، الآیة 101.
[19] [495]. سورة النساء، الآیة 77.
[20] [496]. سورة الإسراء، الآیة 18.
[21] [497]. سورة النجم، الآیتان 29 و30.
[22] [498]. سورة الشورى، الآیة 20.
[23] [499]. سورة آل عمران، الآیة 185، وسورة الحدید، الآیة 20.
[24] [500]. بحار الأنوار، ج40، ص348.
[25] [501]. سورة الأنفال، الآیة 55.
[26] [502]. سورة العنكبوت، الآیة 64.
[27] [503]. سورة الفجر، الآیة 24.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 2 تموز 2014م الموافق للیلة الخامسة من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
قلنا فی المحاضرة الفائتة، توضیحاً لمفهوم الآخرة فی المصادر الإسلامیّة، إنّ مفردة «الآخرة» قد استُخدمت فی القرآن والسنّة بثلاثة معانٍ: الأوّل بمعنى العالم الذی سیُخلق بعد تلاشی الشمس والقمر والنجوم وباقی ظواهر هذا العالم والنظام المهیمن علیه، وهو عالم یتمتّع بخصوصیّات معیّنة لا ندرك حقیقتها بدقّة. وهنا یُنظر إلى الآخرة من زاویة علم الوجود. والمعنى الثانی هو النوع الثانی من حیاة الإنس والجنّ كموجودات ذات حیاتین: حیاة قصیرة عابرة فی هذا العالم تنتهی بالموت، وحیاة أبدیّة باقیة فی العالم الآخر تبدأ بالموت. وهذا المعنى هو مفهوم یرتبط بعلم الإنسان. والمعنیان المذكوران یفصحان عن حقیقة عینیّة ولیس فی میسورنا، استناداً إلیهما، القول بأنّ الدنیا مذمومة. أمّا المعنى الثالث للدنیا والآخرة فهو مفهوم قیمیّ وأخلاقیّ یحكی عن التعلّق باللذائذ التی یتمتّع بها الناس فی القسم القصیر والمؤقّت من حیاتهم (الدنیا)، وهو مفهوم یفسَّر فی واقع الأمر بحبّ الدنیا أو التعلّق بها. وقد عبّر القرآن الكریم عن هذا المفهوم ﺑ «إرادة الدنیا» كقوله: «مِنكُم مَّن یُرِیدُ الدُّنْیَا وَمِنكُم مَّن یُرِیدُ الآخِرَةَ»[1] [504]. وإنّ ما ذكرته الروایات وتوصیات علماء الأخلاق فی ذمّ الدنیا ناظر إلى هذا المفهوم؛ أی الانشداد إلى اللذّات المادّیة المؤقّتة المتوفّرة للمرء فی هذا القسم من حیاته، وهو الانشداد الموجب للقول بالأصالة للحیاة الدنیا ولذّاتها، والحال أنّ الأصالة هی من نصیب الحیاة الآخرة وما الدنیا إلاّ وسیلة للوصول إلیها. إذن علینا الالتفات إلى الاختلاف القائم بین هذه المعانی الثلاثة كی لا نخلط بین أحكامها.
أمّا السؤال التالی فهو: أیّ معنىً من هذه المعانی الثلاثة تریده الآیات والروایات؟ فعندما تقول الآیة الشریفة مثلاً: «فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا»[2] [505]، فما هو المراد من الاغترار بالحیاة الدنیا؟ أوَلم یقل أمیر المؤمنین (علیه السلام): «إنّ الدنیا دار صِدق لمَن صدَقها»[3] [506]؟ فإن كانت الدنیا صادقة، فكیف تغرّنا إذن؟ وللإجابة على هذا السؤال یتعیّن أوّلاً مناقشة مكانة الآخرة فی النظام العقائدیّ والقیمیّ للإسلام. وهو بحث له صلة بالتأكید المتكرّر لقائد الثورة الإسلامیّة على الجانب الثقافیّ وتوصیاته بضرورة الحیلولة دون اختراق ثقافتنا من قبل الأعداء. ولا بأس، من هذا المنطلق، أن نشیر فی بدایة حدیثنا إلى الثقافة.
لقد قُدّمت للثقافة معانٍ شتّى وطُرحت حول هذا الموضوع فی الأوساط الأكادیمیّة بحوث مستفیضة، من بینها المفهوم المقبول لدینا وهو «المعتقدات والقیم». وعلى أساس هذا التعریف تُعدّ سائر الاُمور - التی تطرح أحیاناً بعنوانها ثقافة – مقدّمات أو مظاهر أو نتائج للثقافة. وعلیه فمن أجل دراسة مكانة «الآخرة» فی الثقافة الإسلامیّة یتحتّم علینا اكتشاف محلّها فی منظومتنا العقائدیّة والقیمیّة.
خلافاً للنظام الثقافیّ الإسلامیّ فنحن لا نجد بین المعتقدات والقیم فی بعض الثقافات من علاقة، لا بل من الصعوبة تقدیم نظام ثقافیّ منسجم لهذه الثقافات، إنّما هی مجموعة من الآداب والتقالید والمعتقدات وحتّى الخرافات – كاللغة، واللهجة، ومختلف الآداب والتقالید المعمول بها فی مراسم العزاء والفرح، والرقصات المحلّیة، وأشیاء من هذا القبیل - یجمعونها سویّة ویطلقون على هذه الخلطة اسم «ثقافة». لكنّهم لا یحاولون خلق أو اكتشاف العلاقة بین العناصر المختلفة للمعتقدات والقیم، بل ویصرّح بعضهم بعدم وجود مثل هذه العلاقة أساساً. وتُعدّ مسألة العلاقة بین الحقائق والقیم من المباحث المرتبطة بفلسفة القیم والأخلاق وقد طُرحت حولها بحوث واسعة وصُنّفت فیها مؤخّراً مصنّفات قیّمة. ونشیر هنا بشكل مجمل إلى خلاصة هذه المباحث بالمقدار الذی یرتبط بموضوعنا.
إنّ عقائدنا تنحصر فی اُصول الدین والمذهب. فالمؤمن بهذه الاُصول الخمسة یكون مؤمناً وشیعیّاً، أمّا إذا لم یعتقد المرء بواحد من اُصول الدین الثلاثة، فقد أنكر ضرورة من ضروریّات الدین ولهذا یُعَدّ خارجاً منه، كما أنّ غیر المعتقد بواحد من أصلَی المذهب یُعدّ خارجاً من التشیّع. وبناءً علیه فإنّ مكانة الآخرة فی نظامنا العقائدیّ هو الإیمان بأنّ الإنسان سیُبعث بعد الموت وسیرى عاقبة عمله.
لكن هل لهذه العقیدة صلة بنظامنا القیمیّ؟ والجواب على هذا السؤال: نعم؛ ذلك أنّ الاعتقاد بالإله الواحد من جهة، وبالیوم الآخر من جهة ثانیة له دور مهمّ جدّاً وجوهریّ فی نظامنا القیمیّ. فكلّنا یعلم أنّ سلوك غیر المعتقد بیوم القیامة یختلف عن سلوك المعتقد به. كیف؟ لأنّ الشخص المعتقد بالیوم الآخر یعلم أنّه مسؤول عن أعماله وعلیه أن یهیّئ جواباً لكلّ تصرّف یقوم به. ومن هنا فإنّه یملك الدافع للقیام بالصالحات وترك السیّئات. أمّا غیر المؤمن بالآخرة فهو – حتّى وإن آمن بالله – سیتصوّر أنّه ما من أحد سیحاسبه على أعماله وأنّه لو كان ثمّة ثواب وعقاب فسیكونان فی هذه الدنیا.
ومن هنا فإنّ الاعتقاد بالآخرة له أعظم الأثر على سلوكیّات الإنسان ونظامه القیمیّ. وقد أشار القرآن الكریم إلى هذه القضیّة فقال: «یَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِیفَةً فِی الأَرْضِ فَاحْكُم بَیْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَیُضِلَّكَ عَن سَبِیلِ اللهِ إِنَّ الَّذِینَ یَضِلُّونَ عَن سَبِیلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِیدُ بِمَا نَسُواْ یَوْمَ الْحِسَابِ»[4] [507]؛ فالذین ینحرفون عن جادّة الصواب ویُسیئون التصرّف ویقترفون المعاصی سیعذَّبون یوم القیامة عذاباً شدیداً لأنّهم نسوا أنّهم سیحاسبون، وكلّما سنحت لهم الفرصة وبغضّ النظر عن أنّهم مجازون بفعل ذلك أم لا، فإنّهم لا یتورّعون عن إطلاق العنان لشهواتهم ولا یكبحون جماح غضبهم ویمارسون كلّ موبقة. ومن هنا فإنّ معتقداتنا، لاسیّما الإیمان بالیوم الآخر بالمعنى المشار إلیه فی المحاضرات السابقة، لها فائق الأثر على نظامنا القیمیّ والسلوكیّ. فإن اعتقد المرء بأنّ الإنسان سیُمضی قسماً من حیاته فی هذا العالم وقسماً آخر فی عالم ثانٍ، وكما أنّه یمارس فی هذه الدنیا بعض التصرّفات ثمّ یثاب علیها فإنّ بإمكانه ممارسة سلوكیّات معیّنة لیثاب ویؤجَر علیها فی العالم الآخر، فهذا هو الاعتقاد بالمعاد. فالاعتقاد بالمعاد یعنی أنّنا سنرى فی الآخرة عاقبة كلّ تصرّف نقوم به فی الدنیا، وهو عالم مُعدّ لتلقّی نتائج أعمالنا الدنیویّة فقط والعمل فیه غیر متاح.
تأسیساً على ما ذُكر فلابدّ فی مقام تقییم الأعمال أن نضع فی نظر الاعتبار ما سیتركه كلّ عمل من أثر على حیاتنا الأبدیّة فلا نكتفینّ بما نجنیه منه من مصالح ولذائذ دنیویّة. فعلى العكس من بعض المدارس الأخلاقیّة التی ترى أنّ مناط القیمة هی اللذّة - وهو ما یُعدّ فی الواقع إنكاراً للنظام القیمیّ والأخلاقیّ، لأنّه سیؤدّی إلى أنّ كلّ امرئ سیتصرّف على مزاجه – فإنّ النظام الأخلاقیّ الإسلامیّ مبنیّ على المنظومة العقائدیّة؛ فمضافاً إلى الآثار الدنیویّة للعمل فإنّ آثاره على حیاة الإنسان الأبدیّة توضَع بعین الاعتبار فی مقام عملیّة تحدید القیمة له. وبعیداً عن هذا الملاك ستكون أحكامنا القیمیّة خاطئة وفاقدة للرصید العقلانیّ. ولذا فإنّ تصنیف السلوكیّات إلى حسنة وقبیحة فی حیّز الدین یقوم على أساس هذه المعادلات، خلافاً للكثیر من أنظمة العالم القیمیّة حیث یَعدّ أفضلُها معیار الحسن والقبح ثناءَ العقلاء وذمّهم؛ فإن امتدح العقلاء تصرّفاً أصبح فی رأیهم حسناً، وإذا ذمّوه صار قبیحاً، ولیس لارتباط السلوك بالآخرة موطئ قدم فی هذا النظام. لكن مَن هم العقلاء؟ وما هو معیار القیمة فی حكمهم؟ وإلى ماذا یستندون فی أحكامهم؟ و...الخ، فهذا غیر معلوم. فكلّ ما عدّه الناس حسناً فهو حسن. ومن الواضح أنّ نظاماً كهذا هو نظام ضعیف ویفتقر إلى الأساس العقلانیّ المتین؛ ذلك أنّه فی مقام وزن وتقییم تصرّفٍ ما یتعیّن وضع جمیع آثاره إلى أبد الآبدین فی الحسبان، ولـمّا كنّا غیر قادرین على إجراء مثل هذه الحسابات، فنحن إذن بحاجة إلى الدین.
اعتماداً على ما تقدّم فلابدّ – من ناحیة - أن نعتقد بأنّ عالماً آخر سیأتی بعد هذا العالم. كما ینبغی لنا – من ناحیة اُخرى – أن ننظر فی أثر هذه العقیدة على سلوكنا ونظامنا القیمیّ. وهذه العقیدة هی من أشدّ عقائدنا أصالةً وقد أكّد علیها القرآن الكریم فی آیات عدیدة؛ كقوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِاللهِ وَبِالْیَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِینَ * یُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِینَ ءَامَنُواْ وَمَا یَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا یَشْعُرُونَ»[5] [508].
كلّنا یعلم أنّ الإیمان بالیوم الآخر هو من أهمّ عقائدنا بحیث إنّ المنكر له كافر، لكن إلى أیّ مدىً یُعدّ هذا الاعتقاد مؤثّراً فی أعمالنا؟ یورد القرآن الكریم فی هذا الباب تعبیراً ملفتاً فیقول: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِی رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ یَرْجُواْ اللهَ وَالْیَوْمَ الآخِرَ»[6] [509]؛ أی: إنّ المتأسّین برسول الله (صلّى الله علیه وآله) هم الذین یرجون أن یمثلوا بین یدی الله یوم القیامة. وهذا الرجاء هو إحساس حیّ وهو یختلف عن الاعتقاد بیوم القیامة. فالإنسان یعلم اُموراً كثیرة لكنّه غافل عن معظمها، حتّى یُلفَت انتباهه إلیها. وهذا العلم هو غیر الرجاء الذی یحیی الاعتقاد فی ذهن المرء وقلبه ویجعله منشأً للأثر. فالذین یرجون المثول بین یدی الله واستلام الأجر على أعمالهم فی الیوم الآخر یتعیّن علیهم أن یتأسّوا بالنبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله). ولعلّ المراد من «الظنّ» فی قوله تعالى: «الَّذِینَ یَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُواْ رَبِّهِمْ»[7] [510] هو هذه الحالة، ولیس الظنّ فی مقابل الشك ّوالیقین.
إذن فإن كان اعتقادنا بیوم القیامة حیّاً ولم یقبع فی أعماق قلوبنا تحت طبقات من الحُجُب فإنّ من شأنه أن یكون ذا أثر فی أعمالنا. وكلّما زادت هذه العقیدة غضاضة واشتدّ حضورها فی أذهاننا زاد أثرها على أنواع سلوكنا. فإنّ أقوى ضامن للعمل بأوامر الشرع ونواهیه وامتثال القوانین المعتبرة هو نفس هذا الرجاء للیوم الآخر والمحاسبة على نتیجة الأعمال والالتفات إلى هذه العقیدة، وفی المقابل فإنّ نسیان الأخیرة من شأنه أن یجرّ المرء إلى التدنّس بالمعاصی. فلعلّ جواب الكثیرین ممّن سیتورّطون بالعذاب إذا سئلوا عن هذه العقیدة هو: نحن نقرّ بیوم القیامة! لكن وكأنّهم لم یعتقدوا بذلك أبداً، والسبب هو أنّها لم تكن حاضرة فی حیاتهم. فالعقیدة لا تكون ذات أثر إیجابیّ فی نظامنا القیمیّ والسلوكیّ إلاّ إذا كانت حاضرة فی عقولنا وقلوبنا حضوراً فعّالاً، ولذا فإنّ نسیانها أیضاً سیكون له أثر سلبیّ.
إذن یتعیّن علینا الاهتمام بالاعتقاد بالله والإیمان بالیوم الآخر اللذین لهما أكبر الأثر فی حیاتنا وأن نستحضرهما دائماً فی أرواحنا. وثمرة ذلك هو أنّ على الإنسان أن یسعى لفعل الصالحات. وهنا، حیث تُطرح مسألة تشخیص الحسن والقبیح، یأتی بحث النبوّة؛ وهو أنّه لابدّ من وجود أنبیاء یبعثهم الله تعالى لیدلّوا الناس على الأعمال التی توجب رضا الله عزّ وجلّ.
إنّ من عجائب حكمة الله عزّ وجلّ هی أنّه خلق كائناً بإمكانه أن یقوم بدور الممثّل والمشاهد فی آن معاً، فهو باستطاعته أن یراجع سلوكه ویقیّمه أیضاً. فمثلاً إنّ ما یجتذب الإنسان بشكل طبیعیّ إلى مائدة الطعام هو الجوع. ولذا فإنّ إشباع الجوع أو الشعور باللذّة أثناء تناول الطعام یُعدّ محفّزاً یسوق الإنسان إلى إعداد الطعام وتهیئة كلّ المقدّمات اللازمة لذلك. فلو راجعنا جمیع ألوان سلوكنا لوجدنا أنّ لدینا دافعاً لكلّ واحد منها. وهذه الدوافع تتأثّر بنظامنا القیمیّ. فقد یكون دافعنا لجمیع هذه الحركات والسكنات هو لذائذ الدنیا أو آلامها، ونحن إنّما نقوم بالعمل فللتمتّع بلذّة أو الفرار من ألم. فنحن نتجشّم متاعب جمّة لبلوغ أمانینا وكلّما زادت معرفتنا بالدنیا طالت آمالنا وعرضت أمانینا. فنحن نسعى وراء الرزق كی نتزوّج وننجب الأطفال، ونفتّش عن عمل لترقى منزلتنا الاجتماعیّة ونحظى بالمزید من احترام الناس، وهكذا. وبعد كلّ ما نحمله لأنفسنا من الأمانی فنحن نفكّر بمستقبل أولادنا أیضاً.
كلّ هذه الطلبات والمیول تترك آثارها على أعمالنا وبإمكانها أن تجرّنا إلى طلب الدنیا. لكن من الممكن أن تُنجز جمیع هذه الأعمال، بما فیها لحظ العیون، بدافع الآخرة. فالنظر إلى الوالدین إحساناً لهما فیه أجر وثواب اُخرویّان، والنظر إلى وجه العالم والسادة [من أولاد رسول الله (صلّى الله علیه وآله)] عبادة. فباستطاعة الإنسان جنی الثواب بمجرّد فتح عینیه والنظر إلى شخص ما. هی نفس حركات العین، ونفس حركات الید والرجل، ونفس الجلوس والقیام والأكل والنوم، لكنّ قیمتها تختلف باختلاف الدافع والمحفّز. والدافع بدوره ینبع من الرؤیة؛ فلو انطلق الإنسان من رؤیة أنّ كلّ شیء وكلّ لذّة دنیویّة مادّیة وكلّ سلوك ستكون له قیمة، وصدّق بأنّه ثمّة فوق اللذائذ المادّیة اُمور ولابدّ أن یقیم لها حساباً، فستكتسب أعماله قیمة اُخرى.
إنّ لهاتین الرؤیتین قطبین: الأوّل هو أن لا یفكّر المرء بالآخرة طرفة عین منذ أوّل لحظة حتّى آخر لحظة من حیاته، والثانی - فی المقابل – یتمثّل باُولئك الذین یعدّون حیاتهم بأسرها سفَراً ومقدّمة لحیاة اُخرى سیرون فیها حصیلة ما قدّموه من أعمال وسلوك فی هذا العالم، وإنّ كلّ اهتمامهم منصبّ على ذلك العالم. فشخص كهذا یسعى وراء كسب الثواب والنجاة من العذاب الاُخرویّ حتّى فی نظرته، فهو إن احتمل المعصیة حتّى من نظرة واحدة غضّها: «یَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ»[8] [511]. فالنظرة نفس النظرة، والمشی ذات المشی، والأكل عین الأكل، أمّا اختلافها فی القیمة فهو من السماء إلى الأرض. وبین هذین القطبین مراتب لا تحصى ولا تُعدّ: «وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءَاخَرَ سَیِّئاً»[9] [512]، فثمّة اُناس یمیلون تارة إلى هذا القطب وتارة اُخرى إلى القطب الآخر.
وإنّه بطرح قضیّة نمط الرؤیة إنّما یتمّ الحدیث عن عملیّة تقییم الأعمال. فالذین نسوا الآخرة تماماً أو أنكروها فإنّ كلّ اهتمامهم ینصبّ على ما یجنونه فی هذه الدنیا. وحتّى فی التحرّكات الاجتماعیّة الضخمة كالثورة فإنّهم یسعون لنیل الراحة والطمأنینة الدنیویّتین. وفی رأی هؤلاء فإنّ أرقى قیمة یمكن طرحها للإنسان هی العدالة الاجتماعیّة. لكن هل إنّ هذه العدالة هی منتهى المطاف أم هی وسیلة لبلوغ قیم أخلاقیّة أسمى؟ یقول تعالى: «بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِی الآخِرَةِ»[10] [513]؛ فمنتهى علم أمثال هؤلاء هو هذه الدنیا فهم یصلون بالموت إلى طریق مسدود.
فكلّ ما قیل فی إطار طلب الدنیا وطلب الآخرة إنما یُختزل فی ماهیّة نیّاتنا ودوافعنا، وبالتالی رؤیتنا إلى الحیاة الدنیا والآخرة وتقییمنا لهما. بالطبع لا یمكن طرح هذه المباحث إلاّ عندما یكون ثمّة اعتقاد بالمعاد بالمفهوم الذی سبق ذكره، وإلاّ فلیس من جدوىً منها؛ فلا معنى لتأثیر الأعمال الدنیویّة فی الآخرة بالنسبة لمن ینكر الیوم الآخر. إذن فلابدّ من تثبیت هذه العقیدة فی نفس الإنسان أوّلاً، لیكون لها أثر على ألوان سلوكه فیصبح طالب آخرة: «مِنكُم مَّن یُرِیدُ الدُّنْیَا وَمِنكُم مَّن یُرِیدُ الآخِرَةَ»، «وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْیَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ كَانَ سَعْیُهُم مَّشْكُوراً»[11] [514].
لكن لماذا الذمّ لطلب الدنیا؟ لأنّ طالب الدنیا سوف لا یجنی من سعادة الآخرة شیئاً. فهو لم یعمل لآخرته كی یرى ثمرته فی الآخرة. فلقد أنجز ما أنجزه فی سبیل الدنیا وحصل على نتائجه الدنیویّة فیها. وسیقال لأمثال هؤلاء فی یوم القیامة: «أَذْهَبْتُمْ طَیِّبَاتِكُمْ فِی حَیَاتِكُمُ الدُّنْیَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا»[12] [515]؛ فلقد أتیتم بما أتیتم به فی حیاتكم الدنیا من أجل متعتكم وجنیتم ثمار أعمالكم فیها، إذن فلیس لكم فی الآخرة شیء. بالطبع إنّ الله یقول فی آیة اُخرى: الذین یعملون لدنیاهم لا ینالون كلّ ما یصبُون إلیه: «مَّن كَانَ یُرِیدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِیهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِیدُ»[13] [516]. فطالبو الدنیا یودّون لو امتلكوا العالم بأسره وحازوا على أفخم القصور، وأفضل المناصب، وأمتع المسرّات، و...الخ، لكن هل سینالون كلّ ما یطلبون؟ كلا، لأنّه لو كان الأمر كذلك لما اندلعت فی العالم كلّ هذه الحروب والصراعات. فإنّ تزاحم إرادات طالبی الدنیا هو وراء كلّ هذه الحروب. أمّا طالبو الآخرة فإنّ الله یعطیهم فوق ما یفكّرون به: «لَهُم مَّا یَشَاءُونَ فِیهَا وَلَدَیْنَا مَزِیدٌ»[14] [517]، ذلك أنّ أغلب ما یهبه الله من الثواب غیر قابل للتصوّر بالنسبة للبشر، وهم – لذلك – لا یطلبونه. غیر أنّ الله یعرّفنا فی آیة اُخرى بطائفة اُخرى من طالبی الآخرة على هذا النحو: «وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْیَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ كَانَ سَعْیُهُم مَّشْكُوراً» فهو تعالى یبیّن ثواب هؤلاء عبر تعبیر یفوق تعبیر الأجر بقوله: «فَأُوْلَـٰئِكَ كَانَ سَعْیُهُم مَّشْكُوراً»، وهو تعبیر غایة فی علوّ المضمون ونحن عاجزون عن استیعابه. فالله عزّت أسماؤه یتشكّر من عبده على عمل هو تعالى الذی وفّقه إلیه وغرس فی نفسه الدافع لفعله، وبیّن له السبیل إلیه، ووفّر له أسبابه لیتمكّن العبد فی النهایة من إنجازه: «فَأُوْلَـٰئِكَ كَانَ سَعْیُهُم مَّشْكُوراً»؛ فلا تسألنّ عن الثواب الذی سیعطیه الباری عزّ وجلّ لهؤلاء!
لقد ذكرنا أنّه یمكن تصوّر قطبین لطلب الدنیا وطلب الآخرة فی النظام القیمیّ الإسلامیّ: أوّلهما قطب نسی فیه ابن آدم الآخرة وأنكرها بالكامل، وقطب صبّ فیه كلّ اهتمامه على الآخرة. والمصداق البیّن لأصحاب القطب الثانی ممّن یندر أن یُعثر على أمثالهم بین عامّة الناس هم الأنبیاء والأولیاء (صلوات الله علیهم أجمعین). ولعلّ بعض المتربّین فی مدرستهم یتّصفون بهذه الصفات أیضاً. لكنّ السواد الأعظم من الناس یقعون بین هذین القطبین فتارة یذكرون الآخرة وتارة ینسونها. وهنا ینبغی لنا العمل على إحیاء الاعتقاد بالآخرة فی قلوبنا واستحضاره باستمرار كی یلقی بأثره على أعمالنا. فقد جاء فی الخبر: «أكیَس الناس مَن كان أشدّ ذكراً للموت»[15] [518]. إذ كلّما كان المرء ذاكراً للموت والحساب والقیامة فإنّه سیحسّن أعماله ویراقب حیاته. وهذه هی الكیاسة والفطنة. أمّا إذا نسی الموت فسیُبتلى بالجهل والغفلة. وشخص كهذا فاقد للكیاسة والفطنة وسرعان ما ینخدع. بناءً علیه فعلینا أن ننظر كیف ننمّی ذكر الموت والمعاد فی أذهاننا كی تصلح ألوان سلوكنا نتیجة ذلك.
الموضوع الآخر الذی یُطرح تعقیباً على هذه المسألة هو: هل إنّ الاهتمام بالآخرة یقتصر على حیّز المسائل الفردیّة أم إنّه مطروح أیضاً فی إطار الأبعاد الاجتماعیّة؟ وهل یتحتّم علینا، مضافاً إلى ضرورة تفكیرنا بالیوم الآخر، أن نذكّر الآخرین به؟ هل هناك مسؤولیّة قانونیّة ورسمیّة ملقاة على أشخاص معیّنین تلزمهم بحثّ الناس على التفكیر بالآخرة؟ وهل على الجهاز الحكومیّ من مسؤولیّة فی هذا المجال، أم إنّ هذه المهمّة ملقاة على مَن یصفهم البعض ﺑ «الواهمین والبطّالین»؟! وهل إنّ مهمّة التذكیر بالآخرة وتنظیم العلاقات بین أفراد المجتمع بما ینفع آخرتهم هی - فی النظام الإسلامیّ - من واجبات الحكومة والمسؤولین والمتعهّدین الاجتماعیّین؟ بالطبع إنّ بیان مهامّ الحكومة ومسؤولیّاتها فی المجتمع الإسلامیّ وعلاقة الحكومة بالشعب یتطلّب بحثاً مسهباً یتعیّن التعرّض له فی حقل فلسفة السیاسة.
لكنّ ما یرتبط ببحثنا هو: هل تمّ، فی النظام القیمیّ للإسلام الذی یهتمّ بإحیاء ذكر الآخرة، تعیین حدٍّ واجبٍ لهذا الأمر بحیث إنّ عدمه یعرّض أفراد المجتمع للخسران؟ أم إنّ ذكر الموت هو من الفضائل التی كلّما نمت زاد حظّ الإنسان من ثوابها؟ وهل بإمكاننا القول إنّ الغفلة عن مرتبة من مراتب ذكر الآخرة تعادل إنكار الدین وأنّ نسیانها یلحق المرء تدریجیّاً بملّة الكفر؟
إنّ الأثر الذی یلقیه الاعتقاد بالآخرة (وغیره من المعتقدات) على تصرّفات الإنسان یبعث على الدهشة. وإنّ فی میسورنا الوقوف على أمثلة من هذا الأمر بالتمعّن فی آیات الذكر الحكیم. فالقرآن على سبیل المثال یقول: بعض الناس یستاءون وتشمئزّ قلوبهم إذا ذكر الله وحده: «وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِینَ لاَ یُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ»[16] [519]. فالذین ینزعجون من البحث فی موضوع التوحید ومعرفة الله وعبادته هم الذین لا یؤمنون بالآخرة، ولیس أنّهم لا یُقبِلون على هذه المواضیع فحسب، بل ویشمئزّون منها أیضاً! ألَم تسمعوا البعض یقول: «الاُمّیون والبطّالون فقط هم الذین یتحدّثون عن هذه الامور! انظروا إلى أین وصلت أمیركا، ونحن لا نزال سعداء بالثورة»!
إنّ سبب هذا الاشمئزاز من البحث فیما یتّصل بالله ومعرفته والتوحید هو انعدام الإیمان بالآخرة. بمعنى أنّ إنكار الآخرة أو ضعف الإیمان بها یقود إلى ضعف الإیمان بالتوحید أیضاً. فعدم الاهتمام بالآخرة یسلب من الإنسان توحیده، ولا یفسد علیه حیاته الدنیا فحسب، بل ویسلب منه سعادته فی الآخرة، ویبتلیه بعذاب شدید، ویورّطه بخزی الدنیا أیضاً.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
[1] [520]. سورة آل عمران، الآیة 152.
[2] [521]. سورة لقمان، الآیة 33.
[3] [522]. نهج البلاغة، الحكمة 131.
[4] [523]. سورة ص، الآیة 26.
[5] [524]. سورة البقرة، الآیتان 8 و9.
[6] [525]. سورة الأحزاب، الآیة 21.
[7] [526]. سورة البقرة، الآیة 46.
[8] [527]. سورة النور، الآیة 30.
[9] [528]. سورة التوبة، الآیة 102.
[10] [529]. سورة النمل، الآیة 66.
[11] [530]. سورة الإسراء، الآیة 19.
[12] [531]. سورة الأحقاف، الآیة 20.
[13] [532]. سورة الإسراء، الآیة 18.
[14] [533]. سورة ق، الآیة 35.
[15] [534]. من لا یحضره الفقیه، ج4، ص395.
[16] [535]. سورة الزمر، الآیة 45.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 3 تموز 2014م الموافق للیلة السادسة من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
لقد تناولنا فی المحاضرات الأخیرة مقطعاً من حدیث المعراج الذی یخاطب الله عزّ وجلّ فیه نبیّه (صلّى الله علیه وآله) بالقول: «وأمّا الحیاة الباقیة فهی التی یعمل لنفسه حتّى تهون علیه الدنیا وتصغُر فی عینیه وتعظُم الآخرة عنده»[1] [536]. وانطلاقاً ممّا ورد فی الحدیث من التوصیة باستصغار الدنیا فقد تعرّضنا لمباحث حول «الدنیا» و«الآخرة» من وجهات نظر مختلفة مبیّنین فی بادئ الأمر المفهوم المرتبط بعلم الوجود لهاتین المفردتین باعتبارهما قسمین لعالم الوجود یتحقّق أحدهما بعد الآخر، وهو مفهوم یناقشه عِلم الفلسفة وعلم الكلام. وقد تناولنا متابعةً للموضوع مفهوماً آخر للدنیا والآخرة باعتبارهما قسمین من حیاة الإنسان وقلنا: إنّ الإنسان كائن یولَد فی هذه الدنیا ثمّ ینتقل بعد مدّة محدودة، بالعبور من مرحلة الموت، إلى القسم الثانی من حیاته وهو قسم أبدیّ وباقٍ، وهذا مفهوم یناقشه علم الإنسان الفلسفیّ. ثمّ تطرّقنا بعد ذلك لمفهوم آخر لهاتین الكلمتین یتناوله علم الأخلاق، وهو مفهوم یُطرح فی مقام تقییم هذین الجزءین من حیات ابن آدم. ومن الجدیر بالذكر هنا أنّ هذا التقییم یُطرح ضمن الثقافة الدینیّة، وقد لا یكون طرحُه بهذه الصورة مسبوقاً فی الثقافات الاُخرى. وقد ذكرنا فی هذا المجال أنّ المراد الحقیقیّ من ذمّ الدنیا والثناء على الآخرة لیس هو نفس الدنیا والآخرة، بل إنّ الذی یخضع للتقییم هنا هو تعلّقنا بهذین العالمین. وبتعبیر آخر فإنّ المذموم والمستقبَح هو المیل إلى الدنیا الذی ینتهی بحبّها الشدید، وإنّ المقبول والمحبَّذ والـمُثْنى ومورد الثناء علیه هو الرغبة فی الآخرة. وإنّ علّة الذمّ بالنسبة لحبّ الدنیا والمیل إلیها هی القول بالأصالة لها والتضحیة بالغایة فی سبیل الوسیلة؛ إذ أنّه وفقاً للرؤیة الدینیّة فإنّ الدنیا وسیلة لنیل سعادة الآخرة. ولذا فإنّ الذی یجعل الوسیلة أصلاً وینسى الغایة فهو كالمسافر الذی خرج طالباً مدینةً لكنّه استأنس بالخضرة والكلأ والماء فی منزل نزل فیه لیستریح أثناء الطریق فنسی المدینة التی كان یقصدها. فالوسیلة والمسیر فی هذا المثال غیر مذمومین، لكنّ نسیان الهدف والتعلّق بالوسیلة هو المذموم.
فإن اقتصرت نشاطاتنا فی الدنیا على ما نناله من مصالح ولذائذ فی هذا العالم وقصُر بصرنا عن نتائجها الاُخرویّة، فإنّه طلب الدنیا. إذ ینبغی لطالب الحیاة الباقیة أن یغیّر نظرته إلى عالم الوجود ویفهم أنّ الحیاة الدنیا بعرضها وطولها ما هی إلاّ أداة (وهی تشبه الحیاة الجنینیّة) حیث یصوغ الإنسان نفسه فی الدنیا لیتسلّم نتائج أعماله فی العالم الأبدیّ. ولامتلاك مثل هذه النظرة لابدّ أن یعتقد الإنسان بأنّه بالإضافة إلى الحیاة العابرة التی یقضیها فی هذا العالم فإنّه سیعیش حیاةً اُخرى أبدیّة، وهو معتقَد یُعدّ جزءاً من اُصول دیننا ومن شأنه أن یؤثّر على كلّ ألوان سلوكنا.
وقلنا أیضاً إنّ مجرّد العلم بذلك لا یكون ذا أثر على تصرّفاتنا. فالإنسان یملك الكثیر من المعلومات، ویعلم بنفعها وضررها أیضاً، بید أنّ أكثر معلوماته لیس لها أثر ملحوظ على أعماله. وأوضح مثال على ذلك هو حالة الإدمان؛ فالجمیع یعلم بمضارّ التدخین والمخدّرات والمسكِرات، غیر أنّه یوجد مَن یستعملها على الرغم من علمه بمضارّها. إذن فمعرفة الإنسان بمضارّ شیء لا تشكّل بالضرورة رادعاً له عن استعماله، كما أنّ علمه بفوائد أمر لا یدفعه حتماً إلى إنجازه. فجمیعنا یؤمن بأنّ للعبادة فوائدَ جمّةً لكنّنا لا نملك الحافز القویّ للعمل بهذا العلم. إذن لابدّ من وجود عامل آخر یُضَمّ إلى هذا الاعتقاد كی ینظّم سلوكنا بالشكل المفضی إلى سعادة الآخرة.
بالطبع من الممكن أن یكون العقل البشریّ نافعاً إلى حدّ ما فی حثّ الإنسان على ممارسات لا تتطلّب الكثیر من الجهد والعناء، بید أنّ إنجاز بعض الأعمال یستدعی غضّ الطرف عن لذّات لا یسهل التغاضی عنها. فكیف لنا فی مثل هذه المواطن الإفادة ممّا نعتقد به كی نضع ما نعلم فی حیّز التنفیذ، بحیث یتّفق عِلمُنا مع عملنا؟ أساساً، كیف تتبلور تصرّفاتنا، وعلى أیّ أساس یتمّ اختیارنا ثمّ تبنّینا لسلوكٍ ما بعد تشخیص حَسَنه من قبیحه؟ ولماذا یعمل الإنسان أحیاناً بما یغایر علمه؟ الجواب العلمیّ على هذا السؤال یقع ضمن اختصاص علماء النفس، لكن لا بأس - لإلقاء الضوء على الموضوع - بالالتفات إلى هذا المثال البسیط: فلنتخیّل فتىً یافعاً قد ربّاه أبواه على أنّ مشاهدة الأفلام الفاسدة والخلیعة أمرٌ غیر لائق وهو ملتزم بهذا الأمر ما دام فی المنزل. لكنّه عندما یجتمع بأصدقائه یلاحظ أنّ معظمهم یتحدّثون بشوق ولهفة عن الفلم الفلانیّ، وتبدو علیهم أمارات التعجّب لعدم اطّلاعه على الفلم، بل ویسخرون من جوابه بالنفی على مشاهدة مثل هذه الأفلام ویعیبون علیه ذلك. فبتكرار هذه القصّة سیقع هذا الفتى تدریجیّاً تحت تأثیر هذا الجوّ، حتّى إذا خَبَت جذوة العقیدة التی تعلّمها فی البیت استسلم لإغواء أصدقائه. وقد مررنا جمیعاً تقریباً بظروف مشابهة فی بیئتنا الاجتماعیّة. وهذا یدلّ على أنّه بالإضافة إلى الاعتقاد بحسن العمل أو قبحه فإنّه ثمّة عوامل بیئیّة لها تأثیر بالغ على سلوك الإنسان.
إنّ من جملة رغبات الإنسان النفسیّة التی تُبحث بإسهاب فی علم النفس هی رغبته فی التشبّه برفاقه وأقرانه، وهو میل یشتدّ فی مرحلة الطفولة والمراهقة. ومن هنا فإذا اختلط المرء بمحیط یناسب ما یحمل من معتقدات فستتعزّز الأخیرة عنده وتقوى إرادته على العمل بموجبها. أمّا إذا كان الجوّ البیئیّ مخالفاً لمعتقداته، فسینشأ فی داخله - بدایةً - صراع بین معتقداته ومحیطه؛ فاُسرته تنهاه عن فعل شیء وأصدقاؤه یشجّعونه علیه، فیبقى متحیّراً: إلى مَن یصغی؟ لكنّ هذا التضادّ والتحیّر یتغیّر شیئاً فشیئاً لصالح الرأی العامّ حتّى تفقد معتقداتُه بریقها. ألَم تسمعوا المثل القائل: «حشرٌ مع الناس عید»؟ نفهم من ذلك أنّ تأثیر ظروف المحیط إذا لم یكن أشدّ من تأثیر معرفة الإنسان، فهو لیس بأقلّ منه. لهذا فإنّ تنظیم دورة أو مطالعة كتاب لا تُعدّ كافیة لإشاعة قیمة معیّنة فی المجتمع، بل لابدّ من تهیئة المحیط لذلك أیضاً. فإذا كانت اقتضاءات المحیط تتعارض مع مقتضیات الكتاب والدرس والقرآن والحدیث والمنبر والموعظة فسینشأ بین الطائفتین صراع، فإمّا أن تصبح المحصّلة صفراً، وإمّا أن تتغلّب البیئة فی نهایة المطاف.
بالنظر إلى ما ذُكر، هل یستطیع الإسلام، وهو الذی طالب الإنسان بإخلاص النیّة وطلب الآخرة فی قوله وفعله كی یتحلّى بالكمالات فی هذه الدنیا وینال سعادة الآخرة – هل یستطیع التعامل مع المحیط تعاملَ غیر المبالی؟ وهل إنّه لم یأمر بإصلاح المحیط وأقلمته مع المعتقدات یا ترى؟ فإذا كان الدین قد أتى لهدایة الإنسان وإرشاده إلى السعادة الأبدیّة فلابدّ أن یكون قد قدّم ما یكفل توفیر الظروف البیئیّة الملائمة. وهذه هی عین «التربیة» التی جاءت فی المصطلح القرآنیّ بعنوان «التزكیة»، كما فی قوله تعالى: «یُزَكِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ»[2] [537] حیث ذكر القرآن الكریم التزكیة والتعلیم كمهمّة من مهامّ الأنبیاء. من هنا فلابدّ، إلى جانب التعلیم، من توفیر الظروف الملائمة للعمل كی یساق الإنسان إلى إنجاز ما عُلِّم إیّاه، لا أن تكون عوامل المحیط مناهضة لذلك.
فكلّنا یعلم بأنّ الإسلام، ومن أجل توفیر السبل اللازمة فی هذا المجال فإنّه، مضافاً إلى إسناد مهمّة تربیة الولد تربیةً صالحةً إلى الأبوین، فقد عهد إلى جمیع المسلمین أیضاً بتكالیف عامّة اُخرى كی لا یصبح المحیط مضادّاً لتعالیم الدین. وأحد هذه التكالیف هو الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر. فالأهمّیة البالغة التی أولاها الإسلام لفریضة الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر وتصنیفه إیّاها فی عداد «أعظم الفرائض» یرجع إلى أنّ تلقین الناس المفاهیم بعیداً عن هذه الفریضة لا یداوی جرحاً، بل لابدّ أن تكون الأجواء مؤاتیة أیضاً. فیا ترى كَم ستدوم آثار الدموع والتضرّع والتوبة والإنابة لدى الشابّ الملتزم بحضور مجالس الوعظ والدعاء والذی عقد العزم على التوبة وعدم اقتراف المعصیة إذا كان یواجه كلّ یوم، فی الشارع وفی الزقاق، مشاهد الفتیات اللواتی یرتدین ثیاباً غیر لائقة من الناحیة الإسلامیّة؟!
فالإسلام یدعو أیضاً إلى العمل على جعل المحیط صحّیاً كی یتمكّن الإنسان من بلوغ الكمال، ومن هنا فإنّه قد فرض الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر على جمیع المؤمنین وجعله من أهمّ الفرائض، وعیّن – من أجل تنظیم هذا الأمر – مسؤولین خاصّین لبعض مراتبه. فكلّكم یعلم أنّ مراجعنا العظام قد أفتوا بأنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر على مستوى اللسان هو من واجب الجمیع، أمّا إذا اقتضى الأمر التدخّل البدنیّ، فهنا یسقط تكلیف الفرد ویكون من واجب الحكومة الإسلامیّة النهوض بهذه المهمّة. وقد عُیّن لهذا المنصب فی كلّ مجتمع أشخاص، فقد كان «الـمُحتَسِب» یقوم بذلك. وقد نهض النبیّ الأكرم وأمیر المؤمنین (صلوات الله علیهما وآلهما) بنفسیهما بهذه المهمّة، فقد كان أمیر المؤمنین یضع السوط على منكبه ویمشی فی السوق وكلّما شاهد خرقاً للقانون نبّه فاعله، حتّى إذا لم یمتثل استخدم فی حقّه القوّة. أمّا الیوم فإنّ جهاز الشرطة وقوى الأمن هم الذین یقع على عاتقهم الحفاظ على الشعائر والقوانین الإسلامیّة. إذ ثمّة سؤال جدّی فی هذا المضمار، هو: هل على الحكومة - حقّاً - واجب التدخّل فی هذه الاُمور، ومعاقبة المنتهكین للقانون وتوقیفهم عند اللزوم؟
إنّ البحث حول مسألة دواعی الحكومة وواجباتها وإلى أیّ مدىً یُسمح لها بالتدخّل فی شؤون الرعیّة وتضییق الحرّیات، وبماذا یختلف رأی الإسلام عن سائر المدارس الفكریّة فی هذا الصدد، هو بحث یرتبط بفلسفة السیاسة، والمقام لا یتّسع لمناقشة كلّ هذه الاُمور. لكن ما یسعنا الإشارة إلیه إجمالاً هنا هو أنّه استناداً إلى الثقافة السائدة فی عالمنا الیوم فإنّ لكلّ امرئ الحرّیةَ فی فعل ما یحلو له، اللهمّ إلاّ إذا أضرّ فعله بالآخرین، حیث سیقف القانون بوجهه. ولا یتاح للنظام الحاكم – وفقاً لهذه الثقافة - أن یستخدم القوّة ویضیّق الحرّیات إلاّ فی مواجهة التصرّفات التی تضرّ بالآخرین. وهذه النزعة – القابلة للمناقشة من جهاتها المختلفة؛ الأخلاقیّة والحقوقیّة والسیاسیّة – یُطلق علیها عموماً «اللیبرالیّة» وهی تحظى الیوم بقبول جمیع المدارس الحقوقیّة والسیاسیّة فی العالم. على أساس هذا التوجّه فإنّ الإنسان حرّ فی أن یفعل ما یشاء، إلاّ إذا تسبّب فی مضایقة الآخرین أو الإضرار بهم. ولهذا فقد أقرّت جمیع دول العالم المتحضّرة بأن من جملة واجبات الحكومة هو منع السلوك المضرّ بباقی أفراد المجتمع؛ فإذا أقدم الفرد على فعلٍ غیر صحّی من شأنه أن یفشی فی المجتمع مرضاً معیّناً فعلى الجهاز الحكومیّ أن یواجه هذا الفعل، بل إذا ثبت تعمُّد الفاعل، وجب على الأوّل معاقبته. وإذا أخلّ أحد بالبیئة فمن حیث إنّ عمله هذا یلحق الضرر بالجمیع فإنّ على الحكومة ردعه عن ذلك. بل إنّ الدول تنفق أموالاً طائلة من أجل الحفاظ على الحیوانات الآیلة إلى الانقراض، ولا تسمح بصیدها بدعوى «الحرّیة»، ذلك أنّ انقراض هذا النوع من الحیوانات سینجم عنه ضرر لجمیع أفراد المجتمع.
تأسیساً على هذا المبدأ فإنّ على الحكومة مراقبة ماء الشرب والحفاظ على سلامته من أجل سلامة المواطنین، أو عزل المصابین بالأمراض المسریة لمجابهة تفشّی المرض، أو ردع المتعدّی على أعراض الناس. لكن هل یقتصر هذا المنطق على الاُمور المادّیة والدنیویّة، أم هناك اُمور اُخرى تتحمّل الحكومة مسوؤلیّة تجاهها؟ فإذا وصلنا، انطلاقاً من مرتكزاتنا الدینیّة، إلى نتیجة مفادها أنّ سلوكاً معیّناً یُعدّ مضرّاً بسعادة الإنسان الأبدیّة وأنّه سیخلّده فی جهنّم إلى الأبد، أفلا یتحتّم على الحكومة الوقوف بوجه هذا الضرر؟ من الواضح أنّ الطرف الآخر فی نقاشنا لیس هو إنساناً ملحداً، بل هو شخص یقرّ بهذه الاُصول والاُسس ویوافق على أنّه اعتماداً على التعالیم الدینیّة فإنّ القیام ببعض الأعمال یوجب خلود الإنسان مهاناً ذلیلاً فی جهنّم: «وَیَخْلُدْ فِیهِ مُهَاناً»[3] [538]. إذن أفلا یتعیّن على الحكومة توفیر الأجواء التی تحول دون ابتلاء الرعیّة بهذه الأضرار الجسیمة؟
هنا تنقسم المدارس السیاسیّة إلى قسمین: قسم یتبنّى الرؤیة المادّیة، وقسم آخر مبنیّ على الفكر الإلهیّ. وإنّ الالتفات إلى هذه المسألة یكشف لنا السبب وراء تأكید قائد الثورة المعظّم على ضرورة إیجاد تحوّل فی اُسس العلوم الإنسانیّة. فبناءً على قول سماحته فإنّ بعض العلوم الإنسانیّة التی تدرَّس فی جامعاتنا لا تخالف الإسلام فحسب، بل هی مناهضة للإسلام وموجبة لإضعاف الدین أیضاً. فإنّ علم النفس والعلوم الاجتماعیّة والحقوق والعلوم السیاسیّة التی تدرَّس الیوم فی جامعاتنا مبنیّة على المبادئ المادّیة. فنحن لا نعثر فی الكتب المتوفّرة لهذه العلوم على موضوع یتناول الضرر الاُخرویّ والأبدیّ، فكلّ ما فیها یبحث فی الأضرار والمنافع المادّیة. بل إنّ البعض یَعُدّ الإعلان العالمیّ لحقوق الإنسان أعلى من القرآن قیمةً، وأنّه – وهو الذی أعدّه بضعة أشخاص انطلاقاً من نزعاتهم اللیبرالیّة – غیر قابل للنقاش، لكنّه لا یتوانى عن مناقشة القرآن الكریم الـمُنزل من عند الله تبارك وتعالى!
ففلسفة الحقوق وفلسفة السیاسة المبنیّة على التوجّهات المادّیة تقتضی اهتمام الحكومة بمجابهة الأضرار المادّیة والدنیویّة فقط، بل حتّى إذا أقرّ الدین سلوكاً یوجب ضرراً دنیویّاً فإنّ على الحكومة مواجهته، أمّا إذا لم یضرّ أمرٌ ما بدنیا الرعیّة فلیس من واجب الحكومة منع أضراره الاُخرویّة! فمثلاً إذا تمّ إنتاج نوع من المشروبات الروحیّة التی یقول الأطباء إنّ مقدار الكحول الموجود فیها غیر ضارّ بجسم الإنسان، فسیفتی الدنیویّون بما یخالف رأی المتدیّنین! فالإسلام لا یجیز الشرب من قربة ماء سقطت فیها قطرة من الخمر، لكنّ البعض، وانطلاقاً من كون ماء القربة غیر مُسكر، بل ومن باب إمكانیّة انطواء الخمر على فوائد علاجیّة، یجیز تناول بعض المشروبات التی تحتوی على نسبة من الكحول. لقد رُوی عن أمیر المؤمنین (علیه السلام): «لو وقعت قطرة خمر فی بئر فبُنیت مكانها منارة لم أؤذّن علیها، ولو وقعت فی البحر ثمّ جفّ ونبت فیه الكلأ لَم أَرْعَه»[4] [539]. فإلى هذا الحدّ كان علیّ (علیه السلام) یجتنب الخمر، أمّا البعض فیتّخذ من قوله تعالى: «فِیهِمَا... مَنَافِعُ لِلنَّاسِ»[5] [540] ذریعة لاستعماله! أفیكون مجرّد احتمال أن یفید امرؤ من هذه المشروبات للتداوی سبباً وجیهاً لعدم إقدام الحكومة على منع إنتاجها وبیعها وشرائها؟ إذن فأین ذهبت حرمتها، وماذا عن الخسارة الاُخرویّة الناجمة عن شربها؟
وقد یقول قائل هنا: إنّ للناس عقولاً وفهماً وهم یدركون هذه الاُمور جیّداً، فلیس من الضروریّ أن تحشر الحكومة أنفها فی مثل هذه المسائل! لكن ألیس الناس مدركین للأضرار المادّیة الناجمة عن شرب الماء غیر الصالح للشرب وتناول الأطعمة الملوّثة؟ ألا یعلم الناس ما هی الأضرار الناجمة عن تلویث خزّان ماء المدینة؟ إذن فلماذا یتحتّم أن یتدخّل مختلف المتخصّصین فی عملیّة توفیر المیاه الصالحة للشرب ویشرفوا على جمیع مراحلها، من حفر للآبار، وتصفیة، ونقل؟ ولماذا، وبمجرّد إن یدور الكلام حول المسائل المعنویّة والاُخرویّة، ینبری البعض لطرح موضوع الحرّیة قائلین: لا ینبغی إدخال الناس إلى الجنّة بالقوّة؟! لكن أَوَینبغی أن تؤمَّن صحّة أفراد الشعب بالإكراه والقوّة ؟! وهل إنّ تأسیس الأجهزة والمؤسّسات المختلفة، ورصد المیزانیّات الضخمة، واستخدام مختلف المتخصّصین للتأكّد من سلامة مأكل الناس ومشربهم فیه إهانة لعقول الناس ومشاعرهم؟ أَوَلا یرغب الناس أنفسهم فی أن یتمتّعوا بصحّة كاملة؟ فهل یمكن أن یقتصر واجب الحكومة فی مثل هذه القضایا على الإعلام؟ لكن بمجرّد أن یتمّ الحدیث عن الدین، یقال: لا یمكن إدخال الناس إلى الجنّة بالقوّة! لكن ما هو المراد من إدخال الناس إلى الجنّة یا ترى؟ إنّه یعنی صیانة مصالحهم الأبدیّة الباقیة.
لقد وضع الشارع المقدّس، من منطلق لُطفه، ولعلمه بأنّ بعض الناس ضعفاء الهمّة وأنّ الظروف الاجتماعیّة قد تجرّ أفراد المجتمع إلى فعل المعصیة – وضع حلولاً للوقوف قدر المستطاع بوجه الفساد والحیلولة دون انجرار الناس - تأثّراً بظروف المحیط والعوامل الاجتماعیّة – إلى جهنّم. فإن قیل إنّه لیس على عاتق النظام الحاكم فی هذا المجال مهمّة، فما هی مهمّته إذن؟ ألیس الوقوف أمام الأضرار الاجتماعیّة من مهمّات الحكومة؟ أولیست الأضرار الأخیرة أشدّ خطراً بكثیر من تلك الناجمة عن الأطعمة غیر الصحّیة؟ فغایة ما فی الأمر أنّ المرء سیصاب بتناوله الطعام الملوّث بوعكة صحّیة ویمرض لبضعة أیّام، أمّا تدنّسه بالمعصیة فإنّه سیورثه عذاباً أبدیّاً!
فالفارق بین الفلسفة السیاسیّة الإسلامیّة وتلك اللیبرالیّة یكمن فی أنّ القائلین بالأخیرة لا یعتقدون بأیّ دور لله والمعاد ویرون أنّ نطاق الدین ینحصر فی الصلاة والعبادة والسلوك الفردیّ، وأنّ لكلّ امرئ – مسلماً كان أو وثنیّاً – أن یؤدّی عبادته بنفسه ولا ینبغی أن یحمل أحدٌ همّ دین الرعیّة، فالناس یعرفون جیّداً كیف یمارسون طقوسهم العبادیّة. فهؤلاء یعتقدون بأنّ الدین لا یطالب الناس بأكثر من الصلاة والصیام وإقامة العزاء!
فإذا كان الدین قد جاء لنهی الناس عن كلّ ما یضرّ بدنیاهم وآخرتهم فإنّه - فی المرحلة الاُولى - یحرّم هذه الاُمور بالبیان الأخلاقیّ من دون اللجوء إلى الضغط والقوّة. وهی مرحلة لا تتجاوز أحكام الدین فیها حدّ الموعظة. لكنّ الدین قد سنّ للمرحلة التالیة قوانین للحیلولة دون هذه الممارسات، وملاحقة ومعاقبة كلّ من یتهرّب من الانصیاع للقانون. ولا یمكن أن تتخطّى أحكام الدین حدود الموعظة وتتحوّل إلى قوانین إلاّ إذا كان هناك ما یضمن تنفیذها؛ بمعنى أنّه إذا خالفها أحدٌ عالـِماً عامداً، وجبت معاقبته. وهنا یُعدّ الجهاز الحكومیّ، ومن أجل ضمان مصالح المجتمع، مسؤولاً عن توعیة الجماهیر بما یضرّهم عن طریق التعلیم فی مراكز التعلیم، والإعلام فی وسائل الإعلام، والإرشاد عبر الآلیّات المختلفة، ثمّ العمل – فی المرحلة التالیة – على سنّ قوانین للحیلولة دون ارتكاب هذه الأعمال. كما أنّه یتعیّن على الشرطة فی هذا المضمار ملاحقة المقصّر، وعلى القضاء إصدار الأحكام اللازمة بحقّه وتنفیذها. فكما أنّ من واجب الحكومة الإسلامیّة منع الأضرار المادّیة فإنّ علیها أن تقی الرعیّة من كلّ ما له ضرر معنویّ وما یوجب العذاب الأبدیّ. وخلافاً لمنطق بعض السیاسیّین، فإنّ هذا الواجب لیس مقصوراً على علماء الدین ضمن حدود الموعظة والنصیحة.
وهذه قضیّة جوهریّة یتعیّن التفتیش عن حلول لها فی الجامعات، فالجامعة التی تُبنى علومها الإنسانیّة على اُسس إسلامیّة یتمّ تحدید واجبات حكومتها وفقاً لهذه الاُسس أیضاً. فإنّ تأكید قائد الثورة الإسلامیّة على ضرورة أن تكون علومنا الإنسانیّة موافقة للاُسس والمبادئ الإسلامیّة ینبع من كون الاُسس المادّیة مناهضة للإسلام، إذ لیس لله والمعاد والحكم الإلهیّ من محلّ فی الحقوق والسیاسة المبنیّة على هذه الاُسس. فبتغییر هذه الاُسس سیتغیّر الكثیر من النظریّات والمناهج المبنیّة علیها، وهو أمر لم یقع فی بلدنا مع بالغ الأسف بعد مضی ثلاثین عاماً ونیّف على عمر الثورة على الرغم من كلّ ما بذله الإمام الراحل وقائد الثورة من جهود فی هذا السبیل، ولازالت – من الناحیة العملیّة – نفس هذه الحقوق والعلوم السیاسیّة وذات فلسفة الحقوق وفلسفة السیاسة اللیبرالیّة تُدرَّس فی جامعاتنا، والنتیجة هی تنشئة رجال سیاسة لا یشعرون بالمسؤولیّة تجاه أحكام الدین. فلابدّ من إیجاد حلول جذریّة لهذه المسألة، وهی: ما هو رأی الإسلام بواجبات الحكومة؟ فهل یتعیّن الوقوف أمام حرّیات الناس إذا ارتُكبت المعاصی بشكل علنیّ، أم لا؟ فالتجاهر بالذنوب فی المجتمع هو أشبه بالمكروب الذی ینتقل إلى الآخرین، ومثلما أنّ من واجب الحكومة منع التلوّث الذی یهدّد الصحّة العامّة فإنّها مكلّفة أیضاً بالوقوف فی وجه المفاسد الدینیّة؛ بالطبع إذا كانت الحكومة إسلامیّة ومنبثقة من ثورة إسلامیّة!
لعلّكم تتذكّرون أنّه عندما قال قائد الثورة: «الثقافة أهمّ من الاقتصاد، وإنّ الصدع الذی یصیب البناء الثقافیّ غیر قابل للترمیم» انبرى البعض إلى القول بأنّه یتعیّن علینا - امتثالاً لأمر سماحته – العمل على إشاعة اللغة الفارسیة، واللهجات المحلّیة، والترویج للموسیقى الفولكلوریّة، والرقصات المحلّیة من أجل صیانة ثقافتنا! وقال البعض أیضاً: لا یمكن أن تحصل تنمیة ثقافیّة مع التشفیر [للمواقع الالكترونیّة] وتضییق نطاق المعلومات! ومن هنا فقد أكّد سماحته مرّة اُخرى: «أنا أقصد الثقافة الإسلامیّة الثوریّة». فإذا أقررنا بأنّ النظام هو نظام إسلامیّ وأنّ على الحكومة الإسلامیّة تطبیق أحكام الإسلام، فلابدّ أن نفهم بأنّ ما یرتبط بالآخرة هو أهمّ ممّا یتسبّب فی أضرار دنیویّة؛ ذلك أنّ الضرر الاُخرویّ هو ضرر أبدیّ أمّا الضرر الدنیویّ فمحدود. وكذا فإنّ ما یتعلّق بمصالح المجتمع ككلّ یفوق المصالح الفردیّة فی الأهمّیة، لأنّ أذى الأوّل قد یحیق بالملایین من الناس.
وهذه الاُصول تنبع من الرؤیة الإسلامیّة؛ هذا بالطبع إذا وسّعنا الرؤیة الإسلامیّة وجعلناها تتخطّى حدود المسجد والحسینیّة ومراسم العزاء فی شهر محرّم لتشمل جمیع شؤون الحیاة الفردیّة والاجتماعیّة. فكلّ حركات الإنسان وسكناته ینبغی أن تصطبغ بصبغة إلهیّة: «صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً»[6] [541]، وكلّ ما یجری فی المجتمع الإسلامیّ لابدّ أن یتّخذ هذه الصبغة. فإنّ أهمّ واجب یقع على عاتق الحكومة الإسلامیّة استناداً إلى اُصول الإسلام واُسسه هو رعایة مصالح المجتمع الإسلامیّ وردع كلّ من یعمل ضدّها. من هذا المنطلق فإنّ من جملة واجبات الحكومة الإسلامیّة هی أوّلاً تهیئة الأرضیّة لتسیر الرعیّة باتّجاه الجنّة ومن ثمّ العمل على تأمین صحّة الناس ورفاهیّة حیاتهم المادّیة. فإنّ أهمّ جزء من حیاة الإنسان هو حیاته الأبدیّة وكلّ ما یرتبط بالله عزّ وجلّ ولیس باستطاعة الحكومة إعفاء نفسها من مسؤولیّة الاهتمام بآخرة الشعب بذریعة أنّ الدین جاء من أجل الحرّیة. ألَم یكن علیّ (علیه السلام) یمشی فی الأسواق حاملاً سوطه على كتفه لیردع الخارجین عن القانون ویقطع أصابع السارق الأربع، ویجلد هاتكی أعراض الناس؟! أكان علیّ (علیه السلام) غیر عارف بالدین بقدر ما تعرفونه أنتم؟! وهل یرید البعض أن یدّعی أنّ علیّاً (علیه السلام) قد أخطأ مثلما ادّعوا أنّ الإمام الخمینیّ الراحل (رحمه الله) قد أخطأ؟!
ینبغی لنا التعامل مع القضایا الجوهریّة بجدّیة أكبر؛ فلابدّ أن نفهمها بشكل أفضل، وأن نثبتها بشكل أفضل، وأن نتابع ونطالب على نحو أحسن. فحكومتنا تحمل اسم الإسلام، وبلادنا قامت فیها ثورة، وقد استُشهد مئات الآلاف من خیرة أبناء هذه الاُمّة من أجل تطبیق أحكام الإسلام. فلا ینبغی أن ننسى ذلك، بل وعلینا المطالبة به، وهذا واجب من واجباتنا الدینیّة. بالطبع لا ینبغی أن نخلق المشاكل للمجتمع عبر إثارة التوتّرات دونما سبب، وأن نعمل قدر الإمكان على متابعة هذه المطالب بلغة محترمة ومؤدّبة. لكن كما أنّ من حقّ أفراد الشعب الاعتراض فیما یتّصل بحقوقهم المادّیة، فإنّ من الأولى أن یتمتّعوا بمثل هذا الحقّ فیما یتعلّق بشؤونهم الدینیّة، وهو حقّ كفله الله تعالى لنا. كما أنّ على مسؤولینا الحكومیّین أن یلتفتوا إلى أنّهم یشغلون مناصب فی دولة إسلامیّة. فهذا الشعب قد قدّم شهداء لتقوموا أنتم بتنفیذ أحكام الإسلام، لا أن تقولوا: لا شأن لنا بهذه الاُمور. فإنّ تنفیذ أحكام الإسلام، وصیانة الشعائر والقیم الإسلامیّة لهی من أسمى واجبات الحكومة الإسلامیّة.
وفّقنا الله وإیّاكم
[1] [542]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.
[2] [543]. سورة آل عمران، الآیة 164.
[3] [544]. سورة الفرقان، الآیة 69.
[4] [545]. زبدة البیان، المحقق الأردبیلی، ص63.
[5] [546]. سورة البقرة، الآیة 219.
[6] [547]. سورة البقرة، الآیة 138.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
«وأمّا الحیاة الباقیة فهی التی یعمل لنفسه حتّى تهون علیه الدنیا وتصغر فی عینیه، وتعظُم الآخرة عنده، ویُؤْثِرَ هوایَ على هواه، ویبتغی مرضاتی ویُعَظِّمَ حقّ عظَمتی»[1] [548].
قلنا فی المحاضرات الماضیة إنّ الله تبارك وتعالى یشیر فی هذا المقطع من الحدیث القدسیّ إلى خصوصیّات للحیاة الأبدیّة السعیدة؛ أوّلها أن تصغُر الدنیا فی عین الإنسان. وقد ذكرنا بهذه المناسبة، ومن خلال التطرّق إلى مختلف استخدامات مفردتَی «الدنیا» و«الآخرة»، انّ العلم بكون الدنیا أحقر وأقلّ أهمّیة من الآخرة لا یستلزم بالضرورة أن ینطبق سلوكنا على هذا العلم. ونحن جمیعاً واقفون على هذا الأمر فی تصرّفاتنا؛ فعلى الرغم من اعتراف أغلبنا بأنّ الدنیا أقلّ أهمّیة من الآخرة فإنّ سلوكنا یوحی بأهمّیة الدنیا فی نظرنا. ولعلّ هذا هو السبب فی أنّ الله لم یجعل الحیاة الباقیة نتیجةً لهذه الرؤیة، بل قال: «فهی التی یعمل لنفسه حتّى تهون علیه الدنیا»؛ فإنّ على الإنسان من أجل بلوغ الحیاة الباقیة أن یبذل غایة المجهود حتّى تصغر الدنیا فی عینه، وإنّ العلم بحقارة الدنیا، وإقامة الدلیل والبرهان على ذلك، ومطالعة الآیات والروایات حول هذا الموضوع لا تكفی وحدها لنیل هذا الهدف. فعلینا من أجل بلوغ هذه المرحلة أن نتمرّن كثیراً وبشكل مستمرّ وهو ما یصطلح علیه ﺑ «الترویض». والنتیجة هی أنّ مثل هذا الجهد والمثابرة هو الذی یظهر لنا حقیقة الدنیا ویجعلنا ندرك دناءتها، كما یصفها أمیر المؤمنین علیّ (صلوات الله علیه): «ولَدنیاكم أهون عندی من ورقة فی فَم جرادة تقضمها، وأقذر عندی من عُراقَة خنزیر یقذف بها أجذمها»[2] [549].
بناءً على ما تقدّم فبعد الاعتقاد بوجود الآخرة والإیمان بأنّها: «خَیْرٌ وَأَبْقَىٰ»[3] [550] فإنّ الخطوة الاُولى على طریق الوصول إلى الحیاة الباقیة التی أعدّها الله تعالى لأولیائه تتمثّل فی السعی فی الاتّجاه الذی یجعل الدنیا حقیرة فی أعیننا. وأفضل اُسوة فی هذا السبیل هو سلوك أمیر المؤمنین (صلوات الله علیه) حیث لا نعثر على سلوك هو أكمل منه وأكثر منه جاذبیّة. فلعلّكم سمعتم قصّة أمیر المؤمنین (علیه السلام) عندما كان یقود جیشاً فی إحدى الحروب وكان ینبغی أن ینصبّ جلّ اهتمامه فی أمر الحرب والقیادة لكنّ ابن عبّاس دخل علیه فی الخیمة فرآه یخصف نعله، فتعجّب من ذلك وقال: ماذا تصنع؟! تخصف نعلك بدلاً من النظر فی اُمور الحرب! فقال أمیر المؤمنین: «ما قیمة هذه النعل»؟ فقال ابن عبّاس: لا قیمة لهذه النعل المقطوعة. فقال: «والله لهی أحبُّ إلیّ من إمرتكم، إلاّ أن اُقیم حقّاً أو أدفع باطلاً»[4] [551]؛ أی: أن آخذ حقّاً من ظالم لاُعطیه لصاحبه. ولسنا بحاجة إلى توضیح أنّ هدفاً كهذا لیس هو هدفاً دنیویّاً، بل هو إداءُ تكلیفٍ واجب وتلبیةُ طلبٍ إلهی. فعلیّ (علیه السلام) الذی كانت جمیع بلاد الإسلام ما عدا الشام تحت إمرته كانت قیمة النعل المقطوعة عنده أكبر من هذه الإمارة. إلى هذا الحدّ كانت الدنیا حقیرة فی عینه!
