سرشناسه: مصباح یزدی، محمدتقی، 1313 -
عنوان قراردادی: نهایة الحكمة. شرح.
عنوان و نام پدیدآور: تعلیقة علی نهایة الحكمة / محمدتقی مصباح الیزدی
مشخصات نشر: قم: مؤسسه آموزشی و پژوهشی امام خمینی(ره)، انتشارات.
مشخصات ظاهری: 536 ص.
شابک: 7-877-411-964-978
وضعیت فهرستنویسی: فیپا.
یادداشت: عربی.
یادداشت: این کتاب شرحی بر کتاب «نهایهالحکمه» تألیف محمدحسین طباطبایی است.
یادداشت: کتابنامه بهصورت زیرنویس است.
موضوع: طباطبایی، محمدحسین، 1281 - 1360. نهایهالحکمه - - نقد و تفسیر.
موضوع: محمد(صلیالله علیه وآله)، پیامبر اسلام، 53 قبل از هجرت ـ 11قو
موضوع: فلسفه اسلامی.
شناسه افزوده: مؤسسه آموزشی و پژوهشی امام خمینی(ره).
ردهبندی کنگره: ن903م6 / 1392 BPR
ردهبندی دیویی: 1/189
شماره کتابشناسی ملی: 3602397
تعلیقة علی نهایة الحكمة
مؤلف: آیتالله محمدتقی مصباح یزدی
ناشر: انتشارات مؤسسه آموزشی و پژوهشی امام خمینی(ره)
نوبت و تاریخ چاپ: اول، پاییز 1393
چاپ: زمزم
شمارگان: 2000 قیمت: 20000 تومان
مرکز پخش: قم، خیابان شهداء، کوی ممتاز، پلاک 38
تلفن و نمابر: 37742326 - 025
7-877-411-964-978:شابک
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربّ العالمین والصلوة والسلام على خیر خلقه محمّد وآله الطاهرین. لاسیّما الإمام المنتظر المهدیّ، الحجّة بن الحسن العسكریّ، عجّل الله تعالى فرجه، وجعلنا من أعوانه وأنصاره والفائزین بعنایته ورضاه.
أمّا بعد، فمن أفضل ما مَنَّ الله به على هذا العبد العاصی صحبة الاُستاذ العلاّمة الأوحدیّ السیّد محمّدحسین الطباطبائی(دامظلهالعالی).(1) فقد نفعنی به فی تفسیر القرآن والفلسفة الإلهیّة وسائر المعارف الإسلامیة نفعاً یعجز عنه شكری. فله حقّ عظیم علیّ وعلى جمیع المتعلّمین فی هذا العصر، بل على كافّة المسلمین. فجزاه الله عن الإسلام وأهله خیر الجزاء، وبلغ به فی مدارج القرب غایة مناه.
وإنّ لسیّدنا الاُستاذ كتباً قیّمة وآثاراً نفیسة. ومن أنفعها للطلاّب بعد تفسیره
1. وبعدَ مُضیّ أكثر من سنة من كتابة هذه السطور ثلم فی الإسلام ثلمة لا یسدّها شیء، وحدث فی الحوزة العلمیّة فراغ لا یملأه شیء، واُصبنا بمصیبة لا یسلّینا منها شیء، وهی وفاة سیّدنا الاُستاذ الوحید، والعلاّمة الفرید، حیث ارتحل فی الثامن عشر من محرّم الحرام من عام 1402 إلى الرفیق الأعلى. فسلامٌ علیه یوم ولد (29 ذی الحجّة 1321) وسلام علیه یوم هاجر إلى اللّه ورسوله وولیّه أمیر المؤمنین(علیهماالسلام) وسلام علیه یوم نزل فی عُشّ آل محمّد قم المشرّفة، وسلام علیه یوم نهض بأعباء التعلیم والتربیة، والتدریس والتزكیة، وقاسى شدائد الدهر العنید، وعانى الجفاء من القریب والبعید، وسلام علیه یوم لبّى دعوة ربّه، وأسرع إلى جوار جدّه، وسلام علیه یوم یُبعث حیّاً فی صفوف الأولیاء المقربین، والعرفاء الشامخین، والحكماء المتألّهین، حشره الله مع أجداده الطیّبین الطاهرین، وشفّعه فی أحبّائه وتلامذته، وأعطاه من فضله فیرضى.
المسمّى ب «المیزان» هذا السفر الجلیل الذی ألّفه إجابةً لمسؤول الكثیرین من الفضلاء، وروّاد نُقاوة أفكار الحكماء. وقد افتخرت بتدریسه مع قلّة بضاعتی وقصور باعی. وعند اشتغالی به بدا لی أن أكتب ما یخطر ببالی فی توضیح مطالبه، وتسهیل موارده، واُشیر إلى بعض ما ینفع الطالب من مسفورات القوم، واُضیف إلیه تذكّر ما یصعب علیّ فهمه، أو یشرد علیّ قبوله، مع الإشارة إلى وجه الصعوبة والشراد. فلعلّ ناشداً یجد فیه ضالّته، أو راشداً یردُّ علیَّ شاردَه.
ولقد كنت أودُّ أن اُراجع ساحة الاُستاذ فی ما أشكل علیّ، وأستشفی بفضل تعلیمه داء الجهل، وأجبر ببركة بیانه كسر الفهم. ولكن حالت الأقدار بینی وبین مُنیتی، وعاقتنی حوادث الدهر دون بُغیتی والله المستعان وله الحمد على كلّ حال.
فأرجو من سماحته أوّلاً ومن القرّاء الكرام ثانیاً أن یعذرونی فی ما قصر فهمی عن نیله، وما عجز قلمی عن أداء حقّه. وأسأل الله تعالى أن یجعله خطوة متواضعة فی طریق إنماء العلم والحكمة وینفع به طالبی الحقّ والحقیقة، ویجعله خالصاً لوجهه الكریم، وینفعنی به یَوْمَ لا یَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِیم، والله هو الموفِّق والمعین.
قم المشرّفة ـ محمّد تقی مصباح الیزدیّ
ذیقعدة الحرام ـ 1400
ومن المعلوم أنّ المراد بالفلسفة هی الفلسفة الاُولىٰ أو ما بعد الطبیعة، فإنّ سائر أقسام الفلسفة ـ بالاصطلاح القدیم ـ تُعرف بأسماءٍ خاصّةٍ كالطبیعیّات والریاضیّات، ولا یُبحث عن شیء منها فی هذا الكتاب.
وقد ابتدأ الأستاذ(دامظلهالعالی) بأنّ موضوع الفلسفة ـ وهو الموجود ـ غیر قابل للشكّ والإنكار، وإن وُجد تشكیك فیه فإنّما هو فی اللفظ فحسبُ، ولا یُبدیه إلاّ مكابر معاند. وأشار بهذا إلى مقالة السوفسطیّین، وسیأتی ذكر بعض شبههم والجواب عنها فی مبحث العلم.(1) وللشیخ كلام فی إلهیّات الشفاء،(2) ذكر نقاوته فی الأسفار.(3) وقوله «أشیاء موجودة جدّاً» أی واقعاً وحقیقةً لا بحسب التوهّم. وقوله «كما أنّا نفعل فیها أو ننفعل منها» مستدرك.
1. راجع: (الطبعة الأولى من الكتاب، ص224ـ226) الفصل التاسع من المرحلة الحادیة عشر.
2. راجع: الفصل الثامن من المقالة الاولى من إلهیّات الشفاء.
3. راجع: الأسفار (الطبعة الحدیثة): ج1، ص90؛ وراجع حول ما یناسب ذلك: التحصیل: ص292؛ والمطارحات: ص212؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص349ـ353.
إشارة إلى لمّ وجود الفلسفة والغرض من تعلّمها، وذلك أنّ معرفتنا بالواقعیّات لا تكون دائماً معرفة حقّة وعلماً مطابقاً للواقع، فربما نحسب ما لیس بموجود موجوداً وبالعكس. فمسّت الحاجة إلى علم یتكفّل تمییز الموجودات الحقیقیّة من غیرها بالبحث البرهانیّ المفید للیقین وهو الفلسفة. وكلامه هذا مثل كلامه فی «اُصول فلسفه» یوهم أنّ هذا هو اللم الأساسیّ بل الوحید، بحیث لولا الخطأ فی معرفة الحقائق والجهل المركّب بالنسبة إلى الواقعیّات لَما احتجنا إلى الفلسفة، ولیس كذلك فإنّ هناك مسائلَ لا یتكفّل بحلّها شیء من العلوم الاُخرى فاحتیج إلى علم خاصّ سمَّوه ب «ما بعد الطبیعة» و«الفلسفة الاُولى» ولو لم یكن لدینا آراء خاطئة حول تلك الاُمور كان للفلسفة مبرّرها. على أنّ من تلك المسائل ما هی مبادئ تصدیقیّة لعلوم اُخرى، ولذلك تحتاج تلك العلوم إلى الفلسفة دون العكس.
یعنی أنّ الفلسفة لا تستطیع تمییز جمیع الحقائق الجزئیة بما أنّها جزئیّة بل على وجه كلّی بأن تُعرّفنا أحوال الموجود المطلق فنجعلها معیاراً لتشخیص الحقائق عن الوهمیّات. مضافاً إلى أنّ البحث الذی یفید الیقین ویوصل إلى الواقع هو البحث البرهانیّ، وهو لا یتناول الجزئیّات والقضایا الشخصیّة على ما ذكر فی المنطق.
وكأنّ الاُستاذ(دامظلهالعالی) أراد بهذین الوجهین توجیه ما ذكروا فی تعریف الفلسفة من أنّها تبحث عن الأحوال الكلّیة للموجود المطلق. لكن هذا الكلام قاصر عن إفادة ذاك المرام، فإنّ ضیق الوسع عن تمییز جمیع الحقائق الجزئیّة لا یصلح علّةً لكون الفلسفة بالخصوص باحثة عن الأحوال الكلّیة، فإنّ جمیع العلوم تبحث عن مسائل كلّیة، ولیس شیء منها متكفّلاً لمعرفة الجزئیات بما أنّها جزئیّات شخصیّة. اللهمّ إلاّ
ما كان من قبیل التاریخ وعلم الرجال. والكلّیة التی تختصّ بمسائل الفلسفة لیست تلك الكلّیة المشتركة بین جمیع العلوم. وعدم شمول البرهان للجزئیّات ـ على ما فیه من الكلام ـ لا یختصّ بالبراهین الفلسفیّة، بل یشمل كلَّ العلوم البرهانیّة كالعلوم الریاضیّة مثلاً، فلنلتمسْ دلیلاً آخر على هذا القید المذكور. ولهذا البحث ذیل طویل، وللقوم كلمات شتّى لا تشفی العلیل، ولا تروی الغلیل.(1)
والحقّ أنّ الكلّیة التی تختصّ بالمسائل الفلسفیّة إنّما هی بلحاظ عدم اختصاصها بنوع معیّن من الموجودات أو بماهیّة خاصّة على ما هو شأن الأحوال التی یبحث عنها فی سائر العلوم ممّا یختصّ بموضوع خاصّ بما أنّها خاصّة به كالأحوال التی یبحث عنها فی الطبیعیّات ممّا یختصّ بالجسم، والأحوال التی یبحث عنها فی الریاضیّات ممّا یختصّ بالكمّ. فعلى العكس من ذلك لا یختصّ مفهوم العلّة أو المعلول بماهیّة خاصّة، وكذا الوحدة والكثرة، وبالفعل وبالقوّة إلى غیر ذلك. وإن كان هناك اختصاص فلیس ذلك ملحوظاً فی البحث الفلسفیّ، فلا یلاحظ فی البحث عن الوجود بالقوّة مثلاً اختصاصه بالموجودات المادّیة، فافهم.
والسرّ فی ذلك أنّ المفاهیم الفلسفیّة كلّها من قبیل المعقولات الثانیة الفلسفیة(2) ممّا لا یعتبر فیها حال ماهیّة خاصّة، فمعرفة القضایا الفلسفیّة والتعریف الوافی للفلسفة الاُولىٰ یتوقّف على معرفة تلك المعقولات.
أقول: كان قدماء الفلاسفة یُسمّون جمیع العلوم النظریّة والعملیّة بالفلسفة،
1. راجع حول ما یناسب ذلك: الأسفار: ج1، ص23ـ35.
2. راجع حول ما یناسب ذلك: الشوارق: المسألة الخامسة عشر من الفصل الأوّل، ص62؛ والأسفار: ج1، 332ـ337؛ وشرح المنظومة: ص34.
وكانوا یقسمون العلوم النظریّة إلى الطبیعیّة والریاضیّة والإلهیّة. وذكر مؤرّخو الفلسفة أنّ أصحاب أرسطو لمّا رتّبوا كتبه الفلسفیّة أخّروا العلم الباحث عن الأحكام الكلّیة للوجود إلى ما بعد علم الطبیعة وسمّی لذلك بما بعد الطبیعة، كما سمّی بالعلم الكلّیّ والعلم الأعلى والفلسفة الاولى بعنایات اُخرى. وقال صدر المتألّهین فی تعلیقته على الشفاء: «اعلم أنّ أقسام الحكمة النظریّة ثلاثة عند القدماء وهی الطبیعیّ والریاضیّ والإلهیّ، وأربعة عند أرسطو وشیعته بزیادة العلم الكلّیّ الذی فیه تقاسیم الوجود»(1) وكلامه هذا صریح فی أنّ العلم الكلّیّ عند شیعة أرسطو هو غیر العلم الإلهیّ الباحث عن المسائل الخاصّة بالمبدء الأوّل تبارك وتعالى.
وقد جرت عادة الفلاسفة الإسلامیّین بتثلیث الأقسام وإدراج المسائل الإلهیّة فی العلم الكلّی(2) كما أنّهم ربما أدرجوا مسائل المعاد بل النبوّة واُصول الأخلاق فی هذا العلم. قال الشیخ فی إلهیّات الشفاء فی الفصل الذی عقده لبیان مسائل هذا العلم بعد ذكر عدّة من الأمور العامّة: «ثمّ ننتقل إلى مبادئ الموجودات، فنثبت المبدء الأوّل وأنّه واحد حقٌّ فی غایة الجلالة... ثمّ نبیّن كیف نسبته إلى الموجودات عنه وما أوّل الأشیاء التی توجد عنه ثمّ كیف تترتّب عنه الموجودات... وماذا یكون حال النفس الإنسانیّة إذا انقطعت العلاقة بینها وبین الطبیعة، وأیّ مرتبة یكون وجودها. وندلّ فی ما بین ذلك على جلالة قدر النبوّة ووجوب طاعتها وأنّها واجبة من عند الله وعلى الإطلاق،(3) والأعمال التی تحتاج إلیها النفوس الإنسانیّة مع
1. راجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص4؛ وكلامه فی مواضع من الأسفار یدلّ على مغایرة العلم الإلهیّ للفلسفة الاولى. فراجع: ج4، ص2ـ3؛ و ج6: ص3ـ4.
2. راجع: المطارحات: ص196ـ199.
3. إیراد هذه المسائل فی العلم الإلهیّ ممّا یشرف الناظر على القطع بأنّ ذكرها استطرادیّ، ولیس كلّ هذه المسائل فی نظر الشیخ من مسائل هذا العلم.
الحكمة فی أن یكون لها السعادة الاُخرویّة، ونعرّف أصناف السعادات. فإذا بلغنا هذا المبلغ ختمنا كتابنا هذا، والله المستعان به على ذلك».(1)
وقد اختلفت كلمات القوم فی تعیین موضوع هذا العلم بحیث یمكن جعل هذه المحمولات المتكثّرة عوارضَ ذاتیّةً له. قال الشیخ بعد نقل قول من قال بأنّ موضوع هذا العلم هو المبدء الأوّل ومن قال بأّنّ موضوعه هو الأسباب القصوى والردّ علیهما: «إنّ موضوع هذا العلم هو الموجود بما هو موجود».(2)
وقال فی الأسفار: «للموجود بما هو موجود عوارضُ ذاتیّة یبحث عنها فی العلوم الإلهیّة، فموضوع العلم الإلهیّ هو الموجود المطلق، ومسائله إمّا بحث عن الأسباب القصوى لكلّ موجود معلول، كالسبب الأوّل الذی هو فیّاض كل وجود معلول من حیث إنّه وجود معلول، وإمّا بحث عن عوارض الموجود بما هو موجود، وإمّا بحث عن موضوعات سائر العلوم الجزئیّة. فموضوعات سائر العلوم الباقیة كالأعراض الذاتیّة لموضوع هذا العلم».(3)
ولا یخفى أنّه عطف عوارض الموجود بما هو موجود على الأسباب القصوى لكلّ موجود معلول ممّا هو ظاهر فی المباینة بینهما على رغم تصریحه بأنّ العلوم الإلهیّة تبحث فقط عن عوارض الموجود بما هو موجود، وجعل البحث عن موضوعات سائر العلوم الجزئیّة أیضاً قسیماً للبحث عن عوارض الموجود، إلاّ أنّه استدرك أخیراً بأنّ موضوعات سائر العلوم كالأعراض الذاتیة لموضوع هذا العلم، فافهم.
وقد علّق الاُستاذ(دامظلهالعالی) علیه بأنّ هذا الكلام مبتنٍ على قسمة غیر دائرة بین النفی والإثبات، وأنّه لا یشیر إلى لمّ البحث وسببه القریب. ثمّ ذكر ما هو كالملخّص لكلامه ههنا فی المدخل.
1. راجع: الفصل الرابع من المقالة الاولى من إلهیّات الشفاء.
2. راجع: الفصل الأوّل والفصل الثانی من المقالة الاولى من إلهیّات الشفاء.
3. راجع: الأسفار: ج1، ص24ـ25.
ثمّ إنّ صدر المتألّهین قال فی كلام له: «واقض العجب من قوم اضطرب كلامهم فی تفسیر الاُمور العامّة... فإنّهم فسّروها تارة بما یشمل الموجودات أو أكثرها، فیخرج منه الوجوب الذاتیّ والوحدة الحقیقیّة والعلّیة المطلقة وأمثالها ممّا یختصّ بالواجب؛ وتارة یشمل الموجودات إمّا على الإطلاق أو على سبیل التقابل (وهذا هو الذی یلوح من كلام الاُستاذ اختیاره)... ولشموله الأحوال المختصّة زید قید آخر وهو أن یتعلّق بكلّ من المتقابلین غرض علمی(1) ـ إلى أن قال: ـ وأنت إذا تذكّرت أنّ أقسام الحكمة الإلهیّة ما یبحث فیها عن العوارض الذاتیّة للموجود المطلق بما هو موجود مطلق أی العوارض التی لا یتوقّف عروضها للموضوع أن یصیر تعلیمیّاً أو طبیعیّاً لاستغنیت عن هذه التكلّفات وأشباهها».(2)
وقد علّق علیه الاُستاذ(دامظلهالعالی) بقوله «قد ظهر ممّا قدّمناه أنّ من الواجب أن یفسّر الاُمور العامّة بما یساوی الموجود المطلق إمّا وحده وإمّا مع ما یقابله فی القسمة المستوفاة. والمراد بالمقابلة هو نتیجة التردید الذی فی التقسیم. وبذلك یظهر اندفاع جمیع ما أورده(رحمةالله) فتبصّر».
وقال الشیخ فی الشفاء فی كلام له: «ولیس إنّما ینظر فی المشترك بل ینظر فی ما یخصّ علماً علماً لكنّه مبدء لذلك العلم وعارض للمشترك، فإنّ هذا العلم قد ینظر فی العوارض المخصّصة للجزئیّات إذا كانت لذاتها وأوّلاً وكانت لم تتأدّ بعدُ إلى أن تكون أعراضاً ذاتیة لموضوعات العلوم الجزئیّة».(3)
وقال فی القبسات: «إنّما البحث عن موضوعات العلوم الجزئیّة وأجزاء
1. راجع: الشوارق: ص14.
2. راجع: الأسفار: ج1، ص28ـ30.
3. راجع: آخر المقالة السادسة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التعلیقات: ص170ـ171.
موضوعاتها جمیعاً على ذمّة العلم الأعلى ـ إلى أن قال ـ والبحث عن الهلیّة البسیطة لأیّ شیء كان من مطالب العلم الذی فوق الطبیعة».(1)
والذی یظهر من التأمّل فی كلماتهم التی نقلنا نماذج منها أنّ الذی دعاهم إلى هذه الأبحاث الطویلة هو الإجابة على هذه الأسئلة: ما هو نطاق مسائل الفلسفة الاُولى؟ وهل یشمل مسائل المبدء والمعاد أو لا؟ وإذا كانت تشمل جمیعها أو بعضها فهل لهذا الشمول ملاك برهانیّ أو هو تابع للمواضعة؟ وإذا كان ملاك تعیین مسائل العلم كون محمولاتها عوارض ذاتیّة لموضوع العلم فما المراد بالعوارض الذاتیّة؟ وهل یعتبر فیها المساواة للموضوع أو تشمل ما هو أخصّ منه؟ وإذا اعتبر فیها المساواة فكیف تذكر فی العلوم ـ ومن جملتها الفلسفة الاُولى ـ مسائل تكون محمولاتها أخصّ؟
قال الاُستاذ(دامظلهالعالی) فی تعلیقة له على الأسفار: «الاقتصار فی العلوم على البحث عن الأعراض الذاتیّة لا یبتنی على مجرّد الاصطلاح والمواضعة، بل هو ممّا یوجبه البحث البرهانیّ فی العلوم البرهانیّة» ثمّ أشار إلى شروط مقدّمات البرهان فقال «وأن تكون ذاتیّة المحمول للموضوع أی بحیث یوضع المحمول بوضع الموضوع ویرفع برفعه مع قطع النظر عمّا عداه، إذ لو رفع مع وضع الموضوع أو وضع مع رفعه لم یحصل یقین، هذا خلف. وهذا هو الموجب لكون المحمول الذاتیّ مساویاً لموضوعه» ثمّ قال «ولو كان بعض المحمولات أخصّ من موضوعه كان هو وما یقابله فی التقسیم محمولاً ذاتیّاً واحداً للموضوع الأعمّ، كما أنّ كلاً منها ذاتیّ لحصّة خاصّةٍ من الأعمّ المذكور».(2)
ومن كلامه هذا تعرف آراءه فی الإجابة على الأسئلة المذكورة.
1. راجع: القبسات (الطبعة الحدیثة): ص19.
2. راجع: الأسفار: ج1، ص30ـ31.
وقال الشیخ فی النجاة: «ولواحق الشیء من جهة ما هو هو ما لیس یحتاج الشیء فی لحوقها له إلى أن تلحق شیئاً آخرَ قبله أو إلى أن یصیر شیئاً آخر فتلحقه بعده ـ إلى أن قال ـ ومن هذه اللواحق التی تلحق الشیء من جهة ما هو هو ما هو أخصَّ منه. ومنها ما لیس أخصَّ منه، والتی هی أخصُّ منه فمنها فصول ومنها أعراض. وبالفصول ینقسم الشیء إلى أنواعه، وبالأعراض ینقسم إلى اختلاف حالاته» (أی إلى أحواله المختلفة).(1)
وكلامه هذا صریح فی أنّ من العوارض الذاتیة ما هو أخصُّ من الموضوع، وأمّا ما ذكره الاُستاذ فی بیان ضرورة مساواة العارض الذاتی لمعروضه فهو إذا تمّ فإنّما یثبت ضرورة مساواة المحمول لموضوع المسألة لا لموضوع العلم، فافهم. وأمّا العلاقة بین موضوعات المسائل وموضوع العلم فالذی یختلج بالبال أنّها لیست أمراً برهانیّاً، فربما تكون موضوعات المسائل أجزاءً لموضوع العلم كما فی مسائل علم الطبّ، وربما تكون أنواعاً لمهیّة جنسیّة أو أصنافاً لمهیّة نوعیّة كما فی العلوم الطبیعیّة، وربما تكون مصادیقَ لعنوان انتزاعیّ عقلیّ كما فی الفلسفة الاُولى، أو لعنوان اعتباریّ كما فی العلوم الاعتباریّة.
توضیح ذلك: انّ القدماء لمّا جمعوا المعارف الإنسانیّة وأخذوا فی ترتیبها وتنسیقها سمَّوا كلّ مجموعة متناسبة منها باسم علم خاصّ، وأطلقوا علیها اسم العلم أو الفنّ أو الصناعة (كما أطلق الاُستاذ(دامظلهالعالی) اسم الصناعة على الفلسفة الاُولىٰ فی أوّل الكتاب واسم الفنّ علیها فی آخر المدخل) بنحو من الاشتراك اللفظیّ فإنّ لكلّ من هذه الألفاظ معنى آخر أعمَّ أو أخصَّ أو مبائناً، وأطلقوا على الجمیع اسم الفلسفة والحكمة. فكانت الفلسفة عندهم اسماً عامّاً لتلك العلوم، وكانت تنقسم إلى علوم نظریّة وعملیّة. والعلوم النظریّة كانت ثلاثة أو أربعة عندهم على ما مرّت
1. راجع: النجاة: ص198.
الإشارة الیه. وكانت العلوم الطبیعیّة والریاضیّة تنقسم إلى علوم جزئیة كعلم المعادن وعلم النبات وعلم الحیوان، وكعلم الحساب والهندسة والموسیقى، وغیرها. كما أنّها لا یزال كلّ واحد منها ینقسم إلى علوم أكثرَ جزئیّةً لاتّساع نطاق مسائلها، وإن كان یمكن التقسیم على حسب اختلاف الأغراض والغایات أو على حسب أسالیب البحث والاستدلال كالاُسلوب التجریبیّ والأسلوب التعقّلیّ والأسلوب النقلیّ، فلم یكن التقسیم بحسب الموضوعات أمراً متعیّناً عقلاً لا یصحّ مخالفته، كما انّهم لو لم یقسّموا العلوم وجعلوها علماً واحداً موضوعه مطلق الموجود (لا الموجود المطلق) لم یلزم محذور عقلیّ.
ثمّ إنّهم لاحظوا أنّ البراهین المستعملة فی العلوم كثیراً مّا یكون إثبات مقدّماتها على ذمّة علوم اُخرى، فلذلك بِعَینه سعَوا فی تعیین مراتب العلوم وأوصَوا برعایتها لِتَقلّ الحاجة إلى العلوم المتأخّرة فی إثبات المسائل المتقدّمة. كلّ ذلك كان تسهیلاً للتعلیم ورفقاً بالمتعلّمین. ولمّا جعلوا ملاك تمایز العلوم اختلافَ الموضوعات أی اختلاف العناوین الكلّیة المنطبقة على موضوعات المسائل اشترطوا فی المسائل أن تكون محمولاتها مناسبة لموضوع العلم بأن تكون مأخوذة فی حدّه أو یكون الموضوع مأخوذاً فی حدّها أو یكون جنس ما یؤخذ فی حدّها أو معروضه، وسمَّوا مثل تلك المحمولات بالذاتیّة بنوع من الاشتراك اللفظیّ، وهذا هو المراد بقولهم «موضوع كلّ علم ما یبحث فیه عن عوارضه (أو أعراضه) الذاتیّة»(1) ولولا رعایة ذلك
1. قال فی التحصیل (ص221): اعلم ان المطلوب فی العلوم هو الأعراض الذاتیة، وانما سمیّت ذاتیة لانها خاصّة بذات الشیء أو جنسه، إمّا على الاطلاق فمثل ما للمثلث من كون الزوایا الثلاث مساویة لقائمتین، وامّا بحسب المقابلة وهو ان لا یخلو الشیء عنه أو عن مقابله كما بینّاه. ولو كانت الاعراض الغریبة یبحث عنها فى العلوم لكان یدخل كل علم فی كل علم، وصار النظر لیس فی موضوع مخصّص، ولكان العلم الجزئی علما كلیاً ولما كانت العلوم متباینة. وراجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة من الفن الخامس من منطق الشفاء؛ وراجع: النهج الأوّل من منطق شرح الإشارات.
الملاك لم یكن وجه لاعتبار كون محمولات المسائل ذاتیّة لموضوع العلم، بل كانت غایة ما یلزم أن یكون محمول المسألة ذاتیّاً لموضوع نفس المسألة. ولمّا لاحظوا أنّ محمولات الموضوع العامّ تكون ثابتة لأنواعه دون العكس إلاّ بنحو القضیّة الجزئیّة اشترطوا فیها أن تكون أوّلیّة، أی لا یكون عروضها بواسطة أمر أعمّ أو أخصّ، حذراً من التداخل والتكرار أو ازدیاد حاجة العلوم بعضها إلى بعض، وربما أدرجوا شرط الأوّلیّة فی الذاتیّة. فراجع برهان الشفاء وأساس الاقتباس.
ثمّ إن تطبیق هذه الشروط ورعایة هذه الالتزامات فی مسائل العلوم أوقعهم فی مضایق كثیرة تكلّفوا للخروج عنها بمثل ما ذكرنا نماذج منها، وخاصّةً فی الفلسفة الاُولىٰ حیث إنّ موضوعها هو الموجود، وهو كسائر المفاهیم الفلسفیّة لیس معنى جنسیّاً ولا نوعیّاً حتّى یؤخذ فی حدّ شیء أو یؤخذ فی حدّه شیء.
والحاصل أنّه یمكن جعل موضوع الفلسفة الاُولى هو الموجود بما ینتزع منه المعقولات الثانیة الفلسفیّة العامّة وجعل العلم الإلهیّ علماً برأسه، كما أنّه یمكن توسیع التعریف بحیث یشمل مسائل المبدء بل المعاد كجعل موضوعین أو أكثر لها، كما یمكن إدراج جمیع المسائل التی تثبت بالمنهج التعقلیّ المحض فیها. وقد أشرنا إلى إمكان جعل الفلسفة علماً عامّاً شاملاً لكلّ العلوم البرهانیّة وجعل موضوعها مطلق الموجود، ولا یلزم من شیء من ذلك مخالفة عقل أو وحی سماویّ.
لمقایسة العلوم بعضها ببعض اعتباران: أحدهما نسبة مفاهیم موضوعاتها بعضها إلى بعض، فإذا كان موضوع علم أعمَّ من موضوع علم آخر سمّی العلم الأوّل «أعمَّ» كنسبة العلم الطبیعیّ إلى علم الحیوان، لكن فی هذا الاعتبار لا تغایر بین العلمین لأنّ الأخصَّ جزء من الأعمّ. ثانیهما نسبة المسائل بعضها إلى بعض
بحسب مقام الإثبات، فإذا كان مسائل علم من مبادئ علم آخر سمّی العلم الأوّل «أعلى» كنسبة العلم الكلّی والفلسفة الاُولىٰ إلى سائر العلوم.
ثمّ إنّ التصدیق بوجود موضوع العلم یُعدّ من مبادئه، فإذا لم یكن بدیهیّاً احتاج إلى علم أعلى حتّى یثبت فیه. فكلّ علم لا یكون وجود موضوعه بدیهیّاً احتاج إلى علم أعلى، وحیث لا یوجد علم أعلى من الفلسفة الاُولى فلیكن هذا العلم متكفّلاً لإثبات تلك الموضوعات. وهذا هو السرّ فی إدراج هذه المسائل فی الفلسفة. وأمّا تعلیل ذلك بأعمّیة الموضوع فهو یناسب الفلسفة بمعناها العامّ الذی یشمل جمیع العلوم، وهی بهذا المعنى لیست علماً برأسها.
حاصله أنّ مسائل الفلسفة على قسمین: قسم منها یبحث عن أحوال مساویة للموجود، وقسم منها یبحث عن التقسیمات الأولیّة للموجود فتكون من قبیل القضایا المردّدة المحمول، ویكون موضوع القضیة فی كلا القسمین هو الموجود إلاّ أنّه تعكس القضایا غالباً فیجعل الموجود محمولاً، وهذا ما نبّه علیه فی الأمر الثالث.
ویلاحظ علیه أوّلا أنّ هذا البیان یوجب حصر الفلسفة فی عدّة مسائل معدودة ویكون البحث عن الأحوال الخاصّة بالأقسام خارجاً عنها، فیلزم الاستطراد فی الأكثر. إلاّ أن یتكلّف بارجاعها إلى إثبات الوجود لتلك الأحوال، لكن هذا یجری فی جمیع مسائل العلوم، فیلزم كون الجمیع من الفلسفة الاُولىٰ وهو كما ترى.
وثانیا إذا اشترط فی تقسیمات الموجود كونها أوّلیّة تقلّصت تلك المسائل المحدودة إلى ما لا یجاوز عدد الأصابع، وإذا لم یشترط ذلك لزم عدّ التقسیمات الجزئیة التی لا تحصى من مسائل الفلسفة كتقسیم الأجسام إلى الحیّة وغیرها، وتقسیم الحیوان إلى البوائض والموالد، والبوائض إلى الطیور والحیتان، والموالد
إلى الوحوش والأنعام وغیرها، وهكذا تقاسیم الجماد والنبات ممّا یذكر فی العلوم الطبیعیّة. ولا یوجد ملاك برهانیّ لتوقیف التقسیم.
العلوم تنقسم إلى آلیّة تتعلّم لأجل علم آخر كالمنطق بالنسبة إلى الفلسفة، وكاُصول الفقه بالنسبة إلى علم الفقه؛ وغیر آلیّة وهی ما لا تتعلّم لأجل علم آخر وإن كان تعلّمها لأجل فوائد تترتّب علیها فی الدنیا والعقبى ولا أقلّ من إرضاء غریزة حبّ الاطّلاع وكشف الحقیقة. والفلسفة لیست علماً آلیّاً، فلا یكون علم آخر غایة لها. لكن لها فوائد تترتّب علیها من معرفة المبدء الأوّل والأسباب القصوى، وتمییز الحقائق من الوهمیّات، ووراء الجمیع إرضاء الغریزة المذكورة. كما یمكن عدّ معرفة مبادئ سائر العلوم ـ ومنها إثبات موضوعاتها ـ من تلك الفوائد.
قال الاُستاذ(دامظلهالعالی) فی بدایة الحكمة: «وغایته تمییز الموجودات الحقیقیّة من غیرها ومعرفة العلل العالیة للوجود وبالأخصّ العلّة الاُولى التی تنتهی إلیها سلسلة الموجودات، وأسمائه الحسنى وصفاته العلیا». والظاهر من نفی الغایة له فی هذا الكتاب هو بیان عدم كون علم آخر غایة له كما قال «من غیر أن تقصد لأجل غیرها وتكون آلة للتوصّل بها إلى أمر آخر كالفنون الآلیّة». وأمّا تعلیل نفی الغایة للفلسفة بأعمّیة الموضوع وعدم خروج شیء عنه ففیه أنّ عموم الموضوع یقتضی عدم وجود الغایة للموضوع، لا نفی الغایة للعلم، فافهم.
تحقیق هذا الأمر یتوقّف على معرفة تامّة بأقسام البرهان وشرائطها، وهذا ما لا یسعنا الخوض فیه ههنا، ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أهمّ ما یرتبط بهذا البحث، فنقول:
البرهان ـ وهو القیاس المفید للیقین ـ یتشكّل من مقدّمات یقینیّة. ولمقدّمات البراهین التی یبرهن بها فی العلوم والتی تفید التصدیقات الیقینیّة الكلّیة شروط مذكورة فی كتب المنطق كبرهان الشفاء وأساس الاقتباس وشرح الإشارات. وإذا كانت مقدّمات البرهان واجدة لشرائطها من حیث المادّة والهیئة أنتجت الیقین بقضیّة اُقیم البرهان علیها. فالمقدّمات علّة للتصدیق بالنتیجة فی كلّ برهان. إلاّ أنّ من البراهین ما یكون الحدّ الأوسط فیها علّة لثبوت الأكبر ـ وهو المحمول فی النتیجة ـ للأصغر ـ وهو الموضوع فیها ـ وهو الذی یسمّى بالبرهان اللّمیّ؛ ومنها ما یكون الحدّ الأوسط معلولاً لثبوت الأكبر للأصغر، فلا یفید العلم الیقینیّ بثبوت المحمول إلاّ إذا عُلم بانحصار العلّة، وهو الذی یسمّى بالدلیل كما یسمّى بالبرهان الإنّی؛ ومنها ما یكون الحدّ الأوسط والحدّ الأكبر من لوازم الحدّ الأصغر ـ لا علّةً لثبوت الأكبر ولا معلولاً له ـ فیستدلّ بما هو بیّن منهما على ما لیس ببیّن، بأن یجعل اللازم البیّن حدّاً أوسط، ویسمّى أیضاً بالبرهان الإنّیّ ویختصّ باسم البرهان الإنّیّ المطلق. فالبرهان اللمّی إنّما یقام على قضیّة یكون ثبوت محمولها لموضوعها معلولاً لشیء فیجعل ذلك الشیء حدّاً أوسط. وإذا كانت العلّة مركّبة من أمور متعدّدة وكان العلم بالمعلول رهن الالتفات إلى جزء خاصّ منها كفى جعل الحدّ الأوسط ذلك الجزء.