من المستحیل بلوغ هذه الدرجة من عدم الاكتراث بالدنیا عن طریق الدراسة والبحث والاستدلال، بل یتعیّن الكدّ والمثابرة: «یعمل لنفسه حتّى تهون علیه الدنیا». فبهذا الكدّ والسعی ستُرفع أكبر عقبة عن الطریق المفضیة إلى الحیاة الباقیة، ألا وهی التعلّق بالدنیا. فطالما تعلّق القلب بالدنیا فسوف لا یفكّر المرء بشیء آخر، أمّا إذا انقطع تعلّقه بها فسیتساوى عنده تلّ الذهب وتلّ التراب. فالذی یسعى وراء المادّیات سیلجأ إلى أیّ فعل، وسیتفوّه بأیّ كلام، وسیوقّع على أیّ ورقة، وسیمارس أیّ حیلة وخداع من أجل بلوغ هدفه؛ لأنّ الدنیا فی عینه مهمّة. أمّا الذی هانت الدنیا وصغرت فی عینه فسیصبح عنده تلّ الذهب وتلّ التراب سیّان؛ فإن حوى كیسُه المالَ لینفقه فی سبیل الله، فنعم المطلوب، أمّا هو فیكفیه أن یفطر بكسرة خبز شعیر جافّة.
فما دام التعلّق بالدنیا والانشداد نحوها موجوداً فسوف لا ینال المرء الحیاة الباقیة حتّى إذا تحدّث على المنبر لساعات عن حقارة الدنیا. فلابدّ أوّلاً من رفع هذا المانع عن الطریق، وفصل القلب عن الدنیا، فإن هانت وصغرت الدنیا فی نظر ابن آدم فستبدو الآخرة عظیمة أمامه. وقد قلنا إنّ لفظی «الدنیا» و«الآخرة» متضایفان مفهوماً، ولهذا فإنّ هوان الدنیا فی نظر الإنسان سیصاحبه عظمة الآخرة. وهنا یأتی الدور إلى المرحلة التالیة: «ویُؤْثِرَ هوایَ على هواه»، فبارتفاع هذا المانع ستمهَّد للإنسان الأرضیّة لتقدیم هوى ربّه على هوى نفسه عند التزاحم.
بالطبع هذا الأمر ینطوی على درجات؛ فقد یدور الأمر بین تكلیف واجب وفعل حرام، لكنّه قد یدور فی مراتبه الاُخرى بین المستحبّات والمشتبهات. المهمّ هو أن یقدّم الإنسان إرادة الله تعالى إذا دار الأمر بینها وبین إرادته هو. وطالما یوجد تعلّق بالدنیا فسوف لا یتحقّق ذلك؛ والسبب هو انّ «حبّ الدنیا رأس كلّ خطیئة»[5] [552]. فإنّ اجتثاث هذه العلاقة سیجعل الدنیا حقیرة فی نظر الإنسان وعندها فإنّه قد یتأمّل فی أنّه: هل إنّ الله عزّ وجلّ یحبّ ما أهُمّ بالقیام به أم لا؟ وما الذی سأرجّحُه من بین هوى ربّی وهوى نفسی؟ فمثل هذه الاُمور لا تخطر ببال عاشق الدنیا بتاتاً.
فما إن یتمكّن الإنسان بالتمرین والممارسة وتزكیة النفس من تغلیب هوى ربّه على هواه فسیستطیع وضع قدمه فی مرحلة أعلى، فیها «یبتغی مرضاتی ویُعَظِّمَ حقّ عظَمتی». فالمرحلة السابقة كانت فی الحقیقة مقام العمل، أمّا فی هذه المرحلة فإنّ مبادئ الفعل الاختیاریّ هی التی تكون منشأ العمل وإنّ التغییر فیها هو أصعب ممّا فی سابقتها. إذ من الممكن فی مقام العمل أن یقرّر الإنسان فجأةً القیام بأمر ما، لكنّ الوصول إلى حالة یصبح فیها إیثار هوى الربّ على هوى النفس ملَكَة فی نفس الإنسان فإنّه بحاجة إلى تربیة تدریجیّة.
وفی مقام التربیة فإنّه - إلى جانب المحافظة على العلاقة المنطقیّة بین مراحل التربیة المختلفة - یتعیّن أخذ إمكانیّة وسهولة العمل بالتوصیات فی نظر الاعتبار فلا یوصی المربّی بدایةً إلاّ بما یكون تطبیقه سهلاً ویسیراً على المتربّی. فیجب أن تكون عملیّة التربیة تدریجیّة، وتبدأ بالسهل ثمّ الصعب، وأن تكون بالتمرین والممارسة حتّى یجد المتربّی فی نفسه الاستعداد للقیام بعظیم الأعمال. فهل فی میسور المرء یا ترى أن یأتی – منذ البدایة - بجمیع ألوان سلوكه - من إشباع الغرائز، والأكل والشرب، وارتداء الثیاب، وصولاً إلى المطالبات والنشاطات الاجتماعیّة، واستقطاب احترام المقابل، ونیل المكانة والمحبوبیّة الاجتماعیّة – قربةً إلى الله تعالى؟ فهذا یتطلّب تمریناً وممارسة طویلة الأمد للوصول إلى هذه المرحلة بالتدریج.
ففی المرحلة السابقة وهی إیثار هوى الربّ على هوى النفس كان هناك نوعان من الهوى وینبغی للإنسان تغلیب أحدهما على الآخر. أمّا فی هذه المرحلة فالحدیث لا یدور بتاتاً عن هوى النفس، وإنّ الدافع الأساسیّ لتحرّك الإنسان هو ابتغاء مرضاة الله؛ بالضبط كالشخص الذی من فرط محبّته لحبیبه فإنّه لا یرى فی مقابله أیّ میل إلى نفسه، بل هو دائم التفتیش عمّا یرید محبوبه ویرغب فیه.
فباستطاعة الإنسان أن یصل إلى مقام یكون فیه دائم الالتفات إلى ربّه والاهتمام به من منطلق أنّه العبد وذاك هو المولى. فلا ینبغی للعبد أن یفكّر ببطنه لاسیّما إذا عرف أنّ مولاه الكریم یعلم كیف یضیّف عبده. وهنا لا یحصل أیّ تضادّ حتّى یكون الكلام فی ترجیح شیء على آخر؛ ذلك أنّ المرء قد بلغ هنا مقامَ انّه «یبتغی مرضاتی» فصار كلّ همّه وغمّه فیما یرضی ربّه ویسُرّه.
المبحث الآخر الذی یتناوله الحدیث هو: «ویُعَظِّمَ حقّ عظَمتی». وهنا یطرح سؤال وهو أنّ سلوك أولیاء الله المحبّین فی حضرته یوحی بأنّهم لا یرون من المحبوب سوى الخیر والرحمة واللطف والعنایة. هذا من ناحیة. ومن ناحیة اُخرى فإنّ أنینهم فی جوف اللیل، وبكاءهم وتضرّعهم وعبارات مناجاتهم تفصح عن خوف وخشیة من ربّهم. ویمكن العثور على نماذج جمّة لهذه التعابیر فی دعاء كمیل ودعاء أبی حمزة الثمالیّ. فهذا سیّد الساجدین (علیه السلام) یخاطب ربّه بكلّ خضوع: «فمَن یكون أسوأ حالاً منّی إنْ أنا نُقلتُ على مثل حالی إلى قبری؟!... أبكی لخروجی من قبری... أبكی... أبكی...»[6] [553]. فلماذا كلّ هذا البكاء والتضرّع مع الالتفات إلى محبّة الله ولطفه ورحمته؟
ولعمری فإنّ هذه من بدائع صنع الله فی خلقة ابن آدم وهی أن یودع فیه حالات تبدو متضاربة ولا یمكن الجمع بینها فی الظاهر، مثل سمات أمیر المؤمنین (علیه السلام) المتضادّة؛ حیث كان – من جهة - یظهر فی ساحة الوغى من الشجاعة والهیبة ما لا یمكن لأیّ قوّة أن تصمد أمامه، لكن دموعه – من جهة ثانیة – تسیل على وجنتیه إذا شاهد ألَمَ طفلٍ یتیم. فقد خُلقت روح الإنسان بأوجه وأبعاد مختلفة، أو بتعبیر آخر: بخلیطٍ من عناصر شتّى یتعیّن لكلّ واحدة منها أن تظهر فی موطن من المواطن فی مسیرة العبودیّة كی یصل الإنسان إلى أكمل مراتب الأخیرة.
أحد هذه الأبعاد هو حالة الخوف الانفعالیّة، وهی أن ترتعد فرائص العبد بین یدی الله. لكن یتعیّن – إلى جانب هذه الحالة – أن یكون راجیاً ربَّه رجاءً یؤهلّه لأن یقول بكلّ جرأة: لو أبقیتَ علیَّ فی جهنّم ألف سنة لما انقطع رجائی منك! وكلّ واحدة من هذه الحالات تنبع من صفات الله عزّ وجلّ؛ فواحدة تنبع من حكمته، واُخرى من رحمته، كما وتنشأ رابطة بین جمیع هذه الأبعاد وبین حالاتنا النفسانیّة. لكنّ الله یحبّ أن تسیر روح الإنسان فی جمیع أبعادها على طریق عبودیّته.
فإنّ من المسائل المطروحة فی مقام العبودیّة لله تبارك وتعالى هی إدراك عظمته وإظهار حالة تتناسب مع مقامه وعظمته تلك. فلعلّ جمیعنا قد مرّ بهذه التجربة وهی أن نصاب بحالة من الذهول إذا واجهنا شخصیّة عظیمة، بل وقد ننسى – بمقدار إدراكنا لعظمة هذه الشخصیّة – الكلام العادیّ فی حضرتها أیضاً. ولیس السبب وراء هذه الحالة هو الشعور بالذنب أو الخوف، بل إنّها تعود إلى إدراك عظمة شخصیّة هذا العظیم. فإذا اعتقد المرء بعظمة الله جلّ وعلا، فإنّه حتّى وإن وعَى لطفه ورحمته ومحبّته وعنایته غیر المتناهیة فإنّه سیجد نفسه ولهانَ فی حضرته، وهذا الولَه لا ینافی رحمته تعالى، فهو نتیجة طبیعیّة لإدراك عظمة الطرف المقابل. فإن اعتقدنا بعظمة الباری جلّ شأنه فمن الطبیعیّ أن تحصل لنا مثل هذه الحالة عندما نلتفت إلى هذه العظمة. بالطبع نحن لا نتوقّع مثل هذه الحالات حینما تكون أذهاننا منشغلة باُمور اُخرى.
فهذه الحالة تتناسب مع مقدار ما یدركه المرء من عظمة ربّه. یقول عزّ من قائل: «فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقاً»[7] [554]. فنتیجة لتجلّی جانب من عظمة الله تعالى فقد تهدّم الجبل وخرّ موسى (علیه السلام) مغشیّاً علیه. فلو أدرك امرؤ عظمة الله حقّاً لظهرت علیه مثل هذه الآثار. وقد أشار القرآن الكریم إلى نموذج من سلوك عباد الله الذین أدركوا عظمته فقال: «إِذَا تُتْلَىٰ عَلَیْهِمْ ءَایَاتُ الرَّحْمَـٰنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِیّاً»[8] [555]. فإنّ تجلّی عظمة الله من خلال تلاوة آیات الذكر الحكیم یؤدّی هو الآخر بعباد الله إلى أن یخرّوا إلى الأرض سجّداً باكین بین یدی ربّهم، وهی حالة لا تتنافى بتاتاً مع لطف الله ورحمته. فإنّ مَن یخرّ ساجداً وباكیاً نتیجة إدراكه عظمة ربّه، فإنّه یعلم برحمة ربّه حتّى فی هذه الحالة. وإنّ ما یشعر به من لذّة فی تلك الحالة لا یشعر به أیّ عاشق بوصال معشوقه، فی الوقت الذی نتأسّف على حاله نحن الذین نجهل بكلّ شیء! وإنّها لمن روائع صنع الباری تعالى أنّه خلق الإنسان على هذا النحو وأودع فی وجوده كلّ تلك الحالات كی تظهر كلّ واحدة منها حیثما سنحت الفرصة وتوفّرت الظروف وتتكامل لتشكّل مظهراً من مظاهر عبودیّة الإنسان فی مقابل ربّه. بل إنّ الإنسان أساساً قد خُلق لهذا الغرض؛ یقول عزّ وجلّ: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ»[9] [556].
إنّ أوّل عائق یعیق الإنسان عن بلوغ هذه الدرجات هو حبّ الدنیا. وبإزالة هذا المانع فإنّه: «تهون علیه الدنیا وتصغر فی عینیه، وتعظُم الآخرة عنده». ومن ثمّ یحصل صراع بین ما یریده هو وما یریده ربّه حتّى یفلح، عبر بذل الجهد والتمرین والممارسة، فی تقدیم هوى ربّه على هواه. لكنّه فی المرحلة الأكثر تقدّماً یصل إلى درجة لا یعود یلقی فیها لهواهُ بالاً، بل «یبتغی مرضاتی»؛ فلا یفكّر العبد فی هذه المرحلة إلاّ فیما یرضی بارئه. بید أنّ هذا لا یمثّل إلاّ وجهاً واحداً من وجهَی العملة؛ فالعبد، وبدافع حبّه وعشقه لربّه، یصنع ما یرید محبوبه وهو یُسرّ غایة السرور ویصاب بمنتهى النشوة جرّاء امتثاله لإرادة محبوبه وعمله بما یرضاه. أمّا الوجه الآخر لها فهو أنّ العبد العاشق یحسّ بالحقارة والضآلة فی مقابل عظمة المحبوب. فإنّ كمال المحبوب یكمن - من ناحیة - فی إیصاله معرفتَه بصفات جمال محبوبه إلى مستوى الكمال والعمل على تلبیة طلباته من منطلق العشق والمحبّة تجاهه، ومن ناحیة اُخرى فی إدراكه صفات جلاله أفضل ما یكون الإدراك وهَوِیِّهِ إلى الأرض مدهوشاً بأنینٍ وبكاءٍ إذا تجلّت له عظمته جلّ وعلا. فقد كانوا أحیاناً یخبرون الزهراء (سلام الله علیها) بأنّ علیّاً (علیه السلام) قد سقط فی بستان النخیل مُغمىً علیه، ولـمّا كانت (علیها السلام) عارفة بما یصیب زوجها من حالات فإنّها كانت تقول: «هی والله... الغشیة التی تأخذه من خشیة الله»[10] [557] فهذا شأنه فی كلّ لیلة، ولقد تعوّدنا على مثل هذه الحالات منه.
فإذا جمعنا بین حبّ صفات الله الجمالیّة، والشعور بالحقارة والصغر فی مقابل عظمته جلّ وعلا فلیس فی میسورنا أن نصف ذلك إلاّ بأنّه من بدائع خلقة الله، وهو تعالى یرغب فی أن یصل جمیع عباده إلى هذه المراتب، وقد بیّن سبحانه وتعالى السبیل إلى ذلك فی هذا الحدیث القدسیّ. فما علینا بدایةً إلاّ إزاحة ما یقف أمامنا حجرَ عثرة فی هذا الطریق، ألا وهو حبّ الدنیا، كی تصغر الأخیرة فی أعیننا ویتساوى لدینا تلّ الذهب وتلّ التراب، ولا نأبه إن هتف الناس «یعیش» أو «یسقط» فی حقّنا، ولا نكترث سواء أشتَمَنا الناس وسبّونا أم قبّلوا أیدینا واحترمونا، فلا ننظر إلاّ إلى ما یرضیه هو عزّ وجلّ. فإن وصلنا إلى هذه المرحلة فالمرحلة التالیة هی: «یُؤْثِرَ هوایَ على هواه» ومن ثمّ «یبتغی مرضاتی» وهو ما یمثّل وجه العملة الأوّل، أمّا وجهها الثانی فهو أن یعلم العاشق المفتّش عن رضا محبوبه بأنّ هذا المحبوب هو غایة فی العظمة، وكلّما أدرك عظمة محبوبه وحقارة نفسه أكثر، زاد التذاذه بملاطفته ومداعبته له.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
[1] [558]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.
[2] [559]. الأمالی للصدوق، ص623.
[3] [560]. سورة الأعلى، الآیة 17.
[4] [561]. مجموعة ورام، ج2، ص9.
[5] [562]. الكافی، ج2، باب ذمّ الدنیا والزهد فیها، ص131.
[6] [563]. مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، ج2، ص591، دعاء أبی حمزة الثمالیّ.
[7] [564]. سورة الأعراف، الآیة 143.
[8] [565]. سورة مریم، الآیة 58.
[9] [566]. سورة الذاریات، الآیة 56.
[10] [567]. الأمالی للصدوق، ص79.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 5 تموز 2014م الموافق للیلة الثامنة من شهر رمضان 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
لقد بیّنا فی المحاضرات الماضیة، أثناء توضیحنا مقاطعَ من حدیث قدسیّ، بعضَ صفات أهل الحیاة الباقیة والعیش السعید الأبدیّ. وتقول تتمّة هذا الحدیث الشریف: «ویَذكُر عِلمی به، ویراقبنی باللیل والنهار عند كلّ سیّئة ومعصیّة»[1] [568]. فی المقاطع التی سبقت هذا المقطع یقول الله عزّ وجلّ: إنّ على الذین ینشدون الحیاة الأبدیّة المطلوبة أن یُخرِجوا حبّ الدنیا من قلوبهم كخطوة اُولى ویتصرّفوا بالشكل الذی یجعل الدنیا فی نظرهم حقیرة هیّنة. ثمّ إنّ علیهم فی الخطوة التالیة أن یُغَلّبوا هوى الله تعالى على هواهم، ومن ثمّ یبتغوا باستمرار مرضاة ربّهم، ویؤدّوا حقّ عظمته سبحانه. وهذا یُعدّ منهاجاً واستراتیجیّة لمن یرید نیل الكمالات المنشودة. لكن ما هو السبیل لتطبیق هذه الاستراتیجیّة على الأرض؟ المقاطع التالیة من الحدیث ترسم منهاجاً عملیّاً لما سبقه من استراتیجیّات عامّة.
البرنامج الأوّل هو: «ویَذكُر عِلمی به». فإنّ على الإنسان أن یحاول فی جمیع مراحل حیاته وتمام ساعات یومه ولیلته أن یتذكّر أنّ الله مطّلع على تصرّفاته. لا شكّ أنّ النجاح فی هذا المضمار یستلزم التمرین والممارسة المتواصلَین ولا یأتی عبر التطبیق المرحلیّ القصیر الأمد. فهذه الحالة لابدّ أن ترافق الإنسان طوال حیاته ومن الضروریّ، من أجل ذلك، أن یبذل جهده لتصیر مَلَكة عنده. ولتحقیق هذا الغرض یتعیّن أن یؤمن الإنسان ابتداءً بأنّ الله عالِم بكلّ أعماله. وكلّنا یقرّ إجمالاً بأنّ الله عالم ولا یخفى علیه شیء، لكنّ امتلاك تصوّر واضح عن كیفیّة علم الله یعتمد على مستوى معرفة الإنسان بالله وبصفاته. فلا ریب أنّ الناس مختلفون، لیس فقط فی الاستیعاب العلمیّ ومستوى الذكاء والقابلیّات، بل حتّى فی القدرة على اكتساب العلم والمعرفة. وحتّى كبار العلماء الذین أنفقوا سنوات طویلة من أعمارهم فی البحث والدراسة فی حقل الإلهیّات فإنّهم یختلفون فی مستوى معرفتهم بالله، وهو ما نستطیع فهمه من خلال فحص كلامهم بدقّة.
یتصوّر البعض أنّ علم الله یشبه علم الإنسان، أی إنّه كل ما یُخلق فی ذهن الأخیر من صور جزئیّة أو مفاهیم عامّة للأشیاء تكون زائدة على ذاته. وقد لا یكون نشوء هذه الصورة الذهنیّة باختیار المرء، بل نتیجة عامل آخر. فبإیجاد هذه الصورة أو المفهوم فی ذهن المرء یقال إنّه «یعلم» وبزوالها یقال إنّه «لا یعلم».
وعلى هذا الأساس فإنّ علم الله بأعمالنا إنّما یحصل من خلال الإخبارات أو التصویرات التی تسجّلها الملائكة لتصرّفاتنا فی صحیفة أعمالنا لتعرضها على حضرته تعالى. فقد یتخیّل البعض أنّ الله لن یطّلع على ما نصنع إذا لم یسجَّل ذلك فی صحیفة أعمالنا أو لم یُعرَض فی حضرته تعالى. وهی تصوّرات ناشئة عن قلّة المعرفة. فقد جاء فی الخبر أنّه: «لعلّ النمل الصغار تتوهّم أنّ لله سبحانه زبانتین»؛ أی انّ له سبحانه قرنین مثل قرنیها. فإنّ بعض من یحسبون أنفسهم من العلماء یحملون نفس هذا التصوّر عن الله: «وكذا حال العقلاء فیما یصفون الله سبحانه وتعالى به»[2] [569]. یُذكَر أنّ ابن تیمیة، مؤسّس الفكر الوهابیّ، كان یتحدّث إلى الناس فی مسجد دمشق فنقل حدیثاً من مجامع العامّة الروائیّة بهذا المضمون، وهو أنّ الله ینزل من السماء إلى الأرض كلّ لیلة جمعة لیغفر ذنوب التائبین. ثمّ قام فنزل من سلّم المنبر وقال: الله ینزل من السماء إلى سطوح المنازل لیرحم العباد مثلما أنزل أنا من سلّم هذا المنبر!
البحث حول علم الله كان ولا یزال مثار نقاش المتخصّصین فی الإلهیّات منذ قدیم الزمان وإلى یومنا هذا. ومن بین النظریّات التی ظلّت رائجة إلى ما یقرب من ألف سنة مضت حتّى بین أشدّ فلاسفة الإلهیّات دقّة، مثل ابن سینا، هو أنّ علم الله بالمخلوقات یحصل بواسطة الصور اللازمة لذاته سبحانه. وإذا أحسَنّا الظنّ فإنّ تفسیر النظریّة أعلاه هو أنّ هذه الصور هی مخلوقات الله، لكنّها قدیمة وأزلیّة وقد كانت دوماً بمعیّة الله. وعلى الرغم من كلّ الجهود التی بذلها نوابغ من أمثال ابن سینا للتوصّل إلى مثل هذه النظریّات فإنّها لا تزال قاصرة عن تبیین علم الله تبارك وتعالى.
لقد أولى القرآن الكریم اهتماماً كبیراً لإثبات علم الله عزّ وجلّ بكلّ شیء. ویمكننا أن نشاهد لدى استعراض آیات الذكر الحكیم كیف أنّ الله تعالى قد بیّن هذا المعنى بصور مختلفة. یقول تعالى فی موضع من كتابه الكریم: «أَلاَ یَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِیفُ الْخَبِیرُ»[3] [570]؛ أیمكن أن یخلق أحد مخلوقاً ثمّ لا یعلم عنه شیئاً؟! فصورة الزهرة أو الفاكهة التی نجسّدها فی مخیّلتنا هی نموذج من الخلق. بالطبع حتّى هذا الخلق فإنّه یُنسَب، فی مستوىً أعلى، إلى الله، لكن باستطاعتنا، فی مرتبة أدنى، أن نقول: نحن الذین أوجدنا هذه الصورة فی ذهننا. لكن هل یمكن أن نكون غیر عالمین بالصورة التی أوجدناها فی أذهاننا؟! هل یمكن أن اُحدِث صورة تفّاحة فی ذهنی من دون أن أعلم أنّها صورة تفّاحة؟!
فالخلق من دون العلم به محال. فإن كان ثمّة خلق فلابدّ أن یكون مقترناً بالعلم. ومن هذا المنطلق احتجّ الإمام الصادق (علیه السلام) على الزندیق الذی ادّعى خلق الدود فی الطین والوحل فقال (علیه السلام): «إن كان خلَقه فلیقل: كم هو؟ وكم الذّكران منه والإناث»؟[4] [571]. فلو كان قد خلقها حقّاً فلابدّ أن یعلم عددها وجنسها. فإذا كان العالم كلّه مخلوقاً من قبل الله تعالى فلا انفكاك للخلق عن علمه جلّ وعلا. بید أنّ هذا البیان غیر كافٍ لننسب كلّ شیء إلى علم الله.
فلقد اعتنى القرآن الكریم عنایة فائقة بإثبات وتبیین علم الله تعالى بكلّ الموجودات فی السماء والأرض وبجمیع الحوادث، حتّى سقوط ورق الأشجار على الأرض. فإن تناول كائن حیّ فی أعماق البحر طعاماً فإنّ الله یعلم به وبما تناوله. ولو وُجد كائن فیه شیء من الحیاة فی باطن صخرة لَعلِم الله بكلّ تفاصیله. وقد بُیّن هذا المعنى فی القرآن الكریم بصور شتّى.
لقد قدّمت الآیات الاُولى من سورة الحدید، التی تذكرها الروایات بإجلال، بیاناً خاصّاً عن التوحید، فقالت فی جملة ما قالت: «هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ»[5] [572]، ثمّ قالت: «یَعْلَمُ مَا یَلِجُ فِی الأَرْضِ وَمَا یَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا یَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا یَعْرُجُ فِیهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَیْنَ مَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ»[6] [573]. فالله عالم بكلّ قطرة مطر وحبّة زرع تسقط على الأرض، وكلّ حشرة تحفر الأرض وتلج فی أعماقها، وكلّ ما یخرج من الأرض كالنباتات التی تنبت فیها، أو ما یخرج من أعماق الأرض نتیجة الزلازل والبراكین. كما أنّه عالِم بكلّ ما ینزل من السماء أو یصعد إلیها، وهو مطّلع على كلّ أعمالكم وتصرّفاتكم. لاحظوا كیف یعتنی الله عنایة فائقة حتّى ببیان أدقّ التفاصیل عن علمه سبحانه!
فما من ظاهرة تحصل فی الأرض ولا فی السماء هی خارجة عن علم الله. یقول تعالى فی سورة المجادلة: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ یَعْلَمُ مَا فِی السَّمَاوَاتِ وَمَا فِی الأَرْضِ مَا یَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ»[7] [574]. فهذا المعنى هو على جانب من الیقین حتّى وكأنّ الإنسان یراه باُمّ عینیه؛ فهو تعالى یقول: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ یَعْلَمُ مَا فِی السَّمَاوَاتِ وَمَا فِی الأَرْضِ»؟ فإن اجتمع ثلاثة أشخاص فی اجتماع خاصّ یتناجون فیما بینهم فلابدّ أن یكون الله رابعهم، وإذا كانوا خمسة فمن المؤكّد أنّ الله سادسهم، فأین ما تكونوا فإنّ الله معكم! هذا البیان العلمیّ یختلف عما یُنقل بشكل یناسب العوامّ من ناحیة وما یُنقل عن قول الفلاسفة من ناحیة اُخرى. فعلم الله لیس هو صورة ذهنیّة، بل إنّه تعالى حاضر فی كلّ مكان ولیس ثمّة من مجال لا یكون الله سبحانه موجوداً فیه.
وهذا البیان یشبه هذه التعابیر: «وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَیْءٍ مُّحِیطاً»[8] [575]، و«أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَیْءٍ مُّحِیطٌ»[9] [576]، و«إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیْءٍ شَهِیدٌ»[10] [577]. فالله شهید على كلّ شیء، أو بتفسیر آخر: لو كانت هناك عین بصیرة لرأت الله فی كلّ مكان. فالله محیط بكلّ شیء؛ لكن لا ینبغی الظنّ بأنّ إحاطة الله بالأشیاء تشبه إحاطة اللباس بالبدن حیث یلامس وجهٌ من اللباس سطح البدن. فلو كان الأمر كذلك لما أمكننا أن نفسّر إحاطته بباطن الأشیاء؟! فلیست إحاطة الله بالأشیاء من جنس إحاطة جسم بجسم آخر. وقد عجز الكثیر من علماء الإلهیّات والمتخصّصین فی هذا المجال عن توضیح هذا المفهوم. لكنّ الشخص الذی قدّم - بطرحه نظریّة جدیدة - خدمةً جلیلة لعلم الفلسفة والإلهیّات الإسلامیَّین كان هو صدر الدین الشیرازیّ حیث مهّد الأرضیّة لحلّ مثل هذه المسائل من خلال إثباته مسألة «الوجود الرابط».
فإذا أخذنا علاقة كلّ ظاهرة بالفاعل الذی أوجدها بعین الاعتبار، فإنّها علاقة بین موجودین یمثّل أحدهما بالنسبة إلى الآخر – كما یعبّر عنه الملاّ صدرا – ﺑ «الوجود الرابط»؛ أی یستحیل فصله عن فاعله. فهل تستطیع یا ترى أن تفصل الصورة التی خلقتَها فی ذهنك وتضعها جانباً فتصبح غیر عالِم بها فی الوقت الذی تكون فیه هذه الصورة العلمیّة موجودة فعلاً؟ بل إنّ كون هذه الصورة علماً إنّما هو قائم بذهنك أنت، بالضبط كما أنّ إرادتك الكلام لا تنفكّ عن نفسك. فلو أنّك لم تكن ولو انتهى وجودُك فسوف لا یكون لإرادتك وجود. فهذه الإرادة أساساً هی عین الربط بفاعلها.
لقد نشأ بإثبات هذه المسألة تصوّر جدید عن العلاقة بین جمیع مخلوقات العالم بخالقها. فإنّ أعلى مخلوقات الملكوت والجبروت حتّى أدنى وأخسّ موجودات عالم المادّة وكلّ ما یُطلق علیه عنوان الوجود، هی كلّها مخلوقاتُ الله وإنّه هو تعالى الذی نقلها جمیعاً من العدم إلى الوجود. فإنّ وجود جمیع هذه المخلوقات قائم بإرادة الله سبحانه: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَیْئاً أَن یَقُولَ لَهُ كُن فَیَكُونُ»[11] [578]. فبمجرّد أن یقول الله: «كُن»، فسیكون ذلك الموجود، ومالم یقل: «كن»، فإنّه لا یكون. بالضبط كإرادتك؛ فبمجرّد أن تقول كن، فإنّها تكون، أمّا إذا غفلتَ لحظة، فلا تكون ثمّة إرادة.
فالمخلوق الذی یعتمد وجوده على الفاعل الـمُوجِد لا یستطیع أن یكون مستقلاًّ عنه ثمّ یكون مظهراً لإرادته. فهل یجوز أن یكون هذا الفاعل غیر عالِم بالمخلوق الذی هو قائم به؟! سواء أكان هذا المخلوق صغیراً أو كبیراً، مادّیاً كان أو مجرّداً.
من بین المعضلات التی واجهت الفلاسفة فی إثبات علم الله هی السؤال التالی: أنَّى للمادّیات أن یتعلّق بها علم الله؟ فقد كانوا یتصوّرون بأنّ إدراك المادّیات لا یتمّ إلاّ عن طریق العین والاُذن والحسّ. إلى أن جاءت نظریّة الوجود الرابط فوضعت لجمیع هذه المسائل حلاًّ. فكلّ موجود إنّما هو قائم بوجود الله بمقدار حظّه من الوجود ولیس له من نفسه أیّ استقلال؛ إذن فهو حاضر عند الله. ومن هنا فإنّ علم الله بجمیع الموجودات هو علم حضوریّ، ولیس هو بحاجة إلى صورة ذهنیّة.
كما أنّ المسألة الاُخرى التی حیّرت قبل ألف سنة نوابغَ من أمثال الفارابیّ وابن سینا، والتی تُعدّ من مسائل الإلهیّات المهمّة، هی قضیّة علم الله بالموجود قبل أن یكون. فقد ذكرنا انّ علمنا بالموجودات هو فی الحقیقة صورة نكوّنها لها فی أذهاننا بواسطة حواسّنا. وقلنا أیضاً إنّ الله لا یحتاج إلى حواسّ لیعلم، بل إنّ وجود كلّ موجود إنّما هو قائم – أساساً - بوجود الله، وبتعبیر آخر: إنّ وجوده هو عین علم الله. لكن كیف یمكن أن یحصل العلم بهذا المخلوق قبل أن یكون؟
لقد عدّ الفلاسفة علمَنا بالموجودات قبل إیجادها من ضرب العلم الكلّی والعامّ. فالـمُنجّم، على سبیل المثال، ومن خلال الحسابات التی یجریها، یستطیع أن یتنبّأ بأنّ الشمس ستكسف أو أنّ القمر سیخسف فی الساعة الفلانیّة من التاریخ الفلانیّ. فعلمه بالظاهرة التی ستحصل فی المستقبل هو عبارة عن مفهوم عامّ یُستخلَص بالاعتماد على صیغ عامّة. ذلك أنّ الوجود الخارجیّ لهذه الظاهرة لم یتحقّق بعد كی یصار إلى تكوین صورة له. وبناءً علیه فإنّ العلم بهذه الظواهر لا یمكن أن یحصل إلاّ فی إطار المفهوم العامّ الحاصل من خلال الحسابات والصیغ العلمیّة. وبما أنّ الله یعلم بكلّ شیء بما فی ذلك هذه الصیغ، فإنّ لدیه علماً بنتائجها بنفس هذه الطریقة الكلّیة العامّة.
ویواجه المسلمون أیضاً طائفة من الآیات والأحادیث التی تطرح معضلة اُخرى فیما یتّصل بعلم الله سبحانه وتعالى، ومنها قوله تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ لَیْلَةَ الصِّیَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ» إلى أن یقول: «عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَیْكُمْ»[12] [579]. فقد كان الجماع مع الأزواج فی الشرائع السابقة محرّماً فی شهر الصیام حتّى أثناء اللیل. لكنّ الإسلام لم یحِلّه فحسب، بل وجعله مستحبّاً فی اللیلة الاُولى من شهر رمضان المبارك. وقد بُیّنت علّة هذا التغییر فی الحكم فی القسم التالی من الآیة: «عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَیْكُمْ». إذ یُفهم من اُسلوب الآیة أنّ حكم التحریم كان من المقرَّر أن یسری على الدین الإسلامیّ أیضاً، لكن بما أنّ الله یعلم بأنّكم ستخونون أنفسكم فقد تفضّل علیكم ورفع عنكم حكم التحریم. ووفقاً لهذا التفسیر فإنّ علم الله بهذا الموضوع قد اُوجِد فی زمن معیّن. وفی المیسور تتبّع ما یشبه هذه المسألة فی آیات اُخرى؛ كقوله تعالى: «عَلِمَ أَن سَیَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ»[13] [580]، وقوله: «حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِینَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِینَ»[14] [581]؛ فقد أوجبنا علیكم حكم الجهاد كی نعلم مَن منكم سیجاهد ویصمد بوجه المكاره والشدائد.
فمثل هذه الآیات تعزّز هذه الشبهة وهی أنّه: أنّى لله أن یعرف بالحادثة قبل وقوعها؟ وقد شكّلت هذه القضیّة معضلة للكثیر من العلماء وبإمكانكم متابعة البحوث المتّصلة بهذا الموضوع فی مصنّفات الإلهیّات. لكنّ السبیل الأسهل لحلّ هذه المسألة، والتی قلّما یُلتفت إلیها، هی أنّه لیس لجمیع الموجودات علاقة زمانیّة مع بعضها. فإنّ ما یحصل على امتداد الزمان یكون له «قبل» و«بعد» أمّا الموجود الذی هو فوق الزمان فلا تربطه مع الموجودات الزمانیّة علاقة زمانیّة، ولا یستطاع القول بأنّه قبلها أو بعدها. فالموجود الذی هو فوق الزمان یحیط بكلّ الأزمنة وإنّ جمیع الظواهر حاضرة عنده فی وقت واحد. فإنّ عدم وقوع ظاهرةٍ لحدّ الآن إنّما هو بالنسبة لنا. أمّا بالنسبة لله فلیس ثمّة «أمس» أو «الیوم» أو «غداً». فجمیع الأزمنة حاضرة فی محضره. وبعبارة أبسط: فإنّ الله سبحانه هو الذی خلق الزمان أساساً وإنّ تقدّمه على جمیع الموجودات لیس تقدّماً زمانیّاً؛ بل هو تقدّم وجودیّ؛ وبتعبیر آخر: فإنّ له إحاطة وجودیّة. وبناءً علیه فإنّ علم الله بالماضی والمستقبل هو واحد.
إذن فما مدلول التعابیر الواردة فی الآیات الآنفة الذكر؟ یُصطلَح على هذه التعبیرات «العلم الإضافیّ» أو «العلم الفعلیّ»؛ بمعنى: حینما تتحقّق ظاهرة ما فإنّ تحقّقها یكون مطابقاً لعلم الله عزّ وجلّ وسیُعلم فی حینه. فطالما لم تتحقّق الظاهرة فی ظرف الزمان فإنّها غیر موجودة أصلاً حتّى تُعدّ «معلومة»، ومتّى ما اُوجدت فی ظرف الزمان فسوف تكون «معلومة». والمراد من «العلم» هنا هو النسبة التی تحصل بین علم الله وذاتٍ مّا بعد تحقّق وجود الأخیرة.
الغایة من التطرّق إلى مثل هذه المباحث هو التذكیر بأنّ مسألة علم الله بالأشیاء هی مسألة عمیقة قد بحث فیها فطاحل الفلاسفة منذ آلاف السنین. ویعبّر القرآن الكریم عن العلم الإلهیّ بأنّ كلّ شیء هو حاضر عندنا: «وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ یَعْلَمُهَا»[15] [582]. فإن سقطت على الأرض ورقة من شجرة فی جوف لیلة ظلماء فی منطقةٍ ما من هذا العالم فإنّنا نعلم بسقوطها، لأنّ الله حاضر فی ذلك المكان. فمن أجل تحقّق وجود ظاهرةٍ ما فإنّه لابدّ أن یعلم الله بها؛ فتحقّق وجودها هو عین علم الله بها. «أَلاَ یَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ»؛ فأنَّى لله أن لا یعلم بمَن كلّ وجوده بیده تعالى ومَن هو موجود بإرادته عزّ وجلّ؟! ولعمری فإنّها لسبیل غایة فی البساطة والحلاوة وضعها القرآن الكریم فی متناول الإنسان لیفهم كیف أنّ كلّ شیء هو حاضر عند الله ومعلوم لدیه. ولم یكن لائقاً جلباب بیان هذه المسألة فلسفیّاً إلاّ على قامة الملاّ صدرا من بین الفلاسفة، حشره الله بإذنه تعالى مع مَن تولاّه.
تأسیساً على ذلك فإنّ علینا أوّلاً أن ندرك بأنّ الله یعلم، وثانیاً أن نستحضر ذلك باستمرار فی أرواحنا. هذا هو بیان القرآن الكریم؛ فالورقة التی تسقط من شجرة یعلم بها الله، وكذا الخواطر التی تمرّ فی ذهنك فإنّ الله یعلم بها أیضاً: «وَهُوَ عَلِیمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»[16] [583]. فإن صدّقنا بأنّ الله یعلم بكلّ شیء، فسیسهل الأمر علینا. لكن ینبغی أن لا ننسى أنّ الالتفات المستمرّ إلى هذه القضیّة أمر صعب. فقول الإمام الخمینیّ الراحل (رحمه الله): «العالَم هو فی محضر الله» یعنی أنّ جمیع الأشیاء حاضرة عند الله، وما من شیء مجهول بالنسبة له سبحانه أو خفیّ عنه من أعماق أضأل الذرّات حتّى آخر المجرّات. لكن ماذا نصنع كی نظلّ مستحضرین لهذه القضیّة فی أرواحنا؟ هذا یحتاج إلى تمرین، فلابدّ أن نخطّط للتفكیر بهذا الموضوع للحظات یومیّاً، ومن الأفضل أن یكون ذلك قبیل الصلاة كی نؤدّی صلاتنا بحضور قلب أكبر. فلنصدّق بأنّ الله حاضر فی كلّ مكان؛ فلا مكان جلوسی، ولا كلامی، ولا طعامی هو خافٍ عن الله تعالى. بالطبع قد لا یكون فی المیسور التفكیر بهذا الموضوع لمدّة طویلة فی بادئ الأمر، لكن من الممكن، بالتدریج وبمرور الزمان، إطالة هذه المدّة وتعمیق هذا الالتفات. وهذا یحتاج إلى تمرین لاسیّما فی مظانّ الذنوب؛ فلابدّ من الانتباه الشدید والتفكیر مسبقاً بأنّ الله تعالى حاضر فی المشهد الذی ساُواجهه والذی هو من مظانّ المعاصی، وهو سبحانه یرانی. فلنقوِّ هذه الفكرة فی أذهاننا ولنلتفت إلى هذه القضیّة أكثر. ولعلّ ما قلناه ینفع لتوضیح عبارة الحدیث القدسیّ حین یقول تعالى: «ویَذكُر عِلمی به ویراقبنی باللیل والنهار عند كلّ سیّئة ومعصیّة».
وفّقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
[1] [584]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.
[2] [585]. عن الصادق (علیه السلام): «كلّما میّزتموه بأوهامكم فی أدقّ معانیه مخلوقٌ مصنوعٌ مثلكم مردودٌ إلیكم، ولعلّ النمل الصغار تتوهّم أنّ لله سبحانه زبانتین، فإنّ ذلك كمالها، وتتوهّم أنّ عدمهما نقصان لمن لا یتّصف بهما، وكذا حال العقلاء فیما یصفون الله سبحانه وتعالى به» (منهاج البراعة فی شرح نهج البلاغة للخوئیّ، ج17، ص204).
[3] [586]. سورة الملك، الآیة 14.
[4] [587]. أمالی المرتضى، ج1، ص284.
[5] [588]. سورة الحدید، الآیة 3.
[6] [589]. سورة الحدید، الآیة 4.
[7] [590]. سورة المجادلة، الآیة 7.
[8] [591].سورة النساء، الآیة 126.
[9] [592]. سورة فصّلت، الآیة 54.
[10] [593]. سورة الحجّ، الآیة 17.
[11] [594]. سورة یٰس، الآیة 82.
[12] [595]. سورة البقرة، الآیة 187.
[13] [596]. سورة المزّمل، الآیة 20.
[14] [597]. سورة محمّد (صلّى الله علیه وآله)، الآیة 31.
[15] [598]. سورة الأنعام، الآیة 59.
[16] [599]. سورة الحدید، الآیة 6.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 6 تموز 2014م الموافق للیلة التاسعة من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
31
ذكرنا فی المحاضرات الماضیة فی سیاق توضیح مقاطع من الحدیث القدسیّ الذی خاطب به ربّ العزّة نبیَّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) لیلة المعراج انّ بلوغ الحیاة الأبدیّة المطلوبة یحتاج إلى ممهّدات. فلابدّ أن تصغر الدنیا فی عین المرء أوّلاً كی یضمحلّ حبّه لها. ثمّ السعی فی المرحلة الثانیة لتغلیب إرادة الله على هوى النفس وجعل المرء استجلابَ مرضاةِ الله دافعاً لأنواع سلوكه. ثمّ علیه أخیراً أن یؤدّی حقّ عظمة الله عزّ وجلّ. وهذه العناوین الثلاثة تمّثل مبادئ استراتیجیّة. لكن كیف لهذه المبادئ أن تتحقّق؟ وما الذی ینبغی صنعه لاكتساب هذه الخصال؟ وهنا یطرح الحدیث القدسیّ الشریف فی مقاطعه التالیة بضعة مناهج عملیّة لهذا الغرض. المنهج الأوّل هو: «ویَذكُر علمی به»: أی على الإنسان أن یتذكّر أنّنی عالم بكلّ حركاته وسكناته. وقد قدّمنا فی اللیلة الماضیة بعض التوضیحات فی هذا المضمار.
متابعةً لبیان المناهج المؤدّیة إلى الحیاة الباقیة یقول الحدیث القدسیّ: «ویراقبنی باللیل والنهار عند كلّ سیّئة ومعصیة»[1] [600]. إذ یتحتّم على الإنسان أن یراقب نفسه باستمرار لاسیّما فی مظانّ ارتكاب المعاصی. ولعلّ هذه الفقرة من الحدیث القدسیّ هی التی جعلت علماء الأخلاق یركّزون جلّ اهتمامهم فیما ذكروه من مراحل تكامل الإنسان على «المشارطة» و«المراقبة» و«المحاسبة». بالطبع یمكننا أن نتصوّر هنا مراتب مختلفة للمراقبة استناداً إلى حال كلّ شخص ومستوى كماله. فالمرتبة الاُولى هی أن یخاطب المرء نفسه «مشارطاً» إیّاها فی أوّل یومه قائلاً: مادام الله قد وهبنی عمراً جدیداً فساُفید من رأس المال هذا فی التزوّد بمتاع لآخرتی، وطاعة ربّی، وعدم اقتراف المعاصی. ثمّ «یراقب» نفسه طیلة ساعات الیوم لئلاّ یرتكب ذنباً. وأخیراً «یحاسبها» لیلاً على ما فعله فی یومه لیتدارك ما قد یكون اقترفه من ذنوب أثناء النهار.
وقد وردت فی هذا الباب، لاسیّما فیما یتّصل بالمحاسبة، أحادیث جمّة وصنّف حولها كبار علماء الأخلاق مصنّفات عدّة، حتّى ذكرت بعض الروایات: «لیس منّا مَن لم یحاسب نفسه فی كلّ یوم»[2] [601]؛ بمعنى أنّ من لوازم ولایة أهل البیت (علیهم السلام) هو أن یحاسب المرء نفسه كلّ یوم. بل ینبغی لكلّ مسلم یؤمن بالحساب یوم القیامة أن یحاول، بما یتناسب مع درجة إیمانه بهذا الأمر، مراعاة هذه المسائل. ولذا فإنّه كلّما ارتفعت درجة إیمان المرء زادت دقّة مراقبته وعظُمت ثمارها.
وسیحرص باستمرار كلّ من یجتاز هذه المرحلة والذی قد صارت المراقبة ملَكَة بالنسبة له على عدم ارتكاب المعصیة، أو إنّه سیستغفر الله تعالى منها لا محالة بعد محاسبة النفس إذا كان قد ارتكبها نتیجة الغفلة. أمّا المرتبة الثانیة فیطلَق علیها اسم «الإحسان» وهی تسمیة قد تكون مقتبسة من وصیّة النبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) لأبی ذرّ حینما قال له: «الإحسان أنْ تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه یراك»[3] [602]؛ ویعنی أنّه بالإضافة إلى مراقبة المرء نفسه فإنّ علیه الالتفات دوماً إلى أنّه بمحضر الله تعالى. فإذا تصوّرنا إنساناً له مسؤولیّة تجاه شخص عظیم وعلیه أن یطیع أوامره، فإنّ اتّباعه أوامر المسؤول الأعلى منه یشكّل المرحلة الاُولى. أمّا فی المرحلة الثانیة فإنّ علیه، إلى جانب تنفیذ الأوامر، أن یلتفت إلى أنّه لا یغیب أبداً عن ناظر ذلك الشخص العظیم، وفی هذه الحالة فإنّه سینجز تكالیفه بمزید من الدقّة. «الإحسان أنْ تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه یراك»؛ فلابدّ أن یكون الإنسان فی عبودیّته لربّه كمَن یرى الله حاضراً وناظراً باستمرار. یقول (صلّى الله علیه وآله): اعلم أنّك إن لم تكن ترى الله فإنّه عزّ وجلّ یراك. والقرآن الكریم أیضاً یقول: «أَلَمْ یَعْلَم بِأَنَّ اللهَ یَرَىٰ»[4] [603]. فإذا التفت المرء إلى أنّ شخصیّة عظیمة تشرف دائماً على أعماله وتراه فسیراقب تصرّفاته أكثر ویحرص على العمل حسب أوامرها.
لكنّ الإنسان فی المرحلة التی تعلو على هذه لا یحرص على أن تكون تصرّفاته مطابقة لإرادة معبوده فحسب، بل ویعمل على أن لا تخالف خواطرُ ذهنه هواه أیضاً. فالمتّقون یحاولون أن یستحضروا فی أرواحهم دائماً أنّهم فی محضر الله عزّ وجلّ ویراقبوا أنفسهم لئلاّ یقترفوا ذنباً. لكن نفس هؤلاء قد ترد فی بالهم أحیاناً خاطرةُ لذّةٍ لمعصیة كانوا قد اقترفوها فی الأیّام الخوالی، أو تراودهم فكرة ارتكاب ذنب، وهی هواجس، وإنْ لم تَرقَ إلى مرحلة الفعل، لكنّها غیر محبَّذة عند الله عزّ وجلّ. یقول تعالى: «اجْتَنِبُواْ كَثِیراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ»[5] [604]؛ فالله لا یرضى حتّى أن یخطر ظنّ سیّئ فی بال امرئ تجاه شخصٍ ما، لأنّ ذلك قد یشكّل دافعاً للقیام بعمل مشین، لاسیّما إذا زیّنه له الشیطان بوساوسه. وما مهمّة الأخیر أساساً إلاّ تزیین الذنوب، وقد أشار القرآن الكریم إلى هذا المعنى عن لسان إبلیس قائلاً: «لأُزَیِّنَنَّ لَهُمْ»[6] [605]، ویقول عزّ من قائل فی موضع آخر: «زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِینَ وَالْقَنَاطِیرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَیْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَیَوٰةِ الدُّنْیَا»[7] [606].
فمن أجل ارتكاب المعصیة هناك مثلّث یتكوّن ضلعه الأوّل من المادّة التی یتعلّق بها الذنب، وهی نفس الدنیا؛ كسبائك الذهب والفضّة، وبطاقات الائتمان، والأصفار المصفوفة على یمین الحساب المصرفیّ، والخیل الثمینة، والسیّارات الفارهة الباهضة الثمن، وغیرها من الممتلكات. یقول عزّ وجلّ إنّ هذه الاُمور تبدو للإنسان أكثر جمالاً ممّا هی علیه فتكون جذّابة له. الضلع الثانی للمثلث یتمثّل فی وسوسة الشیطان. فمهمّة الأخیر هی جعل الاُمور الدنیویّة أكثر جمالاً وأشدّ بریقاً فی نظر الإنسان، حتّى تتعاظم جاذبیّتها فی نظره بالتكرار. أمّا الضلع الثالث لهذا المثلث فتمثّله میول الإنسان الباطنیّة إلى تلك الاُمور، أو ما یطلَق علیه هوى النفس. فأضلاع هذا المثلث تعمل سویّة لجرّ الإنسان نحو فخّ الخطیئة. فإن أراد المرء صیانة نفسه من الوقوع فی مثل هذا الفخّ فعلیه، من خلال التسلّح بسلاح مناسب، أن یقاوم جاذبیّة المعصیة كی لا ینخدع بوساوس الشیطان الرجیم ویستطیع التغلّب على هوى نفسه. لكن ما هو السبیل لیحقّق الإنسان النجاح فی هذا الطریق؟ إنّه التمرین والمثابرة. فالنزعات المادّیة والطبیعیّة كالجوع والغریزة الجنسیّة هی فعّالة فی نفس الإنسان منذ أن خُلق. أمّا الدوافع الراقیة والسامیة فإنّها تنشط عبر السعی والمثابرة. ومن هذا المنطلق فإنّ على الإنسان – ومن خلال التأمّل والتفكّر فی سلوكه – أن یُعدّ خطّة عملیّة للنجاة من شَرَك المعصیة والخطیئة.
ولهذا یقول بعض العظماء إنّ فترة السیر والسلوك كلّها هی عبارة عن مراقَبة، وعلى السالك أن یكون ملتفتاً بشكل دائم وأن یجتهد حتّى لا یصاب بالغفلة. یقول تعالى فی محكم كتابه العزیز: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِیراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ یَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْیُنٌ لاَ یُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَ یَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـٰئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ»[8] [607]. طبقاً لهذه الآیة فإنّ بعض الناس قد خُلقوا – أساساً - لجهنّم، وهو كنایة عن أنّ عاقبتهم ستكون إلى جهنّم لا محالة. فقد أعطاهم الله أعیناً لیبصروا بها الحقائق لكنّهم لم یبصروا بها غیر اللذائذ المادّیة، ووهبهم آذاناً لیسمعوا بها الموعظة والنصیحة لكنّهم أوقفوها على سماع اللغو والموسیقى الماجنة وأمثال ذلك، ومنحهم عقلاً لیمیّزوا به الحقّ عن الباطل لكنّهم عطّلوه، فأمثال هؤلاء هم أشبه بالأنعام، بل وأضلّ منها أیضاً. ثمّ یقول فی ختام الآیة: «أُوْلَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ»؛ أی إنّ هؤلاء قد ابتلوا بهذه المصیبة بسبب الغفلة فصاروا أخسّ من الحیوانات.
إذن فإنّ ما یرفع الإنسان مهما امتدّ سیره وسلوكه من حضیض الحیوانیّة إلى أوج مقام القرب من الله تعالى هو الالتفات القلبیّ. ومن هنا فإنّه لابدّ للإنسان أن یجتهد باستمرار لتقویة هذا الالتفات الذهنیّ؛ إذ علیه فی المرحلة الاُولى أن یلتفت إلى أنّ الذنب یوجب الخسران وأن یتورّع جاهداً عن ارتكابه. وعلیه فی المرحلة التالیة أن یلاحظ دائماً أنّ الله موجود فی كلّ مكان وزمان. وعبر تقویة هذه الحالة سیُستدرَج التفاتُ الإنسان شیئاً فشیئاً نحو الله عزّ وجلّ وسینطبق فی هذه المرحلة كلّ ما یحبّه مع ما یحبّه الله، وكما نعبّر فی لغتنا الدارجة فإنّه سیعیش دوماً مع الله؛ أی یكون دائم الذكر له من لحظة استیقاظه من نومه حتّى ساعة إیوائه إلى الفراش. وحتّى عندما لا یكون لسانه مشغولاً بالأذكار والأوراد فإنّ قلبه یكون متوجّهاً نحو الله ذاكراً له، وكأنّه ما من شیء فی قلبه غیر الله سبحانه. وهی عین الحالة التی یشیر إلیها الحدیث القدسیّ متابعاً بقوله: «ویُنَقّی قلبه عن كلّ ما أكره».
بعد أن تبلغ المراقبة مبلغ الكمال ویصیر الالتفات إلى حضور الله تعالى ملَكَة من ملكات النفس یتحتّم على الإنسان أن یحاول جهده كی لا یدع فی قلبه أیّ شیء لا یحبّه الله وینقّیه من كلّ ما یبغضه تعالى، بل وأن لا یسمح لهواجس هذه الاُمور أن تتسلّل إلى ذهنه؛ وبتعبیر آخر: علیه أن یمسك بزمام قلبه ویبذل غایة وسعه لئلاّ یلتفت إلى ما لا یحبّه ربّه. وهی مرتبة أعلى من الالتفات إلى حضور الله عزّ وجلّ. فمضافاً إلى التفات المرء فی هذه المرحلة إلى أنّ الله یرى كلّ ألوان سلوكه الظاهرة ویعلم بها فإنّه ملتفت فیها أیضاً إلى أنّه جلّ وعلا عالم بمكنونات قلبه، وما تنطوی علیه نفسه من میول وأهواء، وما یخطر بباله من هواجس. ولذلك یقول تعالى فی الحدیث القدسیّ: «ویُنَقّی قلبه عن كلّ ما أكره، ویبغض الشیطان ووساوسه».
قلنا إنّ أحد أضلاع المثلث الذی یقود الإنسان إلى ارتكاب الخطیئة یتمثّل بالنزعات والنزوات الباطنیّة المؤدّیة إلى ذلك وهو ما یستلزم اتّباع هوى النفس. فبعد الانتصار على جاذبیّة الذنب تأتی المرحلة التالیة التی یتعامل الإنسان فیها مع الشیطان تعامل العدوّ. وهو أمر یؤكّد علیه أحد تعالیم القرآن الكریم حیث یقول: «إِنَّ الشَّیْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً»[9] [608]. فكیف نتعامل مع عدوّنا اللدود المتعطّش لدمائنا؟ من الواضح أنّنا سنحاول قدر الإمكان أن لا نلتقی به وأن نفرّ من الارتباط به كی لا یمسّنا بسوء. فإن آمنّا حقّاً بأنّ الشیطان هو عدوّ لنا تعیّن علینا أن نتعامل معه بهذا الاُسلوب. لكن لماذا نحن نخسر الصراع مع الشیطان ثمّ نلجأ إلى التعامل معه تعامل الصدیق مع صدیقه؟
علاقة الشیطان بالإنسان هی الاُخرى لها مراتب. فقد یجتذب الشیطانُ الإنسانَ أحیاناً بالإیماء والإشارة، لكنّه قد یغویه - أحیاناً اُخرى - بالوسواس والوعود الخادعة لتنفیذ أوامره، وهو ما فعله مع نبیّنا آدم (علیه السلام). فقد قال إبلیس لنبیّ الله آدم وزوجه حوّاء (علیهما السلام): «مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَن تَكُونَا مَلَكَیْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِینَ»[10] [609]؛ یعنی إنّ الله قد نهاكما عن الأكل من تلكما الشجرة لئلاّ تتحوّلا إلى ملكین أو تخلدا فی حیاة أبدیّة! وقد أقسم على قوله هذا مدّعیاً أنّه یبغی مصلحتهما. وهو یغوی بقیّة الناس أیضاً بالكیفیّة التی یستطیع. بالطبع لیس من المقرّر أن یحرف الشیطانُ الإنسانَ عن جادّة الصواب بالإكراه، فهو لا یمتلك مثل هذه القدرة، بل إنّه یفعل ذلك بالقول اللیّن والتحایل فیغوی فلاناً بالعبادة، ویخدع آخر بالغرور العلمیّ، ویتحایل على ثالث من منطلق مكانته الاجتماعیّة، ویغری رابعاً بذریعة اُخرى، وهكذا. فالشیطان ینصب لكلّ امرئ فخّاً یتناسب مع شخصیّته ونهجه وهواه ومنزلته الاجتماعیّة فیخدعه ومن ثمّ یعمل شیئاً فشیئاً على توطید أواصر الصداقة معه لیورّطه معه بحجّة طلب الخیر له والخوف على مصلحته. ویصطلح على هذه العلاقة فی الثقافة القرآنیّة بـ «التولّی»: «إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ الَّذِینَ یَتَوَلَّوْنَهُ»[11] [610]. فلیس للشیطان سلطة على أحد كی یغریه على فعل المعصیة بالجبر والقوّة، اللهمّ إلاّ الذین وطّدوا معه علاقة حمیمة وصاروا یصغون إلى ما یقول. ففی هذه الحالة فقط یستطیع الشیطان النفوذ إلى ابن آدم ویؤثّر علیه.
فلا انسجام بین علاقة التولّی والصداقة من جهة والعداوة من جهة اُخرى؛ فإمّا أن تربط الإنسان مع الشیطان علاقة صداقة، أو أن یتّخذه عدوّاً. والقرآن الكریم یؤكّد على هذا المعنى ویكرّره باستمرار: «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ»[12] [611]، «فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً»، «وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّیْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِینٌ»[13] [612]. لكنّنا، من الناحیة العملیّة، نقیم معه علاقة صداقة ونبرّر لأنفسنا ذلك أیضاً! بالطبع لا الشیطان یقدّم نفسه صراحةً على أنّه «شیطان» ولا نحن نصرّح بنیّتنا فی مصادقَته. لكنّه لیس لسلوكنا من تفسیر سوى الصداقة مع الشیطان الرجیم؛ فعندما نعمل بنصیحة الشیطان ولا نتعامل معه بحدّة، فإنّه لا یعود لتصرّفنا مفهوم سوى الصداقة معه. بل والأدهى من ذلك هو أن یصل الأمر بالإنسان إلى أن یصبح خادماً للشیطان فینفّذ الشیطانُ عن طریقه خططَه بحقّ الآخرین؛ وبعبارة اُخرى فإنّه یصبح وسیلة لإغواء الآخرین. فلا یقف الأمر عند ضلاله هو وصیرورته من أهل النار، بل یتحوّل إلى أداة بید الشیطان لإغواء غیره! لیس هذا فحسب بل وقد یتطوّر الأمر بالإنسان إلى حدّ أن یمتطی الشیطان ظهره ویمسك بزمامه.
أمّا إذا لم نرغب فی التورّط بهذه العاقبة السیّئة فعلینا منذ البدایة أن نردّ بالنفی الشدید على تلمیحات الشیطان، وأن نحاول إذا وقعنا – لا سمح الله – فی فخّ دعوته إنقاذ أنفسنا من مخالبه بأسرع ما یمكن ولا ندعه یتسلّط على رقابنا. وهی عین الملاحظة التی یشیر إلیها الحدیث القدسیّ الشریف. فبعد أن یحظى الإنسان بالتفات دائم إلى حضور الله تعالى ویعطف اهتماماته القلبیّة إلى إرادته جلّ وعلا، فإنّ علیه السعی لطرد كلّ ما لا یحبّه الله من قلبه وتنقیته منه: «یُنَقّی قلبه». وكأنّ القلب یتلوّث ویتّسخ ویتعفّن بالتعلّق بما لا یحبّه الله ممّا یحتّم تنظیفه وتنقیته، وهو ما یتحقّق بإخراج محبّة غیر الله منه.
لقد قلنا إنّ الضلع الثالث لهذا المثلّث یتمثّل بوساوس الشیطان وتحریضاته وتزییناته. ومن أجل مواجهة هذا العامل لابدّ من الاعتقاد یقیناً بأنّ الشیطان عدوّ لنا والسعی من أجل عدم توفّر الأرضیّة لتسلّطه علینا: «ولا یجعل لإبلیس على قلبه سلطاناً وسبیلاً»[14] [613]، فلا نأتینّ بما یفسح المجال للشیطان بالإمساك بزمام قلوبنا. فقد دار الحدیث فی المقطع السابق عن سلوك إیجابیّ یتمثّل بتنقیة القلب من الإرادات غیر الإلهیّة والعمل على الالتفات إلى المحبوب. وفی هذا المقطع یدور الكلام حول السلوك السلبیّ المتمثّل بمقارعة العدوّ. ولابدّ من وجود هذین العاملین جنباً إلى جنب كی یُكتب لهما الدوام. فمصادقة الصدیق من دون معاداة العدوّ لا تدوم. وهذا ما یفسّر ذكر «الحبّ» فی الأحادیث جنباً إلى جنب مع «البغض»: «وهل الدین إلاّ الحبّ والبغض»[15] [614]، «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَیْنَهُمْ»[16] [615]. فالعواطف الإیجابیّة وحدها لا تكفی. إذ قد تدخل فی هذه الحالة محبّة العدوّ أیضاً فی القلب. بناءً على ذلك فإنّه مضافاً إلى العمل فی المرحلة السابقة على تقویة محبّة ما یحبّه الله فی القلب، علینا فی هذه المرحلة أن نحاول طرد كلّ ما لا یحبّه الله منه، فنخضع أمام ولیّ الله، ونصمد بصلابة أمام عدوّ الله.
إنّ الاجتهاد فی معرفة وساوس الشیطان وحیل النفس یُعدّ من المسائل التی طالما أكّد علیها أساتذة الأخلاق والعلماء العظام تأكیداً مبرماً. ولعلّكم سمعتم قصّة الشیخ الأنصاریّ (رحمه الله) فی هذا الصدد، لكنّ تكرارها لا یخلو من حُسن. فحینما كان المرحوم الشیخ الأنصاریّ (رضوان الله تعالى علیه) یحتلّ مركز زعامة التشیّع، أتاه بعض نسوة الجیران - وكان موعد وضع حمل امرأته - فأخبرنه أنّهنّ بحاجة إلى بعض السمن لتهیئة طعام مناسب تتناوله امرأة الشیخ لیعینها على ضعفها. ولم یكن لدى الشیخ مال فی ذلك الحین، فخطر فی باله أنّه كان قد وضع «درهماً» من سهم الإمام (علیه السلام) جانباً، فقال فی نفسه: أقترضُ هذا الدرهم لأشتری به السمن ثمّ اُعیده فیما بعد. لكن بمجرّد أن رفع الدرهم وهمّ بالخروج حدّث نفسَه: لو أنّ امرأة أحد طلاّب العلوم الدینیّة فی زاویة من مدینة النجف الأشرف قد آن أوان ولادتها هذه اللیلة فهل سیكون فی متناول یده مال لشراء السمن لها؟ فقال لنفسه: ما دمتُ غیر متأكّد من أنّ جمیع الطلاّب یملكون هذا المقدار من المال فی مثل هذه الساعة فإنّنی سوف لا أستخدمه، ثمّ أرجَعَ المال إلى محلّه. فی نفس تلك اللیلة شاهد أحد تلامذة الشیخ فیما یرى النائم إبلیساً یسیر جارّاً وراءه حبالاً متنوّعة الأشكال. فسأله: ما هذه الحبال؟ فأجابه: أنا استخدم كلّ واحد من هذه الحبال لخداع فرد من الناس وجرّه ورائی. فأشار التلمیذ إلى أحد الحبال وكان متیناً ومتمزّقاً فقال: وما هذا؟ فأجاب إبلیس متحسّراً: لقد أعددتُ هذا الحبل منذ تسعة أشهر وألقیته لیلة أمس على عنق الشیخ الأنصاریّ لكنّه قطّعه بحركة واحدة. فسأله التلمیذ: وما الحبل الذی أعددتَه لی أنا؟ فضحك الشیطان قائلاً: لستَ بحاجة إلى حبل، إنّك تسرع نحوی بإشارة واحدة منّی!
فمن أجل خداع رجل مثل الشیخ الأنصاریّ یحتاج الشیطان إلى تسعة أشهر لیعدّ العدّة ویهیّئ المقدّمات علّه یتمكّن من إلقاء حبله حول عنقه. فحیَل الشیطان هی غایة فی التعقید والإحكام وقد یقع فریستَها حتّى ذوو الفراسة والفطنة، ولا یستطیع الإفلات من شِراكه «إلاّ مَن عصمه الله»[17] [616]؛ إلاّ من تمسّك بحبل الله وحبل أولیائه واستخدم سلاح الدعاء والتوسّل للنجاة من مكائد الشیطان الرجیم. إذن یتعیّن دائماً على الذین یسعون حقیقةً وراء التكامل والرقیّ أن یلجأوا إلى ربّهم من شرّ حیل الشیطان وشِراكه التی ینصبها فی طریق الجمیع، بما فیهم بعض أولیاء الله، وإنّ القلیل من الناس هم الذین یتمكّنون دائماً من النجاة من كلّ أحابیله.
نسأل الله تبارك وتعالى ببركة أولیائه ومقام عباده الصالحین أن یشملنا نحن أیضاً بعنایاته وینجّینا فی مواطن الخطر من أشراك إبلیس.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
[1] [617]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.
[2] [618]. الكافی، ج2، ص453.
[3] [619]. بحار الأنوار، ج67، ص196.
[4] [620]. سورة العلق، الآیة 14.
[5] [621]. سورة الحجرات، الآیة 12.
[6] [622]. سورة الحجر، الآیة 39.
[7] [623]. سورة آل عمران، الآیة 14.
[8] [624]. سورة الأعراف، الآیة 179.
[9] [625]. سورة فاطر، الآیة 6.
[10] [626]. سورة الأعراف، الآیة 20.
[11] [627]. سورة النحل، الآیة 100.
[12] [628]. سورة البقرة، الآیة 168.
[13] [629]. سورة البقرة، الآیة 208.
[14] [630]. نفس الحدیث القدسیّ.
[15] [631]. بحار الأنوار، ج65، ص63.
[16] [632]. سورة الفتح، الآیة 29.
[17] [633]. وسائل الشیعة، ج16، ص11
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 7 تموز 2014م الموافق للیلة العاشرة من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«فإذا فعل ذلك أسكنتُ فی قلبه حبّاً حتّى أجعلَ قلبَه لی وفراغَه واشتغالَه وهمّه وحدیثَه من النعمة التی أنعمتُ بها على أهل محبّتی من خلقی»[1] [634]
تطرّقنا فی المحاضرات الفائتة، فی سیاق بحثنا حول مقاطع من حدیث المعراج القدسیّ، إلى خصائص المشتاقین إلى الحیاة الآخرة السعیدة الهنیئة الأبدیّة وذكرنا أنّه یمكننا تقسیم مباحث هذا الجزء من الحدیث إلى قسمین؛ قسم المبادئ الاستراتیجیّة وقسم المناهج العملیّة. ومتابعة للحدیث وبعد بیان هذه المقدّمات فقد تمّ التساؤل بأنّ الله تعالى كیف سیتعامل فی عالم الدنیا مع الذین یرومون – من خلال العمل بهذه التوصیات والتوجیهات – الوصول إلى هذه الحیاة، وماذا سیكون الأجر الذی أعدّه لهم؟
كما تعلمون فإنّ الحكمة من خلق الحیاة الدنیا هی أنْ یبنی الإنسان فیها - من خلال أعماله الاختیاریّة - حیاته الأبدیّة. واستناداً إلى هذا المعنى تُشَبّه الحیاة الدنیا أحیاناً – من حیث كونها مُعِدّة لحیاة اُخرى - بالحیاة الجنینیّة إلاّ أنّ الحیاة الدنیا یتحتّم على الإنسان فیها أن یبنی نفسه ویُعدّها للولادة وولوج عالم جدید. ومن هنا فإنّ ما یصیبه المرء فی عالم الآخرة هو محصّلة أعماله التی أتى بها فی هذه الدنیا. وإنّ الاعتقاد بهذه المسألة یُعدّ واحداً من اُصول الدین وضروریّاته. لكن حیث إنّ لطف الله جلّ وعلا وعنایته لا نهایة لهما، فقد هیّأ أیضاً للناس فی هذه الدنیا مناخات لتلقّی المزید من رحمته. فالسنّة الإلهیّة العامّة والقطعیّة تقضی بأنّ الإنسان إذا عرف أنعُم الله تعالى، ولم یسِئ استخدامها، وشكَرها، فإنّ الله سیزیدها له: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّكُمْ»[2] [635]. وفی المقابل فإنّ الذین یكفرون بالنعم سیواجهون فی نفس هذه الدنیا – بشكل من الأشكال - مشكلات شتّى: «وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِیبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَیْدِیكُمْ وَیَعْفُواْ عَن كَثِیرٍ»[3] [636]. بطبیعة الحال فإنّ الله لا یعاقب عباده فی الحیاة الدنیا على كلّ أعمالهم المشینة، بل هو یتغاضى عن الكثیر منها أیضاً. وقد صرّحت بعض الآیات القرآنیّة بأنّ الله لو أراد أن یعاقب عباده فی عالم الدنیا على جمیع ذنوبهم لما بقی على الأرض كائنٌ حیّ. لكنّه تعالى یمهلهم فی الحیاة الدنیا لعلّ المذنبین منهم یتنبّهون ویتّعظون: «لِیُذِیقَهُم بَعْضَ الَّذِی عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ»[4] [637]؛ فهو یذیقهم العقاب على بعض أعمالهم فی هذه الحیاة الدنیا لعلّهم یتوبون بسبب هذا العذاب المخفّف ویثوبون إلى جادّة الحقّ.
طبقاً لهذه السنّة فإنّه إذا عمل بعض الناس على تطبیق الأحكام الإسلامیّة فی المجتمع فإنّهم سینعمون بنعم مادّیة أكبر فی هذه الدنیا: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَیْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»[5] [638]؛ فلو أنّ الناس امتثلوا الأحكام الإلهیّة، أو بعبارة اُخرى: لو كان النظام الإسلامیّ هو النظام الحاكم على الناس، فسوف نزید فی بركاتهم. كما ویقول تعالى فی آیة اُخرى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِیلَ... لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تّحْتِ أَرْجُلِهِم»[6] [639]؛ فحتّى الیهود والنصارى لو أنّهم عملوا بأحكام شریعتهم، لدرّت علیهم الأرض والسماء نعماً.
ومن السنن الإلهیّة الاُخرى هی ما یتعلّق بمعرفة قدر النعم المعنویّة. فالله سبحانه وتعالى یهدی الناس جمیعاً بالعقل والوحی: «الَّذِی أَعْطَىٰ كُلَّ شَیْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ»[7] [640]؛ أی إنّ الله یهدی كلّ ما یخلق؛ فكلّ الكائنات من نباتات وحیوانات هی مهدیّة تكوینیّاً إلى المسیر الذی خُلقت من أجله. والإنسان أیضاً هو مهدیّ عن طریق العقل والوحی. بید أنّ الناس لا یتعاملون جمیعاً مع هذه النعم بكیفیّة واحدة؛ فبعضهم یُفید من نعمة الهدایة على أتمّ وجه، لكنّ البعض الآخر یكفر بها بالعصیان والطغیان: «وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَیْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىٰ عَلَىٰ الْهُدَىٰ»[8] [641]. فعلى الرغم من أنّ الله هدى قوم صالح (علیه السلام) لكنّهم حبّذوا العمى والضلال على الهدایة، فكانت النتیجة أن حاق بهم العذاب. وفی المقابل فإنّ الذین عرفوا قدر الهدایة فقد زادَهم الله هدىً على هداهم: «وَالَّذِینَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدىً»[9] [642]. فالسنّة السابقة ترتبط بالنعم المادّیة وإنّ لها ثماراً وبركات مادّیة أیضاً، أمّا هذه السنّة فإنّها فی درجة أعلى. فلو عرف البشر قدر النعم المعنویّة وأفادوا جیّداً من هدایة ربّهم فسیزید الله فی هداهم: «وَیَزِیدُ اللهُ الَّذِینَ اهْتَدَوْاْ هُدىً»[10] [643]. وهناك نماذج كثیرة لهذه السنّة ذَكَر بعضَها القرآن الكریم.
إنّ للنعمة المعنویّة المتمثّلة بالهدایة مراتبَ عدیدة أوّلها الهدایة إلى دین الإسلام ومذهب أهل البیت (علیهم السلام). وكلّنا معاشر المؤمنین ننعم بهذه النعمة ولله الحمد، ونعرف قدرها إلى حدّ ما. لكنّه ثمّة للهدایة ولثمارها مراتب اُخرى تخصّ الخواصّ من العباد وإنّ أكثر المؤمنین لیس لدیهم حتّى تصوّر واضح عنها، فضلاً عن محاولتهم اكتسابها والإفادة من نتائجها. ولتقریب المعنى إلى الذهن یمكن أن نضرب من الحبّ الغامر لقیس ولیلى، ووامق وعذرا، وفرهاد وشیرین مثلاً. فلعلّ أغلبنا غیر قادر على تصوّر ما كان یسعى إلیه أمثال هؤلاء. حیث یحكى أنّ لیلى كانت جاریة سوداء ولم تكن جمیلة المظهر لیقع فی حبّها كلّ مَن یراها. لكنّه حینما أنكروا على قیس ولَهَه بهذه الجاریة السوداء الحبشیّة قال: وهل إنّ كلّ أسود غیر محبوب؟ فكیف یحبّ جمیع الناس المسك وهو أسود، فعلى الرغم من سواد المسك فإنّه غالی الثمن بسبب عطره الفوّاح:
یقولون لیلى سودةٌ حبشیّة فلولا سواد المسك ما كان غالیا
فالذی لم یذق رشفةً من حبّ قیس للیلى ینتابه العجب من سماع هذه المفاهیم، وغایة ما یذهب إلیه هو أن یرمی قیساً بالجنون لأنّه أفسد حیاته من أجل امرأة.
لكنّنا إذا تقصّینا أحوال أولیاء الله تعالى فسنجدها على هذا النحو أیضاً. بل إنّ حبّ بعضهم لربّهم لهو أشدّ حرارة وإحراقاً من حبّ قیس للیلى. وأحد هؤلاء هو نبیّ الله شعیب (سلام الله علیه). حیث یُروى أنّ شعیباً بكى سنینَ طویلةً شوقاً إلى ربّه حتّى اُصیب بالعمى من شدّة البكاء. فمنّ الله علیه بأن أعاد له بصره. لكنّه عاود البكاء ثانیة حتّى اُصیب بالعمى مرّة اُخرى. فأعاد الله له بصره ثانیة. فعاود الكرّة للمرة الثالثة، إلى أن فقدَ بصره تماماً. وفی هذه المرّة أرسل الله تعالى له جبرئیل بهذا الوحی: لماذا كلّ هذا البكاء؟ فإن كان بكاؤك خوفاً من النار فقد حرّمتُها علیك، وإن كان شوقاً إلى الجنّة، فقد وهبتُها لك! فقال شعیب (علیه السلام): «إلهی وسیّدی! أنت تعلم أنّی ما بكیتُ خوفاً من نارك ولا شوقاً إلى جنّتك ولكن عَقَد حبُّك على قلبی فلستُ أصبر أو أراك» فإنّ بكائی هو من شدّة محبّتی لك وإنّنی لن یهدأ لی بال حتّى أراك. «فأوحى الله جلّ جلاله إلیه: أمّا إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأُخدِمُك كلیمی موسى بن عمران (علیه السلام)»[11] [644]. فكان أن أتى موسى قریةَ «مَدیَن» وتولّى رَعْیَ أغنام شعیب، وهو الأجر الذی أعطاه الله لشعیب فی هذه الدنیا فی مقابل حبّه له. لكن ماذا نصنع نحن إذا أردنا الوصول إلى هذه الدرجة ونحن متعلّقون بلذائذ هذه الدنیا وجاهها ومناصبها؟ الجواب الشافی لمن أراد بلوغ هذا المقام موجود فی مقطع الحدیث القدسیّ الذی بحثناه فی المحاضرات الأخیرة؛ وهو: أَخرِجوا حبّ الدنیا من قلوبكم، كونوا دائمی الذكر لله تعالى، احذروا من الوقوع فی حبائل الشیطان، وسیغرس الله محبّته فی قلوبكم. وعلى الرغم من أن هذه الطریق لیست بالطریق السهلة، فإنّه إذا سعى الإنسان فیها بصدق بكلّ ما اُوتی من وسع فسیتولّى الله بنفسه مساعدته لطیّها. وهذا هو موضع السنّة الإلهیّة المذكورة التی یقول فیها تعالى: «وَیَزِیدُ اللهُ الَّذِینَ اهْتَدَوْاْ هُدىً». فنحن نعلم أنّنا ضعفاء، والله جلّ وعلا لا یتوقّع منّا أن نكون كشعیب وأمثاله. لكن ینبغی أن لا نقصّر فیما نستطیع، كی یمدّ الله لنا ید العون والمساعدة.
لقد اُشیر فی المحاضرات الفائتة إلى أنّ الله یثیب من یقوم بمثل هذه الاُمور. وسنتحدّث الیوم عن هذا الثواب. فإنْ شمّر المرء عن ساعدیه وهیّأ الشروط المذكورة بحدود وسعه وطاقته؛ فصار یذكر الله دوماً، ولم یدع قلبَه یتعلّق باُمور الدنیا، ولم یُصغِ لوساوس إبلیس، فإنّ الله تعالى سیُسكِن فی قلبه حبّاً: «أسكنتُ فی قلبه حبّاً». فنحن نعی جیّداً بأنّ قلوبنا – مع ما فیها من تعلّقات باُمور الدنیا، وما نشكوه من نقص فی معرفتنا – لا تستحقّ محبّة الله عزّ وجلّ، وأنّ ظهور حبّ جنونیّ فی قلب الإنسان لیس بالأمر الهیّن. لكنّنا إذا هیّأنا المناخ لمثل هذه المحبّة، وجعلنا أوعیة قلوبنا طاهرة مُعَدّة، فإنّ الله سیضع فی هذه الأوعیة شیئاً من الجواهر الخاصّة بأولیائه: «فإذا فعل ذلك أسكنتُ فی قلبه حبّاً». وباشتعال نار محبّة الله فی قلب العبد فإنّ الله سیجعل هذا القلب له، كی لا یجد غیرُه سبیلاً إلیه: «حتّى أجعلَ قلبَه لی وفراغَه واشتغالَه وهمّه وحدیثَه من النعمة التی أنعمتُ بها على أهل محبّتی من خلقی».
ولعمری فإنّ هذه لَنِعمة خاصّة جعلها الله لخاصّة أولیائه، ولیس للآخرین الاطّلاع على العلاقة التی تربط أمثال هؤلاء بالله جلّ شأنه. وإنّ أثر محبّة العبد الجامحة لربّه هی أنّه – حاله حال غیره من العاشقین الولهانین – سیفتّش عن أیّ ذریعة لذكر محبوبه. فبظهور محبّة الله فی قلب الإنسان سیكون قلبه لله وسیكون دائم الرغبة للتحدّث عنه تعالى وعن آلائه. فسواء أكان فی حالة الراحة من عمله أو مشغولاً به فإنّ التفاته یكون لله. فهو یشكر الله فی ساعة فراغه من العمل أن تفرّغ لمناجاته. كما كان موسى بن جعفر الكاظم (سلام الله علیه) یسجد لربّه فی تلك الزنزانة المظلمة التی لا یُعلم نهارها من لیلها شاكراً له قائلاً: «اللهمّ إنّك تعلم أنّنی كنت أسألك أن تفَرِّغَنی لعبادتك، اللهمّ وقد فعلتَ، فلك الحمد»[12] [645].
وكذا فی ساعة العمل فإنّ العبد العاشق لا یفتأ یذكر ربّه: «رِجَالٌ لاّ تُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَیْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَوٰةِ وَإِیتَاءِ الزَّكَوٰةِ»[13] [646]. فكما یكون عمله لله وأنّه لا ینساه أبداً، فإنّه لا یغفل عن ذكر الله حتّى فی الخلوات وعند الفراغ من العمل؛ فهو یحاول أن یخلو بالله ویناجیه مناجاة خاصّة كلّما سنحت له الفرصة: «...وهمَّه وحدیثَه من النعمة التی أنعمتُ بها على أهل محبّتی من خلقی»؛ فكلّ همّه وغمّه وفكره وذكره مُنصَبَّة فی الله، وهو دائم الشكر لتلك الآلاء الخاصّة التی ینعم الله بها على أهل محبّته، ولا یجد الوقت لشكر باقی نعم الدنیا. فشُكْرُ الله تعالى على نعمة البصر والسمع والنطق هو من اختصاص أمثالنا. أمّا خواصّ عباد الله فإنّهم ذائبون فی نعم الله المعنویّة إلى درجة لا یجدون الوقت لشكر كلّ واحدة من أنعمه المادّیة. فإنّ تمام التفات هؤلاء العباد موجَّه إلى الآلاء الخاصّة التی یمنّ الله بها على أهل محبّته.
رزقنا الله وإیّاكم إن شاء الله
1] [647]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.
[2] [648]. سورة إبراهیم، الآیة 7.
[3] [649]. سورة الشورى، الآیة 30.
[4] [650]. سورة الروم، الآیة 41.
[5] [651]. سورة الأعراف، الآیة 96.
[6] [652]. سورة المائدة، الآیة 66.
[7] [653]. سورة طٰه، الآیة 50.
[8] [654]. سورة فصّلت، الآیة 17.
[9] [655]. سورة محمّد (صلّى الله علیه وآله)، الآیة 17.
[10] [656]. سورة مریم، الآیة 76.
[11] [657]. بحار الأنوار، ج12، ص380 – 381.
[12] [658]. بحار الأنوار، ج48، ص107.
[13] [659]. سورة النور، الآیة 37.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 8 تموز 2014م الموافق للیلة الحادیة عشرة من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
متابعةً لتوضیح مقاطع من حدیث المعراج القدسیّ الشریف وصلنا إلى حیث یقول الله عزّ وجلّ: إنّ الذین نالوا الشروط المذكورة فی الحدیث هم عباد الله الخاصّون وإنّه تعالى سیثیبهم ثواباً عظیماً على مساعیهم وذلك بأن یودع فی قلوبهم محبّته التی هی كالجوهرة الثمینة: «فإذا فعل ذلك أسكنتُ فی قلبه حبّاً حتّى أجعلَ قلبَه لی»[1] [660]. والمقاطع التی سبقت هذه الفقرة أكّدت على أنّه إذا حظی الإنسان بالأهلیّة اللازمة فإنّ الله تعالى بعنایاته سیتصرّف بعواطفه وأحاسیسه كی ینحصر التفاته لربّه ویتّجه سیره نحوه عزّ وجلّ حتّى یبلغ مقاماً یكون قلبه لله وحده: «حتّى أجعلَ قلبَه لی». أمّا فی هذا المقطع من الحدیث فإنّ الله تعالى یجعل «القلب» مستقَرّاً للمحبّة. وقد استُخدمت لفظة «القلب» فی المقاطع التالیة أیضاً، لكن باختلاف قلیل عن المثال الأوّل. یقول الله سبحانه وتعالى فی هذا المقطع: «وأفتحُ عینَ قلبه وسمعَه حتّى یسمع بقلبه وینظر بقلبه إلى جلالی وعظمتی». ویُفهم من هذه الجملة أنّ لقلب الإنسان عیناً واُذناً وهما مغلقتان عادة، فإن توفّرت الشروط والمقدّمات المطلوبة فسیشمله الله بعنایته ویثیبه بفتح عین قلبه واُذنه. وفی هذه الحالة فإنّه: «یسمع بقلبه وینظر بقلبه إلى جلالی وعظمتی» أی إنّ فی میسور الإنسان حینئذ أن یسمع بإذن قلبه وینظر بعین قلبه إلى جلالی وعظمتی. فلقد عُدّ «القلب» فی هذا المقطع من الحدیث كوسیلة لأنواع المعرفة الخاصّة؛ الرؤیة الخاصّة، والسماع الخاصّ، والإدراك الخاصّ؛ حیث إنّ له عیناً واُذناً وهما إذا فُتحتا بعنایة من الله ورحمته فسیرى القلب ویسمع اُموراً لا یراها ولا یسمعها الآخرون. وباستطاعتنا أن نفهم من هذا البیان أنّ القلب یمثّل وسیلة للمعرفة والشهود والرؤیة، وهو یمثّل استخداماً آخر لكلمة «القلب» یختلف عن كونه موضعاً للمحبّة والعواطف.
بالالتفات إلى ما تقدّم یتبادر السؤال التالی إلى الذهن: ما هو القلب أساساً كی یكون تارةً موضعاً للمحبّة، ویمتلك تارة اُخرى عیناً واُذناً؟ وما هو شكل عین القلب واُذنه اللتین تكونان مغلقتین حیناً ومفتوحتین طوراً؟ وعندما تفتحان فما الذی سیراه القلب وما الذی سیسمعه؟ وما معنى مشاهدة جلال الله وعظمته بواسطة عین القلب؟ إنّ الموضع الرئیسیّ للبحث حول هذه المباحث یكمن فی أواخر الآیات التی تتضمّن مفردة «القلب». لكن بما أنّ الكلام حول هذا الحدیث الشریف قد بلغ بنا إلى هذا الموضع فلابدّ من البحث فی هذا الموضوع لرفع الإبهامات والإجابة على الأسئلة المطروحة فی هذا الباب.
لقد ذكر القرآن الكریم والأحادیث الشریفة للقلب - باعتباره جزءاً من وجود الإنسان - میزتین اثنتین: أولاهما هی أنّه موضع العواطف والأحاسیس. وإنّ تعابیر من قبیل «التعلّق» و«الشغف» ناظرة إلى هذه المیزة. ویشاهد فی القرآن الكریم أیضاً مثل هذا الاستخدام ﻟ «القلب» ومرادفه «الفؤاد»؛ كقوله تعالى: «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِی بِهِ لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ»[2] [661]؛ فلقد استولى القلق على اُمّ موسى بعدما رمت رضیعها فی النیل واضطربت اضطراباً شدیداً، لكنّنا ربطنا على قلبها وأزلنا اضطرابها وألقینا فیه السكینة والطمأنینة. وقد نُسبت فی هذه الآیة إلى القلب الحالات العاطفیّة. ویقول تعالى فی موضع آخر: «أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»[3] [662]. ومن هنا فإنّ القلب هو الشیء الذی یكون هادئاً تارةً ومضطرباً هائجاً تارةً اُخرى؛ بمعنى أنّه وعاء أحاسیس الإنسان وعواطفه.
أمّا الاستخدام الثانی لمفردة «الفؤاد» أو «القلب» فهو باعتباره أداة للمعرفة؛ فعندما تصف آیةٌ أهلَ النار فإنّها تقول: «لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ یَفْقَهُونَ بِهَا»[4] [663]؛ أی إنّهم اُناس لم یستعملوا قلوبهم للتعقّل والفهم الصحیح. كما ویقول تعالى فی موضع آخر: «أَفَلاَ یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»[5] [664]؛ هل إنّ على قلوبهم أقفالاً یا ترى حتّى لا یفقهوا؟ ویُفهم من هذه الآیة أنّ القلب السلیم یستطیع الخروج بنتائج من خلال التفكیر والاستدلال وفهم الحقائق أمّا الذین لا یدركون الحقائق فإنّ على قلوبهم أقفالاً.
كما ویمكن أن نستنتج من خلال دراسة موارد استعمال لفظة «المعرفة» فی القرآن الكریم أنّ لهذه اللفظة أیضاً استخداماتٍ شتّى. فقد نُسب ضرب من المعرفة إلى القلب والفؤاد وهو ما یكون فی متناول الجمیع وعلى الناس جمیعاً الإفادة منه؛ كقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِی أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِیلاً مَّا تَشْكُرُونَ»[6] [665] حیث ذُكر القلب هنا إلى جانب العین والاُذن؛ ویعنی: كما أنّ على الإنسان أن یسمع بعض الحقائق باُذنه، ویرى بعضها الآخر بعینه، فإنّ علیه أن یدرك قسماً منها أیضاً بفؤاده. ولعلّ فی ذكر أدوات المعرفة هذه فی عرض بعضها البعض إشارةً إلى أنّ جلّ المعلومات التی یحتاجها الإنسان فی حیاته تُستحصل إمّا بواسطة النظر أو عبر السمع أو عن طریق التفكیر والتعقّل.
ولقد نُسب إلى القلب فی آیات اُخَر نمط آخر من المعرفة لیس هو من نوع المفاهیم. فنحن نتصوّر أنّ ما نراه بأعیننا من ألوان یمثّل فی الحقیقة تركیباً من الأمواج الضوئیّة بتردّدات معیّنة. وأنّ ما نسمعه بآذاننا هو سلسلة من الأمواج الصوتیّة. لكن ما الذی تدركه قلوبنا یا ترى؟ إنّها المفاهیم التی ندركها بعقولنا؛ بمعنى أنّ أداة إدراك العقل هی المفاهیم الذهنیّة وهی لا تصنَّف ضمن الاُمور الحسّیة. لكنّه ثمّة شكل آخر من أشكال المعرفة یُنسب إلى القلب لا تكون أدواته المفاهیم الذهنیّة. وقد استُخدمت فی مثل هذه المواطن تعابیر: «الرؤیة» و«النظر»؛ كما فی الروایة المعروفة لأمیر المؤمنین (علیه السلام): «لم تَرَه العیون بمُشاهَدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإیمان»[7] [666]؛ فالله سبحانه لا تراه العین التی فی الرأس، إنّما یراه القلب. فهنا لم یقل (علیه السلام) إنّ القلب «یدرك» الله، بل استعمل تعبیر «الرؤیة». وهذا ضرب من المعرفة یكون من صنف العلم؛ لكنّه غیر المفهوم الذی یكوّنه ذهن الإنسان.
إذن فقد أسند القرآن الكریم إلى القلب ثلاثة اُمور: الأوّل هو الأحاسیس الخاصّة كالخوف والاضطراب والسكینة، والعواطف التی هی من قبیل الحبّ والبغض، هذا وإن عَدّ بعض علماء النفس الأحاسیسَ والعواطف أمرین منفصلین. والثانی هو إدراك الحقائق بصورة مفاهیم ذهنیّة وهو ما یُطلق علیه اصطلاحاً العلم الحصولیّ. والثالث هو شهود الحقائق ورؤیتها قلبیّاً. لكن لماذا نُسبت هذه الأنواع من المعرفة إلى القلب؟ أولیس القلب هو ذلك العضو الصنوبریّ المستقرّ عادةً فی الجانب الأیسر من الصدر والذی یعمل على ضخّ الدم إلى كافّة أنحاء الجسم؟
وهنا قد تُطرح بحوث لغویة من قبیل: هل إنّ مفردة «القلب» تمثّل مشتركاً لفظیّاً أم معنویّاً؛ بحیث إنّها استُخدمت بصورة حقیقیّة فی أحد المعانی المذكورة وبصورة مجازیّة فی الآخر، أم إنّ هذه المفردة قد وُضعت ابتداءً لواحدة من هذه المعانی ثمّ انتقلت إلى المعانی الاُخرى فیما بعد، أم انّ بعض استعمالاتها یكون من باب الكنایة والاستعارة؟ فالخوض فی مثل هذه المسائل هو من اختصاص علماء اللغة والاُدباء حیث من الممكن، من خلال القرائن، التوصّل إلى المعنى الذی استُخدمت له المفردة فی كلّ موضع. لكن ما یهمّنا هنا هو معرفة الاستخدامات المختلفة للفظة «القلب» كی لا نخلط بینها.
یقول الباری عزّ وجلّ فی مقطع من الحدیث القدسیّ محطّ البحث: «أسكنتُ فی قلبه حبّاً»؛ إنّنی اُسكن حبّی فی قلب المؤمن الذی وفّر فی نفسه شروطاً معیّنة. لكنّه یقول فی الفقرة التالیة: «وأفتحُ عینَ قلبه وسمعَه»؛ فالجائزة الثانیة التی اُعطیها لهذا العبد هی أنّنی أفتح عینَ قلبه وسمعَه. فما هی عین القلب، وما هو سمعه، وكیف یتمّ فتحهما؟
إنّنا عادة ننسب ما لا ندركه بالنظر والسمع من الـمُدرَكات إلى القلب: «أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ». ویُستشفّ من استعراض الآیات القرآنیّة أنّ للإدراك الذی یُنسب إلى القلب وفقاً للاصطلاح القرآنیّ مراتبَ مختلفة؛ فمرتبةٌ منها لا تتجاوز حدّ الإدراك البسیط للمفاهیم الذهنیّة الذی یتمتّع به كلّ إنسان بمساعدة قوّته العاقلة سواء أكان كافراً أم منافقاً أم مسلماً، والذی یطلَق علیه اصطلاحاً بالعقل الأداتیّ، ویُعدّ التقدّم العلمیّ والصناعیّ والفنّی أحد ثماره. أمّا الاستخدام الآخر للإدراك القلبیّ فی القرآن الكریم فهو ما یطلَق بشكل خاصّ على إدراك الحقائق والإفادة منها من أجل المصالح الحقیقیّة. ووفقاً لهذا الاستخدام فإنّه لا عقل لمن لا یفید من إدراكاته فی الاتّجاه الصحیح. ومن هذا المنطلق یقول القرآن فی حقّ الكفّار: «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْیٌ فَهُمْ لا یَعْقِلُونَ»[8] [667]. فلربما یكون بعض هؤلاء أشدّ منّا ذكاءً. أفكان عمرو بن العاص ومعاویة من السذّج؟ كلاّ، فقد كانا حادّی الذكاء، لكنّهما استعملا ذكاءهما فی حرف المسلمین عن مسیرهم الصحیح. فهؤلاء – وفقاً للمنطق القرآنیّ – لیسوا عدیمی العقل فحسب، بل إنّهم صُمّ وبُكم أیضاً. «لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ یَفْقَهُونَ بِهَا»؛ فهم یملكون قلوباً، لكنّهم لا یدركون بها شیئاً؛ بمعنى انّهم لا یفهمون الحقائق التی لابدّ من إداركها فی اتّجاه مصالحها الحقیقیّة، بل یكتفون باللهث وراء إشباع غرائزهم الحیوانیّة. ومن هنا یقول فیهم عزّ من قائل: «أُوْلَـٰئِكَ كَالأَنْعَامِ»[9] [668].
إذن فإنّ أحد استخدامات كلمة «القلب» فی القرآن هو بمعنى الأداة والمرتبة أو الحقیقة الموجودة فی روح الإنسان التی إذا أفاد منها الأخیر بالشكل الصحیح فإنّه یكون قد أفاد من قلبه، وإلاّ فإنّه قد تركه معطّلاً ولم یستعمله. وقد ذُكر هذا المضمون فی القرآن الكریم بالنسبة للعین والاُذن أیضاً؛ یقول تعالى: «وَلَهُمْ أَعْیُنٌ لا یُبْصِرُونَ بِهَا»[10] [669]؛ فهم یملكون أعیناً، لكنّهم لا یستخدمونها بالشكل الصحیح، ولذا فإنّهم عُمْی. وقد وَضَّحت آیة اُخرى هذا المضمون بهذه الكیفیّة: «فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِی فِی الصُّدُورِ»[11] [670]. فالأعمى الحقیقیّ هو الذی لا یدرك قلبه الحقائق ولا یفكّر فیها، أو الذی لا یحملها على محمل الجدّ، بل یستخدمها سُلّماً وأداةً للوصول إلى مبتغیاته الدنیویّة. فشخص كهذا لم یستخدم فی واقع الأمر قلبَه، بل وكأنّه لیس له قلب، أو أنّ قلبه أعمى.
فما هو إذن معنى كون عین واُذن قلب الإنسان مفتوحتین انطلاقاً ممّا ذُكر؟ فبصیرو القلوب هم الذین یدركون الحقائق - كالتوحید، والنبوّة، والمعاد، وباقی المعتقدات - ویعیشونها فی حیاتهم الیومیّة على النحو الصحیح. من هنا فإنّ كلّ مؤمن یؤمن بهذه الحقائق، یكون قلبه بصیراً. لكن لماذا قال فی حدیث المعراج: إنّ الله یمنّ بجائزة فتح عین القلب فقط على مَن ثابر وتحمّل الصعاب فی إخراج حبّ الدنیا من قلبه، وذِكْر الله بشكل مستمرّ، والحرص على العمل بأحكامه بدقّة؟ فالظاهر أنّ هذا الإبصار هو غیر ذاك، بل ویسمو علیه.
ویتعیّن القول توضیحاً لهذا التعبیر: إنّ القلب هو العامل الباطنیّ لإدراك الحقائق، بما فی ذلك الإدراك الحصولیّ والحضوریّ، وبما فی ذلك إدراك المفاهیم وشهود الحقیقة. والمراد من «عین القلب» هی قوّة باطنیّة فینا وظیفتها الإدراك. لكن مَن الذین تكون عیون قلوبهم مفتوحة؟ ومن أجل الإجابة على هذا السؤال لابدّ من الالتفات إلى ملاحظة هی أدقّ ممّا ذُكر أعلاه.
نحن نعتقد بأنّه ثمّة اُمور یراها ویسمعها بعض عباد الله كالأنبیاء والأولیاء، كالرنّة التی أطلقها الشیطان غیضاً أثناء نزول الوحی والتی سمعها أمیر المؤمنین (علیه السلام) فقال له النبیّ (صلّى الله علیه وآله): «إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَتَرَىٰ مَا أَرَىٰ إِلاّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِیٍّ»[12] [671]؛ وعبارة «انّك لست بِنَبِیٍّ» هی كنایة عن أنّك لست المتلقّی المباشر للوحی. فهؤلاء العظام كانوا یسمعون صوت الوحی أمّا غیرهم من الحاضرین فلم یكونوا یسمعونه. فالسیّدة الزهراء (سلام الله علیها) والأئمّة الأطهار (صلوات الله علیهم أجمعین) كانوا یرون جبرئیل (علیه السلام) ویسمعون كلامه. ومن هنا فإنّه ثمّة فی هذا العالم – إجمالاً - بعض ما یُسمع وما یُرى ممّا لا نستطیع نحن سماعه أو رؤیته. ولتقریب المعنى إلى الذهن فلقد أثبت العلم الیوم أنّ اُذن الإنسان قادرة على سماع أمواج صوتیّة ضمن تردّدات معیّنة وهی غیر قادرة على سماع أمواج ذات تردّدات أخفض أو أعلى. كما أنّ الأمواج الرادیویّة التی تستلمها مستقبلة الرادیو لم تكن مسموعة من قبل البشر قبل اختراع الرادیو على الرغم من وجودها فعلاً بنفس هذا التردّد قبل ذلك الحین. كما أنّ النمط الآخر من مشاهدة الأشیاء غیر العادیّة هو ما یحدث للبعض فی حالة الخُلسة. وإنّه وفقاً لمعتقداتنا أیضاً فإنّ جمیع الناس، بما فیهم مكفوفو البصر، یشاهدون أمیر المؤمنین (علیه السلام) ساعة الموت، أمّا غیر المیّت فلا یشاهده. وهذا یدلّ على أنّ هذه الرؤیة لا تحصل من خلال العین الظاهرة.
لقد أطلق بعض أهل المعقول على ما یشاهَد بهذه الطریقة مصطلح الصورة المثالیّة أو الصورة البرزخیّة وقالوا: إنّها صورة تقع بین المادّیة والعقلیّة، أو بتعبیر آخر: بین المادّی المحض والمجرّد المحض. ویقول البعض الآخر: إنّ المیّت یرى بعینه البرزخیّة منكراً ونكیراً اللذین یأتیانه فی أوّل لیلة عند إنزاله فی القبر لسؤاله. كما أنّ هناك من یدّعی سماع أصوات لا یسمعها الآخرون. ومن الممكن نسبة مثل هذه المرئیّات والمسموعات إلى عین القلب واُذنه؛ بمعنى أنّ جزءاً من وجود الإنسان، الذی یصطلح علیه القرآن الكریم ﺑ «القلب» وتكون وظیفته الإدراك، یملك عیناً واُذناً تكونان مغلقتین عادةً وتُفتحان فی مواطن معیّنة وعند أشخاص خاصّین. ولعلّكم سمعتم أنّ العین البرزخیّة لفلان من الناس مفتوحة، أو أنّ بعض العظماء والأولیاء یرون باطن الأشخاص، أو یشاهدون بعض الناس على هیئة حیوانات بسبب ما ینطوون علیه من مَلَكات خبیثة. فمثل هذه الرؤیة وهذا السماع لا یكونان عبر عین الإنسان واُذنه الظاهرتین، بل إنّها رؤیة تحصل بواسطة أداة تسمّى عین القلب أو عین الباطن.
لكن هل المراد من قوله: «وأَفتَحُ عینَ قلبه وسمعَه» هو العین والاذن البرزخیّتان أم إنّه یعنی العینَ والاُذن اللتین یرى ویسمع بها أشخاص معیّنون اُموراً مادّیة غیر عادیّة؟ أو أنّ المراد منها هو المعرفة الأكمل التی یمتلكها أمثال هؤلاء عن الله تبارك وتعالى؟ أم أنّ القضیّة مختلفة تماماً؟
نقول: لو أن الحدیث كان قد اختتم كلامه بهذه العبارة لرضینا بهذه الاحتمالات، لكنّه عزّ وجلّ استطرد قائلاً: «وینظر بقلبه إلى جلالی وعظمتی». نفهم من هنا أنّ هذه العین لیست هی العین التی ترى وجه مُنكر ونكیر، وأنّ هذه الاُذن لیست هی التی تسمع صوتهما، فهی لیست مجرّد عین تنظر إلى بواطن الأشیاء، وإنّ ما یشیر إلیه الحدیث الشریف هو شیء أسمى من ذلك. یقول ربّ العزّة: إنّ جائزة الذین یعملون على توفیر هذه الشروط فی أنفسهم ویتحمّلون لذلك النَّصَب والعناء هی أن اُسكن محبّتی فی قلوبهم حتّى: «أجعلَ قلبَه لی، وفراغَه واشتغالَه وهمّه وحدیثَه من النعمة التی أنعمتُ بها على أهل محبّتی» وفی إثر امتلاء قلوب هؤلاء العباد بمحبّتی تنفتح أعین وآذان قلوبهم أیضاً كی: «ینظر بقلبه إلى جلالی وعظمتی» وهی جائزة خاصّة لمن لم یبق فی قلبه مجال لمحبّة غیر الله حتى طفح بمحبّته تعالى إلى درجة أنّه اُهِّل لمشاهدة جلال الباری تعالى وعظمته. وهذه العین هی غیر العین البرزخیّة والمثالیّة، وهی من مختصّات بعض أولیاء الله لیس غیر. وقد نستطیع أن نفهم من بعض الآثار أیّاً من الناس قد بلغوا هذه المراتب؛ فهم اُولئك الذین إذا سمعوا آیات ربّهم: «یَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ یَبْكُونَ وَیَزِیدُهُمْ خُشُوعاً»[13] [672]. فأمثال هؤلاء قد فتح الله أعین قلوبهم، وظهرت آثار عظمة الله فی سلوكهم، فذُهلوا عن أنفسهم، واُلجِمت ألسنتهم، وهم لا یكفّون عن البكاء.
ذات مرّة سمعتُ المرحوم السیّد مصطفى الخمینیّ (رحمه الله) یقول: كان المرحوم الآخوند المولى محمّد الكاشانی، الذی اشتغل بالتدریس فی اصفهان، إذا قام فی جوف اللیل لصلاة اللیل سبّحتْ أبواب المدرسة وجدرانها وأشجارها لتسبیحه، أمّا إذا وقف بنفسه للصلاة اعترته رعدَة حتّى لا یستطیع السیطرة على نفسه. وهذه الحالة إنّما هی ناجمة عن إدراك حقیقیّ لعظمة الله تعالى. فإذا صار القلب لله، فإنّه عزّ وجلّ سیمنحه هذا النمط من الإدراك ویفتح عینه، كی یكون مصداق قوله تعالى: «ینظر بقلبه إلى جلالی وعظمتی».
رزقنا الله وإیّاكم ذلك إن شاء الله
[1] [673]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.
[2] [674]. سورة القصص، الآیة 10.
[3] [675]. سورة الرعد، الآیة 28.
[4] [676]. سورة الأعراف، الآیة 179.
[5] [677]. سورة محمّد (صلّى الله علیه وآله)، الآیة 24.
[6] [678]. سورة «المؤمنون»، الآیة 78.
[7] [679]. الكافی، ج1، ص97، باب فی إبطال الرؤیة.
[8] [680]. سورة البقرة، الآیة 171.
[9] [681]. سورة الأعراف، الآیة 179.
[10] [682]. سورة الأعراف، الآیة 179.
[11] [683]. سورة الحجّ، الآیة 46.
[12] [684]. نهج البلاغة، الخطبة 192 المعروفة ﺑ «القاصعة».
[13] [685]. سورة الإسراء، الآیة 109.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 9 تموز 2014م الموافق للیلة الثانیة عشرة من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
تناولنا فی المحاضرات الماضیة مقطعاً من حدیث المعراج القدسیّ الذی یبیّن الله تعالى فیه الشروط اللازمة لنیل العبد الحیاة الأبدیّة الهانئة، وقلنا إنّ الخصوصیّات المذكورة فی أحد مقاطع الحدیث تتطلّب من نفس العبد بذل الجهد والمثابرة لاكتسابها. كما وبیّن مقطع آخر من الحدیث العنایات التی یولیها الله عزّ وجلّ لمن یخطو فی هذا الطریق من عباده. إنّ التكالیف المبیَّنة فی القسم الأوّل هی مناهج عملیّة یمكن لكلّ مكلّف، ومن خلال همّته واجتهاده، أن ینجز ولو مرتبة من مراتبها. أمّا المراتب التی تسمو على ما ذُكر فی هذا المقطع فإنّ مستواها أعلى من قدرة الناس العادیّین ولیس فی المیسور بلوغها من دون مساعدة الله تعالى ومعونته. وفی الحقیقة فإنّ الله تبارك وتعالى یقوم فی هذه المرحلة بدور المربّی الخصوصیّ بالنسبة للعباد الذین اجتازوا المراحل السابقة حتّى وصلوا إلى هذه المرحلة ویعینهم على مواصلة الطریق.
لقد ذكرنا فیما سبق أنّ لله فی تربیة عباده سنناً إحداها هی أنّه یهدی جمیع مخلوقاته إلى الهدف الذی خُلقَت من أجله. وإنّ هدایة الله العامّة للإنسان لنیل الكمال النهائیّ تتحقّق عن طریقین: الأوّل هو العقل، والثانی هو الوحی وبمساعدة الأنبیاء. وإنّ جمیع البشر مشمولون بهذه الهدایة العامّة. لكن ثمّة لله أنماطاً خاصّة من الهدایة یختصّ بها مَن یعرف قدر الهدایة العامّة ویشكرها.
ولتقریب المعنى إلى الذهن فلنتصوّر شخصاً یرغب فی تعلیم ابنه فنون التجارة وأسرارها، فهل یُعقل أن یضع تحت تصرّفه منذ البدایة رأس مال ضخم؟ من الجلیّ أنّ وضع رأس مال ضخم تحت تصرّف امرئ عدیم الخبرة بالتجارة هو أمر عبثیّ وهو سیؤدّی إلى تلف المال وضیاعه. من هنا یتعیّن فی بادئ الأمر أن یعطیه رأس مال صغیر ویرشده إلى كیفیّة الاتّجار به وتحقیق الأرباح. فإن أتقن المبادئ الأوّلیّة للتجارة وعرف طرقها عمد الأب إلى إعطائه رأس مال أكبر، وهكذا إلى أن یعرف جمیع أسرار التجارة ویتمكّن بمفرده من إدارة جمیع الاُمور.
وكذا الحال بالنسبة لله عزّ وجلّ فهو تعالى لا یضع جمیع النعم المعنویّة دفعة واحدة فی متناول العبد: «وَالَّذِینَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدىً»[1] [686]، بل یمنّ علیه فی البدایة ببعض نعمه، فإن عرف قدرها وشكرها زاده منها تدریجیّاً: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِیدَنَّكُمْ»[2] [687]. ووفقاً للقاعدة ذاتها فمن أجل نیل العبد العیش الهنیء والحیاة الباقیة فإنّ الله یعیّن له فی بدایة الأمر مناهج فإذا طبّقها صار مؤهّلاً لنیل كمالات أسمى. وهذا لون من ألوان الولایة، والقیمومة، والربوبیّة على العبد وتدبیر اُموره وتربیته تربیة خاصّة.
والمناهج التی ذكرها القسم الأوّل من هذا المقطع من حدیث المعراج هی اُمور یستطیع كلّ امرئ تقریباً إنجازها. فإن عرف الإنسان قدر هذه الأنماط من الهدایة وعمل بموجب هذه المناهج فسیحظى بأهلیّة الولوج فی مراتب أعلى من الاُولى، لكنّ قدرته فی هذه المرحلة لا تكفی وحدها لمواصلة المسیر. وهنا یأتی القسم الثانی من المقطع محطّ البحث لیشیر إلى أشكال العنایات والمساعدات الخاصّة التی یولیها ربّ العزّة لعباده الصالحین من أجل طیّ ما تبقّى من الطریق وتربیتهم تربیة إلهیّة خاصّة.
تدخل فی عملیّة تربیة الكائن الحیّ الواعی كالإنسان ثلاثة عوامل. ففی بدایة المطاف یحاول المربّی لفت انتباه المتربّی والمتعلّم إلى النموّ والرقیّ وتنمیة رغبته فیه. فإذا لم تبلغ رغبة المتربّی فی التربیة حدّ النصاب المطلوب فسوف لا یعمل بإرشادات المربّی وعندها تضیع جهود الأخیر سدىً. بناءً علیه فإنّ الشرط الأوّل فی عملیّة التربیة الصحیحة هو ترغیب المتربّی فی إنجاز العمل المطلوب. إذن فإثارة الرغبة فی المتربّی تُعدّ العامل الأوّل فی عملیّة التربیة وهی بمثابة تشغیل محرّك السیارة. وكلّما اشتدّت هذه الرغبة فسیُكَلّل العمل بمزید من النجاح. وإنّ أهمّ العوامل التی یفاد منها فی هذا المجال هی العواطف والأحاسیس.
العامل الثانی فی التربیة یتمثّل فی المعالم التی ینبغی تبیینها للمتربّی لترشده فی عملیّة طیّ الطریق؛ وهی بمثابة المصابیح التی تضیء الطریق المظلم الذی یتعیّن على صاحب السیّارة السیر فیه بعد تشغیل محرّكها. ویتمّ فی هذه المرحلة رفد معرفة السالك بالمعارف الخاصّة الضروریّة لطیّ الطریق.
لكنّ سلامة السیّارة وإضاءة مصابیح الطریق لا تكفی فی كثیر من الأحیان لمواصلة المسیر، بل یتعیّن رفع الصخرة التی تسدّ الطریق أمام السیّارة. وهنا أیضاً على المربّی مساعدة المتعلّم فی رفع الموانع التی تسدّ الطریق. لكنّه بالالتفات إلى أنّ أساس التكامل والرقیّ فی الحركات الإنسانیّة مبنیّ على السلوك الاختیاریّ، فإنّه إذا رفع المربّی المانع بنفسه من طریق المتربّی فسیضعف دور اختیار الأخیر، حیث إنّ المربّی هو الذی أنجز العمل فی واقع الأمر ولم یكن للمتربّی دور فیه. ومن هنا فإنّ على المربّی فی مثل هذه المواطن أن یسعى لتعلیم المتربّی، بأسالیبٍ خاصّة، كیفیّة رفع الموانع، ویساعده فی هذه السبیل عبر الترغیب بالشكل الذی لا یسلب منه عنصر الاختیار.
فالشابّ الیافع الذی یروم التدرّب على إحدى الألعاب الریاضیّة لابدّ أوّلاً أن یكون راغباً فی هذه اللعبة، ذلك أنّ جمیع أتعاب المدرّب ستضیع سدىً وسوف لا یتقدّم الشابّ فی هذه اللعبة إذا لم یكن راغباً فیها. وفی المرحلة الثانیة ینبغی على المربّی أن یعلّم الشاب قواعد اللعبة وفنونها ویزوّده بلوازمها وأدواتها. ثمّ یشیر فی المرحلة التالیة إلى الموانع التی یمكن أن تبرز أثناء التمارین وتنفیذ البرنامج الریاضیّ ویفتّش عن الحلول الكفیلة برفعها.
فإذا اجتاز العباد المراحل الابتدائیّة من الطریق بكدّهم وهمّتهم وشعروا بالحاجة إلى المربّی لمواصلة الطریق فسیتولّى الله عزّ وجلّ بنفسه مهمّة تربیتهم تربیة خاصّة ویساعدهم عبر الأخذ بأیدیهم. وأوّل ما یفعله الباری تبارك وتعالى فی هذه المرحلة هو الإفادة من العنصر العاطفیّ وذلك بإلقاء محبّته فی قلب العبد: «أسكَنتُ فی قلبه حبّاً». فالله جلّ وعلا یفید فی هذه المرحلة من أحاسیس الإنسان وعواطفه كمحرّك من أجل أن یبعث فی نفسه باستمرار الدافع لمواصلة المسیر.
وبعد العنصر العاطفیّ یأتی الدور إلى العامل المعرفیّ. فكلّما ازدادت معرفة الإنسان فإنّه سیطوی مراحل التكامل بشكل أفضل. وحتّى العبد المحبّ لربّه فإنّه كلّما ازداد معرفة بربّه فستزداد سرعة سیره نحوه، أمّا المعارف التی حصل علیها إلى الآن عبر المفاهیم فإنّها غیر كافیة لمواصلة هذا الطریق، بل لابدّ من أشكال المعرفة الشهودیّة للسیر فی هذه المرتبة. من هذا المنطلق فإنّ الله سبحانه وتعالى یفتح عین قلب العبد الذی وصل إلى هذه المرحلة كی یشاهد بعین قلبه جلال الله وعظمته فتزداد معرفته به عزّ وجلّ.
لكنّه قد تعرض للعبد فی مسیره موانعُ یحتاج إلى مساعدةٍ لإزالتها. فقد أشارت آیات مختلفة إلى أنّ المقصد النهائیّ لابن آدم هو القرب من الله تعالى: «فِی مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِیكٍ مُّقْتَدِرٍ»[3] [688]. فإنّ ما یمنع الإنسان من السیر نحو هذا الهدف وبلوغ كماله المنشود هو تعلّقه بالدنیا الذی یعمل عمل الصخرة الضخمة التی تحول دون مواصلة الإنسان مسیره، ولابدّ من رفعها من أمامه. فإن أقدم المربّی على رفع هذه العقبة بنفسه ولم یكن للسالك دور فی ذلك فسوف لا یكون لهذا العمل من تأثیر على تكامل السالك وترقّیه. وهنا ینبغی للمربّی أن یوفّر الأرضیّة التی تمكّن المتربّی من مواصلة الطریق بإرادته واختیاره وتعلّمه كیف یصارع العقبات ویزیحها من طریقه.
فإنّ الراعی الذی یقود قطیع أغنامه نحو المرتع إذا واجه فی طریقه وادیاً سحیقاً فسوف لا یعمد إلى حمل خرافه على ظهره او لجمهم بلجام لتجنیبهم السقوط فی الوادی، بل یحاول إفهام الأغنام عبر رمی حجر، أو تحریك العصا أو إطلاق أصوات خاصّة بضرورة الابتعاد عن الوادی والعودة إلى الطریق الصحیح. فإنّ سیر الإنسان نحو ما اختاره الله له من التكامل والرقیّ هو سیر اختیاریّ، فهو لا یصل إلى النتیجة المرجوّة بالجبر والقوّة. فلابدّ أن یكون المرء راغباً فی السیر وبذل الجهد ومواجهة المشاكل والمصاعب وتجاوزها كی یصل إلى القمّة التی أعدّها الله تبارك وتعالى له.
فمحبّة الله تعالى تزوّد باطن الإنسان بالطاقة اللازمة لمواصلة سیره، كما أنّ أشكال المعرفة اللازمة ستظهر أیضاً عبر التجلیّات الإلهیّة بما یتناسب مع أهلیّة السالك لتنیر له الدرب. لكن ما هی السبیل إلى إزالة الموانع عن الطریق؟
لقد بیّن حدیث المعراج القدسیّ السبیل لرفع الموانع حین قال: «واُضیِّق علیه الدنیا واُبغّض إلیه ما فیها من اللذات»[4] [689]. فالله تعالى یصبّ على العبد المصائب ویعرّضه للحوادث بغیة انتزاع حبّ الدنیا من قلبه. فكل ّامرئ یحتاج من أجل انتزاع هذا الحبّ من قلبه إلى عامل معیّن یتناسب مع درجة معرفته. فهناك من لا یصیب قلبَه أبداً تعلّقٌ بالدنیا من خلال العمل بأوامر الشارع المقدّس، لاسیّما الواجبات والمستحبّات. وأهم هذه الأوامر هی الإنفاق: «لَنْ تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ»[5] [690]. فالإنفاق لا یطهّر مال الإنسان فحسب، بل روحه أیضاً؛ لقوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّیهِم بِهَا»[6] [691]. فلم یقل عزّ وجلّ: لتَطْهُر أموالُهم، بل قال: لیطهُروا هم أنفسهم. فحینما یعطی الإنسانُ الآخرین ما یحبّ وما من شأنه أن یسبّب له التعلّق بالدنیا فسوف لا یحصل له مثل هذا التعلّق، بل ویزول ما كان لدیه من تعلّقات أیضاً. فالذین ینظرون إلى آلاء ربّهم، بما فی ذلك الأزواج والأولاد، باعتبارها نِعم الله علیهم وأنّها وسائل لاختبارهم، فسوف لا ینظرون إلى هذه الاُمور بما أنّها أصیلة ولهذا فإنّهم لا یتعلّقون بها.
أمّا إذا حصل التعلّق بالدنیا فلابدّ من طروء ظروف وحصول حوادث لیُدرك الإنسان أنّ هذه الدنیا لا تستحقّ التعلّق بها: «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَیْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ»[7] [692]. فالشدائد والمكاره والمصائب إنّما تحصل للمرء كی یجتثّ حبّ الدنیا من قلبه ویقنع منها بالأقلّ. فالله عزّ وجلّ یعلم جیّداً كیف یختبر كلّ عبد من عبیده وبأیّ صورة یقطع تعلّقه بالدنیا بما یتناسب مع آفاقه ومیوله. فإنّ المشاكل التی تواجه كلّ إنسان تمثّل فی واقع الأمر عوامل تربویّة تساعد المرء على اجتثاب حبّ الدنیا من قلبه.
فمن أجل أن یتمكّن الإنسان من الإفادة ممّا أودع الله فی قلبه من محبّته ومن نورانیّة مشاهدة تجلّیاته فإنّ علیه أن یتجنّب السقوط فی وادی حبّ الدنیا. ولهذا یتابع الباری عزّ وجلّ فی الحدیث محطّ البحث: «واُحذِّره من الدنیا وما فیها كما یحذّر الراعی غنمَه من مراتع الهلكة». فالله یمارس دور الراعی الحریص على غنمه فی تعامله مع العبد الذی یخطو فی طریق التكامل والرقیّ. فمن أجل حفظ الخراف یقوم الراعی بتوجیه قطیعه إلى الطرقات الآمنة الخالیة من الأخطار كی لا یسقط فی الوادی ویأمَن من خطر الذئاب. لكنّه لا یفعل ذلك معه عنوةً، بل یهیّئ الأرضیّة كی یختار بنفسه الطریق الصائبة.
فالله تعالى یقدّم نفسَه فی هذا المقطع بمثابة الراعی الذی یُبعد غنمه عن المراتع التی فیها هلاكهم. فالاُمور الدنیویّة هی عرصات قد تؤدّی بالعباد إلى الهلاك، ولذا فإنّ الباری عزّ وجلّ ینأى بعباده عن مراتع الهلاك. هذه هی التربیة الإلهیّة؛ فهو تعالى یبعث – من ناحیة - فی أنفس عباده الدافع عبر إسكان محبّته فی قلوبهم، ویریهم – من ناحیة اُخرى – ذرى الكمال عبر فتح أعین وأسماع قلوبهم، ثمّ یزیل عن طریقهم – من ناحیة ثالثة – موانع التكامل والترقّی عبر تحذیرهم من اُمور الدنیا.
إلهی! نسألك بحقّ مَن وهبتهم محبّتك وأفَضْت علیهم من نعمك أن تمنّ على قلوبنا القاصرة أیضاً بنفحة من تلك النعم.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
[1] [693]. سورة محمّد (صلّى الله علیه وآله)، الآیة 17.
[2] [694]. سورة إبراهیم، الآیة 7.
[3] [695]. سورة القمر، الآیة 55.
[4] [696]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.
[5] [697]. سورة آل عمران، الآیة 92.
[6] [698]. سورة التوبة، الآیة 103.
[7] [699]. سورة البقرة، الآیة 155.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 10 تموز 2014م الموافق للیلة الثالثة عشرة من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«واُضیِّق علیه الدنیا واُبَغِّض إلیه ما فیها من اللذّات واُحذّره من الدنیا وما فیها كما یحذّر الراعی غنمَه من مراتع الهلكة»[1] [700].
لقد ذكرنا فی سیاق بحثنا حول حدیث المعراج انّه بعد أن یبذل السالك قصارى جهده فی استجلاب رضا ربّه وطاعة أوامره ونواهیه فإنّ الله تعالى سیثیبه بأن یشمله بعنایات خاصّة بحیث یستطیع بمساعدتها اجتیاز مراحل أكثر تقدّماً فی جهاد السیر إلى الله. وأوّل جائزة یمنحها الله سبحانه وتعالى للسالك هی أنّه یغرس محبّته فی قلبه. ثمّ ینبّهه إلى العقبات التی تواجهه والتی تتلخّص فی حبّ الدنیا ولذّاتها، ویعینه على إزالتها. یقول جلّ جلاله: «اُحذّره من الدنیا وما فیها كما یحذّر الراعی غنمَه من مراتع الهلكة». وقلنا إنّ التحذیر هنا لا یقتصر على التذكیر، لأنّ هذا المقدار من التذكیر والإرشاد مُنجَز بالنسبة لجمیع البشر بواسطة الأنبیاء (علیهم السلام). فالمراد من تحذیر السالك فی هذه المرحلة هو توفیر الظروف اللازمة وتحفیز الدافع القویّ فیه لنبذ لذائذ الدنیا ومقارعة هوى النفس ووساوس الشیطان. وهذه هی المرحلة الثالثة فی عملیّة تربیة المربّی للمتربّی.
قد یتبادر إلى الذهن هنا السؤال التالی: أولیست الدنیا مخلوقة من قبل الله تعالى ووفقاً لحكمته وهی غیر مذمومة بذاتها؟ إذن فلماذا یقول جلّ وعلا: اُبغِّض الدنیا إلى السالك حتّى یسیء بها الظنّ ویبغضها؟
لقد قلنا سلفاً إنّ للفظة «الدنیا» ثلاثة استخدامات على الأقلّ؛ الأوّل: مجموع العالم المادّی الذی نعیش الآن فیه مع النظام المهیمن علیه، وهو سیتغیّر یوماً ویتلاشى لیبدأ عالم الآخرة. الثانی: ذلك الفصل الأوّل من حیاة الإنسان وهو الذی یقضیه فی هذا العالم قبل الموت والذی ینتهی بالأخیر لیبدأ بعده الفصل الثانی ألا وهو حیاته الأبدیّة. ولیس من سبیل إلى التقییم بالنسبة لهذین الاستخدامین للفظة الدنیا؛ فأحدهما یمثّل مرحلة من الوجود وثانیهما یشكّل مرحلة من حیاة الإنسان ولابدّ للاثنین من الحصول والتحقّق. أمّا الاستخدام الثالث فیتّصل بارتباط الإنسان بالحیاة الدنیا وتعلّقه بها حتّى تشغل كلّ تفكیره وتدفعه لتوظیف كلّ همّته لبلوغ لذّاتها. وهذا هو المعنى المذموم للدنیا. فقد تكون للإنسان فیما یتّصل بالدنیا رؤیتان؛ فإمّا أن ینظر إلیها كغایة فیحشد كلّ طاقاته للحصول على الاُمور المادّیة والتمتّع باللذّات الدنیویّة، وإمّا أن یتعامل معها – فی المقابل – كأداة للوصول إلى النعم الأبدیّة التی أعدّها الله له فی عالم الآخرة؛ بالضبط كالنظّارات التی یستعین بها الإنسان لیرى بها من دون أن یلتفت إلیها أدنى التفات. فإن كنّا ننظر إلى الدنیا بهذه الصورة فلیس هناك من بأس أبداً، فهی كالوسیلة التی تقصُر أیدى البشر عن بلوغ السعادة الأبدیّة من دونها. فقد وضع الله عزّ وجلّ هذه الأداة فی متناول الإنسان كی یهیّئ - بالإفادة من الإمكانات المتاحة فیها - زاداً لآخرته ویدخل بها الجنّة. أمّا إذا نسی الإنسان الهدف الحقیقیّ، وهو الحیاة الاُخرویّة، وانصبّ جلّ اهتمامه على الوسیلة التی وُضعت تحت تصرّفه للوصول إلى ذلك الهدف وقنع باللذّات العابرة لهذه الدنیا، فهو یستحقّ الذمّ. فهل إنّ الكدّ والعمل لساعات طویلة وتجشّم الأعباء والمضایقات من أجل لقیمات طعام هو أمر یستحقّ المدح والثناء یا ترى؟
هل إنّ الشمس والقمر، والماء والشجر، وآبار البترول، ومناجم الذهب والماس هی ممّا ینبغی ذمّه؟ وهل إنّ الإنسان الذی یملك السمع والبصر، ویتمتّع بالمواهب والمهارات المختلفة یستحقّ الذمّ؟ كلاّ، فالمذموم هو الانشداد إلى اللذّات الذی یقود إلى الغفلة عن الغایة الأساسیّة. وإنّ السبب فی ذمّ الدنیا یرجع إلى أنّها تحول بینه وبین بلوغ مقصده النهائیّ. فلو لم یكن هناك تزاحم بین اُمور الدنیا وشؤون والآخرة لما بقی مجال لذمّ الاُولى. فلقد كان ولا یزال اُناس نالوا السعادة الأبدیّة فی الوقت الذی كانوا متمتّعین بلذّات الدنیا؛ كنبیّ الله سلیمان (علیه السلام) حین قال: «رَبِّ اغْفِرْ لِی وَهَبْ لِی مُلْكاً لاَ یَنبَغِی لأَحَدٍ مِّن بَعْدِی»[2] [701]. فلقد كان لسلیمان مُلك لا یمكن العثور على نظیر له فی العالم، لكنّه – فی ذات الوقت – كان یتناول طعاماً بسیطاً ویقضی أغلب وقته فی عبادة الله، وقد ذكره القرآن الكریم بكلّ إجلال وجعله فی عداد عباد الله الصالحین. فإنّ الذی یستوجب الذمّ هو ذلك النمط من النظر إلى هذا الفصل من الحیاة الذی یلهی الإنسان عن الالتفات إلى هدفه الأساسیّ.
بناءً على ذلك فإنّه لیس فی عبارة: «اُبَغِّض إلیه ما فیها من اللذّات واُحذّره من الدنیا وما فیها» إشارة إلى الشمس والقمر وغیرها من المخلوقات، بل هی إشارة إلى التعلّق بالدنیا ولذّاتها الذی هو أشبه بالمرتع المهلك الذی یواجه المرء وإنّ الله تعالى یحذّر عبده السالك منه.
فالقرآن الكریم یصف الدنیا فی مقام ذمّها بأنّها «متاع الغرور»: «وَمَا الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ»[3] [702]. وكلمة «الغرور» فی العربیّة تعنی الخداع والانخداع. فالدنیا هی «مَتَاعُ الغُرُور» لأنّها تغرّ الإنسان وتغریه وتخدعه بلذّاتها الحقیرة العابرة فینسى اللذّات الأبدیّة.
إنّنا جمیعاً وبالفطرة نطلب استمرار الحیاة والسرّاء والسعادة الأبدیّة ولا نجد كائناً حیّاً لیس هو على هذه الصورة. وحتّى الحیوانات فإنّ كلّ مساعیها تصبّ فی البقاء على قید الحیاة. وعلى الأساس نفسه فإنّ القرآن الكریم إذا أراد دعوة الناس إلى فعل الخیر وَعَدَهم باللذّات والنعم الاُخرویّة: «وَفَوَاكِهَ مِمَّا یَشْتَهُونَ»[4] [703]، «وَلَحْمِ طَیْرٍ مِّمَّا یَشْتَهُونَ»[5] [704]، «جَنَّاتٍ تَجْرِی مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ»[6] [705]. وبناء علیه فلیس طلب السعادة واللذّة أمراً مذمرماً، بید أنّ الإنسان لم یُخلق للذّات هذه الدنیا العابرة، بل خُلق لیعیش بشكل دائمیّ باقٍ. فالحیاة الدنیا ولذّاتها عابرة ومحدودة وهی تزول بلمح البصر. فقد وضع الله تعالى اللذّة فی الاُمور الدنیویّة من أجل اجتذاب الإنسان للإفادة منها واستمرار حیاته وتوفیر الأرضیّة لنموّه وتكامله. فإنّ ما یمرّ على الناس فی هذا العالم من سرّاء وضرّاء إنّما هو وسیلة لامتحانهم ولا أصالة لأیٍّ منها. فلو حضر طعام الإنسان عند سجّادته كلّ صباح لما سعى للعمل وكسب الرزق وعندئذٍ لا یتهیّأ المناخ لإجراء المعاملات المحلّلة والمحرّمة، فلا یعود ثمّة محلّ للصدق والكذب، ولا یكون – تبعاً لذلك – من داعٍ للثواب والعقاب. ولو فقد الإنسان الشهوة الجنسیّة لما كانت هناك أرضیّة لتشریع التكالیف والأحكام المتّصلة بالزواج والاُسرة والتعامل مع الزوج وتربیة الأولاد وما یرتبط بكلّ واحدة منها من ثواب وعقاب. إذن لابدّ من مثل هذه الاُمور كی تُهیّأ البیئة من أجل الامتحان. ولهذا قال تعالى: «إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»[7] [706]؛ و«الفتنة» فی اللغة تعنی الابتلاء والصراع. فالآیة تجعل من الزوج والأولاد وسیلةً للاختبار. فقد ذكرنا أنّ نموّنا وتكاملنا وجنّتنا ونارنا إنّما هی رهن بما نأتی به فی هذه الدنیا من أعمال. إذن فكلّما اتّسعت أعمالنا وتنوّعت أكثر اُتیحت أمامنا فرص لامتحانات أكثر، واتّسعت – تبعاً لذلك - الأرضیّة للتكامل؛ فكلّما زادت التكالیف، توفّرت أرضیّة أكبر للنموّ.
بالطبع فإنّ النموّ والتكامل یكونان فی اتّجاهین؛ فمَن كان سلوكه إیجابیّاً تكامَل تكاملاً إیجابیّاً، أمّا من تمرّد على الأوامر فسیكون نموّه بالاتّجاه السلبیّ: «اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِینَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَیْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِی الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَیْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ یَهِیجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ یَكُونُ حُطَاماً وَفِی الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِیدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ»[8] [707]. فمن أجل أن یعرف مصیر الإنسان فی الآخرة فلابدّ أن یخوض امتحانات فی الدنیا، وأن یواجه كلّ یوم موقفاً لیُرى ما الذی ستكون علیه ردّة فعله تجاهه ولیختار إمّا الصراط المستقیم وإمّا السبیل المعوجّة.