وههنا اُمور دقیقة یجب لفت النظر إلیها:
أحدها أنّ من شروط البرهان اللمّیّ أن یكون الحد الأوسط علّة لثبوت الأكبر للأصغر وتحقّقه فیه، ولیس یلزم أن یكون علّة لثبوت الأكبر فی نفسه، حتّى أنّهم صرّحوا بأنّ الحدّ الأوسط قد یكون معلولاً للحدّ الأكبر فی نفسه وهو مع ذلك علّة لثبوته للحدّ الأصغر.
ثانیها أنّه یجب أن یلاحظ رابطة العلّیة بین كلّ ما جُعل حدّاً أوسط وبین كلّ ما جُعل حدّاً أكبر فی البرهان، فلا یكفی ملاحظة الرابطة بین الحدّ الأوسط وبعض ما
یذكر فی الحدّ الأكبر. فقولهم «كلّ جسم مؤلَّف (بفتح اللام) وكلّ مؤلَّف فله مؤلِّف (بكسرها)» لیس من قبیل الدلیل والسلوك من المعلول إلى العلّة، لأنّ الحدّ الأكبر هو «له مؤلّف» لا «مؤلّف» وحده، وقد صرّح المحقّق الطوسی بأنّه برهان لمّی.(1)
وثالثها أنّ مرادهم بالعلّیة هنا ما هو أعمُّ من العلّیة العینیّة والتأثیر الخارجىّ، ویشمل العلّیة بین الاعتبارات العقلیّة، فالإمكان مثلاً عندهم علّة لحاجة الممكن إلى الواجب، وعلى هذا یكون قولهم «العالم ممكن، وكلّ ممكن یحتاج الى الواجب» من قبیل البرهان اللمّی مع أنّ مغزاه إثبات الواجب من طریق العلم بمعلوله الذی هو العالم.
إذا عرفت هذا فنقول: إذا كان كلام الاُستاذ(دامظلهالعالی) من عدم جریان البراهین اللمیّة فی المسائل الفلسفیّة مبتنیاً على ردّ هذه الاُمور فلیُنظرْ فی المبنى، وأمّا إذا كان مبتنیاً على قبولها فیمكن المناقشة فیه أوّلا بأنّ شرط البرهان اللمّی كون الحدّ الأوسط علّة لثبوت الحدّ الأكبر للأصغر لا كونه علّة لنفس الحدّ الأصغر، فعدم وجود العلّة للموجود المطلق لا ینافی ثبوت العلّة لحمل الموجود على شیء ولا لحمل مفهوم آخَرَ للموجود المطلق وخاصّةً بالنّظر إلى الأمر الثالث. ورجوع جمیع المحمولات إلى الموضوع أیضاً لا یضرّ بذلك، لأنّ هذا الرجوع والاتّحاد إنّما هو بحسب المصداق دون المفهوم، كما صرّح به نفسه.
وثانیا عدم وجود علّة للموجود المطلق لا یستلزم عدم علّة لحصّة خاصّة أو لمرتبة خاصّة منه، ویكفی فی ذاتیّة المحمول أن یكون ثابتاً لحصّة من موضوع العلم، كما أنّه یكفی أن یكون حصّة من المحمول ثابتة للموضوع كما صرّح به أساطین المنطق.
وثالثا بناءً على كون المسائل الإلهیّة من مسائل الفلسفة لا مناص عن قبول إمكان إقامة البرهان اللمّی فیها، فإنّ الأفعال الإلهیّة یمكن إثباتها من طریق الصفات التی هی
1. راجع: النهج التاسع من شرح الإشارات.
عین الذات الإلهیّة تبارك وتعالى، فیسلك من العلّة إلى المعلول وهو برهان لمّی، مضافاً إلى ما عرفت من جریان البرهان اللمّی فی مسائل العلم الكلّی أیضاً.
وقد تحصّل من جمیع ما ذكرنا أنّ الأولى تقسیم المسائل المدوّنة فی هذا الكتاب إلى قسمین: أحدهما مسائل العلم الكلّیّ أو الفلسفة الاُولىٰ الباحثة عن الاُمور العامّة أی المعقولات الثانیة الفلسفیّة (دون المنطقیّة) التی لا تختصّ بموجود معیّن بما هو خاصّ به، وموضوعه الموجود بما هو معروض تلك المعقولات، وغایته معرفة المبادئ التصدیقیّة لسائر العلوم وخاصّةً العلم الإلهیّ ـ أی القسم الثانی من هذه المسائل المدوّنة ـ وكذا تمییز المعارف الحقیقیّة من الوهمیّات. وموضوع هذا العلم بدیهیّ تصوّراً وتصدیقاً، أمّا الأوّل فواضح، وأمّا الثانی فلأنّه مأخوذ من العلم الحضوریّ بوجود النفس وقواه وأفعاله وانفعالاته، ذاك العلم الذی لا یقبل الخطأ لكونه عین المعلوم. وأمّا المبادئ التصدیقیّة لهذا العلم فتنحصر فی البدیهیّات، فلا تحتاج إلى أن تثبت فی علم أعلى.
وثانیهما مسائل العلم الإلهیّ الباحثة عن وحدة الواجب تعالى وسائر صفاته وأفعاله. وموضوعه الواجب الوجود تبارك وتعالى، وغایته القصوى هی الفوز بقربه. وأمّا وجود موضوعه فیثبت فی العلم الكلّی كسائر مبادئه النظریّة. والله الهادی.
لیس البحث عن الألفاظ وشؤونها من الاشتراك اللفظیّ والمعنویّ وغیرهما من الأبحاث الفلسفیّة، إلاّ أنّه لمّا كـان موضوع الفلسفة ـ الذی یجب أن یشمل بعمومه جمیع موضوعات المسائل ـ هو «الموجود» ولابدّ أن یتصوّر بمفهومه العامّ ویحكى بلفظ معیّن أرادوا أن یؤكّدوا على أنّ مبدء اشتقاقه مشترك معنویّ بین موارد استعماله، لیتبیّن أنّ الموجود بمعناه الواحد یطلق على مصادیقه، فیصلح أن یكون موضوعاً واحداً لعلم واحد، مضافاً إلى ردّ ما زعمه أبو الحسن الأشعریّ وأبو الحسین البصریّ ـ على ما نقل عنهما ـ من اشتراكه اللفظیّ. والّذی یزید فی أهمیّة هذا البحث توقّف اثبات أصالة الوجود علیه كما سیأتی الإشارة الیه، وكذا توقّف البرهان الذی اُقیم على وحدة حقیقة الوجود، وإن كان ذلك البرهان قابلاً للمناقشة كما سیجیء فی محلّه.
وكیف كان فوحدة معنى الوجود والموجود أمر واضح لا یحتاج إلى تجشّم دلیل. قال الرازیّ فی المباحث المشرقیّة: «یشبه أن یكون ذلك من قبیل الأوّلیّات»(1) وقال فی الأسفار:(2) إنّه قریبٌ من الأوّلیات كما نقل عنه فی المتن، وقال فی
1. راجع: المباحث المشرقیّة: ج1، ص18.
2. راجع: الأسفار: ج1، ص35.
الشوارق: «واعلم أنّ الحقّ كما صرّح به كثیر من المحقّقین هو أنّ المطلوب فی هذه المسألة ـ أعنی اشتراك الوجود معنىً بین جمیع الموجودات ـ بدیهیّ جدّاً، وهذه الوجوه تنبیهات علیه».(1)
ولعل الداعی إلى إنكار الاشتراك المعنوی هو توهُّم استلزامهنفیَ التمایز بین الحقائق العینیّة وخاصّةً نفیَ التمایز بین الخالق والمخلوق. ومنشأ هذا التوهُّم هو الخلط بین المفهوم والمصداق كما نبّه علیه الاُستاذ(دامظلهالعالی) فی آخر البحث تبعاً لبعض المحقّقین.
هذه المسألة استحدثت كمسألة فلسفیّة مستقلّة فی عصر صدر المتألّهین، ولم تكن قبل ذلك العصر معنونة استقلالاً حتّى فی كتب الفلاسفة الإسلامیین وإنّما توجد فی مطاوی كلماتهم إشارات إلیها، فكلمات أتباع المشّائین ظاهرة فی القول بأصالة الوجود، ولعلّ أصرحها قول بهمنیار فی التحصیل «الوجود حقیقته أنّه فی الأعیان لا غیر، وكیف لا یكون فی الأعیان ما هذه حقیقته؟!»(2) وقوله «والفاعل إذا أفاد وجوداً فإنّما یفید حقیقته، وحقیقته موجودیّته، فقد بان من جمیع هذا أنّ وجود الشیء هو أنّه فی الأعیان لا ما به یكون فی الأعیان»(3) كما أنّ كثیراً من كلمات الإشراقیّین ظاهرة فی القول بأصالة المهیّة(4) وإن كانت هادفة إلى نفی زیادة الوجود على المهیّة فی الأعیان وإلى اعتباریّة مفهوم الوجود. وكیف كان فقد یوجد من كلّ
1. راجع: الشوارق: ص26.
2. راجع: التحصیل: ذیل الصفحة 286.
3. راجع: نفس المصدر: ص284.
4. راجع: حكمة الإشراق: ص64ـ67؛ والتلویحات: ص22ـ23؛ وراجع: الأسفار: ج1، ص411.
من الفریقین ما یخالف القول المنسوب إلیهم. وقد صرّح السیّد الداماد بأصالة الوجود فی قوله «الوجود فی الأعیان هو التحقّق المتأصّل فی متن الواقع خارج الأذهان»(1) وكان صدر المتألّهین نفسه فی بدء الأمر قائلاً بأصالة المهیّة وكان شدید الذبّ عنها ـ على حدّ تعبیره (2) ثمّ رجع عنها وبالغ فی إنكارها والإصرار على أصالة الوجود بما لا مزید علیه. واشتهر القول بأصالة الوجود بین من تأخّر عنه حتّى أنّه لم یعرف فی من یعبأ بقوله قائل بأصالة المهیّة بعده. إلاّ أنّ المسألة لم تنقَّح بعدُ حقَّ التنقیح، ولم یحرَّر محلُّ النزاع فیها حقَّ التحریر، فترى الطالب یدرس المسألة فی كتب متعدّدة ویبحث عنها سنین طویلة ولا یعرف الغرض من عقدها والنتیجة التی تترتّب على طرفیها. وأرجو من الله تعالى أن یتفضّل علینا بالتوفیق لتنقیحها وبیان لمّها وكشف القناع عن وجه سرّها وهو ولیُّ التوفیق.
وینبغی قبل كلّ شیء توضیح معانی الألفاظ المأخوذة فی عنوان المسألة، وهی الوجود والماهیّة والأصالة.
أمّا الوجود فقد یراد به المعنى الحرفیّ الرابط بین القضایا والذی یرادفه فی الفارسیّة «أست» ویقابله الوجود المحمولیّ الصالح لجعله محمولاً فی الهلیّة البسیطة والذی أنكره ثلّة من متأخّری الفلاسفة الغربیّین. وقد یراد به المعنى المصدریّ المتضمّن للنسبة إلى الفاعل والذی یرادفه فی الفارسیّة «بودن» ولا یحمل على الأعیان إلاّ حمل الاشتقاق. وقد یراد به اسم المصدر الفاقد فی نفس مفهومه للنسبة إلى الفاعل والذی یرادفه فی الفارسیّة «هستی» ویحمل على الأعیان
1. راجع: القبسات: ص38.
2. راجع: الأسفار: ج1، ص49.
حمل المعقولات الثانیة الفلسفیّة على مصادیقها الخارجیّة. وقد یراد به نفس الحقیقة العینیّة والذی یُحكىٰ عنها بهذا المفهوم العامّ.
أمّا المعنى الحرفیّ فهو فی الأصل اصطلاح منطقیّ للحكایة عن الرابطة بین المحمول والموضوع فی القضایا الحملیّة، وواضح أنّه خارج من محلّ النزاع. وأمّا المعنى المصدریّ فهو مفهوم انتزاعیّ لا ثبوت لها فی الخارج إلاّ باعتبار منشأ الانتزاع ولیس محلّ البحث ههنا أیضاً. وأمّا المعنى الثالث فهو بما أنّه مفهوم یكون من المعقولات الثانیة الفلسفیّة التی یكون عروضها فی الذهن واتّصافها فی الخارج، وهو أیضاً خارج عن محلّ البحث. فالوجود الذی یكون محلّ النزاع فی هذه المسألة هو المعنى الأخیر أعنی الحقیقة العینیّة التی یشار إلیها بذاك المعقول الثانی.
قال فی التحصیل: «فالموجودات معانٍ مجهولة الأسامی، شرح أسمائها أنّها موجود كذا، والموجود الذی لا سبب له، ثمّ یلزم الجمیع فی الذهن الوجودُ العامّ»(1) وقال: «الشیء من المعقولات الثانیة ـ إلى أن قال ـ وكذا الذات، وكذلك الوجود بالقیاس إلى أقسامه».(2) وقد عقد فی الأسفار فصلاً عنوانه «فی أنّ الوجود العامَّ البدیهیَّ اعتبار عقلیٌّ غیر مقوّم لأفراده»(3) وفصلاً آخر للمعقولات الثانیة وكون الوجود منها.(4) وینبغی التنبیه على أنّ هذا الوجود العامّ هو الذى یتكثّر بتكثّر إضافاته إلى الموجودات الخاصّة ویعبَّر عن الكثرة الحاصلة بسبب الإضافات بحصص الوجود، وهی لیست إلاّ نفس هذا المفهوم المقیّد بحیث یكون التقیُّد داخلاً فیه والقید خارجاً عنه.
ثمّ إنّك كثیراً ما تراهم یقابلون بین مفهوم الوجود وحقیقته، فلابدّ أن نشیر إلى معنى الحقیقة.
1. راجع: التحصیل: ص283.
2. نفس المصدر: ص286.
3. راجع: الأسفار: ج1، ص37.
4. نفس المصدر: ص332ـ337.
لفظة الحقیقة قد تستعمل مرادفة للمهیّة ومقابلة للوجود. قال الشیخ فی إلهیّات الشفاء: «إنّه من البیّن أنّ لكلّ شیء حقیقةً خاصّةً هی مهیّته، ومعلوم أنّ حقیقة كلّ شیء الخاصّة به غیر الوجود الذی یرادف الإثبات».(1) وقال تلمیذه فی التحصیل: «الإنسانیّة فی نفسها حقیقة مّا، والوجود خارج عن تلك الحقیقة».(2) وقد تستعمل مرادفةً للوجود العینیّ، وهذا هو المراد بقولهم «حقیقة الوجود أصیلة دون مفهومه». وقد تستعمل فی ألسنة العرفاء فی مورد الواجب تبارك وتعالى فی مقابل الوجود المجازیّ الذی ینسبونه إلى الممكنات. كما أنّ القائلین بوحدة الوجود فی عین كثرته قد یستعملون «حقیقة الوجود» فی الوجود الساری فی جمیع الموجودات سریاناً عینیّاً مشابهاً لسریان مفهوم الجنس فی أنواعه سریاناً ذهنیّاً أو کسریان الكلّی الطبیعیّ فی أفراده، كما أنّهم قد یخصّون «حقیقة الوجود» بأعلى مراتبه أعنی مرتبة وجود الواجب تبارك وتعالى. وقد یستعمل الحقیقة مرادفة للكنه، كما یقال حقیقة الوجود مجهولة أی لا یدرك الذهن كنهه، وقد مرّت الإشارة إلى حقائق الموجودات بهذا المعنى فی كلام بهمنیار.(3)
أمّا لفظة المهیّة فهی مصدر جعلیّ مأخوذ من «ما هو» وتستعمل بمعنى اسم المصدر فی ما یجاب به عن السؤال ب «ما هو» وهو ما یناله العقل من الموجودات الممكنة عند تصوّرها تصوّراً تامّاً. وإن شیءت قلت: قالب ذهنیّ كلّی للموجودات
1. راجع: الفصل الخامس من المقالة الاُولى من إلهیّات الشفاء.
2. راجع: التصحیل: ص11 و 287.
3. نفس المصدر: ص283.
العینیّة، أو قلت: الحدّ العقلیّ الذی ینعكس فی الذهن من الموجودات المحدودة. وسیأتی كلام الاُستاذ(دامظلهالعالی) فی ذیل هذا البحث أنّ المهیّات ظهورات الوجود للأذهان. وقال فی الأسفار فی كلام له «فإنّ ماهیّة كلّ شیء هی حكایة عقلیّة عنه وشبح ذهنیّ لرؤیته فی الخارج وظلّ له»(1) وقال فی موضع آخر: «فإنّ المهیّة نفسها خَیال الوجود وعكسه الذی یظهر منه فی المدارك العقلیّة والحسیّة»،(2) وقال فی موضع آخر: «مهیّة الشیء عبارة عن مفهومه ومعناه».(3)
وقد شاع فی لسانه أنّ المهیّات حدود الوجودات الخاصّة، كما أنّه قد یعبّر عنها بأنحاء الوجود، ونحننرجّحتخصیصاصطلاح «الأنحاء» بما یحكى عنه بالمعقولات الثانیة الفلسفیّة كالعلیّة والمعلولیة وغیرهما. وكیف كان فالمهیّة بهذا المعنى لا یتّصف بها الواجب تبارك وتعالى لعلوّه عن الحدّ والقالب الذهنیّ ولاحتجابه عن العقول كاحتجابه عن الأبصار.
وللمهیّة اصطلاح آخر أعمُّ، وهو «ما به الشیء هو هو» وبهذا المعنى یطلق على الواجب تعالى أیضا فیقال «الواجب مهیّته إنّیته» كما سیأتی البحث عنه.(4)
وأمّا الأصالة فهی فی اللغة مقابلة للفرعیّة، ویراد بها ههنا ما یقابل الاعتبار بأحد معانیه، فلابدّ من الإشارة إلى معانی الاعتبار والمعنى الذی یقابل الأصالة هذه، فنقول: للاُمور الاعتباریّة اصطلاحات متعدّدة:(5)
1. راجع: الأسفار: ج2، ص236.
2. نفس المصدر: ج1، ص198.
3. نفس المصدر: ج3، ص497.
4. راجع: نفس المصدر: ج1، ص413؛ وراجع: تعلیقة الأستاذ على الأسفار: ج2، ص2.
5. راجع المتن: الفصل العاشر من المرحلة الحادیة عشر (الطبعة الاُولى): ص227ـ229.
1ـ المعقولات الثانیة المنطقیّة التی یكون عروضها واتّصافها كلاهما فی الذهن، كالكلّیة والجنسیّة والنوعیّة وغیرها.
2ـ المعقولات الثانیة الفلسفیّة التی یكون عروضها فی الذهن واتّصافها فی الخارج، كالوجوب والإمكان وغیرهما. وتقابلها المعقولات الاُولىٰ وهی المفاهیم الماهویّة التی قد تسمَّى بالحقیقیّة كالإنسان والشجر والحجر. ثمّ إنّهم ربما یصفون المقولات النسبیّة بأنّها اعتباریّة، فإن اُرید أنّها من المعقولات الثانیة الفلسفیّة كان من هذا الاصطلاح، لكن على هذا لا یصحّ عدّها من الأجناس العالیة، وإن اُرید أنّها مع كونها من المقولات الماهویّة توصف بالاعتباریّة كان اصطلاحاً جدیداً، فتفطّن.(1)
3ـ المفاهیم الأخلاقیّة أو القیمیّة التی لا تحكی عن حقائق عینیّة ولا ذهنیّة، بل تعتبر أوصافاً للأعمال كالحسن والقبح ـ فی الأعمال ـ والوجوب والإباحة وغیرها ممّا یرتبط بعلم الأخلاق والفقه وسائر العلوم العملیّة. وربما ترجع إلى توسعة فی المفاهیم الحقیقیّة كحسن الأشیـاء المحسـوسة وقبحهـا ـ بنـاءً على كونهمـا أمـرین حقیقیّین ـ أو فی المعقـولات الثانیة الفلسفیّة كالضـرورة الملحـوظة بیـن العلّة والمعلول.
4ـ المعانی المفروضة المعتبرة فی ظرف الاجتماع التی تبتنی علیها الحیاة الاجتماعیّة كالرئاسة والمالكیّة والزوجیّة ممّا تشكّل موضوعات لمسائل الفقه وسائر العلوم العملیّة. ومآلها إلى استعارة المفاهیم الحقیقیّة لتأمین أغراض المجتمع.
5ـ ما اصطلح علیه فی هذا المبحث، وهو أن یكون تحقُّق الشیء بالعرض فی قبال ما یكون تحقُّقه بالذات. فالقائل بأصالة الوجود یقول إنّ المتحقّق بالذات فی الخارج هو الوجود وإنّ الآثار الخارجیّة إنّما هی للوجود أصالةً وتنسب إلى المهیّة
1. والعجب ممّن جمع بین كونها من المقولات والمعقولات الثانیة كالسبزواری(رحمةالله) فی شرح المنظومة حیث مثل للمعقول الثانی بمعناه الفلسفیّ بالاُبوّة التی هی من مقولة الإضافة (ص35).
الموجودة بالعرض، والقائل بأصالة المهیّة یقول إنّ المتحقّق بالذات هو المهیّة وتلك الآثار تترتّب على المهیّة الموجودة حقیقةً وتنسب إلى وجودها بالعرض.
ولا یخفى أنّ المهیّة (بالحمل الشائع) أمر حقیقیّ على حسب الاصطلاح الثانی فی عین أنّها أمر اعتباریّ على حسب الاصطلاح الأخیر بناءً على القول بأصالة الوجود. ومن الواضح أنّ هذه المعانی كلّها غیر الاعتبار بمعنى التوهّم ومجرّد الفرض الفارغ كأنیاب الأغوال.
وبعد اتّضاح هذه المفاهیم یمكننا تحریر محلّ النزاع فی المسألة فنقول: قد تبیّن أنّ الوجود بمعنى الرابط فی القضایا وبمعناه المصدریّ لیس محلّ البحث وكذا مفهوم الوجود كمعقول ثان فلسفیّ وبما أنّه مفهوم، خارج عن محلّ النزاع. كما أنّ المراد بالمهیّة هو أوّل المعنیین المذكورین لها، ونؤكّد على أنّ عنوان «المهیّة» (أی المهیّة بالحمل الأوّلیّ) الذی یعرض للمهیّات الخاصّة فی الذهن، أمر اعتباریّ بلا شكّ حتّى عند القائلین بأصالة المهیّة.(1) كما أنّ كلّ مهیّة خاصّة (أی المهیّة بالحمل الشائع كالإنسان مثلاً) فی حدّ ذاتها ومن حیث هی تلك المهیّة لیست إلاّ نفسها، فلیست موجودة ولا معدومة، ولا أصیلة ولا اعتباریّة، أی لا یوجد شیء من هذه المفاهیم فی مفهومها، فلا تكون من هذه الحیثیّة أیضا محلّ البحث.
وإنّما النزاع فی أنّه بعد قبول الوجود المحمولیّ والاعتراف بصحّة القضایا الهلیّة البسیطة، وبعد قبول أنّ حیثیّة الوجود غیر حیثیّة المهیّة حیث إنّ المهیّة لا یوجد فی نفسها حیثیّة التحقّق ولذا یمكن سلب الوجود عنها، وبعد قبول أنّ تعدّد الحیثیّة إنّما هو فی الذهن وإلاّ فلا یوجد فی الخارج حیثیّتان متمایزتان تكون إحداهما
1. راجع: المقاومات: ص175؛ والمطارحات: ص361.
بإزاء مفهوم المهیّة والاُخرى بإزاء مفهوم الوجود وأنّ زیادة الوجود على المهیّة إنّما هی فی الذهن فقط ولیس فی الخارج إلاّ أمر وحدانیّ وواقعیّة فاردة (إنّ الوجود عارض المهیّة * تصوّرا واتّحدا هویّة) فلا تكون كلتا الحیثیّتین أصیلتین، أقول: بعد قبول هذه المقدّمات الثلاث یقع النزاع فی أنّ الذی یتّصف ذاتاً بالوجود والتحقّق بلا ارتكاب أیّ تجوّز دقیق فلسفیّ وبلا اعتبار واسطة فی العروض هل هو المهیّة، فلا یكون لمفهوم الوجود مصداق ذاتیّ فی وعاء الأعیان وإنّما هو مفهوم یناله الذهن ویطلقه على الممكنات المتحقّقة فی الخارج (بواسطة فی الثبوت فقط) أو الذی یتّصف ذاتاً بالوجود والتحقّق هو حقیقة الوجود العینیّة وإنّما ینال العقل من الوجودات الخاصّة صوراً عقلیّة هی مهیّاتها فیكون نسبة الوجود الى المهیّات بالعرض وبنوع من التجوّز الدقیق الفلسفیّ. وبعبارة اُخرى: هل لمفهوم الوجود حقیقة عینیّة فی الخارج بإزاء هذا المفهوم بحیث یكون هی المتّصفة به ذاتاً وبلا واسطة فی العروض، أو لیس فی الخارج إلاّ المهیّات وهی التی تفیدها العلل المفیضة والوسائط فی الثبوت وإنّما ینتزع العقل منها مفهوم الوجود ویعتبره كمعقول ثان لها فلا یكون بإزائه أمر عینیّ یتّصف به ذاتاً وبلا واسطة فی العروض؟ وقد عنون المسألة فی الأسفار هكذا: «فصل فی أنّ للوجود حقیقة عینیّة».(1)
وقد ظهر بذلك أنّ طرح النزاع إنّما یمكن فی كلّ ذی مهیّة، وهی الموجودات الممكنة. «كلّ ممكن زوج تركیبیّ مركّب من مهیّة ووجود»(2) وأمّا الواجب تبارك وتعالى فلیس له مهیّة بمعنى ما یقال فی جواب ما هو، وإطلاق المهیّة علیه هو بمعنى آخر أشرنا إلیه. فلا یرد على القائلین بأصالة المهیّة النقض بالواجب تعالى، لأنّه خارج عن محلّ بحثهم. لكن یتّجه إلزامهم بالقول بأصالة الوجود فی مورد
1. راجع: الأسفار: ج1، ص38.
2. راجع: الفصل السابع من المقالة الاولی من الهیات الشفاء؛ وراجع: شرح المنظومة، ج2، ص64.
الواجب تبارك وتعالى، فیرد علیهم كلّ ما استشكلوه على القائلین بأصالة الوجود، كما سیأتی ذكر بعض شبههم.
لهذه المسألة صلات بمسائل كثیرة، وحسبك ما ترى فی كلمات صدر المتألّهین فی كتبه المختلفة من اعتبار أصالة الوجود كمبنى أساسیّ لكثیر من البراهین، وكذا فی كلمات الاُستاذ(دامظلهالعالی) فی مباحث كثیرة من هذا الكتاب وغیره. ولا بأس بالإشارة إلى بعض هذه الصلات لیتّضح أهمیّة هذه المسألة:
فأوّل ما یترتّب على القول بأصالة المهیّة هو الالتزام بالفرق بین الأصیل فی الواجب وفی الممكنات ـ كما أشرنا إلیه ـ كما أنّه یصعب على هذا القول نفی المهیّة عن الواجب، ویترتّب علیه الإشكال فی نفی الجنس المشترك بینه وبین الممكنات وإثبات بساطة ذاته تعالى. كما أنّه یلزم علیه الإشكال فی بیان ملاك الموجودیّة(1) وتعیین ما هو المجعول من قِبل الفاعل المفیض.(2) وكذلك مسألة التشخّص لا تجد حلاًّ صحیحاً فی مذهب أصالة المهیّة، لأنّ ضمَّ مهیّة كلیّة إلى مهیّة كلّیة اُخرى لا یوجب تشخّصها، بخلافها فی مذهب أصالة الوجود، حیث إنّ التشخّص مساوق للوجود، والمهیّة تتشخّص به. كما أنّ ملاك احتیاج المعلول إلى العلّة یختلف بحسب القولین: فهذا الملاك على القول بأصالة المهیّة هو الإمكان الماهویّ، وعلى القول بأصالة الوجود هو نحو وجود الممكنات وفقرها الذاتیّ. وهكذا التبیین الصحیح للعلاقة بین العلّة والمعلول یتیسّر على القول بأصالة
1. راجع: الأسفار: ج1، ص249ـ257.
2. راجع: نفس المصدر: ص396421؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص177؛ وراجع: الفصل الأوّل من المرحلة الثامنة من المتن؛ وراجع: حكمة الإشراق: ص186.
الوجود فقط. وكذا مسألة الوجود الرابط وكون المعلول عین الربط بالعلّة المفیضة، التی یصحّ عدّها بحقّ من أفضل منتوجات الفكر الفلسفیّ، هی من ثمرات القول بأصالة الوجود. كما أنّ القول بمراتب الوجود وما یترتّب علیه من استناد المعلول إلى العلل المتعدّدة طولاً من مختصّات هذا القول، وكذلك القول بالحركة الاشتدادیّة والقول باتّحاد العالم والمعلوم یبتنیان علیه. وهكذا العلاقة بین المادّة والصورة واتّحادهما تجد تبییناً صحیحاً فی القول بأصالة الوجود إلى غیر ذلك.
وهناك مسألتان لهما شأن خاصّ فی الارتباط بهذه المسألة، ومن الجدیر أن نفرد كلاماً بصدد تبیین الصلة بینهما وبین هذه المسألة.
سیأتی فی مبحث الوجود الذهنیّ قولهم «إنّ المهیّة بوحدتها الماهویّة محفوظة فی الوجودین:الذهنی والخارجیّ» وهذا القول یتضمّن الاعتراف بوجود المهیّة فی الخارج، فیوهم أنّه دلیل على أصالتها. وربما یشتبه الأمر على الطالب فیزعم أنّ بین القول بأصالة الوجود والقول بتحقّق المهیّة فی الخارج تهافتاً. ومن ناحیة اُخرى فإنّ اتّصافها بالوجودین وانحفاظها فی الوعائین ربما یجعل دلیلاً على اعتباریّتها إذ لو كانت أصیلة وكانت هی الحقیقة العینیّة لم تتجاف عن موطنها الخارجیّ بحلولها فی الذهن واتّصافها بالوجود الذهنیّ. كما أنّ حقیقة الوجود ـ بناءً على القول بأصالة الوجود ـ لا تنتقل إلى الذهن، ولهذا فإنّ الذهن قاصر عن نیل الحقائق العینیّة والوصول إلى كنهها، ویعبّرون عن ذلك بأنّ الوجود لیس له صورة عقلیّة كما ستأتی الإشارة إلیه.
لكن للقائل بأصالة الوجود أن یجیب عن الشبهة الاُولى بأنّ اتّصاف المهیّة بالوجود الخارجیّ اتّصاف بالعرض، ولا نعنی بانحفاظ المهیّة فی الوعائین أكثر من هذا القدر من الاتّصاف.
كما أنّ القائل بأصالة المهیّة ربما یجیب عن الشبهة الثانیة بأنّ المهیّة المشتركة بین الوجودین هی المهیّة لا بشرط، وأمّا الأصیل فهی المهیّة المتحقّقة فی الخارج، أی المهیّة بشرط شیء، وسیأتی الكلام فی اعتبارات المهیّة. كما أنّ له أن یمنع الوجود الذهنیّ وانحفاظ المهیّة فی الوعائین ویعتبر العلم من مقولة الإضافة.
لكن تعدّد اعتبارات المهیّة لا یوجب انقلابها، والقول بكون العلم مجرّد الاضافة غیر صحیح كما سیتّضح فی محلّه.
والصلة بین المسألتین وثیقة جدّاً، ولیس من الجزاف اعتبار القول بوجود الكلّی الطبیعیّ فی الخارج من أعمق جذور القول بأصالة المهیّة. ولهذا نبدأ بإلقاء ضوء على مسألة الكلّی الطبیعیّ فنقول: إنّ من أقدم المباحث الفلسفیّة هو مسألة وجود الكلّی الطبیعیّ فی الخارج التی تشكّل محوراً لكثیر من المناقشات الفلسفیّة. والذی دعاهم إلى البحث عنه هو أنّ كلّ علم برهانیّ فإنّما یبحث عن اُمور كلّیة، فالجسم والحیوان والنبات والإنسان وغیرها اُمور كلّیة، فكان من اللازم أن یبحث عن الكلّیات وكیفیّة تعرّف الإنسان لها وتقییم هذه المعرفة. فقال قوم بأنّ الكلّیات أسماء عامّة للاُمور الجزئیّة شأنها شأن المشتركات اللفظیّة ولا واقعیّة لها وراء الجزئیّات لا فی الخارج ولا فی الذهن، واشتهروا بالاسمیّین؛ وقال قوم بأنّ لها مفاهیم ذهنیّة هی علامات عقلیّة للجزئیّات العینیّة فلها واقعیّة فی الذهن فقط؛ وقال أفلاطون بوجود المُثُل العقلیّة وأنّ معرفة الكلّیات كانت حاصلة للنفس قبل تعلّقها بالبدن بسبب مشاهدة المُثُل، ثمّ نسیتْها عند هبوطها إلى البدن، ثمّ تتذكّرها حین الإحساس بالجزئیّات التی هی أظلال للمُثُل. وأنكر ذلك أرسطو وقال بأنّ الكلّی الطبیعیّ موجود فی الخارج بوجود أفراده، وأنّ المعرفة بها تحصل بتجرید الإدراكات الجزئیّة. واشتهر هذا القول
بین الفلاسفة الإسلامیّین(1) وجرت مناقشات حول تفسیره ممّا أسفر عن رجوعه إلى القول الثانی بجعل معنى وجوده بوجود الأفراد أنّه موجود بالعرض والمجاز، فلیس له وجود حقیقیّ فی الخارج، وإنّما یعتبر العقل وجوداً له اعتباراً.(2)
وقد نهض شیخ الإشراق بنقد اُصول المشّائین وهدم كثیر من قواعدهم والتأكید على وجود العلوم الحضوریّة، وانفتح بذلك باب المناقشة فی الاُصول الحكمیّة المتلقّاة بالقبول. حتّى وصلت النوبة إلى صدر المتألّهین، فقام بدوره الجبّار فی إحیاء الفلسفة الإلهیّة وإقامة الحكمة المتعالیة على اُسس جدیدة ونقد قواعد المشّائین والإشراقیّین جمیعاً. وقد مال فی هذه المسألة إلى مذهب الأفلاطونیّین،(3) بل سبقهم فی القول بتجرّد مطلق الإدراك وتبعه الاُستاذ(دامظلهالعالی) فصرّح بأنّ الإدراك مطلقاً إنّما هو بنیل الحقائق المجرّدة التی هی أشدّ وجوداً من المادّیات بل هی فی مرتبة عللها كما سیأتی كلامه فى باب العلم.(4)
ولمّا كان الكلّی الطبیعیّ هی المهیّة لا بشرط وكان اتّصافه بالكلّیة باعتبار عروض هذا الوصف لها فی الذهن،(5) التقت المسألتان: مسألة وجود الكلّی الطبیعیّ فی الخارج ومسألة أصالة المهیّة أو اعتباریّتها. وقد بُذلت جهود من قِبل القائلین بأصالة الوجود للتوفیق بین القول باعتباریّة المهیّة والقول بوجود الكلّى الطبیعیّ فی الخارج ممّا یرجع إلى ما أشرنا الیه من أنّ اتّصاف الكلیّ الطبیعیّ ـ وهی المهیّة ـ بالوجود إنّما هو بالعرض لا بالذات.(6)
1. راجع: الفصل الثانی من المقالة السابعة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: القبسات: ص155ـ162.
2. راجع: الشوارق: ص141ـ146؛ وراجع: الفصل الثالث من المرحلة الخامسة من المتن.
3. راجع: الأسفار: ج1، ص289 و 307.
4. راجع: أواخر الفصل الأول من المرحلة الحادیة عشر من المتن.
5. راجع: التحصیل: ص504.
6. راجع: الأسفار: ج1، ص38ـ39 و 272ـ273 و 334ـ335 مع تعلیقة السبزواریّ علیها؛ وج2: ص36.
ولنقدّم لتحقیق المسألة كلاماً فی كیفیّة تعرّف الذهن على المهیّات، فنقول: العلم على قسمین: حضوریّ هو وجدان المعلوم نفسه، وحصولیّ هو حصول صورة ومفهوم له فی الذهن. فإذا علمنا بشیء علماً حضوریّاً ـ كما فی علمنا بأنفسنا وقواها وأفعالها المباشرة وانفعالاتها ـ نجد نفس الواقعیّة العینیّة بلا وساطة صورة ومفهوم، وبلا تحلیل وتفسیر. وفی ذلك الشهود الحضوریّ لا یوجد موضوع ولا محمول ولا حكم، وإنّما هو وجدان الواقع على ما هو علیه. وأمّا إذا علمنا بشیء علماً حصولیّاً انعكس عنه صورة جزئیّة حسّیّة أو خیالیّة ومفهوم كلّیّ فی الذهن، ویسمَّى ذلك المفهوم الكلّیّ بالمهیّة، وقد تعمَّم الى الصورة الجزئیة أیضاً كما رأینا فی كلام صدر المتألّهین.(1) لكنّ المفهوم التصوّریّ بما أنّه تصوّر بسیط ساذج لا یكفی لحكایة الواقع إلاّ إذا انضمّ إلیه مفهوم آخَرُ واتّحدا بمعونة الحكم فی شكل علم تصدیقیّ، ومن هنا یحصل تحلیل المعلوم إلى ماهیّة ووجود یجعل الأوّل منهما موضوعاً والثانی محمولاً، فیتشكّل منهما هلیّة بسیطة كقولنا «الإنسان موجود» ویؤخذ عنها تركیب إضافیٌّ كقولنا «وجود الإنسان». وهذا التحلیل هو منشأ قولهم «كلُّ ممكن زوج تركیبیّ مركّب من مهیّة ووجود» وقولهم «الوجود زائد على المهیّة وعارض لها».