فالبعض یعتقد بأنّ عالم الوجود منحصر فی هذه الدنیا: «مَا هِیَ إِلاّ حَیَاتُنَا الدُّنْیَا نَمُوتُ وَنَحْیَا وَمَا یُهْلِكُنَا إِلاّ الدَّهْرُ»[9] [708]. ویتصوّر البعض الآخر مثل الماركسیّین بأنّ الدین صنعه أصحاب رؤوس الأموال بغیة استغلال الطبقة العاملة. ویذهب آخرون - من أمثال «فریدریش نیتشه» - إلى أنّ الله هو صنیعة أذهان الجبابرة من أجل التسلّط على الضعفاء. كما ویشكّك البعض الآخر بالحیاة الأبدیّة، كما فی قوله تعالى: «وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً»[10] [709]. ویقبل البعض الآخر بالدین فی حدود لقلقة اللسان ولا یرون له أیّ دور فی الحیاة. ولا نتوقّع من أشخاص كهؤلاء أن یقرّوا بالصلة بین السلوك فی الدنیا ونتائجه فی الآخرة. لكن هل یُعقل أن تكون حیاة المسلم، الذی یعترف بهذا المبحث كواحد من معتقداته واُصول دینه، كحیاة المنكِر للمعاد؟ فإذا كان كذلك عُلِم حینها أنّه: «غَرَّتْهُمُ الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا»[11] [710].
فالإنسان بالفطرة طالب للسعادة الأبدیّة، بل وإنّ البعض یَعدّ هذه المیزة فی الإنسان علامة على وجود المعاد؛ ذلك أنّه لولا وجود الحیاة الأبدیّة لما وُجد مثل هذا المیل فی الإنسان. إذن فكیف یمكن أن ینسى الإنسان هذا الجانب من حیاته ولا یفكّر إذا استیقظ صباحاً من نومه إلاّ فی لعبه ولذّاته الدنیویّة، وغایة ما یفعله هو أن یصلّی بضع ركعات على عجل؟ فإذا آمنّا بأنّ أمامنا هدفاً ومقصداً هو أسمى من هذه الدنیا فعلینا أن نستغلّ كلّ لحظة من لحظات یومنا ولیلتنا فی السیر نحو هذه الغایة وأن نلتفت إلى أنّ الحیاة الدنیا إنّما هی وسیلة للوصول إلى السعادة واللذّة الأبدیّة، وأن لا نقضی حتّى لحظة واحدة منها فی غیر ذلك.
بالطبع لا ینبغی تصوّر أنّ بلوغ الآخرة لا یتمّ إلاّ بالصلاة والصیام فحسب. كلاّ، فقد یكون العمل فی المختبر أحیاناً من أجل الآخرة، وقد تكون النشاطات العلمیّة، والأبحاث التاریخیّة، والبحوث الفلسفیّة، وحتّى الأعمال الفنیّة فی سبیل الآخرة. فكلّ عمل یُنجَز فی سبیل الله ومن أجل حفظ عزّة الإسلام والاُمّة الإسلامیّة فإنّه لیس من طلب الدنیا فی شیء، فما طلب الدنیا إلاّ ما یُؤتى به فی سبیل الدنیا ومن أجل لذّاتها.
ونورد هنا بضعة أمثلة على تعابیر القرآن الكریم فی ذمّ الدنیا. یقول عزّ من قائل فی الآیة المرقّمة 130 من سورة الأنعام: «یَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ یَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ یَقُصُّونَ عَلَیْكُمْ ءَایَاتِی وَیُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ یَوْمِكُمْ هَـٰذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِینَ». فالله تبارك وتعالى یوجّه هذا السؤال إلى الجنّ والإنس یوم القیامة: ألَم تبلغكم رسالات رُسلی الذین بیّنوا آیاتی لكم؟ ألَم تعلموا بأنّ یوماً كهذا سیأتی وأنّ علیكم الاستعداد له؟ ألَم تصلكم هذه الرسالة من أنّكم ستحاسَبون فی هذا الیوم على كلّ صغیرة وكبیرة من أعمالكم؟ فیجیبون: «شهدنا على أنفسنا» أنّ الأنبیاء قد أتوا وقد أبلغوا هذه الرسالة. لكن لماذا لم یكترثوا بهذه الرسالة؟ «قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا»؛ فقد خدعتهم الحیاة الدنیا وأنستهم ذكر الآخرة. لكن هل إنّ نور الشمس والقمر والنجوم ونموّ النباتات وزقزقة البلابل هی التی خدعتهم؟ فهل إنّ ذات هذه المخلوقات خدّاعة؟ فما المشكلة من أصل وجود هذه الدنیا؟ أولم یقل أمیر المؤمنین (علیه السلام): إنّ الدنیا هی «مسجد أحبّاء الله ومُصَلّى ملائكة الله»[12] [711].
فهذه الدنیا هی وسیلة قد تخدع ابن آدم، وقد تعظه وتزید من بصیرته. وهذا یرتبط بطریقة تعاطی الإنسان معها والإفادة منها. فإن ملأت زخارفُ الدنیا ومظاهرُها عینَ الإنسان وخطفت قلبه فسیكون غارقاً فی حبّ الدنیا.
وفی موضع آخر یتحدّث القرآن الكریم عن الحوار الذی دار بین أصحاب النار وأصحاب الجنّة یوم القیامة بعد أن تمّ عزل الفریقین عن بعضهما: «فَضُرِبَ بَیْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِیهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * یُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ»[13] [712]. فأهل النار ینادون الذین دخلوا الجنّة قائلین: ألم نكن فی الدنیا أصدقاءكم، وإخوانكم، ورفاقكم فی الدرس والجهاد؟ فیأتی الجواب: «قَالُواْ بَلَىٰ» لكن: «...غَرَّتْكُمُ الأَمَانِیُُّّ»؛ أی: خدعتكم الأمانی العابرة لهذه الدنیا. ویقول عزّ وجلّ فی آیة اُخرى على لسان أهل الجنّة عندما یسألون أهل النار: «فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً»[14] [713]. فیجیبون: «نَعَمْ» لقد كان كذلك. ثمّ یطلب أهل النار من أصحاب الجنّة أن یعطوهم بعض الماء لإرواء عطشهم أو یتكرّموا علیهم بشیء من موائدهم: «وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِیضُواْ عَلَیْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ»[15] [714] فیأتیهم الجواب: «إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِینَ». فنِعَم الله فی مائدتنا محرّمة علیكم. لماذا؟ لأنّ أصحاب النار: «اتَّخَذُواْ دِینَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا»[16] [715]، فمَثَلهم فی تعاملهم مع الدین كمَثَل الأطفال، یتسلّون ویلعبون بألعابهم ولا یتعاملون معها بجدّ.
لكنّ الدین لیس باُلعوبة. فقد أرسل الله الدین كی یأخذه الناس على محمل الجدّ ویمتثلوا أوامره. لكن كیف تصرَّفَ أهل النار مع الأحكام الإلهیّة؟ قالوا: «إِنَّمَا الْبَیْعُ مِثْلُ الرِّبَوٰاْ»[17] [716]؛ أی: ما الفرق بین الاستثمار فی صفقة ما وجنی الربح منها وبین أخذ الفائدة على القرض المعطى للآخرین؟! فقد اتّخذوا من حكم الله اُلعوبة فقالوا: أقرضوا الناس وخذوا منهم الفائدة، ومن أجل إضفاء صبغة شرعیّة على العملیّة اجعلوها ضمن صفقة شكلیّة! أولیس هذا تلاعباً بدین الله؟ فحتّى الطفل یفهم ذلك. فالآیة القرآنیّة تصرّح: «فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ»[18] [717]؛ أی: إن لم تكفّوا عن التعامل بالربا، فإنّكم تكونون قد أعلنتم الحرب على الله تعالى. ولم یرد مثل هذا التعبیر مع أیّ حكم آخر. ومع ذلك كلّه فإنّنا نستمرّ بالتعامل بالربا تحت غطاء بعض الحیل الشرعیّة!
فإذا اعتقد المرء حقّاً بوجود الله وحقیقة المعاد والحساب وصدّق بأنّ الله یعتبر الربا بمثابة الحرب علیه لكنّه مارس الربا عبر صفقات شكلیّة، أفیمكن أن نطلق على هذا السلوك غیر الاستهزاء بدین الله؟ «وَاتَّخَذُواْ ءَایَاتِی وَرُسُلِی هُزُواً»[19] [718]. فأمثال هؤلاء یستحقّون عذاب جهنّم، وهم لا یستحقّون حتّى تناول شیء من موائد أهل الجنّة.
وفی آیة اُخرى یصف الباری عزّ وجلّ المخدوعین بالدنیا بهذا الوصف: «وَغَرَّتْهُمُ الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا فَالْیَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاءَ یَوْمِهِمْ هَٰذَا وَمَا كَانُواْ بِآیَاتِنَا یَجْحَدُونَ»[20] [719]. فأمثال هؤلاء - فی الحقیقة - ینكرون آیات الله تعالى؛ فلو أخذ المرء آیات الله بجدّ لما تعامل معها بهذه الكیفیّة. كما ویقول تعالى فی الآیة المرقّمة 70 من سورة الأنعام: «وَذَرِ الَّذِینَ اتَّخَذُواْ دِینَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَیَوٰةُ الدُّنْیَا... لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِیمٍ وَعَذَابٌ أَلِیمٌ بِمَا كَانُواْ یَكْفُرُونَ»؛ فهؤلاء یتعاملون مع الدین بهذه الصورة لأنّ الدنیا قد غرّتهم فتعلّقوا بلذّاتها ولهوها. أمّا عاقبة هؤلاء فهی: «لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِیمٍ وَعَذَابٌ أَلِیمٌ بِمَا كَانُواْ یَكْفُرُونَ». ویقول تعالى فی موضع آخر: «وَقِیلَ الْیَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِیتُمْ لِقَاءَ یَوْمِكُمْ هَٰذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِینَ»[21] [720]. ویقول تعالى فی الآیة التالیة من نفس السورة: «ذَٰلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءَایَاتِ اللهِ هُزُواً»[22] [721]؛ فسبب ابتلائكم بعذاب جهنّم هو أنّكم استهزأتم بآیات الله فی الدنیا. فعندما یقال: هذا حكم الله ونصّ القرآن الكریم وإنّ الروایات المتواترة تثبته وإنّ العلماء مجمعون علیه تقولون استهزاءً: هذه الأحكام تعود إلى زمان كان العرب یقاتل فیه بعضهم بعضاً ویئدون بناتهم. ولا تحسبوا ما أقوله مجرّد خیال، فقد شاهدت باُمّ عینی استاذاً فی الحقوق معمّماً یقول مستهزئاً بقوانین الإسلام الجزائیّة: سمعتُ أنّه لا یزال فی مدینة قم مَن یعتقد بأنّ الناس یجب أن یُضرَبوا بالعصا كالحمیر! لقد ولّى زمان هذا التعامل العنیف مع الناس! ألَم یقل أحد المسؤولین الحالیّین: التنمیة الثقافیّة تحتاج إلى الحرّیة ولا یمكن حصولها مع عملیّة حجب المواقع الالكترونیّة؟! وهو ما یناقض تماماً كلام قائد الثورة المعظّم فی مطلع العام [الإیرانیّ] الجاری عندما قال: «لا یمكن إزالة القیود عن كلّ شیء بدعوى الحرّیة».
فالمعتقد بالله والآخرة والحساب لا ینبغی أن یدیر ظهره لهذه المسائل، فمثل هذا التعاطی یُعدّ بمثابة اللعب بالقرآن. فإنّ الذوبان فی زخارف العالم الغربیّ والتطوّرات المادّیة، ونسیان الدین هو الذی یُعدّ من الدنیا المذمومة، ولیست هی الدنیا التی یكدّ المرء فیها ویتعب للحصول على ما ینفع اُسرته ومتعلّقیه، وما یساعد به الفقراء وأبناء جلدته، كما ولیست هی الدنیا التی یمهّد فیها المرء - من خلال التقدّم العلمیّ والصناعیّ - الأرضیّة لاستمالة غیر المسلمین إلى الدین ودعوتهم إلى الخیر. فهذه الدنیا لیست منبوذة. فلو اُفید من التطوّر فی الاُمور الدنیویّة كأداة لنیل السعادة؛ بمعنى أنّها اُنجزت ضمن إطار الأحكام الإلهیّة ومع مراعاة العناوین الثانویّة كحفظ عزّة الإسلام وعزّة الدولة الإسلامیّة، وبلوغ المسلمین مستوى الاكتفاء الذاتیّ وتحرّرهم من هیمنة الكفّار فإنّ كلّ النشاطات المبذولة فی هذا المجال ستكون عبادة، وهی لیست غیر مذمومة فحسب، بل وواجبة أحیاناً.
فالدنیا لا تكون مذمومة إلاّ إذا غرّتنا: «وَغَرَّتْكُمُ الْحَیَاةُ الدُّنْیَا»[23] [722] وحجبتنا عن الآخرة: «لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ»[24] [723]، وهی تتمثّل فی الاُمور التی تجعلنا نهتمّ بلذائذ الدنیا العابرة وتلهینا عن ذكر الله والیوم الآخر.
وفّقنا الله وإیّاكم لما فیه الخیر والصلاح إن شاء الله
[1] [724]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.
[2] [725]. سورة ص، الآیة 35.
[3] [726]. سورة آل عمران، الآیة 185.
[4] [727]. سورة المرسلات، الآیة 42.
[5] [728]. سورة الواقعة، الآیة 21.
[6] [729]. سورة البقرة، الآیة 25.
[7] [730]. سورة التغابن، الآیة 15.
[8] [731]. سورة الحدید، الآیة 20.
[9] [732]. سورة الجاثیة، الآیة 24.
[10] [733]. سورة الكهف، الآیة 36.
[11] [734]. سورة الأنعام، الآیة 70.
[12] [735]. نهج البلاغة، الحكمة 131.
[13] [736]. سورة الحدید، الآیتان 13 و14.
[14] [737]. سورة الأعراف، الآیة 44.
[15] [738]. سورة الأعراف، الآیة 50.
[16] [739]. سورة الأعراف، الآیة 51.
[17] [740]. سورة البقرة، الآیة 275.
[18] [741]. سورة البقرة، الآیة 279.
[19] [742]. سورة الكهف، الآیة 106.
[20] [743]. سورة الأعراف، الآیة 51.
[21] [744]. سورة الجاثیة، الآیة 34.
[22] [745]. سورة الجاثیة، الآیة 35.
[23] [746]. سورة الجاثیة، الآیة 35.
[24] [747]. سورة «المنافقون»، الآیة 9.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 11 تموز 2014م الموافق للیلة الرابعة عشرة من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«فإذا كان هكذا یَفِرّ من الناس فراراً ویُنقَل من دار الفناء إلى دار البقاء ومن دار الشیطان إلى دار الرحمٰن. یا أحمد لأزیّنَنّه بالهیبة والعظمة فهذا هو العیش الهنیء والحیاة الباقیة»[1] [748].
قلنا فی المحاضرات الفائتة، فی معرض بحثنا فی فقرات من حدیث المعراج، إنّه بعد أن یمتثل السالك الأوامرَ الاُولى المبیَّنة فی الحدیث تشمله رحمة وعنایة خاصّتین من الله عزّ وجلّ وأوّل ما یحصل علیه من أجر هو أن تودَع فی قلبه محبّة خاصّة تجاه الله تبارك وتعالى. أمّا أجره الثانی فهو أن تهون الدنیا فی عینه، ثمّ یتحوّل إلى بغض فی قلبه تجاهها وتجاه لذّاتها، وهو ما یمهّد له الأرضیّة لعدم الرغبة فی الدنیا وتجنّب السقوط فی حبائل الشیطان. وفی هذه المرحلة تنتهی التربیة الإلهیّة وتظهر فی السالك آثار تبیّنها الفقرات التالیة من الحدیث القدسیّ.
«فإذا كان هكذا» أی بعد اجتیاز هذه المراحل التربویّة «یَفِرّ من الناس فراراً ویُنقَل من دار الفناء إلى دار البقاء ومن دار الشیطان إلى دار الرحمٰن». وعندها یعمد الله إلى تزیینه بالهیبة والعظمة حتّى یحسّ الناس بالخضوع بین یدیه «فهذا هو العیش الهنیء والحیاة الباقیة». ولـمّا كانت أذهاننا غیر مأنوسة بهذه المفاهیم فإنّنا نجد فی هذه التعابیر بعض الإبهام. أوّل إبهام هو: ما معنى الفرار من الناس، ولماذا یفرّ أمثال هؤلاء من الناس؟
إنّ من جملة المسائل التی تتناولها كتب الأخلاق والتی یولیها أرباب السیر والسلوك اهتماماً بالغاً هی تلك الخصوصیّات التی بُیِّنت بلسان الشعر:
صـــــمتٌ وجـــوعٌ وسَــهَر عَــــــــــزلٌ وذِكـــرٌ مـــســـتـــمِــــرّ
خَـمــسٌ إذا مورِسنَ أكـ ـمَلنَ النقائص فی البشر[2] [749]
یعنی انّه فی میسور الذین یشْكُون من النقص فی مقام العبودیّة أن یستعینوا بهذه العوامل الخمسة لیصلوا إلى كمال العبودیّة. أوّل هذه العوامل هو «الصمت» الذی تكرّرت الإشارة إلیه فی حدیث المعراج، وثانیها «الجوع»، وثالثها «السَهَر» وإحیاء اللیل، ورابعها «العزلة» عن الناس، وخامسها «ذكر الله» بشكل مستمرّ. جمیعنا تقریباً یعرف هذه المفاهیم ویعلم أنّه لا یراد بالتوصیة بها الإطلاق والعموم. فلیس المراد من الصمت هو السكوت المطلق؛ إذ قد یكون الكلام أحیاناً واجباً، كما فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر، وتفقیه الآخرین فی الدین، والردّ على الأسئلة والشبهات. وكذا الحال مع «الجوع» فلا یراد منه الجوع المستمرّ، إذ یتعیّن على الإنسان - لدفع ضعف بدنه واكتساب القدرة على إنجاز واجباته – تناول بعض الطعام. ومن الواضح أنّ قائل هذا البیت لیس هو فی مقام بیان شروط وقیود المسألة ولیس قصده تبیین الحدّ المطلوب لكلّ واحد من هذه العوامل. كما أنّ «العزلة» هنا - والتی عبّر عنها الحدیث بالفرار من الناس – لا یراد منها اللجوء إلى غار أو العیش فی صومعة، فالإسلام یرفض مثل هذه الرهبانیّة: «لا رهبانیّة فی الإسلام»[3] [750]. فالرهبانیّة كانت بدعة ابتدعها بعض النصارى للفرار من أذى أعدائهم من الیهود ثمّ أقرّتها الدیانة المسیحیّة تدریجیّاً بشكل من الأشكال ولا زالت رائجة لدى بعض فِرَقها؛ كما فی قوله تعالى: «وَرَهْبَانِیَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَیْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ»[4] [751]. فالرهبانیّة غیر مقبولة فی دین الإسلام الذی استعاض عنها بالتوصیة بصلاة اللیل والاستیقاظ فی السحر[5] [752]. ونستطیع أن نتبیّن، بالالتفات إلى ذلك، أن لا عمومیّة فی قضیّة العزلة عن الناس وأنّ لها قیوداً. لكن لماذا لم تبیَّن قیودها فی هذا الحدیث الشریف؟ هذا أمر طبیعیّ، فإذا لم نشأ فی محاوراتنا الیومیّة بیان تفاصیل الموضوع فإنّنا، وتجنّباً للإطالة والإسهاب، سوف لا نطرح جمیع قیوده وشروطه دفعة واحدة وسنكتفی ببیان أصل المبحث بصورة الإهمال. كما أنّ الكثیر من آیات الذكر الحكیم التی تتطرّق إلى أصل وجوب الصلاة تقول من دون أیّ قید: «أَقِیمُواْ الصَّلَوٰةَ»[6] [753]، «یُقِیمُونَ الصَّلَوٰةَ»[7] [754]. فهاهنا مقام الإهمال، أمّا أجزاء المبحث وقیوده وشروطه فیتمّ ذكرها فی مقام البیان التفصیلیّ.
والحدیث هنا یتصدّى لبیان اُسلوبٍ خلافُه هو الشائع بین الناس. فأغلب الناس یمیلون إلى قضاء أوقاتهم بتجاذب أطراف الحدیث مع الآخرین ومناقشتهم فی شتّى القضایا. فالله تعالى، ومن منطلق كونه المربّی لعباده، یرید هنا تغییر هذه العادة غیر الصائبة، والحدیث – لذلك – یكتفی بالإشارة إلى الفرار من الناس باعتباره عملاً محبّذاً. وهذا یشبه التوصیة فی الكثیر من الروایات بالإقلال من الطعام بشكل مطلق فی معرض تحذیر الناس من الإكثار من الأكل والذی یبدو أمراً طبیعیّاً عند الكثیرین. فمثل هذه الروایات هی فی مقام التحذیر من اُسلوب فی الحیاة غیر صحیح وضرورة السیطرة علیه وإصلاحه. ومن هنا فقد ذُكرت المسألة بصورة الإهمال، وتُرك بیان حدودها وقیودها وشروطها لمناسبة اُخرى.
ممّا لا شكّ فیه أنّ معاشرة الآخرین هی من النعم الإلهیّة وقد مُهِّد لها من خلال التواجد فی كنف الاُسرة والمجتمع، ومن دونها سوف لا تتوفّر إمكانیّة تأمین الكثیر من حوائج الحیاة الضروریّة، بل وسوف یغیب المناخ اللازم لبلوغ بعض الكمالات المعنویّة أیضاً. فلو اُبقی على المرء منذ ولادته فی غار بعیداً عن أبناء جنسه فسوف لا یجید النطق، ولا یتعرّف على الآداب والتقالید، ولا یتعلّم أیّ عِلم، وستكون حیاته حیاة الحیوانات. وهذا ما دفع الفلاسفة إلى القول: إنّ الإنسان هو مدنیّ بالطبع؛ أی إنّ طبع الإنسان یقتضی المدنیّة والتحضّر. فلا ریب أنّ الإنسان بحاجة إلى المعاشرة من أجل تلبیة حاجیاته ومساعدة الآخرین. لكن عوضاً عن استغلال الإنسان معاشرةَ الآخرین من أجل تكامله ورقیّه فإنّ غفلته تؤدّی به إلى تضییع جزء كبیر من عمره الثمین فی اُمور لا تعطی أیّ ثمار اُخرویّة بل وحتّى دنیویّة، بل وقد یقضیها فی المعصیة والآثام أیضاً. ولتجنّب ذلك علینا أوّلاً أن نصنّف أنواع معاشرتنا.
فقسم من تعاملاتنا مع الناس یصنَّف فی خانة تلبیة ما نحتاجه فی حیاتنا المادّیة والدنیویّة؛ ذلك أنّنا غیر قادرین وحدنا على تلبیة كلّ هذه الحاجات، ونحن بحاجة إلى غیرنا لذلك. فالمعاشرة ضمن هذه الحدود هی من لوازم الحیاة الدنیویّة والأخیرة هی التی تحدّد مقدار الحاجة إلیها. أمّا القسم الآخر ممّا نمارسه من المعاشرة فیدرّ علینا منافع اُخرویّة؛ كمعاشرة علماء الدین، ومربّی الأخلاق، والإخوة فی الإیمان الذین یعلّموننا دیننا، وینبّهوننا إلى الصالح والطالح ویذكّروننا بالله تعالى: «قالت الحواریّون لعیسى: یا روح الله! مَن نُجالس؟ قال: مَن یُذكِّرُكم اللهَ رؤیتُه، ویزید فی عِلمكم منطقُه، ویُرَغِّبكم فی الآخرة عمله»[8] [755]. لكنّ بعض أشكال المعاشرة تسوق المرء إلى ارتكاب المعاصی. فأیّ فائدة یجنیها المرء منها یا ترى؟ فهذا الضرب من المعاشرة هو مذموم لا محالة ویتعیّن الفرار منه.
التصنیف الآنف الذكر للمعاشرة ینفع الأشخاص العادیّین، لكنّ هذا المقطع من حدیث المعراج یخاطب اُولئك الذین یبتعدون حتّى عن فعل المباحات ولیس هدفهم النجاة من نار جهنّم. فهذه التوصیات تخصّ المفتّشین عن المراتب العالیة من الكمال البشریّ. فأمثال هؤلاء یؤمنون بأنّ الحیاة فی هذه الدنیا لیست مطلوبة ذاتاً، بل هی أداة لاختبار ابن آدم ووسیلة لتكامله، ومن هنا فإنّه یتعیّن إنفاق كلّ لحظة منها فی سبیل نیل سعادة الآخرة. فهل یُعقَل أن یقضی مَن بلغ هذا المستوى من المعرفة وقتَه بالبطالة بحضوره فی أیّ مجلس كان، حتّى وإن خلا من كلّ معصیة أو غیبة أو تهمة؟!
فعمل كهذا بالنسبة لمن یرید توظیف كلّ لحظة من لحظات عمره فی النموّ والتكامل هو بمثابة هدر ثروة عظیمة. فالعمر ثروة ینبغی استغلال كلّ لحظة منها لنیل سعادة الآخرة. فكیف یتسنّى للسالك إلى الله أن ینفقه فی أمثال اللعب والتسلیة التی قد تكون غیر نافعة أحیاناً حتّى دنیویّاً؟! كالرجل الثریّ الذی یستعمل حزمة الأوراق المالیّة لإشعال النار! فإنّ من الحماقة أن یضع المرء ثروته فیما لا یعود علیه بأیّ ربح. فكیف یقضی هذا العمر – الذی یمكن الحصول فی كلّ لحظة منه على أجر عبر ذكر الله – بالمزاح والتسلیة؟! فأیّ وصف یمكن إطلاقه على هذا العمل غیر الحماقة؟
فالذی یعلم ما لثروة عمره من قیمة فإنّه یتجنّب إتلافها ویفرّ من مجالسة من یهدرها بهذه الطریقة. فهل من العقل فی شیء أن یعمد الفنّان - الذی یستطیع استغلال وقته لإنتاج عمل فنّی فاخر – إلى إنفاق وقته فی مسامرة أصدقائه ورفاقه بدلاً من ذلك، أم علیه الفرار من مجالسة الذین یحولون دون مزاولته عمله؟ فالذین تقع على عاتقهم مسؤولیّات ضخمة، ومن أجل توفیر فرصة أكبر لإنجاز مهمّاتهم، یمتنعون عن المشاركة فی الكثیر من الاجتماعات واللقاءات، حتّى وإن لم یرض بعض السذّج عن مثل هذا السلوك، لأنّ هدفهم هو إنجاز أعمالهم. وهذا - فی الحقیقة - هو فرار من الذین یمنعون المرء من إنجاز عمله الرئیسیّ، حتّى وإن كان المانع هو أحد الأصدقاء.
على هذا الأساس فمن أجل أن یتجنّب السالك إلى الله إتلاف ثروة عمره النفیسة ویستطیع الإفادة من وقته بشكل أفضل فإنّه یفرّ من الذین یحرّضونه على اللغو الذی لیس له نتائج إیجابیّة على سعادة الآخرة. ولعلّكم سمعتم قصّة عنوان البصریّ الذی كان یصرّ بإلحاح على الاجتماع ولو مرّة بالإمام الصادق (علیه السلام) لكنّ الإمام كان یرفض. وأخیراً - وبعد التردّد المتكرّر على دار الإمام (علیه السلام) والتوسّل بالنبیّ الأعظم (صلّى الله علیه وآله) – فقد أفلح فی التشرّف بالاجتماع بحضرته.
«فإذا كان هكذا یَفِرّ من الناس فراراً» فالعبد الذی یعرف قیمة عمره فإنّه یفرّ ممّن یعمل على إتلاف وقته ویمنعه من الإفادة من عمره على النحو الصحیح حتّى وإن لم یجرّه إلى ارتكاب الذنب وذلك لیستطیع استغلال عمره على أحسن وجه. فعبد كهذا لا یحبّ مجالسة أیّ أحد إلاّ إذا كان لمجالسته أثر على آخرته. فأمیر المؤمنین (سلام الله علیه) كان یجلس للقضاء، ویتفقّد الفقراء، ویعاشر الناس لحلّ مشكلاتهم، بل ویعتنی بأطفالهم أیضاً؛ فقد كان حاكماً وعلیه العمل بواجباته. لكنّه كان یفرّ من الذین یلهیه الجلوس معهم عن أداء مسؤولیّاته.
انطلاقاً ممّا ذُكر فلیس المراد من «الناس» فی الحدیث جمیعَ الناس، بل المراد منه الذین تؤدّی مجالستهم إلى ارتكاب الآثام، بل وحتّى ضیاع عمر الإنسان، فإنّه من مثل هؤلاء یتعیّن الهرب. بالطبع هذه المرحلة تشمل اُولئك الذین اجتازوا المراحل الأوّلیة المذكورة فی الحدیث. فالأشخاص العادیّون الذین لم یبلغوا هذه المرحلة لیس لدیهم القابلیّة لانتهاج مثل هذا السلوك، بل إنّهم لا یطیقونه، وقد یصابون بالاكتئاب جرّاءه. فلا ینبغی تبنّی هذا السلوك إلاّ بعد اجتیاز مقدّماته وأن یكون تحت إشراف مرَبٍّ.
یقول تعالى فی تتمّة هذا المقطع: «ویُنقَل من دار الفناء إلى دار البقاء». ما نفهمه نحن عادة من «الانتقال» هو الانتقال من محلّ إلى آخر. وقد نعمّم المفهوم نفسه على الرحیل عن الدار الفانیة إلى الدیار الباقیة. لكنّ الروایة محطّ البحث تتحدّث عن إنسان ما یزال على قید الحیاة ویشتغل فی هذا العالم بالعبادة وأداء واجباته. الاختلاف الوحید الحاصل فی هذا الإنسان هو ما طرأ من تغییر على حالاته الروحیّة نتیجة العمل بالتوصیات المذكورة فأنار له قلبَه وزاد انشداده إلى المسائل المعنویّة. والتعبیر بالانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء هو – بشكل من الأشكال – كنایة عن أنّه مع كون هذا العبد السالك ما یزال فی عالم الدنیا وهو – على سابق عهده - یعیش فی كنف اُسرته ومع أصدقائه فإنّ موضع روحه – التی هی الأساس لإنسانیّته – قد تغیّر، فقد رحل عن الموجودات الحیوانیّة التی كان یعیش بین ظهرانیها والتحق بجمع الملائكة. فجسم هذا الشخص لم یطرأ علیه تغییر وظروف البیئة المحیطة به ما زالت على حالها، لكنّ التعلّقات الدنیویّة التی كانت لدیه إلى الأمس القریب قد زالت وحلّت محبّة الله عزّ وجلّ محلّها، وهذا تحدیداً هو ما غیّر هویّته. وفی الحقیقة فإنّ وعاء حیاة هذا الشخص، الذی كان مملوءاً بلذائذ الدنیا قد تبدّل إلى وعاء لرحمة الله وفیضه وتجلّیاته لعبده. فالإنسان الذی یتمتّع بحیاتین، حیوانیّة وملكوتیّة، قد تحوّل – بعملیّة التكامل وتحوُّل الهویّة هذه – إلى ما یشبه الملائكة، فرحل عن دار الفناء - التی هی وعاء الحیاة الحیوانیّة - إلى دار البقاء - التی تمثّل وعاء الحیاة الرحمانیّة. شخص كهذا ینصبّ اهتمامه والتفاته كلّه على الله ولا یجد الشیطان سبیلاً إلى قلبه؛ إذن فإنّه قد انتقل من دار الشیطان إلى دار الرحمٰن.
فی إثر هذه الحالات یمنّ الله عزّ وجلّ على هذا العبد بفضیلة اُخرى توجب له المزید من الكرامة والوجاهة بین الناس: «یا أحمد لأزیّنَنّه بالهیبة والعظمة». فإنّ الله تبارك وتعالى یهَب مَن یصبح عبداً له هیبة وعظمة خاصّتین. فهناك من الناس من یكنّ لهم المرء احتراماً خاصّاً بما یتناسب مع مكانتهم ومنزلتهم الاجتماعیّة لكنّه لا ینفعل أمامهم ولا یخضع لتأثیرهم. غیر أنّه هناك اُناس یصفهم أمیر المؤمنین (علیه السلام) بعبارة: «صُفْرُ الوجوه»[9] [756]؛ فهم أشخاص نحیلو الأبدان، صفر الوجوه، تلتصق جلودهم بعظامهم، لا یبدو علیهم – فی الظاهر - ما یدعو إلى الانفعال تجاههم، لكنّ المرء - ومن دون اختیار منه - یشعر بالحقارة أمامهم بسبب هیبتهم فلا یدری ما یصنع. ولعلّكم شاهدتم من أمثال هؤلاء بین العلماء والصالحین. فالإنسان یشعر أمام هؤلاء بالحقارة والانفعال ویخضع لعظمتهم، وكأنّه یواجه جبلاً أشمّ. هذه هی الهیبة والعظمة التی یمنّ بها الله تعالى على أولیائه، هیبةٌ یخضع حتّى الملوك أمامها.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
[1] [757]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.
[2] [758]. إشارة لبیت شعر بالفارسیّة یقول: «صمت و جوع و سَهَر و عزلت و ذكر به دوام ناتمامان جهان را کند این پنج، تمام».
[3] [759]. دعائم الإسلام، ج2، ص193.
[4] [760]. سورة الحدید، الآیة 27.
[5] [761]. عن أبی الحسن (علیه السلام) فی قول الله عزّ وجلّ: «رَهْبانِیَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَیْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ» قال: «صلاة اللیل». (الكافی، ج3، ص488).
[6] [762]. سورة البقرة، الآیة 43.
[7] [763]. سورة البقرة، الآیة 3.
[8] [764]. الكافی، ج1، ص39، باب مجالسة العلماء وصحبتهم.
[9] [765]. قال أمیر المؤمنین (علیه السلام): «أنا الراعی راعی الأنام، أفَتَرى الراعی لا یعرف غَنَمَه». (فقیل له): مَن غنمك یا أمیر المؤمنین؟ فقال: «صُفرُ الوجوه ذُبُل الشفاه من ذكر الله». (وسائل الشیعة، ج7، ص157).
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 12 تموز 2014م الموافق للیلة الخامسة عشرة من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«فهذا هو العیش الهنیء والحیاة الباقیة، وهذا مقام الراضین. فمَن عمِل برضائی اُلزِمُه ثلاث خصال: اُعَرِّفه شكراً لا یخالطُه الجهل، وذكراً لا یخالطه النسیان، ومحبّة لا یؤثِر على محبّتی محبّةَ المخلوقین، فإذا أحبّنی أحببتُه، وأفتحُ عینَ قلبه إلى جلالی، فلا اُخفی علیه خاصّة خلقی، فاُناجیه فی ظُلَم اللیل ونور النهار، حتّى ینقطع حدیثُه من المخلوقین ومجالستُه معهم»[1] [766].
طرح الحدیث القدسیّ فی الفقرات السابقة من هذا المقطع توجیهات فیما یتّصل بنیل السالك الحیاةَ الأبدیّة الهنیئة؛ وهو المقام الخاصّ باُولئك الذین ینجزون أعمالهم كافّة طلباً لمرضاة الله تبارك وتعالى. وفی نهایة المقطع، وفی إشارة إلى خلاصة المباحث السابقة، یقول عزّ من قائل: «فمَن عمِل برضائی اُلزِمُه ثلاث خصال». وخلافاً للفقرات السابقة، فإنّه تعالى لم یتطرّق هنا إلى المنهج الذی على السالك اتّباعه، بل تعرّض للخصوصیّات والخصال التی یهبها للسالك نتیجة سلوكه ویجعلها ملازمة له بحیث لا تنفكّ عنه. فهذه هی عطیّة الباری عزّ وجلّ لاُولئك الذین بذلوا قصارى جهدهم لتطبیق تعالیمه، ثمّ انّه سبحانه – ومن باب إثابتهم على جهودهم ومساعیهم – یحوّل هذه الخصال فیهم إلى مَلَكات كی یصعدوا بواسطتها إلى مراتب أرفع وأعلى.
الخصلة الاُولى: «اُعَرِّفه شكراً لا یخالطُه الجهل». فلقد أوصى الله فی آیات جمّة المؤمنین - بشكل عامّ - بشكر أنعم الله، بل وذمَّ المقصّرین فی العمل بهذه الوصیّة وأنذرهم بالابتلاء بعقوبات مختلفة. لكنّ الكلام فی هذا المقطع من حدیث المعراج یدور حول الشكر الذی هو من لوازم حیاة الذین اجتازوا مراحل من السلوك إلى الله عبر تطبیق التعالیم الإلهیّة ووصلوا إلى مرتبة لا یحتاجون فیها إلى بذل جهد لتذكُّر كلّ واحدة من آلاء الله وشكرها، بل لقد أصبح الشكر ملازماً لحیاتهم.
لعلّكم شاهدتم بعض عظماء علمائنا ممّن هم فی حالة شكر مستمرّ لله؛ فهم یشكرونه على ما وفّقهم إلیه من طاعته، وعلى ما وهبهم من المادّی والمعنویّ من آلائه، بل وعلى ما ابتلاهم به من النوائب لیختبرهم فیعلی به درجاتهم، فهم یسبّحون بحمد ربّهم على كلّ ما یواجهونه فی حیاتهم. فحیاة أمثال هؤلاء مقرونة دائماً بالشكر. بالطبع نحن أیضاً نشكر الله، لكنّنا، خلال ساعات نهارنا ولیلنا، لا نتذكّر شكره إلاّ إذا تذكّرنا نعمة، أو دُفعت عنّا نقمة، أو حظینا بموهبة خارقة للعادة. فهذا السلوك لا یشبه حال العبد الذی یكون مشتغلاً بشكر لله طیلة ساعات لیله ونهاره. بل وقد یشتغل أمثال هؤلاء بشكر الله حتّى أثناء النوم.
إنّ من جملة ما یختلف به هؤلاء عن الناس العادیّین هو أنّ مقدار غفلة الأخیرین عن مواهب الله وجهلهم لها یعادل عادةً مئات أضعاف شكرهم إیّاها؛ فنحن نشكر نعمةً، لكنّنا نغفل عن نعم قد تكون أكبر وأنفس منها. أمّا مَن تحوّل الشكر إلى ملَكَة فی نفسه فإنّ شكره لا یعتریه جهل، ولا یشوبه نسیان: «وذكراً لا یخالطه النسیان». فغایة ما یفعله أمثالنا هو أن نتذكّر الله ونرفع أیدینا بالدعاء أثناء الصلاة أو عندما تعرض لنا معضلة، أمّا السالكون الواصلون إلى هذا المقام فإنّهم لاینسون الله على الإطلاق.
وأمّا الخصلة الثالثة التی یهبها الله تعالى لهؤلاء فهو أنّه یُلهب فی قلوبهم محبّته حتّى لا یبقى فیها محلّ لمحبّة غیره: «محبّة لا یؤثِر على محبّتی محبّةَ المخلوقین». ففی هذه المرحلة یخبو ضیاء جمیع أنواع المحبّة أمام محبّة الله. نعم، قد یوجد إلى الآن من یشكّك فی محبّة الله وكیفیّتها، لكنّ لله عباداً لا یحبّون أیّ شیء غیره، وإنّ ما یكنّونه لغیره من حبّ فهو من أجل محبّته هو لیس إلاّ. وحتّى بالنسبة للنبیّ وأهل بیته (صلوات الله علیهم أجمعین) فلا یحبّهم هؤلاء إلاّ لمحبّة الله لهم. فلیس لغیر محبّة الله وما أوصى به جلّ وعلا من سبیل إلى قلب هؤلاء، كما ولیس لأیّ عامل أن یزاحم هذه المحبّة. فلا معنى عند أمثالهم - الذائبین فی ذات الباری تعالى - لدوران الأمر بین محبّة الله ومحبّة محبوب آخر. هذا النمط من الحبّ یمثّل ذروة محبّة الإنسان لمحبوبٍ ما، وهو إذا ما ناله العبد صدق علیه قوله: «فإذا أحبّنی أحببتُه». ولعمری فإنّنا لنعجز عن استیعاب أهمّیة هذه المنزلة، فالذی یملك القدرة على فهم هذا المقام سیندهش ویُغشى علیه من شدّة الشوق. فالعبد الذی یكنّ لله كلّ هذا الحبّ، فإنّ الله سیحبّه أیضاً.
فنحن عندما نحبّ أحداً فإنّنا نلهج دائماً بذكره ونحاول أن نسدی له أیّ خدمة نقدر علیها. أمّا وعاء محبّة الله فهو غیر محدود: «ولا یشغَلُه شأن عن شأن»[2] [767]، فالتفاته إلى أحد العبید لا یسلبه التفاتَه إلى الآخرین، وهو إن أحبّ أحداً لم یبخل علیه بأیّ أثر من آثار تلك المحبّة. فمن جملة آثار محبّة الله للعبد هی أنّه یودع محبّته فی قلوب الآخرین: «إِنَّ الَّذِینَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَیَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدّاً»[3] [768]؛ فالله یودع محبّة المؤمنین الحقیقیّین الذین یأتون بالصالحات فی قلوب عباده. والنموذج البارز لمثل هؤلاء فی عصرنا هو الإمام الخمینیّ الراحل (رضوان الله تعالى علیه) وقائد الثورة الإسلامیّة (دامت بركاته). فأنتم تلاحظون كیف أنّ الناس یتهافتون على التمتّع بنظرة واحدة إلیه. ففی أیّام الإمام الراحل كان البعض یقطع مسافات شاسعة ویبقى منتظراً لساعات كی یمتّع ناظریه للحظة بالنظر إلى وجه الإمام. فهذا صنع الله إذ یودع مثل هذه المحبّة تجاه محبوبه فی قلوب عباده. «فإذا أحبّنی أحببتُه» وإذا أحببته، حبّبتُه إلى خلقی، ثمّ بعد ذلك «أفتحُ عینَ قلبه إلى جلالی».
لقد ذكر الله تعالى فی هذا الحدیث الشریف من قبل بأنّ من جملة عنایاته لعباده المخلصین هو أنّه یفتح عیون قلوبهم. وهنا یطرح نفس القضیّة لكن بصورة أشدّ فیقول: إنّنی أفتح عینه إلى جلالی بحیث لا یرى تجلّیاتی فحسب، بل لا یخفى علیه المقربّون من عبادی أیضاً: «فلا اُخفی علیه خاصّة خلقی».
فالله تعالى لا یُعرِّف عباده الخاصّین إلى كلّ أحد عادةً، وكما ذكر عزّ وجلّ فی حدیث قدسیّ آخر بأنّ من جملة ما اُخفیه على الناس هم خاصّة عبادی فهم مجهولون بین عامّة الناس ولا یعرفهم أو یطّلع على مقاماتهم المعنویّة إلا الله[4] [769]. ومع ذلك فقد یكون طرَق مسامعكم بأنّ ولیّین من أولیاء الله قد یعیشان فی مدینتین مختلفتین ولم یر أحدهما الآخر لكنّ كلاّ منهما مطّلع على مقامات صاحبه المعنویّة بل ویحبّه أیضاً. فهذه واحدة من الخصال التی یهبها الله للسالك الذی اجتاز بعض المقدّمات اللازمة. فعندما یصبح السالك محبوباً عند الله یجعله الله محبوباً عند الآخرین، ثمّ یعرّف إلیه عباده الخاصّین: «فلا اُخفی علیه خاصّة خلقی».
«فاُناجیه فی ظُلَم اللیل ونور النهار». ینتظر معظمنا السنة بطولها كی یحظى بفرصة كشهر رمضان المبارك لیناجی فیها ربّه، أو یناجیه فیه غیره فیستمع إلى صوت مناجاته. لكنّ الله جلّ وعلا یقول فی هذه الفقرة من الحدیث القدسیّ: إذا صار العبد محبوبی فإنّنی ساُناجیه لیس فقط فی جوف اللیل المظلم، بل وحتّى فی وضح النهار. بالطبع لا یراد بهذا الكلام الوحی، بل یراد به مرتبة من الحدیث الذی یدور بین الله تبارك وتعالى وأولیائه. بل إنّ مناجاة الله لمحبوبه تستمرّ «حتّى ینقطع حدیثُه من المخلوقین ومجالستُه معهم». فهو یرى الله أمامه طول الیوم واللیلة ویفصح له باستمرار عن مكنونات صدره. فالناس یتصوّرون أنّه یخاطبهم، لكنّه یخاطب غیرهم. فهو یتكلّم بكلام یحبّه الله؛ فلأنّه یرى نفسه فی حضرة الباری جلّ شأنه فهو لا یتحدّث إلاّ بما یحبّ. فی الحقیقة إنّ مخاطبه الرئیسیّ هو الله تعالى، وجلیسه هو الله سبحانه أیضاً. كما یقول جلّ اسمه فی حدیث قدسیّ آخر: «أنا جلیس مَن ذَكَرنی»[5] [770].
فالعبد الذی یصیر محبوباً لله تعالى ینسى مجالسة الآخرین ویكون دائم الالتفات إلى ربّه؛ فیصنع ما یریده ربّه، ویرجو ما یطلبه ربّه. فأیّ حاجة لهذا العبد لجلیس آخر إذا كان الله جلیسه؟! وهذه آخر میزة یمنّ بها الله تعالى على عباد كهؤلاء؛ عباد مارسوا العبودیّة لله بكلّ صدق واستهلّوا أمرهم منذ البدایة لاستجلاب رضا بارئهم. أمّا فی هذه المرحلة فكلّ شیء هو من عند الله؛ فهو تعالى یعلّم عبده شكره، ویذكّره بذاته، ویودع محبّته فی قلبه كی لا تزاحمها علیه محبّة الآخرین، ویقطع حدیثه مع الآخرین كی لا تكون لدیه رغبة فی الحدیث معهم إلاّ بما یرضی الله. فجلیسه هو الله، ومناجیه هو الله، ومحبوبه هو الله، وأمله فی الله، وناصره ومعینه هو الله، فلا یلتفت إلى أحد غیره، إذ لیس لدیه أحد غیره، فكلّ ما لدیه هو الله.
فبأیّ ثروة أو قدرة یمكن مقارنة هذه الحالة یا ترى؟ وأیّ عزّة أو سلطة یمكن أن توازی هذا المقام؟ فكلّ الأشیاء تفقد ألوانها فی هذا المقام. فالواصل إلى هذه الدرجة یرى كلّ شیء من عند الله، وهو لهذا لا یتكلّم مع غیر الله، إلاّ إذا طلب هو سبحانه منه ذلك.
وفّقنا الله وإیّاكم لشیء من هذا إن شاء الله
[1] [771]. إرشاد القلوب، ج1، ص204.
[2] [772]. بحار الانوار، ج88، ص71.
[3] [773]. سورة مریم، الآیة 96.
[4] [774]. «أولیائی تحت قبائی، لا یعرفهم غیری»، راجع روضة المتّقین فی شرح من لا یحضره الفقیه، ج9، ص285.
[5] [775]. الكافی، ج2، ص496.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 13 تموز 2014م الموافق للیلة السادسة عشرة من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
قلنا فی المحاضرات الماضیة، خلال شرح مقاطع من حدیث المعراج، إنّه بعد أن یمتثل العبد الخالص لله أوامر ربّه یحظى بأهلیّة أنْ یودِع الله محبّته فی قلبه فتظهر علیه، نتیجة لذلك، آثارٌ وبركاتٌ ذكَرنا بعضها فی المحاضرة الماضیة وسنتطرّق إلى تتمّتها اللیلة.
فمن جملة العطایا التی یمنّ الله تبارك وتعالى بها على عبده السالك فی هذه المرحلة هی أن یقطع تعلّقاته بكلّ شیء، فلا یعود راغباً فی محادثة الآخرین ومجالستهم إلاّ فیما یُرضی ربّه: «حتّى ینقطع حدیثُه من المخلوقین ومجالستُه معهم»[1] [776]. ویشیر الحدیث بعد ذلك إلى ما یصیبه هذا العبد من بركات عند الموت وبعده: «واُنَوِّمه فی قبره واُنزِل علیه مُنكَراً ونكیراً حتّى یسألاه ولا یرى غمرة الموت وظُلمة القبر واللحد وهولَ المُطَّلَع»؛ فلا یحسّ بصعوبة نزع الروح، وینزلونه فی قبره بهدوء من دون أیّ انزعاج أو وحشة. «ثمّ أضعُ كتابَه فی یمینه» یوم القیامة؛ وهی أوصاف ترتبط بعالم الآخرة. ثمّ یقول بعد سرد هذه الخصوصیّات: «فهذه صفات المحبّین» لله. ویبیّن الله تعالى فی هذا المقطع من حدیث المعراج ما یترتّب فی الدنیا والآخرة من نتائج على محبّته جلّ وعلا.
وهنا، أی فی المقطع التالی، یضیف الباری عزّ وجلّ فصلاً آخر یوضّح فیه علامات المحبّین. فلیس كلّ مَن ادّعى حبّ الله بمحبّ له حقّاً. فإنّ للعاشق لله علاماتٍ یمكن من خلالها تشخیص حبّه لربّه. بالطبع إنّ محبّة الله هی من لوازم الإیمان؛ إذ أنّ كلّ مَن یؤمن بالله سیعرف أنّ النعم كافّة هی منه عزّ وجلّ وهو سیحبّه لا محالة. لكنّ هذه المحبّة - وبسبب ضحالة المعرفة، أو كمحصّلة لبعض التعلّقات الاُخرى أحیاناً – قد لا تنمو، بل وقد تذبل وتتلاشى تحت تأثیر أشكال اُخرى من المحبّة. فالإنسان یعلم أنّ جمیع ما لدیه من نعم هی من عند الله عزّ وجلّ، وهو – لهذا - یحبّ ولیّ نعمته، فیبادر إلى شكره والثناء علیه. لكنّ ضعف النفس، أو قلّة المعرفة، أو نقص الإیمان، أو بعض التعلّقات قد تؤدّی بالإنسان إلى التأثّر كثیراً من فَقْد نعمة أو الابتلاء بنازلةٍ ما وهو تأثّر ینسیه عِظَم النعم التی منّ الله بها علیه، وكم أنّ له جلّ وعلا حقوقاً علیه. بل، ومضافاً إلى نسیان محبّته تعالى، فقد یغمر قلبَه – والعیاذ بالله – بغض تجاهه عزّ وجلّ. فلعلّنا جمیعاً مررنا بهذه التجربة، وهی أنّنا ننسى الآخرین إذا أحببنا أحداً حبّاً شدیداً، بل وقد نضَحّی – عند التضادّ والتزاحم – بأشكال المحبّة الاُخرى فی سبیل الحبّ الأكبر والأشدّ. من هنا فإنّه لیس لكلّ مَن هبّ ودبّ الأهلیّة لأن یودعِ الله جوهرة محبّته فی قلبه ویجعل وعاء قلبه طافحاً بعشقه. فإنّ للوصول إلى هذه الدرجة شروطاً خاصّة قد تمّ بیانها فی الفقرات السابقة من الحدیث. لكن بما أنّ البعض قد یتظاهر بالإیمان بالله وحبّه، فقد خاطب تبارك وتعالى نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) فی القسم الأخیر من الحدیث القدسیّ بقوله: «یا أحمد! لیس كلّ مَن قال: اُحبّ الله، أحَبَّنی»؛ فلیس كلّ من لاكَ محبّةَ الله فی فمه بعاشق له حقّاً، اللهمّ إلاّ أن تبدو علیه آثار العشق والمحبّة؛ «حتّى یأخذ قوتاً ویلبس دوناً وینام سجوداً ویطیل قیاماً»؛ فالعاشق هو الذی یكتفی من غذائه بما یسدّ رمقه، ومن لباسه بالبسیط، وتخور قواه من طول السجود فیخرّ نائماً، ویطیل قیامه مصلّیاً.
یروی آیة الله الشیخ بهجت (رحمة الله علیه) أنّ الشیخ الأنصاریّ (رضوان الله تعالى علیه)، ولدى عودته من درسه فی یومٍ صیفیّ حارّ فی النجف الأشرف، طلب شربة ماء یروی بها ضمأه، فما لبث - فی الفترة التی استغرقوها لجلب بعض الماء البارد من السرداب - أن قام إلى الصلاة، فغاص فی أعماقها حتّى نسی عطشه، وطالت صلاته حتّى زالت برودة الماء. هكذا هم أحبّاء الله، إنّهم لا یفرّطون حتّى بهذه الفرصة القلیلة، فهم یمضونها فی الصلاة قائمین بین یدی المحبوب.
«ویَلزَم صمتاً، ویتوكّل علیّ، ویبكی كثیراً، ویُقلّ ضَحِكاً، ویخالِف هواه، ویتّخذ المسجد بیتاً، والعِلم صاحباً، والزهد جلیساً، والعلماء أحبّاء، والفقراء رفقاء، ویطلب رضای، ویفرّ من العاصین فراراً، ویشتغل بذكری اشتغالاً، ویُكثِر التسبیح دائماً». فمن العلامات الاُخرى للمُحبّ لله تعالى هی أنّه من الساكتین وقلیلی الكلام، وأنّ توكّله علیّ، وبكاءه كثیر وضحكه قلیل، وهو یخالف كلّ ما أمره به قلبه، وأنّ بیته المسجد؛ فهو یذهب إلیه لیستریح من عناء الأشغال الیومیّة كلّما أنهكته لیشتغل بالعبادة، وأنّ العلم صاحبه والزهد جلیسه، وهو یصطفی أحباءه من بین العلماء وینتقی رفاقه من بین الفقراء، وهو یفرّ من المذنبین فراراً، وهو دائم الذكر والتسبیح لربّه. وقد أمر الله تعالى فی بعض آیات كتابه العزیز بتسبیحه؛ كقوله: «وَسَبِّحْ بِالْعَشِیِّ وَالإِبْكَارِ»[2] [777]، وقوله: «وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِیلاً»[3] [778].
ومن الخصوصیّات الاُخرى لهذا العبد هی أنّه: «یكون بالوعد صادقاً، وبالعهد وافیاً، ویكون قلبه طاهراً [لا یضمر ضغینة لأحد]، وفی الصلاة ذاكیاً [یحرص على أدائها صحیحة]، وفی الفرائض مجتهداً، وفیما عندی من الثواب راغباً، ومن عذابی راهباً، ولأحبّائی قریناً وجلیساً»[4] [779]. فالمحبّ لله تظهر علیه مثل هذه الأمارات. لكنّ السؤال هو: ما هی العلاقة بین هذه العلامات ومحبّة الله؟
نستطیع تقسیم هذه العلامات إلى ثلاث فئات. الفئة الاُولى تتضمّن الاُمور التی تكون علاقتها بمحبّة الآخرین واضحة؛ فالمحبّ یرغب فی ذكر أوصاف محبوبه، والاُنس معه، واللقاء به. فالمیل إلى عبادة الله، وطول السجود، وكثرة الصلاة لهی من الأمارات الواضحة على محبّة المرء لربّه والرغبة فی الاُنس معه والحضور فی حضرته. فالذی لا یُكنّ حبّاً لله فهو یؤدّی حتّى صلاته الواجبة بتثاقل وعلى عجل.
والفئة الثانیة منها تتّصل باُسلوب التعامل مع الناس، والسلوك الصادق مع الآخرین والالتزام بالعهود. أمّا الفئة الثالثة فتتضمّن أشكال السلوك الفردیّ مثل قلّة الطعام، وبساطة اللباس. لكنّ ارتباط هذه العلامات بمحبّة الله لیس هو بوضوح ارتباط الفئة الاُولى بها. وقد قلنا إنّ الحدیث القدسیّ لا یتحدّث عن الحبّ الذی یكنّه الناس العادیّون. فجُلّنا یحبّ الله لِـما أسبغ علیه من النعم. بل إنّنا قد نغفل عن آلاء الله أحیاناً فننسى – من أجل ذلك - حبّه، بل ونعاتبه أحیاناً اُخرى. لكن ّكلام الباری تعالى فی هذا الحدیث یدور حول المحبّة التی یمنحها كأجر لمن طوى من عباده مراحل السلوك بجدّ واجتهاد ویجعل قلوبهم طافحة بها. فإنّ من مؤشّرات هذا اللون من الحبّ هی قلّة الطعام وبساطة اللباس.
ولإلقاء الضوء على العلاقة بین الأوصاف المذكورة مع محبّة الله تعالى علینا الالتفات أوّلاً إلى قضیّة أنّ وعاء ابن آدم محدود وأنّ كلّ ما یشغله عن ذكر الله فإنّه یأخذ حیّزاً من قلبه ویبعث على فقدان جزء من حبّه لربّه. فكلّما أضفنا شیئاً إلى الوعاء الذی لا یتّسع إلاّ لِلَتر واحد من الماء فإنّ حجماً مساویاً من مائه سیُراق منه. ومن هذا المنطلق تحدیداً فإنّ أیّ عامل یشغل انتباه العبد السالك فإنّه سیسلب منه نفس المقدار من التفاته إلى محبوبه، والحال أنّه لا یرضى بنقصان محبّته لربّه قید أنملة، اللهمّ إلاّ إذا أراد المحبوب نفسه ذلك. فاللباس الجمیل والغذاء اللذیذ مباحان، لكنّهما إذا حالا دون التفات المحبّ إلى محبوبه فسوف لا یطلبهما، فما بالك بالاُمور التی تتعارض مع محبّة الله عزّ وجلّ. فكیف یمكن أن یكون العبد عاشقاً لله ومتعلّقاً به فی الوقت الذی یمیل طرف من قلبه إلى ما یبغضه محبوبه؟ ألیس ذلك شركاً فی المحبّة؟ فإذا وصل العبد إلى مرحلة یكون قلبه فیها متعلّقاً بربّه فسوف لا یكون لما یبغضه الله أدنى سبیل إلى قلبه، بل سیفرّ منه؛ فهو سیفرّ من المعصیة، ویهرب من موجبات الأنانیة، ویحذر من كلّ ما یخلق فی نفسه حالة التعلّق بغیر الله. فالاكتفاء بالطعام القلیل واللباس البسیط، والابتعاد عن أهل المعاصی، والاُنس بأولیاء الله، هی من أجل أن لا ینحرف التفات العبد العاشق عن ربّه وأن یكون قلبه طوع أمر محبوبه. وهو لهذا یخالف كلّ ما یطلبه قلبه؛ لأنّ تلبیة ما یطلب القلب بمعزل عمّا یریده الباری تعالى هو ضرب من الشرك؛ وهو أن یحبّ اللهَ تعالى وأن یمیل إلى هوى نفسه أو یهتمّ بإطراء الآخرین! فإن آل الأمر إلى هذا المآل كان الهوى وإطراء الآخرین صنمین یعبدهما العبد إلى جانب ربّه! وهو ما لا ینسجم مع التوحید فی المحبّة. فإن تعلّق قلب المرء بشخص ما، فینبغی أن لا یرى غیره، وعلیه أن یسعى لإلفات انتباهه؛ فلا یجوز أن یكون لقلبه معبود سواه. فإنّ تسلُّل أیّ لون من النزعات الاُخرى إلى قلب العبد هو نوع من الشرك.
فی موضع آخر من الحدیث القدسیّ محطّ البحث یوصَى النبیّ الكریم (صلّى الله علیه وآله) بترك بعض الاُمور: «یا أحمد لا تتزیّن بلِین اللباس وطِیب الطعام ولَین الوطاء»؛ أی لا تزیّن نفسك باللباس الناعم الجمیل، ولا تطلب الطعام الطیّب اللذیذ، ولتكتف منه بالمقدار الضروریّ لصحّتك وسلامتك، وتجنّب الفراش الوثیر الناعم؛ لأنّ فی هذه الاُمور ما تطلبه نفسك. «فإنّ النفْسَ مأوى كلّ شرّ ورفیق كلّ سوء»؛ فالنفس التی تطلب مثل هذه الأشیاء هی مكمن الشرّ.
ولطالما أكّد إمامنا الخمینیّ الراحل (رضوان الله تعالى علیه) فی كلامه على أنّ جمیع المآسی منبعها النفس، فإن عمد الإنسان إلى نفسه فهذّبها فستُحَلّ جمیع العُقَد. «فإنّ النفْسَ مأوى كلّ شرّ ورفیق كلّ سوء، تجرُّها إلى طاعة الله وتجرُّك إلى معصیته». فمثل هذا العدوّ یواجه الإنسان. فقد ورد فی الخبر: «أعدَى عدوّك نفسُك التی بین جنبیك»[5] [780].
ثمّ یقول: «تطغى إذا شبِعَت، وتشكو إذا جاعت، وتغضب إذا افتقرَتْ، وتتكبّر إذا استغنَت، وتنسى إذا كبِرَت، وتغفَل إذا أمِنَت». فلقد بعث الله تعالى أنبیاءه لینذروا الناس حتّى لا یشعروا بأمان زائف، ولكی یلتفتوا دوماً إلى أنّه ثمّة خطر یتربّص بهم وعندئذ لا تستولی علیهم الغفلة.
«وهی قرینة الشیطان، ومثَل النفس كمثَل النعامة تأكل الكثیر وإذا حُمل علیها لا تطیر، وكمثّل الدِفْلَى لونُه حسَن وطعمُه مرّ»؛ فمَثَل النفس كمثل الزهرة الجمیلة والحسنة اللون لكنّها مرّة المذاق. ومن هنا فإنّه یتعیّن على المرء أن یحذر من الاغترار بمظهره الملیح، وأن لا یستجیب لشهواته إلاّ بمقدار الضرورة.
فالذی یودّ الإمساك بزمام نفسه علیه أن یأكل القلیل، ولا یسعى وراء الزینة، أو یطلب راحة الدنیا. فالنفس البشریّة هی بمثابة الدابّة التی لا ینبغی الاهتمام بها إلاّ فی حدود الضرورة والتی یجب استغلالها قدر المستطاع. فإن استجاب المرء لنفسَه فی دلالها وتغنّجها فسوف لا یستطیع امتطاءها. فزمام النفس هو الذی ینبغی أن یكون فی ید صاحبها، لا أن یكون المرء تحت تصرّف نفسه وطوع أمرها.
فالذی لا ینفكّ عن التفكیر فی الطعام اللذیذ واللباس الحسن لا تُستساغ منه دعوى محبّة الله عزّ وجلّ، فمحبوب شخص كهذا هو لباسُه وبطنُه. كما أنّ المحبّ لا یغیب اسم محبوبه عن لسانه، إلاّ لبعض الاعتبارات. فالذی یموج قلبه حبّاً لله یكون دائم اللهج باسمه تعالى، والإطراء علیه، والسعی فی القیام بكلّ ما یحبّه ویرضاه. فإن أصبح المرء هكذا، عُلِم حینئذ أنّه یحبّ ربّه حقّاً.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
[1] [781]. بحار الأنوار، ج74، ص28.
[2] [782]. سورة آل عمران، الآیة 41.
[3] [783]. سورة الأحزاب، الآیة 42.
[4] [784]. إرشاد القلوب، ج1، ص206.
[5] [785]. عدّة الداعی ونجاح الساعی، ص314.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 14 تموز 2014م الموافق للیلة السابعة عشرة من شهر رمضان 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«یا أحمد! لو صلّى العبدُ صلاة أهل السماء والأرض، وصام صیام أهل السماء والأرض، وطوى من الطعام مثل الملائكة، ولبس لباس العاری، ثمّ أرى فی قلبه من حبّ الدنیا ذرّة أو سُمعَتها أو رئاستها أو حلیتها أو زینتها لا یجاورنی فی داری، ولأَنزعَنّ من قلبه محبّتی، وعلیك سلامی ومحبّتی والحمد لله ربّ العالمین»[1] [786]
تناولنا فی المحاضرات الماضیة مقاطع من حدیث المعراج سردت خصوصیّات المحبّین وذكرت جهودهم لنیل هذه المرتبة. وقلنا: عندما ینال السالك استحقاق أن یفیض الله محبّته على قلبه فإنّه عزّ وجلّ یعینه أیضاً على بلوغ مراتب أعلى منها. وقد أشارت مقاطع من هذا الحدیث القدسیّ إلى أشكال إعانة الله لمثل هذا العبد وسلوكه معه فی الدنیا والآخرة. كما أنّه قد ذُكرت فی سیاق الحدیث أیضاً علامات المحبّین الحقیقیّین كی یتم تمییزهم عن اُولئك الذین یزعمون المحبّة بألسنتهم فقط.
وفی ختام الحدیث، وبعد تقدیم عرض لصفات المحبّین الحقیقیّین، من قبیل الجوع والصمت وإحیاء اللیل، یخاطب تبارك وتعالى نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) مؤكّداً على حقیقة أنّ طول الصلاة، ودوام الصیام، والاستغراق فی العبادة لا یكفی وحده لاستجلاب محبّة الله والمحافظة علیها، قائلاً: «لو صلّى العبدُ صلاة أهل السماء والأرض، وصام صیام أهل السماء والأرض، وطوى من الطعام مثل الملائكة، ولبس لباس العاری، ثمّ أرى فی قلبه من حبّ الدنیا ذرّة أو سُمعَتها أو رئاستها أو حلیتها أو زینتها لا یجاورنی فی داری» فلو فعل المرء كلّ ذلك ثمّ وُجد فی قلبه مثقال ذرّة من حبّ الدنیا، أو سعى، بمقدار رأس الدبّوس، فی إرضاء الآخرین، أو نیل الرئاسة الدنیویّة، أو طلب زینة الدنیا وزخرفها فإنّه لا یصل إلى المقام المكتوب لخلّص المحبّین، أی لا یبلغ منزلة جوار الله التی هی آخر مقام من مقامات القرب من الله تعالى. لیس هذا فحسب، بل لو أنّه كان قد نال شیئاً من محبّة الله سابقاً فستُسلب منه أیضاً: «ولأنزعَنّ من قلبه محبّتی»؛ ذلك أنّ محبّة الله وحبّ الدنیا لا یجتمعان فی قلب واحد.
وقد ذُكر فی بدایة هذا المقطع من الحدیث القدسیّ انّ على الذی یفتّش عن العیش الهنیء والحیاة الباقیة أن یبذل جهده لكی تهون علیه الدنیا وتصغر فی عینه: «فهی التی یعمل لنفسه حتّى تهون علیه الدنیا وتصغر فی عینه». فمن أجل التقدّم فی هذا الطریق لابدّ من ترك الدنیا وعدم الاكتراث بها. وحتّى فی أثناء الطریق فلو عُثر فی قلب السالك على ذرّة من محبّة الدنیا فإنّه سوف لا یستحقّ مجاورة ربّه وستُنتزع محبّته تعالى من قلبه. إذن فالشرط لظهور محبّة الله فی قلب المرء ودوامها هو قطع تعلّق القلب بالدنیا.
لكن لماذا لا تجتمع محبّة الله وحبّ الدنیا فی قلب واحد؟ یا ترى هل إنّ الله بخیل – والعیاذ بالله – إلى هذا الحدّ كی لا یسمح لمحبّة غیره أن تستقرّ فی زاویة من قلب عبده؟!
إنّ تعجّبنا من تشدّد الله تعالى فی هذا الأمر ناجم من عدم فهمنا لمحبّة الله فهماً دقیقاً من جهة، وجهلنا بالآثار السیّئة التی لحبّ الدنیا من جهة ثانیة.
إذا استقرّت محبّة الله فی قلب امرئ فإنّها ستحتلّ كلّ قلبه، وسینصبّ كلّ همّه وغمّه علیها. إنّ محبّة كهذه أورثت نبیّ الله شعیباً (علیه السلام) البكاء لسنوات طویلة حتّى فقد بصره. فأعاد الله علیه بصره، لكنّه استمرّ فی البكاء حتّى أصابه العمى من جدید، فأرجع الله إلیه نعمة البصر ثانیة، فعاود البكاء والنحیب ثالثة حتّى بات ضریراً مرّة اُخرى. فجاءه جبرئیل بوحی من ربّه: إذا كان بكاؤك خوفاً من النار فقد حرّمتها علیك، وإن كان طمعاً فی نعم الجنان فقد وهبتها لك. فقال شعیب: إلهی! إنّك لتعلم أنّنی لا أبكی خوفاً من النار ولا شوقاً إلى الجنّة، بل إنّ حبّك هو الذی یبكینی ولن یقرّ لی قرار حتّى ألقاك![2] [787]
إنّ محبّة من هذا القبیل تطرد أیّ حبّ مضادّ لها، ولا یبقى بوجودها محلّ لغیرها من ألوان الحبّ. فحبّ اُمور مثل اللباس الجمیل، والخاتم الثمین، وأسباب الزینة، والدار، وغیرها من اُمور الدنیا لا یتناسب مع هذا النمط من المحبّة، وهی أشبه ما تكون بلُعَب الأطفال فی عین من یموج قلبه بمحبّة بارئه. فإنّ العبد المغرم بالله تعالى قد وضع قدمه فی موضع وكوّن علاقة بشخص لا یُعدّ الوجود برمّته فی مقابله شیئاً. بطبیعة الحال فإنّ بقاء مثل هذه المحبّة، حاله حال ظهورها، یحتاج إلى رعایة وتوفیق من الله تبارك وتعالى. فإن توقّفت رعایة الله للحظة، وطرأت على العبد الغفلةُ، فسیُبتلى بنفس تلك العاقبة التی ابتُلی بها شیخ صنعان الذی وقع – بعد سنوات من الزهد والتقوى – وبنظرة واحدة فی هوى جاریة نصرانیّة فزالت محبّة الله من قلبه، وقد بلغ به الأمر أن علّق الصلیب فی رقبته ورعى الخنازیر للفوز بتلك الفتاة!
فالله إذا أوكل العبدَ، ولو للحظةٍ، إلى نفسه لم یستطع الأخیر أن یصمد أمام هذه النفس. بالطبع إنّ فعل الله تعالى لیس عبثاً؛ فشمول امرئ ما بعنایة الله سبحانه إنّما هو بسبب أعمال قام بها أهّلته للحظوة بتلك العنایة الإلهیّة. كما أنّ ترك الله عبداً لشأنه یكون على خلفیّة كفران الأخیر وعدم شكره. ویشیر القرآن الكریم إلى عاقبة بلعم بن باعوراء كواحد من عباد الله الذین خرجوا من ظلّ عنایة البارئ عزّ وجلّ، وذلك بقوله تعالى: «وَاتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ الَّذِی ءَاتَیْنَاهُ ءَایَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّیْطَانُ»[3] [788]. فلقد منّ الله جلّ وعلا على أحد عباده بآیاته، وهی خصوصیّة یختصّ بها الأنبیاء (علیهم السلام)، وهو ما یدلّ على رفعة منزلة بلعم. وقد ذكر هذا المقام فی الآیة التالیة بقوله: «وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا»؛ فلو شاء الله لرفعه إلى مقام هو أعلى من هذا. «وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَىٰ الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ»[4] [789]؛ لكنّ بلعم، وبعد أن كان مستجاب الدعوة من فرط عبادته[5] [790]، غفل عن ذكر ربّه، وعوضاً عن النظر إلى السماء والتأمّل فی مقام القرب من الله، عكف على الالتفات إلى الأرض وصار یسعى وراء الامور المادیة. من أجل ذلك فقد وصل الأمر بمن كان مؤهّلاً لتلقّی الآیات الإلهیّة، وبسبب اتّباعه هواه، إلى أن یقیسه الله تعالى بالكلب فی قوله: «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَیْهِ یَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ یَلْهَث»[6] [791]!
فالعبد لا یملك شیئاً من نفسه، وكلّ ما لدیه فهو من ربّه وعلیه إنفاقه فی سبیله تعالى. وحتّى ما أسبغه الله - من القلب والعاطفة - على المرء فإنّه یتعیّن علیه صرفهما فی سبیله أیضاً، فإن كان كذلك فسوف لا یبقى فی قلبه مجال للتعلّق بالدنیا وألاعیبها الشیطانیّة. فمن المستحیل، بأیّ حال من الأحوال، أن ینسجم حبّ الدنیا مع محبّة الله عزّ وجلّ. فاللذّات المادّیة والحیوانیّة هی – كما جاء فی الخبر – أشبه بالماء المالح الذی لا یزید شُربُه العطشانَ إلا عطشاً. ولنا جمیعاً تقریباً تجارب فی هذا المضمار. هذا هو حبّ الدنیا، وهو قد یبلغ بالإنسان إلى مرحلة یتعجّب المرء من مشاهدته ویشكّ فی عقله!
فی السنوات الاُولى من قدومی إلى مدینة قمّ كنت ألتقی أحیاناً رجلاً كان دائم الاضطراب والتحدّث مع نفسه أثناء سیره فی الشوارع والأزقّة. ثمّ علمت بعد مدّة أنّ هذا الشخص قد استغلّ رأسماله فی المراباة، وهو من شدّة ورطته فقد صار دائم العكوف على حساب الربح والخسارة ممّا یُقرض الناس من مبالغ. فهو إنسان مسلم یبدو علیه الصلاح قد تحوّل، بسبب وقوعه فی حبائل الربا، إلى أشبه ما یكون بالمجانین كما یعبّر القرآن الكریم: «لا یَقُومُونَ إِلاّ كَمَا یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطَانُ مِنَ الْمَسِّ»[7] [792]. فحبّ المال والرئاسة الدنیویّة جنون یثیر العجب عند من یشاهد المصابین به ویدفعه إلى الاعتقاد بأنّهم قد فقدوا عقولهم. فلعمری وراء أیّ شیء یلهث ذلك الذی یقف على حافّة قبره، والذی قد جمع من الثروة ما یكفی سبعة أجیال من ولْده؟!
فالقلب الشغوف بمناصب الدنیا ورئاستها هو قلب لا سبیل لمحبّة الله تعالى إلیه، إذ لا تناسب ولا سنخیّة بین هذین الأمرین، بالضبط كالنور والظلمة. وحتّى لو كان مستحقّاً لنیل رعایة الله تعالى وعنایته سابقاً، فبمجرّد أن تتغلغل ظلمة حبّ الدنیا إلى قلبه سیخرج نور محبّة الله منه. فإنّ بین محبّة الله وحبّ الدنیا من التضادّ والتعارض ما یمنع اجتماعهما فی مجال واحد. ومن هذا المنطلق فقد ذكر ربّ العزّة فی بدایة حدیثه بأنّ على العبد إذا أحبّ الخطو فی هذا المسیر أن ینظر إلى الدنیا بعین الاحتقار. وهو یحذّر فی النهایة أیضاً بأنّنی لو عثرت فی قلبه حتّى على مثقال ذرّة من حبّ الدنیا وزینتها، أو حبّ الشهرة والرئاسة والمناصب فساُخرج حبّی من قلبه.
وبالالتفات إلى هذا المبحث ستُحلّ للإنسان الكثیر من ألغاز التاریخ، وسیجد الإجابة على سؤال یقول: كیف أنّ اُولئك الذین آمنوا برسول الله (صلّى الله علیه وآله) فی صدر الإسلام، ولازموه فی غربته عندما لقی من المشركین صنوف الأذى، ووقفوا إلى جانبه فی أحلك الظروف، كیف أنّهم، وبسبب بعض المسائل الفرعیّة، قد عاملوا النبیّ بجفاء، بل وقد استمرّ هذا الجفاء حتّى انتهزوا فرصة رحیله (صلّى الله علیه وآله) لینتقموا من أهل بیته (علیهم السلام): «فلمّا مضى المصطفى صلوات الله علیه وآله اختطفوا الغِرّة وانتهزوا الفرصة»[8] [793]. وأنا اُوصیكم بقراءة ما ورد فی الزیارة الجامعة لأئمّة المؤمنین بدقّة كی تقفوا على ما ورد فیها من التفاتات مفعمة بالعبر والدروس.
لقد وردت فی القرآن الكریم فی هذا المجال آیات عجیبة فی حقّ مَن دفعهم حبّ الدنیا إلى محاربة الأنبیاء، والتنكّر للحقائق، والكفر: «ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَیَوٰةَ الدُّنْیَا عَلَى الآخِرَةِ»[9] [794]. فعندما دار الأمر بین لذّات الدنیا وسرّاء الآخرة قالوا: لا نبیع النقد بالآجل، فلنتمتّع الیوم بلذّات الدنیا ونرى ما سیحصل بعدئذ! یقول الباری عزّ وجلّ فی سورة إبراهیم: «وَوَیْلٌ لِّلْكَافِرِینَ مِنْ عَذَابٍ شَدِیدٍ * الَّذِینَ یَسْتَحِبُّونَ الْحَیَوٰةَ الدُّنْیَا عَلَى الآخِرَةِ»[10] [795]. فإنّ عاقبة الذین یستحبّون الحیاة الدنیا على الآخرة هی تحوُّل الآخرة فی نظرهم إلى شیء ثانویّ وخیالیّ، وغیر ذی أهمّیة، فلا یلقون له بالاً، حتّى وكأنّه أمر خیالیّ!
«وَاتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ الَّذِی ءَاتَیْنَاهُ ءَایَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا» أوَلَم یُعط الله آیاته لبلعم بن باعوراء؟ لكنّه عدّها قشراً وانسلخ منها، ورجّح لذّات الدنیا على كلّ شیء، وبات كأنّه لا یرى شیئاً سوى الدنیا، وعندما كانت الآخرة تُذكر أمامه كان یستهزئ بها!
فإذا نحن صرفنا كلّ همّنا فی الدنیا فما الذی سیحصل لآخرتنا؟ أَوَلا ینبغی أن نهتمّ بالآخرة؟ هذا هو منطق القرآن الكریم فی مقابل منطق اُولئك الذین یستحبّون الحیاة الدنیا على الآخرة. وقد تمّ التأكید فی هذا الحدیث القدسیّ أیضاً على أنّه لو كان فی قلب المرء ذرّة من حبّ الدنیا ورئاستها فإنّنی سأجتثّ حبّی من قلبه. فكلّ فساد هو من حبّ الدنیا، وكلّ كفر هو ناشئ عن حبّ الدنیا. وكما أنّه تعالى قال: «وَوَیْلٌ لِّلْكَافِرِینَ مِنْ عَذَابٍ شَدِیدٍ * الَّذِینَ یَسْتَحِبُّونَ الْحَیَوٰةَ الدُّنْیَا عَلَى الآخِرَةِ» فقد قال فی موضع آخر: «فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ یُرِدْ إِلاّ الْحَیَوٰةَ الدُّنْیَا»[11] [796]؛ فالذین أعرضوا عن ذكرنا لیس لهم من حاجة سوى الحیاة الدنیا. ولم یقل عزّ وجلّ هنا: هؤلاء ینكرون الآخرة، بل قال: إنّ قلوبهم لا تطلب إلاّ الحیاة الدنیا، فأعرض عنهم. ثمّ یتابع الباری جلّ وعلا متهكّماً: «ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ»[12] [797]؛ أی إنّ فهمهم لا یبلغ أكثر من هذا الحدّ! كما انّه یقول فی آیة اُخرى: «بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِی الآخِرَةِ»[13] [798]؛ فعندما یدور الحدیث حول الآخرة ینتهی علم هؤلاء ویقولون: لا نعلم! «بَلْ هُمْ فِی شَكٍّ مِّنْهَا»، فهم یتظاهرون بعدم العلم بدایةً، فی حین أنّهم یشكّكون فی الآخرة. ثمّ یقول فی هؤلاء: «بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ»؛ أی: هؤلاء عُمْی لا یرون الآخرة.
فنتیجة استحباب الدنیا على الآخرة تكون أولاً الجهل، ثمّ الشكّ، ومن ثمّ العَمَى، ذلك أنّ أبصار أمثال هؤلاء ممدودة إلى الدنیا، فهم لا یبصرون الآخرة. «فَإِنَّهَا لا تَعْمَىٰ الأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ الْقُلُوبُ الَّتِی فِی الصُّدُورِ»[14] [799]؛ فالعمى الحقیقیّ هو عمى القلب عندما لا یعود یرى الحقائق، ویتعلّق بالاُمور العابرة التافهة لهذه الدنیا، ویغضّ الطرف عن الحقائق الثابتة. فهذا لعمری عَمىً. «وَمَن كَانَ فِی هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِی الآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِیلاً»[15] [800].
[1] [801]. إرشاد القلوب، ج1، ص206.
[2] [802]. إرشاد القلوب، ج1، ص172؛ «إنّ شعیب (علیه السلام) بكى حتّى عمی، فردّ الله علیه بصره، ثمّ بكى حتّى عمی، فردّ الله علیه بصره، ثمّ بكى حتّى عمی، فردّ الله علیه بصره، فأوحى الله إلیه: یا شعیب إن كان هذا البكاء لأجل الجنّة فقد أبحتها لك، وإن كان من أجل النار فقد حرّمتها علیك. فقال: لا بل شوقاً إلیك».
[3] [803]. سورة الأعراف، الآیة 175.
[4] [804]. سورة الأعراف، الآیة 176.
[5] [805]. بحار الأنوار، ج13، ص377؛ «أُعطِی بلعم بن باعوراء الاسم الأعظم وكان یدعو به فیُستجاب له».
[6] [806]. سورة الأعراف، الآیة 176.
[7] [807]. سورة البقرة، الآیة 275.
[8] [808]. بحار الأنوار، ج99، ص165..
[9] [809]. سورة النحل، الآیة 107.
[10] [810]. سورة إبراهیم، الآیتان 2 و3.
[11] [811]. سورة النجم، الآیة 29.
[12] [812]. سورة النجم، الآیة 30.
[13] [813]. سورة النمل، الآیة 66.
[14] [814]. سورة الحجّ، الآیة 46.
[15] [815]. سورة الإسراء، الآیة 72.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 15 تموز 2014م الموافق للیلة الثامنة عشرة من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
تناولنا فی المحاضرات الماضیة بحثاً فی مقاطع من حدیث المعراج القدسیّ دار محوره الرئیسیّ حول محبّة الله وقد طُرحَت فیه اُمور من قبیل: كیفیّة تهیئة الأرضیّة فی قلب الإنسان لتحقّق محبّة الله، وشروط بقاء هذه المحبّة، والآثار الناجمة عنها، والأمارات التی یستطیع الناس من خلالها التمییز بین المحبّ الحقیقیّ والذی یدّعی المحبّة كذباً. كما أشرنا فی سیاق البحث إلى قضیّة أنّ المحبّة هی حقیقة حیثما وُجدت، شعّ نورُها على آثارها وتوابعها ولواحقها. فالذی یحبّ امرأً سیحبّ متعلّقاته بالضرورة؛ فإنّه یقبّل صورته، ویشمّ ثیابه، ویطوف بداره، ویتباهى بمدینته وبلده. ولا یعنی هذا السلوك احتواء قلب هذا العاشق على ألوان متعدّدة ومتمایزة من الحبّ، بل إنّ جمیع هذه الأشكال من إظهار الودّ هی أشعّة من محبّة صاحب الصورة والثیاب والدار تشعّ من قلب المحبّ. فالذی یشغفه حبّ الله تعالى فإنّه سیحبّ أولیاءه بطبیعة الحال. ولیس الحبّ الأخیر بمنفصل عن سابقه، بل إنّ شعاع المحبّة لله إنّما یسطع أیضاً على أولیائه. ومع قلیل من التأمّل سندرك أنّ المغرَم بالله تبارك وتعالى هو محبّ بالضرورة لرسول الله (صلّى الله علیه وآله) وآله الأطهار (علیهم السلام) من أجل حبّه لله.
كذلك فإنّ حبّ الله عزّ وجلّ یتطلّب فی بعض الأحیان معاداة بعض الناس. فلیس فی میسورنا القول إنّ فلاناً من الناس یحبّ الله، لكنّه یحبّ عدوّه أیضاً! نعم قد لا یكون هذا الترابط واضحاً فی بعض الأمثلة ویكون بحاجة إلى توضیح. كما أنّ التأكید قد تمّ فی حدیث المعراج على حبّ بعض الأصناف من الناس، إلى درجة أنّه فسّر محبّة الله بمحبّتهم، لكنّ العلاقة بین حبّ الله وحبّ هؤلاء لیست واضحة المعالم. كذلك فإنّ التلازم بین محبّة الله ومعاداة المعاندین له ولدینه یمكن استیعابه بسهولة، إلا أنّه لیس على هذه الدرجة من الوضوح فی بعض المواطن. ولعلّ تذكیر حدیث المعراج بهذه الاُمور یرجع إلى هذا السبب. وسنتعرّض فیما یلی إلى واحدة من هذه الموارد.
«یا أحمد! إنّ المحبّة لله هی المحبّة للفقراء»[1] [816]. وفی أدب العرب فإن «هی»، وهی ضمیر الفصل، إذا دخلت على خبر معرَّف بالألف واللام فإنّها تفید الحصر. أی: إنّ المحبّة لله هی نفسها المحبّة للفقراء. ولو أنّ الله تعالى كان قد قال، عوضاً عن هذا الكلام: إنّ محبّة الله هی محبّة الأنبیاء أو الأولیاء، فسوف لا یصعب على المتلقّی فهم الترابط بین المحبّتین، لكنّ إدراك قضیّة أنّ محبّة الله مخبّأة فی محبّة الفقراء هو أمر صعب. ولعلّ سؤال النبیّ (صلّى الله علیه وآله) ربَّه عند سماعه هذا الكلام: «یا ربّ! ومَن الفقراء» الذین محبّتهم هی عین محبّتك؟ یرجع إلى هذا السبب.
یقول الله عزّ وجلّ جواباً لنبیّه الكریم: «الذین رضُوا بالقلیل، وصبروا على الجوع، وشكروا على الرخاء، ولم یشكوا جوعَهم ولا ظمأَهم، ولم یكذبوا بألسنتهم، ولم یغضبوا على ربّهم، ولم یغتمّوا على ما فاتهم، ولم یفرحوا بما آتاهم». فالفقراء الذین محبّتهم هی عین محبّة الله هم المنزَّهون عن الطمع والجشع، والقانعون ببسیط العیش. ویُفهم من هذه العبارة أنّ محبّة الله لا تتماشى مع الطمع والجشع وحبّ التسلّط والاستعلاء على الآخرین. فالله عزّ وجلّ یقول فی كتابه العزیز أیضاً: «تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذینَ لا یُریدُونَ عُلُوّاً فِی الأَرْضِ وَلا فَساداً»[2] [817]؛ فعالَم الآخرة، بكلّ عظمته، قد جعلناه للذین لا یسعون إلى الاستعلاء فی الأرض ولا یفسدون فیها، أی لیسوا من الذین یقارنون أنفسهم بالآخرین ویرون أنفسهم أفضل منهم. بالطبع هذه السجیّة، حالها حال غیرها من خصوصیّات ابن آدم، تنطوی على نزوع إلى اللانهایة ولا تُحَدّ فی حدود ضیّقة، فلو سنحت للإنسان الفرصة فإنّه سیدّعی الاُلوهیّة. ألم یدّعِ فرعون الربوبیّة؟ وقد قال عنه ربّ العزّة: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِی الأَرْضِ»[3] [818]. فالعلوّ والاستعلاء كانت الصفة الرئیسیّة لفرعون، وهی الخصوصیّة التی تسبّبت – بالالتفات إلى الآیة السابقة لتلك الآیة – فی حرمانه من سعادة الآخرة. وطبقاً للروایة الواردة فی تفسیر هذه الآیة، فحتّى الذی یرغب فی أن یكون رباط حذائه أفضل من رباط حذاء غیره فإنّه مشمول بهذه الآیة[4] [819]! لأنّه أیضاً ضرب من العلوّ والاستعلاء، وهی صفة ذمیمة تسلب من المرء سعادة الآخرة حتّى وإن كان فی مراتب العبودیّة الدنیا، فما بالك بالمحبّة الخالصة لله التی لا تستقرّ إلاّ فی قلبٍ لا سبیل لكلّ ما سوى الله إلیه. إنّها من صفات الطفولة وهی لا تتناغم مع مقام المحبّة لله تبارك وتعالى.
إنّ اُولى خصوصیّات الفقراء، الذین محبّتهم هی محبّة الله تعالى، هی قناعتهم بالقلیل ونزاهتهم من صفتی الاستعلاء والطمع. لكن إذا عرضت ظروف حالت دون تلبیة حاجاتهم الأساسیّة فما الذی سیحصل؟ إنّهم، حتّى فی مثل هذه الظروف، لا یجزعون؛ «وصبروا على الجوع». بل إنّهم إذا توفّرت لهم سبل الرفاهیة والرخاء لم ینسوا الله وشكروه على ما أسبغ علیهم من نعَمِه: «وشكروا على الرخاء». «ولم یشكوا جوعَهم ولا ظمأَهم»؛ كما أنّهم لیسوا من أهل الشكوى والتبرّم إذا نزلت بهم نازلة أو أحسّوا بالظمأ أو الجوع. وإذا اضطرّوا إلى عرض حاجتهم على الآخرین فإنّهم لا یلجأون إلى الكذب ولا یُلقون الكلام جزافاً ولا یتجاوزون الواقع. والقرآن الكریم یصف هؤلاء الناس بالقول: «یَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِیَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ... لا یَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً»[5] [820]. فهؤلاء الفقراء یقاسون الأمرَّین حتّى لا یطّلع الآخرون على فقرهم وعندئذ یحسبونهم أغنیاء. فعزّة أنفسهم وإباؤهم یردعانهم عن إراقة ماء وجههم وإظهار حاجتهم للآخرین. أمّا إذا اقتضت الضرورة الطلب من الآخرین، فإنّهم یكتفون بمقدار الضرورة ولا یكذبون. كما أنّهم لا یعاتبون ربّهم على الإطلاق، وینظرون إلى كلّ ما یحلّ بهم بوصفه تقدیراً إلهیّاً وأنّه مبنیّ على حكمته عزّ وجلّ.
«ولم یغتمّوا على ما فاتهم، ولم یفرحوا بما آتاهم»؛ فعلى الرغم من ضنك العیش وسلب النعمة فإنّ أمثال هؤلاء لا یغتمّون، وهم یعتقدون بأنّ الله تعالى، ولمصلحةٍ ما، قد ائتمنهم على شیء حتّى إذا رأى أنّ من الصلاح استرجاعه منهم عاد فاسترجع أمانته. من هذا المنطلق فإنّهم لا یضطربون ولا یمسكون بتلابیب الآخرین على خلفیّة سلب نعمة ما، بل إنّهم لا یفقدون توازنهم عندما تُنَزّل علیهم نعمة عظیمة. یقول القرآن الكریم فی هذا الصدد: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِیبَةٍ فِی الأَرْضِ وَلا فِی أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِی كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى الله یَسِیرٌ * لِّكَیْلا تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَاكُمْ»[6] [821]؛ فكلّ نازلة تحلّ بكم إنّما هی مُعَدّة مسبقاً ووفق حسابات دقیقة ومستنِدة إلى حكمة الله عزّ وجلّ المدوَّنة فی سجل، وذلك لكی لا تفقدوا توازنكم إذا أصابتكم نعمة، ولا تجزعوا ولا تستسلموا للعویل والبكاء إذا ابتُلیتم بمصیبة. فإنّ نِعم الله والبلایا هی - على حدّ سواء - أسباب لامتحان العباد، ونابعة من حكمة وهی مُقَدَّرة ومحسوبة بدقّة. فالذین یتّصفون بهذه الخصال وینتهجون هذا النهج هم الفقراء الذین تُعَدّ محبّتهم محبّة الله.
ثمّ یعود البارئ تبارك وتعالى لیؤكّد مرّة اُخرى، فی سیاق الحدیث نفسه، على أنّه: «یا أحمد! محبّتی محبّةٌ للفقراء». والسبب من وراء التأكید على محبّة أمثال هؤلاء هو تأثّر الإنسان بخصالهم الحمیدة عن طریق صحبتهم. فإنّ من الاُمور الثابتة فی علم النفس هی أنّ الإنسان یتأثّر بمن حوله ومن یعاشرهم حتّى انّ عاداتهم وسجایاهم وسیرتهم تنتقل إلیه، لاسیّما إذا اقترنت هذه العلاقة بالعاطفة. ولهذا السبب، فإنّ الله تعالى، ومن أجل أن یربّی عباده، ویمهّد لنموّ هذه الصفات الحمیدة فی أنفسهم، فإنّه یوصیهم بمحبّة المتّصفین بمثل هذه الصفات وتوطید العلاقة بهم.
ومن المناسب هنا أن نطرح اُنموذجاً من سلوك هؤلاء العظماء. یروی المرحوم الشیخ عبّاس الطهرانیّ الذی كان من تلامذة المیرزا جواد آقا ملكی التبریزیّ قائلاً: كان اُستاذنا – مَثَله مَثَل الكثیر من العلماء الآخرین - یولی اهتماماً بالغاً یإحیاء عید الغدیر وكان یقیم فیه الاحتفالات ویدعو الناس إلى مائدته. وقد ذهبنا مرّة إلى منزله (رضوان الله تعالى علیه) فی یوم الغدیر لنبارك بالعید وإذا بصوت بكاء وعویل یرتفع فجأة من القسم «الداخلی» من البیت. وقلق جمیع الضیوف من ذلك. فدخل المرحوم ملكی إلى الداخل وقام بتهدئة أهل الدار، لكنّه بعد أن عاد انهمك فی ضیافة القادمین ومتابعة الحفل من دون أن یفصح عن شیء. وبعد انتهاء الحفل وعندما همّ الضیوف بالمغادرة، انبرى المرحوم المیرزا جواد إلى القول للحضور: «إذا كنتم راغبین بالمشاركة فی تشییع جنازة أحد الشبّان وكسب الثواب من ذلك فهلمّوا». فهرع الجمیع مندهشین إلى السؤال عمّا حصل، فإذا بالمیرزا یقول من دون أن تبدو علیه أمارات الاستیاء: إنّ ابنه الشابّ، الذی كانت تربطه به علاقة حمیمة، قد فارق الحیاة!
هكذا هم عباد الله الذین تكون محبّتهم من محبّته سبحانه؛ فلا یصیبهم الجزع والفزع عند الشدّة، ولا یستولی علیهم الغرور إذا غمرتهم النعم. فالله تعالى یوصینا بمعاشرة أمثال هؤلاء.
كما أنّه من الواضح – من ناحیة اُخرى – أنّ الفقراء لا یحظون باهتمام كبیر من قبل الناس، إذ لا یجد المرء ما یدفعه إلى احترامهم، خلافاً للأثریاء وأصحاب المناصب والمكانات، فإنّ الجمیع یتهافتون على صحبتهم ورفقتهم طمعاً فی مالهم أو انتفاعاً من مكانتهم. فإنْ أحَبّ امرؤ فقیراً فلیس لفقره، بل من أجل ما یلمس فیه من حمید الصفات، وطیب السجایا، وهو ما یجعل هذا النمط من المحبّة مصوناً من آفة الریاء وحبّ الدنیا والأغراض الشخصیّة وأقرب ما یكون إلى الإخلاص.
أمّا الخصوصیّة الثالثة لمحبّة الفقراء فإنّه خلافاً لما یعتقده البعض من أنّ الفقر هو سبب المعاصی والذنوب، فإنّ أسباب المعاصی هی أقلّ توفُّراً للفقراء منها للأغنیاء. صحیح أنّ المجرم العاصی إذا ابتُلی بالفقر خلق مشاكل جدیدة، لكن هل یا ترى انّ كلّ فقیر فهو مذنب ومجرم؟ فإنّ ادّعاء كهذا یتعارض مع منطق القرآن الكریم الذی یقول: «كَلاّ إِنَّ الإِنسَانَ لَیَطْغَىٰ * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَىٰ»[7] [822]. فإذا ما أحسّ الإنسان بالاستغناء تراه یتّخذ مسیر العصیان والطغیان ویتفلّت من مراعاة العدل والإنصاف.
بناءً على ما تقدّم فإنّ محبّة الفقراء تنطوی على ثلاث خصوصیّات إیجابیّة ومفیدة للإنسان: فهو یتأثّر بصفاتهم الصالحة إذا عاشرهم أوّلاً، وإنّ هذه العلاقة والمحبّة هی أقرب إلى الإخلاص ثانیاً، وإنّ معاشرتهم تضیّق المجال أمام المرء لارتكاب المعصیة ثالثاً. ومن أجل ذلك فإنّه جلّ وعلا یوصی نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) فی هذا الحدیث القدسیّ بقوله: «یا أحمد! محبّتی محبّةٌ للفقراء، فأَدْنِ الفقراءَ وقرّب مجلسَهم منك»؛ أی قرّب الفقراء منك وافتح أمامهم أبواب مجلسك؛ فحذار من أن تدفعك أسمال شخصٍ البالیة إلى طرده من حضرتك. كما یتعیّن علیك فی المقابل أن تنأى بنفسك عن الأغنیاء: «وبعّد الأغنیاءَ وبعّد مجلسَهم منك، فإنّ الفقراء أحبّائی».
نسأل الله تعالى أن یوفّقنا إلى الإفادة من معارف أهل بیت نبیّه الكریم (صلوات الله علیهم أجمعین) على أتمّ وجه والعمل بها فی حیاتنا الیومیّة.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
[1] [823]. بحار الأنوار، ج74، ص23.
[2] [824]. سورة القصص، الآیة 83.
[3] [825]. سورة القصص، الآیة 4.
[4] [826]. تفسیر نور الثقلین، ج4، ص144، «الرجل لَیُعجبه شراك نعله فیدخل فی هذه الآیة: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ...» الآیة».
[5] [827]. سورة البقرة، الآیة 273.
[6] [828]. سورة الحدید، الآیتان 22 و23.
[7] [829]. سورة العلق، الآیتان 6 و7.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 16 تموز 2014م الموافق للیلة التاسعة عشرة من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
تعرّضنا فی المحاضرات الفائتة إلى توضیح مقاطع من حدیث المعراج القدسیّ دار محورها الأساسیّ حول محبّة الله وأولیائه وبغض أعدائه. وقد تكلّمنا فی اللیلة الماضیة فی عبارة: «إنّ المحبّة لله هی المحبّة للفقراء»[1] [830] وغیرها من التی توصی بالتقرّب من الفقراء وحبّهم، ومجانبة الأغنیاء. وقد ورد فی حدیث المعراج مراراً التأكید على اجتناب لذائذ الدنیا وعلى بغضها، وكذا احترام الفقراء فی المقابل حتّى عدّ محبّة الله هی عین محبّة الفقراء فی قوله: «إنّ المحبّة لله هی المحبّة للفقراء».
هذا وقد رُوی فی سیرة أهل البیت (صلوات الله علیهم أجمعین)، لاسیّما سیرة أمیر المؤمنین (علیه السلام) سلوك من الزهد والإعراض عن الدنیا ممّا یثیر العجب حقّاً. فقد استعمل الإمام علیّ (صلوات الله علیه) فی كتابه إلى عامله على البصرة عثمان بن حنیف تعابیر هی غایة فی الغرابة فی هذا المجال، فقال فیما قاله: «فما خُلِقتُ لِیشغَلَنی أكلُ الطیّبات»[2] [831]، «وإنّما هی نفسی أَرُوضها بالتقوى لتأتی آمنة یوم الخوف الأكبر»، أی یوم القیامة، «إنّ لكلّ مأموم إماماً یقتدی به ویستضیء بنور علمه ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنیاه بطِمرَیه ومن طُعمِه بقُرصَیه»، أی إنّ إمامكم قد اكتفى من دنیاه بثوبین بالیین ومن طعامه برغیفین من الشعیر، فی حین أنّه كان لو شاء وفّر لنفسه أفضل الأطعمة وأشهاها. كما أنّه (علیه السلام) یقول فی موضع آخر: «وَأیْمُ الله... لأَرُوضَنّ نفسی ریاضةً تَهِشّ معها إلى القرص»، أی لأجوِّعنّ نفسی جوعاً حتّى تلتذّ برغیف الشعیر الجاف. لكن أین نحن من هذا یا ترى؟! فنحن نُفلت زمام أنفسنا إذا وقعت أبصارنا على أطعمة متنوّعة شهیّة. ومن أجل ذلك یقول أمیر المؤمنین (علیه السلام): «أَلا وإنّكم لا تقدرون على ذلك» فأنا أعلم أنّكم لا تستطیعون العیش مثلی ولكن حاولوا أن تتشبّهوا بی على الأقلّ «ولكن أعینونی بورع واجتهاد». وقد روی فی موضع آخر أنّه (علیه السلام) عندما أدلى بآخر خطبة له قبل شهادته كان قد برز إلى الناس بجبّة من صوف، ینتعل حذاء من لیف النخل، وجبینه كأنّه ثفنة بعیر، وقد ارتقى صخرة[3] [832]. هذا هو زهد علیّ (علیه السلام).
أمّا الیوم فهناك من یشكّك فی هذه الممارسات وینبری، بذریعة التنمیة الاقتصادیّة والتطوّر، إلى توجیه الانتقادات اللاذعة لمدرسة الإسلام وثقافته بسبب اهتمامهما بمثل هذه القضایا.
هنا یكمن سؤال: إنّ التمسّك بتعالیم القرآن الكریم والسنّة الشریفة والنظر إلى الحیاة الدنیا بوصفها لعباً ولهواً، وعدم الاكتراث بها، وعدّها وسیلة للخداع، هل ینسجم مع التنمیة والتطوّر؟ فكیف یمكن الجمع بین بغض الدنیا وأهلها، وهو ما قامت علیه السیرة العملیّة لأهل بیت النبوّة (صلوات الله علیهم أجمعین) وبین السعی فی طریق التنمیة الاقتصادیّة؟
لقد استغلّ مناهضو الدین هذا النمط من المسائل للنیل منه، خاصّة الدین الإسلامیّ، وأشاعوا فی دعایاتهم بأنّ الثقافة الدینیّة والمتدیّنین یقفون حجر عثرة أمام التقدّم، ذلك أنّ الدین وتطوّر الحیاة، فی نظرهم، ضدّان لا یمكن الجمع بینهما. ولعلّ البعض یتذكّر كیف أنّ بعض المنظّرین كانوا، فی الأیّام الاُولى التی تلت انتصار الثورة الإسلامیّة، یروّجون علناً فی كتاباتهم وتصریحاتهم لمسألة أنّ التطوّر الذی شهده الغرب على الصعید الاقتصادیّ والعلمی والصناعیّ یقتضی ثقافة خاصّة لا مناص منها؛ فإنّ تراجع الحجاب أو تفشّی ظاهرة السفور، واختلاط الجنسین، وحالة التسیّب والتحرّر من القیود، وتفتّت الاُسرة، بل وحتّى المثلیّة هی من اللوازم الثقافیّة للحیاة الراقیة الحدیثة، وأنّه یتعیّن على كلّ مَن یسعى فی سبیل التطوّر أن یقبل بلوازمه، وانّ كلّ مَن یرفض هذه الثقافة فإنّه لا مفرّ أمامه سوى القناعة بالحیاة الرجعیّة التی تعود إلى عهد ما قبل الحداثة، ففی میسور شخص كهذا أن یقنع من طعامه بالخبز والجبن ویمارس عبادته ویتمسّك بمعنویّاته بزهد. هذا الكلام ظلّ یُرَدَّد فی بلدنا ویُكرَّر بإصرار من قبل البعض وبصور مختلفة منذ ثلاثین عاماً وإلى یومنا هذا أملاً فی أن یجد لنفسه موطئ قدم فی المجتمع. ولذا فإنّ من المناسب التطرّق لهذه القضیّة ودحض هذه الشبهات. بالطبع لقد تمّ الردّ على مثل هذه الشبهات مراراً وتكراراً وبأسالیب شتّى، لكن بالنظر إلى استمرار طرحها من قبل وسائل الإعلام المكتوبة والالكترونیّة، نرى من الضروریّ تناولها من جدید.
إنّ الاهتمام بالاُمور الدنیویّة وبذل الجهود على الصعید الصناعیّ والعلمیّ والتكنولوجیّ له أبعاد مختلفة یتعیّن مناقشة كلّ واحد منها على حدة، وإنّ جانباً من هذه القضیّة یتمثّل فی النظرة التربویّة إلى هذا الأمر.
لقد سبق أن ذكرنا بأنّه عندما یُمتدَح أو یُذَمّ أمر ما فی الأحادیث الشریفة من دون أخذ الموارد الاُخرى فی نظر الاعتبار فلا یمكن التمسّك بإطلاق هذه الروایات أو عمومها، ذلك أنّ أغلب الروایات المذكورة لیست هی فی صدد بیان التفاصیل، بل إنّها تتصدّى لطرح الموضوع الأساسیّ بصورة القضیّة المهمَلة، أمّا بیان ظروف القضیّة، وأجزائها، وسائر تفاصیلها فیوكل إلى البحث والمناقشة المسهبتین فی محلهما المناسب.
ففیما یخصّ الأمر بالصلاة فقد أمر الله تبارك وتعالى فی آیات من الذكر الحكیم بإقامة الصلاة بصورة عامّة، كقوله: «أَقِیمُواْ الصَّلَوٰةَ»[4] [833]، وقوله: «یُقیمُونَ الصَّلَوٰةَ»[5] [834]، أمّا بیان أجزائها وتفاصیلها فقد عهد به إلى رسول الله (صلّى الله علیه وآله). فمهمّة النبیّ والأئمّة المعصومین من ولده (صلوات الله علیهم أجمعین) هی: «لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیْهِمْ»[6] [835]. وإنّ صعوبة مهمّة الفقیه تكمن فی هذه النقطة تحدیداً، وهی أنّ تفاصیل المسألة الواحدة لیست مذكورة فی مكان واحد، بل هی مبعثرة فی مواضع شتّى بما یتناسب مع مقتضیات وظروف الزمان والمكان والمخاطب. إذ یتعیّن على الفقیه جمع هذا الشتات وتحدید الارتباط بین أجزائه كی یتسنّى له الإفتاء. ومن الواضح أنّ هناك لكلّ فتوى قیوداً واستثناءاتٍ یتطلّب كلّ واحد منها بحثاً ودراسة منفصلة. وكذا هو الحال فی المسائل الأخلاقیّة مثل: «أبغِض الدنیا وأهلَها»[7] [836].
وللإجابة على الأسئلة أعلاه فلابدّ أن نعرف ما هی الدنیا، ومن هم أهلها؟ وهل انّ الدنیا هی هذا العالم وانّ أهلها هم الذین یحیون فیه؟ وهل یستحقّ الإنسان المؤمن الذی یحمل معتقدات صائبة لكنّه وقع فریسة الذنوب لأیّ سبب كان، هل یستحقّ اللعنَ والسبّ، وهل یحقّ لنا سلوك اُسلوب مشین معه؟ وهل یتعیّن علینا نحن أیضاً أن نتشبّه بعلیّ (علیه السلام) فیما عاشه من حیاة زهد وبساطة؟ وهل إنّ كلّ من یملك داراً واسعة وسیّارة فخمة وحیاة مرَفّهة فهو من أهل الدنیا وأنّ علینا تصنیفه فی خانة الأعداء؟ وهل الزاهد هو كلّ مَن لا یملك داراً جیدة أو حیاة مناسبة، ویكون أشعث الشعر، بالی الثیاب، لا یملك قوتاً یأكله؟ أوَیستطیع كلّ امرئ أن یعیش عیشة علیّ وفاطمة (سلام الله علیهما) ویكابد كلّ هذه المحن والمشقّات؟ وكیف یتسنّى لنا الجمع بین هذه التوصیات والروایات التی توصی بالتوسیع على العیال وتأمین عیش رغید، وتهیئة أسباب السكینة والرفاهیة لهم؟ أَوَلیس من شأن التشدّد الفائق عن الحدّ أن یؤدّی إلى یأس الناس من الدین والثقافة الدینیّة وسوء ظنّهم بهما؟
ولعلّ هذه القصّة قد طرقت أسماعكم، وهی أنّ رجلاً مسلماً، وبعد مدّة من النقاش والحوار، تمكّن من إقناع جاره النصرانیّ باعتناق الإسلام. فما كان منه، وصاحبه لازال جدید العهد بالإسلام، إلا أن أیقظه من رقدته فی جوف اللیل لیصطحبه إلى المسجد لأداء صلاة اللیل. فرافقه المسلم الجدید إلى المسجد وظلّ حتّى طلوع الصبح مشغولاً بصلاة اللیل والمناجاة. وبعد ارتفاع الأذان وإقامة صلاة الصبح همّ المسلم الجدید بالذهاب إلى بیته لكنّ صاحبه استوقفه طالباً منه البقاء فی المسجد لأداء التعقیبات حتّى طلوع الشمس، ففعل. وفی اللیلة التالیة وعندما شخَصَ المسلم إلى بیت صاحبه لإیقاظه قال له صاحبه: إنّ لدیكم دیناً حسناً، لكن لیس لأمثالی، فإنّ لی عیالاً وانّ علیّ أن أكدّ لتأمین معاشهم. فلو أنّنی أمضیت اللیل بطوله حتّى الصباح فی العبادة معك فی المسجد فسوف لا أجد فی نفسی القوّة على العمل. فدینكم ینفع العاطلین عن العمل! فروى بعض الشیعة هذه القصّة للإمام الصادق (علیه السلام) فقال: «أَدخَلَه فی شیء أَخرَجَه منه»[8] [837]؛ یعنی إنّ هذا الرجل المسلم قد أخرج هذا الشخص النصرانیّ من الدین من حیث أدخله. فإنّ هیئة الزهد والتشدّد التی عرضها علیه للإسلام قد دفعته إلى تركه. وهذا یعنی أنّه لابدّ من معرفة قابلیّة الأشخاص أوّلاً، ومن ثمّ تزویدهم بالمنهج السلوكیّ المناسب لكلّ واحد منهم. بالطبع إنّ إظهار القمّة التی تبیّن اتّجاه المسیر والسلوك أمر حسن، لكن لا ینبغی تصوّر أنّ بإمكان كلّ فرد أن یبلغ هذه القمّة من البدایة. فالقمّة هی زهد علیّ (علیه السلام). لكن لا ینبغی أن نتصوّر أنّ بإمكاننا العیش كما عاش هو (علیه السلام). فامرأة الزاهد وأولاده لا یستطیعون بالضرورة العیش مثله. إنّ سوء تربیتنا جعلنا لا نفید من القیم بالشكل المناسب والصحیح.
فالشخص المؤمن المعتقد بالله والیوم الآخر لا ینبغی أن یكترث بالحیاة الدنیا ولذّاتها. بالطبع إنّ لهذه المسألة مراتبَ، فلیس الجمیع فی مستوى واحد. فعلى كلّ امرئ أن یقیس مدى قابلیّته ولا یحمّل نفسه فوق طاقتها. فتحمیل النفس فوق طاقتها یورث مرضاً فی البدن، وأذىً فی النفس، أو خللاً فی معاشرة الآخرین. فصحیح أنّ علینا الابتعاد عن أهل الدنیا وأصحاب المعاصی، لكن أَوَیعنی هذا الكلام النأی بالنفس عن جمیع الناس والعزلة فی كهف؟
فلا ریب أنّ هذا السلوك لیس هو السلوك الذی ینشده الإسلام. فالمبدأ الثابت هو أن یبذل الإنسان فی حیاته جهده، ما أمكن، لئلاّ یتعلّق بلذّات الدنیا، وأن ینمّی قابلیّته الاُولى، الحاصل علیها نتیجة التربیة الاُسریّة التی انشئ علیها فی هذا المجال، أن ینمّیها باتّجاه اكتساب العلوم الدینیّة والاُنس بالآیات القرآنیّة والروایات الشریفة. لكنّ علیه أن لا یوغل فی هذا الطریق أكثر ممّا ینبغی. بید أنّ هذا الكلام لا یعنی أن یتوقّع من الآخرین أن یحذوا حذوه أیضاً.
لقد راضَ الإمام علیّ (علیه السلام) نفسَه بالجوع حتّى غدت لقمة خبز الشعیر الیابس لذیذة لها، لكنّه لم یكن غیر مبال بأمر الدنیا، بل كان دائماً فی حالة كدّ ومثابرة؛ كان یحفر البئر حتّى یبلغ الماء ومن ثمّ یوقفه، ولازالت بعض هذه الآبار موجودة فی المدینة المنوّرة وتسمّى «آبار علیّ».
فمراد أمیر المؤمنین من توصیاته تلك هو أن یقنع ابن آدم بالقلیل من نعم الدنیا ولذّاتها ولا یتعلّق بها، ولیس أن یذر العمل والسعی وینزوی إلى ركن منهمكاً فی الذكر والعبادة. فإنّ السعی من أجل التقدّم المادّی والاقتصادیّ، وسدّ مثل هذه الحاجات، والحیلولة دون إذلال المسلمین، والسعی لتحقیق عزّتهم، لَهی – بالعنوان الثانویّ – تكلیف واجب ومن العبادة. المهمّ هو أن لا یتعلّق الإنسان بالحیاة الدنیا ویضع طلب لذّاتها نصب عینیه. فممارسة العمل، وخدمة الرعیّة، والنظر فی أحوال الجیران والفقراء، والتوسیع على العیال، هی من جملة واجبات المؤمن. أَوَلم توصِ الأحادیث المسلمینَ بالسؤال عن أحوال جیرانهم إلى أربعین جار، وتحضّ على حلّ مشكلاتهم؟ وهل یمكن، عن طریق الدخل المحدود الذی لا یكفی حتّى لسدّ حاجة الشخص نفسه، أن یحلّ المرء مشكلات أربعین اُسرة یا ترى؟
یُحكى أنّ شخصاً شكى لأحد الأئمّة الأطهار (صلوات الله علیهم أجمعین) حاجته فقال (علیه السلام) لخادمه: «كم عندنا من المال فی الدار»؟ فقال: عشرة آلاف درهم. فقال (علیه السلام): «اعطها له». والحال أنّ السائل كان یرضى بألف درهم، ومع ذلك قال الإمام: اعطه كلّ ما لدینا فی الدار. وهذا یعنی أنّ حال الإمام المادّیة جیّدة لكنّه، فی الوقت ذاته، لا یتعلّق بما یملك.
روی أنّ یهودیّاً كان یرتدی الأسمال البالیة قابل الإمام الحسن (صلوات الله علیه) وهو راكب على فرس جمیلة. فقال الیهودیّ للإمام: «جدّك یقول: إنّ الدنیا سجن المؤمن وجنّة الكافر»، فلماذا أعیش، وأنا لست على دینك، حالة الفقر والبؤس وتعیش أنت المؤمن فی رفاهیة ودعة؟ أوَتكون هذه الدنیا جنّة لی، أم هی جنّة لك؟ فقال الإمام (علیه السلام) فی جوابه: «لو علِمتَ ما لك وما یرقُب لك من العذاب لَعلِمتَ أنّك مع هذا الضرّ هاهنا فی الجنّة، ولو نظرتَ إلى ما أُعدّ لی فی الآخرة لَعلمتَ أنّی مُعَذّب فی السجن هاهنا»[9] [838].
والمراد من هذا كلّه هو أنّ الروایات التی تحذّر المؤمن من حبّ الدنیا وتوصیه ببغض أهلها لیس هدفها أن یعیش المؤمن فی ضنك من العیش. أَوَلم یدعُ نبیّ الله سلیمان (علیه السلام) ربّه: «وَهَبْ لِی مُلْكاً لا یَنبَغِی لأَحَدٍ مِّن بَعْدِی»[10] [839]؟ فإنّ عظمة وجلال ملك سلیمان (علیه السلام) كانا على جانب من الضخامة بحیث كان لكلّ حیوان، وكلّ فرد من الجنّ، والإنس موضع خاصّ فی حضرته، حتّى أنه مكان طائر واحد مثل الهدهد كان یُعلَم بكلّ سهولة إذا خلا عند غیابه. لكنّ نبیّ الله سلیمان لم یكن متعلّقاً بتلك الاُمور، فقد كان یحوك الحصران بیدیه ویعیش من دخل عمله ویكتفی من الطعام بخبز بسیط. أمّا ملكه فكان (علیه السلام) یستخدمه لإشاعة دین الله تبارك وتعالى، وتعظیمه فی مقابل الكفّار.
ومن هنا فإنّه لیس ثمّة من صلة بین الحیاة الشخصیّة، وخدمة المجتمع، وإنّ لكلّ واحد منهما حكمه الخاصّ المنفصل. فعندما تقتضی الظروف إظهار عزّة الإسلام أمام الكافرین والدول المستعمرة فإنّه تُستحدَث للمرء تكالیف هی غیر الواجبات الشخصیّة، ولا یمكن التهاون فیها بدعوى توصیة الإسلام بحیاة الزهد والقناعة بخبز الشعیر. ففی ذات الوقت الذی كان أمیر المؤمنین (علیه السلام) یعیش حیاة الزهد والفاقة كان الإمام الحسن (علیه السلام) یعیش حیاة مرفّهة. بالطبع كان یستغلّ ثروته تلك فی رفع حوائج الفقراء والمعوزین، أمّا هو فكان یذهب إلى الحجّ مشیاً على الأقدام! فالإمام علیّ (علیه السلام) كانت فی رقبته مسؤولیّة إدارة الاُمّة الإسلامیّة، وكان یتحتّم علیه أن یحیا بطریقة یستطیع كلّ مسلم یعیش تحت لواء دولته أن یحیا مثله؛ ناهیك عن أنّه كان یعیش حیاة الزهد كی لا یهفو قلبه إلى الدنیا ولذّاتها.
إذن لابدّ من الفصل بین الأمرین؛ فالتوصیة بالزهد وبحبّ الفقراء هی قضیّة أخلاقیّة وتربویّة غایتها ردع الإنسان عن إهانة الفقراء وتحقیرهم بدافع من غرائزه الحیوانیّة. فلابدّ للفقیر من أن یُحترَم كی لا یشعر بالذلّ والمهانة، ولیعلم أنّ إسلامه یمثّل قیمة بالنسبة له. لكنّ إشاعة هذه القضیّة الأخلاقیّة لا ینبغی أن یحول دون القیام بالواجبات؛ فلا تقع مسؤولیّة حمایة الفقراء على عاتق الحكومة فحسب، بل یتعیّن على كلّ فرد فی المجتمع، بما اُوتی من وسع، أن یبذل فی هذا السبیل جهده، ولیس لأحد كائناً مَن كان أن یتنصّل عن أداء واجبه بحجّة توصیة الدین بالزهد والتقوى.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
[1] [840]. بحار الأنوار، ج74، ص23.
[2] [841]. نهج البلاغة، الكتاب 45.
[3] [842]. «روی عن نوف البكالیّ قال: خطَبَنا بهذه الخطبة أمیر المؤمنین علیّ (علیه السلام) بالكوفة وهو قائم على حجارة نصبها له جَعدة بن هُبَیرة المخزومیّ وعلیه مِدرَعة من صوف وحمائل سیفه لیف وفی رجلیه نعلان من لیف وكأنّ جبینه ثفنة بعیر، فقال (علیه السلام)..»، نهج البلاغة، الخطبة 182.
[4] [843]. سورة البقرة، الآیة 43، وغیرها.
[5] [844]. سورة البقرة، الآیة 3.
[6] [845]. سورة النحل، الآیة 44.
[7] [846]. بحار الأنوار، ج74، ص23.
[8] [847]. الكافی، ج2، ص44.
[9] [848]. روی أنّ یهودیّاً تعرّض للحسن بن علیّ (علیه السلام) وهو فی شظف من حاله وكسوف من باله والحسن (علیه السلام) راكب بَغلة فارهة علیه ثیاب حسنة فقال: جدّك یقول: «إنّ الدنیا سجن المؤمن وجنّة الكافر»، فأنا فی السجن وأنت فی الجنّة. فقال (علیه السلام): «لو علمتَ ما لك وما یرقُب لك.. الحدیث»، بحار الأنوار، ج65، ص220.
[10] [849]. سورة ص، الآیة 35.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 17 تموز 2014م الموافق للیلة العشرین من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
لقد جرى التأكید مراراً فی فقرات حدیث المعراج التی تمّ بحثها فی المحاضرات الفائتة على قضیّة أنّ محبّة الله تعالى لا تنسجم مع حبّ الدنیا وأنّ الذی یبغی الخوض فی وادی محبّة الله علیه أوّلاً أن یصغّر الدنیا فی عینه وینظر إلیها بعین الاحتقار: «تهون علیه الدنیا»[1]. ثمّ یؤكّد الباری جلّ وعلا فی ختام الحدیث على أنّه لا مكان فی جِواری لمن أجدُ فی قلبه مثقال ذرّة من حبّ الدنیا ولذّاتها ورئاستها وزینتها، بل: «ولأَنزعَنَّ من قلبه محبتّی».
ولقد قدّمنا فی المحاضرات الماضیة توضیحاً لسبب التعارض بین محبّة الله وحبّ الدنیا، لاسیّما وأنّ حبّ الدنیا یكون فی بعض المواطن مصحوباً بالهوى. بالطبع لقد تمّ التشدید أیضاً، وبشكل منفصل، على عدم التلاقی بین الهوى ومحبّة الله عزّ وجلّ، حیث بیّن الحدیث أنّه یتعیّن على الذی یسعى لاكتساب محبّة الله أن یحارب هواه.
وهنا تكمن بضع نقاط یتطلّب تناولها من جمیع أبعادها بحثاً مسهباً وشاملاً، لكنّنا سنشیر إلیها مجرّد إشارة لرفع بعض ما یكتنفها من لبس.
أمثال حدیث المعراج الشریف هی أشبه بالوصایا العامّة التی یقدّمها طبیب حاذق لعامّة الناس من أجل المحافظة على السلامة والصحّة. فالطبیب فی مثل هذه المواطن یحذّر الناس بشكل عامّ من معاشرة مَن یحتمل أن ینقل المرض إلى الآخرین. فالنهی عن معاشرة أمثال هؤلاء المرضى لا یعنی بالضرورة أنّهم یحملون مشاعر عداء تجاه الناس، بل هو تحذیر من أنّ هذا المریض – الذی قد یكون من أعزّ أصدقائك – هو فی ظرف وحال یجعل انتقال مرضه إلیك لدى اقترابك منه أمراً محتمَلاً. بطبیعة الحال من الممكن أن یبیّت المریض، بدافع العداء، النیّة لنقل الأمراض للآخرین عن عمد وقصد، غیر أنّه لا علاقة لهذا الأمر بتوصیة الطبیب.
من هنا فإنّ النصائح والتوصیات التی یسدیها الله تعالى وأولیاؤه والمربّون الإلهیّون بتجنّب بعض الأشخاص والنأی عنهم لا تعنی بالضرورة أنّهم یضمرون أحاسیس العداء تجاه الآخرین. نعم من الممكن أن یكون هناك من بین هؤلاء مَن ینوی حقّاً إضلال الناس أیضاً، كما أقسم إبلیس الملعون بأنّه سوف یغوی بنی آدم ویستمیلهم: «لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّیَّتَهُ»[2]. وقد یعمد البعض أیضاً فی هیئته الإنسانیّة إلى التصرّف كشیطان. لكن لیس كل مَن نُهی الناس عن معاشرته یضمر العداء لغیره ویحاول إضلاله. فبقطع النظر عن قصد الأشخاص ونیّاتهم فإنّه یتعیّن على المرء أن یجتنب كلّ مَن یؤدّی التواصل معه إلى الضلال والإثم، وأن یحذر التأثّر من حالاته الضارّة. كما یتحتّم علیه أن یحاول، مهما أمكن، إعادة كلّ من تورّط بالضلالة إلى جادّة الصواب وإعانته على إصلاح نفسه.
وكما ذكّرنا فی المحاضرات الماضیة فإنّ أحد موارد الانتفاع من الدنیا یرتبط بحقائقها العینیّة، وهو ممّا لا یستحقّ الذمّ. وبالالتفات إلى هذا الأمر فإنّ النهی عن الدنیا لا یعنی اجتناب موجوداتها؛ ذلك أنّ نفس هذه الموجودات تُعدّ ضروریّة لابن آدم، بل إنّ حبّ الدنیا والتعلّق بها هو المضرّ. كما أنّ التواصل مع اُولئك الذین تجذّرت محبّة الدنیا فی قلوبهم حتّى أنسَتهُم ذكر الله والحیاة الأبدیّة قد یبعث على ابتلاء المرء بنفس هذه الآثار السیّئة. فإنّه من هذا المنطلق نُهی عن معاشرة أمثال هؤلاء لئلاّ تجرّ معاشرتهم ومجالستهم إلى تغلغل حبّ الدنیا فی قلب الإنسان فینسى، بسببه، ذكر ربّه والیوم الآخر.
ومن الطبیعیّ أن یكون الإنسان مضطرّاً فی معاشرته الآخرین إلى مداراتهم إلى حدّ من الحدود، الأمر الذی قد یوجب تأثّره – تدریجیّاً - بسلوكهم المشین ویخلق فی نفسه تحوّلاً فی نهایة المطاف. وكما یقول أحد مربّی الأخلاق: الرفیق أشبه بعضلات البلعوم؛ فكما أنّ الأخیرة تُیَسّر على الإنسان عملیّة ابتلاع الطعام، فإنّ الرفیق یسهّل على المرء اعتماد أشكال مختلفة من السلوك، سواء الحسَن أو القبیح. فالصدیق له دور مهمّ فی تعلّم المرء بعض ألوان السلوك وتثبیتها فی نفسه. ولهذا السبب فقد جاء النهی عن معاشرة أهل الدنیا. كما ورد التأكید – فی المقابل، ومن أجل الرُقیّ معنویّاً – على مجالسة من: «تذكّركمُ اللهَ رؤیتُه»[3].
لقد ذكرنا فی المحاضرات السابقة أنّ المراد من أهل الدنیا هم اُولئك الذین سیطر حبّهم للدنیا على قلوبهم، فصاروا من المغرمین بها، وأصبحت لذّاتُها الفانیة كلَّ همّهم وغمّهم، فغفلوا بذلك عن ذكر الله والیوم الآخر، ونسوا العلّة التی من أجلها خُلقوا، وكیف ستكون عاقبتهم.
والسبب من وراء تكرارنا هذه الاُمور هو أنّنا كلّما تحدّثنا عن بغض الدنیا والزهد بها ونبذ المادّیات تصوّر البعض خطأً أنّ القصد من ذلك هو اختیار الكهوف سكناً، واعتزال الخلق، وعدم السعی من أجل التقدّم العلمیّ والصناعیّ والاقتصادیّ وبلوغ الدرجات الرفیعة من التحضّر. وقد أشرنا سلفاً إلى أنّ الزهد لا یعنی ترك العمل والمثابرة، ولا یشكّل عائقاً أمام التطوّر فی مختلف المیادین. بل إنّ ما یمنع الجدّ والاجتهاد للوصول إلى المدارج العالیة للرقیّ والرفعة هو - تحدیداً - التعلّق بالدنیا ولذّاتها.
وفی میسورنا الوقوف على شواهد جمّة لهذه المسألة، وهی إمكانیّة أن تكون للمعاشرة آثار حسَنة أو سیّئة، وأنّ النهی عن بعض أنماط المعاشرة المضرّة نابع عن الحكمة. ففی أحد أسفاری إلى الولایات المتّحدة من أجل إلقاء محاضرة فی جامعة «تمبل»، اصطحبنی أحد الطلبة الجامعیّین الإیرانیّین المقیمین هناك - وكان شابّاً متدیّناً وثوریّاً، وهو الیوم یشغل منصباً مهمّاً فی البلاد – فی جولة تفقّدیّة على مختلف المراكز العلمیّة والثقافیّة، كان أحدها الجامعة التی یدرس فیها. وأثناء تقدیمه أحدَ أساتذته لی ذكر أنّه من الصین وأنّه خیرة أساتذة الجامعة. وكذا فإنّ طلبة الجامعة المتفوّقین هم بشكل رئیسیّ من الشرق، وأغلبهم إیرانیّون، ولا یتسنّى العثور من بین الأمریكیّین على اُستاذ فذّ أو طالب بارز إلاّ ما ندر. بالإضافة إلى ذلك فقد أطلعنی على العدد الكبیر من الأطباء الإیرانیّین الذین یقیمون فی الولایات المتحدة. وهنا انبرى أحد مسؤولی مكتب الممثّلیّة الإیرانیّة فی الاُمم المتّحدة إلى تأكید ذلك مضیفاً انّ معظم هؤلاء هم من الأطبّاء المشهورین فی أمریكا. وعند استفساری عن سبب هذا الأمر قال: الأمریكیّون یملیون أكثر ما یمیلون إلى السهرات اللیلیّة والسمَر والطرب وقلّما یفكّرون بالدراسة، خلافاً لاُولئك القادمین من بلدان مختلفة من العالم باذلین جهوداً مضنیة وصارفین مبالغ ضخمة من أجل الدراسة فی أمریكا، فهؤلاء یعرفون قدر أعمارهم وأوقاتهم ولیسوا على استعداد لإنفاقها فی العبث والترّهات.
وهذا على النقیض ممّا یتخیّله الكثیرون ممّن ینظرون إلى التطوّر القائم فی الدول الغربیّة من بعید. فنفس هذا الطالب الإیرانیّ المقیم فی أمریكا یقول: فی إحدى زیاراتی لإیران لتفقّد الأهل والأقرباء قام بعض أقاربی - اعتقاداً منهم بأنّنی آلَف مشاهدة الأفلام الإباحیّة - بوضع بعض هذه الأفلام فی متناولی. فبادرتُهم بالقول: أنا لم اُشاهد طیلة عمری مثل هذه الأفلام، بل لا تتوفّر لدیّ فرصة مشاهدتها أساساً!
كما أنّنی أعرف طالبین آخرین كانا قد سافرا إلى الولایات المتّحدة للدراسة بمشورة المرحوم آیة الله البهشتی (رحمه الله) وما یزالان هناك. فمن أجل أن یستفید هذان الطالبان من وقتهما الفائدة المثلى فقد عمدا إلى تنظیم برنامج صارم لحیاتهما، إلى درجة أنّهما لم یخصّصا للقاء أقاربهم وأصدقائهم القادمین من إیران لزیارتهما إلاّ نصف ساعة من لیالی معیّنة من الشهر خشیة أن یضیع وقتهما ویتخلّفا عن منهاجهم الدراسیّ!
فلو بنى الإنسان أمره على معاشرة جمیع الناس فسوف یصاب تدریجیّاً بعدوى الأمراض المتفشّیة فی محیطه وسینسى الدراسة، والدین، والصلاة، والحیاء، والعفّة، وغیرها الكثیر من الاُمور. فالذین یحذّرون المرء من هذه الأنماط من المعاشرة لا یفعلون ذلك بغضاً وعداءً له، بل لأنّ هذه السجایا - حالها حال بعض الأمراض – معدیة وأنّ كلّ مَن یتعرّض لها سیصاب بعدواها. وبطبیعة الحال فإنّ الطبیب الماهر العالِم بسبل مراعاة الصحّة العامّة والعارف بطریقة معالجة المریض، یستطیع – إلى جانب وقایة نفسه من المرض – علاج المریض المصاب بالعدوى. فمرافقة الضالّین من أجل إصلاحهم أمرٌ حسن، علّهم إذا لمسوا من الإنسان العاطفة والشفقة وحبّ الخیر لهم یكفّون عن المعاصی ویعودون إلى جادّة الصواب. هذا بشرط أن لا یكون المرء مصداقاً لقول سعدی: «ماءُ الجدول قد یجرف الغلام الذی مهمّته السقایة منه»[4]. فلربّما عكف بعض قلیلی الخبرة على معاشرة أهل المعاصی طلباً لإصلاحهم فتورّطوا هم، شیئاً فشیئاً، فی حبائل الإثم والخطیئة.
بناءً علیه فإنّ مغزى تعابیر الروایات التی تذمّ الدنیا، كتشبیه الأخیرة بعظْمَة خنزیر میت یقذفها شخص مصاب بالجذام[5]، هو أن نحذَر من الولَع بالدنیا كلّ الولع، ولیس أن نذر الكدّ والعمل ونعتزل الخلق فی ركن قصیّ سالكین مسلك الرهبان.
فالعمل لخدمة خلق الله، لاسیّما قضاء حوائج العیال والأقارب والجیران، إذا ما اُنجز طلباً لرضا الباری تعالى، فهو عبادة یسمو ثوابها على الكثیر من الصلوات والصیام. ولیس لهذا الأمر ارتباط بعدم الوَلَه بلذّات الدنیا؛ فالإنسان المنهمك فی العمل والمثابرة من أجل خدمة الخلق علیه أن یتجنّب الشغف بأموال الدنیا وثرواتها، لأنّ الشغوف بثروته لا یتسنّى له انتزاع قلبه منها من أجل خدمة الآخرین، خلافاً لمن لا یحبّ مال الدنیا فهو ینفقه بكلّ سهولة. فحبّ الدنیا لا یؤدّی إلى التطوّر، لیس هذا فحسب، بل یبعث أیضاً على الإمساك الذی یقف حجر عثرة أمام النموّ الاقتصادیّ.
لقد طرح أحد علماء الاجتماع الكبار نظریّة استناداً إلى الأبحاث التی أجراها على الأوضاع الاقتصادیّة للدول المسیحیّة. ومع كون النظریّة محطّ مناقشة ولا یستطاع تعمیمها، لكنّ الاستنباط الذی توصّل إلیه لافت للنظر. یقول: «الدول البروتستانتیّة، التی تعیش شعوبها عیشة القناعة بالقلیل، تتمتّع باقتصاد أكثر ازدهاراً من الدول الكاثولیكیّة. والسرّ فی ذلك یكمن فی سجیّة القناعة لدى البروتستانت. فنتیجةً لعیش الأخیرین البسیط وقناعتهم بالقلیل، فإنّهم یدّخرون بعض دخلهم موفّرین بذلك رأسمال للمشاریع الاقتصادیّة الضخمة، فی حین أنّ الكاثولیك ینفقون كلّ ما یكسبونه بإسراف. بناءً علیه فإنّ العیش البسیط والقناعة مفیدان حتّى لتطوّر الجانب الاقتصادیّ». بالطبع إنّ مناقشة مثل هذه المسائل تحتاج إلى بحث عمیق ودراسة تخصّصیّة.
فالثناء والإطراء على الفقر والتوصیة بتوقیر الفقراء هو سبیل عظیمة من سبل التربیة الاجتماعیّة هدفها عدم إحساس المحرومین والمعوزین بالحقارة. فوجود الفقراء والمحرومین هو واقع لا مفرّ منه یعیشه كلّ مجتمع. وإنّ الطبیعة المادّیة للإنسان تقضی بإهماله هذه الطبقة، وهو ما یقود – عملیّاً – إلى تخلّف المعوزین مادّیاً عن الباقین حتّى فی سائر المجالات فینتابهم - نتیجة لذلك – الشعور بالحقارة فی أغلب الأحیان، وهذا الأخیر یوطّئ - من الناحیة النفسیّة - لاقتراف المعصیة والجریمة؛ ذلك أنّ الذی لا یقیم لنفسه وزناً سوف لا یلقی لإهانة الآخرین له بالاً ولا یكترث لسماع شتائمهم تجاهه.