قال فی الأسفار: «لا نزاع لأحد فی أنّ التمایز بین الوجود والمهیّة إنّما هو فی الإدراك لا بحسب العین»(2) وقال أیضاً: «مغایرة المهیّة للوجود واتّصافها به أمر عقلیٌّ إنّما یكون فی الذهن لا فی الخارج»(3) وقال فی موضع آخر «ولیس
1. راجع: الأسفار: ج1، ص198.
2. راجع: نفس المصدر: ص67.
3. راجع: نفس المصدر: ص56ـ60 و 243ـ245؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص23ـ25؛ وراجع: الشوارق: ص26ـ34.
معنى عروض الوجود للمهیّة إلاّ المغایرة بینهما فی المفهوم مع كونهما أمراً واحداً فی الواقع».(1)
وتستخلص من هذا التحلیل لكیفیّة تكوّن المهیّة إلى أنّ موطن المهیّة هو الذهن بما أنّه ظرف للعلوم الحصولیّة، ولولا هذه العلوم لم یكن للمهیّات عین ولا أثر، كما أنّه لا خبر عنها فی العلوم الحضوریّة التی هی وجدان الواقعیّات العینیّة. ومن هنا فقد یحدس الفطن أنّ المهیّة لیست إلاّ أمراً ذهنیّاً تحكىٰ به الحدود المشتركة بین موجودات متّفقة الحقیقة، ولیس لها أصالة وإلاّ لم تكن تابعة لأذهاننا ولا خاصّة بنوع معیّن من علومنا ولما كانت مفقودة فی علومنا الحضوریّة التی یشاهد فیها الواقع على ما هو علیه.
لكن لقائل أن یعكس الأمر فیقول: لا یوجد فی العلم الحضوریّ أثر من مفهوم الوجود، ولو كان عدم هذا الوجدان أمارة الاعتباریّة لم یكن الوجود أیضاً أصیلاً. والجواب أنّ مفهوم الوجود أمر اعتباریّ بلا شكّ كما قرّرنا فی تحریر محلّ النزاع، والكلام فی أنّ هذا المفهوم هل هو اعتبار عقلیّ طارئ على المهیّة ولیس بإزائه أمر عینیّ هو المصداق الذاتیّ لهذا المفهوم، او هو حاكٍ عن الواقعیّة العینیّة التی هی مصداق ذاتیّ له تتّصف به بلا واسطة فی العروض، وإنّما المهیّة هی انعكاس ذهنیّ للموجود المحدود بما أنّه محدود وحاكیة عن حدوده، والعقل یعتبر لها الوجود بما أنّها مرآة له بحدوده ویكون اتّصافها بالوجود بالعرض. وبعبارة اُخرى: إنّ العقل یعتبر للصورة الإدراكیّة محتوى داخلیّاً متّحداً بالوجود العینیّ ومشتركاً بینه وبین الوجود الذهنیّ، والحال أنّه لیس فی الخارج إلاّ نفس الوجود العینیّ كما أنّه لیس فی الذهن إلاّ نفس الوجود الذهنیّ، والمصحّح لهذا الاعتبار هو مرآتیّة الصورة الإدراكیّة للموجود العینیّ وحكایتها عن حدوده ومشخّصاته الذاتیّة.
1. راجع: الأسفار: ج6، ص50.
فإن قیل: فعلى هذا لا یصحّ حمل الوجود على المهیّة، ولا حمل المهیّة على الواقعیّة العینیّة التی هی على الفرض مصداق ذاتیّ لمفهوم الوجود بمعنى أنّه یصدق علیها بلا واسطة فی العروض، فلا یصحّ أن یقال «الإنسان موجود» ولا أن یقال «هذا الموجود إنسان» وهذا سفسطة واضحة!
قلنا: لا شكّ فی صحّة هاتین القضیّتین وكون الألفاظ مستعملة فی معانیها الحقیقیّة وكون الهیئة التركیبیّة مستعملة فی ما وضعت له حسب عرف المحاورة، إلاّ أنّ الاتّحاد المستفاد من الحمل أعمُّ من أن یكون اتّحاد أمرین حقیقیّین حسب عرف الفلسفة أو أمرین اعتباریّین كذلك أو أمر حقیقیّ وآخر اعتباریّ. والقائل بأصالة الوجود یرى أنّ معنى حمل الوجود على المهیّة بحمل الاشتقاق أو حمل ذی هو حسب الدقّة الفلسفیّة أنّ فی الخارج وجوداً خاصّاً ینال الذهن هذه الصورة العقلیّة منه وینظر بها إلیه، فیتعلّق بهذا المفهوم العقلیّ وجود خاصّ فی الأعیان، وأنّ معنى حمل المهیّة على الموجود الخاصّ أنّ لوجوده خصوصیّة تنعكس فی الذهن بصورة هذا المفهوم، ومن هنا صحّ تعریف المهیّة بأنّها قالب مفهومیّ للموجود المحدود بما أنّه محدود. ولمّا كانت هذه الصورة العقلیة والقالب المفهومی مرآة لحدود هذا الموجود لم تكن منظوراً إلیها بالنظر الاستقلالیّ بل كانت منظوراً بها وفانیة فی محكیّها، فیعتبر أنّها نفس المحكیّ، وهذا هو ملاك اعتبار العقل ثبوت المهیّة فی الخارج واتّحادها بالوجود، كما أنّه بعینه ملاك اعتبار الكلّی الطبیعیّ فی الخارج بعرض وجود أفراده.
شروع فی إثبات أصالة الوجود، وبیانه هذا یشتمل على ثلاثة مطالب: الأوّل مغایرة الوجود للمهیّة، والثانی عدم صحّة أصالتهما معاً، والثالث هو البرهان على أصالة الوجود.
وحاصل ما ذكره فی المطلب الأوّل أنّا بعد ردّ السفسطة وقبول إمكان معرفة الواقعیّات نحكم علیها بحكمین متغایرین: أحدهما اشتراكها فی أصل الواقعیّة، وثانیهما تمایزها بأمور مختصّة، والحیثیّة الاُولىٰ هی حیثیّة كونها موجودة، والثانیة هی حیثیّة كونها إنساناً أو فرساً أو شجراً أو... ولا یمكن إرجاع إحداهما إلى الاُخرى لضرورة مغایرة الأمر المشترك للأمر المختصّ، فالمهیّة غیر الوجود.
ولقائل أن یقول: إنّ جهة التمایز بین الموجودات لا تنحصر فی الاختلاف الماهویّ، كیف وكلُّ فرد من أفراد مهیّة واحدة یتمیّز عن سائر الأفراد، ومثل هذا التمایز لا یرجع إلى التمایز الماهویّ. وغایة ما یمكن أن یقال فی دفعه أنّ المراد بالحیثیّة المختصّة هنا هی الحیثیّة التی لا توجد فی الموجودات المختلفة الحقائق، فتأمّل.
وحاصل ما ذكره فی المطلب الثانی أنّا نعلم أن لیس لشیء واحد إلاّ واقعیّة واحدة، فلا تكون كلتا الحیثیّتین أصیلتین، فلابدّ من كون إحداهما منتزعة عن الاُخرى. ویرجع ذلك إلى اتّحاد المهیّة والوجود فی وعاء الأعیان، وإلاّ فلو كانت المهیّة حیثیّة متمایزة فی الخارج لصحّ اتّصافها بالوجود ولزم تحلیلها مرّة اُخرى إلى حیثیّتین وهكذا، فلزم كون واقعیّة واحدة واقعیّات غیر متناهیة!
وبالنظر إلى هاتین المقدّمتین تعرف أنّ الأولىٰ تقدیم مبحث زیادة الوجود على المهیّة فی الذهن واتّحادهما فی الخارج على مبحث أصالة الوجود، كما أنّه یجب قبل إثبات ذلك كلّه إثبات الوجود المحمولیّ فی قبال من ینكره من الفلاسفة الغربیّین.
وحاصل ما ذكره فی المطلب الثالث أنّ حیثیّة المهیّة لا تأبى بنفسها عن عدم الواقعیّة بخلاف حیثیّة الوجود، فیستنتج أنّ الوجود هو الأصیل، أی حقیقة الوجود العینیّة هی التی ینتزع عن حاقّ ذاتها مفهوم الوجود وتكون هی المصداق الذاتی
لها والذى یحمل علیها مفهوم الموجود بلا واسطة فی العروض. وقریب منه ما ذكره فی الأسفار.(1)
ثمّ أخذ فی ردّ بعض الشبهات التی اُوردت على أصالة الوجود، وقد تعرّض لها فی الأسفار.(2) فالشبهة الاُولى مبتنیة على أنّ معنى «موجود» ما له وجود، فلو كان الوجود أمراً عینیّاً كان متّصفاً ب «موجود» ومعنى هذا الاتّصاف أنّ له وجوداً، فینقل الكلام إلى وجوده، وهكذا فیتسلسل.
والجواب أنّ معنى «موجود» فی عرف الفلسفة أعمُّ من أن یكون المتّصف به نفس الوجود بحیث یكون الوصف عین الموصوف، أو أمراً یتّصف به بحیث یكون الوصف زائداً على الموصوف. وهذا نظیر «العالِم» الذی هو أعمُّ من أن یكون نفسه عین العلم أو یكون العلم أمراً خارجاً عن ذاته. ولیس یلاحظ فی هذا الاستعمال شؤون اللفظ من كونه مشتقّاً ودلالة المشتقّ على ذات متّصفة بالمبدء ـ على ما قیل بصرف النظر عن المناقشات ـ ومن اقتضاء اسم المفعول وقوع المبدء على شیء بعد صدوره عن غیره،(3) إلى غیر ذلك. وخصوصیّة مصداق هذا المعنى العامّ فی مورد الوجود هی عینیّة الصفة للموصوف، فمعنى كون الوجود موجوداً أنّ حقیقته هی الموجودیّة، كما أنّ خصوصیّة مصداقه فی مورد المهیّات هی مغایرة الصفة للموصوف فی التحلیل العقلیّ، فلا یلزم الاشتراك اللفظیّ فیه.
1. راجع: الأسفار: ج1، ص38ـ39؛ وذكر برهاناً آخر على أصالة الوجود أیضاً. فراجع: ج1، ص67؛ وقد نقل فی المطارحات حجّة على أصالة الوجود وردّ علیها. فراجع: المطارحات: ص345 و 347.
2. راجع: الأسفار: ج1، ص3944 و 5463.
3. قال شیخ الإشراق فی نظیر هذا المقام: «والذی أوقعهم فی ذلك ما توهّموا بسبب اللفظ ـ إلى أن قال ـ وما بسبب اللفظ أمره سهل». راجع: المطارحات: ص209.
منشأ هذه المغالطة هو الاشتراك اللفظیّ فی لفظة الباء فی «بذاته» فالمراد بكون وجود الواجب تبارك وتعالى «بذاته» أنّه بمقتضى ذاته، فالباء فیها للسببیّة، والمراد بسببیّة الذات لوجوده نفی سببیّة الغیر، نظیر قولنا «فعلته بإذنی» نعنی عدم الاحتیاج إلى إذن الغیر. وأمّا قولهم «الوجود موجود بذاته» فمرادهم أنّ الموجود وصف للوجود بحال نفسه لا بحال متعلّقه كما فی المهیّة. وبعبارة اُخرى: معنى أنّ الواجب تعالى موجود بذاته، أنّه لا یحتاج فی الاتّصاف بالموجودیّة إلى واسطة فی الثبوت، ومعنى أنّ الوجود ـ مطلقاً ـ موجود بذاته، أنّه سواءً كان محتاجاً إلى الواسطة فی الثبوت كما فی الممكنات أو كان مستغنیاً عنها كما فی الواجب تعالى لا یحتاج إلى واسطة فی العروض، بخلاف المهیّة.
وللقائل بأصالة المهیّة أن یقول: إنّ المهیّة فی مقام ذاتها (أی فی المقام الذی یحمل علیها ما یحمل بالحمل الأوّلیّ) لیست إلاّ نفسها، فلا تكون أصیلة ولا اعتباریّة، وأمّا فی المقام الذی یقال إنّها أصیلة فلیس اتّصافها بالأصالة لأجل انتزاع مفهوم اعتباریّ عنها، بل بجعل الجاعل إیّاها (وهذا ما أشرنا إلیه من الصلة بین هذه المسألة ومسألة الجعل).
الأحسن فی ردّ المحقّق الدوانیّ أن یقال: إن اُرید بالانتساب المذكور الإضافة المقولیّة فهی نسبة دائرة بین شیئین متكافئین، فإن فرضت المهیّة أمراً متأصّلاً فی مقام علم الباری ـ تبارك وتعالى ـ حصلت النسبة بینها وبین الذات فی ذلك المقام الشامخ، ولا
یوجب هذه الإضافة تحقّقها فی الخارج، وإن فرضت أمراً موجوداً فی خارج الذات فجعل الإضافة مناط تأصّلها یستلزم الدور، لأنّ المفروض أنّ تحقّقها یكون بنفس الإضافة، وهی لا تتحقّق إلاّ بتحقّق طرفیها. مضافاً إلى أنّ الحقّ أنّ هذه الإضافة المسمّاة بالمقولیّة أمر اعتباریّ فلا یحصل بسببه أمر أصیل فی الخارج. وإن اُرید بهذا الانتساب الإضافة الإشراقیّة التی هی عین المضاف فیرجع ذلك إلى القول بأصالة الوجود وكونه ذا مراتب، أی انّ وجود الممكنات هو نفس الربط بالوجود الإلهیّ.(1)
حاصل ما أفاده(دامظلهالعالی) أنّ المهیّة بناءً على اعتباریّتها لا تحقُّق لها بالذات فی ظرف من ظروف الواقع، سواءً فی الذهن أو العین، وإذا لم یكن لذاتها ثبوت إلاّ بعرض الوجود فلا یثبت لها شیء أیضاً إلاّ بعرضه. وهذا وجیه فی كلّ ما یحمل علیها بالحمل الشائع الذی ملاكه الاتّحاد فی الوجود، وأمّا ما یحمل علیها بالحمل الأوّلی كالحدّ التامّ وحمل الجنس والفصل علیها ـ بناءً على كونه حملاً أوّلیاً ـ فلا یشترط فیه وجود الموضوع. والمهیّة وإن كانت لا تعرى عن الوجود أبداً، إمّا فی الذهن وإمّا فی الخارج، لكنّه لا ینافی عدم لحاظ الوجود وقصر الالتفات إلى نفس المفهوم بما أنّه مفهوم، فیحمل علیها ذاتیّاتها بالحمل الأوّلیّ. وقولهم «إنّ المهیّة من حیث هی لیست إلاّ هی» یقتضی وقوع الذات والذاتیّات فی المستثنى، فیصحّ حملها علیها من غیر لحاظ وجود لها.
الاندراج المنفیُّ عن حقیقة الوجود هو ما كان من قبیل اندراج الأفراد تحت
1. راجع: الأسفار: ج1، ص71ـ74.
المهیّات النوعیّة أو من قبیل اندراج الأنواع تحت الأجناس لا ما كان من قبیل اندراج الوجودات الخاصّة تحت العناوین الانتزاعیّة أو المعقولات الثانیة، كالاندراج تحت عنوان العلّة وعنوان المعلول وعنوان ما بالفعل وعنوان ما بالقوّة و... ولا كانطباق عنوان الواحد والشیء و... علیها.
الكلام فی بساطة الوجود قد یقع باعتبار مفهومه، بمعنى أنّ مفهومه لیس مفهوماً نوعیاً قابلاً للتحلیل إلى جنس وفصل، ولا اعتباریّاً مركّباً من مفهومین كیفما فرضا، وهو واضح جدّاً. لكن هذه البساطة لا تختصّ بمفهوم الوجود، فهناك مفاهیم بسیطة اُخرى كالأجناس العالیة ـ على ما قیل ـ وكمفهوم العدم. وقد یقع الكلام فی بساطة حقیقته العینیّة. ثمّ إنّه قد یراد بالحقیقة هذه وجود الواجب تبارك وتعالى على ما هو مصطلح العرفاء، أو أعلى مراتب الوجود على القول بكونه حقیقة واحدة ذات مراتب لاستقلال تلك المرتبة على الإطلاق، فیكون البحث عن بساطتها بحثاً إلهیّاً خاصّاً، ولیس هنا موضع طرحه؛ وقد یراد بها كلّ مراتب الوجود على كثرتها كما عقد فی الأسفار فصلاً «فی أنّ الوجودات هویّات بسیطة»(1) وقد یُدَّعى أنّ للوجود طبیعةً مرسلة شاملة لكلّ الوجودات الخاصّة بصرف النظر عن كثرتها وخصوصیّاتها فیجری البحث حول تلك الطبیعة المرسلة وبساطتها، ولعلّه ناشیء من قیاس الوجود وشؤونه على المهیّة وأحكامها، فیتوهَّم أنّ للوجود حقیقةً كلّیة یصحّ البحث عنها من حیث هی بصرف النظر عن الوجودات الخاصّة وإثبات أحكام لها باعتبار تلك الحیثیّة، ولعمری هذه مزعمة ناشیءة من رسوبات أصالة المهیّة فی الأذهان. وربما تتراءى من بعض كلمات صدر المتألّهین أیضاً حیث قال
1. راجع: نفس المصدر: ص50.
«إنّ الوجود لا یمكن تألیف حقیقته من حیث هی من كثرة عینیّة خارجیّة، أو ذهنیّة فعلیّة، أو عقلیّة تحلیلیّة».(1)
وكیف كان فالذی ینبغی طرحه هو بساطة كلّ وجود عینیّ بما أنّه وجود عینیّ. فالمراد ببساطة كلّ وجود عینیّ إمّا أن یكون نفی تركّبه من مادّة وصورة خارجیّتین كما یعتقدون فی الأجسام، وإمّا أن یكون نفی تركّبه من مادّة وصورة عقلیّتین كما یقال عن الأعراض والمجرّدات، وإمّا أن یكون نفی تركّبه من أجزاء مقداریّة كما یوجد فی الكمیات والمتكمّمات، وإمّا أن یكون نفی تركّبه من جنس وفصل، كما فی جمیع المهیّات المركّبة.
أمّا الأخیر فیثبت على ضوء نفی صفات المهیّة عن حقیقة الوجود؛ كما أشار إلیه الاُستاذ(دامظلهالعالی) فی الأمر الثانی، مضافاً إلى أنّ الموطن الأصلیّ للجنس والفصل هو الذهن وإنّما ینسبان إلى المهیّة الخارجیّة بعد اعتبار العقل ثبوتاً للمهیّة فی الخارج، وإلى أنّهما اعتباران للمادّة والصورة إذا لوحظتا لا بشرط ـ على ما قیل ـ. والحاصل أنّ نفی الجنس والفصل عن حقیقة الوجود لا یحتاج إلى كثیر مؤونة.
وأمّا نفی تركّب الوجود العینیّ عن المادّة والصورة الخارجیّتین والعقلیّتین ومن الأجزاء المقداریّة فلیس ممّا یتیسّر بمثل ما جاء فی المتن من البیان، فإنّ العیان یشهد بحصول هذه التركّبات فی أنواع من الموجودات الخارجیّة(2) ما سوى الواجب تبارك وتعالى، ولا یجدی إسنادها إلى المهیّات بعد ما عرفنا أنّ كلّ ما یثبت للمهیّات الموجودة من المحمولات فإنّها ثابتة لها بعرض الوجود، ومعناه أنّها ثابتة للوجود أوّلاً وبالذات، وللمهیّة ثانیاً وبالعرض.
1. راجع: نفس المصدر: ص53.
2. وقد صرّح صدر المتألّهین فی موارد بوجود الأجزاء للوجودات الخاصة، منها فی آخر مبحث التشكیك، فراجع: نفس المصدر: ص446.
وإلیك بیاناً یبتنی على ثلاث مقدّمات متقنة ومسلّمة عند القوم، وإن كان ینتهی إلى نتائج لا تنطبق على بعض آرائهم. أمّا الاُصول الثلاثة فهی:
ألف) إنّ الوجود مساوق للوحدة،(1) فكلُّ موجود بما أنّه موجود یكون واحداً، حتّى أنّ كلّ عدد ـ إذا قلنا بأنّ للعدد وجوداً حقیقیّاً ـ فهو واحد من حیث إنّه عدد موجود، وإن كان قابلاً للانقسام إلى أعداد وآحاد، كما أنّ كلّ امتداد فهو واحد من حیث إنّه امتداد موجود، وإن كان قابلاً للانقسام إلى امتدادات جزئیّة. لكن بحصول الانقسام ینعدم العدد المفروض والامتداد السابق ویحصل أعداد أو آحاد وامتدادات جدیدة یكون لكلّ واحد منها وجوده الخاصّ ویكون واحداً من حیث إنّه موجود.
ب) إنّ الوجود مساوق للفعلیّة، فكلّ موجود من حیث إنّه موجود یكون بالفعل، وإن كان بالقوّة بالقیاس إلى موجود آخر سیوجد بعده على طول الخطّ. حتّى أنّ القوّة والاستعداد إذا اعتبر أمراً حقیقیّاً كان موجوداً بالفعل، فكلّ ما لا فعلیّة له مطلقاً لا یكون موجوداً حقیقة.
ج) إنّ فعلیّة كلّ شیء وشیئیّته یكون بصورته لا بمادّته. فوجود كلّ شیء فى الحقیقة هو وجود صورته التی بها هو هو. أمّا المادّة أو الموادّ التی توجد تحت الصورة فإن كان لها فعلیّة كان لها صورتها الخاصّة بها ویلزم تراكب الصور كما نذهب إلیه على ما سیأتی فی محلّه، وكان نسبة الوجود الواحد إلى المجموع من المادّة والصورة بنوع من المسامحة، وإن لم تكن لها فعلیّة لم تكن موجودة حقیقةً بمقتضى القاعدة الثانیة.
وعلى ضوء هذه المقدّمات نستنتج أنّ وجود كلّ شیء وجود واحد لا تكثّر فیه من حیث إنّه موجود حقیقةً وبسیط لا تجزّی فیه بالفعل. أمّا الكمیات فوجود كلّ واحد منها وجود واحد بسیط لكنّه قابل للتبدّل إلى وجودین أو أكثر بانعدام
1. راجع: نفس المصدر: ج2، ص82؛ وراجع: الفصل الأوّل من المرحلة السابعة من المتن.
الوجود الأوّل وحصول وجودات اُخرى یكون كلّ واحد منها بدوره واحداً بسیطاً. وأمّا الجسم المركّب من المادّة والصورة فالأمر یدور بین كونه موجودین یكون كلّ واحد منها غیر مركّب من شیء أو كونه موجوداً واحداً هو الصورة ویكون المادّة موجودة فیه بالقوّة أو بحسب التحلیل العقلیّ. وأمّا المادّة والصورة العقلیّتان فإنّما تحصلان فی الذهن بتحلیل من العقل، ولا یسری هذا التركّب إلى الخارج، فلا یتركّب الوجود العینیّ منهما. نعم، لا بأس باعتبار معنى أخصَّّ للبساطة یختصّ بها بعض الموجودات كالعقول، كما لا بأس باعتبار معنى أدقّ لا یوجد فیه تركّب من مهیّة ووجود ویختصّ بالواجب تبارك وتعالى.
الذی یستنتج من عدم تمایز الوجود عن المهیّة فی الخارج وانحصار ما فی الخارج فی الوجود هو أنّه لا یوجد فی متن الواقع إلاّ الوجود، فلیس للمهیّة حقیقة عینیّة أصیلة، أمّا أنّ الوجود هل هو حقیقة واحدة فی نفسه أو حقائق متبائنة فهو أمر سیتعرّض له فی الفصل الآتی، وبعد إثبات وحدة حقیقته هناك تصل النوبة إلى بیان أنواع التكثّر الذی ینسب إلیه، ومنها ما یكون بعرض المهیّات، فتبصّر.
لا ریب أنّ ملاك صدق القضایا إنّما هو مطابقتها لمحكیّاتها، فإن كانت القضیّة حاكیة عن ثبوت أمر خارجیّ لموضوع ثابت فی الخارج بالفعل كما فی القضایا الخارجیّة اعتبر مطابقتها للخارج، وأمّا فی غیرها ففی اعتبار المطابقة شیء من الغموض، وذلك فی أربعة موارد:
أحدها القضایا الحقیقیّة التی لا تكون جمیع أفراد الموضوع فیها متحقّقاً بالفعل
فی الخارج، مثل «كلُّ إنسان ضاحك» فمن المعلوم عدم تحقُّق جمیع أفراد الإنسان فی الخارج فی زمان واحد، فلا یمكن اختبار مطابقة هذه القضایا للواقع العینیّ، فیقال إنّها مطابقة لنفس الأمر،(1) وقد یقال بأنّ مرجع هذه القضایا إلى القضایا الشرطیّة فیكون معناها: كلَّما تحقَّق الموضوع فی الخارج تحقّق محموله، وهو لیس ببعید خلافاً لصدر المتألّهین،(2) ولكن ینقل الكلام إلى ملاك صدق الشرطیّات وتعیین وعاء تحقُّق العلاقة اللزومیّة أو العنادیّة.(3)
وثانیها القضایا الذهنیّة التی تحكی عن ثبوت محمولات ذهنیّة لموضوعات كذلك كالحكم بأنّ الكلیَّ ینقسم إلی ذاتیّ وعرضیّ، وأنّ الذاتیّ ینقسم إلی نوع وجنس وفصل، وأنّ العرضیّ ینقسم إلی عامّ وخاصّ، وكذا سائر القضایا المتشكّلة من المعقولات الثانیة المنطقیّة. وفی مثل هذه القضایا أیضاً یقال إنّها مطابقة لنفس الأمر،(4) وحیث إنّها لا تحكی إلاّ عن اُمور ذهنیّة یشكل بیان كیفیّة مطابقة المفاهیم الذهنیّة لها، وینحلّ الإشكال بفهم مراتب الذهن وكون بعضها بالنسبة إلی بعض بمنزلة الذهن إلی الخارج فی الحكایة.
وثالثها القضایا التی تثبت أحكاماً اعتباریة من قبیل المعقولات الثانیة الفلسفیّة لموضوعات حقیقیّة أو اعتباریّة، كالحكم بأنّ الإنسان ممكن، وبأنّ الممكن یحتاج إلی العلّة، وبشأن هذه القضایا أیضاً یقال انّ ملاك صدقها هو مطابقتها لنفس الأمر. ومرجع ذلك إلی أنّ الواقع الخارجیّ یكون بحیث ینتزع العقل عنه هذه المعقولات.
ورابعها القضایا التی تكون موضوعاتها عدمیّة أو ممّا یستحیل وقوعه فی الخارج كقولهم «عدم العلّة علّة لعدم المعلول» و«شریك الباری ممتنع» وقد ركّز الاُستاذ(دامظلهالعالی)
1. راجع: الشوارق: المسألة الرابعة من الفصل الأوّل، ص39.
2. راجع: الأسفار: ج1، ص314.
3. راجع: نفس المصدر: ص240.
4. راجع: المسألة الثلاثین من الفصل الأوّل من الشوارق: ص113.
علی هذا القسم وتصدّی لتفسیر ما یقال بشأنها من أنّها مطابقة لنفس الأمر. وحاصله تبعیّة تلک القضایا لقضایا وجودیّة بإزائها وکون صدقها تابعاً لصدق القضایا المتبوعة.(1)
هذا کلّه فی القضایا الموجبة، وأمّا القضایا السالبة فإن قلنا انّ مغزاها سلب الحکم کان الأمر سهلاً، وإلاّ احتاجت إلی توجیه مشابه لما ذکر فی القسم الرابع.(2) وجدیر بالذکر أنّه قد یستعمل «نفس الأمر» مرادفاً للواقع ومقابلاً لوعاء الاعتبار،(3) کما أنّه قد یعمّم إلى الواقع الخارجیّ والذهنیّ والاعتباریّ.
وأمّا الکلام فی وجه التسمیة فالظاهر أنّ المراد بنفس الأمر نفس الأمر المحکیّ بالقضیّة، فإن کانت حاکیة عن الخارج فمصداق نفس الأمر هو الواقع الخارجیّ، وإن کانت حاکیة عن الذهن فمصداقه هو مرتبة منه، وإن کانت حاکیة عن أمر اعتباریّ فمصداقه وعاء الاعتبار ومرجعه إلی کون الواقع بحیث ینتزع العقل منه مفهوماً اعتباریّاً خاصّاً. وأمّا ما قیل من أنّ نفس الأمر هو العقل الفعّال(4) فهو ممّا لا یعبأ به، فإنّ فیه ـ مضافاً إلی ما ذکره الأستاذ(دامظلهالعالی) أنّه یجب مقایسة مفاد القضیّة بما تحکی عنه، ولیس شیء من القضایا یحکی عن أمر موجود فی العقل الفعّال حتّی یلاحظ مطابقته له، علی أنّه لا سبیل إلی إثبات مثل هذا التطابق أو نفیه. مع أنّ إطلاق «الأمر» علی عالم المجرّدات لیس اصطلاحاً فلسفیّاً، ولا یتّجه إضافة لفظة «النفس» إلیه.
إنّ المعتزلة لمّا حاولوا تبیین المسائل الإلهیّة بالأدلّة العقلیّة أعوزهم مؤونة ذلک لعدم
1. راجع: الأسفار: ج1، ص344 و350.
2. راجع: نفس المصدر: ص365ـ372.
3. راجع: نفس المصدر: ص60 و 65 و 150؛ وج4: ص189.
4. راجع: المسألة الثلاثین من الفصل الأوّل من الشوارق؛ وراجع: شرح المنظومة: ص4850؛ وراجع: الأسفار: ج1، ص372؛ وج7: ص270ـ281؛ وراجع: القبسات: ص39 و 47 و 385ـ387.
رسوخهم فی المباحث العقلیّة، فابتدعوا مفاهیم جدیدة للخروج عمّا وقعوا فیه من المضایق. فلمّا عالجوا مسألة العلم ولا سیّما علم الباری سبحانه بالمخلوقات قبل الإیجاد زعموا أنّه یجب ثبوت أشیاءَ حتّی یصحّ تعلّق العلم بها مع أنّ المفروض أنّها غیر موجودة بعدُ، فقالوا بأنّ الشیئیّة والثبوت أعمُّ من الوجود، فمتعلّقات العلم قبل أن توجد فی الخارج أشیاءُ ثابتة وإن لم یصحّ اتّصافها بالوجود. وهکذا حاروا فی المفاهیم الانتزاعیّة کالعالمیّة والخالقیّة حیث لا یصحّ أن یقال إنّها لیست بشیء وأنّها أعدام محضة، ولا یصحّ أیضاً أن یقال إنّها موجودة فسمَّوها بالأحوال وقالوا بأنّها ثابتة غیر موجودة. ثمّ جاء دور الفلاسفة الإسلامیّین فنقدوا آراءهم وتکوّنت بذلک آراء ناضجة أکثر فأکثر حتّى ازدهرت الفلسفة الإسلامیّة. وممّن تعرّض لآراء المعتزلة هذه شیخ الإشراق حیث ردّ علیهم ردّاً عنیفاً فی کتبه، وتبعه علی ذلک سائر الفلاسفة کصاحب الشوارق وصدر المتألّهین.(1)
المراد بحقیقة الوجود هی الواقعیّة المناقضة للعدم المطلق، وإطلاق الحقیقة علیها ـ بصیغة المفرد ـ باعتبار وحدتها الحقّة لا الوحدة العددیّة. ولیس المراد بها معنى عامّاً بحیث یكون كلّ وجود خاصّ مصداقاً لها. كیف والوجودات الإمكانیّة كلّها معلولة ذات سبب أو أسباب، وكلُّها معلولة لذات الواجب تبارك وتعالى. ویمكن أن یراد بحقیقة الوجود أعلى مراتبه أو اصطلاحه العرفانیّ كما ربما یساعد علیه بعض تعبیراته فی الأسفار.(2)
1. راجع: المقاومات: ص125ـ127؛ والمطارحات: ص199ـ209؛ وراجع: المسألة التاسعة إلی الحادیة عشر من الفصل الأول من الشوارق؛ وراجع: الأسفار: ج1، ص75ـ78.
2. راجع: الأسفار: ج1، ص54.
قد مرّت المناقشة فیه تحت الرقم (8).
معنى ذلك أنّ حقیقة الوجود العینیّة لیست من قبیل المهیّات التی توجد فی الخارج بالوجود الخارجیّ وفی الذهن بالوجود الذهنیّ، حتّى یكون مفهومه من قبیل المعقولات الاُولى التی ربما تختصّ باسم الصور العقلیّة. وهذا هو معنى أنّ العقل لا یدرك كنه الوجود الحقیقیّ، وأنّ الموجودات حقائق مجهولة الأسامی.(1) فإنّ شأن العقل إنّما هو إدراك المفاهیم، الذی هو أحد أقسام العلم الحصولیّ، والوجود الخارجیّ لا یعرف بما أنّه حقیقة عینیّة إلاّ بالعلم الحضوریّ.(2)
هذه المسألة من أهمّ مسائل الحكمة المتعالیة، فهی وأُختها (مسألة أصالة الوجود) تشكّلان جناحیها. وكما أنّ المسألة السابقة كانت محاطة بغمام من الإبهام تكون هذه المسألة أیضاً نظیرها. فَلْنُقَدِّم لها مقدّمة ثم لنشرع فی توضیحها وتحقیقها بعون الله تعالى.
كانت مسألة وجود الكلّی الطبیعیّ من أركان الفلسفة القدیمة ـ كما أشرنا إلیه ـ وكانت توحی بأصالة المهیّة. ولیس من الجزاف أن یقال: إنّ المباحث الفلسفیّة
1. راجع: التحصیل: ص283؛ والأسفار: ج1، ص49.
2. راجع: الأسفار: ج1، ص4950.
كانت مبتنیة علیها بصورة غیر مشعور بها. ولم یزل هذا التأثیر باقیاً فی العصر الإسلامیّ إلى أن نهض صدر المتألّهین بإثبات أصالة الوجود كمسألة أساسیّة، وبذلك تغیّر وجه الفلسفة إلى حدّ مّا، لكن بقیت قولبة المسائل على حالها، على تأثّرات غیر ملموسة منها، حتّى یحین حین التغییر الأساسیّ فیها. ولعلّ خیر ما یقترح لأجل ذلك هو تقدیم مسائل العلم وتبیین المعقولات الاُولىٰ والثانیة والفرق بینهما قبل الورود فی سائر المسائل، فإنّ كثیراً من الإشكالات ناشیءة عن الخلط بینهما كما ستقف على موارده.
ومن المباحث التی كانت مبتنیة على المبنى المشار إلیه مبحث تشخّص المهیّة. فإنّها ـ وهی الطبیعیّ المعروض للكلّیّة ـ لا تكون متشخّصة بذاتها، ولذلك تحتاج إلى ما یُشَخِّصها. وكان الحلّ الشائع أنّ تشخُّصها یكون بالعوارض. لكن كان یرد علیه أنّ العوارض أیضاً فی أنفسها مهیّات كلّیة أخرى، فكیف یتشخّص كلّی بكلّیات أخرى؟ نعم یصحّ القول بأنّ الكلّی یتقیّد أو یتخصّص بكلّی آخر إذا كان الكلّی الثانی أضیق مفهوماً أو أقلَّ مورداً. وكان الحلّ الصحیح ما قدّمه أبو نصر الفارابیّ، وهو أنّ تشخُّص الكلّی الطبیعیّ یكون بالوجود.(1) وهذا من أقدم جذور القول بأصالة الوجود فی ما نعلم.
ولمّا دار البحث حول مسائل الوجود عند المتكلّمین الذین كانوا حدیثی عهد بالمباحث العقلیّة انقدحت لهم أسئلة جدیدة ولم یساعدهم التوفیق على الإجابة الصحیحة علیها، وإن كان لهم فضلهم فی طرحها والسعی فی حلّها. ثمّ جاء دور الفلاسفة الإسلامیّین فألقوا أضواءً علیها واتّضح بعضها بفضل مساعیهم واقتربت أُخریاتها من حلولها النهائیّة إلى أن یأتی أخلافهم بها إن شاء الله تعالى.
1. راجع: الفصل الثالث من المرحلة الخامسة فی المتن؛ وراجع: المسألة السادسة من الفصل الثانی من الشوارق؛ وراجع: الأسفار: ج2، ص10.