ومن أجل أن یحول الإسلام دون سقوط أفراد المجتمع فی هذا المستنقع الآسن فقد رفض اعتبار الثروة والملكیّة مناطاً لاحترام الناس ومیزاناً لشخصیّتهم ضمن المجتمع الإسلامیّ. فالإسلام یوصینا بأن لا نحقّر المتدیّن المتّقی لمجرّد كونه لا یتمتّع بالثروة، وارتدائه الثیاب القدیمة الخَلِقة، وأنّه یعیش عیشة الفقر والعوز، بل علینا أن نحبّه ونُظهر له الاحترام ونجلسه إلى جانبنا فی المجالس: «فأَدنِ الفقراء وقرّب مجلسَهم»[6]. فسلوك من هذا القبیل من شأنه أن یحیی أفراد طبقة من المجتمع كانت قد تهیّأت لهم أرضیّة الفساد والانحراف من ناحیة من النواحی، فیحول دون شعورهم بالحقارة جرّاء فقرهم، وهو ما یجعلهم أفراداً ناجحین فی المجتمع، وهذه أعظم خدمة للمجتمع البشریّ ولحضارته وثقافته.
ومع كلّ ذلك فهناك مَن یصرّ، بدافع الجهل أو بتحریض من الأجانب، على ضرورة وضع الأخلاق والثقافة الإسلامیّتین جانباً من أجل الحصول على التطوّرات الاقتصادیّة والعلمیّة والصناعیّة غافلاً عن أنّ الالتزام بالقیم الإسلامیّة لیس أنّه لا یعیق التقدّم فحسب، بل ویشكّل - من خلال تهیئة الأرضیّات المناسبة - عاملاً مساعداً مهمّاً على صعید التقدّم مادّیاً أیضاً. ومع أنّ التطوّر المادّی لا یمثّل الهدف الرئیسیّ، بل هو أداة لتحقیق التطوّرات فی الجانب المعنویّ والإنسانیّ، غیر أنّ للأوّل علاقة مباشرة مع التكامل المعنویّ للمجتمع. ففی المجتمع الذی یسود فیه الصدق والإخلاص فی العمل، یُنجز العامل عملَه بإتقان أكبر، وهو قلّما یعامَل بإجحاف من قبل ربّ العمل، وهذه أنماط سلوكیّة من شأنها أن تُعدّ البیئة للنموّ الاقتصادیّ.
فهناك من یتصوّر أنّه لابدّ، من أجل الوصول إلى التقدّم الذی یوازی ذلك الموجود فی الدول الغربیّة، من قبول الثقافة الفاسدة لتلك الدول، غافلاً عن أنّ هذه الثقافة، ومن خلال إلهاء المرء باللهو والتمتّع باللذّات المادّیة، تعمل على تلویث روح الإنسان وجسده وإمراضهما، وتحول بینه وبین الكدّ والعمل، ممّا یؤدّی إلى توقّف عجلة النموّ الاقتصادیّ فی المجتمع. فالثقافة الغربیّة تجرّ إلى فساد أخلاقیّ، وهذا الأخیر یقود إلى فساد اجتماعیّ واقتصادیّ أیضاً.
وإذا ما تصفّحنا تواریخ الاُمم البشریّة لَوقفنا على حقیقة أنّ معظم أشكال التطوّر، على المستویین المادّی والمعنویّ، إنّما حصلت على أیدی اُناس غیر لاهثین وراء لذّات الدنیا عازفین عن التعلّق بها، بل كان أغلبهم من الطبقات الفقیرة ولم تكن هذه الاُمور متاحة لهم أساساً.
كما أنّ معظم الذین دافعوا عن نبیّ الإسلام (صلّى الله علیه وآله) ودینه فی صدر الإسلام لم یكونوا یملكون من أموال الدنیا شیئاً. ومن الأمثلة على هؤلاء «أصحاب الصفّة» الذین لم یملكوا حتّى أثواباً تكفی لستر أبدانهم فكان كلّ تسعة منهم یشتركون فی ثوب واحد. لكن المستعدّین لبذل أرواحهم ذوداً عن الإسلام كانوا من بین هؤلاء. وفی المقابل فالذین كانوا یملكون من العبید والجواری الكثیر كانوا من المحاربین للإسلام والحكومة الإسلامیّة.
وهذا ینسحب على زماننا أیضاً. فالذین بذلوا أرواحَهم فی سبیل الثورة وجادوا بدمائهم أثناء الحرب المفروضة من دون أدنى منّة أو توقّع شیء فی المقابل هم من عامّة أفراد الشعب الذین یملأون الأزقّة والأسواق ویعانی معظمهم من الفقر والفاقة.
هذا وإنّ التطوّرات الاقتصادیّة والعلمیّة والصناعیّة التی نشهدها الیوم (فی بلادنا) هی الاُخرى من صنیعة أشخاص من هذا القبیل. فعلى ید مَن حصل كلّ هذا التطوّر على المستوى العلمیّ والصناعیّ والبحثیّ یا ترى؟ ومن أیّ اُسَر انحدر یا ترى اُولئك الذین وضعوا أرواحهم على أكُفّهم فی سبیل التقدّم العلمیّ النوویّ حتّى استُشهدوا فی هذا الدرب؟ معظم هؤلاء ینحدرون من عوائل متوسّطة أو فقیرة. إنّهم أشخاص متدیّنون یحضرون فی صفوفهم الدراسیّة ومختبراتهم وهم على وضوء. وما كان إطراء الإمام الخمینیّ الراحل (قدّس سرّه) على «الحفاة» والافتخار بهم، وإطلاق تسمیة «المرفّهین المترَفین» على أصحاب الثروات ورؤوس الأموال إلاّ انطلاقاً من هذه الثقافة الإسلامیّة.
إذن لا ینبغی أن نتصوّر أنّ توصیة الإسلام باحترام الفقراء تعنی التخلّی عن التقدّم المادّی ونبذ العلم والصناعة، بل إنّ مراد الإسلام منها هو عدم التعلّق بالثروة والانشداد إلى المادّیات، وضرورة انتزاع القلب من التشبّث بالمال والممتلكات وذلك من أجل خدمة خلق الله تعالى. فمَن هم الذین أسّسوا المرافق ذات المنفعة العامّة یا ترى؟ إنّهم الذین آمنوا بأنّ الله سیعوّضهم على إنفاق أموالهم فی مثل هذه المواطن سبعمائة ضعف من الثواب، «وَاللهُ یُضاعِفُ لِمَنْ یَشاءُ»[7].
فلنعلم أنّ إشاعة الثقافة الإسلامیّة الموصیة باحترام الفقراء وببساطة العیش والقناعة هو ممّا یمهّد للتطوّرات المادّیة، والعلمیّة والصناعیّة أیضاً، ویورث – فی نفس هذا العالم – المجتمعَ الإسلامیّ العزّة والمنَعة. ولا ینبغی أن نتصوّر أنّ أوضاع البلد الاقتصادیّة ستتحسّن إذا تصدّى للمسؤولیّة أشخاص همّهم اكتناز الثروة عن أیّ طریق، حلال أو حرام. فأمثال هؤلاء لا تحترق قلوبهم على أحوال الجیاع، وهم یسعون فی كلّ واد لحصد المزید من الربح لأنفسهم. فلا یخدم الشعب إلاّ أمثال الشهید رجائی الذین ذاقوا بأنفسهم مرارة الفقر.
هذا هو الدرس الذی یتعیّن لنا استلهامه من هذا المقطع من حدیث المعراج الشریف. یقول ربّ العزّة جلّ وعلا فی هذا الحدیث لنبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله): «یا أحمد! أَبغِض الدنیا وأهلَها وأَحِبَّ الآخرةَ وأهلَها»[8].
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین.
[1]. بحار الأنوار، ج74، ص28.
[2]. سورة الإسراء، الآیة 62.
[3]. الكافی، ج1، ص95، باب مجالسة العلماء وصحبتهم.
[4]. بیت شعر للشاعر الإیرانی سعدی جرى مثلاً یقول فیه: «شد غلامی که آب جو آرَد / آب جو آمد و غلام ببرد».
[5]. «ولَدنیاكم أهوَن عندی من ورقة فی فِیّ جرادة تقضمُها وأقذر عندی من عُراقَةِ خنزیر یقذف بها أجذَمُها» بحار الأنوار، ج40، ص348.
[6]. إرشاد القلوب، ج1، ص201.
[7]. سورة البقرة، الآیة 261.
[8]. إرشاد القلوب، ج1، 201.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 18 تموز 2014م الموافق للیلة الحادیة والعشرین من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
بلغنا فی بحثنا حول فقراتٍ من حدیث المعراج إلى الفقرة القائلة: «یا أحمد! أَبغِض الدنیا وأهلَها وأَحِبّ الآخرةَ وأهلَها. قال: یا ربّ ومَن أهل الدنیا ومَن أهل الآخرة؟ قال: أهل الدنیا مَن كثُر أكلُه وضحكُه ونومُه وغضبُه...»[1].
لقد قُسّم الناس فی العبارة أعلاه إلى قسمین: یضمّ الأوّل أهل الدنیا؛ وهم مَن یجب الابتعاد عنهم وتصنیفهم فی عداد الأعداء. أمّا أصحاب القسم الثانی فهم أهل الآخرة الذین تتعیّن محبّتهم. وقد تبنّى القرآن الكریم أیضاً هذا التقسیم فی بعض آیاته، ومنها قوله تعالى: «مَنْ كَانَ یُرِیدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِی حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ یُریدُ حَرْثَ الدُّنْیَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِی الآخِرَةِ مِنْ نَصیبٍ»[2]. فإنّ لكلّ فرد من البشر، وفق التعبیر القرآنیّ، زرعاً بَید أنّ بعضهم یزرع للدنیا فیجنی محصوله فیها، فی حین أنّ بعضهم الآخر یزرع للآخرة وهو سیحصد ثمار زرعه فی الحیاة الاُخرى. ثمّ إنّ الله یبارك فی حرث الذین یزرعون رجاءَ الآخرة ویزید فی ثماره؛ وذلك لقوله: «نَزِدْ لَهُ فِی حَرْثِهِ»، أمّا الذین یزرعون للدنیا فإنّهم یُعطَون شیئاً ممّا أمّلوه: «نُؤْتِهِ مِنْهَا»، والسبب هو أنّ الدنیا دار تزاحم الحاجات، ومن المستحیل أن یحقّق الجمیع فیها كلّ ما یطمحون إلیه. لیس هذا فحسب، بل إنّ هؤلاء لن یكون لهم نصیب ولا حظّ فی الآخرة أیضاً: «وَمَا لَهُ فِی الآخِرَةِ مِنْ نَصیبٍ».
وبوسعنا أیضاً العثور على نظیر هذا التقسیم، لكن بتعبیر مغایر، فی آیة اُخرى هی قوله تعالى: «مَنْ كَانَ یُریدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِیهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِیدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ یَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً»[3]. فهواة الدنیا الراغبون فی لذائذها العابرة على عجل سوف نعطی لمن نشاء منهم نصیباً منها. لكنّه لا یبلغ جمیع أهل الدنیا كلّ حوائجهم؛ فقد لا یصیب بعضهم حتّى اُمنیة واحدة من اُمنیاته، بینما قد یحصل بعضهم الآخر على بعض مطالبه، لكن لا أحد فی هذه الدنیا یحقّق كلّ ما یصبو إلیه. هذه إذن عاقبة حبّ الدنیا فی هذا العالم. أمّا فی العالم الآخر فستحیط به ألسنة جهنّم الحارقة وهو فی حالة من الذلّ والهزیمة: «ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ یَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً».
وفی المقابل فإنّ طلاّب الآخرة والباذلین بإیمان قصارى جهدهم فی هذا الاتّجاه سیمنّ الله جلّ وعلا علیهم بما یفوق تصوّرهم وسیشكر سعیهم؛ وهو قوله: «وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْیَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولٰئِكَ كَانَ سَعْیُهُمْ مَشْكُوراً»[4].
لكن هل یعنی هذا التقسیم بناءَ حاجز فاصل بین أهل الجنّة وأهل النار؟ وهل إنّ جمیع المتواجدین فی هذا الطرف من الحاجز منغمسون من قمّة رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم بالنور والطهارة، وغارقون فی درجة واحدة من الرحمة والبهجة، ویتنعّمون بنفس المقدار من نعیم الجنّة، وأنّ كافّة أصحاب الطرف المقابل هم على نفس الدرجة من القبح والدنس، ویحیق بهم نفس العذاب؟
فی آیة قرآنیّة اُخرى یقسّم الله عزّ وجلّ بنی البشر إلى صنفین: مؤمنین وكافرین، وذلك فی قوله: «هُوَ الَّذِی خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ»[5]. لكنّه تبارك وتعالى یقول فی آیة اُخرى: «وَمَا یُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ»[6]؛ أی إنّ شائبة الشرك تشوب قلوب معظم المؤمنین. وهذا یدلّ على أنّه لیس ثمّة حدّ فاصل یقسّم الناس إلى مؤمنین خُلَّص وكفّار محض، وأنّ لأغلب الناس فی قلوبهم نصیباً من الإیمان وآثاراً من الشرك.
ومن باب التشبیه فلنتصوّر مستطیلاً قُسِّم برسم خطّ فی وسطه إلى مثلّثین. إنّ قاعدة كلّ مثلّث فی هذا المستطیل تجاور رأس المثلث الثانی. كما أنّ سطح كلّ جانب من جوانب المستطیل مغطّىً بالكامل بواسطة أحد المثلّثین، لكنّنا إذا سرنا من أحد سطوحه باتّجاه وسطه فإنّ قسماً من السطح سیخرج شیئاً فشیئاً من سیطرة أحد المثلّثین لیصبح تحت غطاء المثلّث الآخر، حتّى إذا وصلنا إلى وسطه فسنجد أنّ نصف السطح مغطّىً بالمثلّث الأوّل والنصف الآخر بالمثلّث الثانی.
على نفس المنوال فإنّ قلوب بعض الناس تكون مسوَدَّة بالشرك بشكل كامل، لكنّ قلوب البعض الآخر، من الذین یستقرّون فی القطب المعاكس، طافحة بنور الإیمان. فاُولئك الذین یحتلّون القطبین لیسوا هم بكثیرین عدداً، إلاّ أنّ الغالبیّة العظمى من الناس - من الذین یقعون بین قطبَی الكفر والإیمان - یستولی الشرك على جزء من قلوبهم، بینما ینوّر الإیمان جزءاً آخر منها. ومن هنا فإنّ تقسیم الناس إلى صنفین، مؤمنین وكافرین، لا یعنی بالضرورة امتیاز أصحاب أحدهما عن أهل الآخر على نحو تامّ، بحیث إنّه لیس لطلاّب الدنیا أیّ حظّ من الآخرة، وإنّه لیس لمریدی الآخرة أدنى جنوح إلى الدنیا. بالطبع هؤلاء الذین یشغلون قطبی الإیمان والكفر هم هكذا، بیدَ أنّ قلوب السواد الأعظم من الناس تنطوی على ضغث من الإیمان وضغث من الكفر، وهم لذلك یطلبون الدنیا ویسعون للآخرة فی آن واحد.
یستطیع كلّ امرئ، عبر سبر أعماق قلبه، أن یقف على ما یعشعش فی باطنه - إلى جانب إیمانه - من مراتب الشرك والكفر والنفاق والریاء ونظیر ذلك. فإنّ لكلّ واحد منّا تقریباً تعلّقات دنیویّة، ولقلبه میولاً معیّنة، وإنّ فقدان بعض الاُمور یورثنا الاستیاء، وهذا ضرب من التعلّق بالدنیا. كما أنّه لیس فینا مَن یُنكر الآخرة أیضاً. ولهذا فإنّه لا یسعنا، عندما یوصینا الباری عزّ وجلّ بحبّ أهل الآخرة وبغض أصحاب الدنیا، أن نفصل بین الناس بجدار عازل، فنسِم القابعین فی أحد طرفی الجدار بطلاّب الدنیا وننأى بأنفسنا عنهم كلّ النأی، ونتصوّر اُولئك المستقرّین فی الطرف الآخر منه أهلَ الآخرة فنهیم بهم شغفاً وحبّاً. فهذا التقسیم إنّما یدلّنا على وجود قطبین، وأنّ أغلب الناس بینهما یمیلون إلى الدنیا ویرمون بطرفهم إلى الآخرة فی الوقت ذاته.
لا ریب أنّ طریقة التعامل مع أصحاب كلّ واحد من القطبین واضحة. لكن كیف لنا أن نتعاطى مع اُولئك الواقعین بین قطبی الإیمان والكفر؟ هل نحبّهم أم نبغضهم؟ فبعض هؤلاء تصل رغبتهم فی الدنیا إلى حدّ یكون میلهم إلى الآخرة معه فی منتهى السطحیّة حتّى انّ الآخرة لَتخرُج من قلوبهم بأقلّ جذبة دنیویّة. ویمكن القول – بمعنىً من المعانی - إنّ طینتهم وذاتهم فاسدة فلا یمكن المیل إلیهم وحبّهم، هذا وإن استحقّوا الثناء على فعل الخیر إذا ما صدر منهم.
وفی الطرف الآخر فإنّ هناك مَن تجذّر الاعتقاد بالدین والآخرة فی قلبه، لكنّ بعض الزلل والتعثّر قد ینتابُه فی مواجهة بعض الأحداث. ولقد وعدَت الروایات بأنّ مثل هذا المؤمن، الذی تزلّ قدمه أحیاناً فیرتكب بعض المعاصی، إذا ما تاب فی حیاته وتدارك قبیح فعاله فسیُعفى عنه. أمّا إذا حلّت به المنیّة قبل أن یبادر إلى التوبة، فسیطهّره الله سبحانه من ذنوبه بأن یصعِّب علیه نزع الروح. وإذا بقی خُبث المعاصی فی وجوده بعد الموت أیضاً فسیسوّی حسابه بأن یشدّد علیه فی أوّل لیلة من نزوله إلى القبر. فإن بقی شیء من دنس الذنوب مع كلّ ذلك فسینفُض عن وجوده غبارَها عن طریق عذاب البرزخ. وفی نهایة المطاف فإنّه عزّ وجلّ سیُدخِله الجنّة بالشفاعة أیضاً، بشرط أن تكون جذور الإیمان راسخة فی قلبه.
فمن الواضح أنّه لا ینبغی بغض المؤمن الطافح قلبه بالإیمان بالله تبارك وتعالى وحبّ أهل البیت (علیهم السلام)، حتّى وإن صدرت منه بعض الذنوب. إذ لا یراد من بغض أهل الدنیا بغض كلّ عاصٍ، بل المقصود من ذلك - بالنسبة لهؤلاء العاصین من المؤمنین - هو إظهار الاستنكار والشجب لأفعالهم غیر اللائقة. لكن لا ینبغی قطع العلاقة معه، بل ولا یجوز إضمار الانزعاج والاستیاء منه حتّى فی القلب، وإنّما یتعیّن علینا الدعاء له كی یهدیه الله سواء السبیل ویوفّقه إلى التوبة.
نفهم من ذلك أنّ المراد من تقسیم الناس إلى أهل الدنیا وأهل الآخرة هو إظهار القطبین الصالح والطالح لبنی آدم، وأنّ السواد الأعظم من الناس یقعون بین هذین القطبین، فهم الذین یقول فیهم عزّ من قائل: «خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَیِّئاً»[7]، فقد امتزج فی قلوبهم الإیمان والشرك، واختلط فیها طلب الدنیا وحبّ الآخرة، فكان میل بعضهم إلى الدنیا أكثر، وكانت رغبة بعضهم فی الآخرة أشدّ.
بعد أن أوصى الباری سبحانه وتعالى نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) فی لیلة المعراج بقوله: «یا أحمد! أَبغِض الدنیا وأهلَها وأَحِبّ الآخرةَ وأهلَها» سأله (صلّى الله علیه وآله): «یا ربّ ومَن أهل الدنیا ومَن أهل الآخرة؟». فكان جواب ربّ العزّة بأن عرّف له أهل الدنیا وأهل الآخرة من خلال الآثار التی تظهر فی سلوكهم؛ «قال: أهل الدنیا مَن كثُر أكلُه وضحكُه ونومُه وغضبُه». فهناك أربع خصال بارزة فی أهل الدنیا، هی: كثرة الأكل، وكثرة الضحك، وكثرة النوم، وكثرة الغضب. والخصلة الاُخرى لأصحاب الدنیا هی رضاهم عن أنفسهم: «قلیل الرضا» فصاحب الدنیا یرى باستمرار أنّ الحقّ معه، ولا یرضى عن الآخرین بسهولة.
كما أنّ أهل الدنیا لا یعتذرون إلى مَن ظلموه: «لا یعتذر إلى مَن أساء إلیه»، ولا یقبلون عذر من أخطأ فی حقّهم: «ولا یقبلُ عُذرَ من اعتذر إلیه». ثمّ إنّ صاحب الدنیا «كسلانٌ عند الطاعة، شجاعٌ عند المعصیة» فهو تعب وكسلان وخاوٍ من النشاط والحیویّة ساعةَ الطاعة، لكنّه یتسابق مع الآخرین من أجل لذّات الدنیا وزخرفها. مضافاً إلى أنّه: «أمَله بعید وأجَله قریب» فعمره قصیر، لكنّه یحمل فی رأسه آمالاً عریضة وطموحات طویلة. فمع أنّ الإنسان یعلم بأنّ أجله قریب، لكنّه یتمادى أحیاناً فی أحلامه فیفكّر حتّى فی أحفاده وأسباطه شاغلاً نفسه بجمع الثروة لمستقبلهم. وصاحب الدنیا أیضاً: «قلیل المنفعة كثیر الكلام» فهو یتكلّم أكثر ممّا یخدم الناس. وهو كذلك: «قلیل الخوف كثیر الفرح عند الطعام» فلا تساوره الخشیة والخوف من عذاب ربّه، ولا یفكّر إلاّ فی الدنیا، ویكون متّكلاً على ما جمع من الثروة والأصحاب، وفی المقابل فإنّ فرحَه وجذلَه عند حضور الطعام عظیم.
«وإنّ أهل الدنیا لا یشكرون عند الرخاء» فهم غیر شاكرین لوفیر النعم التی أسبغها الله تبارك وتعالى علیهم، لأنّه غاب المنعمُ عن أذهانهم، فظنّوا أنّهم نالوها بسعیهم وجهدهم، وهذا یذكّرنا بزعم قارون عندما قال: لقد جمعت هذا المال العظیم بعلمی وسعیی وتدبیری: «إِنَّمَا أُوتِیتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِی»[8].
ثمّ یقول أیضاً فی وصفهم: «ولا یصبرون عند البلاء» فهم یجزعون وقت المصیبة والمحنة. فالمؤمن مطمئنّ بأنّ كلّ مصیبة تحلّ بالعبد فهی لحكمة، وهو لهذا یتحمّلها. لكنّ طبیعة الإنسان، بصرف النظر عن قضیّة الإیمان والتربیة الدینیّة، تقتضی منه – بالطبع - الجزع والفزع عند حلول المكاره والشدائد، لقوله تعالى: «إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَیْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّین»[9]، عدا اُولئك الذین تربطهم مع الله تعالى علاقة خاصّة.
ویقول فیهم أیضاً: «كثیرُ الناسِ عندهم قلیل» فخدمات الخلق الجمّة تجاههم لا تساوی شیئاً عندهم، وهم لهذا لا یعترفون بجمیلهم ولا یشكرونهم على خدماتهم. لكنّهم فی مقابل هذا: «یحمَدون أنفسَهم بما لا یفعلون» فهم یثنون على أنفسهم، بل وینسبون إلیها ما لم یقوموا به من الأعمال الصالحة زوراً وبهتاناً. وما أشبه هذا التعبیر بقول الله تعالى فی كتابه العزیز: «لا تَحْسَبَنَّ الَّذینَ یَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَیُحِبُّونَ أَنْ یُحْمَدُوا بِمَا لَمْ یَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ»[10]. فأهل الدنیا یدّعون اُموراً لیس لهم فیها نصیب: «ویَدّعون بما لیس لهم، ویتكلّمون بما یتمنّون» فهم یتحدّثون دوماً عن أمانیهم وطموحاتهم. «ویذكرون مساوئ الناس ویُخفون حسناتهم» ولعلّهم یفعلون ذلك لإظهار فضل أنفسهم أمام الناس فی مقام القیاس بالآخرین والتنافس معهم لیُخرجوا بذلك خصمهم من میدان السباق.
ویبدو هاهنا أنّ صدر رسول الله (صلّى الله علیه وآله) قد ضاق من سماع هذه الأوصاف، فسأل ربّه: «یا ربّ! كلّ هذا العیب فی أهل الدنیا»؟! فقال له ربّ الجلال: «یا أحمد! إنّ عیب أهل الدنیا كثیر، فیهم الجهلُ والحُمق»؛ فإنّ عیوبهم كثیرة، لكنّ الأبرز من بینها هو الجهل وضحالة العقل؛ فهم یجهلون ما ینبغی لهم أن یعلموه، ویفرّطون بما لابدّ لهم أن ینجزوه من صالح الأعمال. كما أنّهم «لا یتواضعون لمَن یتعلّمون منه»؛ فهم - خلافاً لمقتضى فطرة البشر، وانطلاقاً من أنانیّتهم وحبّهم لذواتهم – لا یُظهرون التواضع أمام أساتذتهم ولا یقدّرون فضلهم ومتاعبهم. «وهم عند أنفسهم عُقَلاء، وعند العارفین حُمَقاء»؛ فهم یحسبون أنفسهم أعقل العقلاء، والحال أنّ أهل المعرفة واقفون على حماقتهم.
خلاصة الأمر فإنّ من المیسور مشاهدة هذه الأوصاف فی بعض المذاهب الأخلاقیّة الشائعة فی عالمنا المعاصر. إذ تشتهر الیوم ثلاثة مذاهب فی حقل فلسفة القیم والأخلاق: أوّلها مذهب أصالة المتعة، الذی یعرّف «الحُسن» بأنّه كلّ ما ینطوی على متعة ولذّة، ویذهب دُعاته إلى أنّ «اللذّة» هی أساس كلّ الصالحات، معتقدین بأنّ الإنسان إنّما یأتی إلى هذه الدنیا لیستمتع بلذّاتها ولیس ثمّة على عاتقه من مهمّة سوى الاستمتاع!
أمّا المذهب الثانی فهو مذهب أصالة الفرد، وفیه أنّ على كلّ امرئ أن لا یفكّر أثناء حیاته إلاّ فی نفسه، وأن یبذل قصارى جهده من أجل سعادته وتوفیر أسباب رفاهیّته. المؤمنون بهذا المذهب لا یفكّرون حتّى فی أبویهم ولا فی أزواجهم ولا فی أولادهم. فوفقاً لهذا النمط الحیاتیّ الشائع فی الغرب – والذی غدا، مع شدید الأسف، وبسبب الدعایة ووسائل الإعلام الجماهیریّة، یترسّخ شیئاً فشیئاً فی الدول الأسلامیّة أیضاً – صار الولد ینفصل عن عائلته بمجرّد تمكّنه من الاعتماد على نفسه ویؤسّس حیاته الخاصّة. فبغیة أن یریح الأب نفسه من مشقّة الحفاظ على ولده، ولأجل أن یتخلّص الولد من أوامر والدیه ونواهیهما، یفرّ كلّ واحد من الآخر ولا یعودان یفتّشان عن بعضهما البعض.
أمّا المذهب الثالث فهو مذهب أصالة اللیبرالیّة الأخلاقیّة، أو أصالة الحرّیة. وكلّ إنسان، وفق هذا المذهب، حرّ فی صنع ما یحلو له، ولا یحقّ لأیّ قانون أو نظام أخلاقیّ أو دین أن یحدّ من حرّیته. مَعقل هذا المذهب فی عصرنا الحالیّ هو أمریكا التی یسیر مجتمعها، بسبب هذه الثقافة، نحو الانحطاط والتسافل.
عندما كنتُ قبل بضع سنین فی جولة فی عدد من دول أمریكا اللاتینیّة لإلقاء المحاضرات فی بعض المراكز العلمیّة والثقافیّة هناك، ذكر لی مسؤول فی واحدة من الجامعات فی شیلی، والتی تضمّ أربعین ألف طالب جامعی: «لقد دمّرَت الثقافة الأمریكیّة شبّاننا، ولیس لدینا أیّ بصیص أمل فی إصلاحهم، اللهمّ إلاّ أن یأتی هذا الإسلام الذی تعرّفونه لیمدّ یده فینتشلنا من المأزق الذی نحن فیه». هذه الفاجعة هی ثمرة الثقافة اللیبرالیّة التی تُشاع فی باقی البلدان تحت یافطة «الحرّیة».
والآن، إذا ما استعرضنا صفات أهل الدنیا التی یتحدّث عنها الله جلّ وعلا فی حدیث المعراج فسنجد أنّ جمیع هذه السجایا مندرجة فی هذه المذاهب الثلاثة ولا یمكن أن تخرج من دائرتها؛ فمذهب أصالة المتعة فیه الرغبة فی اللذّات المادّیة الفانیة كالنوم والأكل وإشباع الغرائز الجنسیّة. ومذهب أصالة الفرد یحرّض متّبعَه على أن لا یكترث بالآخرین، ولا یتواضع للاُستاذ، ولا یقیم وزناً لأعمال الآخرین، وأن یتباهى بما لم یفعل، ولا یقبل عذر الآخرین، ولا یعتذر عند الإساءة إلیهم. وأخیراً مذهب أصالة الحرّیة الأخلاقیّة الذی یستلزم عدم المبالاة بالأوامر الإلهیّة والدین ویجرّ إلى اتّباع الهوى والشهوات. إذن من المیسور جمع كافّة الصفات المذكورة فی هذه المذاهب الثلاثة، وهی مذهب أصالة المتعة، ومذهب أصالة الفرد، ومذهب أصالة اللیبرالیّة الأخلاقیّة.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
[1]. بحار الأنوار، ج74، ص23.
[2]. سورة الشورى، الآیة 20.
[3]. سورة الإسراء، الآیة 18.
[4]. سورة الإسراء، الآیة 19.
[5]. سورة التغابن، الآیة 2.
[6]. سورة یوسف، الآیة 106.
[7]. سورة التوبة، الآیة 102.
[8]. سورة القصص، الآیة 78.
[9]. سورة المعارج، الآیات 19 – 22.
[10]. سورة آل عمران، الآیة 188.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 19 تموز 2014م الموافق للیلة الثانیة والعشرین من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
ذكرنا أنّ الله تعالى كان قد خاطب نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) لیلة المعراج بقوله: «یا أحمد! أَبغِض الدنیا وأهلَها وأَحِبّ الآخرةَ وأهلَها»[1]. ثمّ سأله (صلّى الله علیه وآله): «یا ربّ ومَن أهل الدنیا ومَن أهل الآخرة؟»، فسرد الباری عزّ وجلّ له أوصافاً لكلّ من الفریقین. وقد تحدّثنا فی المحاضرة الفائتة عن سجایا أهل الدنیا.
الحدیث تطرّق بعد ذلك إلى أوصاف أهل الآخرة، الذین عُبّر عنهم بـ «أهل الخیر»، وأغلبها تقع إلى الطرف المقابل لصفات أهل الدنیا. فأهل الدنیا كثیرو الأكل، بینما أهل الآخرة قلیلوه، واُولئك كثیرو الكلام، أمّا هؤلاء فقلیلو الكلام ویمیلون إلى السكوت. غیر أنّ الصفة التی ذُكرت كأوّل صفة لأهل الآخرة وأبرزها فهی «الحیاء»: «یا أحمد! إنّ أهل الخیر وأهل الآخرة رقیقة وجوههم كثیر حیاؤهم»، والرقیق الوجه هو الإنسان الخجول الحیِیّ.
وهناك آراء مختلفة حول «الحیاء»، فقد عُدّ فی الكثیر من المواطن بمعنى الخجل، وهی سجیّة تذمّها بعض الثقافات العالمیّة المتداولة. فبعض علماء النفس یعتقدون بضرورة كون الطفل حرّاً على جمیع الصعد لیفعل كلّ ما یحلو له، وأنّ كلّ ما یقیّد حركة الطفل فإنّه یمنع نموه وتكامله. فوفقاً لمذهب علماء النفس هؤلاء فإنّ الحیاء یقیّد الطفل ویصیّره خجلاً لا یستطیع الإفصاح عن مراده بشكل صحیح أو الدفاع عن نفسه، وهم – لهذا – لا یعدّون الحیاء صفة حسنة. وممّا یؤسَف له هو أنّ أغلب علمائنا المتخصّصین فی علم النفس، الذین استقوا علومهم من مصادر علم النفس الغربیّة، یروّجون لهذه الاُمور فی مراكزنا التعلیمیّة والتربویّة. وحتّى فی وسائل الإعلام والأفلام السینمائیّة توضَع صفة الحیاء - التی هی الاُولى والأبرز من بین صفات أهل الآخرة وأهل الخیر - موضع الذمّ. فهل یتعیّن علینا – والحال هذه – أن نقبل بهذه الثقافة الحدیثة، أم نأخذ بهذا الحدیث وأمثاله التی لا تقدّم الحیاء بوصفه سجیّة محبَّذة فحسب، بل باعتباره صفة ضروریّة ولازمة؟
جاء فی بعض الأخبار أنّه: «لا إیمانَ لِمَن لا حیاءَ له»[2]، وورد فی حدیث آخر: «الحیاء والإیمان مقرونان فی قَرَن[3] فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه»[4]. وهناك من أمثال هذه الروایات الكثیر. كما أنّ الحیاء كان سمة مطلوبة ومحبَّبة فی الثقافة القدیمة لبلدنا، بل إنّ أبشعَ ألوان السباب هو نعت الإنسان بعدم الحیاء. بید أنّ هذه الصفة (الحیاء) صارت الیوم تُدرج فی قائمة الصفات الذمیمة.
وللإجابة على السؤال أعلاه ینبغی أوّلاً أن نتعرّف على مفهوم الحیاء. فمفردة «الحیاء» تعبّر عن حالة وشعور انفعالیّ ینشأ فی الإنسان نتیجة اطّلاعه على عیب أو نقص فی نفسه.
وكما نعلم فإنّ الإنسان، فطرةً، یحبّ نفسه وهو - لذلك – یرى لها قیمة وكرامة ویكنّ لها احتراماً، وهو یودّ أن یكون عزیزاً عند الناس، وأن لا ینظروا إلیه بعین الاحتقار. هذا من ناحیة. ومن ناحیة اُخرى فإنّ الإنسان یقرّ - من منطلق الفطرة، أو العقل، أو بالإفادة من الأنظمة القیمیّة والدینیّة – بأنّ بعض الاُمور تُعدّ نقصاً أو عیباً أو قُبحاً. وقد تكون هذه العیوب تكوینیّة، كالنقائص الخَلْقیّة التی یسعى كلّ مَن یُبتلى بها إلى إخفائها عن أنظار الناس. وكذا فإنّ من الممكن أیضاً أن یكون هناك أمر یراه جمیع عقلاء العالم قبیحاً وغیر مرغوب فیه؛ فعلى الرغم من شیوع ارتداء الألبسة القصیرة وشبه العاریة فی بعض الدول مثلاً، فما زالت جمیع المجتمعات البشریّة تستقبح ظهور المرء أمام الناس عریاناً كما ولدته اُمّه. مضافاً إلى أنّه توجد هناك اُمور تُعدّ مذمومة وفقاً لنظام قیمیّ یقرّه مجتمع من المجتمعات، بحیث إنّ كلّ مَن یقبل بهذا النظام یعتبر هذا الأمر عیباً. نعم قد تكون أمثال هذه التصرّفات فی بیئات مغایرة أو أزمنة اُخرى، لا یتّبع الناس فیها هذا النظام القیمیّ، غیر مذمومة ولا قبیحة.
یحكی أحدهم: لقد سافرتُ إلى كندا قبل ثلاثین عاماً. وفیما كنت أتنزّه فی یوم من الأیّام فی إحدى الحدائق العامّة خلعتُ معطفی من شدّة حرارة الجوّ. وإذا برجل شرطة یستوقفنی قائلاً: «ارتدِ معطفك! فهذا العمل یخالف العفّة العامّة». هذا فی حین أنّه فی نفس هذا البلد وبعد مضیّ ثلاثین عاماً تظهر حتّى النساء أمام الملأ بأجساد شبه عاریة من دون أن یرى امرؤ فی ذلك ما یخالف العفّة العامّة! فهذا الأمر ناجم عن التغییر الذی طرأ على النظام القیمیّ لهذا المجتمع.
وهناك اُمور اُخرى كالدین، والأخلاق العامّة، والقانون، والثقافة یمكن أن یكون لها أثر فی عدّ سلوكٍ ما صحیحاً أو خاطئاً. وعلى أیّة حال، فبقطع النظر عن المعیار فی استقباح الخصلة أو السلوك، فإنّ الإنسان لا یحبّ أن یشاهَد منه ما یعتبره الجمیع قبیحاً وغیر لائق لأنّه سیُنظر إلیه من قبل الآخرین بوصفه شخصاً دنیئاً، حقیراً، عدیم الأدب، غیر مبالٍ بالأخلاق العامّة وهو ما سیحطّ من شأنه وحرمته.
فالحالة الانفعالیّة التی تطرأ على الإنسان إذا ما بان منه عیب أو تصرُّف سیّئ أمام الآخرین تدعى «الخجل» أو «الحیاء». والإنسان - جریاً على مقتضى الفطرة - یحاول جاهداً، بغیة الحیلولة دون حدوث هذه الحالة، أن لا تظهر عیوبُه، أو أن یتدارك ما یبدر منه من سلوك غیر سلیم. بالطبع قد تضعف الفطرة ویقلّ بریقها لدى أفراد مجتمعٍ ما بتأثیر عوامل شتّى فلا تعود لمثل هذه المسائل أهمّیة بالنسبة لهم. أمّا بالنسبة لنا، نحن أصحاب القرآن والدین، فمن المیسور فهم هذه البحوث بالرجوع إلى القرآن والسنّة.
لقد أسكن الله تبارك وتعالى آدم وحواء (علیهما السلام) بعد خلقهما فی جنّة، ونهاهما عن تناول ثمار واحدة من أشجارها. لكنّ الشیطان خدعهما ووسوس لهما أن یأكلا من ثمار هذه الشجرة المحرّمة. غیر أنّه: «فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا»[5]، فعندما أكلا من الشجرة ظهرت عیوبهما. بالطبع نحن لا ندری أیّ شیء كانت تلك العیوب وكیف ظهرت. كلّ ما نعلمه هو أنّ آدم وحوّاء (علیهما السلام) لدى أكل ثمار تلك الشجرة قد التفتا إلى عیوب فی بدنیهما جعلتهما یشعران بالخجل والحیاء، فأخذا یسترانها بأوراق الأشجار. لكن ما الذی دفع آدم وحوّاء (علیهما السلام) إلى إخفاء عیوبهما وسترها؟ هل كان ثمّة إنسان آخر هناك یراهما؟ وهل تعلّما هذا الشیء من أحدٍ ما؟
باستطاعتنا أن نفهم من ذلك أنّ تصرّفهما هذا كان مصدره الفطرة، إذ لم یكن فی ذلك الحین قد صدر أمر دینیّ أو توصیة أخلاقیّة بعد، كما لم یكن هناك ثقافة أو تاریخ سلوكیّ لأسلاف سبقوهم. فالتحلیل الوحید الذی یمكن طرحه لتفسیر هذا التصرّف هو أنّهما أحسّا بالحقارة جرّاء انكشاف قبائحهم وسوءاتهم. والمحصّلة هی أنّ هذا الأمر، الذی تمتدّ اُصوله إلى المعرفة الفطریّة، والذی یظهر بعنوان كونه إحساساً، یُدعى «حیاء».
لكن هل الحیاء حَسَن أم قبیح؟ وهل هو دائماً هكذا، أم انّه قد یكون حسناً أو قبیحاً باختلاف الظروف؟ وإذا التفت امرؤ إلى وجود عیب أو نقص فی نفسه وهو لا یودّ أن یطّلع علیه الآخرون، لكنّه اكتفى بستره مع كونه قادراً على إزالته، فهل هذا تصرّف صائب؟ على سبیل المثال كلّنا تقریباً نتجنّب الظهور أمام الآخرین بمظهر من لا یعلم شیئاً، لكنّ البعض یستحی أن یسأل الآخرین لرفع حالة عدم العلم فیه. فهل هذا السلوك صحیح؟
ممّا لا شكّ فیه أن التفات الإنسان إلى عیبه أمر حسن؛ إذ مالم یطّلع الإنسان على سوءاته فسوف لا یعمل على رفعها. كما أنّ ستر المرء عیوبَه وإخفاءها عن أنظار الآخرین هو أمر فطریّ ولائق أیضاً، لأنّه یحفظ قیمة الإنسان ووزنه. إلا أنّ تقصیر الإنسان فی رفع عیوبه، وهو أمر لا علاقة له بالحیاء والخجل، فهو لیس بالأمر الصائب. إذ على الإنسان أن یخجل من قلّة علمه، لكنّه یتعیّن علیه، من أجل رفع هذا العیب، أن یسأل الآخرین عمّا یجهل. بالضبط كالمریض، إذ یتحتّم علیه، لعلاج مرضه، أن یراجع الطبیب، لا أن یخفی مرضه. ومن هنا فإنّ ذمّ أهل العیوب لیس بسبب خجلهم من عیوبهم، بل لأجل تقصیرهم وتقاعسهم عن علاجها. فالحیاء فی الحقیقة ینجم عن علم الإنسان بوجود نقص فی وجوده، وهو أمر فطریّ أودعه الله فی كیان ابن آدم كی یغرس فیه، عن هذا الطریق، الدافعَ لإزالة هذا النقص والسیر نحو الكمال. فلا یسعنا ذمّ امرئ بسبب ذلك، لأنّ المذموم هو التقاعس والتكاسل عن رفع العیوب والنقائص.
إلا أنّ ما یقع الیوم موقع الذمّ فی علم النفس فهو هذا القسم الثانی من سلوك الإنسان. فالشخص الذی لا یستطیع الكلام على النحو الصحیح، أو الدفاع عن نفسه إذا ما تعرّض له الآخرون، یُذَمّ على عدم براعته وقعوده عن رفع هذا النقص. ولا صلة لذلك بالحیاء. فی حین أنّ البعض قد خلط بین إحساس المرء الناجم عن التفاته إلى نقصه، وبین محاولته إزالتَه، وبالنظر إلى أنّ غالبیّة الناس لا یسعون – فی مثل هذه المواطن - إلى رفع نقائصهم، فقد اعتبر هذا البعض أنّ الإحساس الآنف الذكر هو السبب وراء عدم سعی الناس إلى ذلك، فعدَّه هو الآخر مذموماً! والحال أنّ الله سبحانه وتعالى قد أودع هذا الشعور فی نفس الإنسان لیدفعه إلى محو عیوبه أو الحیلولة دون تكرّر الفعل المشین منه. وهذه هی الحكمة من الشعور بالخجل والحیاء.
إذن فلیس أنّ الحیاء غیر سیّئ فحسب، بل إنّه كلّما كان أقوى فی نفس الإنسان، زاد الحافز لدیه لمحاولة إزالة نقائصه وانطلاقه نحو الكمال. ولتحدید الاُمور القبیحة والمشینة ثمّة معاییر، أفضلها - بالنسبة للمتدیّنین - هی أوامر الله تعالى ونبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله). لكنّ المؤسف هو أنّ الكثیر من الناس قد وقعوا – فیما یتّصل بنمط سلوكهم - فریسة الثقافة الغربیّة، ولم یعودوا یرون بأساً فی الكثیر ممّا یصنّفه الدین فی عداد الاُمور غیر اللائقة. ومن ناحیة اُخرى، وعبر ذمّ الحیاء والخجل، فإنّهم یجعلون الأجیال القادمة بشكل تدریجیّ أجیالاً أقلّ حیاءً من ذی قبل، بل ویفتخرون بقلّة حیائهم أیضاً!
خلافاً للثقافة المعاصرة التی ترى فی الحیاء عیباً، ینظر الإسلام إلى الحیاء على أنّه أساس الإیمان وقرینُه، ویرى أنّ ذهابه مقرون بذهاب الإیمان. بید أنّ ثقافة عالم الیوم تقضی بأن یفلت الإنسان نفسه من هذه القیود والأغلال التی تراها فی غیر محلّها [!].
أمّا أهل الآخرة فإنّهم لا یقعون فریسة هذه الإغواءات، ولا یسمحون بظهور عوراتهم وعیوبهم. لیس هذا فحسب، بل إنّهم یعتذرون ممّا یبدر منهم من تصرّفات غیر لائقة، ویجهدون فی إصلاح سلوكهم. فآدم وحوّاء (علیهما السلام) حینما بدت لهما سوءاتهما والتفتا إلى أنّهما قد ارتكبا فعلاً مشیناً، دفعهما حیاؤهما إلى تدارك الأمر. ولهذا فقد بادرا إلى الاعتذار من ربّهما قائلین: «إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِین»[6]. فهذه التوبة هی نتیجة ذاك الحیاء. فلو لم یعِ آدم وحوّاء (علیهما السلام) خطأهما ولم یستحیا منه لما تابا إلى ربّهما.
نفهم من ذلك أنّ طلب العذر والعمل على تدارك الخطأ هما أیضاً أمران فطریّان. إذن الحیاء، وهو أمر فطریّ، شعور ینشأ فی باطن الإنسان جرّاء ظهور عیب فیه، أو صدور عمل مشین منه. وهذا الشعور إنّما یحصل لمن یعدّ هذا الأمر قبیحاً وغیر لائق، ولا یرید بانكشافه للآخرین أن یهبط احترامه، وإذا اطّلع امرؤ على عیبه، فإنّه یبادر إلى الاعتذار.
إنّ لمفهوم الحیاء فی الثقافة الإسلامیّة دائرة هی أوسع من تلك التی فی المجتمعات الاُخرى. یقول نبیّنا الكریم (صلّى الله علیه وآله) فی جملة ما أوصى به أبا ذرّ (رضوان الله تعالى علیه): «یا أبا ذرّ!... استَحِ من الله، فإنّی، والذی نفسی بیده، لأَظَلّ حین أذهب إلى الغائط متقَنِّعاً بثوبی أستحی من الملكین اللذین معی»[7]. ویروى أیضاً أنّ سلمان (علیه الرحمة) من شدّة حیائه لم ینظر إلى عورته حتّى مرّة واحدة فی عمره.
ولیست دائرة الحیاء فی الثقافة الإسلامیّة مقتصرة على بنی آدم، فأولیاء الله یستحون أن یطّلع حتّى ملائكة ربّهم، المكلّفون بتسجیل أعمالهم، على قبائحهم. بل وفوق ذلك، فإنّهم یخجلون من الله تبارك وتعالى أیضاً. ولهذا فإنّهم لا یجترحون السیّئة حتّى فی الخفاء وفی خلواتهم، لأنّهم یرون الله جلّ وعلا حاضراً عندهم، فیستحون من ارتكاب الإثم فی حضرته.
إذن فالحیاء یعصم المرء عن ارتكاب المعصیة. فقد جاء فی الدعاء المرویّ بعد زیارة الإمام علیّ بن موسى الرضا (علیهما السلام): «ربِّ إنّی أَستغفرك استغفار حیاء»[8]، والمعنى: إلهی! إنّنی خَجِل من أنّنی أذنبت بحضورك. وهذا النمط من الخجل هو على جانب من القوّة عند البعض حتّى أنّه لَیخاطب ربّه بالقول: إلهی! احرقنی بنارك كی أخرج من حالة الاستحیاء منك. إذن فالحیاء عاملٌ یستطیع - إلى هذا الحدّ - أن یكون مؤثّراً فی ردع المرء عن ارتكاب المعصیة. غیر أنّ الشیاطین، ومن أجل أن نتلوّث نحن بالآثام، یحاولون سرقة هذا العامل منّا، فیغالطون قائلین: «الإنسان الخجل المتّصف بالحیاء هو إنسان ضعیف لا یملك قدرة الدفاع عن نفسه»! بل إنّ هؤلاء قد دخلوا من باب المغالطة أیضاً لیروّجوا لـ «الحرّیة» بالمعنى الذی یرومونه منها. ألم یقولوا: «كما أنّ الطائر یشعر بالسرور إذا أفلت من قفصه، فإنّ على الإنسان أیضاً أن یسعى فی سبیل حرّیته كی یتسنّى له فعل ما یشاء»؟! ألم یبرّر شیاطین [الإنس] كلامهم مستعینین بقول سیّد الشهداء (علیه السلام): «إنْ لم یكن لكم دین وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً فی دنیاكم»[9]، فقالوا: «إذا كانت الحرّیة سیّئة، فلماذا أوصى الحسین (علیه السلام) بنی اُمیّة بها»؟ ولقد انطلت هذه المغالطات على البعض غافلین عن أنّ لـ «الحرّیة» معانی واستخدامات مختلفة، لكلّ واحدة منها قیمتها الخاصّة، بل إنّ بعضها مضادّ للقیم، ولا یجوز خلطها مع بعضها. وهذه من جملة أسالیب اُولئك الذین یسعون لإضلال الناس عن جادّة الصواب.
ثمّ إنّهم ابتدعوا مغالطة اُخرى بغیة اجتثاث جذور «الحیاء» من المجتمع الإسلامیّ فقالوا: «الإنسان الحیِیّ ضعیف ولا یستطیع الدفاع عن نفسه، إذن فالحیاء صفة مذمومة»، ناسین أنّ السیّئ هو الكسل وعدم البراعة، ولیس الشعور الذی ینتاب الإنسان نتیجة وقوفه على عیبه ونقصه. إذ بوسع هذا الشعور أن یشكّل دافعاً للإنسان لرفع سوءته وعاملاً لهدایته إلى سبیل الرشاد والرقیّ. فهل لنا – والحال هذه – أن نقول یا ترى: إنّ الحیاء مذموم؟
لقد رسم لنا علماؤنا العظام نماذج یُضرب بها المثل فی الحیاء. إذ یُحكى أنّ المرحوم الحاج الشیخ محمّد حسین الاصفهانیّ كان لا یقوى، من شدّة حیائه، على النظر إلى وجه امرئ أثناء إلقائه الدرس، وكان كلّما رفع رأسه، طأطأه وخفض بصره مرّة اُخرى. ثمّ إنّنی شاهدت باُمّ عینی كیف كان المرحوم آیة الله حُجّت لا ینظر إلى الآخرین أثناء شقّ طریقه عبر الأزقّة، بل كان دائم التطلّع فی السماء. والمرحوم آیة الله العلاّمة الطباطبائیّ كذلك كان نادراً ما ینظر إلى وجه أحد أثناء إلقائه الدرس، بل كان بصرُه مرفوعاً إلى الأعلى.
فالحیاء هو سجیّة مطلوبة تستدعی من الإنسان مراعاة احترام الطرف الآخر. كما أنّها من الممكن أن تشكّل منطلقاً للكثیر من الصفات الصالحة الاُخرى. ولهذا السبب فقد ذُكرت هذه السجیّة فی حدیث المعراج باعتبارها واحدة من أبرز صفات أهل الآخرة.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
[1]. إرشاد القلوب، ج1، ص201.
[2]. الكافی، ج2، ص106.
[3]. القرن: حبل یُجمع به البعیران.
[4]. الكافی، ج2، ص106.
[5]. سورة الأعراف، الآیة 22.
[6]. سورة الأعراف، الآیة 23.
[7]. الأمالی للطوسی، ص534.
[8]. بحار الأنوار، ج99، ص56
[9]. بحار الأنوار، ج45، ص51.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 20 تموز 2014م الموافق للیلة الثالثة والعشرین من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
تناولنا فی المحاضرات الماضیة تلك المقاطع من حدیث المعراج القدسیّ التی تحدّثت عن خصوصیّات مُحبّی الله تعالى. وقد قلنا أثناء البحث إنّ إحدى میزات المولَعین بحبّ الله هی كون قلوبهم طافحة بمحبّته عزّ وجلّ بحیث لا یعود فیها مجال لمحبّة غیره. بید أنّ الحدیث نفسه یوصی كذلك بمودّة بعض الأشخاص وأصناف اُخرى من الناس. وقد ذكرنا فی توضیح التوصیات أعلاه أنّ هذا النمط من الودّ لیس هو بمعزل عن محبّة الله تعالى، بل هو فرع وشعاع منها؛ ذلك أنّ الذی یودّ شخصاً ما فإنّه سیحبّ متعلّقاته أیضاً لأجله. ثمّ إنّ الذین اُوصی بمحبّتهم هم أولیاء الله وأحبّاؤه، ولا ریب أنّ كلّ مَن یحبّ الله فإنّه سیودّ هؤلاء أیضاً لأجله سبحانه.
وقد أشرنا، متابعةً للبحث، إلى أنّ من جملة الذین یوصی الحدیث بمحبّتهم هم الفقراء الذین ذكر الحدیث بأنّ محبّتهم هی عین محبّة الله جلّ وعلا: «إنّ المحبّة لله هی المحبّة للفقراء»[1]. وبوسعنا أن نفهم من هذه العبارة أنّ محبّة الفقراء لا تزاحم محبّة الله.
والفئة الثانیة التی جاءت التوصیة بمحبّتهم هم أهل الآخرة: «أَحِبَّ الآخرة وأهلَها»[2]. ثمّ سرد الله، فی تتمّة الحدیث، میزات أهل الآخرة، وفی مقابلها صفات أهل الدنیا الذین أوصانا ببغضهم. هذا وقد تطرّقنا فی المحاضرات القلیلة الأخیرة، بعد ذكر صفات أهل الدنیا، إلى سجایا أهل الآخرة وتكلّمنا بعض الشیء عن «الحیاء» الذی هو أوّل صفاتهم وأبرزها. وسنتناول فی محاضرة الیوم ثانی سجیّة من سجایا أهل الآخرة، والتی یعبّر عنها حدیث المعراج القدسیّ بقوله: «قلیلٌ حُمقهم»[3].
لقد سبق أن قلنا فی صفات أهل الدنیا: «وهم عند أنفسهم عُقَلاء، وعند العارفین حُمَقاء»؛ أی إنّهم یعدّون أنفسهم فی قمّة العقل والفهم فی حین أنّ أهل المعرفة یرونهم حمقاء. لكنّ الله عزّ وجلّ یعرّف أهل الآخرة فی المقابل بكونهم: «قلیلٌ حمقهم». ولابدّ من التنبّه هنا إلى أنّ هذه العبارة لا تعنی وجود شیء من الحماقة عند طلاّب الآخرة، بل یُراد منها أنّه قلّما یمكن العثور فی سلوك أهل الآخرة على تصرّفات غیر عقلانیّة إذا ما قیست بتصرّفات أهل الدنیا، هذا وإن أتى بعضُهم أحیاناً بأعمال غیر مدروسة لكنّها یمكن التجاوز عنها، خلافاً لطلاّب الدنیا الذین تغلب علیهم الحماقة.
لكن ما معنى الحماقة یا ترى؟
كما تعلمون فإنّ مفردة «الجهل» تُستخدم فی مقابل «العلم» وهی تُطلق على من لا یعلم بموضوع ما. أمّا الذی یأتی - على مستوى العمل - بتصرّف ینمّ عن جهل فیقال له: «أحمق». وفی المقابل فإنّ الذی یكون سلوكه صحیحاً یُنعَت بكونه «عاقلاً». ولذا فإنّ لفظة «العقل» تُستعمل فی مقابل «الحُمق» فی مقام العمل. بالطبع استخدام كلمة «الجهل» یستوعب أحیاناً الجانب النظریّ والعملیّ على حدّ سواء. على سبیل المثال فإنّ المراد من قوله تعالى: «قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِینَ»[4] یبدو أنّه الجهل على المستوى العملیّ.
أمّا حقیقة «الحماقة» فهی أن یأخذ المرء، فی محاولته للوصول إلى هدف ما، بأسباب أو یسلك طریقاً لا یوصله إلى مراده. والحماقة – بعبارة اُخرى - هی إتیان الإنسان فعلاً یؤدّی فی نهایة المطاف إلى خسرانه حتّى وإن تصوّر أنّه یحسن صنعاً. وإنّه من هذا المنطلق جاءت التوصیة فی الأحادیث بعدم مشاروة الأحمق، فهو وإن قصد خدمتك، لكنّه سیضرّك بسبب عدم معرفته[5].
لكن كیف تكون حماقة أهل الدنیا زائدة؟ أوَلیس ما نعیشه الیوم من تنمیة وتطوّر على مختلف المستویات العلمیّة والصناعیّة هو صنیعة نفس طلاّب الدنیا هؤلاء؟ على خلاف أهل الآخرة الذین لا یجیدون – كما یتخیّل أهل الدنیا – غیر الصلاة والدعاء والعبادة، بل ولربما اكتفى معظمهم بمجرّد إظهار القداسة! هذا مضافاً إلى أنّه من خلال مشاهدة المرء اُولئك الذین یطلبون الدنیا، واُولئك الذین لا یفكّرون إلاّ بالآخرة فبإمكانه أن یدرك أنّه ثمّة عقلاء وثمّة حمقى فی كلا الفریقین، وأنّه لیس هناك تلازم بین العقل وطلب الآخرة، ولا بین حبّ الدنیا والحمق.
یبدو أنّ الحدیث القدسیّ ینظر إلى المسألة من زاویة هی غیر تلك التی ننظر منها نحن، الذین نُعَدّ - إلى حدّ ما - من أهل الدنیا. فإنّه إذا نظر امرؤ من الزاویة التی ینظر منها قائل الحدیث فسیفهم كم أنّ أهل الدنیا حمقى.
فابن آدم - فطریّاً - هو طالب دَعة وراحة، وهو – بالطبع - یسعى لنیل الراحة الأكثر هناءً والأطول أمداً. ولهذا السبب یحبّ كلّ امرئ أن یطول عمره وهو یبذل كلّ ما بوسعه فی سبیل أن یزداد عمره قلیلاً. إذ یقول عزّ من قائل: «یَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ یُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ»[6]. وسبب ذلك هو أنّ الإنسان یسعى بالفطرة وراء اللذّة والسرّاء. وكلّما كانت لذّته أكثر هناءً وبقاءً كان أشدّ سعادةً ورضىً. ولهذا فإنّ كلّ تصرّف یصدر فی هذا المجال یُعدّ عقلانیّا. لكنّ أصحاب الدنیا - الذین یرون فی تقدیم لذّة ساعة من الزمن على لذّة خمسین دقیقة أمراً عقلانیاً – فإنّهم یؤثرون مسرّات الدنیا الضیّقة العابرة على المتعة الأبدیّة وغیر المحدودة للآخرة!
لكن أیّ واحدة من اللذّتین ینبغی للإنسان العاقل أن یختار: هذه العابرة القصیرة، أم تلك الأبدیّة الطویلة؟ وإذا كان الحال كذلك، فما الذی یجعل أصحاب الدنیا یغضّون الطرف عن لذائذ الآخرة الباقیة بغیة نیل مُتع الدنیا الفانیة؟ «الَّذِینَ یَسْتَحِبُّونَ الْحَیَاةَ الدُّنْیَا عَلَى الآخِرَةِ»[7]. ألیست هذه حماقة؟ فلقد تحدّث الأنبیاء (علیهم السلام) جمیعاً عن الآخرة. وإنّ أكثر من ثلث القرآن الكریم یتناول الحیاة الآخرة. أمّا أهل الدنیا فمشغولون بإمرار معیشة یومهم الحاضر، ولیَجْرِ غداً ما یجری! والله تعالى یقول: «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَیَاةَ الدُّنْیَا * وَالآخِرَةُ خَیْرٌ وَأَبْقَىٰ»[8]. فوفق أیّ منطق یفرّط بعض الناس بمسرّات الآخرة الأكثر عذوبةً والأطول بقاءً؟ فلو أطلنا التأمّل فی هذه القضیّة واستوعبناها خیر استیعاب لاكتشفنا أنّ فعلاً كهذا لیس هو إلاّ الحماقة بعینها.
من وحی التجربة، التی قد تكونون أنتم أیضاً مررتم بنماذج متعدّدة منها، فإنّ المرء إذا أنجز نفس هذه الاُمور الدنیویّة المألوفة وفقاً لتعالیم الله عزّ وجلّ وطمعاً فی مرضاته فإنّ الله سیرفُده بإمدادات غیبیّة لا یسعه حتّى تصوّرها. هل هی قلیلة تلك التجارب المشابهة التی مرّت بنا إبّان فترة الدفاع المقدّس (أثناء الحرب بین العراق وإیران)؟ فلقد كان مجاهدونا فی جبهات القتال یشهدون یومیّاً مثل هذه الأیادی الغیبیّة من جانب الله تبارك وتعالى ممّا لم یكن یُصدَّق حتّى من قِبلهم هم؟ فلقد نهض نفرٌ من الناس العادیّین دونما تجهیزات یُعتَدّ بها، بل كان أغلبهم لا یجیدون استخدام السلاح أیضاً، لمواجهة عدوّ مدجّج بالسلاح مدعوم من العالم بأسره. لكن بما أنّ هؤلاء القوم قد هبّوا لقتال عدوّ الله عن إخلاص فی نیّاتهم وابتغاءً لوجه الله جلّ وعلا، فلقد مدّهم الله بالعون فانتصروا فی الحرب. أمّا بعد الحرب، وكأنّه لم یبق فی هذا العالم إلاّ نحن والأدوات الدنیویّة، فقد نسینا أنّه ثمّة ربّ فوق رؤوسنا أیضاً!
إنّ أهل الآخرة لا ینسون مثل هذه التجارب، وهم یفیدون منها باستمرار. أمّا أهل الدنیا فهم غارقون فی النسیان. أوَلیس نسیان وعود الله جلّ شأنه ووعود نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله)، والكمّ الهائل من الآیات والروایات، والتجارب العینیّة التی تُذكّرنا بحضور الله تعالى فی جمیع المجالات والمیادین – أوَلیس كلّ ذلك من الحماقة؟
فالله عزّ وجلّ یُذَكّرنا باستمرار بأنّه تعالى قد جعل فی شؤون الدنیا من السنن ممّا لو أفاد منه الإنسان جیّداً فسوف یظفر فی نفس هذه الحیاة الدنیا بضروب من النجاح فی نیل رغباته الدنیویّة. إحدى هذه السنن هی البركات المترتّبة على الشكر؛ كما فی قوله تعالى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِیدَنَّكُمْ»[9]. أمّا أهل الدنیا فعوضاً عن شكر أنعم ربّهم، فإنّها تُمحى من أذهانهم، وتراهم دائمی الشكوى من عدم تلبیة بعض حوائجهم.
والسنّة الاُخرى هی الثمار الحاصلة من الاستغفار. یقول عزّ وجلّ: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَیْهِ یُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَیْكُمْ مِدْرَاراً وَیَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُم»[10]. فإنّكم إن استغفرتم ربّكم ثمّ تبتم من ذنوبكم فسیرسل الله السماء علیكم برحمة المطر ولا تُبتلون بالجفاف والقحط، وسوف تتعاظم قوّتكم أیضاً. لكن ماذا یصنع الإنسان عوضاً عن الالتفات إلى هذه السنّة واستغلالها؟ إنّه یصنع سحاباً صناعیّاً كی یحصل منه على أمطار اصطناعیّة! ولربّما فاقت تكالیف هذا العمل ثمارَ نفس المطر الذی سیهطل. غیر أنّ أهل الدنیا، وبدلاً من أن یتوبوا إلى بارئهم ویستغفروا ربّهم، ویصطفّوا لأداء صلاة الاستسقاء، فإنّهم یضعون آمالهم فی مطر اصطناعیّ ینزل علیهم من سحاب مُصطنع! أوَلیست هذه حماقة؟
أو ترى اُولئك الذین كانوا إلى الأمس القریب رفاقَ درب وقتال وزملاءَ عمل، یعمل كلّ واحد منهم الیوم على تخریب صورة زمیله فی السباق السیاسیّ، فیتغاضى عن أعماله الحسنة ویتحدّث كما لو لم یبدر من زمیله أیّ صنیع إیجابیّ أبداً. وعوضاً عن العمل على تلاقح الأفكار ووضع الید فی ید الصدیق، تراه یمدّ - سرّاً - ید الحاجة إلى العدوّ فیطلب منه المعونة! ألیست هذه حماقة؟ أوَلیس من الحماقة أن یتخلّى المرء عن أصدقائه ورفاقه ویمدّ ید العوز والحاجة إلى عدوٍّ قد ثبت منه الخداع والمصلحیّة الدنیئة مراراً؟!
إنّ أهل الآخرة ینظرون أوّلاً إلى ربّهم، فإن شقّت علیهم معیشتهم، وكان الله راضیاً عنهم، لم یشتكوا أبداً، بل یكون كلّ اعتمادهم على الله وجمیع أملهم فیه سبحانه، فهم یقولون: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِیلُ»[11]. بل حتّى إذا اجتمع الأعداء لإبادتهم وإفنائهم قالوا: «هٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ»[12]. فلقد وعدَنا الله سابقاً مثل هذا الرزق، «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِیلُ»، فإنّ الله كافٍ لنا. فلو مال عنّا جمیع الأنصار والأحبّة أیضاً فسوف لا یساورنا القلق، إذ أنّ الله عزّ وجلّ معنا، وهو العوض عن الكلّ وهو فوق الجمیع. هكذا هم أهل الآخرة. أما أهل الدنیا فقد یُظهرون الأمل فی نصرة الله على ألسنتهم، لكنّهم یتّكلون، فی قلوبهم، على القدرات المادّیة، وصراعهم مع الآخرین، ثمّ فی النهایة على المعونات الخارجیّة، حتّى تلك التی من عدوّهم. فهل یصحّ منّا – مع كلّ ما مرّ – أن نعتبر هؤلاء عقلاء؟
بطبیعة الحال إنّ أهل الدنیا یتفاخرون بكونهم یفهمون فنون السیاسة ویعلمون من أین تُؤكَل الكتف وكیف یستغلّون العدوّ، وهم یعدّون أنفسهم من العقلاء ویرون الآخرین اُمّیین جَهَلة، والحال أن ّالله تعالى یقول فی حدیث المعراج: «وهم عند أنفسهم عُقَلاء، وعند العارفین حُمَقاء».
فمَن هو الأحمق إذن؟ إلیس ذلك الذی نسی الله والیوم الآخر، وأدار ظهره إلى الإمدادات الغیبیّة، ولم یُلقِ بالاً إلى توسّل الناس ودعائهم فی لیالی القدر، وتشبّث – عوضاً عن ذلك كلّه – بأذیال أمریكا علّها تعید إلینا بعض الذی سرقته هی منّا؟ أوَلیست هذه حماقة؟ «وهم عند أنفسهم عُقَلاء، وعند العارفین حُمَقاء».
فإن كان الأمر كذلك فما هو إذن معنى الآیات والأحادیث الكثیرة التی توصی الإنسان بالأمل فی نصرة الله تعالى؟ ألم یقل ربّ العزّة: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ»[13]. فما كان من المسلمین یوم وقعة بدر، وقد كانوا قلیلی العدد وخالی الوفاض من العُدّة والسلاح وهم یواجهون جیش قریش الجرّار المدجّج بالسلاح فی حالة من الذلّ والبؤس – ما كان منهم إلاّ أن یلجأوا إلى الله تعالى ویستغیثون به: «إِذْ تَسْتَغِیثُونَ رَبَّكُمْ»[14]، وما كان من الله تعالى فی المقابل إلاّ أن یمدّهم «بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِینَ»[15]. أوَتكذب علینا هذه الآیات یا ترى؟!
لقد سمعتُ من لسان نفس السیّد حسن نصر الله حفظه الله إذ نقل: «بعد حرب تمّوز التی دامت ثلاثة وثلاثین یوماً بین حزب الله والكیان الصهیونیّ، وُجّهت فی لقاء مع بعض قادة جیش الاحتلال فی تلفزیون العدوّ أسئلة حول أسباب هزیمتهم أمام جنود حزب الله وهم قلّة، فكان جوابهم: لقد هُوجِمنا فی هذه الحرب من قِبل أشخاص كانوا یرتدون ثیاباً بیضاً ویحملون فی أیدیهم السیوف فلم نستطع الصمود بوجههم ولم نجد بُدّاً من الفرار أمامهم». هذه كانت تصریحات قادة جیش الكیان الصهیونیّ حول علّة انكسار جیشهم أمام جند حزب الله والتی بثّها تلفزیون الكیان نفسه. فما الذی كان یملك جنود حزب الله یا ترى غیر الإخلاص والتضحیة فی سبیل الدین؟ وقد مدّ الله تعالى لهم ید العون حتّى استطاعوا بمفردهم وبأیدٍ خالیة هزیمة أكبر قوّة عسكریّة فی الشرق الأوسط، كانت قد هزَمتْ یوماً بضع دول عربیّة فی غضون ستّة أیّام فقط!
فهل یصحّ لمن آمن بالقرآن والسنّة وبهذه التجارب الواقعیّة أن یقول: لا نستطیع التفوّه بكلمة فی وجه إسرائیل؟! أوَلیس هذا من الحماقة؟
إنّ مَثَل أصحاب الدنیا كمَثَل أطفال یفرّطون فی لعبهم الصبیانیّ بجواهر نفیسة ثمناً لبضعة أكیاس من رقائق البطاطس المقلیّة ثمّ یتفاخرون بصفقتهم تلك! فأهل الدنیا یفرحون بخداع الناس وتخریب صورة الآخرین من أجل الحصول على مناصب تدوم لهم بضعة أیّام فی هذه الدنیا غافلین عن قوله تعالى: «أَوَلَمْ یَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ»[16]؟ فأین یا ترى ذهب فرعون، الذی كان یقول: «أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَىٰ»[17] فیخرّ الناس أمامه سُجَّداً؟ أوَنَنسى الله تعالى، ونضع الدین جانباً، ونمنّی أنفسنا فرحین بأنّ العدوّ سیعید لنا أموالنا؟ وكلّ ما نأمله من الإسلام هو أن یكون طلبتنا وأساتذة جامعاتنا على معرفة بثقافتهم الإسلامیّة بمستوى إطّلاعهم على ثقافتهم الوطنیّة! لكن لنسأل أنفسنا: ما هو المراد من معرفة الإسلام؟! أوَلم یكن طلبتنا الجامعیّون فی زمان النظام الشاهنشاهیّ على معرفة بالإسلام؟ بل وحتّى الكیان المحتلّ للقدس یمتلك الیوم مراكز أبحاث حول التشیّع یقصدها الناس من جمیع أنحاء العالم للاطّلاع على مذهب التشیّع!
فلطالما أكّد قائد الثورة الإسلامیّة (دام ظلّه) على أنّ المراد من الثقافة هی تلك الثقافة الإسلامیّة الثوریّة، وأنّه لابدّ من إشاعتها بین الناس، لا أن یُكتفى بتعرّف الطالب الجامعیّ على هذه الثقافة. فهل یكفی یا ترى أن یتعرّف الطالب والاُستاذ الجامعیَّان على الثقافة الإسلامیّة، بالضبط كما یطّلعان على الثقافة الوطنیّة وتاریخ إیران القدیمة؟ هل هذا هو هدف الثورة الإسلامیّة؟ فكیف لنظام یصبو إلى هدف سیادة الثقافة الإسلامیّة على العالم بأسره أن تصل به الاُمور إلى التفكیر بمجرّد تعریف الطلبة بالثقافة الإسلامیّة إلى جانب الثقافة الإیرانیّة؟ أیكون لهذا معنى آخر غیر الحماقة؟
«هم عند أنفسهم عُقَلاء، وعند العارفین حُمَقاء». نسأل الله تبارك وتعالى أن ینجینا جمیعاً من هذا اللون من الحماقة وكلّ حماقة.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
[1]. بحار الأنوار، ج74، ص23.
[2]. إرشاد القلوب، ج1، ص201.
[3]. إرشاد القلوب، ج1، ص201.
[4]. سورة البقرة، الآیة 67.
[5]. «لا تُشاور أحمقَ.. الأحمق یجهدُ لك نفسَه ولا یَبلغُ ما ترید»، بحار الأنوار، ج75، ص230.
[6]. سورة البقرة، الآیة 96.
[7]. سورة إبراهیم، الآیة 3.
[8]. سورة الأعلى، الآیتان 16 و17.
[9]. سورة إبراهیم، الآیة 7.
[10]. سورة هود، الآیة 52
[11]. سورة آل عمران، الآیة 173.
[12]. سورة الأحزاب، الآیة 22.
[13]. سورة آل عمران، الآیة 123.
[14]. سورة الأنفال، الآیة 9.
[15]. سورة الأنفال، الآیة 9.
[16]. سورة السجدة، الآیة 26.
[17]. سورة النازعات، الآیة 24.
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 21 تموز 2014م الموافق للیلة الرابعة والعشرین من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«یا أحمد! إنّ أهل الخیر وأهل الآخرة رقیقةٌ وجوههم، كثیرٌ حیاؤهم، قلیلٌ حُمْقهم، كثیرٌ نفعهم، قلیلٌ مكرهم، الناسُ منهم فی راحة، وأنفسُهم منهم فی تعب، كلامهم موزون، مُحاسِبین لأنفسهم متعِبین لها»[1]
بحثنا فی المحاضرات الفائتة حول بعض مقاطع حدیث المعراج التی یوصی الباری عزّ وجلّ فیها رسوله الكریم (صلّى الله علیه وآله) ببغض أهل الدنیا ومحبّة أهل الآخرة. وحینما سأله (صلّى الله علیه وآله) عن ماهیّة أهل الدنیا وأهل الآخرة، بیّن الله تبارك وتعالى له بعض خصوصیّات الفریقین، وهو ما تكلّمنا عنه فی المحاضرات القلیلة الماضیة.
ومتابعةً لاستعراض أوصاف أهل الآخرة یقول الباری تعالى: «كثیرٌ نفعهم، قلیلٌ مكرهم». وانسجاماً مع ما جرى فی الحدیث فی عرض بقیّة خصال أهل الآخرة فی مقابل صفات أهل الدنیا، فإنّه فی هذا المقطع أیضاً - وبعد أن وصم فی المقطع السابق أهل الدنیا بالأنانیة وعدم التفكیر إلاّ بأنفسهم، وأنّهم لا یعتذرون من سلوكهم المشین، ولا یقبلون عذر الآخرین – یعرّف طلاّب الآخرة، فی المقابل، بأنّ نفعهم للناس كبیر وأنّهم لا یستخدمون فی تعاملهم معهم أُسلوب النفاق والمكر.
قلنا فی إحدى محاضراتنا الماضیة، لدى تصنیف خصوصیّات طلاّب الدنیا وفق أدبیّات عالمنا المعاصر إلى ثلاثة مذاهب فكریّة؛ هی مذهب أصالة المتعة، ومذهب أصالة الفرد، ومذهب أصالة الحرّیة الأخلاقیّة – قلنا: إنّ روح الأنانیة والمنفعیّة تنبع من القول بأصالة الفرد. وبالنظر إلى أنّ سجیّة حبّ نفع الآخرین هی فی مقابل النفعیّة الشخصیّة، نرى من المناسب أن نتوسّع بعض الشیء فی البحث حول مذهب أصالة الفرد.
یؤكّد أحد المذاهب الأخلاقیّة الشائعة على جعل مناط تقییم سلوك الإنسان فی مقدار اللذّة التی یصیبها من هذا السلوك. وقد قلنا فیما مضى أیضاً: یعتقد بعض أصحاب الرأی فی حقل فلسفة الأخلاق بأنّ جذور أصالة اللذّة تمتدّ إلى أصالة النفع. فلو انهمك الإنسان - استناداً إلى هذا المعتقد – فی إنجاز عمل لا متعة فیه، بل ویكلّفه تعباً ومشقّة أیضاً، غیر أنّ النفع الذی یعود علیه بسببه یفوق المشقّة التی یتجشّمها لأجله، عُدّ هذا العمل قیّماً.
ومن ناحیة أُخرى، وتأسیساً على المذاهب المادّیة – التی یُعدّ المذهب الدنیویّ واحداً من فروعها – فلیس هناك سبب لسعی الإنسان من أجل منفعة الآخرین. هذا النمط من التفكیر إنّما یُستقَى من عقیدة أنّ عالم الوجود وكأنّه قد وُجد بمحض صدفة، ومن دون أیّ هدف أو غایة، عبر انفجار فی المادّة، وأنّ العملیّة التطوّریّة لجمیع المخلوقات إلى ظهور الإنسان هی مجرّد سلسلة من الأحداث العفویّة غیر الهادفة، وأنّ كلّ فرد - وبعد أن یمضی فترة فی هذا العالم مصارعاً جملة من الحوادث العرضیّة – یموت صدفة ویتحوّل جسده مرّة أُخرى إلى تراب. فماذا عسى الإنسان أن یصنع فی هذه الدنیا، وفقاً لهذا الطراز الفكریّ، سوى الاستمتاع! فالإنسان الذی لیس وجوده فی هذا العالم إلاّ حصیلة سلسلة من الأحداث العفویّة غیر الهادفة، والذی لیس من عاقبة تنتظره سوى التحوّل إلى تراب، لماذا ینبغی له التفكیر فی نفع الآخرین؟ فإنّ رؤیة من هذا القبیل، بشكل طبیعیّ، لا تُنتج غیر مذهب أصالة الفرد، وضرورة تفكیر المرء براحة نفسه.
لكنّ بعض الفلاسفة وجدوا، بعد تأمّلهم فی هذه الرؤیة، أنّها تتعارض مع أمور من قبیل التضحیة وبذل النفس فی سبیل الآخرین، ممّا یُعدّ من القیم الإنسانیّة المسلَّم بها. ومن هنا فقد ظهر فی مقابل مذهب أصالة الفرد مذهب یتّخذ من الجماعة والمجتمع محوراً، ویُرجِع جمیع القیم والمبادئ إلى نكران الذات. والإنسان فی هذا المذهب لا ینبغی أن یفكّر فی مصلحته الشخصیّة بتاتاً، بل یتعیّن أن ینحصر تفكیره فی كیفیّة إیصال المزید من النفع إلى الآخرین. وقد اصطُنعت لتبریر هذا المذهب أدلّة فلسفیّة، من جملتها: أنّه لیس لأیّ فرد من البشر كیان مستقلّ وأصیل غیر المجتمع، وأنّ الذی یتمتّع بالأصالة هو المجتمع البشریّ. فالفرد، وفقاً لهذا المذهب، هو فی الواقع خلیّة من خلایا جسد المجتمع. إذ من الممكن لخلایا جسم الإنسان أن تُفصَل عنه وتستمرّ فی الحیاة خارجه إذا توفّرت لها الظروف الطبیعیّة الملائمة، غیر أنّ الخلیّة الواحدة أو العضو الواحد من البدن لا یُعدّ بمفرده إنساناً. فإنّ ملیاراتٍ من الخلایا قد اجتمعت مع بعضها البعض وتآزرت فیما بینها لتبنی جسم إنسان، لكنّ أیّ واحدة منها لا تُعتبر بمفردها إنساناً.
وفقاً لهذه الرؤیة، التی تُصنّف فی عداد النظریّات الفلسفّیة المعروفة فی علم الاجتماع، فإنّ الأصالة والوجود الحقیقیّ هما للمجتمع، وهو جسد تكوّن من اجتماع أفراد البشر وتواصلهم مع بعضهم، وإنّ كلّ فرد یبقى متمتّعاً بالحیاة الحقیقیّة ما دام متّصلاً بهذه الجماعة، أمّا إذا قُطع الارتباط بینه وبین الجسد، فسیكون كالعضو المبتور من جسم الإنسان.
ولقد طُرحت على أساس هذا المذهب الفلسفیّ بحوث أخلاقیّة وقیمیّة من قبیل تبریر قضیّة نكران الذات. ووفقاً لهذه النظریّة فإنّ رغبة الإنسان فی نفع الآخرین تنطلق من كون حیاته الحقیقیّة متعلّقة بهم، وأنّه بغیاب التعامل والتعاون بین أفراد المجتمع باعتبارهم خلایا لجسد واحد فإنّ كیانههم سیكون عرضة للخطر. بل لقد ذهب البعض إلى عدّ أبیات الشاعر سعدی المعروفة (كلّ فرد من بنی آدم عضو فی المجتمع البشریّ والجمیع مخلوق من جوهر واحد. فإن اشتكى عضو منهم تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى)[2] شاهداً على صحّة هذه النظریّة.
بناءً على ما تقدّم فإنّ كون صفة التفكیر فی الآخر قیمةً أخلاقیّةً له جذور فلسفیّة وتُستخلَص منه نتائج حقوقیّة واجتماعیّة مختلفة. ومنها أنّ الفكر القائم على أصالة المجتمع قد أنتج الشیوعیّة والعلمانیّة، وهما مذهبان یتعیّن على جمیع القائلین بهما العمل لصالح المجتمع، وكلّ عضو لا یكون ذا نفع للمجتمع فهو إمّا أن ینفصل لوحده عن هذا الجسد (كما تنفصل خلایا الجلد المیتة المتقرّنة عن الجسد وتتساقط)، أو أن یتمّ إقصاؤه عنه باعتباره عضواً زائداً وضارّاً (كما یستأصل الجرّاح العضو المریض من البدن). وهذا ما كان یُعمل به فی البلدان الشیوعیّة حیث یصار، تحت ذرائع شتّى، إلى التخلّص من المسنّین والعاجزین الذین لا أمل فی أن یقدّموا نفعاً ما للمجتمع كی لا تذهب ثروات الأمّة سُدىً!
ولقد اجتذبت هذه النزعات – بطریقة أو بأخرى - أتباعاً من المدارس الفكریّة المختلفة، بل وحتّى من بین بعض المذاهب. ولقد راجت مثل هذه الأفكار الماركسیّة فی بلدنا أیضاً، فی مرحلة من المراحل، إلى درجة التحاق بعض المعمّمین رسمیّاً بحزب «توده»، واستدلالهم – من أجل الترویج للماركسیّة - ببعض الآیات والروایات، لاسیّما روایات نهج البلاغة. وانطلاقاً من تصوّر أنّ الفكر الماركسیّ یمثّل تبریراً علمیّاً وفلسفیّاً لتعالیم الإسلام الاجتماعیّة، فقد قدّم هؤلاء الإسلامَ كدین یدعو إلى أصالة المجتمع، هابطین – نتیجة لذلك - بالأحكام الفردیّة للإسلام، التی لا تجدی نفعاً للآخرین، كالصلاة، إلى مستوى الآداب والتقالید المحلّیة القلیلة الأهمّیة! فالمهمّ فی نظرهم هو خدمة المرء للمجتمع وكونه ذا فائدة للناس.
نحن نعلم بالطبع أنّ للإسلام رأیاً آخر غیر ما ذكرنا. فالإسلام یعتبر لكلّ فرد وجوداً خاصّاً، وتكلیفاً محدّداً، ومصیراً معیّناً، وعاقبة مستقلّة، وهو قوله عزّ وجلّ: ﴿وَكُلُّهُمْ ءَاتِیهِ یَوْمَ الْقِیَامَةِ فَرْداً﴾[3]، أی إنّ كلّ فرد من بنی آدم یُحشر یوم القیامة بمعزل عن الآخرین؛ ﴿فَلا أَنْسَابَ بَیْنَهُمْ﴾[4]، فالعلاقات الدنیویّة التی كانت تجمع الأفراد تتفكّك فی ذلك الیوم ولا یُسئل امرؤ عن أبیه أو أمّه، بل إنّه: ﴿یَوْمَ یَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِیهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِیهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِیهِ﴾[5]. فكلّ امرئ یومئذ تشغله أعماله، والناس فی ورطة وابتلاء عظیم بحیث یفرّ بعضهم من بعض.
إذن فلكلّ فرد من البشر فی الإسلام – من ناحیة - استقلالٌ وكیان شخصیّ وهو یحاسَب بمعزل عن الآخرین، كما أنّ الإسلام - من ناحیة أخرى – قد سنّ أحكاماً وجعل قیماً اجتماعیّة أیضاً. فاهتمام الإسلام بخدمة الآخرین قد بلغ حدّاً بحیث إنّه أحیاناً یُجزِل ثواباً عظیماً على تقدیم خدمة صغیرة. فقد ورد فی بعض الأخبار انّ ثواب قضاء حاجة الآخرین، وعلاج مشكلاتهم، وكشف الهمّ والغمّ عن قلوب الأرحام، ومساعدة الناس یزید على ثواب مئات الحجج والعمرات المقبولة[6].
من هنا فمن المیسور القول إنّ الإسلام قد أقرّ بأصالة الفرد على الصعید الفلسفیّ، أمّا على المستوى الأخلاقیّ الاجتماعیّ فهو یقول بأصالة المجتمع ویقدّم منفعة الجماعة على مصلحة الفرد. فالإسلام یفصل بین الشخصیّة المستقلّة لكلّ فرد وما یتعیّن علیها من تكالیف فردیّة، وبین علاقات الأفراد مع بعضهم البعض وتعاملاتهم الاجتماعیّة، فلا ینبغی أن نقع فی فخّ المدارس الإلحادیّة عبر الخلط بین هاتین القضیّتین.
لكن على أیّ أساس یا ترى تمّ وصف أهل الآخرة بأنّهم «كثیر نفعهم» أو نعت أهل الدنیا بأنّ: «نفعهم قلیل»؟
لقد ذكرنا سابقاً أنّه ثمّة أُناس لا یؤمنون بوجود الآخرة، وهم یعتقدون: «إِنْ هِیَ إِلاَّ حَیاتُنَا الدُّنْیا نَمُوتُ وَنَحْیا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثینَ»[7]، ویزعمون بأنّ الإنسان إنّما یولَد فی یوم من الأیّام، ویعیش فی هذه الدنیا بضع سنین، ثمّ یموت فی نهایة المطاف، وتنتهی دورة وجوده بتبدّل جسده إلى تراب. واعتماداً على وجهة نظر أمثال هؤلاء، الذین «نَسُواْ یَوْمَ الْحِسَابِ»[8]، فإنّه لیس ثمّة تبریر عقلانیّ لإسداء الخدمات للآخرین والحرص على معالجة مشكلات الناس والنظر فی قضایاهم، لأنّه یتحتّم على كلّ امرئ أن یعمل قدر المستطاع على استغلال فرصته المحدودة فی هذه الحیاة الدنیا فی التمتّع باللذّات. فلو خُلِّیَ بین المرء ولذّاته، ولم یكن ثمّة مَن یحاسبه، فأیّ دافع من شأنه أن یدعوه إلى ترك اللذّة وتحمّل عناء خدمة الآخرین یا ترى؟
وفی المقابل فإنّ الذی یعتقد بوجود عالم آخر سوف یُثاب فیه أو یعاقَب على أعماله، فسوف یحذر من ظلم الآخرین، لعلمه بأنّ عذاباً سیحیق به فی الآخرة جرّاء ظلمه. كما أنّه یعلم أنّ أیّ خدمة یسدیها إلى الناس فی الحیاة الدنیا فسیثاب علیها أضعافاً مضاعفة فی العالم الآخر. فأیّ صفقة أعظم ربحاً من هذه؟!
إنّ التبعات التی أتحفنا بها الفكر الإلحادیّ المتمثّل بمذهب أصالة الفرد ونزوع طلاّب الدنیا نحو اللذّات هی تلك التی نشاهدها الیوم فی أغلب أصقاع العالم؛ ألا وهی تفكّك الأسرة، وعدم مبالاة الأولاد بآبائهم، ومحوریة الذات، و..الخ. وفی المقابل فإنّ الإیمان بالمعاد والحساب والكتاب یبعث فی الإنسان حالة المراقبة لأفعاله وأقواله وغضّ الطرف عن بعض اللذّات العابرة، لینال فی الآخرة أضعافها من الأجر والثواب. بالطبع من الممكن أن یعتقد البعض، على مستوى اللسان، بالمعاد كجزء من أصول دینه، غیر أنّ حیاته – من الناحیة العملیّة – لا تختلف عن حیاة الكافر! بل لربما كان لبعض الكفّار سلوك أكثر سلامة وأخلاقیّة من سلوك بعض مدّعی الاعتقاد بالله ورسوله. فهمّ هؤلاء المدّعین الزائفین هی أمور الدنیا، وإن زعموا بألسنتهم شیئاً آخر. بل إنّ أمثال هؤلاء یستغربون من مخاوف الآخرین حیال الآخرة! وهذه هی طبیعة النظر إلى الحیاة الدنیا بنظرة كونها أصیلة والتی من لوازمها الإیمان بمذهب أصالة الفرد، وطلب اللذّة، وحبّ الذات. وحتّى لو قدّم أمثال هؤلاء خدمة إلى غیرهم فهم – فی الواقع – یرومون استجداء منفعة دنیویّة منهم. فی حین أنّ الشخص المؤمن بالآخرة، الذی لا یروم من أعماله غیر الحصول على المزید من الثواب یوم القیامة، یؤْثِر خدمة الآخرین – ابتغاء أجرها الأخرویّ الجزیل – على لذّاته ومصالحه الشخصیّة فی هذه الدنیا.
وأعلى من هؤلاء أولئك الذین ذاقوا حلاوة محبّة الله وهم یعلمون أنّ الله تعالى فیّاض ورؤوف إلى درجة أنّه خلق الكون كلّه من أجل إفاضة رحمته، وأنّ كلّ مخلوق من مخلوقات هذا العالم هو رمز ومظهر للرحمة الإلهیّة. فالله یحبّ جمیع هذه الموجودات ویرغب فی أن تتكامل كی تستحقّ المزید من رحمته. ومن هذا المنطلق فإنّ الذی یحبّ الله تعالى ینبغی أن یحبّ عباده، ومثلما یرغب هو فی بلوغ الكمال، فإنّ علیه أن یسعى فی تكامل باقی العباد أیضاً. وهی نظرة تحتلّ مقاماً أعلى وألطف من مقام طلب ثواب الآخرة وخوف عقابها. وتأسیساً على هذه الرؤیة فإنّ محبّة الله ستمثّل الباعث الوحید لخدمة خلق الله تبارك وتعالى. فالمؤمن الذی یحبّ الله سوف لا یتحمّل حتّى رؤیة حیوان جائع، لأّنه مخلوق من مخلوقات الله عزّ وجلّ.
بالطبع هناك فی هذا المجال، كما فی المجالات الأخرى، إفراط وتفریط. فالبعض – على سبیل المثال – یعتقد، استناداً إلى هذه الفكرة، بأنّه لا ینبغی إعدام كائن حیّ أو قتل حیوان على الإطلاق، لأنّ الله هو الذی قد وهبه الحیاة. ولقد بلغ الإفراط فی هذا المضمار إلى حدّ تقدیس البقرة، مثلاً، بل وعبادتها فی بعض المذاهب الهندیّة. وحرّم بعضهم الآخر على نفسه أكل لحم أیّ حیوان.
لقد نسی هؤلاء بأنّ الله تعالى قد صاغ نظام هذا العالم بحیث لابدّ، من أجل خلق أیّ ظاهرة جدیدة، أن یصار إلى دمج الظواهر السابقة بها، أو محوها. من باب المثال، فإنّ المخلوق الحیّ بحاجة، من أجل البقاء على قید الحیاة، إلى الغذاء. وإنّ الإله الذی خلق هذه المخلوقات قد صمّم نظامَ العالم بحیث تفدی بعض هذه المخلوقات نفسها فی سبیل تكامل المخلوقات الأخرى. فالشاة مهما طال عمرها تبقى شاة، أمّا الإنسان فباستطاعته الرقیّ لیصبح «ابن سینا»، أو «سلمان الفارسی» (علیهما الرحمة). إنّه قانون الله. فالله تعالى هو الذی أمر الإنسان، من أجل أن یبقى حیّاً، بأكل لحم الشاة. لكن علینا أن نعلم أنّنا من دون إذن الله تعالى لا یجوز لنا القیام بذلك.
بالرجوع إلى ما قیل سلفاً نفهم أنّ علینا أوّلاً إصلاح رؤیتنا، وأن نعلم ما نحن؟ هل نحن مجرّد هذا البدن المادّی الذی سیموت ذات یوم ویتحوّل إلى تراب؟ أم ثمّة جزء آخر فینا اسمه الروح قد نفخها الله فی أجسامنا: «نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی»[9]، وسیستردّها مَلَك الموت یوماً منّا: «تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا»[10]، «قُلْ یَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ»[11]؟ والاستیفاء یعنی أخذ الشیء كلّه دفعة واحدة، ویعنی أنّ ملَك الموت یأخذ روحكم ووجودكم مرّة واحدة. فالبدن الذی تراه هو ثوب ستخلعه یوماً ما وسیتحوّل إلى تراب. وإنّ هویّتك الرئیسیّة هی شیء آخر یبقى مصاناً محفوظاً حتّى بعد الموت، بل وإلى یوم القیامة، ثمّ تعود كرّة أخرى، وتُبصر ثمار أعمالك.
علینا أن نعلم أنّ الحیاة فی هذه الدنیا هی عبارة عن دورة جنینیّة، أمّا الحیاة الأصیلة فتشرع بعد الموت. بل هناك علاقة تربط هذه الحیاة بالحیاة فی الآخرة. فعلینا أن نزرع فی هذا العالم، كی نحصد ما زرعنا فی العالم الآخر. فلیس ذلك العالم محلاًّ للزرع والغرس.
نستشفّ من ذلك أنّ علینا الإفادة غایة الفائدة من أعمارنا، وأن نزرع ما استطعنا إلى ذلك سبیلاً، ونصون ما زرعنا، كی یوافینا یوم القیامة سالماً صحیحاً، فنكون قادرین فی ذلك الیوم على الانتفاع منه.
أمّا إذا أغفل المرءُ الآخرةَ فسیُبتلى بمذهب أصالة الفرد، واللهث وراء اللذة، وحبّ الذات، وسیكون كلّ ما یملك منحصراً فی هذه الدنیا، ولن یكون له فی الآخرة شیء یحصده.
وكلّما قویت هذه العقیدة فی النفس تراءَت القیم المذكورة للإنسان بشكل أوضح، لوجود علاقة منطقیّة بین تلك المعتقدات وهذه القیم. ومن باب المثال فإنّ الذین لا یحملون مثل هذا الإیمان هم كمَن: «أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِیعَةٍ یَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ یَجِدْهُ شَیْئاً»[12]. فهؤلاء یأتون بأعمال یتخیّلون أنّها ذات قیمة عظمى، لكن بمجرّد ما یفتحون أعینهم على عالم الآخرة، فهم لا یرون شیئاً: «وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً»[13]. أناس كهؤلاء لیست أعمالهم، كلّ أعمالهم، سوى هباء منثور لیس له أدنى قیمة.
فالعمل ذو القیمة هو ذلك الذی یؤتى به عن إیمان: «وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْیَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولـٰئِكَ كَانَ سَعْیُهُمْ مَشْكُوراً»[14]. فلو كان سعی الإنسان وجهده نابعاً عن إیمان، فهو قیّم.
بناءً على ما تقدّم، فنحن مطالَبون بتدعیم ركائزنا الفكریّة قدر ما نستطیع. فكلّما كان إیماننا أعظم قوّة، وأشدّ وضوحاً، وأكثر رسوخاً وتجذّراً، كانت أعمالنا أكبر قیمة، وكانت فی سعادتنا الأبدیّة أمضى أثراً.
وصلّى الله على محمّد وآله
[1]. بحار الأنوار، ج74، ص24.
[2]. إشارة لأبیات سعدی، الشاعر والأدیب الإیرانی المعروف: «بنی آدم اعضای یکدیگرند * که در آفرینش ز یک گوهرند؛ چو عضوی به درد آورد روزگار * دگر عضوها را نماند قرار».
[3]. سورة مریم، الآیة 95.
[4]. سورة «المؤمنون»، الآیة 101.
[5]. سورة عبس، الآیات 34 - 36.
[6]. على سبیل المثال ما جاء فی الأمالی للصدوق، ص237 عن الصادق (علیه السلام) یقول: «قضاء حاجة المؤمن أفضل من ألف حجّة مُتقبَّلة بمناسكها وعتق ألف رقبة لِوجه الله وحُملان ألف فرس فی سبیل الله بسُرُجها ولُجُمها».
[7]. سورة «المؤمنون»، الآیة 37.
[8]. سورة ص، الآیة 26.
[9]. سورة الحجر، الآیة 29.
[10]. سورة الأنعام، الآیة 61.
[11]. سورة السجدة، الآیة 11.
[12]. سورة النور، الآیة 39.
[13]. سورة الفرقان، الآیة 23.
[14]. سورة الإسراء، الآیة 19.
(47)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 22 تموز 2014م الموافق للیلة الخامسة والعشرین من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
موضوع بحثنا فی المحاضرات السابقة تناول صفات أهل الآخرة التی ذكرها ربّ العزّة فی لیلة المعراج. وقد خصّ بعض هذه الصفات بعلاقة أهل الآخرة بالناس وهو ما تحدّثنا عنه فی المحاضرة السابقة. لكنّ البعض الآخر منها یتكلّم حول علاقة هؤلاء القوم بالله جلّ وعلا، ومنها قوله تعالى: «تنام أعینهم ولا تنام قلوبهم، أعینهم باكیة وقلوبهم ذاكرة، إذا كُتب الناس من الغافلین كُتبوا من الذاكرین، فی أوّل النعمة یحمدون وفی آخرها یشكرون»[1].
غیر أنّ بعض التعبیرات المذكورة هاهنا غریبة بعض الشیء عنّا، إذ لیس من السهل علینا إدراك مفهوم: نوم العیون ویقظة القلوب.
نعم نحن نعلم إجمالاً أنّه ثمّة طائفة من القضایا تخطر فی ذهن المرء أثناء النوم. فلقد اتّفق أن برزت لمعظمنا فی حال النوم مسائل من قبیل ذكریات الماضی، وتعلّقات القلب، والطموحات، وأشكال الحرمان، وما إلى ذلك. وقد قام بعض علماء النفس بدراسات وبحوث حول قضیّة الحلم، وأنواعه، وارتباطه بشخصیّة النائم، وعلاقاته، وعواطفه، ومیوله، ونشاطاته الیومیّة، وغیرها من القضایا ذات العلاقة، وقد توصّلوا فی هذا المضمار إلى نتائج، مقدّمین إیّاها كقواعد لتفسیر الأحلام. ومن بین هؤلاء فروید، وهو عالم نفس شهیر صنّف كتاباً حول تفسیر الأحلام. بل إنّ لكلّ واحد منّا تقریباً تجارب فی هذا المجال، حیث قد شاهدنا فی عالم الرؤیا أحداثاً، ومسرّات، ومخاوف، وما إلى ذلك.
لكن یا ترى هل المقصود من یقظة القلب أثناء النوم هو مشاهدة هذه المسائل؟ من الواضح أنّه لیس هذا هو المقصود، ذلك أنّ الناس جمیعاً، بما فیهم محبّو الدنیا وطلاّب الآخرة یرون مثل هذه التصوّرات والتلقّیات فی عالم الرؤیا. إذن المراد من هذه العبارة هو مفهوم آخر یخرج فهمه عن دائرة إدراك الأشخاص العادیّین من أمثالنا.
فی ردّ رسول الله (صلّى الله علیه وآله) على سؤال أحد الیهود إیّاه حول خصوصیّاته الشخصیّة قال (صلّى الله علیه وآله) : «تنام عینای ولا ینام قلبی»[2]. وهذه من الخصوصیّات المذكورة فی كتب الیهود لنبیّ آخر الزمان. لكن أنّى للمرء أن یبقى قلبه یقظاً نشطاً وهو فی حال النوم؟
نحن لیس لدینا تصوّر واضح عن هذا المفهوم لكنّنا نعلم أنّه حقیقة، حاله حال الكثیر من الأمور الأخرى التی لا نفهمها ونتصوّر أنّها من قبیل التعبیرات التی یستخدمها الشعراء. فنحن، مثلاً، لا نستطیع أن ندرك جیّداً كیف یبقى الشهید حیّاً بعد أن یُوارى جثمانه الثرى وتمرّ على دفنه أعوامٌ ومن المحتمل أن لا یكون قد بقی منه سوى عظیمات؟ فقد یتصوّر البعض أنّ المراد من حیاة الشهید بعد استشهاده هو بقاء اسمه وذكراه. لكنّ لبعض عوائل الشهداء ضروباً من التواصل مع شهیدهم وهم ینقلون عنه أموراً هی ممّا یثیر الاستغراب والدهشة فی أمثالنا.
ویمكن الإشارة، من باب المثال، إلى قصّة شفاء أمّ الشهید معماریان[3] والتی قد روتها بنفسها قبل بضع سنین فی إحدى القنوات التلفزیونیّة. فلقد أصیبت الأمّ بعد استشهاد ولدها ببضع سنوات بألم شدید فی ساقها. وبعد أن توسّلت فی إحدى اللیالی بسیّد الشهداء (سلام الله علیه) من أجل شفاء ساقها، رأت ولدها الشهید فی المنام وقد أتى لزیارتها. وبعد أن مسح بیده على رأسها ووجهها ربط موضع الألم فی ساقها بخرقة خضراء وقال لها: لقد ذهب ألم ساقك. تقول أمّ الشهید المبجّلة: بعد أن صحوت من نومی وجدت نفس الخرقة الخضراء وقد رُبطت بساقی ولیس ثمّة أیّ أثر للوجع.
وبعد مدّة بلغ هذا الخبر المرحوم آیة الله العظمى الكلبایكانی (رضوان الله تعالى علیه) فأرسل فی طلب أمّ الشهید معماریان واستخبرها عن تفاصیل القصّة. وبعد أن قارن الخرقة الخضراء وعطرَها مع عطر تربة سیّد الشهداء (علیه السلام) التی فی حوزته، والتی قد وصلته من أجداده الطاهرین، قال: «هذه الخرقة مصدرها نفس المكان الذی جُلبت منه هذه التربة». هذا ناهیك عن المرضى الكثیرین الذین تماثلوا للشفاء بسبب هذه الخرقة الخضراء اللون.
فأنّى لشابّ یافع، قد استُشهد قبل سنوات عدیدة ثم وُوری جسده الثرى، أن یربط ساق أمّه فی عالم الرؤیا بخرقة، وإذا بنفس هذه الخرقة، بعطرها ولونها، تبقى على حالها فی عالم الیقظة؟!
وهناك نماذج لا تحصى من هذه القصص قد مرّت بأُسر الشهداء، لكن من غیر المعلوم إلى أیّ مدى یمكننا أن نتعامل معها بجدّیة ومن صمیم قلوبنا!
وللقرآن الكریم فی هذا الخصوص تعبیرات عجیبة. فهو یقول ابتداءً فی آیة كریمة: «وَلا تَقُولُوا لِمَنْ یُقْتَلُ فی سَبیلِ اللهِ أَمْواتٌ»[4]. ولعلّ البعض یتصوّر هذ الأمر من باب مراعاة احترام الشهید. لكنّه یقول فی آیة أخرى: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذینَ قُتِلُوا فی سَبیلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْیاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُون»[5]. ونحن لا نعی جیّداً المراد من أنّ الشهداء یُرزقون. إذ لعلّه یعنی أنّه ثمّة كمالات أكثر ستظهر للشهداء عند ربّهم. لكنّ المتیقّن هو تأكیده المبرم على ضرورة عدم الظنّ بأنّ الشهداء أموات، بل إنّهم أحیاء. وإنّ الذی یملك أقلّ إیمان بالله عزّ وجلّ ورسوله (صلّى الله علیه وآله) والقرآن الكریم لا یستطیع المرور أمام هذه التعبیرات مرور الكرام، بل إنّ من الواضح لكلّ امرئ أنّ هذا الكلام لا یأتی من باب المجاملة ولا بوصفه كلاماً شعریّاً، بل إنّه یحكی عن واقع. لاسیّما عندما نقف على هذا الكمّ الهائل من الشواهد والآثار العینیّة على كون الشهداء أحیاء وكیف أنّهم یعالجون ما یواجه أسرهم من مشكلات، ویرشدونهم عند تأزّم الأمور، ویبشّرونهم بأمور معیّنة، ...الخ.
كلّ هذه الأمثلة تشیر إلى وجود حقیقة دامغة نعجز نحن عن مشاهدتها، لكنّها موجودة على أیّة حال. فالشهید حیّ، وهو ینجز أموراً، وینطق بكلام، وتصدر عنه تصرّفات ممّا یستحیل تحقّقه من الإنسان المیت. بالطبع لیس جمیع الشهداء فی مستوى واحد، بل إنّهم یختلفون فی المقامات، لكنّ المقدار المتیقّن به هو أنّ هناك من بین الشهداء من یقوم بأعمال كثیرة، وتتوسّل بهم عوائلهم وغیر عوائلهم فیقضون حوائجهم. وهذه نماذج من الحقائق التی باتت، بفضل شهداء حرب الدفاع المقدّس، تشاهَد عیاناً إلى حدّ ما، حتّى زال ما كان یرین علیها من شكوك وشبهات، وتهّیأت الأرضیّة المناسبة لتصدیقها من قِبل الناس.
ومن الحقائق الأخرى التی یشقّ علینا استیعابها هی بقاء قلوب بعض الناس وأرواحهم یقظة ناشطة فی وقت تنام فیه أعینهم.
لعلّ أحلام غالبیّة الناس - كما یشیر إلى ذلك بعض علماء النفس - هی نتیجة نشاطاتهم أثناء الیقظة ومتأثّرة برغباتهم الباطنیّة. لكنّه ثمّة أشخاص عادیّون أیضاً، من غیر أولیاء الله، ممّن یفیدون من ساعات نومهم أكثر مما یفعلون فی ساعات صحوهم. إذ كان یوجد من بین العلماء مَن لم یتوصّل إلى حلّ مسألة ما حتّى بعد طول التفكیر والتأمّل فیها حال الیقظة فإذا به یعثر على جوابها فی المنام ثمّ یتذكّر الجواب بكلّ وضوح بعد الصحو. أو بعض من لم یجدوا لمعضلتهم حلاًّ حال الیقظة لكنّهم بلغوا النتیجة المرجوّة أثناء النوم.
هناك قصّة معروفة مفادها أنّ شخصاً كان قد أمّن كتاباً لدى المرحوم الشیخ عبّاس القمّی (رضوان الله تعالى علیه) وبعد أن توفّی الشیخ جاء الرجل إلى وُلْده مطالبًا بكتابه، فلم یتمكّنوا من العثور علیه. وقد نقل أحد أولاد الشیخ قائلاً: «رأیت والدی الشیخ عبّاس القمّی فی عالم الرؤیا فأخبرنی بموضع الكتاب الذی نبحث عنه فی المكتبة. وعندما صحوت من نومی توجّهت إلى ذات المحلّ الذی أخبرنی به فی المنام فإذا بی أجد الكتاب هناك». إذن مثل هذه الحوادث تقع حتّى للأشخاص العادیّین.
ویحكی أحد الأصدقاء وقد كان طالب علوم دینیّة فی مدرسة الحاج أبی الفتح فی طهران، وكان إلى جانب درسه الحوزویّ یعطی هو درساً أیضاً: «فی إحدى اللیالی بقیت مستیقظاً أطالع الدرس الذی علیّ إلقاؤه فی الغد. وفی ساعة متأخّرة من اللیل قالت لی والدتی، بعد أن استیقظت عدّة مرّات أثناء اللیل وشاهدتنی على تلك الحال: «كفاك مطالعة یا بُنیّ، إذهب إلى فراشك»! ومع أنّنی لم اُنهِ مطالعتی بعدُ، قلت فی ذات نفسی: لعلّی أتسبّب فی إیذاء أمّی لو تابعت المطالعة. فأغلقت الكتاب وأویت إلى الفراش. وفی عالم الرؤیا وجدت نفسی قد تناولت الكتاب وانهمكت فی مطالعة ما یتعلّق بدرس الغد من نصّ الكتاب وحواشیه بنفس تلك الدقّة التی كنت أتوخّاها فی الیقظة. وعندما توجّهت إلى الصفّ صباحاً شعرت وكأنّنی طالعت الدرس حسبما یلزم وتذكّرت كلّ تفاصیله كما لو أنّنی طالعته فی حال الصحو».
هذا الأمر یحتاج إلى نمط من التركیز الروحیّ ینشأ من شدّة رغبة المرء وتعلّقه بموضوع ما. وتركیز كهذا من شأنه أن یوجّه كلّ تفكیر المرء نحو الموضوع المنظور إلى درجة مشاهدة نفسه فی عالم الرؤیا مستغرقاً فی التفكیر فی الموضوع ذاته بالضبط كما لو كان یقظاً. ثمّ إنّ لطف الله عزّ وجلّ قد یشمل الإنسان أحیاناً فیفهم فی الرؤیا بإشراقة ذهنیّة ما لم یفهمه فی حال الصحو.
وقد ذكر المرحوم المیرزا الشیخ جواد ملكی التبریزیّ فی أحد كتبه: «أعرف شخصاً (ولعلّه یقصد نفسه) كدَّ دهراً طویلاً للوصول إلى معرفة نفسه، فلم یتیسّر له ذلك فی عالم الیقظة، حتّى بلغ هذه المعرفة فی لیلة من اللیالی وهو فی المنام، فانتبه من نومه فزعاً بعدما أدرك مدى عظمتها».
وهذا ضرب من یقظة القلب؛ وهو أنّ انشغال بال المرء بأمر معیّن وتركیزه علیه یجعله مشغول الفكر به حتّى فی حال النوم فیتسّنى له الاستمرار بالتفكیر فی شأنه. والحال أنّ الآخرین الذین لا ینشغل بالهم بأمر ما ولا یركّزون علیه لا یقدرون على مثل ذلك.
ومع أنّ من الممكن أن یعود ما ذُكر فی الحدیث أعلاه إلى هذا النمط من الأمور وإلى نتاج التركیز والتعلّق القلبیّ، إلاّ أنّه یسمو على التفكیر، وإنّ لاخیتار المرء فیه أثراً أكبر.
ذكرنا سابقاً أنّ هذا الحدیث تناول سمات أولئك الذین بلغوا أعلى ذرى الإنسانیّة. وهو یقول فی هذا المقطع أیضاً: «تنام أعینهم ولا تنام قلوبهم»، والمراد أولئك الذین یستفیدون من نومهم كما ینتفعون من صحوهم، وكما أنّ كلّ تفكیرهم فی حالة الیقظة منصبّ على الله تعالى فهم فی حالة عبادة قلبیّة، فبإمكانهم أن ینعموا بمثل هذا الالتفات أثناء النوم أیضاً، فلا یكون عندهم فارق – من هذه الناحیة – بین الصحو والرقاد. فأرواح أمثال هؤلاء ملتفتة إلى الله ومتوجّهة إلیه ومشتغلة بعبادته اختیاراً حتّى فی حالة النوم، بل لربما أصابت من النتائج فی تلك الحالة ما یفوق ثماره تلك الحاصلة أثناء الصحو. وكأنّ للأشخاص من هذا القبیل عمرین؛ إذ علاوة على النفع الذی یجنونه من أعمارهم فی حال الیقظة فإنّهم یفیدون منه ویعبدون الله فی ساعات النوم أیضاً.
ومن هذا المنطلق فلقد سبقنا هؤلاء فی هذا المضمار؛ فخلافاً لأمثالنا المحتاجین للجوء إلى الأذكار والأوراد كی نقی أنفسنا من الوقوع فی الوساوس أثناء الرقاد، یشتغل هؤلاء حتّى فی هذه الساعات بعبادة ربّهم ویبلغون – عبر تكامل الروح – مقامات لم یبلغها الكثیرون حتّى فی حال الصحو. وهذه واحدة من خصوصیّات أهل الآخرة حیث یتساوى عندهم نومهم ویقظتهم، ویعبدون الله، وتتوجّه قلوبهم إلیه فی رقدتهم كما یفعلون فی یقظتهم. فلقد نقل البعض: «إنّنا نصحو من نومنا أحیاناً فنجد أنفسنا مشغولین بتردید وِرد معیّن، أو إنّنا انشغلنا بالصلاة من اللحظة الأولى التی غلب فیها علینا النوم، وأتینا بعدّة ركعات قبل أن نصحو شاعرین بآثارها ونورانیّتها بعد الصحو».
الفقرة التالیة من الحدیث تتحدّث عن سمة أخرى من سمات أهل الآخرة وهی: «أعینهم باكیة وقلوبهم ذاكرة» باستمرار. ثمّ یتبع ذلك بالقول: «إذا كُتب الناس من الغافلین كُتبوا من الذاكرین» فلا شیء یشغلهم عن ذكر الله: «رِجَالٌ لا تُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَیْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ»[6]. على عكس الأشخاص العادیّین الذین تلهیهم أصغر الأشیاء عن ذكر ربّهم، بل وقد ینسون حتّى صلاتهم. فالجوع والعطش وغیرها الكثیر من المسائل التافهة من شأنها أن تشغل معظمنا أثناء الیوم واللیلة، أمّا أهل الآخرة فلا یلهیهم أیّ شیء عن ذكر الله عزّ وجلّ.
«أعینهم باكیة وقلوبهم ذاكرة، إذا كُتب الناس من الغافلین كُتبوا من الذاكرین». فأغلب المؤمنین یذكرون الله فی حال الصلاة وحضور قلوبهم أثناءها محفوظ إن شاء الله؛ إذ «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ»[7]. فمن الطبیعیّ أن یكون المؤمن فی حال الصلاة، واثناء تلاوة القرآن، وفی مجلس الموعظة ذاكراً لله تعالى ولأولیائه. لكنّ المرء عادة یغفل فی بعض المواطن عن هذه الأمور. فلو حصل حریق، مثلاً، فی مكان ما فسینشغل كلّ امرئ فی إنقاذ نفسه من النار وسوف لا یكون ذاكراً لله بطبیعة الحال. وعندما یصاب موضع من جسم ابن آدم بألم شدید فسوف ینعدم التفاته إلى الصلاة والدعاء. ولو أصاب الإنسان بهجة غامرة ونشاط مفرط فسینسى كلّ شیء إلى درجة أنّه قد یصاب بالجلطة. هكذا هو ابن آدم. لكنّ لله عباداً لا یغفلون عن ذكره مهما كانت الظروف؛ ففی حال المصیبة والبلاء یستعینون بربّهم لحّل مشكلاتهم، وفی ساعة الفرح والبهجة یشكرون الله على ما أنعم به علیهم، وإذا واجهتهم معضلة علمیّة توسّلوا بدایةً إلى الله فی حلّها؛ فمع انتفاعهم ممّا وهبهم خالقهم من ذكاء وقابلیّة وعقل، ومع الإفادة من الاستاذ الذی وفّره الله لهم، والكتاب الذی جعله سبحانه تحت تصرّفهم، فإنّهم یتوّجهون إلى ربّهم قائلین: إلهی! ألهمنی فهماً یمكّننی من حلّ معضلتی العلمیّة. فمثل هؤلاء هم أهل الآخرة.
لقد قیل فی أوصاف أهل الدنیا إنّهم لا یشكرون أنعم الله، ولا یشكرون الآخرین على إحسانهم، ولا یصبرون على المصائب، بل یجزعون ویفزعون، أمّا أهل الآخرة - فی المقابل - فإنّهم: «فی أوّل النعمة یحمدون وفی آخرها یشكرون»؛ فهم یشكرون الله تعالى ابتداءً بمحض قدوم النعمة وقبل الانتفاع منها.
أغلب الناس یجرون على ألسنتهم عبارة «الحمد الله» بعد أن یكونوا قد انتفعوا من النعمة بما فیه الكفایة، لكنّ أهل الآخرة یشكرون الله فی البدایة ویثنون علیه فی النهایة بما أنعم علیهم من النعم وجعل فی متناولهم من الأسباب، معترفین بأنّهم غیر قادرین على شكر تمام نعم ربّهم. هؤلاء هم أهل الآخرة. لكن لو انهالت السماء على أهل الدنیا نعماً لظلّوا یئنّون من النقص الفلانی! ولو قدّم لهم إنسان عشرات أنواع الإحسان لأمطروه بوابل من الشتائم على خطأ واحد. فهم ینظرون أبداً إلى النصف الخالی من الكأس. أمّا أهل الآخرة فإنّهم دوماً یشاهدون الحسنات، ویرضون بكلّ ما فی حیاتهم، ویشكرون الله على كلّ ذلك. برأیكم أیّ واحدة من هذه الحالات أفضل؟
اللهمّ ببركة أولیائك وعنایتهم ألحقنا بأهل الآخرة.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
[1]. بحار الأنوار، ج74، ص24.
[2]. بحار الأنوار، ج22، ص27.
[3]. الشهید محمّد معماریان أحد شهداء حرب الدفاع المقدّس التی دامت ثمانی سنوات.
[4]. سورة البقرة، الآیة 154.
[5]. سورة آل عمران، الآیة 169.
[6]. سورة النور، الآیة 37.
[7]. سورة العنكبوت، الآیة 45.
(48)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 23 تموز 2014م الموافق للیلة السادسة والعشرین من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
«دعاؤُهم عندَ اللهِ مرفوع، وكلامُهُم مسموع، تَفرحُ الملائكةُ بهم، یدورُ دعاؤهُم تحتَ الحُجُب، یحبُّ الربُّ أن یسمعَ كلامَهُم كما تحبُّ الوالدةُ ولدَها، ولا یشغَلُهم عنِ اللهِ شیءٌ طرفَةَ عین»
دار كلامنا فی المحاضرات الفائتة حول خصوصیّات أهل الدنیا وأهل الآخرة الواردة فی حدیث المعراج القدسیّ. وإنّ من أوصاف أهل الآخرة التی یذكرها جلّ جلاله فی الحدیث هی: «دعاؤُهم عندَ اللهِ مرفوع، وكلامُهُم مسموع». وإذ كنّا قد نوّهنا فیما سبق بأنّ كلّ صفة من صفات أهل الدنیا هی مقابلة لصفةٍ عند أهل الآخرة، فإنّ المفهوم من ظاهر الوصف المبیَّن لأهل الآخرة فی هذا المقطع أنّ كلام أهل الدنیا غیر مسموع عند الله عزّ وجلّ. لكنّنا نعلم، من جانب آخر، أنّ من صفات الباری تعالى أنّه یعلم بكلّ شیء، ویسمع كلّ مسموع، ویرى كلّ مرئیّ، فكیف یمكن إذن أن لا یسمعَ سبحانه صوتاً ما؟ ومثل هذا السؤال یُطرح أیضاً فیما یتعلّق بنظر الله إلى عباده المطیعین وعدم نظره إلى الكفّار وأهل المعصیة.
لعلّ من أشدّ ألوان العذاب التی تحیق بالكفار یوم القیامة، بحسب القرآن الكریم، هو ما جاء فی قوله تعالى: «وَلا یُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا یَنْظُرُ إِلَیْهِمْ یَوْمَ الْقِیَامَةِ»[1]. لكنّ السؤال الذی یتبادر إلى الذهن حول هذه الآیة هو: أنّى للكّفار أن یغیبوا عن نظر الله عزّ وجلّ وهو الذی عِلمُه ذاتیّ، وكلّ شیء حاضر أمامه، وما من شیء یغیب عنه؟
أجاب البعض على نظائر هذه الاستفسارات بأنّ المقصود من النظر والسمع هنا هو ذلك الذی یحصل منه الأثر المطلوب، ذلك أنّه لیس كلّ سمع أو نظر بِمُنتهٍ إلى فائدة. فلتتصوّروا شخصاً لا یحفَل بكلام غیره حتّى وكأنّه لا یسمعه وهو یبغی بذلك إهانته والاستخفاف به. فلیس أنّ صوت ذلك الشخص لا یصل إلى أذنه، بل إنّه لا یلتفت إلیه ویقال هنا: إنّه لم یسمع كلامه. وعلى العكس، إذا اعتنى المرء بشخص عنایة خاصّة التفت إلى قوله وأصغى إلیه بدقّة. وهذا الاستماع غیر ذاك السماع ووصول الصوت إلى الأذن، فهو سماع تحصل منه نتیجة.
بناءً علیه فإنّ المراد من العبارة المساقة فی هذه الفقرة من حدیث المعراج هو أنّ الله عزّ وجلّ یرتّب الأثر على كلامهم، فیستجیب دعاءهم، ویجزیهم عن كلامهم الطیّب ثواباً. وفی المقابل، وبحسب بعض الأخبار، فإنّ دعاء بعض المذنبین، وبسبب ما اجترحوا من المعاصی وكفَروا به من النعم، یُرَدّ علیهم ویُضرب على رؤوسهم، أی إنّه لا یصل إلى المقام الذی یكون فیه مسموعاً ومُنتجاً للأثر المطلوب.
ثمّ یأتی الحدیث على ذكر أمر مثیر للعجب یشقّ علینا إدراك كُنهه، وهو حینما یقول سبحانه وتعالى: إذا دعا أهل الآخرة فرحَ الملائكةُ من سماع أصواتهم. وفوق ذلك: إذا بلغ دعاؤهم العرش والكرسیّ دارَ تحت ما یوجد هناك من الحُجُب، وإنّ الله یُسَرّ بسماع أصوات هؤلاء العباد. وشبیه بهذا ما جاء فی بعض الروایات من أنّ العبد الذی یحبّه الله إذا دعا ربّه لحاجة لم یقضِ الله له حاجتَه من فوره وذلك من أجل أن یلحّ أكثر فی الدعاء فیسمع الله صوته: «إنّ العبد لَیدعو الله وهو یحبّه فیقول لجبرئیل: اقض لعبدی هذا حاجتَه وأخّرها فإنّی أحبّ أنْ لا أزال أسمع صوته»[2].
ثمّ یعرّج الحدیث، متابعةً للموضوع، على تشبیهٍ یدعو المرء إلى المزید من التعجّب والاستغراب، وذلك حینما یشبّه اللهَ سبحانه وتعالى بالأمّ التی تحبّ ولدها وتفرح بسماع صوته، حینما یقول: «كما تحبُّ الوالدةُ ولدَها»!
إنّ إدراك مفاهیم هذه الأوصاف فیما یتّصل بالله تعالى تتخّطى حدّ فهم ابن آدم، اللهمّ إلاّ إذا بلغ مقاماً یشاهد فیه هذه الصفات وتجلّیاتها بنفسه. على أنّ الله عزّ وجلّ، ومن أجل رفع مستوى فهم عباده وحثّهم على معرفته أكثر، یخاطبهم بلغة یفهمونها. فتارةً یقول: «لَیسَ كَمِثلِهِ شَیْءٌ»[3]. بمعنى: على الرغم من إمكانیّة العثور على صفات لدى بنی آدم شبیهة بتلك المذكورة لله تعالى، إلاّ أنّه ما من مخلوق یشبهه سبحانه. لكن من حیث إنّ الألفاظ والمفاهیم لا تتّسع لأزید من استیعاب فهم الإنسان فإنّه لا مناص من الإفادة من نفس هذه الألفاظ لبیان صفات الله تعالى، وإنّنا نحاول تدارك هذا الضعف عبر تنزیه الله عزّ وجلّ من أوجه النقص. فهو عالِم، لكّن علمه لیس كعلمنا، وهو قدیر، بید أنّ قدرته لیست فی عضلات ساعده المفتولة. وإنّ من صفات الله السلبیّة التی ینبغی لنا جمیعاً الاعتقاد بها هو أنّ صفاته لیست زائدة على ذاته، بل هی عین ذاته، فما بالك بكون أفعاله زائدة على ذاته!
وقد یظنّ البعض أنّ غضب الله الوارد فی بعض التعابیر القرآنیّة كقوله: «وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَیْهِ»[4] یشبه غضب الإنسان فی احمرار الوجه وانتفاخ الأوداج وارتفاع الصوت! وجمیعنا یعلم طبعاً أنّ حالات من هذا القبیل لا تلیق بشأن مقام الألوهیّة، لكن لابدّ، بشكل من الأشكال، من بیان تفاوت سلوك الله جلّ وعلا تجاه أعمال عباده الحسنة والقبیحة.
التعبیر الآخر الذی یتطلّب توضیحاً أكثر هو قوله تعالى: «فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ»[5]. وتُستعمل كلمة «آسَفَ» إذا انزعج المرء غایة الانزعاج من سلوك قبیح غیر لائق صدر من غیره. والتبریر العامّ لاختلاف هذه الصفات بین الله عزّ وجلّ والبشر یكمن فیما جاء فی القرآن الكریم تحدیداً كقوله تعالى: «لَیْسَ كَمِثلِهِ شَیْءٌ»[6]. ولعلّ من أروع ما جاء فی الروایات والأدعیة فی تنزیه الله تبارك وتعالى من وجوه نقص الصفات المستخدَمة بشكل مشترك بین الله ومخلوقاته هو ما ورد فی دعاء عرفة: «إلهی تَقدَّسَ رضاك أن تكون له علّةٌ منك فكیف یكون له علّةٌ منّی»[7]. فقد نحسَب أحیاناً أنّنا قد أرضَینا الله عنّا بما جئنا به من فعل. وتحلیل مثل هذا التصوّر هو أنّ الله سبحانه قد وقع تحت تأثیر فعلنا وانفعلَ به. لكنّ قولاً كهذا لا ینسجم مع التوحید. إذ یقول سیّد الشهداء (صلوات الله علیه) فی المقطع المنقول من دعاء عرفة: إلهی، إنّ رضاك أكبر من أن تُحدِث أنتَ علّةً له. فحتّى لو أوجد اللهُ نفسُه علّةً لرضاه كان الرضى الحاصل معلولاً لهذه العلّة وحالةً انفعالیّة، والحال أنّ الرضى لیس بأمر خارجٍ عن ذات الله كی توجِدَه علّةٌ، حتّى وإن كان الله نفسُه هو الموجِد لها. «إلهی تَقدَّسَ رضاك أن تكون له علّةٌ منك فكیف یكون له علّةٌ منّی»، أی إذا كانت الحال هذه فكیف یكون فِعلی هو العلّةُ لرضاك؟!
فی میسورنا القول - إجمالاً - فیما یتعلّق بهذه الأوصاف: إنّ بعض المفاهیم هی معانٍ إضافیّة تُتَّخذُ لموجودَین. فإذا كان أحدُ طرفی النسبة هو الله الذی لیس له حالات متعدّدة، جُعلَت التغیّرات النسبیّة للطرف المقابل لكونه مخلوقاً وخاضعاً للتغیُّر. فإذا قیل، مثلاً: «وَلَمَّا یَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِینَ جَاهَدُواْ مِنْكُمْ وَیَعْلَمَ الصَّابِرِینَ»[8] فالكلام فی اختبار العباد هنا من قبل الله تعالى، لیعلم أیّهم أهل جهاد وأیّهم أهل ضعف وقعود، لا یعنی حدوث العلم لله، فإنّ علمَه عزّ وجلّ ذاتیّ قدیم، بل یعنی أنّ علم الله من حیث إنّه منتسب إلى هذا المخلوق فهو حادث. وتندرج فی هذا السیاق أوصافٌ مثل «الرضى» و«الغضب» أیضاً؛ فرضى الله عن أحد لا یعنی حدوث حالة جدیدة فی ذات الباری تعالى، بل إنّ ما بین الله وهذا الشخص من نسبة قد تغیّرت باعتبار كون الأخیر متغیّراً.
ویتعیّن القول، على الرغم من هذه التبریرات، إنّ التعابیر الحاكیة عن سموّ محبّة الله لعبده على حبّ الأمّ لولدها، أو المبیّنة لشدّة شوقه عزّ وجلّ لسماع صوت المؤمن هی تعابیر قاصرة لا تُفصح عن حدود ونطاق محبّة الله جلّ شأنه.
وشبیه بهذا المعنى ما نجده فی حدیث عن الباقر (علیه السلام) فی باب التوبة یقول فیه: «إنّ الله تعالى أشَدُّ فرحاً بتوبةِ عبدهِ من رجلٍ أضلَّ راحلتَهُ وزادَه فی لیلةٍ ظلماءَ، فوجدها؛ فاللهُ أشدُّ فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحِلَتِه حین وجدها»[9]؛ أی إنّ الله عزّ وجلّ أشدّ فرحاً بتوبة عبده العاصی من فرحة الرجل إذا وجد زاده وراحلته بعد أن ضاعا منه فی لیلة ظلماء حتّى أشرف على الهلاك. فهل الله تعالى بحاجة إلى توبة عبده المذنب؟!
والتحلیل الذی یمكن تقدیمه فی هذا الصدد هو أنّه لابدّ لنا من التنبّه إلى أمر كمبدءٍ وأصل وهو أنّه لیس لأیٍّ من كمالات الله حدّ تنتهی عنده؛ فلا نهایة لرحمته عزّ وجلّ، بحیث إنّه – على حدّ قوله تعالى – لو وَزّع كلّ ما خلقَ فی الجنّة لجمیع أهلها من النعم على كلّ عبد من عباده لم تنقص خزائنه مثقال ذرّة، فخزائن رحمته لا نفاد لها وهی لا تنقص مهما أُخذ منها. هذا هو المفتاح الأصلیّ لحلّ مثل هذه المسائل. فالله یحبّ ذاته حبّاً لا نهایة له لأنّ كمالاته لا نهایة لها، وهو یحبّ آثاره كذلك، إذ قد سبق القول بأنّ هاتین المحبّتین لا انفصام لهما، وهذا شبیه بحبّنا نحن لآثارِ مَن نُحبّه. فمع أنّ الآثار ذاتها محدودة، إلاّ أنّ ارتباطها مع الله غیر محدود، ولیس ثمّة من قصور فی عنایة الله ولطفه ورحمته لها. على أنّ الآثار والمخلوقات أوعیتُها محدودة، ولهذا ففی مقدور الله أن یهب كلّ إنسان كلّ ما فی الجنّة من أنعُم لا نهایة لها دون أن ینقص مِلكُه قید أنملة، هذا على الرغم من أنّ وعاء الإنسان لا یتّسع لهذه النعمة غیر المتناهیة. وعلى المنوال نفسه، فلیس جزافاً أن نقول إنّه لا نهایة لاشتیاق الله لتوبة عبده؛ إذ لا محدودیة من جانب الله عزّ وجلّ، وكلّ نقص فی هذا المضمار فهو من جانب العبد.
فإنّ لنا إلهاً كهذا، إلهاً یحبّ المذنبین إلى هذا الحدّ، ویفرح لتوبتهم وأوبتهم أشدّ من فرح ذاك المسافر بلُقیا مائِه وزاده وراحلته بعد ضیاعها. والغرض من استخدام هذه الأمثلة والمفاهیم هو كشف جانب من عظمة لطف الله ورحمته لنا، على أنّ أیّاً منها لا یؤدّی حقّ الموضوع كما هو، فعظمة كهذه لا یمكن بیانها. فهل سیبقى فی قلب المرء أثر لمحبّة غیر الله إذا تبلور لدیه تصوّرٌ - ولو ناقص - لهذه العظمة، خصوصاً وأنّ الله غنیّ كلّ الغنى عن عبده؟
فالله عزّ وجلّ، ولبیان لطفه ورحمته لمخلوقاته، یسوق مثل هذه التعبیرات كی نستأنس قلیلاً بأمثال هذه المفاهیم، فنزداد معرفة به وإقبالاً على طاعته. وإنّ من بین عباد الله تبارك وتعالى مَن بلغ هذا المقام، وهو كلّما دعا ربّه قال الله لملائكته: أخّروا إجابة دعوته كی أُطیل الاستماع إلى صوته وأُسَرّ به، بل إنّ الملائكة هی الأخرى تبتهج وتفرح لدى الإصغاء لصوت هؤلاء العباد وتفتخر بهم: «تَفرحُ الملائكةُ بهم». أیّ عباد هؤلاء؟ إنّهم الذین: «لا یشغَلُهم عنِ اللهِ شیءٌ طرفَةَ عین».
إنّ بعض بنی البشر یُفسد فی الأرض، وإن الملائكة لتشكوا لربّها فسادَه قبل خلقِه: «أَتَجْعَلُ فِیهَا مَنْ یُفْسِدُ فِیهَا»[10]، كأولئك الذین أحرقوا «صبرا وشاتیلا»، وسفكوا دماء الأطفال والنساء الأبریاء. غیر أنّ الله یعرف من بین هؤلاء البشر أناساً لا تعلمهم الملائكة: «إِنِّی أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون»[11]. فمن بین ملیارات من الأراذل المنحطّین من الناس ممن تعلّقت قلوبهم بزخرف الدنیا وزبرجها، یوجد أُناس لا یغفلون عن الله طرفة عین «لا یشغَلُهم عنِ اللهِ شیءٌ طرفَةَ عین»، و«رِجَالٌ لا تُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَیْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّه»[12]. أَوَیمكن ذلك؟!
لقد أثبتت التجارب العلمیّة وتجارب علماء النفس أنّ باستطاعة الإنسان أن یدرك سبعة أمور، بل قال بعضهم ثمانیة، فی آنٍ واحد. ففی الوقت الذی یسمع فیه ویرى یمكنه أن یلمس شیئاً، ویشمّ رائحة، ویتذوّق طعاماً، ..الخ. على أنّ هذا یعنی تقسُّم التفاته على ثمانیة أمور مختلفة. فلربما لا یستطیع المرء، إذا ركّز على أمر واحد، أن یلتفت إلى سائر ما حوله. فالذی یطالع كتاباً مثلاً لا ینتبه إلى الضوضاء المحیطة به. فالإنسان فی الوقت الواحد یستطیع أن یركّز على أمر واحد بشكل كامل، ویتناقص هذا التركیز بمقدار التفاته إلى أمر آخر. بل لقد ورد فی الخبر أنّ الله قد یتجّلى لعباده الصالحین فی الجنّة فیجلب انتباههم إلیه بحیث یذهلون معه عن كلّ شیء. وإنّ هذا النمط من الالتفات إلى الله والتركیز علیه محال فی هذا العالم. فحینما قال موسى (علیه السلام) لربّه: «رَبِّ أَرِنی أَنْظُرْ إِلَیْكَ»، أجابه ربّه: «لَنْ تَرَانِی»[13]، ذلك أنّ هذا العالم لا یستوعب رؤیة الله تبارك وتعالى. ومن أجل أن یُثبت تعالى لموسى (علیه السلام) ذلك قال له: «وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِی»، فإن تحمّل الجبل بعض التجلّی رأیتَنی أنت أیضاً. غیر أنّ الله عندما تجلّى للجبل اندكّ الأخیر وخرّ موسى (علیه السلام) مصعوقاً: «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقاً».