ومن المسائل التی طُرحتْ حول الوجود أنّ الوجود العامّ یتخصّص بإضافته إلى موضوعه الذی هو المهیّة.(1) وجدیر بالذكر أنّ الوجود المقیّد كان یراد به مفاد كان الناقصة وهل المركّبة، أی ثبوت صفة غیر الوجود للمهیّة.(2) ولیس من الصدفة أنّ صدر المتألّهین بعد إثبات أصالة الوجود یعطف الكلام على مسألة تخصّص الوجود ویطرح سؤالاً بهذه الصیغة «تخصُّص الوجود بماذا؟»(3) وذلك قبل أن یعالج الشبهات التی أُوردت على أصالة الوجود وإزاحتها، لكن الإجابة الكاملة على هذا السؤال یتوقّف على مسألة مراتب الوجود والشدّة والضعف فیه التی یعبّر عنها بمسألة التشكیك فی الوجود، تلك المسألة التی أخّرها إلى الفصل الخامس من المرحلة الثالثة.(4) ومن هنا یعرف وجه تقدیم مسألة التشكیك فی هذا الكتاب وجعل مسألة التخصّص متفرّعة علیها.
والذى یجب التنبیه علیه أنّ السؤال عن سبب تخصُّص الوجود كان عند المتكلّمین متوجّهاً إلى مفهوم الوجود العامّ، وذلك لأنّهم لم یكونوا یرون حقیقة عینیّة للوجود على ما هو المأثور عنهم. ولا یصحّ طرح نفس هذا السؤال بالنسبة إلى حقیقة الوجود العینیّة. وأمّا البحث عن تخصُّص مفهوم الوجود فلیس ممّا یولیه الفیلسوف القائل بأصالة الوجود كثیرَ عنایة. ولذلك نرى أنّ طرح هذه المسألة حول حقیقة الوجود ینشأ من رسوبات القول بأصالة المهیّة فی الأذهان، فیتوهَّم أنّ للوجود طبیعةً كلّیة ویحصل تخصُّصها بإضافتها إلى المهیّات أو بسبب آخر. ولعلّ خیر ما یوجَّه به طرح هذا السؤال من مثل صدر المتألّهین أنّه أراد أن یبیّن أنّه بناءً على القول بأصالة الوجود لا ینحصر الجواب عن السؤال المذكور بأنّ تخصُّص
1. راجع: القبسات: ص196ـ197.
2. راجع: المسألة الثانیة عشر من الفصل الأوّل من الشوارق.
3. راجع: الأسفار: ج1، ص4449.
4. راجع: نفس المصدر: ص427446.
مفهوم الوجود العامّ یحصل بإضافته إلى المهیّة، بل الوجود یتخصّص بنفس الحقیقة العینیّة، فلیتأمّل.
وكیف كان فقد أجاب صدر المتألّهین على هذا السؤال بأنّ التخصّص حاصل للوجود بنفس حقیقته الواجبیّة وبسبب مراتبها المختلفة ضعفاً وشدّةً، وأضاف إلیهما قسماً آخر وهو ما یحصل بسبب الإضافة إلى المهیّات. وتبعه على ذلك الاُستاذ(دامظلهالعالی) وصرّح بأنّ التخصّص بسبب المهیّات أمر ینسب إلى الوجود بعرض المهیّة.(1) وجدیر بالذكر أنّ الاُستاذ(دامظلهالعالی) لم یصف حقیقة الوجود بصفة الوجوب بخلاف صدر المتألّهین، بل الظاهر من كلامه أنّ مراده بها الواقعیّة المطلقة الشاملة للواجب والممكنات، وإن كان لا یأبى الحمل على ما یوافق كلام صدر المتألّهین.
وإذا صحّ تفسیر كلامهما بأنّ المراد بتخصّص الوجود بمرتبتها العلیا وسائر مراتبه أنّ الوجود متشخّص بنفس ذاته وأنّ حقیقة الوجود لا تحتاج إلى أن تتخصّص بأمر آخر، فلیس یتیسّر مثل هذا التفسیر لهذا الكلام «انّ الوجود یتخصّص بما ینبعث عنه من المهیّات المتخالفة بالذات» أو «بما معه فی كلّ مرتبة من النعوت الكلّیة»(2) ویتّجه السؤال عن جعل إضافة حقیقة الوجود إلى المهیّات الاعتباریّة سبباً لتخصّصها مع التصریح بأنّ كلَّ ما هو ثابت للمهیّة فإنّما یكون بعرض الوجود. وقد تصدّى المحقّق السبزواریّ للإجابة علیه بثلاثة أوجه لا یجدی شیء منها.(3) اللّهمّ إلاّ أن یراد تخصُّص مفهوم الوجود بإضافته إلى المهیّات، لكنّه لا یوافق جعله قسیماً للتخصّص الذاتیّ لمراتب الوجود.
ثمّ على القول بأصالة الوجود وتخصّصه بنفس ذاته ینقدح سؤال آخر هو أن
1. راجع: آخر هذا الفصل فی المتن.
2. راجع: الأسفار: ج1، ص46؛ وقال فی المشعر السادس من المشاعر: «فالوجودات حقائق متأصّلة ـ إلى أن قال ـ إلاّ أنّ لكلّ منها نعوتاً ذاتیّة ومعانی عقلیّة هی المُسمّاة بالمهیّات».
3. راجع: تعلیقة السبزواریّ على الأسفار: ج1، ص46.
الوجودات المتخصّصة بذواتها هل یكون تخصّصها بتمام ذواتها فیلزم تباینها كما نُسب إلى المشّائین؛ أو یكون ببعض ذواتها فیلزم تركّبها من ما به الاشتراك وما به الامتیاز، ولعلّه لأجل إبطال هذا الفرض أتبع فی الأسفار مسألة التخصُّص بمسألة بساطة حقیقة الوجود؛(1) أو یكون تخصُّصها على شكل آخر لا یوجب شیئاً منهما، وهو أن یكون الوجود حقیقة واحدة ذات مراتب مختلفة من حیث الشدّة والضعف، فیرجع ما به الامتیاز إلى ما به الاشتراك، ویعبّر عنه بالتشكیك، كما نسب إلى حكماء الفرس المعروفین بالفهلویّین؟ وقد عقد هذا الفصل للإجابة على هذا السؤال.
ظاهر كلامه(دامظلهالعالی) أنّ اتّصاف الموجودات الخارجیّة بالكثرة ینحصر فی قسمین، فیلاحظ علیه أنّ كثرة أفراد ماهیة واحدة لا تدخل فی شیء منهما.
وذلك لما مرّ أنّ كلّ محمول ثابت للمهیّة فإنّما یكون بعرض الوجود، والكثرة إحدى محمولاتها فهی أیضاً ثابتة لها بعرضه. فقوله «لمكان أصالة الوجود واعتباریّة الماهیّة» تعلیل لهذا المطلب. وأمّا قوله «وإن الوجود متّصف بها بعرض المهیّة» فناظر إلى ما مرّ من قولهم أنّ قسماً من التخصّص یحصل للوجود بعرض المهیّة. وكأنّه(دامظلهالعالی) أراد أن یفرّق بین وجود الكثرة فی الخارج واتّصاف الوجود بها، فنسب وجود الكثرة فی الخارج إلى الوجود بالذات وإلى المهیّة بالعرض، بالعكس من اتّصاف الوجود بالكثرة حیث انه یكون بالعرض بخلاف اتّصاف المهیّة بها فإنّه یكون بالذات، فتأمّل.
1. راجع: الأسفار: ج1، ص5054.
الظاهر من كلامه(دامظلهالعالی) أن النوع الثانی من الكثرة یعنی ما یحصل من الانقسامات الطارئة للوجود هو محلّ البحث فی مسألة التشكیك وأنّ جمیع هذه الانقسامات ترجع إلى اختلاف مراتب الوجود، وللمنع فیه مجال واسع، فإنّ انقسام الوجود إلى الخارجیّ والذهنیّ بل انقسامه إلى ما بالفعل وما بالقوّة وإلى الواحد والكثیر، انقسام حاصل بالمقایسة ولا ینفذ فی حاقّ الوجود العینیّ، فلا یوجد موجود ذهنیّ أو بالقوّة أو كثیر لا یتّصف بالخارجیّ والفعلیّ والواحد بما أنّه موجود عینیّ، فلا یصحّ اعتبار الاختلاف فی كلّ قسمین من هذه الانقسامات اختلافاً تشكیكیّاً. نعم، یصحّ اعتبار الاختلاف بین العلّة المفیضة للوجود والمعلول اختلافاً بالمراتب، لكنّه لا یشمل جمیع أنواع العلل فضلاً عن سائر الانقسامات. اللّهمّ إلاّ أن یقال بالتشكیك العرْضىّ (فی مقابل الطولیّ) بمعنى عدم خروج ما به الامتیاز عن الوجود وإن لم یرجع إلى الاختلاف فی المراتب، كما ذكر فی تعلیقته على الأسفار،(1) لكن لا یساعد علیه كلمات مبتكر هذا القول فی كتبه ولا كلامه نفسه فی هذا الكتاب، حیث یقول «حقیقة مشكّكة ذات مراتب مختلفة» ولا التمثیل بمراتب النور الشدیدة والضعیفة، ولا ما فرّع علیه من الاُمور. على أنّ فرض رجوع ما به الامتیاز إلى ما به الاشتراك فی الاُمور العینیّة من غیر أن یرجع إلى اختلاف المراتب والتشكیك الطولیّ أمر لا یتیسّر لنا فهمه. وأمّا الاختلاف بین القدرة والعلم وسائر صفات الواجب تبارك وتعالى مع عدم اختلاف بینها بحسب مرتبة الوجود فإنّما هو بحسب المفهوم، والكلام فی الاختلاف العینیّ. ومن الواضح أنّ صفاته سبحانه وتعالى موجودة بوجود واحد، فلا تعدّد ولا اختلاف فی وجودها الخارجیّ بنحو من الأنحاء، وإنّما العقل ینتزع مفاهیم متعدّدة حسب ما یلاحظ من وجوه الكمال.
1. راجع: نفس المصدر: ص431ـ433.
والحاصل أنّ الاُستاذ(دامظلهالعالی) ركّز أوّلاً على وجود الكثرة فی الخارج وعدّه أمراً بدیهیّاً، ونفى بذلك احتمال كون الوجود برمّته أمراً وحدانیّاً لا كثرة فیه بوجه من الوجوه. ثمّ حصر الكثرة فی نوعین: أحدهما ما یكون للمهیّات بالذات ویتّصف به الوجود بالعرض، وهو الكثرة الموجبة للاختلاف بین الإنسان والفرس والشجر والحجر وسائر الانواع. وحیث إنّ هذه الكثرة تكون وصفاً للمهیّات بالذات لا ینثلم بها وحدة حقیقة الوجود. وثانیهما ما یكون فی حاقّ الوجود، وحصره فی ما یحصل بسبب انقسامه إلى الواجب والممكن وغیره من الانقسامات، وجعله محلاًّ للنزاع بین المشّائین والفهلویّین.
ویلاحظ علیه أوّلا أنّ الكثرة المنسوبة إلى المهیّات بالذات لا تكون خارجة عن حاقّ الوجود، لأنّ ما تتّصف به المهیّة الخارجیّة بما أنّها موجودة فی الخارج ـ وذلك فی غیر ما تتّصف به الماهیّة من الأوصاف الذاتیّة كالأجناس والفصول ـ فإنّه وصف للوجود بالذات وللمهیّة بالعرض، لمكان أصالة الوجود واعتباریة المهیّة. وثانیاأنّ كثرة الموجودات لا تنحصر فی هذین النوعین، بل هناك قسم ثالث هو كثرة أفراد مهیّة واحدة. ولا یجدی نسبتها إلى المهیّات، لمكان وحدة ماهیّتها، كما لا یجدی نسبتها إلى العوارض المشخّصة، لأنّ مهیّات العوارض لا توجب تشخّص مهیّة أُخرى، على أنّ كثرة الماهیّات ترجع إلى الوجود كما ذكرنا، وأمّا وجودات العوارض فإنّها وإن كانت متشخّصة بذواتها إلاّ أنّ وجود المعروض أیضاً كذلك فلا یحتاج فی التشخّص إلیها. وثالثا أنّ الانقسامات الطارئة على الوجود لیس جمیعها ممّا یمكن إرجاعها إلى التشكیك واختلاف مراتب الأقسام.
الأقوال فی حقیقة الوجود أربعة:
الأوّل أنّ الوجود واحد شخصیّ هو الله تبارك وتعالى ولا موجود سواه، وإنّما یتّصف غیره بالموجود على سبیل المجاز، وهو ظاهر كلام الصوفیّة، ویعبّر عنه بوحدة الوجود والموجود. وهو مردود لأنّه خلاف ما نجده بالضرورة من الكثرة، وإنكارها خروج عن طور العقل، ونوع من السفسطة وإنكار البدیهیّات. ولعلّه لذلك لم یتعرّض له الاُستاذ(دامظلهالعالی) فی هذا الكتاب. ویمكن أن یؤوّل كلامهم(1) إلى ما یرجع إلى قول صدر المتألّهین من انحصار الموجود المستقلّ فیه سبحانه، لكون سائر الموجودات روابطَ لوجوده، وأضواءً وأشعّة لنوره الحقیقیّ.(2)
الثانی أنّ الوجود واحد شخصیّ كما قالت به الصوفیّة، إلاّ أنّ الموجود لا ینحصر فی الواجب تعالى، بل مخلوقاته أیضاً موجودة حقیقةً، لكن معنى الموجود فیها هو المنسوب إلى الوجود كالتامر والمشمّس المنسوبین إلى التمر والشمس. وهو قول المحقّق الدوانیّ الذی نسبه إلى ذوق المتألّهین،(3) ویعبّر عنه بوحدة الوجود وكثرة الموجود. وقد مرّ الكلام علیه فی البحث عن أصالة الوجود.
الثالث قول المشّائین ـ على ما نسب إلیهم ـ وهو كون الموجودات حقائق متبائنة بتمام ذواتها البسیطة، ویعبّر عنه بكثرة الوجود والموجود.
الرابع ما نسب إلى الفهلویّین واختاره صدر المتألّهین وأتباعه ـ ومنهم الاُستاذ(دامظلهالعالی) وهو كون الوجود حقیقة واحدة متشكّكة أی ذات مراتب مختلفة یرجع ما به الامتیاز فیها إلى ما به الاشتراك، ویعبّر عنه بوحدة الوجود فی عین كثرته.
وبعد ردّ القولین الأوّلین یدور الأمر بین القولین الأخیرین، فإن ثبت أنّ للوجودات العینیّة على كثرتها حیثیّةَ وحدةٍٍ عینیّة تعیّن القول الأخیر. ولهذا تصدّى
1. راجع: المسألة الثالثة من الفصل الأوّل من الشوارق: ص37ـ38؛ وراجع: قوله «إشارة عرفانیّة» بعد المسألة السابعة والعشرین من الفصل الاول من الشوارق: ص109.
2. راجع: الأسفار: ج1، ص49.
3. راجع: ذیل المسألة السابعة والعشرین من الفصل الأوّل من الشوارق: ص110.
الاُستاذ(دامظلهالعالی) لإثبات جهة الوحدة بینها بقوله «لأنّا ننتزع... ـ إلخ ـ» وحاصله أنّ الوجود یحمل على جمیع الموجودات الخارجیّة، وقد ثبت أنّه مشترك معنویّ،(1) فحمل هذا المفهوم الواحد على الموجودات المتكثّرة دلیل على أنّ بینها جهةَ اشتراك عینیّة، وإلاّ لزم جواز انتزاع كلّ مفهوم عن كلّ شیء.
ویمكن المناقشة فی هذه الحجّة بأنّ انتزاع مفهوم واحد عن أشیاء كثیرة إنّما یدلّ على جهة اشتراك عینیّة فیها إذا كان ذلك المفهوم من قبیل المعقولات الاُولىٰ أی من المفاهیم التی یكون عروضها كاتّصافها فی الخارج، كما أنّ كثرة مثل هذه المفاهیم هی التی تدلّ على كثرة الجهات العینیّة. وأمّا المعقولات الثانیة فیكفی لحمل واحد منها على مصادیقه وحدة الجهة التی یلاحظها العقل، كما أنّه یكفی لحمل أكثرَ من واحد منها على مصداق واحد كثرةُ الجهات الملحوظة عند العقل وإن لم یكن بإزائها جهات متكثّرة عینیّة. فلا تَدُلُّ وحدة المعقول الثانی(2) على وجود جهة عینیّة مشتركة بین مصادیقه، ولا كثرته على كثرة الجهات الخارجیّة. كما لا تَدُلُّ وحدة مفهوم «المهیّة» أو مفهوم «العرض» على جهة وحدة ماهویّة بین الأجناس العالیة، وإلاّ لزم وجود جنس مشترك أو مادّة مشتركة بینها، وكما لا یدلّ تعدّد مفاهیم الوجود والوحدة والفعلیّة على تعدّد الجهات العینیّة فی الوجود البسیط الذی لا جهة كثرة فیه.
ویمكن إثبات التشكیك فی حقیقة الوجود من طریق رابطیّة المعلولات بالنسبة إلى عللها ـ على ما سیأتی إثباته فی مباحث العلّة والمعلول ـ حیث یترتّب علیها أنّ وجود المعلول أضعف من وجود علّته المفیضة له، بل هو شأن من شؤونها لا استقلالَ له دونها، وعلى هذا فالموجودات الواقعة فی سلسلة العلل والمعالیل
1. وقد ذكرنا فی التعلیقة على الفصل الأوّل (الرقم 9) أنّ اشتراك مفهوم الوجود هو من مقدّمات البرهان الذی اُقیم على وحدة حقیقة الوجود، فتذكّر.
2. قال فی الأسفار (ج1، ص139): لا یلزم من صدق الحُكمِ على الشیء بمفهوم بحسب الأعیان أن یكون ذلك المفهوم واقعاً فی الأعیان.
تشكّل حقیقة واحدة ذات مراتبَ یتقوّم بعضها ببعض ویتقوّم الكلّ بالواجب تبارك وتعالىٰ من دون أن یلتزم بالاختلاف التشكیكیّ بین المعلولات الواقعة فی مرتبة واحدة، فلا یكون شیء منها متقوّماً بما فی مرتبته، وإن كانت جمیعاً متقوّمة بعلّتها المفیضة وهكذا حتّى تنتهی المراتب إلى الواجب تعالى الذی هو القیّوم المطلق، وهذا هو المعنى الحقّ لوحدة الوجود الحقّة، ویمكن عدّه قولاً خامساً فی المسألة، ولا یرد علیه شیء من الإشكالات، حیث یعترف فیه بكثرة المهیّات العرضیّة وكذا كثرة أفراد مهیّة واحدة، ورجوع هذه الكثرات إلى وجوداتها بالذات مع الاعتراف بكون جمیعها شؤوناً لعللها المفیضة ومن مراتب وجودها، وبالتالی بكون الوجود عبارة عن موجود مستقلّ على الإطلاق هو الواجب تعالى ومخلوقاته التی هی مجاری فیضه ومجالی نوره، والتی تختلف بالكمال والنقص والتقویم والتقوّم، وتنتهی الى مخلوقات عرْضیّة واقعة فی مرتبة واحدة لا یتقوّم بعضها ببعض ولا یكون بین أنفسها تشكیك بهذا المعنى ـ والله العالم ـ .
وهو تلقّیه كعرض بسیط، ولكن النظر العلمیّ یقتضی اعتباره مركّباً من ذرّات أو من أمواجأو من ذرّات موجیّة على ماأدّىإلیه نظر بعض المتأخّرین من علماء الفیزیاءـ . ثم إنّه بناء على كونه عرضا بسیطاً یوجدفرق آخرُ بینه وبین الوجود المشكّك، وهو أنّ النور الضعیف مستقلّ عن النور الشدید، لكنّ الوجود الضعیف لا یستقلّ عن الوجود الشدید،إلاأن یعتبر المرتبة الضعیفة التی توجد فی ضمن المرتبة القویّة من النور،فافهم.
جعل اللافعلیّة فعلیّةً للهیولى الاُولى كجعل اللامحدودیّة حدّاً للواجب تعالى إنّما
هو على سبیل التجوّز والمبالغة فی النفی. وهذا الكلام مبنیّ على قول المشّائین من أنّ الهیولى الاُولى قوّة محضة مع أنّها جوهر موجود حقیقةً ومتحصّل بتحصّل الصورة، وسیأتی المناقشة فیه، وأنّ الحقّ فی هذه المسألة مع الإشراقیّین والعلاّمة الطوسیّ، فانتظر.
قد مرّ الكلام فی تخصّص الوجود تحت الرقم (25) فراجع.
البحث عن أحكام العدم فی الفلسفة ـ التی موضوعها الموجود ـ استطرادیّ. نعم یمكن إرجاع بعض ما یتعلّق به إلى أحكام الوجود كالبحث عن إعادة المعدوم، كما صنع الاُستاذ(دامظلهالعالی) حیث جعل عنوان البحث نفی تكرّر الوجود.
ثمّ إنّ مفهوم العدم مفهوم اعتباریّ بلا ریب، وإنّما یفرض له مصداق كما مرّ بیانه. فقد یلاحظ بقید الإطلاق ففرض المصداق له إنّما یتیسّر بنفی مطلق الوجود وهو محال. وقد یلاحظ بدون قید الإطلاق فیعمّ الأعدام الخاصّة، فیفرض لها مصادیق كعدم زید المنطبق على وجود عمرو وبكر وخالد. وهذه الأعدام الخاصّة بما أنّها منتزعة عن الوجودات المحدودة نحواً من الانتزاع هی التی یقال إنّ لها حظّاً من الوجود، فیعتبر لها تمایز بتمایز الوجودات المتمایزة بالذات. كما أنّه قد ینسب إلیها أحكام وجودیّة فی الظاهر كعلّیة عدم العلّة لعدم المعلول، وهو نوع من التجوّز كما قال الاُستاذ(دامظلهالعالی) «حقیقته الإشارة إلى ما بین الوجودین من التوقّف»
فإنّ لازم توقّف وجود المعلول على وجود العلّة هو انتفاؤه بانتفائها، فیشار إلى هذه الحقیقة بأنّ عدم المعلول مستند إلى عدم العلّة، فعدمها علّة لعدمه. وسیأتی البحث عنه فی ذیل الفصل السادس من المرحلة الرابعة فی المتن.(1)
هذا التركیب الإضافیّ مأخوذ من قضیّة هی «العدم معدوم» وهی تتصوّر على ثلاثة أوجه: أحدها أن تكون نظیر «الوجود موجود» فمفادها أنّ مصداق مفهوم العدم غیر موجود فی الخارج، ویراد بها أنّ العدم معدوم بنفس ذاته لا بعدم زائد علیه كما أنّ معنى موجودیّة الوجود كونه نفس الموجود، لا أنّه موجود بوجود زائد علیه.(2)
وثانیها أن یراد بها زوال العدم الثابت فی الذهن، بأن یتصوّر مفهوم العدم فیوجد هذا المفهوم فی الذهن ثمّ یزول هذا التصوّر ویُحكىٰ زواله بأنّه معدوم. فمعنى هذا الحمل أنّ مفهوم العدم الذی كان موجوداً فی الذهن لیس بموجود بالفعل.(3)
وثالثها ما أشار إلیه فی المتن، وهو أن یفرض العدم أمراً ثابتاً ثمّ یسلب بتبدّله إلى الوجود ویُحكىٰ عن سلبه بأنّه معدوم.
وكیف كان فإضافة العدم إلى نفسه یعنی سلبه، وبهذا الاعتبار یكون المضاف نقیض المضاف إلیه، وهو فی نفس الوقت باعتبار أنّه عدم خاصّ یكون من أفراد العدم العامّ، فیصحّ أن یقال: عدم العدم عدم، أو نوع من العدم. فیستشكل حینئذ بأنّه كیف یكون نقیض الشیء نوعاً منه؟ والحال أنّ النقیضین متقابلان لا یتصادقان، مع أنّ النوعیّة تقتضی الاندراج والتصادق!
1. راجع: الأسفار: ج1، ص350ـ352.
2. راجع: تعلیقة السبزواریّ على الأسفار: ج1، ص353.
3. راجع: المسألة السادسة عشر من الفصل الأوّل من الشوارق: ص6667.
والجواب عن التقریر الأوّل أنّ معنى تلك القضیّة والتركیب المأخوذ منها كون العدم عین نفسه فلا یكون نقیضه حتّى ینافی الحمل. وأما الجواب عن التقریرین الآخرین فبأنّ المضاف ینفی المضاف إلیه بما له من الوجود الذهنیّ أو الاعتباریّ، وبهذا اللحاظ لیس نوعاً منه، وأمّا نوعیّته واندراجه تحت المفهوم العامّ فباعتبار ثبوت للمضاف نفسه إمّا فی الذهن أو فی وعاء الاعتبار. قال صدر المتألّهین: «فموضوع النوعیّة والتقابل مختلف، كیف والنوعیّة من أحوال المعقول بما هو معقول، لأنّه كسائر المعانی المنطقیّة من ثوانی المعقولات، والتقابل من الأحوال الخارجیّة للأشیاء [یعنی أنّه من المعقولات الفلسفیّة] لأنّ المتقابلین ممّا یجتمعان فی الذهن».(1)
لمّا أشار إلى حلّ شبهة عدم العدم بالفرق بین الجهات فی الحمل انتقل إلى حلّ ألغاز اُخرى بمثل ذلك، وإن لم یكن لجمیعها ارتباط بأحكام العدم.
منها أنّ قضیّة «المعدوم المطلق لا یخبر عنه» تُناقض نفسها، لأنّ نفس هذه القضیّة إخبار عن المعدوم المطلق بأنّه لا یخبر عنه. وأجاب عنه تبعاً لصدر المتألّهین(2) بأنّ المراد بالمعدوم المطلق فی هذه القضیّة هو المصداق الخارجیّ أی ما هو بالحمل الشائع معدوم مطلق، ومعنى عدم الإخبار عنه عدم صحّة فرض مصداق له كما أشرنا إلیه تحت الرقم (33) وأمّا الإخبار بعدم الإخبار فباعتبار وجود موضوع القضیة فی الذهن وهو المعدوم المطلق بالحمل الأوّلیّ أی مفهومه. وكلام الاُستاذ فی بدایة الحكمة فی هذا المقام لا یخلو عن اضطراب.(3)
1. راجع: الأسفار: ج1، ص352.
2. راجع: نفس المصدر: ص239.
3. راجع: بدایة الحكمة: ص18.
ومنها قضیّة «الجزئیّ جزئیّ» مع أنّ موضوع القضیّة نفسه یصدق على كثیرین فهو كلّی ولیس بجزئیّ. والجواب أنّ الحمل فی هذه القضیّة حمل أوّلیّ وموضوعها هو مفهوم الجزئیّ بما أنّه مفهوم (أی الجزئیّ بالحمل الأوّلیّ) وأمّا قضیّة «الجزئیّ كلّی» أو «الجزئیّ لیس بجزئیّ» فالحمل فیها من قبیل الحمل الشائع وموضوعها هو هذا المفهوم بما له من الوجود الذهنیّ. والتركیز على هذا القید لأجل أنّ للجزئیّ اعتباراً آخر وهو كونه موجوداً خارجیّاً ظرف وجوده هو ظرف الذهن، فهو بهذا الاعتبار جزئیّ بالحمل الشائع.
ومنها قضیّة «اجتماع النقیضین ممتنع» مع أنّ اجتماع النقیضین موجود فی الذهن وإلاّ لم یجز الإخبار عنه بالامتناع، فهو ممكن ولیس بممتنع. والجواب أنّ موضوع هذه القضیّة ما هو بالحمل الشائع اجتماع النقیضین، والمراد بها بیان امتناع تحقُّق مصداق له فی الخارج. وأمّا الموجود فی الذهن فهو مفهومه أی ما هو بالحمل الأوّلیّ اجتماع النقیضین.
ومنها قضیّة «اللا ثابت فی الذهن لا ثابت فیه» مع أنّ «اللا ثابت» ثابت فی الذهن لأجل الإخبار. والجواب أنّ لهذه القضیّة معنیین: أحدهما أنّ مفهوم اللا ثابت فی الذهن هو نفس هذا المفهوم بالحمل الأوّلیّ، وأمّا الذی هو ثابت فی الذهن فهو وجود هذا المفهوم باعتباره موضوعاً للقضیّة. وثانیهما أنّ المصداق المفروض للاّ ثابت فی الذهن هو عین عدم الثبات الذهنیّ، فتكون القضیّة من قبیل «العدم معدوم بنفس ذاته» فموضوعها هو اللا ثابت بالحمل الشائع، وأمّا الموضوع فی قضیّة «اللا ثابت فی الذهن ثابت فیه» فهو مفهوم اللا ثابت بما أنّه موجود فی الذهن.
والحلالنهائیّ لهذه الألغاز وأشباهها،(1) التی تسمّى فی اللغات الاُوربیّة ب«پارادوكس» هو رهن معرفة مراتب الذهن التی أشرنا إلیها فی البحث عن «نفس الأمر» فلا ینافی
1. راجع: الأسفار: ج1، ص292ـ294 و 344ـ348.
ثبوت شیء بحسب مرتبة من مراتب الذهن نفیه بحسب مرتبة أُخرى وبالعكس. ولأصحاب مدرسة «التحلیل اللغویّ» أو «لینگویستیك» تعبیر آخر هو «تعدّد اللغات» وهو مبنیّ على مذهبهم الراجع إلى أصالة التسمیة فی المفاهیم الكلّیة.
وجدیر بالذكر أنّ قیدَی «بالحمل الأوّلی» و«بالحمل الشائع» فی كلمات الاُستاذ(دامظلهالعالی) راجعان فی بعض الموارد إلى نفس القضیّة، وفی بعضها الآخر إلى موضوعها، فلاتغفل.
الغرض الأصلیّ من طرح هذه المسألة هو بیان امتناع إعادة المعدوم بعینه، وقد جعلها فی الشفاء(1) متفرّعة على عدم شیئیّة العدم، فإنّه إذا كان المعدوم باطل الذات لم یصحّ إثبات حكم الإعادة له. وتبعه فی التحصیل.(2) وأضاف فی الشفاء: «على أنّ العقل یدفع هذا دفعاً لا یحتاج فیه إلى بیان، وكلُّ ما یقال فیه فهو خروج عن طریق التعلیم» یعنی أنّه إنّما یكون على سبیل التنبیه. وقال الرازیّ فی المباحث المشرقیّة: «ونعم ما قال الشیخ من أنّ كلَّ من رجع إلى فطرته السلیمة ورفض عن نفسه المیل والعصبیّة شهد عقله الصریح بأنّ إعادة المعدوم ممتنع قطعاً. وكما أنّه قد یتوهّم فی غیر البدیهیّ أنّه بدیهیٌّ لأسباب خارجة فكذلك قد یتوهمّ فی البدیهیّ أنّه غیر بدیهیّ لموانع من خارج».(3)
1. راجع: آخر الفصل الخامس من المقالة الاُولى من إلهیّات الشفاء.
2. راجع: التحصیل: ص290؛ والمطارحات: ص214ـ217.
3. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص48.
والظاهر أنّ العامل الخارجیّ الذی أوقع المتكلّمین فی الشبهة أنّهم زعموا منافاته للمعاد الذی هو عود للأموات، فاعتبروا الموت عدماً، والإحیاء إعادة للمعدوم، فتوهَّموا أنّ قبول المعاد یستلزم قبول إعادة المعدوم. وقد نبّه الاُستاذ على هذا فی آخر المبحث وبیّن أنّ الموت لیس عدماً، وإنّما هو انتقال من نشأة إلى أُخرى، حکی عن رسول الله أنّه قال لمولانا أمیر المؤمنین(علیهالسلام): وإنّما تنتقلون من دار إلى دار.
توضیح ذلك أنّ البدن وإن كان یفنى ویتلاشى بعد الموت إلاّ أنّ النفس التی هی الصورة الحقیقیّة للإنسان والتی بها شیئیّته تبقى إلى یوم القیامة، وعودها إلى البدن لیس وجوداً جدیداً للنفس، وإن اعتبر حیاة البدن به وإجتماع أجزائه المتلاشیة خلقاً جدیداً له. نعم، لو فرض فناء النفس بعد البدن لزم كون المعاد إعادة للمعدوم أو إحداث شخص آخر، لكنّ النفس باقیة بعد الموت فی عالم البرزخ إلى یوم القیامة، فلا یستلزم قبول المعاد نقض هذه القاعدة الواضحة.
ثمّ إنّ صدر المتألّهین(1) قدّم للمسألة مقدّمة بیّن فیها امتناع فرض وجودین لذات بعینها، وحمل علیه قول العرفاء «إنّ الله لا یتجلّى فی صورة مرّتین» (ونظیره قولهم «لا تكرار فی التجلّی») وقد أخذ الاُستاذ(دامظلهالعالی) عنوان المسألة (لا تكرّر فی الوجود) من تلك المقدّمة، وبیّنها بوجه أوضح، وهو أنّ الوجود مساوق للتشخّص، فمعنى كون شخص واحد بعینه ذا وجودین كونه ذا شخصین، وقد فرض شخصاً واحداً. وزاد علیه أنّ وجود مثلین من جمیع الجهات محال، وذلك لأنّ التماثل من جمیع الجهات ینافی تمایز كلّ واحد منهما بتشخّصه الخاصّ به. وإذا فرض المثلان مختلفین من حیث الزمان ازداد جهة الاختلاف بینهما وتضاعف محذور عدم الوحدة والعینیّة.
ثمّ أشار إلى ما ربما یحتال لجعل جهة الاختلاف خارج وجود المثلین بأنّ التمایز یحصل بالعدمین السابقین علیهما، فأحد العدمین مسبوق بالوجود بخلاف
1. راجع: الأسفار: ج1، ص353ـ364.
الآخر، ویكفی هذا لإثبات الاختلاف والتمایز، ولا تنافیه مثلیّة الوجودین من جمیع الجهات، الراجعة إلى الوجود. والجواب ـ زائداً على ما مرّ ـ أنّ تمایز العدمین إنّما هو بتبع تمایز الوجودین كما سبق القول فیه، ففرض أن یحصل تمایز الوجودین من ناحیة العدمین یستلزم الدور.
ثمّ أشار إلى احتیال آخر یستهدف تثبیت الوحدة بأمر خارج عن الوجودین، على عكس الاحتیال الأوّل، وهو انطباق صورة علمیّة واحدة علیهما. والجواب أنّ هذه الوحدة تنسب إلیهما بالعرض، فهی صفة للصورة العلمیّة بالذات وتنسب إلیها باعتبار انطباق الصورة علیهما، ولا یصحّح ذلك عینیّتهما وتماثلهما من جمیع الجهات، وهو واضح جدّاً.
ههنا یعالج صلب المسألة بعد تشیید مبانیها ویذكر وجوهاً لبیان امتناع إعادة المعدوم، وهی أربعة: اثنان منها مبنیّان على فرض عدم إعادة الزمان، وآخران مبنیّان على فرض إعادته أیضاً، ولعلّ الاُولىٰٰ إقامة حجّة مردّدة الطرفین وجعل كلّ وجهین منها تالیین فاسدین لأحد الطرفین. أمّا الوجوه التی هی فی الواقع تنبیهات على ذلك الأمر البدیهیّ فهی:
ألف) إنه لو فرض وجود شیء بعد انعدامه فی زمان مع حفظ الوحدة والعینیّة لزم تخلّل العدم بین الشیء ونفسه، لأنّ المفروض أنّ المُعاد هو نفس المعدوم بعینه. ومعلوم أنّ تخلّل العدم یوجب انقطاع الوجود وتعدّدَه المنافیَ للوحدة والعینیّة، فإنّه لا تتحقّق وحدة الوجود فی الزمانیّات إلاّ باتّصال امتداده المنبسط فی وعاء الزمان. وقرّر فی الأسفار(1) بطلان التالی بوجه آخر، وهو أنّه لو اُعید المعدوم
1. راجع: نفس المصدر: ص356.
بعینه لزم تخلّل العدم بین الشیء ونفسه فیكون هو قبل نفسه قبلیّة بالزمان، وذلك بحذاء الدور الذی هو تقدُّم الشیء على نفسه بالذات.
ب) إنّ إعادة المعدوم بعینه هو إیجاد مثل للمعدوم یماثله من جمیع الجهات، ولو جاز ذلك فی زمانین لجاز فی زمان واحد أیضاً لتماثل الفرضین واشتراك المتماثلین فی الأحكام، وقد ثبت امتناع وجود مثلین فی زمان واحد، فیثبت امتناع وجودهما فی زمانین. أقول: بل فرض المثلین من جمیع الجهات فی زمانین أشدّ محذوراً، لأنّ الاختلاف فی الزمان یوجب مضاعفة التناقض فی الفرض، كما مرّت الإشارة إلیه.