فالله الذی خلقنا ویعلم بأوعیتنا قد طلب منّا أن نبذل جهدنا كی لا ننساه فی كلّ حال. ومن الواضح أنّ الالتفات والتركیز الكامل فی كلّ حال لیس ممكناً بالنسبة لنا فی هذا العالم، ولذا فهو تعالى لم یطلب منّا مثل هذا التركیز، بل هو یتوقّع منّا أن نخصّص، أثناء انشغالنا بأعمالنا، بعضَ انتباهنا له عزّ وجلّ. إذ یقول الله سبحانه للطبقة العادیّة من الناس: «اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِیراً»[14]، ویخاطبهم فی موطن آخر: «فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً»[15]، وكذا فی الأحادیث الشریفة فإنّه لم یُطلَب منّا ما لا طاقة لنا به. والمراد هو أن نتمرّن على حبّ الله وذكره بمقدار ذكر المرء لمن یحبّ والتفاته روحیّاً إلى محبوبه حتّى فی خِضَمّ انهماكه فی سائر أعماله. ونتیجة لهذا التمرین ستنشأ لنا تدریجیّاً مع الله فی كل نواحی حیاتنا آصرة وإن كانت ضعیفة وباهتة، وسوف لا ننساه ولا نغفل عنه مع كل حادثة تافهة. وإنّ عباد الله الذین یجتهدون للوصول إلى هذه المرتبة هم الذین یحبّهم الله جلّ وعلا، ویشتاق لسماع أصواتهم، الأصوات التی تفرح الملائكة أیضاً لسماعها.
نسأل الله ببركة أولیائه أن ینیلنا جمیعاً نفحة من معرفتهم.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین
[1]. سورة آل عمران، الآیة 77.
[2]. وسائل الشیعة، ج7، ص63.
[3]. سورة الشورى، الآیة 11.
[4]. سورة النساء، الآیة 93.
[5]. سورة الزخرف، الآیة 55.
[6]. سورة الشورى، الآیة 11.
[7]. إقبال الأعمال، ج1، ص349.
[8]. سورة آل عمران، الآیة 142.
[9]. الكافی، ج4، ص231.
[10]. سورة البقرة، الآیة 30.
[11]. سورة البقرة، الآیة 30.
[12]. سورة النور، الآیة 37.
[13]. سورة الأعراف، الآیة 143.
[14]. سورة الأحزاب، الآیة 41.
[15]. سورة البقرة، الآیة 200.
(49)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 24 تموز 2014م الموافق للیلة السابعة والعشرین من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
تطرّقنا فی المحاضرات الفائتة إلى بعض أوصاف أهل الدنیا وأهل الآخرة التی أخبر الله عزّ وجلّ بها نبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله) لیلة المعراج.
بهذه العبارات تابع حدیث المعراج قوله فی صفات أهل الآخرة: «النَّاسُ عِنْدَهُمْ مَوْتَىٰ وَاللَّهُ عِنْدَهُمْ حَیٌ قَیُّومٌ كَرِیمٌ، یَدْعُونَ الْمُدْبِرِینَ كَرَماً وَیُرِیدُونَ الْمُقْبِلِینَ تَلَطُّفاً، قَدْ صَارَتِ الدُّنْیَا وَالآخِرَةُ عِنْدَهُمْ وَاحِدَة»[1]، فهو یشیر فی هذا المقطع إلى ثلاث خصوصیّات لأهل الآخرة، سنتعرّض فی هذه المحاضرة إلى أولاها.
یقول الحدیث: الناس فی نظر أهل الآخرة موتى ولیس من حیّ عندهم سوى الله تبارك وتعالى. لكن ما المراد هنا من كون الناس موتى؟
من الواضح أنّه لا یراد بالموت هنا ذلك المعنى الذی یُوقِف قلبَ الإنسان ودماغَه عن العمل ویعطّل أعضاءه وجوارحه، إذ أنّ لجمیع أهل الآخرة وأهل الدنیا فی هذا العالم أعیناً وآذاناً، وهم یتحرّكون، ویتنفّسون، ..الخ. ومن هنا فإنّ «للموت» فی هذه العبارة مدلولاً آخر قد یكون مجازاً أو استعارةً، أو أنه یشیر إلى حقیقة هی فوق فهم العامّة.
وقد وردت فی القرآن الكریم أیضاً تعابیر من هذا القبیل، كقوله تعالى: «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى»[2] یخاطب بذلك نبیّه الكریم (صلوات الله علیه وآله)؛ أی: لا تحزن، فهؤلاء سوف لا یؤمنون بك، لأنّهم كالموتى الذین یتعذّر إسماعُهم. وإطلاق مفردة «الموتى» على الذین لا یؤمنون یأتی من باب أنّهم لا یفهمون ما ینبغی لهم فهمه، ولا یفعلون ما یتعیّن علیهم فعله. ونظیر هذا الإطلاق نجده أیضاً فی آیات قرآنیّة أخرى، كقوله تعالى: «أَوَمَنْ كَانَ مَیْتاً فَأَحْیَیْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً یَمْشی بِهِ فِی النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِی الظُّلُماتِ لَیْسَ بِخارِجٍ مِنْها»[3]. والآیة تقول فی مقام المقارنة بین فئتین من الناس: هل إنّ الذی كان میتاً فأحییناه وجعلنا له نوراً یستعین بضیائه لیمشی بین الناس هو كالقابع فی الظلمات لا یستطیع الخروج منها؟! فالفئة الأولى هم الذین كانوا فی ضلال فأعانهم نور الهدایة على تمییز الحقّ عن الباطل وتبیُّن طریق السعادة. أمّا الفئة الثانیة - فی المقابل – فهم الذین قد توغّلوا فی الظلمات حتّى لم یعُد ثمّة أمل فی خروجهم منها. فالآیة – فی الحقیقة – تكشف عن التقابل بین فئتین من البشر: فئة الموتى الذین اُحیُوا بنور هدى الله، وفئة الموتى الذین انغمسوا فی دیاجی الظلمات فلا یُرجى خلاصهم، فی حین أنّ المقارنة التی یطرحها مقطع حدیث المعراج محطّ البحث هی بین الناس والله جلّ وعلا: «النَّاسُ عِنْدَهُمْ مَوْتَىٰ وَاللَّهُ عِنْدَهُمْ حَیٌ قَیُّومٌ كَرِیمٌ»؛ فما من أحد من البشر، عند أهل الآخرة، له حظّ من الحیاة، فإنّ مثلَهم كمَثَل الموتى، وما من حیّ فی نظر الأخرویّین غیر الله تعالى.
والمراد من «الحیّ» فی هذا المقطع هو الموجود الذی یكون منشأ الأثر على نحو الاستقلال، ولـمّا كان الأخرویّون قد بلغوا فی توحیدهم الأفعالیّ درجةً لا یرون فیها غیر الله تعالى مؤثّراً حقیقیّاً فی الكون، فإنّ الحیّ الحقیقیّ فی رأیهم هو الله فحسب، أمّا المخلوقات الأخرى التی لها تأثیرات فی عالم الطبیعة بمراتب مختلفة فهی وسائل وأدوات لیس لها إلاّ تأثیر مستعار، وهو من الله، وإنّه جلّ وعلا یسترجعه منها متى شاء. فإّن القادر الوحید الذی لیس لأحد بتاتاً أن یسلبَه قدرتَه، والحاضر فی كلّ مكان، والنافذة إرادته فی كلّ شیء، هو الله سبحانه وتعالى. إذن فأهل الآخرة قد وصلوا إلى مرتبة من التوحید الأفعالیّ بحیث لا یرون فیها سوى الله مؤثّراً مستقلاًّ.
یُعنى القرآن الكریم عنایة خاصّة بنسبة جمیع ظواهر الكون إلى الله عزّ وجلّ. فهو یقول فی آیات شتّى: نحن الذین نُنشئ السحاب، ونحن الذین نحركّه، ونسوقه إلى أرض میتة، ونحن الذین نُمطره، فنُنبت به الزرع من الأرض، ونحن نرزقكم من الحبوب والثمار التی نُنبتها فی الأرض، بل نحن نفلق الحبّ الذی یسقط على الأرض. وإنّ هذا التوجّه الخاصّ یُلمَس فی كلّ موضع من كتاب الله وبصور شتّى. بل ویجری هذا النهج أیضاً على أفعال البشر الاختیاریّة، تلك التی لولا الاختیار لما سُئل فاعلها عنها ولما بقی مجال للثواب أو العقاب علیها. ومن هذه الأفعال الإیمان، فلو لم یكن إیمان المرء وقبوله الهدایة نابعاً من اختیاره، فما هی الثمرة المرتجاة منه؟! غیر أنّ الله عزّ وجلّ ینسب إیمان عباده إلى نفسه، فیقول: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ»[4]. وإنّ العلّة وراء تأكید القرآن الكریم على أنّه ما من أمر إلا وبید الله إنجازه هی تنبیه الناس إلى أنّه ثمّة نظام آخر مهیمن على كافّة شؤون الكون وحوادثه هو فوق الأسباب المادّیة والطبیعیّة التی یعیشها الإنسان ویعرفها.
ولتقریب المعنى إلى الذهن لنتصوّر سیّارة تسیر. فإن سُئل مهندس عن كیفیّة سیرها قال: «یمتزج البنزین فی محرّكها بالهواء، فیحترق، فتتحوّل الطاقة الكیمیاویّة إلى طاقة حركیّة تدیر المحرّك، فیعمل الأخیر – عبر القوى المحرّكة – على إدارة العجلات، فتسیر السیّارة». وهذا الجواب صائب. لكن إذا لم یجلس سائق السیّارة خلف المقود فكیف ستسیر؟ فقد لا یلاحَظ السائق، إلاّ أنّ السیّارة بحاجة إلیه إضافة إلى الطاقة والقوى المحرّكة.
فأغلبنا لا یرى فیما یجری فی العالم من أحداث سوى تأثیر العوامل المادّیة ولا یلتفت إلى أنّه ثمّة، مضافاً إلى تلك العوامل، یوجد عامل آخر یسمو علیها هو ضروریّ فی السیطرة على الأمور وتوجیهها، وید أخرى فوق هذه الأسباب تدیر هذا النظام الكونیّ. فحتّى الإنسان الذی یفكّر، ویقّرر، ویرید، ویحرّك أطرافه بقوّته البدنیّة للقیام بعمل ما فهو لیس بخارج عن هذا النظام. فلو صعّدنا نظرتنا عن عالم الطبیعة قلیلاً ورأینا النظام الماثل فوق الأسباب الطبیعیّة، لشاهدنا كیف أنّ جمیع العوامل المتوفّرة فی العالم المادّیّ تُدار بمنظومة أخرى. ولا یعنی هذا بالطبع نفی تأثیر هذه الأسباب، بل إنّ تأثیرها متأثّر بتلك الإدارة. فالقرآن الكریم یحاول، عبر التأكید على دور الله عزّ وجلّ فی جمیع الأمور، السموّ بالإنسان عن حیّز الأسباب المادّیة الضیّق ولفت نظره إلى وجود عامل هو فوق العوامل الظاهریّة، كی یشاهد سائقَ السیّارة الذی یمسك بمقودها أیضاً.
فابن آدم فی سلوكه یقصر نظره عادةً على العوامل الظاهریّة ولا یلتفت إلى محلّ الله تعالى من الإعراب. فالإنسان یجوع، ولابدّ أن یأكل طعاماً لسدّ جوعه، ومن أجل الحصول على الطعام یتحتّم علیه دفع المال، وبغیة كسب المال علیه أن یعمل، فما هو دور الله جلّ وعلا فی هذه العملیّة؟
ومع أنّ أغلب الناس یقرّون بوجود الله، لكنّهم غافلون عن أثره فی مجریات وأحداث العالم، وهذه هی الظلمات التی یسیر فیها ابن آدم. وإنّ باستطاعة كلّ امرئ، بمقدار إیمانه، أن یفتح من هذه الظلمات نافذة إلى النور. فبعض الناس لا یتذكّرون ربّهم إلاّ عند المصائب والملمّات. ویشبّه الله هؤلاء بمن: «رَكِبُوا فِی الْفُلْكِ»[5] (أی السفینة) حتّى إذا هّبت أعاصیر عاتیة، وأخذت أمواج البحر المتلاطم تأخذ سفینتهم ذات الیمین وذات الشمال، واستولى الذعر على كلّ ذرّة فی كیانهم مخافة الغرق، وفقدوا كلّ أمل. فی موقف كهذا لا یبقى أمام الإنسان بُدٌّ سوى التوسّل بالله جلّت آلاؤه. فهاهنا: «دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصینَ لَهُ الدِّینَ لَئِنْ أَنْجَیْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرین»[6]. لكنّ هؤلاء القوم أنفسهم الذین توجّهوا إلى الله داعین ملتمسین فی مثل هذا الظرف تراهم ینسون ربّهم ثانیة بعد ما نجوا ووطأت أقدامُهم برّ الأمان: «فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ یُشْرِكُون»[7]. ألا وإنّ هذه حال أغلبنا! والقرآن الكریم الذی هو نور الله یحاول إنقاذنا من هذه الظلمات كی نرى ید الله فی كلّ شیء فیستقطب اهتمامنا ونعقد علیه آمالنا، فینهل كل ّامرئ من تذكیرات القرآن الكریم بحسب معرفته وإیمانه.
وخلافاً لأغلبنا حیث لا نقیم لله سبحانه وتعالى فی حیاتنا وزناً وتنصبّ آمالنا فی الخلق فقط، فإنّه ثمّة من بین عباد الله مَن یستحوذ الله على اهتمامهم فی كلّ حال، وهم الذین یصفون ربّهم بهذه الصفة: «وَالَّذِی هُوَ یُطْعِمُنِی وَیَسْقینِ»[8]. فحینما سأل النمرود نبیّ الله إبراهیم (علیه السلام): «مَن ربّك». قال إبراهیم: «إنّه الذی یطعمنی الطعام ویسقینی الماء! فلم یقل: «الذی یرزقنی»، بل قال: «الذی یطعمنی». «وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ یَشْفِین»[9]. فمحلّ الطبیب والدواء محفوظ، أمّا الذی یُشفی فهو الله. ومن هنا فإنّه (علیه السلام) یقول: «إِنَّ صَلاتِی وَنُسُكِی وَمَحْیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِین»[10].
هكذا هم عباد الله الخُلّص. فعندما رموا بالنبّی إبراهیم (علیه السلام) بالمنجنیق إلى النار جاءه جبرئیل (علیه السلام) وقال له: «هل لك من حاجة»؟ فقال: «أمّا إلیك فلا»![11]؛ فأنا لست بحاجة إلیك أمّا إلى الله فإنّی محتاج من قمّة رأسی إلى أخمص قدمَیّ. ومیزة عباد الله هؤلاء أنّ «الناس عندهم موتى» لیسوا مصدراً لأیّ أثر. فهم یعاشرونهم، ویحترمونهم، ویقضون حوائجهم، لكنّهم لا یرونهم مصدرَ أثرٍ فی أیٍّ من شؤونهم، لأنّ جمیع الأمور تُدَبَّر من موضع آخر. على أنّه ینبغی لكلّ امرئ أن یؤدّی واجباته تجاه نفسه، وتجاه الله، وتجاه الناس، لكنّه لیس لتصرّفاتنا من أثر إلاّ بمقدار ما یدبّره هو عزّ وجلّ، فجمیع المخلوقات أدوات یعتمد تأثیرها على إذنه تعالى. فمتى ما أذن الله، استطاعت فعل شیء، سواء أكان شیئاً عادیّاً، مثل: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ»[12]، أو خارقاً كإبراء المرضى بید نبیّ الله عیسى (علیه السلام): «وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِی»[13].
أهل الآخرة الذین یرون الناس جمیعاً موتى لا یرون الحیاة إلاّ لله جلّ وعلا: «وَاللَّهُ عِنْدَهُمْ حَیٌ قَیُّومٌ كَرِیمٌ». ألا وإنّ من ینال هذه الرؤیة، التی أَتحفَ الأنبیاءُ (علیهم السلام) البشرَ بها، یتغیّر نمط حیاته تغییراً جذریّاً. فلو ألقینا إلى حیاتنا نحن نظرة لرأینا أنّنا لا نتوانى عن فعل أیّ شیء لبلوغ مآربنا؛ فنحن ننتشی لإطراء الناس لنا، نخطّط للحصول على المناصب، نتآمر، نظلّ سنوات نقلّب الأفكار ونرسم الخطط ولربما نستعین بالكذب والخدیعة علّنا نربح الانتخابات یوماً لنتربّع لبضعة أیّام على مقعد الرئاسة! معنى ذلك أنّنا نرى الناس هم الأحیاء ونعتقد بأنّ باستطاعتهم - عبر الدعایة والأموال وما إلى ذلك – توفیر الكراسی والمقامات لنا. أمّا دَور الله تعالى فی كلّ هذا فلعلّنا نتخیّل أنّه سبحانه أجلّ من أن یقحم نفسه فی مثل هذه الأمور! فی حین أنّ القرآن الكریم یقول فی الباری جلّ وعلا: «تُؤْتِی الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِیَدِكَ الْخَیْرُ»[14]، فما من خیر إلا وهو بیده. ویقول فی آیة أخرى: «وَإِنْ یَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ یُرِدْكَ بِخَیْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ»[15]، فإن أراد الله بشخص خیراً فلا أحد یستطیع منعه منه وإن أراد بشخص ضرّاً فلیس لامرئ تغییر تقدیر الله. إذن فمَن ذا الذی یمكن اعتباره حیّاً؟
«وَاللَّهُ عِنْدَهُمْ حَیٌ قَیُّومٌ كَرِیمٌ» فإنّ النعم كلّها، حسب أهل الآخرة، تُسبَغ بلطفه وكرمه عزّ وجلّ، وإنّ تدبیر العالَم تكویناً وتشریعاً بیده. أمّا أغلب الناس فإمّا أنّهم لا یؤمنون بذلك، أو أّنهم غافلون عنه یلهثون وراء الأسباب كافرین بأنعمه تعالى. ولعلّ هذا ما دفع المرحوم الشیخ غلامرضا كوتشه بیوكی، أحد علماء یزد الأجلاّء، إلى القول: «غیّر عقلك یا عزیزی»! فینبغی أن نغیّر رؤیتنا ونؤمن بأنّ مقالید الأمور لیست بید هذا وذاك، وأن نضع فی حسباننا بأنّ هنالك ربّاً بیده كلّ شیء. فإن غفلنا عن ذلك بُلینا بالسنن الإلهیّة.
لا یجامل الله عزّ وجلّ أحداً حتّى أنبیاءه (علیهم السلام) فی إجرائه سُنَنَه. فماذا فعل جلّ وعلا مع نبیّه یونس (علیه السلام)؟ فلقد دعا یونس قومَه أعواماً إلى دین الله ولم یؤمنوا، فسأل ربّه أن ینزل علیهم العذاب. فلمّا بانت أمارات العذاب تركهم، وهو نهج لیس بالمحبَّذ كثیراً فی منطق الرحمة الإلهیّة. «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَیْهِ»[16]؛ فلقد هجر یونسُ قومَه غاضباً ظنّاً منه أنّ الله لن یضیّق علیه لتركه هذا الأَولى، فكان عقابه أن یلتقمه الحوت ویلبث فی بطنه لا یجد سبیلاً للخلاص «فَنَادَىٰ فِی الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلٰهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّی كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِینَ»[17]. تنبّه یونس وهو فی بطن الحوت إلى خطئه فبادر إلى التوبة وراح یسبّح الله، فأنجاه الله. ومع ذلك یقول جلّ وعلا فی موضع آخر: «فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِینَ * لَلَبِثَ فِی بَطْنِهِ إِلَىٰ یَوْمِ یُبْعَثُونَ»[18]، فلو أنّه لم یرجع عن خطئه لتورّط بالسنّة الإلهیّة إلى الأبد، لأنّ الله لا یجامل حتّى نبیَّه، ولهذا فهو جلّ وعلا یقول لنبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله): «وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ»[19]، اقتدِ یا محمّد بجمیع الأنبیاء، لكن لا تكن مثل یونس، واصبر فی الظروف الصعبة: «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ»[20].
فالله تبارك وتعالى شدید جدّاً فی إجرائه سُنَنَه ولا یستثنى من هذه القاعدة حتّى الأنبیاء (علیهم السلام). فلا نتصورَنّ أنّ كوننا مسلمین، وشیعة، وثوریّین، ومشاركین فی جبهات القتال، ومجروحین فیها، ..الخ هی میزات تجعلنا عزیزین ممیَّزین عند الله فیُغضَى عن خطایانا ومعاصینا! فإنّ حساب الله دقیق، وإنّ كلّ صنیع تصنع تُؤجَر علیه، كما أنّ لكفران النعمة، والغفلة عن الله، وطَرق باب غیره حسابَه الخاص، فالذی یرتكب ذلك یوكله الله إلى نفسه ویقول له: «ما دمتَ لجأت إلى غیری فدعك عنّی ولا شأن لی بك»!
فإن أحببنا التنعّم بألطاف الله وأیادیه علینا فی حیاتنا الدنیا والأخرى وصیانة أنفسنا من البلایا ووساوس النفس والشیطان فعلینا أن نكون عبیداً لله وأن لا نرى لأنفسنا قیمة أمامه، بل أن لا نجد فی أنفسنا اللیاقة لمخاطبته بشكل مباشر، فنعمد دائماً بأدب إلى شفاعة أولیائه عندَه ونتوجّه إلى الحضرة الإلهیة متوسّلین بهم. فإنّه من لطف الله تعالى أیضاً أن یوسّط العبد العاصی عند الله أولیاءه الصالحین إذا استحیى بسبب خطایاه من النظر فی وجه بارئه، فیناجیه على استحیاء: «اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ ذُنُوبِی قَدْ أَخْلَقَتْ وَجْهِی عِنْدَكَ وَحَجَبَتْ دُعَائِی عَنْكَ وَحَالَتْ بَیْنِی وَ بَیْنَك... فَهَا أَنَا ذَا مُسْتَجِیرٌ بِكَرَمِ وَجْهِكَ وَعِزِّ جَلالِكَ مُتَوَسِّلٌ إِلَیْكَ مُتَقَرِّبٌ إِلَیْكَ بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَیْكَ وَأَكْرَمِهِمْ عَلَیْكَ وَأَوْلاهُمْ بِك»[21]؛ اللهمّ إن كانت ذنوبی قد سوَّدَت وجهی وحجبتنی عنك فلم تعُد تسمع صوتی فإنّی أوسّط لحضرتك أفضل عبادك عندك.
نسأل الله ببركة أولیائه أن یسبغ على أفئدتنا التی لا تساوی شیئاً مثقالَ ذرّة من هذه المعرفة.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین.
[1]. بحار الأنوار، ج74، ص24.
[2]. سورة النمل، الآیة 80.
[3]. سورة الأنعام، الآیة 122.
[4]. سورة یونس، الآیة 100.
[5]. سورة العنكبوت، الآیة 65.
[6]. سورة یونس، الآیة 22.
[7]. سورة العنكبوت، الآیة 65.
[8]. سورة الشعراء، الآیة 79.
[9]. سورة الشعراء، لاآیة 80.
[10]. سورة الأنعام، الآیة 162.
[11]. الأمالی للصدوق، ص457.
[12]. سورة آل عمران، الآیة 145.
[13]. سورة المائدة، الآیة 110.
[14]. سورة آل عمران، الآیة 26.
[15]. سورة یونس، الآیة 107.
[16]. سورة الأنبیاء، الآیة 87.
[17]. نفس الآیة السابقة.
[18]. سورة الصافات، الآیتان 143 و144.
[19]. سورة القلم، الآیة 48.
[20]. سورة الأحقاف، الآیة 35.
[21]. بحار الأنوار، ج99، ص172.
(50)
بسم الله الرحمـٰن الرحیم
هذا الذی بین أیدیكم هو عصارة لمحاضرة سماحة آیة الله مصباح الیزدیّ (دامت بركاته) ألقاها فی مكتب سماحة ولیّ أمر المسلمین بتاریخ 25 تموز 2014م الموافق للیلة الثامنة والعشرین من شهر رمضان المبارك 1435ﻫ نقدّمها من أجل أن تزید توجیهات سماحته من بصیرتنا وتكون نبراساً ینیر لنا درب هدایتنا وسعادتنا.
فی قسم من حدیث المعراج القدسیّ، الذی یضمّ حواراً بین الله تبارك وتعالى ونبیّه الكریم (صلّى الله علیه وآله)، وبعد التوصیة ببُغض أهل الدنیا ومودّة أهل الآخرة، استُعرضت بعض صفات أهل الدنیا وأهل الآخرة وهو ما تطرّقنا إلیه فی المحاضرات السابقة.
وقد جاء التعبیر، فی أحد مقاطع الحدیث، عن میزة من میزات أهل الآخرة بهذه الصورة: «النَّاسُ عِنْدَهُمْ مَوْتَىٰ وَاللَّهُ عِنْدَهُمْ حَیٌ قَیُّومٌ كَرِیمٌ»[1]؛ فالناس عند أهل الآخرة موتى ولیس من حیّ فی نظرهم سوى الله عزّ وجلّ، الله الذی مائدة كرمه ممدودة وقوام العالم بأسره بإرادته. وقلنا فی المحاضرة الفائتة فی بحثنا لجانب من هذا المقطع أنّ المراد من موت الناس هنا عدم كونهم منشأً للأثر بشكل مستقلّ وأنّهم أدوات ووسائل یدیرها الله كیف یشاء.
أمّا أهل الدنیا، فبما أنّهم یرون للناس الأثر فی كّل الأمور فإنّهم یلجأون إلیهم فی تسییر شؤونهم الیومیّة لینتفعوا من إمكانیّاتهم ومساعداتهم. بل إنهم یستعبدون الضعفاء أو یستعمرونهم إن استطاعوا لاستنزاف طاقاتهم. ویتلخّص هدف أهل الدنیا من تعاملهم مع الآخرین وكسب ودّهم فی جلب انتباههم إلیهم كی یفیدوا منهم أكبر قدر من الفائدة فیما یصبّ فی مصالحهم. فی حین أنّه لیس فی رأی أهل الآخرة من موجود حیّ قیّوم مستقلّ الأثر فی كافّة الأمور إلاّ الله جلّ وعلا؛ فهو الذی خلق الكون بلطفه وكرمه ویحبّ أن تنعم مخلوقاته منتهى التنعّم برحمته وتبلغ حدّ التكامل، ولاسیّما المخلوقات المختارة كالإنسان، فهی التی یتعیّن علیها أن تهّیئ بنفسها أسباب نضجها وتكاملها ورقیّها، المتمثّلة بمعرفة الله والتقرّب منه.
ولوقوف الأخرویّین على هذه الحقیقة فإنّهم یحاولون التعامل مع الناس بما یُعَرّفُهم بالله فیمهّد لهم التمتّع بالمزید من رحمته وكرمه: «یَدْعُونَ الْمُدْبِرِینَ كَرَماً وَیُرِیدُونَ الْمُقْبِلِینَ تَلَطُّفاً، قَدْ صَارَتِ الدُّنْیَا وَالآخِرَةُ عِنْدَهُمْ وَاحِدَة». وبناءً علیه فعوضاً عن تأمین مصالح أنفسهم یسعى أصحاب الآخرة، خلافاً لعبید الدنیا، فی ما فیه نفع للناس؛ فیطلبون هدایتهم وكمالهم واقترابهم من الله أكثر لینالوا الأهلیّة للتنعّم برحمته الأبدیّة. لكنّه لـمّا كانت لبواعث الإنسان مستویات شتّى، وأنّ بعضها خفیّ، فلو سئل أهل الآخرة عن دافعهم فیما یبذلونه من جهود لإسعاد العباد لَقالوا: بما أنّ الله یحبّ سعادة مخلوقاته فنحن أیضاً نمضی فی هذا الاتّجاه. على أنّ هناك فی هذا البین بواعثَ لا یعیها الإنسان؛ فإنّ مساعی الأخرویّین لفعل ما یحبّه الله تعالى هی لكی ینعموا هم فی النهایة بلطف ربّهم ورحمته أكثر من ذی قبل.
من هنا لا یمدّ أهل الآخرة أیدیهم إلى الناس للفوز بالمواهب المالیّة ونیل المناصب والمقامات والحظوة بالمكانة والجاه الاجتماعیّین، بل یهدفون إلى تكامل الآخرین ورقیّهم وتمتّعهم بالأهلیّة لاستدراج الرحمة الإلهیّة. وفی هذا الخِضمّ قد ترى طائفة من الناس لا یسلكون السبیل القویمة، بل قد ینكصون على أعقابهم، فیعمد أهل الآخرة، تأدیةً لواجبهم وإتماماً للحجّة، إلى العمل على هدایة هؤلاء فیبیّنون لهم الحقّ والباطل، ویوجّهونهم إلى سبیل التكامل والرُّقیّ. لكن ثمّة طائفة أخرى منهم تعرف هذه السبیل وتُبدی الاستعداد للمضیّ فیها قُدُماً. ویتعاطى الأخرویّون مع أصحاب الطائفة الأخیرة بمنتهى الرأفة واللطف زیادةً فی استمالتهم إلیهم ولكی یُثبّتوا خُطاهم فی هذه السبیل فلا یتعثّرون فیها ولا یزیغون عنها.
جاءت فی آخر المقطع المذكور من الحدیث عبارةٌ قد تبدو بعیدة عن أذهان البعض، وهی أنّ أهل الآخرة: «قَدْ صَارَتِ الدُّنْیَا وَالآخِرَةُ عِنْدَهُمْ وَاحِدَة».
ولقد أسلفنا بأنّ حیاة ابن آدم تنقسم إلى دنیا وآخرة، وأنّ علیه فی الأولى العمل والسعی لجنی ثمار سعیه فی الأخرى. إذن فكیف تتوحّد الدنیا والآخرة فی نظر أهل الآخرة؟
مادام الإنسان دنیویّاً لا یؤمن بالآخرة فهو یرى حیاته كلّها مقصورة على هذه الحیاة الدنیا ولا یوجد فی قاموسه شیء باسم الحیاة الأخرى. لكنّه ما إن یؤمن بأنّ الآخرة هی جزء لا یتجزّأ من حیاة الإنسان فإنّ أوّل ما یرتسم فی ذهنه عن العلاقة بین الدنیا والآخرة هی أنّها علاقة النَّقْد بالآجل فیقول فی ذات نفسه: أدرِك الیوم «دنیاك» واعمل لها فإنّها نَقْد، فإن كان فی الغد «آخرةٌ» فسأفكّر فیها لاحقاً! ألم نشاهد أناساً لم یتورّعوا عن اقتراف أیّ موبقة أیّام شبابهم على أمل أن یتداركوا ذلك فی كِبَرهم بالتوبة؟ بل لقد كان من المتعارف فی غابر الأیّام أن تأتی بعض الشخصّیات المرموقة طیلة حیاتها بكلّ حسَن وقبیح ثمّ تجاور فی أواخر عمرها أحد المشاهد الشریفة للتكفیر عن معاصیها بالزیارة وإعانة الآخرین وما إلى ذلك! كما أنّ العقلیّة السائدة لدى أغلب الناس تقریباً هی أنّه مادام الإنسان شابّاً فدعه یستمتع بشبابه، فإذا شابَ فلیعمل لآخرته! وهی عقلیة تسود بین الناس كخطاب عمومیّ، فترى الأغلبیة الساحقة منهم، فی مقام مقارنة الدنیا بالآخرة، یرون الأولى نقداً والأخیرة آجلاً، فیرى البعض – من هذا المنطلق – أنّ حَمْل هَمِّ الآخرة هو شأن العاطلین، وأنّ الغارق فی أمور الدنیا ومشاكلها لا مجال له للقلق على آخرته. غیر أنّ لله عباداً ینظرون إلى كُلٍّ من الدنیا والآخرة بعین النقد ویؤمنون بأنّ الآخرة حقّ كإیمانِهم بأنّ الدنیا حقّ.
ولتقریب الموضوع إلى الذهن فلنتصوّر طالباً یزمع على المشاركة فی الامتحان الوزاریّ لیدخل الجامعة ویجتاز مراحلها كی یتمكّن فی نهایة المطاف من الحصول على عمل مناسب ومكانة اجتماعیّة جیّدة. فكم سنة سیقضی هذا الطالب یخصّص كل وقته للدراسة لیجتاز هذه المراحل بتفوّق؟ إنّ بعضهم قد یعطّل جمیع أعماله وبرامجه ویكبّ لیلَ نهارَ على دراسته أملاً فی اجتیاز الاختبار الوزاریّ بنجاح، لظنّه القویّ بإمكانیّة الحصول على عمل مناسب ومنصب وظیفیّ عن هذا الطریق. طالب كهذا تتساوى عنده السنوات الدراسیّة التی تسبق الامتحان الوزاریّ مع التی تتلوه حتّى حصولِه على فرصة العمل المنشودة؛ فكلّ هذه الرحلة تمثّل عنده طریقاً واحداً علیه اجتیازه.
وكذا الحال مع أهل الآخرة، فالدنیا لدیهم مقدّمةٌ وبدایةُ طریق تتمّتُه الآخرة. فالدنیا والآخرة لیستا ساحتین منفصلتین عن بعضهما، بل هما خیط بدایته فی الدنیا ونهایته فی الآخرة. وعلى العكس من أهل الآخرة، لا ینظر الدنیویّون الضعیفو الإیمان إلى الآخرة بهذه النظرة، فالدنیا محور جمیع تصرّفاتهم؛ من كسب الرزق، والعیش بكرامة، ونیل المناصب، واستجلاب احترام الآخرین، وصون المكانة الاجتماعیّة، ..الخ. على أنّهم قد یقومون أحیاناً - من بین جمیع أعمالهم الدنیویّة – بحركة طفیفة من أجل الآخرة، أمّا محور أعمالهم فهو الدنیا، لأنّ الدنیا والآخرة فی نظرهم شیئان منفصلان. لكن یعتقد أهل الآخرة بأنّ الدنیا والآخرة بمثابة طریق واحد له عدّة مراحل؛ بالضبط كالطالب الذی یدرس الیوم لیشترك بعد فترة وجیزة فی الامتحان الوزاریّ، لیجتاز بعدها المراحل الجامعیّة، ثمّ لیجد فی النهایة عملاً مناسباً، و..الخ.
كان المرحوم العلاّمة الطباطبائیّ (قدّس سرّه) فی درس تفسیره یفسّر عبارة: «عُقْبَى الدَّارِ»[2]، الواردة ثلاث مرّات فی سورة الرعد وصفاً للآخرة، بـ «عَقِب الدنیا»، أی هی نتیجة تترتّب على الدنیا. کالمزارع الذی یحرث الأرض یوماً، فیطرح فیها البذور فی یوم آخر، ثمّ یظلّ یعتنی بالزرع حّتى یأتی أوان حصاد الثمر؛ فهذه المراحل كلّها تمّثل دورة واحدة بعدّة حلقات. لكنّنا لا ننظر إلى الدنیا والآخرة بهذه النظرة؛ فللدنیا فی نظر عبیدها حسابها الخاصّ، وهی أنّها الأصل؛ وهی الاقتصاد والسیاسة والتجارة والصناعة والشؤون العسكریّة وما إلیها والتی إن لم یضعها المرء فی حسبانه عدُّوه عاطلاً! أمّا الآخرة والجنّة والنار فهی قضیّة أخرى لا ینبغی أن تُقلقنا! وهذا ناجم عن عدم إیماننا بأنّ لنا حیاة تبدأ من ساعة ولادتنا ولیس لها نهایة، وأنّ مرحلة قصیرة منها تمرّ عبر هذه الدنیا، مرحلة تقوم مقام المقدّمة والسبیل التی تعیّن مصیر باقی حیاتنا، أمّا المقصد والهدف فیأتی فی المرحلة التی تلی الدنیا. هذه الدنیا تمثّل مرحلة الحرث، أمّا مرحلة الحصاد فهی فی الآخرة: «فَإِنَّ الیَومَ عَمَلٌ وَلا حِسابَ وَإِنَّ غَداً حِسابٌ وَلا عَمَل»[3]. هذه هی رؤیة أهل الآخرة. أمّا نحن فلیست لنا مثل هذه الرؤیة إلى الدنیا والآخرة. على أنّنا جمیعاً نؤمن بالآخرة، لكنّ إیماننا هذا ضعیف، ذلك أنّنا منجذبون – بشكل أو بآخر - إلى الدنیا وهی فی أنظارنا ذات شوكة وخطورة. خلافاً لأهل الآخرة الذین «قَدْ صَارَتِ الدُّنْیَا وَالآخِرَةُ عِنْدَهُمْ وَاحِدَة»، فكلّ من الدنیا والآخرة فی نظرهم مسیر واحد، یبدأ من لحظة الولادة، ثم لا ینتهی: «خَالِدِینَ فِیهَا أَبَداً»[4]، وإنّ مصیر الحیاة الأبدیّة تحدّدها الأیّام القلیلة التی نعیشها فی الدنیا؛ فكلّ ما نزرعه فی هذه الدنیا، نحصده فی الآخرة.
هذه قراءة أوّلیّة لهذا المقطع من حدیث المعراج. لكن ثمّة معنىً آخر یمكن طرحه لهذه العبارة. فاستناداً إلى ما قیل لحدّ الآن فإنّ الدنیا مقدّمة سیر وسفر نحو مقصد تبدأ مرحلته النهائیّة من ساعة الموت، لكن یبدو أنّه ثمّة من بین عباد الله من یشاهد المرحلة التالیة وهو فی الدنیا. وهناك روایات متعدّدة فی هذا المضمار أشهرها قصّة زید بن حارثة.
یروى «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلّى الله علیه وآله) صَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ فَنَظَرَ إِلَى شَابٍّ فِی الْمَسْجِدِ وَهُوَ یَخْفِقُ وَیَهْوِی بِرَأْسِهِ مُصْفَرّاً لَوْنُهُ قَدْ نَحِفَ جِسْمُهُ وَغَارَتْ عَیْنَاهُ فِی رَأْسِهِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله علیه وآله): كَیْفَ أَصْبَحْتَ یَا فُلانُ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ یَا رَسُولَ اللَّهِ مُوقِناً. فَعَجِبَ رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله علیه وآله) مِنْ قَوْلِهِ وَقَالَ: إِنَّ لِكُلِّ یَقِینٍ حَقِیقَةً فَمَا حَقِیقَةُ یَقِینِكَ؟» أی ما علامته؟ فأجاب الشاب: عینی لا ترى النوم لیلاً قلقاً من الآخرة، لقد هجرتُ النوم والطعام ولا أفتأ أفكّر كیف سأكفّر عن معاصیَّ «فَقَالَ: إِنَّ یَقِینِی یَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ الَّذِی أَحْزَنَنِی وَأَسْهَرَ لَیْلِی وَأَظْمَأَ هَوَاجِرِی، فَعَزَفَتْ نَفْسِی عَنِ الدُّنْیَا وَمَا فِیهَا» إلى أن قال: «.. كَأَنِّی أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ یَتَنَعَّمُونَ فِی الْجَنَّةِ وَیَتَعَارَفُونَ وَعَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ، وَكَأَنِّی أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ وَهُمْ فِیهَا مُعَذَّبُونَ مُصْطَرِخُونَ... فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله علیه وآله) لأَصْحَابِهِ: هَذَا عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ بِالإِیمَانِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: الْزَمْ مَا أَنْتَ عَلَیْهِ. فَقَالَ الشَّابُّ: ادْعُ اللَّهَ لِی یَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أُرْزَقَ الشَّهَادَةَ مَعَكَ. فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلّى الله علیه وآله) فَلَمْ یَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ فِی بَعْضِ غَزَوَاتِ النَّبِیِّ (صلّى الله علیه وآله) فَاسْتُشْهِدَ بَعْدَ تِسْعَةِ نَفَرٍ وَكَانَ هُوَ الْعَاشِرَ»[5].
كما نقلت طائفة من الروایات عن ادّعاء بعض الناس بأنّهم یعرفون أناساً یتعذّبون الآن فی النار. وروَت طائفة أخرى من الأحادیث عن لسان النبیّ (صلّى الله علیه وآله) ما شاهده لیلة المعراج، وأنّه رأى أناساً یعذَّبون فی جهنّم بصور شتّى، كأن یعلَّقوا من ألسنتهم، وآخرون متنعّمون فی الجنّة[6].
وبالالتفات إلى الروایات والأحادیث المذكورة آنفاً یصبح معنى عبارة «قَدْ صَارَتِ الدُّنْیَا وَالآخِرَةُ عِنْدَهُمْ وَاحِدَة» أكثر دقّة. إذ یُنظر إلى الدنیا والآخرة فی القراءة الأولى كمسیرة متواصلة، الآخرة فیها بمثابة عقبى الدار وعَقِب الحیاة الدنیا. أمّا وفق القراءة الثانیة فالآخرة تقع فی وعاء آخر غیر الذی للدنیا، لكن بالإمكان مشاهدة تصویر عامّ لها فی هذا العالم.
ویتعیّن القول إجمالاً أنّنا لا نحمل الآخرةَ على محمل الجدّ كما ینبغی لها، وعلینا التأمّل أكثر فی هذه المسألة وتغییر سلوكنا بالشكل الذی یلفت انتباهنا أكثر إلى الأمور الأخرویّة، فلا تنصرف كلّ هممنا إلى الدنیا ولذّاتها وجاهها ومقامها. وإنْ مارسنا ضمن الشؤون الدنیویّة نشاطاً ما فلیكن من حیث إنّه محبوب لدى الله عزّ وجلّ، بالضبط كما اتّخذ نبیّ الله سلیمان (علیه السلام) الـمُلكَ وسیلة لإشاعة التوحید ومعرفة الله. ولقد قبل أمیر المؤمنین (علیه السلام) أیضاً بالحكم، لكنّه طالما أكّد: «وَاللَّهِ لَهِیَ (النَّعْل) أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلاّ أَنْ أُقِیمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلاً»[7].
ولعلّه یوجد فی زماننا هذا مَن یقبل بمسؤولیّة ضخمة لا لشیء إلاّ طاعةً لله وتأدیةً للتكلیف الشرعیّ، وإلاّ فإنّه یرفضها.
نسأل الله تعالى أن یمنّ علینا جمیعاً بمثل هذه المعرفة ویوفّقنا لمعرفة قدر أمثال هؤلاء وتأدیة شكر نعمة وجودهم.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرین.
[1]. بحار الأنوار، ج74، ص24.
[2]. سورة الرعد، الآیات 22 و24 و42.
[3]. الكافی، ج8، ص58.
[4]. سورة النساء، الآیة 57، وسورة المائدة، الآیة 119، وغیرهما.
[5]. الكافی، ج2، ص53.
[6]. عیون أخبار الرضا (علیه السلام)، ج2، ص11: «وَرَأَیْتُ امْرَأَةً مُعَلَّقَةً بِلِسَانِهَا وَالْحَمِیمُ یُصَبُّ فِی حَلْقِهَا...».
[7]. نهج البلاغة، الخطبة 33.
پیوندها
[1] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/20-11-2013.htm#_edn1
[2] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/20-11-2013.htm#_edn2
[3] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/20-11-2013.htm#_edn3
[4] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/20-11-2013.htm#_edn4
[5] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/20-11-2013.htm#_edn5
[6] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/20-11-2013.htm#_edn6
[7] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/20-11-2013.htm#_edn7
[8] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/20-11-2013.htm#_ednref1
[9] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/20-11-2013.htm#_ednref2
[10] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/20-11-2013.htm#_ednref3
[11] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/20-11-2013.htm#_ednref4
[12] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/20-11-2013.htm#_ednref5
[13] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/20-11-2013.htm#_ednref6
[14] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/20-11-2013.htm#_ednref7
[15] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/27-11-2013.htm#_edn1
[16] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/27-11-2013.htm#_edn2
[17] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/27-11-2013.htm#_edn3
[18] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/27-11-2013.htm#_edn4
[19] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/27-11-2013.htm#_edn5
[20] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/27-11-2013.htm#_edn6
[21] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/27-11-2013.htm#_edn7
[22] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/27-11-2013.htm#_edn8
[23] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/27-11-2013.htm#_ednref1
[24] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/27-11-2013.htm#_ednref2
[25] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/27-11-2013.htm#_ednref3
[26] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/27-11-2013.htm#_ednref4
[27] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/27-11-2013.htm#_ednref5
[28] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/27-11-2013.htm#_ednref6
[29] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/27-11-2013.htm#_ednref7
[30] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/27-11-2013.htm#_ednref8
[31] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/04-12-2013.htm#_edn1
[32] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/04-12-2013.htm#_edn2
[33] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/04-12-2013.htm#_edn3
[34] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/04-12-2013.htm#_edn4
[35] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/04-12-2013.htm#_edn5
[36] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/04-12-2013.htm#_edn6
[37] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/04-12-2013.htm#_edn7
[38] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/04-12-2013.htm#_edn8
[39] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/04-12-2013.htm#_ednref1
[40] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/04-12-2013.htm#_ednref2
[41] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/04-12-2013.htm#_ednref3
[42] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/04-12-2013.htm#_ednref4
[43] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/04-12-2013.htm#_ednref5
[44] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/04-12-2013.htm#_ednref6
[45] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/04-12-2013.htm#_ednref7
[46] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/04-12-2013.htm#_ednref8
[47] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_edn1
[48] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_edn2
[49] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_edn3
[50] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_edn4
[51] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_edn5
[52] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_edn6
[53] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_edn7
[54] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_edn8
[55] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_edn9
[56] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_edn10
[57] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_edn11
[58] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_ednref1
[59] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_ednref2
[60] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_ednref3
[61] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_ednref4
[62] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_ednref5
[63] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_ednref6
[64] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_ednref7
[65] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_ednref8
[66] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_ednref9
[67] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_ednref10
[68] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/11-12-2013.htm#_ednref11
[69] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/18-12-2013.htm#_edn1
[70] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/18-12-2013.htm#_edn2
[71] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/18-12-2013.htm#_edn3
[72] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/18-12-2013.htm#_edn4
[73] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/18-12-2013.htm#_edn5
[74] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/18-12-2013.htm#_edn6
[75] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/18-12-2013.htm#_ednref1
[76] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/18-12-2013.htm#_ednref2
[77] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/18-12-2013.htm#_ednref3
[78] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/18-12-2013.htm#_ednref4
[79] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/18-12-2013.htm#_ednref5
[80] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/18-12-2013.htm#_ednref6
[81] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_edn1
[82] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_edn2
[83] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_edn3
[84] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_edn4
[85] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_edn5
[86] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_edn6
[87] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_edn7
[88] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_edn8
[89] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_edn9
[90] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_edn10
[91] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_ednref1
[92] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_ednref2
[93] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_ednref3
[94] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_ednref4
[95] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_ednref5
[96] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_ednref6
[97] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_ednref7
[98] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_ednref8
[99] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_ednref9
[100] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/08-01-2014.htm#_ednref10
[101] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_edn1
[102] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_edn2
[103] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_edn3
[104] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_edn4
[105] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_edn5
[106] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_edn6
[107] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_edn7
[108] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_edn8
[109] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_edn9
[110] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_edn10
[111] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_edn11
[112] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_ednref1
[113] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_ednref2
[114] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_ednref3
[115] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_ednref4
[116] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_ednref5
[117] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_ednref6
[118] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_ednref7
[119] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_ednref8
[120] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_ednref9
[121] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_ednref10
[122] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/15-01-2014.htm#_ednref11
[123] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_edn1
[124] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_edn2
[125] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_edn3
[126] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_edn4
[127] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_edn5
[128] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_edn6
[129] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_edn7
[130] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_edn8
[131] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_edn9
[132] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_edn10
[133] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_ednref1
[134] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_ednref2
[135] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_ednref3
[136] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_ednref4
[137] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_ednref5
[138] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_ednref6
[139] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_ednref7
[140] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_ednref8
[141] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_ednref9
[142] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/22-01-2014.htm#_ednref10
[143] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_edn1
[144] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_edn2
[145] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_edn3
[146] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_edn4
[147] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_edn5
[148] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_edn6
[149] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_edn7
[150] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_edn8
[151] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_edn9
[152] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_edn10
[153] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_ednref1
[154] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_ednref2
[155] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_ednref3
[156] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_ednref4
[157] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_ednref5
[158] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_ednref6
[159] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_ednref7
[160] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_ednref8
[161] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_ednref9
[162] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/29-01-2014.htm#_ednref10
[163] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_edn1
[164] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_edn2
[165] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_edn3
[166] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_edn4
[167] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_edn5
[168] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_edn6
[169] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_edn7
[170] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_edn8
[171] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_edn9
[172] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_edn10
[173] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_edn11
[174] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_ednref1
[175] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_ednref2
[176] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_ednref3
[177] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_ednref4
[178] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_ednref5
[179] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_ednref6
[180] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_ednref7
[181] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_ednref8
[182] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_ednref9
[183] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_ednref10
[184] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-05.htm#_ednref11
[185] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_edn1
[186] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_edn2
[187] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_edn3
[188] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_edn4
[189] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_edn5
[190] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_edn6
[191] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_edn7
[192] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_edn8
[193] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_edn9
[194] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_edn10
[195] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_edn11
[196] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_ednref1
[197] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_ednref2
[198] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_ednref3
[199] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_ednref4
[200] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_ednref5
[201] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_ednref6
[202] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_ednref7
[203] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_ednref8
[204] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_ednref9
[205] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_ednref10
[206] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-12.htm#_ednref11
[207] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-19.htm#_edn1
[208] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-19.htm#_edn2
[209] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-19.htm#_edn3
[210] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-19.htm#_edn4
[211] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-19.htm#_edn5
[212] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-19.htm#_ednref1
[213] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-19.htm#_ednref2
[214] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-19.htm#_ednref3
[215] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-19.htm#_ednref4
[216] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-19.htm#_ednref5
[217] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-26.htm#_edn1
[218] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-26.htm#_edn2
[219] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-26.htm#_edn3
[220] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-26.htm#_edn4
[221] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-26.htm#_edn5
[222] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-26.htm#_edn6
[223] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-26.htm#_edn7
[224] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-26.htm#_ednref1
[225] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-26.htm#_ednref2
[226] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-26.htm#_ednref3
[227] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-26.htm#_ednref4
[228] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-26.htm#_ednref5
[229] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-26.htm#_ednref6
[230] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-02-26.htm#_ednref7
[231] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_edn1
[232] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_edn2
[233] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_edn3
[234] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_edn4
[235] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_edn5
[236] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_edn6
[237] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_edn7
[238] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_edn8
[239] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_edn9
[240] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_edn10
[241] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_ednref1
[242] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_ednref2
[243] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_ednref3
[244] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_ednref4
[245] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_ednref5
[246] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_ednref6
[247] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_ednref7
[248] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_ednref8
[249] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_ednref9
[250] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-02.htm#_ednref10
[251] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/09-04-2014.htm#_edn1
[252] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/09-04-2014.htm#_edn2
[253] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/09-04-2014.htm#_edn3
[254] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/09-04-2014.htm#_edn4
[255] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/09-04-2014.htm#_edn5
[256] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/09-04-2014.htm#_edn6
[257] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/09-04-2014.htm#_edn7
[258] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/09-04-2014.htm#_edn8
[259] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/09-04-2014.htm#_ednref1
[260] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/09-04-2014.htm#_ednref2
[261] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/09-04-2014.htm#_ednref3
[262] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/09-04-2014.htm#_ednref4
[263] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/09-04-2014.htm#_ednref5
[264] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/09-04-2014.htm#_ednref6
[265] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/09-04-2014.htm#_ednref7
[266] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/09-04-2014.htm#_ednref8
[267] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-16.htm#_edn1
[268] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-16.htm#_edn2
[269] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-16.htm#_edn3
[270] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-16.htm#_edn4
[271] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-16.htm#_edn5
[272] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-16.htm#_edn6
[273] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-16.htm#_ednref1
[274] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-16.htm#_ednref2
[275] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-16.htm#_ednref3
[276] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-16.htm#_ednref4
[277] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-16.htm#_ednref5
[278] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-16.htm#_ednref6
[279] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_edn1
[280] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_edn2
[281] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_edn3
[282] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_edn4
[283] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_edn5
[284] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_edn6
[285] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_edn7
[286] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_edn8
[287] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_edn9
[288] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_edn10
[289] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_ednref1
[290] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_ednref2
[291] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_ednref3
[292] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_ednref4
[293] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_ednref5
[294] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_ednref6
[295] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_ednref7
[296] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_ednref8
[297] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_ednref9
[298] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-23.htm#_ednref10
[299] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_edn1
[300] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_edn2
[301] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_edn3
[302] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_edn4
[303] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_edn5
[304] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_edn6
[305] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_edn7
[306] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_edn8
[307] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_edn9
[308] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_edn10
[309] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_edn11
[310] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_edn12
[311] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_edn13
[312] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_edn14
[313] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_ednref1
[314] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_ednref2
[315] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_ednref3
[316] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_ednref4
[317] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_ednref5
[318] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_ednref6
[319] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_ednref7
[320] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_ednref8
[321] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_ednref9
[322] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_ednref10
[323] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_ednref11
[324] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_ednref12
[325] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_ednref13
[326] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-04-30.htm#_ednref14
[327] http://www.hawzah.net
[328] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-07.htm#_edn1
[329] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-07.htm#_edn2
[330] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-07.htm#_edn3
[331] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-07.htm#_edn4
[332] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-07.htm#_ednref1
[333] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-07.htm#_ednref2
[334] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-07.htm#_ednref3
[335] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-07.htm#_ednref4
[336] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-14.htm#_edn1
[337] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-14.htm#_edn2
[338] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-14.htm#_edn3
[339] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-14.htm#_edn4
[340] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-14.htm#_edn5
[341] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-14.htm#_edn6
[342] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-14.htm#_edn7
[343] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-14.htm#_edn8
[344] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-14.htm#_ednref1
[345] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-14.htm#_ednref2
[346] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-14.htm#_ednref3
[347] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-14.htm#_ednref4
[348] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-14.htm#_ednref5
[349] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-14.htm#_ednref6
[350] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-14.htm#_ednref7
[351] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-14.htm#_ednref8
[352] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_edn1
[353] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_edn2
[354] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_edn3
[355] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_edn4
[356] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_edn5
[357] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_edn6
[358] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_edn7
[359] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_edn8
[360] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_edn9
[361] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_edn10
[362] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_edn11
[363] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_edn12
[364] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_edn13
[365] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_edn14
[366] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_edn15
[367] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_edn16
[368] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_ednref1
[369] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_ednref2
[370] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_ednref3
[371] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_ednref4
[372] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_ednref5
[373] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_ednref6
[374] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_ednref7
[375] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_ednref8
[376] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_ednref9
[377] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_ednref10
[378] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_ednref11
[379] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_ednref12
[380] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_ednref13
[381] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_ednref14
[382] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_ednref15
[383] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-21.htm#_ednref16
[384] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-28.htm#_edn1
[385] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-28.htm#_edn2
[386] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-28.htm#_edn3
[387] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-28.htm#_edn4
[388] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-28.htm#_edn5
[389] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-28.htm#_edn6
[390] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-28.htm#_edn7
[391] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-28.htm#_ednref1
[392] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-28.htm#_ednref2
[393] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-28.htm#_ednref3
[394] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-28.htm#_ednref4
[395] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-28.htm#_ednref5
[396] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-28.htm#_ednref6
[397] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-05-28.htm#_ednref7
[398] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-11.htm#_edn1
[399] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-11.htm#_edn2
[400] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-11.htm#_ednref1
[401] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-11.htm#_ednref2
[402] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_edn1
[403] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_edn2
[404] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_edn3
[405] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_edn4
[406] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_edn5
[407] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_edn6
[408] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_edn7
[409] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_edn8
[410] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_edn9
[411] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_edn10
[412] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_edn11
[413] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_edn12
[414] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_ednref1
[415] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_ednref2
[416] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_ednref3
[417] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_ednref4
[418] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_ednref5
[419] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_ednref6
[420] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_ednref7
[421] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_ednref8
[422] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_ednref9
[423] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_ednref10
[424] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_ednref11
[425] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-17.htm#_ednref12
[426] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_edn1
[427] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_edn2
[428] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_edn3
[429] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_edn4
[430] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_edn5
[431] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_edn6
[432] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_edn7
[433] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_edn8
[434] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_edn9
[435] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_edn10
[436] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_edn11
[437] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_edn12
[438] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_ednref1
[439] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_ednref2
[440] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_ednref3
[441] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_ednref4
[442] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_ednref5
[443] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_ednref6
[444] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_ednref7
[445] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_ednref8
[446] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_ednref9
[447] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_ednref10
[448] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_ednref11
[449] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-06-30.htm#_ednref12
[450] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn1
[451] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn2
[452] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn3
[453] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn4
[454] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn5
[455] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn6
[456] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn7
[457] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn8
[458] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn9
[459] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn10
[460] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn11
[461] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn12
[462] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn13
[463] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn14
[464] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn15
[465] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn16
[466] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn17
[467] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn18
[468] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn19
[469] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn20
[470] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn21
[471] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn22
[472] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn23
[473] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn24
[474] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn25
[475] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn26
[476] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_edn27
[477] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref1
[478] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref2
[479] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref3
[480] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref4
[481] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref5
[482] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref6
[483] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref7
[484] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref8
[485] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref9
[486] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref10
[487] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref11
[488] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref12
[489] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref13
[490] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref14
[491] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref15
[492] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref16
[493] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref17
[494] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref18
[495] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref19
[496] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref20
[497] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref21
[498] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref22
[499] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref23
[500] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref24
[501] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref25
[502] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref26
[503] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-01.htm#_ednref27
[504] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_edn1
[505] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_edn2
[506] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_edn3
[507] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_edn4
[508] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_edn5
[509] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_edn6
[510] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_edn7
[511] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_edn8
[512] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_edn9
[513] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_edn10
[514] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_edn11
[515] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_edn12
[516] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_edn13
[517] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_edn14
[518] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_edn15
[519] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_edn16
[520] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_ednref1
[521] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_ednref2
[522] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_ednref3
[523] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_ednref4
[524] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_ednref5
[525] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_ednref6
[526] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_ednref7
[527] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_ednref8
[528] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_ednref9
[529] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_ednref10
[530] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_ednref11
[531] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_ednref12
[532] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_ednref13
[533] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_ednref14
[534] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_ednref15
[535] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-02.htm#_ednref16
[536] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-03.htm#_edn1
[537] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-03.htm#_edn2
[538] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-03.htm#_edn3
[539] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-03.htm#_edn4
[540] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-03.htm#_edn5
[541] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-03.htm#_edn6
[542] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-03.htm#_ednref1
[543] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-03.htm#_ednref2
[544] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-03.htm#_ednref3
[545] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-03.htm#_ednref4
[546] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-03.htm#_ednref5
[547] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-03.htm#_ednref6
[548] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_edn1
[549] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_edn2
[550] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_edn3
[551] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_edn4
[552] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_edn5
[553] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_edn6
[554] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_edn7
[555] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_edn8
[556] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_edn9
[557] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_edn10
[558] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_ednref1
[559] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_ednref2
[560] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_ednref3
[561] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_ednref4
[562] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_ednref5
[563] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_ednref6
[564] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_ednref7
[565] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_ednref8
[566] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_ednref9
[567] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-04.htm#_ednref10
[568] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_edn1
[569] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_edn2
[570] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_edn3
[571] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_edn4
[572] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_edn5
[573] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_edn6
[574] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_edn7
[575] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_edn8
[576] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_edn9
[577] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_edn10
[578] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_edn11
[579] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_edn12
[580] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_edn13
[581] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_edn14
[582] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_edn15
[583] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_edn16
[584] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_ednref1
[585] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_ednref2
[586] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_ednref3
[587] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_ednref4
[588] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_ednref5
[589] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_ednref6
[590] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_ednref7
[591] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_ednref8
[592] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_ednref9
[593] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_ednref10
[594] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_ednref11
[595] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_ednref12
[596] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_ednref13
[597] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_ednref14
[598] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_ednref15
[599] http://mesbahyazdi.org/arabic/index.asp?speeches/courses/mohebbat/2014-07-05.htm#_ednref16
[600] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_edn1
[601] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_edn2
[602] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_edn3
[603] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_edn4
[604] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_edn5
[605] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_edn6
[606] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_edn7
[607] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_edn8
[608] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_edn9
[609] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_edn10
[610] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_edn11
[611] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_edn12
[612] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_edn13
[613] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_edn14
[614] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_edn15
[615] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_edn16
[616] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_edn17
[617] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_ednref1
[618] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_ednref2
[619] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_ednref3
[620] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_ednref4
[621] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_ednref5
[622] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_ednref6
[623] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_ednref7
[624] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_ednref8
[625] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_ednref9
[626] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_ednref10
[627] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_ednref11
[628] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_ednref12
[629] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_ednref13
[630] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_ednref14
[631] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_ednref15
[632] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_ednref16
[633] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-06.htm#_ednref17
[634] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_edn1
[635] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_edn2
[636] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_edn3
[637] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_edn4
[638] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_edn5
[639] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_edn6
[640] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_edn7
[641] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_edn8
[642] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_edn9
[643] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_edn10
[644] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_edn11
[645] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_edn12
[646] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_edn13
[647] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_ednref1
[648] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_ednref2
[649] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_ednref3
[650] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_ednref4
[651] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_ednref5
[652] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_ednref6
[653] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_ednref7
[654] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_ednref8
[655] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_ednref9
[656] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_ednref10
[657] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_ednref11
[658] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_ednref12
[659] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-07.htm#_ednref13
[660] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_edn1
[661] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_edn2
[662] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_edn3
[663] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_edn4
[664] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_edn5
[665] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_edn6
[666] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_edn7
[667] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_edn8
[668] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_edn9
[669] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_edn10
[670] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_edn11
[671] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_edn12
[672] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_edn13
[673] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_ednref1
[674] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_ednref2
[675] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_ednref3
[676] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_ednref4
[677] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_ednref5
[678] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_ednref6
[679] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_ednref7
[680] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_ednref8
[681] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_ednref9
[682] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_ednref10
[683] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_ednref11
[684] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_ednref12
[685] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-08.htm#_ednref13
[686] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-09.htm#_edn1
[687] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-09.htm#_edn2
[688] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-09.htm#_edn3
[689] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-09.htm#_edn4
[690] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-09.htm#_edn5
[691] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-09.htm#_edn6
[692] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-09.htm#_edn7
[693] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-09.htm#_ednref1
[694] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-09.htm#_ednref2
[695] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-09.htm#_ednref3
[696] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-09.htm#_ednref4
[697] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-09.htm#_ednref5
[698] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-09.htm#_ednref6
[699] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-09.htm#_ednref7
[700] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn1
[701] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn2
[702] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn3
[703] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn4
[704] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn5
[705] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn6
[706] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn7
[707] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn8
[708] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn9
[709] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn10
[710] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn11
[711] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn12
[712] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn13
[713] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn14
[714] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn15
[715] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn16
[716] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn17
[717] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn18
[718] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn19
[719] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn20
[720] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn21
[721] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn22
[722] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn23
[723] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_edn24
[724] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref1
[725] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref2
[726] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref3
[727] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref4
[728] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref5
[729] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref6
[730] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref7
[731] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref8
[732] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref9
[733] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref10
[734] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref11
[735] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref12
[736] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref13
[737] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref14
[738] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref15
[739] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref16
[740] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref17
[741] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref18
[742] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref19
[743] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref20
[744] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref21
[745] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref22
[746] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref23
[747] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-10.htm#_ednref24
[748] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_edn1
[749] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_edn2
[750] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_edn3
[751] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_edn4
[752] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_edn5
[753] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_edn6
[754] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_edn7
[755] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_edn8
[756] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_edn9
[757] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_ednref1
[758] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_ednref2
[759] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_ednref3
[760] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_ednref4
[761] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_ednref5
[762] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_ednref6
[763] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_ednref7
[764] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_ednref8
[765] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-11.htm#_ednref9
[766] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-12.htm#_edn1
[767] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-12.htm#_edn2
[768] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-12.htm#_edn3
[769] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-12.htm#_edn4
[770] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-12.htm#_edn5
[771] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-12.htm#_ednref1
[772] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-12.htm#_ednref2
[773] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-12.htm#_ednref3
[774] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-12.htm#_ednref4
[775] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-12.htm#_ednref5
[776] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-13.htm#_edn1
[777] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-13.htm#_edn2
[778] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-13.htm#_edn3
[779] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-13.htm#_edn4
[780] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-13.htm#_edn5
[781] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-13.htm#_ednref1
[782] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-13.htm#_ednref2
[783] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-13.htm#_ednref3
[784] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-13.htm#_ednref4
[785] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-13.htm#_ednref5
[786] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_edn1
[787] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_edn2
[788] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_edn3
[789] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_edn4
[790] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_edn5
[791] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_edn6
[792] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_edn7
[793] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_edn8
[794] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_edn9
[795] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_edn10
[796] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_edn11
[797] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_edn12
[798] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_edn13
[799] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_edn14
[800] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_edn15
[801] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_ednref1
[802] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_ednref2
[803] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_ednref3
[804] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_ednref4
[805] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_ednref5
[806] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_ednref6
[807] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_ednref7
[808] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_ednref8
[809] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_ednref9
[810] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_ednref10
[811] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_ednref11
[812] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_ednref12
[813] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_ednref13
[814] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_ednref14
[815] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-14.htm#_ednref15
[816] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-15.htm#_edn1
[817] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-15.htm#_edn2
[818] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-15.htm#_edn3
[819] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-15.htm#_edn4
[820] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-15.htm#_edn5
[821] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-15.htm#_edn6
[822] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-15.htm#_edn7
[823] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-15.htm#_ednref1
[824] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-15.htm#_ednref2
[825] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-15.htm#_ednref3
[826] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-15.htm#_ednref4
[827] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-15.htm#_ednref5
[828] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-15.htm#_ednref6
[829] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-15.htm#_ednref7
[830] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_edn1
[831] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_edn2
[832] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_edn3
[833] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_edn4
[834] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_edn5
[835] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_edn6
[836] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_edn7
[837] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_edn8
[838] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_edn9
[839] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_edn10
[840] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_ednref1
[841] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_ednref2
[842] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_ednref3
[843] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_ednref4
[844] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_ednref5
[845] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_ednref6
[846] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_ednref7
[847] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_ednref8
[848] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_ednref9
[849] http://mesbahyazdi.org/arabic/?speeches/courses/mohebbat/2014-07-16.htm#_ednref10