ج) إنّ التماثل بین الوجودین یقتضی إعادة الزمان، وإلاّ لم یكن الوجودان متماثلین من جمیع الجهات، وعلیه یلزم أن یكون المُعاد هو المبتدأ، فلا یصحّ عدّهما وجودین اثنین.
د) لو جاز الإعادة مرّة واحدة لجازت مرّتین وأكثر إلى غیر النهایة، وإذا كان الجمیع متماثلة من جمیع الجهات كان الوجود الثانی عین الثالث وهكذا، فلم یتمیّز أحدها عن غیره، مع أنّ كلّ عودة تمتاز بعدد خاصّ، فیلزم اجتماع النقیضین: التمیّز وعدم التمیُّز.
وظاهر أنّ الوجهین الأخیرین مبنیّان على إعادة الزمان أیضاً أداءً لحقّ العینیّة والتماثل من جمیع الجهات.
وأخیراً أشار إلى ما تمسّك به القائلون بجواز الإعادة، وهو أنّ عدم جواز وجود شیء فی زمان متأخّر عن انعدامه بعد الوجود إن كان ذاتیّاً لمهیّة أو لازماً لها لم توجد لأوّل مرّة، وإن كان لأجل مانع خارجیّ جاز زوال المانع فیزول الامتناع بزواله.
وأجاب عنه بأنّ الامتناع لازم لوجوده لا لمهیّته، فإنّ فرض الوجود الثانی
المماثل لوجوده الأوّل من جمیع الجهات مستلزم للتناقض. وأجاب فی الشوارق(1) بوجهین آخرین، هما: كون الامتناع لازماً للمهیّة المقیّدة بعدمها بعد الوجود، وكون امتناع الوجود المُعاد لازماً للمهیّة، وغیر خفیّ أنّ هذین الوجهین مبنیّان على الجدل.
1. راجع: المسألة الثالثة والثلاثین من الفصل الأوّل من الشوارق: ص122.
ذكر صدر المتألّهین(1) أنّ للوجود الرابطیّ اصطلاحین عند الحكماء: أحدهما ما یقع رابطة فی الحملیّات الموجبة ویكون من قبیل المعانی الحرفیّة، ویقابله الوجود المحمولیّ الذی یقع محمولاً فی الهلیّات البسیطة ویكون من المعانی المستقلّة. واختار أنّ إطلاق الوجود على الرابطیّ ـ بهذا المعنى ـ والمحمولیّ یكون من قبیل الاشتراك اللفظیّ. وثانیهما ما یرادف الوجود للغیر، أی الوجود الذی یتحقّق فی شیء كوجود السواد فی الجسم، أو لشیء كوجود المعلول للعلّة، أو عند شیء كوجود الصورة العلمیّة عند النفس (والأمثلة من الاُفق المبین) ویقابله الوجود النفسیّ. ثمّ اقترح ـ تبعاً لاُستاذه فی الأفق المبین ـ تخصیص الأوّل بالرابط والثانی بالرابطیّ لئلاّ یحصل الخلط بینهما.
وجدیر بالذكر أنّ وجود المعلول بالنسبة إلى العلّة یعدّ رابطیّاً عندهم بمعنى أنّ له وجوداً مستقلاًّ عن العلّة إلاّ أنّه لا یمكن انسلاخه عن الانتساب إلیها. لكنّ صدر المتألّهین أثبت أن لا استقلال للمعلول بالنسبة إلى العلّة المفیضة، ورجّح إطلاق «الرابط» على الوجود المعلولیّ، وبذلك یحصل اصطلاح آخر للوجود الرابط ربما
1. راجع: الأسفار: ج1، ص79ـ82 و 327ـ330.
یشتبه بالاصطلاح الأوّل. لكنّ الحقَّ أنّ بینهما بوناً بعیداً، فإنّ الأوّل اصطلاح منطقیّ فی الأصل ویختصّ برابطة القضایا، ویمتاز بقیامه بالطرفین هما مفهوم الموضوع ومفهوم المحمول، بخلاف الثالث الذی هو نتاج بحث فلسفیّ عمیق فی الغایة، ویمتاز بقیامه بطرف واحد عینیّ هو وجود العلّة.
وینقدح ههنا سؤال هو أنّه كیف أكّد صدر المتألّهین على وحدة معنى الوجود وكونه مشتركاً معنویّاً مع اختیاره الاشتراك اللفظیّ بین الوجود الرابط بالمعنى الأول والوجود المحمولیّ؟ والجواب أنّ التأكید على الاشتراك المعنویّ للوجود إنّما هو فی محلّ النزاع بین الحكماء وبعض المتكلّمین، وهو الوجود المحمولیّ، فلا یشمل رابطة القضایا. ومن هنا یظهر أنّ الاشتراك اللفظیّ المختار لا یشمل الوجود الرابط بالمعنى الثالث، فتفطّن.
وقد ابتدأ الاُستاذ(دامظلهالعالی) بإثبات الرابطة بین القضایا وكونها قائمة بالطرفین غیر مستقلّة عنها، وركّز على القضایا الخارجیّة التی تنطبق بموضوعاتها ومحمولاتها على الخارج، وكأنّه أراد بذلك إثبات الرابطة بین مصادیق الموضوعات والمحمولات فی الخارج، حتّى یصحّ تقسیم الوجود العینیّ إلى الرابط والمستقلّ أیضاً، ذلك التقسیم الذی یناسب البحث الفلسفیّ ویعتنی به الفیلسوف القائل بأصالة الوجود. لكن یلاحظ علیه أنّ ثبوت الموضوعات والمحمولات فی الخارج لا یكفی دلیلاً على ثبوت الرابطة كنوع من الوجود العینیّ. والرابطة فی القضایا إن دلّت على شیء خارجیّ فإنّما تدلّ على اتّحاد مصداق الموضوع والمحمول، وهو أعمّ من ثبوت أمر رابط بینهما. فإنّ اتّحاد الجوهر والعرض أو اتّحاد المادّة والصورة فی الخارج مثلاً لا یستلزم وجود رابط بینهما، بل یكفی كون أحدهما من مراتب وجود الآخر أو كون أحدهما رابطیّاً بالنسبة إلى الآخر. والحاصل أنّه لا یمكن بمثل هذا البیان إثبات الوجود الرابط فی الأعیان، وإثباته رهن لتبیین كیفیّة ارتباط المعلول بالعلّة، على ما سیأتی فی محلّه.
قد اختلفوا فی تعداد أجزاء القضایا على أقوال:
ألف) ان جمیع القضایا مركّبة من أربعة أجزاء: الموضوع، المحمول، النسبة الحكمیّة والحكم، أی إذعان النفس بثبوت النسبة أو لا ثبوتها ـ على حدّ تعبیرهم ـ .
ب) انّ القضایا الموجبة مركّبة من تلك الأجزاء الأربعة، وإنّ السوالب مركّبة من ثلاثة أجزاء بحذف الحكم، فإنّ مفاد القضیّة السالبة سلب النسبة الحكمیّة الثبوتیة.
ج) انّ القضایا الهلیّة المركّبة الموجبة مركّبة من أربعة أجزاء، وانّ الهلیّة البسیطة الموجبة مركّبة من ثلاثة أجزاء بحذف النسبة الحكمیّة فإنّ مفادها الحكم بثبوت الموضوع لا ثبوت شیء له. وأمّا الهلیّة المركّبة السالبة فمركّبة من ثلاثة أجزاء بحذف الحكم، فإنّ مفادها سلب النسبة الثبوتیّة، وأمّا الهلیّة البسیطة السالبة فثنائیّة لأنّ مفادها سلب ثبوت الموضوع فلیس فیها نسبة حكمیّة ولا حكم. وهذا التفصیل ربما یظهر من كلام صدر المتألّهین،(1) وإن صرّح فی موضع آخر بثبوت النسبة الحكمیّة فی جمیع القضایا.(2)
د) ما اختاره الاُستاذ(دامظلهالعالی) حیث قال فی تعلیقته على الأسفار بعد كلام له: «فقد تحقّق بما قدّمناه أنّ القضایا الموجبة سواء كانت هلیّات بسیطة أو مركّبة ذواتُ أجزاء ثلاثة: الموضوع والمحمول والحكم. والسوالب كائنة ما كانت ذوات جزئین: الموضوع والمحمول. وأمّا النسبة الحكمیّة فإنّما هی تصاحب القضایا من جهة كون المحمولات فی الهلیّات المركّبة موجودة للموضوعات، فیضطرّ الذهن إلى تصوّر ارتباطها بالموضوعات، ثمّ یعمّم الذهن ذلك إلى عامّة القضایا غلطاً منه»(3)
1. راجع: نفس المصدر: ص365ـ372.
2. راجع: نفس المصدر: ص79.
3. راجع: تعلیقة الاُستاذ على الأسفار: ج1، ص366.
ومثله كلامه الآتی فی المتن.(1) ویستفاد من كلامه ههنا إلحاق الحمل الأوّلیّ بالهلیّة البسیطة.
أقول: إنّ البحث عن القضایا وأجزائها بحث منطقیّ، وربما تعرّض له الفلاسفة لارتباط بعض الأبحاث الفلسفیّة به كما یلاحظ فی هذا الكتاب. فأمّا من الوجهة المنطقیة فلا ریب أنّ قوام القضیّة بما أنّها تصدیق یقابل التصوّر البسیط إنّما یكون بالحكم، ولا معنى لخلوّ قضیّة عنه كائنةً ما كانت، وإلاّ عادت إلى مجموعة من التصوّرات، والحكم یتعلّق بالنسبة بین الموضوع والمحمول، فتعود أجزاء كلّ قضیّة من الوجهة المنطقیّة أربعة.
وأمّا الإشكال بعدم إمكان تحقّق الرابطة بین الشیء ونفسه فی الحمل الأوّلیّ فمندفع بأنّ الموضوع والمحمول فی هذا الحمل وإن كانا متّحدین مفهوماً إلاّ أنّهما متغایران بحسب الوجود فی الذهن، فوجود مفهوم الإنسان فی الذهن مثلاً غیر وجود مفهوم الحیوان الناطق فیه وإن كان المفهوم واحداً. وكذا الإشكال بعدم جواز تحقّق الرابطة بین عدمین أو بین عدم ووجود فإنّه مندفع أیضاً بأنّ الرابطة إنّما تحصل بین المفاهیم الذهنیّة وهی اُمور موجودة لا محالة، وإن لم یوجد لها مصداق فی الخارج. وأمّا الإشكال بأنّ العدم لا شیئیّة له ولا تمایز فلا یكون رابطاً فمندفع بأنّ للعقل أن یعتبر له ثبوتاً وتمایزاً بتبع الوجود، ویعتبره رابطاً بتبع رابطیّة الوجود المنسوب إلیه، فكما أنّ للعقل أن یعتبر عدم العلّة علّة لعدم المعلول فی الخارج فله أن یعتبر عدم ارتباط الموضوع بالمحمول رابطة عدمیّة بینهما. وهذا هو سبب الاستثناء فی كلام الاُستاذ(دامظلهالعالی) بقوله «إلاّ بحسب الاعتبار الذهنیّ». ومفتاح حلّ كثیر من هذه المشكلات هو تحقیق مراتب الذهن كما أشرنا إلیه غیر مرّة.
أمّا من الوجهة الفلسفیّة فالحمل الأوّلیّ بمعنى حمل المفهوم على نفسه خارج
1. راجع: الفصل الثامن من المرحلة الحادیة عشر فی المتن.
عن نطاق البحث الفلسفیّ إطلاقاً، إلاّ أن یعمَّم بحیث یشمل ثبوت الشیء لنفسه فی الخارج، وثبوت المفهوم لمصداقه العینیّ بالذات (الحمل الذاتیّ) ولتحقیق القول فیه مقام آخر. وأمّا الهلیّة البسیطة فالعقل بعد تحلیله المعلوم إلى مهیّة ووجود، وبعد ملاحظته أنّ للمهیّة أن تتّصف بالوجود وأن لا تتّصف یحصل له ثلاثة مفاهیم: موضوع هو المهیّة، ومحمول هو الموجود، ونسبة حاكیة عن الاتّصاف، فإن كانت المهیّة موجودة حكمت النفس بثبوت النسبة وإلاّ لم تحكم بثبوتها. ففی هذا الجوّ التحلیلیّ وفی وعاء الاعتبار الذی ینفكّ فیه حیثیّة المهیّة عن الوجود ویعتبر للمهیّة ثبوت وتقرّر لا مجال لإنكار النسبة بینهما. فبعد هذا التحلیل یكون الحكم فی الهلیّة البسیطة أیضاً بثبوت شیء هو الوجود لشیء آخر هو المهیّة، ویكون من مصادیق القاعدة المعروفة «ثبوت شیء لشیء فرع لثبوت المثبت له» ولهذا یستدلّ بها لإثبات الوجود الذهنیّ كما سیأتی فی محلّه، وإن لم یكن تغایر بینهما فی وعاء الخارج وكان الحكم فی الحقیقة بثبوت شیء لا ثبوت شیء لشیء. فإنكار النسبة فی الهلیة البسیطة یبتنی على نظرة فلسفیّة خاصّة ولا ینافی إثباتها حسب نظرة فلسفیّة اُخرى، كما لا ینافی اثباتها حسب النظرة المنطقیّة.
نعم، یختلف الحكم من الوجهة المنطقیّة والوجهة الفلسفیّة فی السوالب. فمن الوجهة المنطقیّة تكون القضیّة السالبة أیضاً واجدة للحكم بخلافها من الوجهة الفلسفیّة. وهذا الاختلاف أیضاً راجع إلى اختلاف مراتب الذهن كما أشرنا إلیه.
قد ظهر ممّا قدّمناه أنّ روابط القضایا مفاهیم حرفیّة لا تحكی عن وجودات عینیّة حتّى یُسأل عن مهیّات تلك الوجودات، خلافاً لما یستشعر من كلام الاُستاذ(دامظلهالعالی) من أنّها تحكی عن نسب وإضافات عینیّة بین مصادیق الموضوعات والمحمولات،
فتلك النسب ـ بناءً على ثبوت وجود عینیّ لها ـ لا تلاحظ استقلالاً حتّى یسأل عن ماهیّاتها فیجاب بمفاهیم مستقلّة، وعلى هذا یصحّ أن یقال لا مهیّة لها. اللّهمّ إلاّ أن یعرض لها الاستقلال بتوجیه الالتفات إلیها، على ما یأتی فی الفصل القادم. لكن بناءً علیه یشكل اعتبار الإضافة حینئذ من الأجناس العالیة، فلیتأمّل.
ولكلام الأستاذ(دامظلهالعالی) تأویل آخر، وهو أنّ روابط القضایا وإن كانت من قبیل المفاهیم غیر المستقلّة إلاّ أنّ لهذه المفاهیم وجوداتٍ فی الذهن تتحقّق بین الموضوعات والمحمولات ولیس لوجوداتها مهیّة، لعدم استقلالها.
وكیف كان فشمول هذا الحكم للوجودات الإمكانیّة العینیّة التی هی روابط بالنسبة إلى الواجب تبارك وتعالى مشكل جدّاً، لاستلزامه نفی أیّ مجال للمهیّة مطلقاً. وغایة ما یمكن أن یقال فی تقریره أنّ هذه الوجودات بما أنّها روابط لا تلاحظ استقلالاً، ولأجل ذلك لا تتقرّر لها مهیّة بهذا اللحاظ، لكن للعقل أن ینظر إلیها بالنظر الاستقلالیّ فینتزع عنها مهیّاتٍ جوهریّةً أو عرضیّة كما ستأتی الإشارة إلیه، فانتظر.
قد مرّ أنّ صدر المتألّهین اختار أنّ إطلاق لفظة «الوجود» على روابط القضایا وعلى الوجود المحمولیّ یكون بالاشتراك اللفظیّ. وقد عبّر عن الاختلاف بینهما بالاختلاف النوعیّ. ومراده أنّ الوجود بمعناه المتعارف والذی ثبت اشتراكه المعنویّ هو الوجود المحمولیّ، وأمّا إطلاق الوجود على رابطة القضیّة فهو بمعنى آخرَ، ویكون الاتّفاق بینهما فی مجرّد اللفظ.
أمّا الاُستاذ(دامظلهالعالی) فقد ذكر فی الفصل السابق تقسیماً للوجود العینیّ إلى الرابط والمستقلّ، ثمّ طرح سؤالاً فی هذا الفصل حول الاختلاف بینهما: هل هو اختلاف نوعیّ أو لا؟ وفسّر الاختلاف النوعیَّ بعدم جواز تبدُّل الوجود الرابط بالوجود المستقلّ بتوجیه الالتفات إلیه مستقلاًّ ـ على حدّ تعبیره ـ واختار هو عدم الاختلاف بینهما بهذا المعنى. وحاصل ما أفاده فی تبیین ما اختاره أنّ وجود المعلول بالنسبة إلى علّته رابط ولا یصحّ انتزاع مهیّة عنه فی هذا اللحاظ، لكنّ العقل ینتزع عن الوجودات الإمكانیّة مهیّات جوهریّة وعرضیّة، ولیس ذلك إلاّ بتوجیه الالتفات إلیها استقلالاً، نظیر الالتفات إلى المعانی الحرفیّة وتفسیرها بالمعانی الاسمیّة كما یقال «مِنْ للابتداء» وهذا دلیل على إمكان تبدّل الوجود الرابط إلى الوجود المستقلّ فی اللحاظ العقلیّ، ویستنتج منه أن لا اختلاف نوعیّاً بینهما بهذا المعنى.
لمّا ذكر تقسیم الموجود إلى ما فی نفسه وما فی غیره تعرّض لتقسیم ثانویّ للموجود فی نفسه وهو تقسیمه إلى الموجود لنفسه والموجود لغیره، وقد یسمّى الأخیر بالوجود الرابطیّ والناعت، وهو الذی یصیر منشأ لانتزاع عنوان عرضیّ لموجود آخر لما بینهما من الارتباط الوجودیّ ومثّل له بالأعراض والصور المنطبعة فی المادّة، حیث یكون السواد مثلاً منشأ لانتزاع مفهوم عرضیّ للجسم فینعت بالأسود، وهذا المفهوم لا یعنی تحقُّق جوهر الجسم ولا تحقُّق عرض السواد، بل یحكی عن اتّصافٍ عرضیّ للجسم. وبعبارة اُخرى: فإنّه لا یطرد العدم عن مهیّة الجسم ولا عن مهیّة السواد بل یطرد العدم عن وصف عرضیّ للجسم، كما أن
العلم یطرد وصف الجاهل ـ وهو وصف عدمیّ ـ عن الشخص العالم، ولأجل ذلك فلا یعدّ مفهوماً ذاتیّاً وماهویّاً.
ویقابل الوجودَ الرابطیَّ الوجودُ لنفسه، وقد یسمّى بالمستقلّ. لكن لِیُعْلَمْ أنّ لفظة «المستقلّ» یطلق بالتشكیك على الموجود بنفسه والموجود لنفسه والموجود فی نفسه، فالموجود بنفسه الذی ینحصر فی الواجب تعالى أشدُّ استقلالاً، ویلیه الموجود لنفسه على مراتبه ممّا لا یحتاج إلاّ إلى المبدء المتعالی نازلاً إلى الأنواع الجوهریّة التامّة فی عالم المادّة، ویلیه الموجود الرابطیّ المحتاج إلى الموضوع والمحلّ أیضاً، فإنّ له استقلالاً بالنسبة إلى النسب والإضافات التی یكون وجودها فی غیرها، ولا استقلال لها بوجه من الوجوه. وینعكس الأمر عندما نأخذ من الأضعف الأحوج صاعداً إلى الوجود الرابطیّ ثم إلى النفسیّ الذی لا یحتاج إلى موضوع أو محلّ، ثمّ إلى ما لا یحتاج إلاّ إلى المبدء الأعلى تبارك وتعالى «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى».(1)
الذی یتبیّن بما مرّ أنّ لوجود الأعراض ارتباطاً بالجواهر كما أنّ للصور المنطبعة ارتباطاً بموادّها ممّا یبرّر جعلهما نوعین من الموجودات الرابطیّة. وأمّا كون الأعراض من شؤون الجواهر ومراتب وجودها فهو أمر لا یمكن إثباته بنفس ما مرّ من البیان، وإلاّ لدلّ على كون الصور المنطبعة أیضاً من مراتب وجود الموادّ وشؤونها مع أنّه فاسد جدّاً ولذا اقتصر فی موردها بنفی المباینة والانعزال.
1. سورة النجم، الآیة 42.
الظاهر أنّ تقسیم الوجود إلى الذهنیّ والخارجیّ من الأبحاث المستحدثة فی الفلسفة الإسلامیّة، حتّى أنّ الشیخ فی الشفاء لم یتعرّض له استقلالاً، بل قال فی ردّ القائلین بالثابت والحال: «وإنّما وقع اولئك فی ما وقعوا فیه بسبب جهلهم بأنّ الإخبار إنّما یكون عن معانٍ لها وجود فی النفس وإن كانت معدومة فی الأعیان ـ إلى أن قال ـ فبیّنٌ أنّ المخبر عنه لا بدّ من أن یكون موجوداً وجوداً مّا فی النفس»(1) وتبعه تلمیذه فی التحصیل(2) وشیخ الإشراق فی المطارحات.(3) وقال فی موضع آخر من التحصیل: «المعدوم فی الأعیان محكوم علیه بأحكام وجودیّة، فیجب أن یكون له وجود مّا، فإذ لیس فی الأعیان فهو فی النفس».(4)
ثمّ الظاهر أنّ الذی أوجب طرح مسألة الوجود الذهنیّ هو ردّ شبهات القائلین بثبوت المعدوم، كما هو اللائح من أكثر ما أشرنا إلیه. وأوّل من طرحها كمسألة
1. راجع: الفصل الخامس من المقالة الاُولىٰ من إلهیّات الشفاء.
2. راجع: التحصیل: ص289.
3. راجع: المطارحات: ص203.
4. راجع: التحصیل: ص489.
مستقلّة ـ فی من نعلم ـ هو الرازیّ فی المباحث المشرقیّة(1) والمحقّق الطوسیّ فی التجرید، لكنّهما أتبعاها للبحث عن زیادة الوجود على المهیّة، وكأنّهما لمّا لاحظا أنّ هذه الزیادة إنّما تكون فی الذهن بادرا إلى إثبات الوجود الذهنیّ.
وكیف كان فمعنى الوجود الذهنیّ عند مثبتیه أنّ للمهیّة وجودین: وجوداً خارجیّاً تترتّب علیه الآثار، ووجوداً آخر لا تترتّبُ علیه تلك الآثار، وهذا الوجود الثانی بما أنّه لا تترتّب علیه تلك الآثار یسمّى بالوجود الذهنیّ بالقیاس إلى الوجود الخارجیّ، وإن كان بصرف النظر عن هذه المقایسة وجوداً عینیّاً له آثاره الخاصّة به.
والمنكرون للوجود الذهنیّ على صنفین: منهم من أنكر وجود الذهن وقال بأنّ العلم یحصل بإضافة بین النفس والخارج، ومنهم من لم ینكر وجود الذهن ولكنّهم أنكروا كون الموجود فی الذهن وجوداً آخر للمهیّة الموجودة فی الخارج. وهؤلاء أیضاً تفرّقوا على قولین: أحدهما أنّ الموجود فی الذهن شبح للموجود الخارجیّ یحاكیه محاكاة التمثال لذی التمثال، وثانیهما أنّ الموجود فی الذهن لا یحاكی الخارج وإنّما یرمز إلیه رمزاً من غیر أن نعرف من حقیقته شیئاً.
فعلى المثبتین للوجود الذهنیّ أن یستدلّوا أوّلاً على وجود الذهن والصور والمفاهیم الذهنیّة، وثانیاً على كونها محاكیة للموجودات العینیّة ومطابقة لها. وجمیع ما تُمسّك به لإثبات الوجود الذهنیّ ناظر إلى الجانب الأوّل من المسألة كما تلاحظ فی المتن. والحقُّ أنّ وجود الذهن والصور والمفاهیم الذهنیّة ثابت بالعلم الحضوریّ ولا یحتاج إلى البرهنة علیه، فما یذكر دلیلاً فی هذا المجال لا یعدو حدَّ التنبیه لأجل إلفات نظر الغافل ودفع ما ربما یبدو من شبهة. وأما إثبات مطابقة الموجود الذهنّی للخارجی فهو أمر وقعت حوله مناقشات عند الغربیّین ولم
1. راجع: المباحث المشرقیّة: ج1، ص41؛ والمسألة الرابعة من الفصل الأوّل من الشوارق؛ والأسفار: ج1، ص326ـ363؛ وشرح المنظومة: ص22ـ33.
یحتلّ مقامه بعدُ فی الفلسفة الإسلامیّة، واكتفى الاُستاذ(دامظلهالعالی) لإثبات المطابقة بردّ القولین الآخرین. ولهذه المسألة صلة وثیقة بمسائل العلم والإدراك، وسوف تلاحظ تكرُّر بعض الأبحاث المذكورة ههنا فی مبحث العلم، وقد مرّ اقتراح تقدیم مسائل العلم على سائر المسائل الفلسفیّة.
دفع لإشكال مقدّر هو أنّ هذین الوجهین إنّما یثبتان الوجود الذهنیّ للكلیات والمعدومات دون الجزئیات الموجودة، فأنّه یندفع بالرجوع إلى الوجدان، حیث لا نجد فرقاً بین الفریقین فی نحو التصوّر والإدراك ولا نرتاب أنّ الجمیع من سنخ واحد، فجمیعها موجودة فی الذهن. وقد زاد فی البدایة(1) تبعاً لشرح المنظومة(2) وجهاً ثالثاً بجعل الكلّیة والصرافة وجهین، وتمسّك فی الأسفار(3) بتقدّم العلّة الغائیّة تصوّراً، وبتأثیر بعض التخیّلات كتصوّر الحموضة وغیرها فی الآثار العینیّة.
اعلم أنّ للمنكرین للوجود الذهنیّ شبهات(4) سیأتی ذكرها، ولمّا كان مفتاح حلّ جلّها التمییزَ بین الحمل الأوّلیّ والحمل الشائع تصدّى لبیان الفرق بینهما تبعاً لصدر المتألّهین،(5) وحاصل ما ذكره أنّ للمهیّة الموجودة فی الذهن حیثیّتین
1. راجع: البدایة: ص23.
2. راجع: شرح المنظومة: ص23.
3. راجع: الأسفار: ج1، ص275؛ والتحصیل: ص489.
4. راجع: الأسفار: ج1، ص277ـ326؛ وج3: ص305ـ312؛ والفصل الثامن من المقالة الثالثة من الهیات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص126ـ139.
5. راجع: الأسفار: ج1، ص292ـ298.
مختلفتین لكلّ منها حكمها الخاصّ بها: إحداهما حیثیّة المحتوى المفهومیّ، والاُخرى حیثیّة الوجود فی الذهن. فأمّا من الحیثیّة الاُولىٰ فتحمل علیها نفسها وأجناسها وفصولها، وهو حمل أوّلیّ مناطه الاتّحاد فی المفهوم، فما یثبت لها من هذه الحیثیّة لا یتجاوز حدّ المفهوم. فمفهوم الإنسان ینحلّ إلى «الجوهر، ذی الأبعاد الثلاثة، النامی، الحسّاس، المتحرك بالإرادة، الناطق» مثلاً، وتحمل علیه تلك المفاهیم بما أنّه متضمّن لها ومتّحد بها. لكن لا یستلزم هذا الحمل كون الإنسان الذهنیّ من مصادیق الجوهر والجسم والحیوان والإنسان، بحیث یصحّ حمل تلك المفاهیم علیه بالحمل الشائع الذی مناطه الاتّحاد فی الوجود، فیتوقّع ترتّب آثارها علیه، فالإنسان الذهنیّ لا ینمو ولا یحسّ ولا یتحرّك بالإرادة ولا یعقل شیئاً. وأمّا من الحیثیة الثانیة فهو موجود عینیّ له ماهیّته الخاصّة به، وتحمل علیه بالحمل الشائع وتترتّب علیه آثارها، والمشهور أنّه كیف نفسانیّ.(1) ومن هذه الحیثیة لا تحمل علیه تلك المفاهیم المذكورة. فمعنى قولهم انّ الموجود فی الذهن متّحد مع الموجود فی الخارج من حیث المهیّة أنّ ما یحمل من المفاهیم الذاتیّة على الموجود الخارجیّ بالحمل الشائع یصحّ حملها على الموجود فی الذهن بالحمل الأوّلیّ من حیث محتواه المفهومیّ. ثمّ إنّ للمفهوم الموجود فی الذهن حیثیّةً ثالثة ستأتی الإشارة إلیها فی دفع الإشكال الرابع.
اعلم أنّ للفرد الذهنیّ ثلاثَ إطلاقات: أحدها كون الموضوع فی الحمل الأوّلی
1. وقد استشكل الحكیم السبزواریّ كونه كیفاً نفسانیّاً بالذات، فراجع: شرح المنظومة: ص31؛ وبدایة الحكمة: ص28؛ وتعلیقة الاُستاذ على الأسفار: ج1، ص298.
(كمفهوم الإنسان) فرداً لمحموله (كالحیوان) كما مرّ فی بیان الحیثیّة الاُولىٰ. وهو إطلاق مسامحیّ كما أشار إلیه فی المتن. وثانیهما كون مفهوم ذهنیّ فرداً لمعقول ثانٍ منطقیّ كالإنسان بالقیاس إلى الكلّی فی قولنا «الإنسان كلّی» وهو إطلاق حقیقیّ. وثالثها كون مفهوم موجود فی الذهن باعتبار وجوده فرداً من مهیّة كالكیف النفسانیّ أو مصداقاً لعنوان ثان فلسفیّ كالممكن، فباعتبار كون الذهن ظرفاً لهذا الموجود العینیّ یقال إنّه فرد ذهنیّ، وهو أیضاً إطلاق حقیقیّ بصرف النظر عن الاصطلاح الذی یفرّق بین الفرد والمصداق فیختصّ الفرد بما تحمل علیه المهیّة، ویختصّ المصداق بما تحمل علیه المعقولات الثانیة.
الفرق بین الإشكالین أنّ الأوّل یختصّ بالجوهر بخلاف الثانی حیث یعمّ جمیع المقولات. وربما یتصوّر فرق آخر بینهما، وهو كون المحذور فی الإشكال الثانی أشدّ،(1) لأنّ المحذور المذكور فی الإشكال الأوّل كون شیء واحداً جوهراً وعرضاً معاً، وحیث إنّ العرض لیس جنساً عالیاً على المشهور بل هو مفهوم عرضیّ یحمل على الأجناس التسعة فلا یلزم منه اندراج شیء واحد تحت مقولتین، بخلاف المحذور المذكور فی الإشكال الثانی، لكنّه لیس بشیء، لأنّ صدق العرض على شیء لا یتحقّق إلاّ باندراجه تحت أحد الأجناس العرضیّة، وهو الكیف فی ما نحن فیه. والأولى جعل الإشكالین إشكالاً واحداً بأن یجعل المحذور اندراج شیء واحد تحت نوعین أو جنسین، وبعبارة اُخرى: صیرورته ذا مهیّتین، فإنّ المحذور المزعوم فی الإشكال الثانی لا ینحصر فی الاندراج تحت مقولتین، فمحذور تعقّل الكیف المبصر مثلاً هو اندراجه تحت نوعین من
1. راجع: شرح المنظومة: ص25؛ وبدایة الحكمة: ص24.
جنس واحد. وقد أجاب الفاضل القوشجیّ والمحقّق الدوانیّ والسیّد صدر الدین بأجوبة اُخرى(1) عن هذا الإشكال.
وهو أنّه یلزم من قبول الوجود الذهنیّ كون مفهوم واحد (كالإنسان مثلاً) كلّیاً وجزئیّاً معاً. وقد عدل فی الجواب عمّا ذكره فی وجه اندفاع سائر الإشكالات من الفرق بین الحمل الأوّلی والشائع، لأنّ حمل الكلّی والجزئیّ على الإنسان یكون حملاً شائعاً لاختلاف مفهومه عن مفهومی الكلّی والجزئیّ كلیهما، فلا یأتی الجواب المذكور. وحاصل ما أفاده فی الجواب عنه هو أنّ للإنسان الموجود فی الذهن حیثیّة اُخرى غیر حیثیّة مفهومه بما أنّه مفهوم، وغیر حیثیّة وجوده فی الذهن بما أنّه وجود عینیّ والتی هی ملاك حمل «الجزئیّ» علیه، وهی حیثیّة كونه وجوداً ذهنیّاً مقیساً إلى وجودات عینیّة متعدّدة یصحّ حمله على كلّ واحد منها. وهذه هی الحیثیّة الثالثة التی وعدنا ذكرها تحت الرقم (46) والتی تكون ملاكاً لحمل «الكلّی» علیه حملاً شائعاً. وهذا نظیر ما ذكرنا حول قضیّة «الجزئیّ جزئیّ» أنّ للجزئیّ الواقع موضوعاً فی هذه القضیّة ثلاث حیثیّات، تحت الرقم (35).
حاصل الإشكال أنّه على القول بالوجود الذهنیّ ومطابقة ما فی الذهن لما فی الخارج یلزم تحقُّق صورة المرئیّات الكبیرة بكبرها فی جزء صغیر من البدن، وهو
1. راجع: فی ما یتعلّق بهذا البحث: الفصل الثامن من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص126ـ135؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص338؛ والمطارحات: ص224 و 229؛ والمقاومات: ص133.
محال. والجواب أنّ الذهن لیس هو الدماغ بل هو من شؤون النفس المجرّدة، والصورة الحاصلة فیه أیضاً مجرّدة على ما سیأتی فی باب العلم، والقول بالوجود الذهنیّ لا یستلزم تطابق الصورة لذی الصورة من حیث التجرّد وعدمه، لأنّ التجرّد وصف وجودها الذی یحمل علیه بالحمل الشائع، والتطابق إنّما یلزم بین محتواها الإدراكیّ وبین الخارج، فالذی یحمل على الصورة من الأوصاف المادّیّة یحمل علیها بالحمل الأوّلیّ، فتذكّر.
وأمّا الجواب عن هذا الإشكال بأنّ الجزء الدماغیّ وإن كان صغیراً إلاّ أنّه قابل للقسمة إلى غیر النهایة، ومن هذه الحیثیّة یكون قابلاً لانطباع صورة كبیرة فیه، فلا یجدی شیئاً. لأنّ من الواضح أنّ الكفّ مع كونها قابلة للقسمة إلى غیر النهایة لاتسع الجبل. والسرّ فیه أنّ الكبر والصغر وصفان للكم المتّصل والمقدار الهندسیّ وأمّا التناهی واللاتناهی المذكوران فهما وصفان للعدد الذی یعرض الأجزاء المفروضة من المقدار وهو كمّ منفصل. فعدم تناهی العدد المفروض لا یدفع الإشكال الوارد على صغر الحجم والكم المتّصل. على أنّ العدد الغیر المتناهی لا یتحقّق بالفعل أبداً، لأنّ الأجزاء المفروضة غیر موجودة بالفعل، والمتحقّق بالفعل هو الكلّ الواحد، وكلّما تحقّقت قسمة تحقّق عدد خاصّ متناه.
وهو اللائق بالفلسفة الباحثة عن أحوال «الموجود» فالبحث عن الممتنع استطراديّ لعدم اتّصاف الموجود به وانقسامه إليه. والواجب والممكن عنوانان مأخوذان من كيفيّة نسبة الوجود إلى الشيء. وبعبارة اُخرى: عنوان «واجب الوجود» مأخوذ من قضية يكون الذات الإلهيّة فيها موضوعاً ويحمل عليها الوجود بحمل الاشتقاق والنسبة الحكميّة متّصفة بالضرورة (الوجوب) وكذا عنوان الممكن مأخوذ من قضيّة يكون موضوعها المهيّة ومحمولها الوجود كذلك والنسبة الحكميّة متّصفة بالإمكان. لكن يتصوّر للهليّة البسيطة شقّ ثالث وهو أن يكون سلب الوجود فيها ضروريّاً، وبه تتمّ الأقسام بعد الالتفات إلى بطلان فرض اجتماع ضرورة الوجود وضرورة العدم لشيء واحد.
فهذه الاُمور الثلاثة (الوجوب، الإمكان، الامتناع أو ضرورة السلب) هي موادُّ القضايا بمعنى أنّها كيفيّات للنسب الحكميّة في نفس الأمر، ويكون محلّ البحث عنها هو علم المنطق، وأمّا الفيلسوف فيستعير قسماً خاصّاً منها ـ وهو الذي يختصّ بالهليات البسيطة ـ لما يتعلّق به غرضه.
وهذا البيان يتضمّن الاعتراف بوجود النسبة في الهليّات البسيطة(1) أيضاً، فتبصّر.
1. راجع: تعليقة السبزواريّ على الأسفار: ج1، ص157.
وزعم صاحب المواقف أنّ هذه الموادّ المبحوث عنها في الفلسفة هي غير ما يبحث عنها في المنطق، فراجع.(1)
ثمّ إنّ حمل الوجود على شيء واعتبار كيفيّة نسبته إليه وتقسيم الموجود بهذا الاعتبار مبنيٌ علىكونالمهيّةأعرفعندالعقل،حيث يحلّل المعلوم إلى مهيّة ووجود في شكل هليّة بسيطة كما أشرنا إليه في بحث أصالة الوجود (الرقم 10) واعتبار حال المهيّة بالقياس إلى الوجود والعدم ـ كما في كلام صدر المتألّهين(2) ـ مبني على ما يبدو من تعميم التحليل المذكور إلى جميع المعلومات، لكن بالنظر إلى عدم ثبوت المهيّة للواجب والممتنع جعل الاُستاذ(دامظلهالعالی) المقسم هو المفهوم لكن لا بما أنّه مفهوم بل باعتبار حكايته عن المصداق الحقيقيّ أو المفروض.
وكيف كان فاعتبار حال المهيّة في المقسم إنّما يناسب القول بأصالة المهيّة، لكنّ القائلين بأصالة الوجود اقتفوا آثار أسلافهم في ذلك، وقد اعتذر صدر المتألّهين في نظير هذا المقام بقوله «ونحن أيضاً سالكوا هذا المنهج في أكثر مقاصدنا الخاصّة حيث سلكنا أوّلاً مسلك القوم في أوائل الأبحاث وأواسطها ثمّ نفترق عنهم في الغايات لئلاّ تنبو الطبائع عمّا نحن بصدده في أوّل الأمر».(3)
هذه المفاهيم بيّنة بنفسها لا تحتاج إلى التعريف مضافاً إلى أنّها من المعقولات
1. راجع: المسألة التاسعة عشر من الفصل الأوّل من الشوارق؛ وراجع: الأسفار: ج1، ص91.
2. راجع: الأسفار: ج1، ص169.
3. راجع: نفس المصدر: ص85.
الثانية ولا يمكن تحديدها بالأجناس والفصول. والتعريفات التي ذُكرتْ لها دوريّة كما نبّه عليه في المتن تبعاً لسائر المحقّقين.(1) لكن أعرف هذه المفاهيم هو مفهوم الضرورة (الوجوب) قال في الشفاء: «على أنّ أولىٰ هذه الثلاثة في أن يتصوَّر أوّلاً هو الواجب، لأنّ الواجب يدلّ على تأكّد الوجود، والوجود أعرف من العدم»(2) وقال في المطارحات: «وإن كان ولا بدّ من التعريف فليؤخذ الوجوب بيّناً، كيف وهو تأكّد الوجود، والوجود أظهر من العدم»(3) وقد جعل محور التعريفات المذكورة في المتن هو الضرورة.
حاصل الإشكال أنّ الإمكان كما تحصّل من التقسيم المذكور هو سلب الضرورتين، وهو أمر سلبيّ فلا يصحّ وقوعه صفة للنسبة الحكميّة الثبوتيّة، كما لا يصحّ اعتبار الممكن وصفاً ثابتاً بحذاء الواجب، إلاّ أن يرجع إلى الإيجاب العدوليّ فيكسب حظّاً من الوجود، وليس كذلك في ما نحن فيه، فإنّ سلب الضرورتين عن المهيّة سلب تحصيليّ لا إيجاب عدوليّ كما تقرّر في محلّه.
وأجاب صدر المتألّهين(4) بما حاصله أنّ هذا السلب يرجع إلى الإيجاب العدوليّ، وذلك أنّ المقسم هو حال المهيّة بالقياس إلى الوجود والعدم، فإمّا أن يكون أحدهما ضروريّاً لها أو لا، فيؤخذ منه حدّ الممكن وهو المهيّة التي لا يكون الوجود والعدم ضروريّاً لها، وهو مفاد قضيّة موجبة معدولة المحمول.
وحيث إنّ هذا الجواب يوهم التنافي مع سلب كلّ مفهوم عن المهيّة في
1. راجع: نفس المصدر: ص83؛ والشوارق: ص86؛ والتحصيل: ص291.
2. راجع: الفصل الخامس من المقالة الاُولى من إلهيّات الشفاء.
3. راجع: المطارحات: ص210.
4. راجع: الأسفار: ج1، ص169.
مقام ذاتها سلباً تحصيليّاً أجاب الاُستاذ تبعاً للحكيم السبزواري(1) بأنّ السلب التحصيليّ في ما كان الموضوع موجوداً يساوي الإيجاب العدوليّ. وكان حقُّ الكلام تقديم لفظة «السالبة المحصّلة» على «القضيّة المعدولة المحمول» في بيان وجه الاندفاع.
لكن رجوع السلب التحصيليّ إلى الإيجاب العدوليّ أو تساويهما في بعض الموارد أمر يحتاج إلى مزيد توضيح فنقول:
بعد تحليل المعلوم إلى حيثيّتين متمايزتين في الذهن يعود العقل إلى حيثيّة المهيّة ويلاحظها في ذاتها فلا يرى فيها وجوداً ولا عدماً ولا أيَّ مفهوم آخر حتّى مفهوم الإمكان، فلا يحكم عليها بشيء سوى ثبوت نفسها لنفسها (بمعنى ثبوت المفهوم لنفسه بالحمل الأوّليّ، أو ثبوت المهيّة اعتباراً لنفسها في وعاء الاعتبار). ثمّ للعقل أن يرجع إلى لحاظه هذا ويعبّر عنه في شكل قضيّة سالبة محصّلة هي قولهم «ليست المهيّة من حيث هي إلاّ هي» وهذه القضيّة من الوجهة المنطقيّة قضيّة ذات حكم سلبيّ (وهو ما أشرنا إليه من ذي قبل من ضرورة وجود الحكم في أيّ قضيّة منطقيّة وإلاّ عادت إلى مجموعة من التصوّرات) وهذا الحكم السلبيّ ضروريّ طبعاً ولا صلة له بسلب الضرورتين الذي يُحكىٰ عنه بالإمكان.
ثمّ يعود العقل فيقايس حيثيّة المهيّة إلى الوجود والعدم فلا يرى فيها اقتضاءً لأحدهما بالرغم من حمل الوجود عليها تارة وحمل العدم عليها اُخرى بالحمل الشائع، ويحكي عن هذه النظرة بقضيّة هي «المهيّة غير موجودة ولا معدومة بالضرورة» ثمّ يلاحظ هذه القضيّة ويفسّرها بأن «ليس الوجود والعدم بضروريّ للمهيّة» وهذا هو منشأ الحكم بسلب الضرورتين عن المهيّة الذي يعبّر عنه بالإمكان، وهذا السلب وإن حُكي بصيغة السالبة المحصّلة إلاّ أنّه ناظر إلى جهة
1. راجع: تعليقة السبزواريّ على الأسفار: ج1، ص170.
قضيّة اُخرى موجبة معدولة المحمول هي «المهيّة غير موجودة ولا معدومة بالضرورة» والمحمول فيها أمر عدميّ له حظّ من الوجود. ولك أن تقول: إنّ العقل بالنظر إلى سلب الضرورتين يصطنع مفهوماً إيجابيّاً هو الإمكان وينسبه إلى المهيّة، ويصحّ تعريفه بما يلازمه من سلب الضرورتين.
والحاصل أنّ السلب التحصيليّ يتعلّق بجهة قضيّة اُخرى هي موجبة معدولة المحمول، وهذا معنى قول صدر المتألّهين أنّ السلب التحصيليّ يرجع إلى الإيجاب العدوليّ، وقول الاُستاذ(دامظلهالعالی) أنّ السلب التحصيليّ يساوي الإيجاب العدوليّ إذا كان الموضوع موجوداً ـ يعني ثابتاً بالثبوت الاعتباريّ وبالنظر إلى القضيّة الموجبة المشار إليها ـ وهذا أيضاً من الموارد التي يكون مفتاح حلّ المعضلة هو التوجّه إلى مراتب الذهن، فتفطّن.
قد عرفت أنّ الموادّ الثلاث صفات للنسب الحكميّة بين الوجود المحموليّ وبين المهيّة أو ما هو بمنزلتها من المفاهيم بما لها من المصاديق الحقيقيّة أو الفرضيّة، فتؤخذ منها عناوين وتُجعل صفاتٍ للموضوعات فيقال مثلاً «المهيّة الممكنة الوجود». ومعلوم أنّ ذلك الحمل ليس من الحمل الأوّليّ لضرورة سلب مفهوم الوجود عن كلّ مفهوم غيره وضرورة ثبوته لنفسه فلا يتحقّق إمكان. فالموضوع في الهليّة البسيطة إمّا أن يكون هو المهيّة بلحاظ مصداقها الاعتباريّ، أو الوجود بلحاظ مصداقه الحقيقيّ، أو العدم بلحاظ مصداقه المفروض. فإن كان الموضوع هو الوجود ثبت له مفهومه بالضرورة، وإن كان الموضوع هو العدم امتنع صدق مفهوم الوجود عليه، فلا يصلح شيء لأن يقع موضوعاً لهليّة بسيطة ممكنة إلاّ المهيّة.
يمكن أن يراد بهذه القضيّة ثلاثة معان:
ألف ـ انّ المهيّة التي تتّصف بالإمكان لا ينفكّ عنها هذا الوصف.
ب ان المهيّة التي تتّصف بالإمكان لا تحتاج في اتّصافها به إلى سبب خارج عنها، فذاتها بذاتها تكفي لأن ينتزع العقل هذا المفهوم منها من غير أن يكون داخلاً فيها.(1)
وعلى هذين المعنيين لا يكون مفادها تعميمَ الإمكان لكلّ مهيّة، فلا ينتج نفي المهيّة الواجبة والممتنعة.
ج ـ انّ المهيّة مطلقاً لا تنفكّ عن الإمكان الذاتيّ، فكلُّ مهيّة فهي ممكنة، فتكون عكس القضيّة السابقة الدالّة على اختصاص الإمكان بالمهيّة.(2) وهذا المعنى هو المراد ههنا.
واستدلّ عليه بأنّه لو جاز خلوّ المهيّة عن الإمكان لجاز اتّصافها بالوجود أو العدم بالضرورة مع أنّها في نفسها غير موجودة ولا معدومة.
وربما يُتوهَّم أنّ عدم اتّصافها في نفسها بالوجود والعدم إشارة إلى أنّ ما يحمل عليها بالحمل الأوّليّ هو نفسها لا غير. لكن بالنظر إلى ما بيّنّاه آنفاً (تحت الرقم 53) تعرف أنّ سلب سائر المفاهيم عن الماهيّة كسلب أيّ مفهوم عن مفهوم آخر بلحاظ الحمل الأوّليّ ليس منشأً لانتزاع مفهوم الإمكان، بل منشأ ذلك هو عدم اقتضاء المهيّة بما لها من المصداق الاعتباريّ لحمل الوجود أو العدم عليها بالحمل الشائع. وبعبارة اُخرى: لا مجال لاعتبار ثبوت المهيّة ـ التي حيثيّتها حيثيّة عدم الإباء عن الوجود والعدم ـ لما هو وجود محض وحيثيّته حيثيّة الإباء عن العدم، ولما هو بطلان محض وحيثيّته حيثيّة الإباء عن الوجود.
1. راجع: الأسفار: ج1، ص163ـ164؛ والمباحث المشرقية: ج1، ص132.
2. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثامنة من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: التحصيل: ص531.
لا ريب في أنّ الامتناع ليس صفة موجودة في الخارج، لكن وقع الخلاف في الوجوب والإمكان هل هما أمران خارجيّان أو من المعاني الاعتباريّة، فقيل كلاهما خارجيّان، وقيل كلاهما اعتباريّان، ونُقل عن بعضهم التفصيل بينهما فالوجوب خارجيّ دون الإمكان. وكأنّ الاُستاذ(دامظلهالعالی) تلقَّى خارجيّة الوجوب أمراً مفروغاً عنه حيث قال: «فلأنّه قسيم في التقسيم للواجب الذي ضرورة وجوده في الأعيان» يريد أنّ تقسيم الموجود إلى الواجب والممكن يقتضي كون المقسم ثابتاً في كلا القسمين، فهما وصفان للموجود الخارجيّ.
ثمّ إنّه نُسب القول بخارجيّة الإمكان إلى المشّائين، والقول باعتباريّته إلى الرواقيّين، ونقل في الأسفار(1) ـ تبعاً للمطارحات(2) ـ عن بعض العوامّ القولَ بعدم زيادته على المهيّات لا ذهناً ولا عيناً!
وقد أصرّ شيخ الإشراق على اعتباريّته، وبها قال المحقّق الطوسيّ، وللفريقين احتجاجات ومناقشات.(3) والحقُّ أنّ كليهما من المعقولات الثانية الفلسفيّة التي يكون عروضها في الذهن واتّصافها في الخارج، وهو المراد بوجود الإمكان بوجود موضوعه في الأعيان كما صرّح به في آخر المبحث. ويشبه أن يكون النزاع لفظيّاً ناشيءاً عن اشتراك لفظة «الاعتباريّ» بين معانٍ متعدّدة كاشتراك المعقول الثاني بين الفلسفيّ والمنطقيّ، ومن هنا يظهر دور الاصطلاحات وأهميّة التحقيق حولها.
قال صدر المتألّهين: «وفي التحقيق وعند التفتيش لا تَخالفَ بين الرأيين، ولا مناقضة بين القولين، فإنّ وجودها في الخارج عبارة عن اتّصاف الموجودات العينيّة
1. راجع: الأسفار: ج1، ص172.
2. راجع: المطارحات: ص343.
3. راجع: الأسفار: ج1، ص171ـ186؛ والمسألة (بيست) من الفصل الأوّل من الشوارق؛ والمباحث المشرقية: ج1، ص114ـ121؛ والتلويحات: ص25؛ والمطارحات: ص343ـ390.
بها بحسب الأعيان، وقد دريت أنّ الوجود الرابط في الهليّة المركّبة الخارجيّة لا ينافي الامتناع الخارجيّ للمحمول. فعلى ما ذكرناه يحمل كلام أرسطو وأتباعه، فلا يرد عليهم تشنيعات المتأخّرين، سيّما الشيخ المتألّه صاحب الإشراق».(1)
يريد أنّ الإمكان لو كان موجوداً مستقلاًّ في الأعيان كان ممكناً لاستحالة وجوبه بالذات، وحيث إنّ المفروض انحيازه واستقلاله عن المهيّة المتّصفة به كان أمراً منضمّاً إليها، فكانت المهيّة في حدّ نفسها وبصرف النظر عن انضمام الإمكان إليها فاقدة له، فكان اتّصافها بالإمكان بسبب خارج عن ذاتها، فكان إمكانها بالغير، «وسيجيء استحالة الإمكان بالغير». أضف إلى ذلك أنّ الإمكان لو كان موجوداً مستقلاًّ ممكناً كان متّصفاً بالإمكان، فيُنقل الكلام إلى إمكانه، وهكذا فيتسلسل.
يعني أنّ الموضوع في القضيّة الضروريّة الذاتيّة لا يكون مقيّداً بالوجود بحيث تعود القضيّة ضروريّة وصفيّة كما زعم المحقّق الدوانيّ.(2) لكن ظاهر هذا الكلام مناقض لما مرّ من أنّ ما يحمل على حيثيّة المهيّة فإنّما هو بالوجود، وأنّ لازم المهيّة بحسب الحقيقة هو لازم الوجودين كما ذهب إليه الدوانيّ.(3) ويمكن دفع المناقضة
1. راجع: الأسفار: ج1، ص140.
2. راجع: نفس المصدر: ص91ـ92.
3. راجع: الفصل الثاني من المرحلة الاُولى في المتن.
بأنّ كلامه ههنا ناظر إلى ظرف الثبوت الاعتباريّ للمهيّة، وأمّا كلامه هناك فمبنيّ على نظر أعمق وبلحاظ عدم ثبوتها الحقيقيّ، فتأمّل.
وسيکرّر الکلام في الضرورة الذاتيّة بتوضيحٍ أکثر في آخر الفصل الثالث من هذه المرحلة.
إذا اعتبرنا الإمكان العامَّ كمعنى عرفيّ يفسَّر بسلب الضرورة عن الجانب المخالف بشرط أن لا يلاحظ معه سلب الضرورة عن الجانب الموافق واعتبرنا الإمكان الخاصّ كاصطلاح خاصّ بالعلوم العقليّة يفسّر بسلب الضرورة عن الجانبين صحّ اعتباره كمشترك لفظيّ بين المعنيين، لأنّ اعتبار قيد الإطلاق في المعنى الأوّل يجعله مبائناً للمعنى الثاني. لكن لا يمنع ذلك من أن يلاحظ المعنى الأوّل لا بشرط، فيكون أعمَّ مفهوماً منهما. وكيف كان فهذا البحث لا يترتّب عليه نتيجة فلسفيّة.
نعم، لو اُريد بالجامع المفهوميّ، المعنى الجنسيّ، لزم أن يكون الإمكان بمعناه اللابشرطيّ طبيعة جنسيّة ذات نوعين، فيكون كلّ واحد منهما مركّباً من جنس وفصل، فيتوهَّم أن «الواجب» أيضاً مهيّة نوعيّة مرکّبة يكون «الممكن» بمعناه العامِّ المشترك جنساً له، ويجب اعتبار فصل له يميّزه عن «الممكن» بمعناه الخاصّ، فيتعلّق غرض الفيلسوف بدفع هذا التوهّم كما قال صدر المتألّهين: «...لا على أنّ هناك طبيعة جامعة لهما (أي للواجب والممكن) في نفس الأمر، لأنّ ما في نفس الأمر إمّا الوجوب أو الإمكان وإنّما ذلك في تصوّر العقل واعتباره مفهوماً جامعاً لهما هو في نفس الأمر وبحسب الواقع ليس إلاّ أحد الأمرين، لا طبيعة مبهمة
متحصّلة بهما مع قطع النظر عن اعتبار العقل وتعمّله»(1) وهذا كما ترى لا يعني نفي مطلق الجامع المفهوميّ بين الواجب والممكن. وأمّا نفي مطلق الجامع المفهوميّ بين الجهات فليس أمراً بيّناً ولا مبيَّناً، ولا يتعلّق به غرض فلسفيّ.
المشهور بينهم أنّ الإمكان الاستعداديّ هو أحد أقسام الكيف كما سيأتي في الفصل الرابع عشر من المرحلة السادسة، فهو عندهم من المعقولات الاُولى بخلاف الإمكان بسائر معانيه، وسوف نبحث هناك عن ذلك ونبيّن أنّ الحقّ أنّه أمر ينتزع من تحقّق شرائط وجود الأمر المادّي وانتفاء موانعه ـ إن شاء الله تعالى.
قد تقدّم في كلامه(دامظلهالعالی) أنّ موادّ القضايا تنقسم إلى ثلاث، انقساماً حقيقيّاً حاصلاً من منفصلتين حقيقيتين، فلا تخلو منها قضيّة، ولا يتحقَّق أكثر من واحد منها في قضيّة. وقد عرفت أنّ الفيلسوف يلاحظ هذه الموادّ في الهليّات البسيطة، فيعتبر حال الموضوع بالنسبة إلى الوجود ويأخذ منها عناوين الواجب الوجود. والممكن الوجود، والممتنع الوجود. فيستحيل أن لا يكون شيء بالنظر إلى ذاته لا واجباً ولا ممكناً ولا ممتنعاً. وكذا يستحيل اجتماع عنوانين منها أو أكثر في شيء واحد. فالواجب بالذات يستحيل أن يكون ممتنعاً أو ممكناً بالذات، وهكذا قسيماه.
1. راجع: الأسفار: ج1، ص150.
وهناك اعتباران آخَران: أحدهما أن يلاحظ حال الموضوع بالنسبة إلى الوجود متحيّثاً بحيثيّة تعليليّة، فحينئذ تُقيَّد العناوين الثلاث بقيد «بالغير».
وثانيهما أن يلاحظ حاله بالنسبة إلى الوجود مقيساً إلى شيء آخر، ويُحكىٰ عنه بقضيّة شرطيّة كقولنا «إن كان هذا موجوداً كان وجود ذاك ضروريّاً أو ممكناً أو ممتنعاً بالقياس إليه» وحينئذ تُقيَّد العناوين المذكورة بقيد «بالقياس إلى الغير»(1) فيكون الوجوب بالقياس حكاية عن تحقُّق العلاقة اللزوميّة بين المقيس والمقيس إليه، والامتناع بالقياس حكاية عن تحقُّق العلاقة العناديّة بينهما، والإمكان بالقياس حكاية عن لا تحقُّقهما.
أمّا الاعتبار الأوّل فمقتضاه أن يكون الموضوع في حدّ نفسه وبصرف النظر عن الحيثيّة التعليليّة فاقداً للعنوان حتّى يحصل له بالعلّة، وإلاّ كان تحصيلاً للحاصل أو كان مستلزماً لوجود ثان أو عدم ثان لشيء واحد، وكلاهما مستحيل. فالواجب بالذات لا يكون واجباً بالغير،(2) والممتنع بالذات لا يكون ممتنعاً بالغير، وهكذا الممكن بالذات لا يكون ممكناً بالغير. ومن الواضح عدم إمكان اتّصاف الواجب بالذات بالامتناع والإمكان الغيريّين لاستحالة صيرورة ما يكون الوجود ضروريّاً له بالذات معدوماً أو متساوي النسبة إلى الوجود والعدم بسبب الغير، وكذا يستحيل صيرورة الممتنع بالذات واجباً أو ممكناً بالغير. فالإمكان بالغير فرض باطل لا يمكن تحقُّقه في شيء أصلاً.(3)
وقد عرفت استحاله اتّصاف الواجب بالذات والممتنع بالذات بالوجوب والامتناع الغيريّين فلا يبقىٰ لهما إلاّ الممكن بالذات، لأنّه الذي يكون في حدّ ذاته
1. راجع: الأسفار: ج1، ص155ـ161.
2. راجع: نفس المصدر: ص92ـ95؛ وراجع: النجاة: ص225؛ والفصل السادس من المقالة الاُولى من إلهيّات الشفاء.
3. راجع: المسألة الحادية والعشرين من الفصل الأوّل من الشوارق؛ وراجع: الأسفار: ج1، ص161ـ171.
فاقداً للوجوب والامتناع وغير آبٍ عنهما، فيصير بسبب علّة الوجود واجباً بالغير، وبسبب علّة العدم ـ التي هي عبارة عن عدم علّة الوجود ـ ممتنعاً بالغير. قال في التلويحات: «ومن خاصّية الممكن صدقُ قسيميه عليه بشرائط، وليس لغيره من الجهات هذا»(1) ومثله كلام صدر المتألّهين في الأسفار،(2) وقال في موضع آخر: «فإذن قد استبان أنّ الموصوف بما بالغير من الوجوب والامتناع ممكن بالذات».(3)
وأمّا الاعتبار الثاني أعني اعتبار المقايسة إلى الغير فلم يُبحث عنه بحثاً وافياً يزيح عنه كلَّ جهات الإبهام في ما وقفنا عليه من كتب القوم، والمرجوُّ أن يوفّقنا الله تعالى لذلك، فنقول:
إنّ الشيئين اللذينِ يقاس حال أحدهما بالآخر إمّا أن تكون بينهما علاقة لزوميّة أو عناديّة أو لا يكون بينهما شيء منهما. ويمكن إرجاع العلاقة العناديّة إلى العلاقة اللزوميّة بين كلّ واحد منهما مع نقيض الآخَر. ففي صورة وجود العلاقة اللزوميّة بأحد الوجهين إمّا أن يكون اللزوم من الجانبين بأن يكون كلُّ واحد منهما مستلزماً للآخر بنحو الاقتضاء أو الاستدعاء أو يكون اللزوم من جانب واحد بأن يكون أحدهما بعينه مستلزماً للآخر دون العكس. ثمّ التلازم قد يكون أصالةً في الأعيان وينعكس في الأذهان، وقد يكون أصالةً بين العناوين الذهنيّة وينسب إلى الأعيان بالعرض أي بما أنّها مصاديق تلك العناوين.
فالتلازم بين الوجودين الخارجيّين مثل العلاقة المتقابلة بين العلّة التامَّة ومعلولها حيث يستحيل الانفكاك بينهما في نفس الأمر ـ كما سيأتي البحث عنه في الفصـل الثالث من المرحلة الثامنة ـ وكتلازم معلولي علّة تامّة واحدة، وهو في
1. راجع: التلويحات: ص32.
2. راجع: الأسفار: ج2، ص202.
3. راجع: نفس المصدر: ج1، ص236.
الواقع نتيجة علاقتين بين كلّ واحد منهما مع العلّة. وهذه العلاقة تنعكس في الذهن بشكل التضايف بين مفهومي العلّة والمعلول.
والتلازم الذي يكون أصالةً بين العنوانين الذهنيّين مثل تلازم المتضائفين، كالأب والابن، وكالأخوين، وينسب إلى المتّصف بهما في الخارج بالعرض. وذلك لأنّ الحقّ أنّ الإضافة أمر اعتباريّ قوامه بلحاظ العقل وعروضه في الذهن وإن جاز الاتّصاف بها في الخارج. وفي جميع هذه الموارد يتّصف الطرفان بالوجوب بالقياس.
واعلم أنّ الشيخ حصر العلاقة اللزوميّة في علاقة العلّية،(1) وتبعه صدر المتألّهين، ووافقهما الاُستاذ(دامظلهالعالی) كما تلاحظ في المتن، خلافاً لأبي البركات البغداديّ وفخر الدين الرازيّ وشيخ الإشراق، حيث زادوا نوعاً آخر وهو علاقة التضايف. وقد أرجعها الشيخ إلى علاقة العلّية لما أن المتضائفين يكونان معلولَي علّة ثالثة. لكن لأحد أن يعكس الأمر ويرجع العلّية إلى التضايف ويحصر العلاقة اللزوميّة فيه لما بين عنواني «العلّة والمعلول» وعنواني «معلولين لعلّة واحدة» من التضايف. والحقُّ كما عرفت أنّ التلازم نوعان: خارجيّ وعقليّ، وإن شيءت قلت: وجوديّ ومفهوميّ. والتلازم بين المتضائفين يكون من قبيل الثاني ولا يلاحظ فيه معلوليّتهما لعلّة واحدة ـ على فرض صحّة كونهما معلولين لعلّة واحدة في جميع الموارد ـ وإنّما يلاحظ العلاقة بين المفهومين، ثمّ ينسب إلى مصداقيهما بالعرض.
ولا يخفى أنّ عنوان الوجوب بالقياس ـ كقسيميه وكالوجوب بالذات وبالغير وقسيميهما ـ يكون على أيّ حال من المعقولات الثانية التي يكون عروضها في الذهن، وإنّما يختلف الحال في موردي التلازم الخارجيّ والعقليّ في أنّ المتّصف به في الأوّل هو الخارج مباشرةً، وفي الثاني بواسطة معقول ثان آخر، وهو غير
1. راجع: الفصل السادس من المقالة الاُولىٰ من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص32.
الارتباط الوجودي المتحقّق بين حقيقة العلّة وحقيقة المعلول في الخارج، سواء لاحظه العقل أو لم يلاحظه.
لا يقال: وجود المعلول عند وجود العلّة التامّة وبالعكس أمر ضروريّ في الواقع سواء عرفنا ذلك أو لم نعرف، وسواء قايسنا أحدهما بالآخر أو لم نقايس، وليس الوجوب بالقياس إلاّ عبارة عن نفس هذا التلازم العينيّ.
فإنّه يقال: لا معنى لوجوب كلّ واحد منهما بالقياس إلى الآخر في الواقع ونفس الأمر سوى أنّ العقل إذا قايس بينهما انتزع هذا المفهوم منهما، لا أنّه يوجد بإزاء هذا المفهوم أمر عينيّ في الخارج وراء ذات العلّة وذات المعلول. ويمتاز ما بالقياس عمّا بالذات وما بالغير بلزوم ملاحظة أمر وراء ذات الموضوع ومقايستهما بعضهما ببعض والنظر في وجود العلاقة بينهما وعدمها.
وأمّا التلازم بين أحد الشيئين ونقيض الآخر فمثل العلاقة العناديّة بين العلّة التامّة وعدم معلولها، وكذا بين المعلول وعدم علّته، وكالعلاقة بين كلّ واحد من معلولي علّة واحدة مع عدم الآخر، والعلاقة بين أحد المتضائفين وعدم الآخر. ففي هذه الموارد يتّصف الطرفان بالامتناع بالقياس.
وأمّا العلاقة اللزوميّة من الجانب الواحد فهي العلاقة بين وجود المعلول ووجود كلّ واحد من أجزاء علّته، فإنّ وجود كلّ واحد من أجزاء العلّة بالقياس إلى وجود المعلول واجب، لكن وجود المعلول بالقياس إلى واحد واحد من أجزاء العلّة ممكن. ومن المعلوم لزوم عدم لحاظ سائر الأجزاء وجوداً وعدماً، وإلاّ فمع لحاظ وجود سائر الأجزاء تكون العلاقة من الجانبين وجوباً بالقياس، ومع لحاظ عدم سائر الأجزاء تكون العلاقة من الجانبين امتناعاً بالقياس، بمعنى أنّ فرض عدم بعض أجزاء العلّة على تقدير وجود المعلول ممتنع، وكذا وجود البعض الآخر المقيّد بهذا العدم الممتنع، فإنّ المقيّد بالممتنع ممتنع بما أنّه مقيّد.
لا يقال: وجود المعلول لا ينفكّ عن وجود العلّة بتمام أجزائها في نفس الأمر وإن لم نلاحظ بعضها، فالنسبة بينهما وجوب بالقياس من الجانبين.
فإنّه يقال: المقايسة بين شيئين لا يستلزم لحاظ جميع لوازمهما وملزوماتهما، فللعقل أن يقصر النظر على وجود شيء ووجود أجزاء علّته من دون أن يلاحظ سائر الاجزاء وجوداً وعدماً، وإن كانت العلّة بتمام أجزائها موجودة في الواقع.(1) على أنّ المقايسة لا يلزم أن تكون بين الوجودين الشخصيّين، بل يكفي تصوّر وجود معلول وتصوّر وجود جزء من اجزاء علّته وقياس أحدهما بالآخر في الذهن. غاية الأمر أن يقال إنّ مرجع هذا إلى العلاقة الذهنيّة أو الفرضيّة، لكنّها ليست أسوء حالاً من العلاقة بين الواجبين المفروضين.
وهذا الكلام يجري في مقايسة وجود حادث مادّيّ أو عدمه بالواجب تعالى بلا لحاظ شرائط تحقُّقه وجوداً وعدماً، فإنّه في هذا اللحاظ يتّصف بالإمكان بالقياس. ولا وجه للفرق بين وجوده وعدمه بالتزام الوجوب في الأوّل والإمكان في الثاني كما وقع في المتن، فإنّه إذا جاز قياس عدم شيء خاصّ بالواجب سبحانه وجعلُه مبرّراً لاتّصافه بالإمكان بالقياس جرى مثله في وجوده أيضاً، وكما أنّ وجود شيء معيَّن ضروريٌّ بحسب النظام العلّي والمعلوليّ المنتهي إلى الواجب تبارك وتعالى كذلك عدم شيء معيَّن أيضاً ضروريٌّ بحسب مقتضيات ذلك النظام وإن كان ممكناً بالذات. وكما أنّ هذا العدم الضروريَّ لا يضرُّ باتّصافه بالإمكان بالقياس، كذلك ذاك الوجود الضروريّ أيضاً لا يضرّ باتّصافه بالإمكان بالقياس، فتدبّر جيّداً.
ولا يخفى أنّه إذا قويس بين الممكن المعدوم مع بعض أجزاء العلّة اتّصف الطرفان بالإمكان بالقياس إلى الغير، بخلاف ما إذا قويس بين الممكن الموجود مع
1. قال الاستاذ(دامظلهالعالی) في الفصل العاشر من المرحلة الثامنة «مجرّد فرض الفاعل تامّ الفاعليّة... لا يوجب تغيّر نسبته في نفسه إلى الفعل من الإمكان إلى الوجوب».
بعض أجزاء علّته، فإنّ وجود الممكن حينئذ هو الذي يتّصف بالإمكان بالقياس دون وجود العلّة الناقصة، حيث إنّه يتّصف بالوجوب بالقياس كما ذكرنا.
ثمّ إنّه ربما يستشكل في كلامه(دامظلهالعالی) أنّه جعل عدم وجود بعض الشرائط ملحوظاً مع أنّه قد مرّ ضرورة عدم لحاظ سائر أجزاء العلّة وجوداً وعدماً، وأنّ ظاهره اختصاص ذلك بالمقايسة بين الواجب والممكن المعدوم. لكن يمكن دفعه بأنّ المراد اعتبار عدم وجود بعض الشرائط ظرفاً للمقايسة لا اعتباره قيداً للواجب، وبأنّ ذكر الواجب إنّما هو من باب المثال، ويستفاد التعميم من التعليل المستفاد من الوصف، وهو كونه «جزء العلّة التامّة». وجدير بالذكر أنّ اعتبار الواجب جزءً من العلّة التامّة مبنيٌّ على لحاظ الممكن موجوداً منفصل الوجود عن غيره. وهناك اعتبار آخر يكون الواجب بحسبه علّة تامّة.(1)
وأمّا الشيئان اللذان لا علاقة لزوميّة ولا عناديّة بينهما فيتّصفان بالإمكان بالقياس إلى الغير، وقد مثّلوا لهما بالواجبين المفروضين أو أحدهما مع وجود معلول الآخر أو عدمه. لكن إذا كان الفرض مصحّحاً لاتّصاف الواجب بالذات بالإمكان بالقياس، فالمقايسة الذهنيّة بينه وبين موجود مّا لم تلحظ شرائط تحقُّقه وجوداً وعدماً أولى بكونها مبرّراً للاتّصاف به كما أشرنا إليه. وبالنظر إلى أنّ هذا الموجود المفروض يكون لا محالة من مخلوقاته تعالى كان هو المتّصف بالإمكان بالقياس دون الواجب سبحانه بخلاف ما إذا قويس بين وجود الواجب وممكن معدوم حيث يتّصف كلاهما بالإمكان بالقياس حينئذ كما مرّ. ومن هنا يظهر أنّ الإمكان بالقياس ربما يختصّ بأحد الطرفين دون الآخر.
ثمّ إنّ الشيخ جوّز اتّصاف الواجب بالذات بالإمكان بالنظر إلى بعض الإضافات اللاحقة به. قال في موضع من الشفاء: «ولا نبالي بأن يكون ذاته
1. راجع: تعليقة الاستاذ على الأسفار: ج1، ص159.
مأخوذة مع إضافة مّا ممكنةَ الوجود، فإنّها من حيث هي علّة لوجود زيد ليست بواجبة الوجود بل من حيث ذاته».(1) وقال صدر المتألّهين بعد نقل هذا الكلام: «ولا يرتضي به من استشرق قلبه بأنوار الحكمة المتعالية»(2) ثمّ بيّن أنّ الممكنات المستندة إلى الواجب واجبة الحصول له تعالى، لأنّ وجوداتها روابط فيضه وَجُوده، وقال في آخر كلامه: «والعجب من الشيخ وشدّة تورّطه في العلوم وقوّة حدسه وذكائه في المعارف أنّه قصر إدراكُه عن فهم هذا المعنى».(3) لكن يمكن الجمع بينهما بحمل الإضافة في كلام الشيخ على الإضافة التي تعرض في الذهن بلحاظ مقايسة الواجب تعالى إلى موجود مّا، وهي إضافة مقوليّة لا محالة. وأمّا المراد بالإضافة في كلام صدر المتألّهين فهو الإضافة الإشراقيّة ـ كما هو واضح من كلامه ـ ولا تنافي بينهما.
وقد ظهر ممّا ذكر صحّة اجتماع الوجوب بالذات والوجوب بالقياس إلى الغير (بخلاف الوجوب بالغير) وكذا الحال في الامتناع والإمكان، وظهر صحّة اجتماع الوجوب بالذات مع الإمكان بالقياس أو الامتناع كذلك (بخلاف الامتناع بالغير) وهكذا في قسيميه. والحمد لله كما هو أهله.
تعتبر هذه المسألة كمبنى لكثير من المسائل الإلهيّة كإثبات بساطة ذاته تعالى وعدم
1. راجع: الفصل السابع من المقالة الثامنة من إلهيّات الشفاء.
2. راجع: الأسفار: ج1، ص126.
3. راجع: نفس المصدر: ص128.
وجود جنس مشترك بينه وبين سائر الموجودات(1) وإثبات توحيده ودفع بعض الشبهات التي اُوردت حوله،(2) وكذا عدم استطاعة العقل على معرفة كنه ذاته سبحانه، فإنّ العقل إنّما يمكنه اكتناه المهيّات، وأمّا ما لا مهيّة له فليس للعقل أن يعرف كنهه،(3) فالعقل يعرف الله تعالى بأسمائه وصفاته الذاتيّة والفعليّة، وكلّها عناوين عقليّة لا مفاهيم ماهويّة، ولا مجال ههنا لبيان كيفيّة نيل العقل لها وإطلاقها عليه تعالى. وقال الاُستاذ(دامظلهالعالی) في تعليقته على الأسفار ما حاصله أنّ براهين إثبات الواجب تثبت نفي الواسطة في الثبوت، وأمّا نفي الواسطة في العروض فيثبت من هذا البحث.(4)
ثمّ إنّ الشيخ عَنونَ المسألة في الشفاء هكذا: «انّ الأوّل لا مهيّة له غير الإنّيّة»(5) وقال في تعليقاته «انّ معنى قولنا مهيّته إنّيته أنّه لا مهيّة له» وجعل المحقّق الطوسيّ في التجريد عنوان المسألة عدم زيادة الوجود عليه كما في المباحث المشرقيّة.(6) وقال في الأسفار «في أنّ واجب الوجود إنّيته مهيّته»(7) وفسّره في موضع آخر بأنّه لا مهيّة له سوى الوجود الخاصّ المجرّد عن مقارنة المهيّة.(8)
وربما يستشكل الجمع بين قولهم «لا مهيّة له» وقولهم «مهيّته إنّيته» وبالعكس،
1. راجع: الفصل الرابع والفصل الخامس من المقالة الاُولىٰ من إلهيّات الشفاء؛ والتحصيل: ص571؛ والشوارق: ص103؛ والتلويحات: ص35؛ والنمط الرابع من شرح الإشارات؛ وراجع: المبدء والمعاد لصدر المتألّهين: ص27ـ29.
2. راجع: الأسفار: ج1، ص130.
3. راجع: القبسات: ص49؛ والشوارق: المسألة السابعة والعشرين من الفصل الأوّل، ص107؛ والأسفار: ج1، ص113.
4. راجع: تعليقة الاستاذ على الأسفار: ج1، ص96.
5. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثامنة من إلهيّات الشفاء.
6. راجع: المباحث المشرقية: ج1، ص30.
7. راجع: الأسفار: ج6، ص48ـ57؛ والمبدء والمعاد: ص24ـ29.
8. راجع: الأسفار: ج1، ص96.
ولقد أجاد شيخ الإشراق حيث قال: «والمهيّة قد يُعنىٰٰ بها ما به يكون الشيء هو ما هو، وبهذا المعنى يقولون للبارئ ماهيّته هي نفس الوجود، وقد تُخصَّص بما يزيد على الوجود ممّا به الشي هو ما هو، فتقتصر على أشياءَ الوجودُ من لواحقها، وبهذا الاعتبار يقولون: الأوّل لا مهيّة له، أي أمر يعرض له الوجود».(1)
وقد استدلّوا لهذه المسألة بوجوه عديدة،(2) وقد ابتدأ الاُستاذ(دامظلهالعالی) بالبيان المبتني على ما مرّ من مساوقة المهيّة للإمكان «فما ليس بممكن فلا مهيّة له» ثمّ اختار وجهين(3) من الوجوه التي استُدلّ بها ووصف أوّلهما بالأمتن، وسيعيد الكلام حول هذه المسألة في الفصل الثالث من المرحلة الثانية عشر.
الضمير راجع إلى الدليل لا إلى الاعتراض، والتذكير هو باعتبار «ما ذكر» أو بتأويل الحجّة إلى الدليل.
وذلك بخلاف المهيّات، حيث تحتاج في عروض الوجوب لها إلى حيثيّة تقييديّة لأنّ اتّصافها بالأوصاف الوجوديّة يكون بعرض الوجود، وبخلاف الوجودات الخاصّة الإمكانيّة حيث تحتاج في ثبوت الوجوب لها إلى حيثيّة تعليليّة هي الواسطة في الثبوت.
1. راجع: المقاومات: ص175؛ والمطارحات: ص399.
2. راجع: الأسفار: ج1، ص96ـ113، وج6، ص48ـ57؛ والمسألة السابعة والعشرين من الفصل الأوّل من الشوارق: ص99ـ108.
3. راجع: التلويحات: ص34ـ35.
بيان للحجّة التي أقامها صدر المتألهين بقوله «لو كان بالقياس إلى صفة كماليّة جهةٌ إمكانيّة بحسب ذاته بذاته للزم التركيب في ذاته»(1) والمراد بالتركيب من جهتي الوجود والعدم أو من جهتي الوجوب والإمكان هو التركيب بحسب التحليل العقليّ في مقابل البساطة بمعناها الأخصّ الذي مرّت الإشارة إليه ـ ومرجع التركيب هذا إلى ضعف الوجود ونقصه ـ لا التركيب العينيّ الخارجيّ، ضرورة أنّ الإمكان والعدم ليسا أمرين عينيّين حتّى يستقرّا في موجود خارجيّ، ويلزَم من فرض أحدهما في الواجب تركّبه من الوجود والعدم أو الوجوب والإمكان العينيّين. وهذه الحجّة كما ترى تتوقّف على إثبات بساطة ذات الواجب ونفي تركّبه حتّى بحسب التحليل العقليّ.
وأمّا الحجّة الثانية فقد قرّرها صدر المتألّهين بتقرير، ونقل إيراداً مشهوراً عليها، ثمّ عدل إلى تقرير آخر لدفع ذلك الإيراد، وحاصله أنّ الصفة الممكنة المفروضة تكون معلولة لغير الواجب لا محالة، ويكون عدمها أيضاً معلولاً لعدم ذلك الغير، فلو اعتبرنا ذات الواجب مع قطع النظر عن ذلك الغير وجوداً وعدماً فإمّا أن تكون تلك الصفة موجودة في الواجب فيلزم وجود المعلول بلا علّة حيث لم يعتبر وجود الغير الذي هو العلّة لتلك الصفة، وإمّا أن تكون معدومة فيه فيلزم عدم المعلول بلا علّة حيث لم يعتبر عدم الغير الذي هو العلّة لعدم تلك الصفة. ووجود الواجب لا يخلو في نفس الأمر من أحد هذين الفرضين المستحيلين، فيلزم استحالة وجوب ذاته إذا اعتبرت بلا شرط، أي بلا اعتبار ذلك الغير وجوداً وعدماً. فيتبيّن أنّ ذاته كافية في اتّصافه بكلّ ما له من الأوصاف.
1. راجع: الأسفار: ج1، ص123.
ثمّ ذكر إشكالاً على هذا التقرير أيضاً هو أنّ المفروض في الحجّة عدم اعتبار ذلك الغير وجوداً وعدماً، وهو غير اعتبار وجوده وعدمه، كما أنّ للعقل أن يعتبر المهيّة بصرف النظر عن وجودها وعدمها مع أنّها في نفس الأمر لا تخلو عن أحدهما، فللخصم أن يقول: ذلك الغير موجود في الواقع وإن لم يعتبر وجوده، والصفة الممكنة أيضاً موجودة بسببه فلا يلزم محال.
وأجاب بما حاصله أنّ قياس ذات الواجب على المهيّة غير صحيح، لأنّ مرتبة ذات المهيّة غير مرتبة الواقع، فللعقل أن يلاحظها بصرف النظر عن الواقع، أمّا مرتبة ذات الواجب فهو عين الواقعيّة والتي ينال كلُّ شيء واقعيّتَه منها، فلو فرضت بعض صفاته معلولة لغير لزم فرض ذلك الغير أيضاً. ثمّ ختم كلامه بقوله «وهذا غاية ما يتأتَّى لأحد من الكلام في هذا المرام» ولعلّ فيه إشعاراً بعدم اعتماده على هذه الحجّة، كما أنّ عدول الاُستاذ عن هذا التقرير أيضاً لا يخلو من إشعار بهذا المعنى.
وكيف كـان فغاية ما يستفاد من هذا الجواب ـ على فـرض التسليم ـ هـو لزوم اعتبار ذلك الغير مع الواجب، وفساد هذا التالي غير بيّن ولا مبيّن في الحجّة، اللّهمّ إلاّ أن يقال: مرجع ذلك إلى احتياج الواجب إلى الغير، وهو ينافي وجوب وجوده، فليتأمّل.
وأمّا التقرير الذي ذكره الاُستاذ(دامظلهالعالی) أخيراً فحاصله أنّ اتّصاف الواجب بصفة ممكنة يستلزم احتياجه إلى الغير، فلا تحصل تلك الصفة إلاّ بإيجاب الغير لها، فيلزم من فرض وجودها في الواجب اتّصافه بالوجوب بالغير، وقد مرّ استحالة الجمع بين الوجوب بالذات والوجوب بالغير في شيء واحد.
لكن يلاحظ عليه أنّ المتّصف بالوجوب بالغير في الواقع هو نفس الصفة الممكنة لا ذات الواجب، فلا يلزم اجتماعهما في شيء واحد حقيقةً.
ويمكن تتميم الحجّة بأنّ الغير المفروض إمّا أن يكون معلولاً للواجب أو لا يكون
معلولاً له، والأوّل يستلزم أن يكون الواجب معلولاً لمعلوله، ومعناه أن يستفيد من معلوله ما يكون فاقداً له في ذاته، مع أنّ المعلول لا يملك إلاّ ما استفاد من علّته المفيضة لوجوده، والثاني يستلزم وجود واجب آخر، وتنفيه براهين التوحيد.
يبقى الكلام في مورد التمسّك بهذه القاعدة، وبيانه يتوقّف على تعيين المقصود منها بالضبط، فنقول:
يمكن أن يراد بمحمول القضيّة (واجب الوجود من جميع الجهات) الوجوب بالذات، فيكون مفادها أنّ جميع صفات الواجب تعالى واجبة بالوجوب الذاتيّ لذاته سبحانه، فينطبق على مسألة عينيّة الصفات الذاتيّة مع الذات. لكنّ الحجّة الثانية لا تفي بهذا المقصود، لأنّها إنّما تنفي معلوليّة صفات الواجب لغيره فقط. ويمكن أن يراد به أعمُّ من الوجوب الذاتيّ والغيريّ، فيكون مفادها أنّ ما يمكن اتّصاف الواجب به بالإمكان العامّ فهو ثابت له بالضرورة الذاتيّة أو الغيريّة، أمّا الضرورة الذاتيّة ففي الصفات الذاتيّة التي هي عين ذاته تعالى، وأمّا الضرورة الغيريّة فيحتمل لها في بادئ النظر موردان: أحدهما أن تحصل له سبحانه صفات زائدة على ذاته ومعلولة لنفس ذاته، وثانيهما أن تحصل له صفات معلولة لغيره، وكلتا الحجّتين تنفيان الثاني، لكنّ الحجّة الاُولى تنفي الأوّل أيضاً لأنّ محذور التركّب المذكور جارٍ فيها جميعاً، فإن اعتمد على الحجّة الثانية فقط جاز التمسّك بها لإثبات أنّه لو أمكن للواجب صفة زائدة على ذاته كانت واجبة الحصول له من قِبل ذاته، لكنّ الكلام في إمكان هذه الصفة.(1) ولو اعتمد على الحجّة الاُولى لم يبق للتمسّك بالقاعدة إلاّ الصفات الذاتيّة، فلا حاجة إلى تعميم الوجوب في محمول القضيّة للوجوب الغيريّ.
قال الشيخ في النجاة بعد ذكر القاعدة والاستدلال لها بما حاصله أنّ فرض صفة
1. في دعاء عرفة لسيّد الشهداء(علیهالسلام): إلهي تقدّس رضاك أن تكون له علّة منك فكيف تكون له علّة منّي.
إمكانيّة للواجب يستلزم تعلّق وجود الواجب بعلّة تلك الصفة، وهذا ينافي وجوب وجوده، قال: «فبيّن من هذا أنّ واجب الوجود لا يتأخّر عن وجوده وجود منتظَر، بل كلّ ما هو ممكن له فهو واجب له، فلا له إرادة منتظرة، ولا طبيعة منتظرة، ولا علم منتظر، ولا صفة من الصفات التي تكون لذاته منتظرة».(1)
وظاهر كلامه هذا اعتماده على الحجّة الثانية التي لا تنفي صفة معلولة لذاته، وإنّما تنفي تأخّرها وانفكاكها عن ذاته، وهو يلائم مذهب المشائين في علم الواجب تعالى. كما أنّ الاستدلال بالقاعدة لإثبات قدم العالم يؤيّد هذا المعنى، وإن كان في الاستدلال نظر يضيق المجال عن بيانه.
وقال الرازيّ في المحصّل بعد ذكر القاعدة والاستدلال لها بنظير كلام الشيخ في النجاة: «وهذه الحجّة لا تتمشَّى إلاّ بنفي كون الإضافات اُموراً وجوديّة في الأعيان». وقال المحقّق الطوسيّ في نقد المحصّل ما هذا لفظه: «هذه المسألة هي المعركة بين المتكلّمين والفلاسفة، لأنّه يقتضي كون الواجب واجباً من جهة الفاعليّة، فيكون فعله قديماً، والمتكلّمون لا يسلّمون هذا» ثمّ قال بصدد المناقشة في الحجّة ـ حسب ما قرّره الرازي ـ : «قوله ـ يعني قول الرازيّ ـ «إذا فرضنا اتّصافه بأمر موقوف على أمر خارجيّ فذاته موقوفة على الغير» ليس بصحيح، لأنّ توقُّف أمر يتعلّق بالواجب وغير الواجب لا يوجب توقُّف الواجب علىغير الواجب، بل لا يوجب إلاّ توقُّف ذلك الأمر علىغير الواجب، والإضافات والسلبيّات في الصفات كلُّها كذلك،وهم يقولون باتّصافه بهما. فإذن ليس مرادهم من قولهم «الواجب لذاته واجب من جميع جهاته» هذا، بل المراد أنّه واجب من جميع جهات تتعلّق به وحده ولاتتوقّف على الغير، ككونه مصدراً ومبدءً، لا ككون الغير صادراً عنه أو متأخّراً عنه، فإنّ بين الاعتبارين فرقاً».(2)
1. راجع: النجاة: ص228؛ وراجع: الفصل الأوّل من المقالة التاسعة من إلهيّات الشفاء.
2. راجع: نقد المحصّل: ص102ـ103.
والحقّ أنّ الإضافات مفاهيم عقليّة انتزاعيّة لا تحكي عن حيثيّة عينيّة في ذات الواجب تعالى، وفعليّة اتّصاف الواجب بها يتوقّف على فعليّة طرفي الإضافة، ولا يستلزم ذلك نقصاً في الواجب تبارك وتعالى.(1) ولا مجال ههنا للتوسّع في هذا المقال، فلنمسك زمام القلم ولنطو الكلام.(2)
اعلم أنّ الصرافة قد تستعمل في المهيّات ويراد بها خلوصها عن كلّ ما هو خارج عنها من العوارض اللازمة والمفارقة، ثمّ يقال «صرف الشيء لا يتثنّى ولا يتكرّر» ومفاده أنّ كلّ مهيّة بصرف النظر عن عوارضها واحدةٌ وحدةً ماهويّة ومفهوميّة، وموطن هذه الصرافة والوحدة هو الذهن فقط، لأنّ المهيّة مخلوطة في الخارج ـ كما سيأتي في البحث عن اعتبارات المهيّة ـ وقابلة للكثرة بتكثّر أفرادها. وقد تستعمل الصرافة في الوجود فيراد بها خلوصه عن الجهات الماهويّة والعدميّة، أعني كونه بحيث لا يستطيع العقل انتزاع مفهوم ماهويّ أو عدميّ عنه، ومرجعها إلى الكمال واللاتناهي المطلقين. ويختصّ الوجود الصرف بالواجب تبارك وتعالى،(3) لأنّه هو الذي لا مهيّة له ولا عدم فيه، وأمّا غير الواجب فوجوده مشوب بالنقائص والأعدام بحسب التحليل العقليّ الذي مرجعه إلى ضعف الوجود ومحدوديّته في الواقع العينيّ.
ويستدلبصرافة وجوده تعالى على وحدته وحدةً حقّة حقيقيّة، وذلك لأنّه لوفرض له ثان كان له كمال استقلاليّ يكون الواجب الأوّل فاقداً لشخصه، فيلزم أن يكون متّصفا
1. راجع: كلام الشيخ المنقول تحت الرقم (61).
2. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثامنة من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: المطارحات: ص400.
3. راجع: التلويحات: ص35؛ وذيل المسألة السابعة والعشرين من الفصل الأوّل من الشوارق: ص106.
بعدم ذلك الكمال الموجود في الواجب الآخر المفروض، وهذا ينافي صرافة وجوده وعدم اتّصافه بصفة عدميّة. أمّا الكمالات الموجودة في مخلوقاته فليست مستقلّة عنه ولا يكون الواجب فاقداً لها، حتّى يلزم من ثبوتها ثبوت ثان له سبحانه.
إنّ العقل بعد اعتباره حيثيّة المهيّة كحيثيّة متمايزة عن الوجود يراها أمراً لا يقتضي لذاته وجوداً ولا عدماً، فيصفها بتساوي نسبتها إلى الوجود والعدم، ولازم ذلك أن يكون خروجها عن حدّ الاستواء واتّصافها بالوجود أو العدم مستنداً إلى أمر خارج عنها، فإنّ الاتّصاف بأحدهما إذا لم يكن بالذات كان لا محالة بالغير ولا ثالث لهما. ويعبّر عن ذلك بأنّها ممكنة فتكون محتاجة إلى العلة حتّى توجبها فتجب بإيجابها، كلُّ ذلك قبل أن توجَد، قبليّةً في لحاظ العقل.(1)
ثمّ إنّ بعض المتكلّمين توهّموا أنّ هذه القاعدة تستلزم صيرورة الفاعل موجَباً (بالفتح) زعماً منهم أنّ المعلول إذا بلغ حدّ الوجوب لم يقدر الفاعل على ترك إيجاده، وغفلةً منهم أنّ هذه المفاهيم المرتّبة من الإمكان إلى الإيجاد كلّها مفاهيم عقليّة، وإنّما الوجود العينيّ هو لذات العلّة وذات المعلول فحسب، وأنّ وجوب المعلول إذا كان مستنداً إلى اختيار العلّة فهو تثبيت له ولا يستلزم سلبه. فذهبوا إلى أنّ المعلول قبل وجوده يتّصف بالأولويّة، حتّى لا يكون متساوي النسبة إلى الوجود والعدم من جانب، ولا يكون بالغاً حدّ الضرورة المستلزمة لاضطرار الفاعل من جانب آخر.
ولا يخفى أنّ هذه الأولويّة هي المكتسبة من الفاعل، وأمّا الأولويّة الذاتية
1. راجع: الأسفار: ج1، ص217؛ وراجع: القبسات: ص314.
لجميع الممكنات أو لبعضها بالنسبة إلى الوجود ولبعضها بالنسبة إلى العدم فهي أمر آخر لا صلة له بهذه المسألة.(1)
إشارة إلى التفسير المنقول عن السيّد الداماد للأولويّة الذاتيّة، وهو كون الأولويّة غير منفكّة عن ذات الممكن وإن لم تكن باقتضاء وسببيّة من الذات لها قياساً على الوجوب الذاتيّ الذي لا ينفكّ عن ذات الواجب وإن لم يكن معلولاً لها. وردّ عليه بأنّ القياس مع الفارق، فإنّ الوجود في الواجب عين ذاته فلذلك لا يتصوّر هناك اقتضاء وعلّية، بخلافه ههنا.(2)
لا يخفى أنّ القول بالأولويّة الذاتيّة الكافية يستلزم الاستغناء عن الواجب.
مثل الزمان والحركات والأصوات.
قد مرّ توجيه تقدّم الوجوب على الوجود، لكن ربما يستشكل الجمع بين كونه
1. راجع: الأسفار: ج1، ص199ـ215 و221ـ230؛ والمسألتين الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين من الفصل الأوّل من الشوارق: ص82ـ85.
2. راجع: المسألة الثالثة والعشرين من الفصل الاول من الشوارق: ص84.
سابقاً على الوجود وكونه منتزعاً عنه. ويمكن دفع الإشكال بأنّ تقدّم الوجوب على الوجود إنّما هو بحسب الرتبة في وعاء التحليل العقليّ، وهذا التحليل إنّما يتمّ بالنسبة إلى الموجود الخارجيّ، فيكون الوجود العينيّ منشأً لانتزاعه. فالسبق الرتبيّ التحليليّ للوجوب على الوجود لا ينافي السبق العينيّ للوجود عليه.
ثمّ إنّ الوجوب اللاحق عبارة عن الضرورة بشرط المحمول التي لا تخلو عنها قضيّة فعليّة، فلا يلزم من لحوقه اجتماع وجوبين لشيء واحد من جهة واحدة، فهناك قضيّتان: إحداهما ما يكون الموضوع فيها المهيّة متحيّثةً بحيثيّة تعليليّة من دون اشتراط الوجود فيها، وثانيتهما ما يكون الموضوع فيها المهيّة المشترطة بالوجود. والوجوب السابق هو مادّة القضيّة الاُولى، والوجوب اللاحق هو مادّة القضيّة الثانية، ومرتبة اعتبار الثاني متأخّر عن مرتبة اعتبار الأوّل. ونظير هذا الكلام يجري في الامتناعين.(1)
واعلم أنّ المهيّة تتّصف بوجوب آخر وهو الوجوب بالقياس إلى العلّة، وسيأتي البحث عنه في الفصل الثالث من المرحلة الثامنة.(2)
أمّا أصل حاجة الممكن إلى المؤثّر فقد عدّ من الضروريّات الأوّليّة،(3) وقد تعرّض له في التجريد بعد البحث عن مناط الحاجة،(4) وأنكر بداهتها طوائف من أهل النظر من المسلمين وغيرهم، وتشكّك في ثبوتها طوائف اُخرى من التجربيّين ومن
1. راجع: الأسفار: ج1، ص224ـ225؛ والشوارق: ص85؛ والمباحث المشرقيّة: ج1، ص132.
2. راجع: الأسفار: ج2، ص131.
3. راجع: الأسفار: ج1، ص207؛ والفصل السادس من المقالة الاُولىٰ من إلهيّات الشفاء.
4. راجع: المسألة الثانية والعشرين والمسألة الخامسة والثلاثين من الفصل الأوّل من الشوارق.
ينسج على منوالهم. والذي ينبغي الالتفات إليه أنّ موضوع القضيّة الضروريّة هو «الممكن» أو ما يفيد معناه، وأمّا تعيين مصاديق الممكن فليس بضروريّ، ولابدّ من تبيين خواصّ الممكن والواجب وتعيين علائم الإمكان، حتّى يتبيّن أنّ العالَم بجميع أجزائه ممكن يحتاج إلى علّة وراءه.
وأمّا مناط حاجة الممكن إلى العلّة فقد يراد بالممكن في هذا العنوان المهيّةُ الممكنة، وقد يراد به الوجود الإمكانيُّ، والشائع في كتب القوم هو الأوّل،(1) وهو يلائم القول بأصالة المهيّة، كما أنّ الثاني هو الملائم للقول بأصالة الوجود، لكنّ القائلين بأصالة الوجود أيضاً ركّزوا على المهيّة في موضوع المسألة إمّا لأجل مجاراة القوم وإمّا لأجل مراعاة حال المتعلّم. وقد يعبّرون بعلّة الحاجة، ويعنون بالعلّة الجهةَ التي بالنظر إليها يحكم العقل بالاحتياج إلى العلّة.
وقد وقع الخلاف بين الفلاسفة والمتكلّمين في تعيين مناط الحاجة، وأشهر الأقوال في المسألة قول الفلاسفة بأنّ المناط هو الإمكان، وقول كثير من المتكلّمين أنّه هو الحدوث. وقال صدر المتألّهين في موضع من الأسفار بعد الإشارة إلى هذا الاختلاف ما لفظه: «الحقُّ أنّ منشأ الحاجة إلى السبب لا هذا ولا ذاك، بل منشأها كون الشيء تعلّقيّاً متقوّماً بغيره مرتبطاً إليه»(2) وهذا هو الذي يعبّر عنه بالإمكان الفقريّ أو الوجوديّ.
قد مرّت الإشارة إليه في الفصل الرابع من المرحلة الاُولىٰ.(3)
1. راجع: الأسفار: ج1، ص206؛ وج2: ص202؛ وراجع: الفصل الأوّل من المقالة السادسة من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: النجاة: ص213؛ والمباحث المشرقيّة: ج1، ص134 و 485ـ494؛ والقبسات: ص313.
2. راجع: الأسفار: ج3، ص253.
3. راجع: نفس المصدر: ج1، ص215 و 350.
إنّ قوماً من المتكلّمين لمّا زعموا أنّ الحدوث مناط الحاجة إلى المؤثّر ذهبوا إلى أنّ المعلول في بقائه لا يحتاج إلى العلّة، واحتجّوا لذلك بأمثلة عامّية كبقاء الابن والبناء والسخونة بعد فناء الأب والبنّاء والنار، وخلطوا بين الفاعل الحقيقيّ والمعدّ، حتّى نقل عنهم أنّه لو جاز على الواجب العدم لما ضرَّ عدمُه وجودَ العالم،(1) سبحانه وتعالى عمّا يقولون. ولم يعرفوا أنّ مراد الحكماء من العلّة في قولهم بلزوم معيّة العلّة للمعلول هو العلّة المفيدة (دون المعدّة) وعلّة القوام (المادّة والصورة) في الأجسام.(2)
المراد عدم قدرة العقل على نيل ما هو ممتنع بالذات بالحمل الشائع لا نيل هذا المفهوم الذي هو من المعقولات الثانية، وسبب عدم القدرة عدم وجود ذات ومهيّة وصورة عقليّة له.
بأن يكون كلا الوجوبين بالذات أو كلاهما بالغير.
1. راجع: المسألة السادسة والثلاثين من الفصل الأوّل من الشوارق.
2. راجع: الفصل الأوّل والفصل الثاني من المقالة السادسة من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: التحصيل: ص524527؛ والأسفار: ج1، ص219ـ221؛ وج2: ص203 و 212ـ216.
3. راجع: نفس المصدر: ج1، ص236ـ237 و 387.
كما أنّ وجود الممكن يستلزم الواجب بالذات كذلك امتناع الممكن يستلزم الممتنع بالذات، لأنّ المفروض أنّ امتناعه يكون بالغير، وكلُّ ما بالغير لا بدّ وأن ينتهي إلى ما بالذات. ولكن بالنظر إلى أنّ هذه العناوين مأخوذة من موادّ القضايا التي يحمل فيها الوجود على المهيّة أو ما في حكمها فهي صفات بحال الوجود وتنسب إلى المهيّات أو المفاهيم بالعرض. فالمهيّة الممكنة لا تستلزم الواجب بالذات بما أنّها مهيّة أو بما أنّها ممكنة بل بما أنّها موجودة ويكون وجودها واجباً بالغير، كذلك لا تستلزم الممتنع بالذات بما أنّها مهيّة ممكنة، بل بما أنّها معدومة ويكون وجودها ممتنعاً بالغير. وإن شيءت فقل: إنّ الضرورة بالغير صفة لعدمها بالذات وتنسب إلى المهيّة الممكنة بالعرض. فالمهيّة الممكنة الممتنعة بالغير تستلزم الممتنع بالذات لأجل أنّها ممتنعة بالغير لا لأجل أنّها مهيّة ممكنة.
الظاهر أنّه إشارة إلى البرهان السلّميّ الذي اُقيم على تناهي الأبعاد، وتقريره أنّه لو رُسم من نقطة خطّان غير متوازيان على هيئة ساقي المثلّث فكلّما امتدّ الخطّان صار البُعد بينهما أزيد، فلو امتدّا إلى غير النهاية كان الخطّ المفروض بينهما ـ الذي يكون وتراً لزاوية التقاطع وقاعدة للمثلّث ـ غيرَ متناهٍ مع أنّه محصور بين حاصرين.(1)
قال الحكيم السبزواريّ في تعليقته على الأسفار «مصاحبة البخت والاتّفاق هنا بحسب الاتّفاق كما لا يخفى».(2)
1. راجع: نفس المصدر: ج4، ص23؛ وراجع: الفصل السابع من المقالة الثالثة من الفنّ الأوّل من طبيعيّات الشفاء.
2. راجع: الأسفار: ج1، ذيل الصفحة 237.
كما لا تستلزم حماريّة الإنسان صاهليّته، بل إنّما يستلزم محالاً له علاقة سببيّة مع المحال المفروض كاستلزام حماريّة الإنسان ناهقيّته.(1)
حاصل الإشكال أنّ للواجبتعالىصفاتٍ سلبيّةً تكون ممتنعة الحصول له تعالى، وهذا الامتناع ذاتي لا محالة، لأنّه لو كانت هذه الصفات ممتنعة بالغيرلكانت ممكنة بالذات لما ثبت أن الممتنع بالغير هو الممكن بالذات، والواجب تعالى ليس لهصفة إمكانيّة لما ثبت أنّ الواجب بالذات واجب من جميع الجهات. ومقتضى ما ذكر من عدم وجود العلاقة اللزومية بين الممتنعات بالذات أن لا تكون بين هذه الصفات السلبيّة علاقة لزوميّة، مع أنّ وقوعها في البرهان والسلوك من بعضها إلى بعض يكشف عن وجود العلاقة اللزوميّة بينها، فإنّ البرهان عليها وإن كان برهاناً إنّيّاً لكنّه يتشكّل من مقدّمات متلازمة.
وحاصل الجواب أنّه كما لا يوجب كثرة الصفات الثبوتيّة تعدّد الواجب بالذات لكون مصداق الجميع واحداً كذلك كثرة الصفات السلبيّة لا تستلزم تعدّد الممتنعات بالذات حتّى تلاحظ بينها علاقة. وبعبارة اُخرى: محلّ البحث ما إذا كان اُمور متعدّدة بالذات لكلّ واحد منها مصداقه المفروض، وههنا ليس إلاّ مصداق واحد موجود تسلب عنه مفاهيم عدميّة أو إمكانيّة بالضرورة.
قد مرّت الإشارة إليه في كلام صدر المتألّهين وراجع توضيحه تحت الرقم (77) وقد ذكر في الأسفارالإشكال المذكور ههنا ونقل عن المحقّق الطوسي جوابا عنه ورد عليه.(2)
1. راجع: نفس المصدر، ص237 و 190ـ196 و 240ـ243 و 383ـ386؛ وراجع: القبسات: ص282ـ283.
2. راجع: الأسفار: ج1، ص191ـ196.
قد مرّ تحت الرقم (10) أنّ الماهیّة مأخوذة من لفظة «ما هو» ولها معنیان: أحدهما «ما یقال فی جواب ما هو» وثانیهما «ما به الشیء هو هو» والمعنى الثانی أعمُّ مطلقاً من الأوّل ویصحّ إطلاقه على الوجود أیضاً، والمراد بها ههنا هو المعنى الأوّل. وحیث إنّها تقال وتحمل على الشیء تكون من سنخ المفاهیم التی تحصل فی الذهن، وحیثیّتها تغایر حیثیّة الوجود العینیّ الآبیة عن الحمل والصدق والحصول فی الذهن والتی لا تعرف إلاّ بالعلم الحضوریّ. قال فی الأسفار «فلا یكون إلاّ مفهوماً كلّیاً ولا یصدق على ما لا یمكن معرفته إلاّ بالمشاهدة».(1)
والمفاهیم الماهویّة كالإنسان والحجر والشجر لا یحمل علیها بالحمل الأوّلیّ إلاّ نفسها على ما هو شأن الحمل الأوّلیّ، ویسلب عنها كلُّ مفهوم آخر بحسب هذا اللحاظ. وقد استشكل بأنَّ هذا الامر لا یختصّ بالمهیّة، فسائر المفاهیم أیضاً كذلك، فكیف جعلوه من خواصّ المهیّة؟ وقد أجاب عنه الاُستاذ(دامظلهالعالی) فی تعلیقته على الأسفار بأنّ هذا الحكم من خواصّ المهیّة وإنّما ینسب إلى غیرها من المفاهیم بالعرض لما بینها من الاتّحاد من جهة انتزاعها من المهیّات فی
1. راجع: نفس المصدر: ج2، ص2 و3.
الذهن.(1) لكنّه تكلّف واضح، مضافاً إلى ما سیأتی تحقیقه إن شاء الله تعالى أنّ المعقولات الثانیة الفلسفیّة لیست مأخوذة من المهیّات ومنتزعة عنها.
والحقُّ أنّ هذا الحكم عامٌّ لجمیع المفاهیم ولا یختصّ بالمفاهیم الماهویّة، لكن لسلب الوجود والعدم عن المهیّة بما هی هی معنى آخر، وهو أنّ المهیّة حیثیّة یعتبرها العقل منفكّة عن حیثیّة الوجود، ویجعلها موضوعاً فی الهلیّة البسیطة، وهی غیر حیثیّة المفهوم بما أنّه مفهوم، لما هو واضح من أنّ الحمل فی الهلیّة البسیطة حمل شائع لا أوّلیّ. فقولنا «الإنسان موجود» لیس معناه أنّ مفهوم الإنسان متّحد بالوجود بل معناه أنّ مصداقه الاعتباریّ متّحد به فی الخارج. فلهذه الحیثیّة مرتبة فی الذهن متقدّمة على مرتبة الاتّصاف بالوجود، ویسلب عنها الوجود والعدم لا بحسب الحمل الأوّلیّ فقط بل بنحو من الحمل الشائع بحسب تلك المرتبة الاعتباریّة أیضاً وإن كانت فی نفس الوقت متّصفة بالوجود بنظر آخر، وهذا السلب یناظر بوجهٍ سلبَ المفاهیم الماهویّة عن حقیقة الوجود.
هناك شبهة تنقدح فی أذهان لم تتدرّب بالعلوم العقلیّة، وهی أنّ خلوّ المهیّة عن الوجود والعدم ارتفاع للنقیضین وهو محال. وهذه الشبهة وإن كانت واهیة لكنّ الجواب عنها لا یخلو عن صعوبة. وقد اُجیب عنها بثلاثة أوجه:
الأول: أنّ معنى خلوّ المهیّة عن الوجود والعدم عدم اقتضائها بما هی هی لشیء منهما. ونقیض عدم اقتضاء الوجود لیس اقتضاء العدم، بل هو عدم ذلك العدم الذی ینطبق على اقتضاء الوجود، وكذا نقیض عدم اقتضائها للعدم هو
1. راجع: نفس المصدر: ذیل الصفحة (3).
اقتضاؤها له لا عدم اقتضائها للوجود. فارتفاع النقیضین فی ما نحن فیه إنّما هو بارتفاع الاقتضاء واللا اقتضاء، لا بارتفاع اقتضاء الوجود واقتضاء العدم.
الثانی: أنّ ارتفاع النقیضین عن مرتبة من الواقع غیر محال، وإنّما المحال ارتفاعهما عن جمیع مراتب الواقع، فإنّ رفع الطبیعة إنّما هو برفع جمیع الأفراد.(1)
الثالث: أنّ الوجود الذی یُنفىٰ عن المهیّة بما هی هی هو الوجود المقیَّد بكونه فی مرتبة ذاتها لا مطلق الوجود، ونقیضه هو رفع ذلك الوجود المقیَّد بأن تكون المرتبة ظرفاً للمرفوع لا للرفع، فهو رفع للمقیَّد لا رفع مقیَّد. وأمّا المسلوب عن المهیّة فهو الوجود المقیَّد والعدم المقیَّد، لا عدم الوجود المقیَّد، فسلبهما لیس رفعاً للنقیضین.
وفی الوجه الأوّل خروج عن مصبّ الإشكال، فإنّه كان متوجّهاً إلى رفع الوجود والعدم عن المهیّة والجواب متوجّه إلى رفع اقتضائها لهما. ولعلّه لأجل هذا لم یذكره فی المتن. وقد جعل الاُستاذ(دامظلهالعالی) الوجه الثالث مفسِّراً للوجه الثانی حیث قال «یعنون به» ویمكن توجیه هذا التفسیر بأنّ النقیضین فی الحقیقة عبارة عن وجود الشیء وسلب ذلك الوجود، وتصحّ صیاغتهما فی هلیّتین بسیطتین إحداهما موجبة والاُخرى سالبة. فقولنا «لیست المهیّة من حیث هی بموجودة» لیس هو نقیض قولنا «لیست المهیّة من حیث هی بمعدومة» بل هو نقیض «المهیّة من حیث هی موجودة» وهی قضیّة كاذبة.
لا یقال: هذه القضیّة فی قوّة القضیّة السابقة علیها، لأنّ السابقة كانت مشتملة على سلب السلب الذی هو فی قوّة الإیجاب.
فإنّه یقال: مفاد القضیّة الكاذبة هو إثبات الوجود فی مرتبة ذات المهیّة، فنقیضه سلب هذا الوجود المقیّد بكونه فی مرتبة الذات، لكن مفاد القضیّة السابقة هو سلب للسلب المقیّد لا لسلب الوجود المقیَّد.
1. راجع: نفس المصدر: ج2، ص4ـ5، مع تعلیقة لصدر المتألّهین نفسه.
والحاصل أنّ الوجود والعدم المقیَّدین لیسا بنقیضین، وإطلاق النقیضین علیهما هو بالمسامحة وباعتبار حالهما لو اُخذا مطلقین. وهذا هو مرادهم بأنّ ارتفاع النقیضین عن المرتبة غیر محال، یعنون به أنّ الوجود المقیّد والعدم المقیّد لیسا بنقیضین حقیقةً، لا أنّهما مع كونهما نقیضین حقیقیَّین یجوز ارتفاعهما، فإنّه لا معنى لتخصیص هذه القاعدة العقلیّة التی هی أبده البدیهیّات واُولى الأوائل.(1)
قال الشیخ فی إلهیّات الشفاء: «فإن سُئلنا عن الفرسیّة بطرفی النقیض مثلاً: هل الفرسیّة «ألِف» أو لیس «ألِفاً»؟ لم یكن الجواب إلاّ السلب لأیّ شیء كان، لیس على أنّ السلب بعد «من حیث» بل على أنّه قبل «من حیث» أی لیس یجب أن یقال إنّ الفرسیّة من حیث هی فرسیّة لیست بألف، بل لیست من حیث هی فرسیّة بألِف ولا شیء من الأشیاء ـ إلى أن قال ـ فإن سألَنا سائل وقال: ألستم تجیبون وتقولون إنّها لیست كذا وكذا، وكونها لیست كذا وكذا غیر كونها إنسانیّة بما هی إنسانیّة؟ فنقول: إنّا لا نجیب انّها من حیث هی إنسانیّة لیست كذا، بل نجیب انّها لیست من حیث إنّها إنسانیّة كذا، وقد عرفت الفرق بینهما فی المنطق».(2)
وقال صدر المتألّهین فی تعلیقته على الشفاء: «یرید أنّ المهیّة لیست من جهة نفسها أو باعتبار حدّها شیئاً آخر غیر نفسها ومقوّمات نفسها، من وحدة أو كثرة أو وجود أو عدم أو عموم أو خصوص أو شیء من طرفی المتناقضین، مع أنّها متّصفة بأحد الطرفین فی الواقع. وسلب الاتّصاف بشیء من حیثیّة لا ینافی الاتّصاف به من حیثیّة اُخرى. كما أنّ الإنسان لیس من حیث هو أبیض كاتباً، ولا
1. راجع: القبسات: ص21ـ22.
2. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ والمباحث المشرقیّة: ج1، ص48ـ51.
من حیث هو عالم متحرّكاً مع أنّه كاتب وعالم ـ إلى أن قال ـ وبالجملة إنّ للمهیّة بالقیاس إلى عوارضها حالتین:(1) إحداهما عدم الاتّصاف بها ولا بنقائضها أیضاً عندما اُخذتْ من حیث هی هی، وتلك الحالة بالقیاس إلى العوارض التی تعرضها «بشرط الوجود» كالكتابة والحركة وغیرهما؛(2) والاُخرى الاتّصاف بها حین اُخذتْ كذلك،(3) وهی بالقیاس إلى العوارض التی تعرضها «مع الوجود لا بشرط الوجود» كالوجود والوحدة والإمكان والشیئیّة وغیرها. فالمهیّة بالقیاس إلى عوارض الوجود تخلو عن الطرفین فی مرتبة من نفس الأمر، وهی مرتبة ذاتها قبل الوجود، وأمّا بالقیاس إلى عوارض نفسها فإنّها وإن لم تخلُ عن أحد الطرفین لكن لیست حیثیّة نفسها حیثیّة ذلك العارض. فالذی شرَط الشیخ من أن لا یكون السلب بعد «من حیث» إنّما هو بالقیاس إلى العوارض التی لا تخلو المهیّه من حیث هی من أحد طرفیها. وأمّا حالها بالقیاس إلى العوارض الخارجیّة فالخلوّ عنها وعن مقابلها فی تلك المرتبة جائز ـ إلى أن قال ـ ولهذا لو سئل بطرفی النقیض فی شیء من هذه العوارض كان الجواب الصحیح سلب كلٍّ منهما، ولو سُئل بالطرفین فی شیء من عوارض المهیّة كان الجواب السلب المذكور بتقدیمه على الحیثیّة. ولا یراد من تقدیم السلب على الحیثیّة أنّ ذلك العارض لیس من مقتضیات المهیّة حتّى صحّ الجواب فی لوازم المهیّة كما فهمه صاحب المواقف حیث قال «تقدیم الحیثیّة على السلب معناه اقتضاؤها للسلب» لظهور فساده، ولا الغرض من تقدیمه علیها أن لا یكون الجواب بالإیجاب العدولیّ المتقضی لوجود الموضوع، لأنّ مناط الفرق بین العدول والتحصیل فی تقدیم الرابطة علیها وتأخیرها عنه».(4)
1. وتلاحظ مثل هذا الكلام فی تعلیقة منه نفسه على الأسفار: ج2، ص5؛ وفی شرح المنظومة: ص89.
2. زاد فی التعلیقة على الأسفار هذه العبارة «على أن تكون القضیّة وصفیّة».
3. وزاد ههنا هذه العبارة «لكن لا من حیث هی هی بمعنى أنّ حیثیّتها غیر حیثیّة الذات».
4. راجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص181ـ182؛ وراجع: الأسفار: ج2، ص6.
وقال أیضاً: وقوله «وقد عرفت الفرق بینهما فی المنطق» إشارة إمّا إلى الفرق بین سلب الثبوت وثبوت السلب، أو إلى الفرق بین العنوان والمصداق، أو إلى الفرق بین الحمل الذاتیّ الأوّلیّ والحمل الشائع المتعارف، أو إلى الفرق بین سلب المقیّد والسلب المقیَّد».(1)
وقال الحكیم السبزوارىّ فی منظومته «وقدِّمَنْ سلباً على الحیثیّة * حتّى یعمَّ عارض المهیّة» ثمّ ذكر فی شرحه خلاصة ما نقلناه عن تعلیقة صدر المتألّهین على الشفاء، وقال فی آخره «وقد یقال فی تقدیم فائدة السلب غیر ذلك، وما ذكرنا أولى».(2)
وذلك لأنّ المهیّة إمّا أن تؤخذ لا بشرط أو بشرط، والتی تؤخذ بشرط إمّا أن تؤخذ بشرط إیجابیّ أو بشرط سلبیّ، والاُولىٰ هی المطلقة، والثانیة هی المخلوطة، والثالثة هی المجرّدة. ثمّ إنّهم لمّا لاحظوا أنّ هذه الأقسام طارئة للمهیّة وأنّها مقسم لها وأنّ اعتبار المقسمیّة غیر اعتبار الأقسام جعلوا اعتبار المقسم أشدَّ اطلاقاً من المهیّة المطلقة حیث لا یلاحظ فیها شیء حتّى اعتبار كونها لا بشرط،(3) فهی مطلقة حتّى من قید الإطلاق أیضاً، وسمَّوا هذا الاعتبار باللابشرط المقسمیّ. ثمّ وقع الخلاف فی أنّ الكلّیّ الطبیعیّ ـ وهو نفس المهیّة التی تعرضها الكلّیة فی الذهن ـ هل هی المهیّة
1. راجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص183.
2. راجع: شرح المنظومة: ص89ـ90؛ وراجع: القبسات: ص21ـ22.
3. راجع: القبسات: ص143ـ146؛ وراجع: الأسفار: ج2، ص19.
المطلقة أو المهیّة المقسمیّة التی تكون مطلقة من قید الإطلاق أیضاً؟ ونسب القول الأوّل إلى المحقّق الطوسیّ واشتهر القول الثانی بین المتأخّرین. وزعم بعض المعاصرین أنّ اعتبار المقسمیّة أیضاً ینافی مرتبة محوضة المهیّة، فإنّها فی ذاتها لیست قسماً ولا مقسماً، والكلّی الطبیعیّ عبارة عن تلك المرتبة.
ومنشأ هذه المناقشات هو تسمیة هذه الاعتبارات أقساماً للمهیّة، فنشأ عن ذلك توهُّم أنّ حیثیّة المهیّة بما أنّها مقسم غیر حیثیّتها بما أنها قسم، وإلاّ لزم قسمة الشیء إلى نفسه وغیره ووحدة المقسم والقسم، فاحتالوا لدفع ذلك باعتبار اللابشرط المقسمیّ، مع أنّ المقسم فی الحقیقة هو اعتبار الذهن وحاله بالنسبة إلى المهیّة، فإمّا أن یلاحِظ نفسَها من غیر أن یَعتبر معها شرطاً وجودیّاً أو عدمیّاً وهو اعتبار الإطلاق، وإمّا أن یلاحظها بشرط أن لا یكون معها غیرها وهو اعتبار التجرید، وإمّا أن یلاحظها بشرط أن یكون معها غیرها وهو اعتبار الاختلاط، ولیس وراء هذه الاعتبارات الثلاث اعتبار آخر یسمَّى باللابشرط المقسمیّ فضلاً أن یكون وراءه اعتبار خامس! وذلك مثل أنّ تصوّر زید لا یخلو من أن یكون بشرط كونه عاریاً (اعتبار لا بشرط) أو بشرط كونه متلبّساً (اعتبار بشرط شیء) أو لا بشرط العراء ولا بشرط التلبّس (اعتبار لا بشرط) فلا یكون هناك اعتبار رابع، وإلاّ احتاج إلى مقسم آخر وصار اعتباراً خامساً وهكذا. وقد ظهر بذلك أنّ الكلّیَّ الطبیعیَّ هو المهیّة المطلقة كما عن المحقّق الطوسیّ.
یرید أنّ للمهیّة بشرط لا اصطلاحین: أحدهما ما یستعمل فی مقابل المطلقة والمخلوطة، ومعناه تجرید المهیّة عن جمیع ما عداها حتّى لوازمها، وثانیهما ما یستعمل فی مورد المادّة فی مقابل الجنس، ومعناه أخذ المهیّة تامّة بحیث إذا انضم
إلیها أیُّ شیء آخر كان خارجاً عنها غیرَ متمّم لها، بخلاف الجنس حیث یؤخذ مبهماً ومردّداً بین أنواع، فبانضمام الفصل إلیه یتحصَّل ماهیّةً تامّة.(1) وسیأتی توضیحه فی الفصل الخامس من هذه المرحلة فی المتن.
قال فی شرح الإشارات: «مثاله الحیوان إذا اُخذ بشرط أن لا یكون معه شیء ـ وإن اقترن به الناطق مثلاً صار المجموع مركّباً من الحیوان والناطق ولا یقال له إنّه حیوان ـ كان مادّةً؛ وإذا اُخذ لا بشرط أن لا یكون معه شیء بل من حیث یحتمل أن یكون إنسانا أو فرسا ـ وإنیُخصَّصْ بالناطق مثلاً یحصلْ إنساناً ویقال إنّه حیوان ـ كان جنساً؛ وإذا اُخذ بشرط أن یكون مع الناطق متخصّصاً ومتحصّلاً به كان نوعاً».(2)
قال الاُستاذ(دامظلهالعالی) فی تعلیقته على الأسفار: «بحث آخر من أبحاث المهیّة ینحلّ إلى عدّة مسائل كلّها قریبة من البداهة:
منها أنّ المهیّة التی تعرضها الكلیّة فی الذهن والشخصیّة فی الخارج هل هی بعینها موجودة فی الخارج؟ والجواب بالإثبات، لا بمعنى أنّ المهیّة عین حیثیّة الموجودیّة الخارجیّة بل بمعنى نحو من الاتّحاد مع الوجود الخارجیّ على ما تقدّم فی بحث أصالة الوجود واعتباریّة المهیّة.
ومنها: أنّ المهیّة هل هی موجودة بوجود منحاز عن وجود الأفراد أو لا؟ والجواب بالنفی.
ومنها: أنّ المهیّة الموجودة فی أفرادها هل هی متكثّرة بتكثّر الأفراد بمعنى أنّ فی
1. راجع: الأسفار: ج2، ص16ـ22؛ وراجع: المسألة الثالثة من الفصل الثانی من الشوارق؛ والفصل الثالث من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص507ـ508.
2. راجع: شرح منطق الإشارات: ص25.
كلّ فرد مهیةً غیر ما فی غیره بالعدد أو إنّها واحدة فی الجمیع بانطباقها علیها جمیعاً؟ والجواب باختیار الشقّ الأوّل، لأنّ التحقّق الخارجیّ یمنع الاشتراك والعموم، فالمهیّة موجودة فی كلّ فرد بوجود على حدة، وإنّما توصف بالكلیّة فی الذهن».(1)
وقد أشرنا سابقاً تحت الرقم (10) إلى صلة مسألة أصالة الوجود أو المهیّة بمسألة الكلّی الطبیعیّ، وإلى أنّ الجمع بین اعتباریّة المهیّة ووجود الكلّی الطبیعیّ فی الخارج یقتضی جعل وجود الكلّی الطبیعیّ وجوداً بالعرض، وإلى أنّ معنى وجوده كذلك هو أنّ العقل یعتبر الصورة العقلیّة الحاكیة عن حدود الموجودات المحدودة نفسَ محكیّها، فیعتبر المهیّة أمراً ثابتاً فی الخارج بعرض الوجود. فبصرف النظر عن هذا الاعتبار العقلیّ لا وجود للمهیّة (الكلّی الطبیعیّ) فی الخارج، وهذا المعنى هو الذی حمل علیه صدر المتألّهین كلامَ العرفاء حیث قالوا: «إنّ الأعیان الثابتة ما شمّت رائحة الوجود» فالقول بوجود الكلّی الطبیعیّ على القول بأصالة الوجود إنّما یصحّ بالنظر إلى ظرف الاعتبار.
واعلم أنّ المحقّق الشریف جعل النزاع فی وجود الكلّی الطبیعیّ وعدمه لفظیّاً حیث قال فی كلام له: «فظهر من ذلك كلّه أنّ من قال بوجود الطبائع فی الأعیان إن أراد به أنّ الطبیعة الإنسانیّة مثلاً بعینها موجودة فی الخارج مشتركة بین أفرادها لزمه أن یكون الأمر الواحد بالشخص فی أمكنة متعدّدة، ومتّصفاً بصفات متضادّة، لأنّ كلّ موجود خارجیّ یجب أن یكون متعیّناً ممتازاً فی ذاته غیرَ قابل للاشتراك فیه كما مرّ؛ وإن أراد أنّ فی الخارج موجوداً إذا تُصُوِّر هو فی ذاته اتّصف صورته بالكلیّة بمعنى المطابقة فهو أیضاً باطل لما مرّ آنفاً؛ وإن أراد أنّ فی الخارج موجوداً إذا تُصُوِّر وجُرِّد عن مشخّصاته حصل منه فی العقل صورة كلیّة فذلك بعینه مذهب من قال: لا وجود فی الخارج إلاّ للأشخاص، والطبائع الكلّیة منتزعة منها، فلا نزاع إلاّ فی العبارة».
1. راجع: الأسفار: ج2، ذیل الصفحة 7ـ8.
وقال المحقّق اللاهیجیّ بعد نقل هذا الكلام: «نختار الشقّ الثالث، والنزاع بیننا وبین النافی معنویٌّ، فإنّا نقول: الصورة المجرّدة المنتزعة عن الشخص مهیّة للفرد وهو موجود فی الخارج، فیجب أن یكون مهیّته موجودة فی الخارج ـ إلى أن قال والنافی یمنع كون المهیّة موجودة ویقول بوجود الأفراد فقط، فكیف لا یكون النزاع إلاّ فی العبارة؟ نعم، یمكن أن یقال: إنّ مراد النافی هو أنّ المهیّة لیس لها وجود على حدة بتوهّم أنّ من یقول بوجودها یقول بوجود على حدة، وحینئذ یرتفع النزاع المعنویّ بیننا وبینه، لكن بإرجاع مذهبه إلى مذهبنا».(1)
أقول: ویمكن جعل النزاع معنویّاً بإرجاعه إلى النزاع فی أصالة الوجود أو المهیّة، فإنّ القول بأصالة المهیّة هو القول بوجود الكلّی الطبیعیّ فی الخارج حقیقةً، والقول بأصالة الوجود هو القول بوجوده بعرض الأفراد، فتدبّر جیّداً.
اتّصاف المهیّة بالوحدة قد یكون بلحاظ المفهوم، ویعبّر عنها بالوحدة النوعیّة، ولا ینافیها تكرّر حصول المفهوم فی ذهن واحد أو أذهان مختلفة، وهذه الوحدة ممّا لا كلام فیه. وقد یكون بلحاظ الوجود ویعبّر عنها بالوحدة العددیّة والشخصیّة، وهذا هو محلّ الكلام.
وقد جعل فی القبسات الوحدةَ العددیّة أعمَّ من الشخصیّة حیث قال: «إنّ الوحدة العددیّة على ضربین: وحدة عددیّة شخصیّة موضوعها هویّات الأشخاص الممتنعة الحمل على كثیرین، ووحدة عددیّة كلّیة مبهمة موضوعها الطبائع المرسلة»(2) وتسمیة الأخیر وحدة عددیّة لا یعدو حدّ الاصطلاح الخاصّ.
1. راجع: المسألة الثالثة من الفصل الثانی من الشوارق: ص143ـ144.
2. راجع: القبسات: ص148.
>ثمّ إنّ المهیّة الموجودة فی الخارج تتعدّد بتعدّد الأفراد، ولا یصحّ فرض موجود واحد بالعدد فی الأفراد المتكثّرة، وإلاّ عاد الواحد كثیراً، ولزم اتّصافه بصفات متقابلة.(1) لكن حكى الشیخ فی رسالة له إلى علماء دار السلام(2) أنّه لاقىٰ رجلاً فی مدینة همدان، كان یظنّ أنّ الطبیعیَّ واحد بالعدد وموجود بوحدته العددیّة فی جمیع الأفراد وأنّ نسبته إلیها كنسبة الأب الواحد إلى الأبناء، وقد شنّع علیه وبیّن أنّ نسبته إلیها كنسبة الآباء إلى الأبناء.
وتشبیه نسبة الطبیعیّ الموجود فی كلّ فرد إلى ذلك الفرد بنسبة الأب إلى الابن مبنیٌّ على كون الفرد متفرّعاً على الطبیعیّ ومتوقّفاً علیه، وذلك باعتبار الفرد مجموعاً من الطبیعیّ والمادّة والعوارض، كما یستفاد من عبارات الشیخ(3) وغیره. وهذا واضح بناءً على أصالة المهیّة، فإنّ المصداق الذاتیَّ لكلّ مفهوم إنّما هو نفس الحیثیّة التی ینطبق علیها ذلك المفهوم، فالمصداق الذاتیُّ لمفهوم الإنسان إنّما هو نفس حیثیّة الإنسانیّة الموجودة فی زید والتی یوجد مثلها فی عمرو وبكر و... لكن كلٌّ من زید وعمرو وبكر و... یكون مصداقاً عرضیّاً له لاشتماله على العوارض المشخّصة.
وأمّا بناءً على أصالة الوجود فالّذی یوجد حقیقةً فی الخارج هو الوجود العینیّ البسیط لكلّ فرد من أفراد الإنسان، ویكون هذا الوجود الخاصّ مصداقاً للمهیّة بمعنى أنّ العقل ینال ذلك المفهوم الكلّی منه. وحیث إنّ الوجود متشخّص بالذات فلا یحتاج فی تشخّصه إلى لحوق عوارض، بل یكون لكلّ من العوارض وجوده
1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الخامسة، والفصل الثانی من المقالة السابعة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص188ـ192؛ وراجع: الفصل الخامس من المقالة الخامسة من الفنّ السادس من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج2، ص8.
2. راجع: رسائل ابن سینا: ص462ـ479.
3. راجع: الفصلین الأوّلین من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: المسألة الثالثة من الفصل الثانی من الشوارق: ص144ـ145.
الخاصّ إن لم تكن الجمیعُ مراتب وجود واحد. وعلى هذا فلا یكون الكلّی الطبیعیُّ موجوداً حقیقةً بل بعرض الوجودات الخاصّة، فلا یتصوّر هناك تركیب بین الطبیعیّ والعوارض حتّى یشبَّه الطبیعیّ بالأب والمجموع منه ومن العوارض بالابن، وإنّما هناك وجود ذو مراتب أو ذو شؤون ینتزع من بعض مراتبه وشؤونه المفهوم الجوهریّ الإنسانیّ ومن بعضها المفاهیم العرضیّة، أو هناك وجودات للجوهر والأعراض ینضمّ بعضها إلى بعض. نعم، بناءً على الوجه الأخیر یصحّ اعتبار الوجود الخاصّ الإنسانیّ فرداً ذاتیّاً للإنسان، والمجموع من الوجودات المنضمّة فرداً عرضیّاً له، وذلك باعتبار ثبوت للمهیّة فی الخارج متّحداً مع الوجود العینیّ، وأمّا بصرف النظر عن الثبوت الاعتباریّ للمهیّة فلا مجال لذلك، فتبصّر.
هما وصفان للمفهوم (بمعناه العامّ الشامل للإدراكات الحسیّة والخیالیّة) یبحث عنهما فی المنطق على ما هو شأن المعقولات الثانیة المنطقیّة. وتوصف المهیّة بالكلّیة باعتبار عروض هذا الوصف لها فی الذهن بالنظر إلى انطباقها على جمیع أفرادها الخارجیّة،(2) كما توصف المهیّة المخلوطة بالجزئیة لعدم قبولها الانطباق المذكور، ولأجل ذلك یَبحث عنهما الفیلسوف، وقد جعلهما الشیخ من العوارض الذاتیّة للوجود.(3)
ثمّ إنّهم عرّفوا الكلّی بما یقبل الانطباق على كثیرین، أو ما لا یمتنع فرض
1. راجع: الأسفار: ج4، ص211؛ وج2: ص9؛ وراجع: المسألة الثالثة من الفصل الثانی من الشوارق.
2. راجع: الفصل الثانی من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص501 و 504.
3. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء.
صدقه على كثیرین، أو ما لا یمتنع من الشركة. وهذه العبارات وإن كانت تبدو واضحة متقاربة إلاّ أنّه بالتعمّق فیها تظهر نقاط مبهمة تحتاج إلى التفسیر والتوضیح. فإذا ركزنا على «الانطباق على أكثر من واحد» كملاك للكلّیّة ربما یتوهَّم أنّ القوالب والمقاییس والنقوش كلّها كلیّة لانطباقها على اُمور كثیرة، ومن جانب آخر فإنّ الصورة الخیالیّة بل الحسیّة أیضاً قابلة فی حدّ أنفسها للصدق على كثیرین. وإن جعلنا المقسم هو المفهوم وخصّصنا الانطباق بما فی المفهوم خرجت المهیّة المخلوطة من المقسم مع أنّهم یصفونها بالجزئیة. وإذ ركزنا على «عدم الامتناع من الشركة»(1) اتّجه وصف المفاهیم العقلیّة أیضاً بالجزئیّة لقیام كلّ مفهوم بذهن خاصّ فی زمان معیّن فیمتنع من الشركة، إلاّ أن تفسَّر «الشركة» بالصدق أو الانطباق على غیر واحد، فتشترك فی الإبهام الذی یوجد فیهما.
ثمّ إنّ عدم الانطباق أو الصدق المأخوذ فی تعریف الجزئیّ یمكن أن یعتبر سلباً تحصیلیّاً یصدق مع انتفاء الموضوع، فیشمل ما لیس له انطباق أو صدق أصلاً كالوجود العینیّ، ویمكن أن یعتبر إیجاباً عدولیّاً یختصّ بما له انطباق وصدق إلاّ أنّه لا ینطبق على الكثیر كالصورة الإدراكیّة الجزئیة. والجزئیُّ بالمعنى الأوّل یشمل الشخص الخارجیَّ أیضاً لصحّة سلب الصدق على كثیرین عنه سلباً تحصیلیّاً، وبالمعنى الثانی یختصّ بالإدراكات الجزئیّة لاستلزامه موضوعاً مشتركاً بینه وبین الكلّی، وهو المفهوم بالمعنى العامّ، فالشخص العینیُّ لیس بكلّی ولا جزئیّ، وهو من الموارد التی یرتفع عنها المتقابلان فی غیر المهیّة كما أشرنا إلیه سابقاً.
وبصدد توضیح هذه النقاط نقول: لا شكَّ أنّ مجرّد انطباق شیء على أشیاء ـ ولو كان من قبیل انطباق القالب والنقش ـ لیس ملاك الكلّیة،(2) وإن سمّی مثلهما كلّیاً كان
1. راجع: الأسفار: ج3، ص364 مع تعلیقة السبزواریّ علیه.
2. راجع: الأسفار: ج2، ص9؛ وراجع: التلویحات: ص18؛ والمطارحات: ص331.
خارجاً عن مصطلح العلوم، كما أنّ إطلاق الكلّی على العقول أو النفوس لیس بهذا المعنى المستعمل فی باب المفاهیم والمهیّات نظیر وصف الإطلاق الذی مرّ الكلام فیه.(1) فالكلّیة ههنا إنّما هی بالنظر إلى انطباق المفهوم على المصادیق المتعدّدة. وأمّا جزئیّة الصور الحسیّة والخیالیّة مع قابلیّة انطباقها فی حدّ أنفسها على الكثیر فسیأتی الكلام فیه فی آخر هذا الفصل وأنّ اتّصافها بالجزئیّة یكون من قِبل الاتّصال بالخارج.(2)
والأولى أن یقال: إن المراد بانطباق المفهوم على المصادیق المتعدّدة وعدمه لیس أن یلاحظ المفهوم مستقلا ویلاحظ المصداق ویقاس بینهما فیختبر هل یصحّ انطباقه على مصادیق متعدّدة أو لا، فإنّ المفاهیم الجزئیّة إذا لوحظت كذلك كانت قابلة للصدق على أكثر من واحد، بل المراد أن یلاحظ حال المفهوم بما أنّه آلة ومرآة للمصداق «بها یُنظر» لا «إلیها یُنظر» هل یحكی بالفعل عن أمر شخصیّ متعیّن أو لا. وبعبارة اُخرى: إذا كان المفهوم یُرینا شیئاً خاصّاً بعینه كصورة «زید» كان جزئیّاً، وإلاّ كان كلّیاً.
وقد ظهر بذلك أنّ ما یصحّ اتّصافه بالكلّیة والجزئیّة بهذا المعنى إنّما هو المفهوم بمعناه العامّ لا غیر، فلابدّ أن یجعل مقسم الكلّی والجزئیّ هو المفهوم كما فعل المنطقیّون. أمّا اتّصاف المهیّة بالكلّیة فی الذهن فلتصادقها مع المفهوم فیه تصادقاً جزئیّاً، وإن شیءت قلت: حقیقة المهیّة لیست إلاّ المفهوم كما قال صدر المتألّهین «فلا تكون إلاّ مفهوماً كلّیاً».(3) وأمّا اتّصاف المهیّة المخلوطة بالجزئیّة فإمّا أن یكون بلحاظ اعتبار الخارجیّة لها واتّحادها بالوجود الخارجیّ الذی هو متشخّص بالذات، وإمّا أن یكون الجزئیّ بمعنى غیر الكلّی والمرادف للشخصیّ. وأمّا إطلاق المهیّة على الصور الجزئیّة كما ربما یوجد فی كلماتهم(4) فمبنیٌّ على
1. راجع: الفصل الثالث من المرحلة الاُولى من المتن.
2. راجع: تعلیقة الاُستاذ على الأسفار: ج2، ذیل الصفحة 11.
3. راجع: الأسفار: ج2، ص2.
4. راجع: نفس المصدر: ج1، ص198.
المسامحة. قال الشیخ: «وكأنّ المهیّة إذا قیلت على التی فی الجنس والنوع وعلى التی للفرد الشخصیّ كان باشتراك الاسم».(1) وأمّا إطلاق الجزئیّ على الصور العقلیّة والمفاهیم الذهنیّة فهو بلحاظ وجودها فی الذهن لا بلحاظ محتواها الإدراكیّ.
وجدیر بالذكر أنّه ربما یوجد فی كلماتهم تعبیر «الشخص المنتشر» ویراد به المفهوم الكلّی مضافاً إلیه مفهوم الشخص، وقد یراد به الشبح الذی یقبل انطباق مفاهیم متعدّدة علیه لأجل الجهل.(2)
لهذا الكلام تفسیر آخر، وهو أنّ الكلّی والجزئیّ وصفان للصورة الإدراكیّة، لأنّها التی من شأنها الانطباق والصدق المعتبر فی هذین الوصفین، فإن كانت مدرَكة بالعقل كانت كلّیة وإلاّ كانت جزئیّة. وأمّا الأعیان الخارجیّة فلا توصف بكلیّة ولا جزئیّة لخروجها عن المقسم. وقد أشار فی الأسفار إلى تأویل آخر له. ولا یخفى أنّ القول بأنّ إدراك الكلّیات هو فی الحقیقة مشاهدة الحقائق العقلیّة عن بُعد ـ كما ارتضاه صدر المتألّهین وتبعه الاُستاذ(دامظلهالعالی) ـ أیضاً نحو من القول بأنّ الكلیّة والجزئیّة فی نحو الإدراك، فتأمّل جیّداً.
هناك ألفاظ متقاربة بحسب المعنى كالتمیّز والتعیّن والتخصّص والتشخّص فی مقابل الاشتراك والإبهام والعموم والكلّیة، ویختصّ بعضها بمزید الملاءمة مع بعض
1. راجع: الفصل الثامن من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء.
2. راجع: التحصیل: ص506ـ507؛ وراجع: التعلیقات: ص119.
3. راجع: الأسفار: ج2، ص10؛ والمسألة السادسة من الفصل الثانی من الشوارق: ص164.
الاعتبارات. قال فی الشوارق: «النسبة بین التشخّص والتمیّز هو العموم من وجه، فإنّ الأوّل یتحقّق بدون الثانی فی الشخص الغیر المعتبر مشاركته مع غیره فی مفهوم من المفهومات، والثانی بدون الأوّل فی الكلّی الذی یكون جزئیّاً إضافیّاً، ویجتمعان فی الشخص إذا اعتبر مشاركته مع غیره فی مفهوم من المفهومات».(1)
وقال فی الأسفار: «إنّ تعیُّن الشیء غیر تشخُّصه، إذ الأوّل أمر نسبیّ دون الثانی»،(2) وقال فی كلامه المنقول فی المتن: «فإنّ الامتیاز فی الواقع غیر التشخّص، إذ الأوّل للشیء بالقیاس إلى المشاركات فی أمر عامّ، والثانی باعتباره فی نفسه».(3)
وأمّا هذا البیان فناظر إلى وجه امتیاز الأشیاء المشتركة باعتبار قیاس بعضها إلى بعض،(4) لكن لا توجب هذه التمیّزات المذكورة تشخُّص الشیء فی نفسه بحیث یسلب عنه الكلّیة والصدق على كثیرین، فإنّ ضمَّ ألْفِ قید كلّی لا یوجب امتناع صدقه على كثیرین عقلاً.(5) فالتشخّص وصف ذاتیّ للوجود لا یشترك فیه غیره إلاّ بعرضه، وهذه الخاصّة ممّا یدلّ على أصالته.
المراد بالذاتیّ هنا هو الذاتیّ فی كتاب إیساغوجى، وأمّا الذاتیُّ فی كتاب البرهان فهو
1. راجع: المسألة السادسة من الفصل الثانی من الشوارق: ص168.
2. راجع: الأسفار: ج2، ص15.
3. راجع: نفس المصدر: ص10؛ وراجع: شرح المنظومة: ص101ـ102.
4. راجع: المطارحات: ص333؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص207.
5. راجع: الفصل الثامن من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدرالمتألهین علی إلهیّات الشفاء: ص204ـ206؛ والمطـارحات: ص333ـ339؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص74ـ78؛ والتحصیل: ص505507؛ والقبسات: ص197.
أعمُّ منه، ویشمل كلَّ وصف ثابت للشیء بحسب حال نفسه بحیث یكفی ذاته لانتزاعه، ویعرَّف بالمحمول الذی یؤخذ فی حدّ الموضوع أو یؤخذ الموضوع أو أحد مقوّماته فی حدّه.(1) وربما یتوهَّم أنّ الذاتیَّ وصف للجواهر والعرضیَّ للأعراض، وهو وهم فاسد، فإنّ للأعراض أیضاً ذاتیّاتٍ وعرضیّات، فلها أنواع وأجناس وفصول كما للجواهر، ولیست بأنفسها قابلة للحمل على الجواهر. نعم، تؤخذ منها عناوینُ انتزاعیّة هی محمولات عرضیّة للجواهر كالكاتب والماشی (دون الكتابة والمشی).(2)
ثمّ إنّ قوله «المفاهیم المعتبرة فی المهیّات» كأنّه إشارة إلى أنّ المهیّة فی الحقیقة هی النوع، وأمّا الجنس والفصل فهما یحصلان من تحلیل الذهن لمفهوم الطبیعة النوعیّة، فهما جزءان ذهنیّان لها. وأمّا العرضیّ العامّ والخاصّ فبما أنّهما مفهومان مشتقّان لا یكونان من المهیّات، وأمّا مبدء اشتقاقهما فقد یكون عرضاً وقد یكون جوهراً، وعلى أیّ حال یدخل فی النوع.
یرید أنّه بناءً على كون العرض من مراتب وجود الجوهر لا یكون وجوده خارجاً عنه حتّى ینضمّ إلیه ویصیر العرضیّ المأخوذ منه محمولاً بالضمیمة. فاصطلاح المحمول بالضمیمة إنّما یوافق قول المشهور من كون وجود العرض منضمّاً إلى وجود الجوهر لا من مراتبه.
لمّا أشار إلى أنّ الذاتیَّ متقدّم على ذی الذاتیّ تقدُّماً بالتجوهر تعرّض لشبهة وهی أن
1. راجع: التحصیل: ص9ـ12 وص209؛ وراجع: منطق شرح الإشارات.
2. راجع: شرح منطق المنظومة: ص28ـ29.
الأجزاء نفس الكلّ فكیف یُتصوَّر تقدُّمها علیه؟ وهل هذا إلاّ تقدُّم الشیء على نفسه؟ وأجاب عنها بوجهین: أحدهما أنّ تسمیة الذاتیّات بأجزاء الذات إنّما هو باعتبار كونها أجزاء الحدّ. وثانیهما أنّ اعتبار الأجزاء بالأسر هو اعتبارها فی حال الاجتماع من غیر أن یؤخذ فیها وصف الاجتماع شرطاً أو شطراً، بخلاف اعتبار الكلّ حیث إنّه اعتبار الأجزاء بشرط الاجتماع، والاعتبار الأوّل متقدّم على الثانی.(1)
بیان للفرق بین المهیّة بشرط لا والمهیّة لا بشرط.(2) والمراد بالمهیّة بشرط لا ههنا هو المعنى الثانی من المعنیین اللذینِ ذكرهما فی الفصل الثانی من هذه المرحلة.(3)
لأنّه إذا كان كلُ واحد من الأجزاء مستغنیاً عن سائرها لم یكن بینها ارتباط فلم یحصل منها ماهیّة واحدة حقیقةً، ففرض كونها أجزاءَ مهیّة واحدة هو بعینه فرض تقوُّم بعضها ببعض.(4) ومفاد هذه القضیّة هو احتیاج الأجزاء بعضها إلى بعض فی الجملة، وأمّا تعیین المحتاج والمحتاج إلیه فیحتاج إلى بیان آخر، وقد تصدّى له
1. راجع: شرح حكمة المنظومة: ص99؛ وراجع: المسألة الخامسة من الفصل الثانی من الشوارق: ص151ـ152 و 160؛ وراجع: القبسات: ص59.
2. راجع: الأسفار: ج2، ص16ـ18 و 25 و 29ـ30؛ الفصل الثالث والفصل السادس من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صـدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص192؛ والمبـاحث المشـرقیة: ج1، ص6263؛ والمطارحات: ص340؛ والشوارق: ص153؛ والتحصیل: ص507508.
3. راجع: هذه التعلیقة: الرقم (87).
4. راجع: الشوارق: ص152؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص178.
بقوله «والمحتاج إلیه والعلّة...» ولا یخفى أنّ إطلاق العلّة على جزء المهیّة من باب التوسُّع فی مفهوم العلّة، فافهم.(1)
وحاصل هذه الحجّة أنّه لو كان الجنس علّة الفصل لزم حصول فصول متقابلة لازمة له، لاستحالة انفكاك المعلول عن العلّة، ولزم منه اتّصاف جنس واحد بصفات متقابلة «فیكون الشیء الواحد مختلفاً متقابلاً، هذا ممتنع» والأولى أن یُجعل التالی علّیةَ شیء واحد بما أنّه واحد لأشیاءَ كثیرةٍ.
لا یقال: كلُّ حصّة من الجنس علّة لفصل خاصّ، فلا تجتمع المتقابلات فی شیء واحدبماأنّه واحد. فإنّه یقال: حصص الجنس مشتركة فی المعنى الجنسیّ، فلا اقتضاء فیها لأشیاءَ متقابلةٍ، على أنّ الحصص لا تحقُّق ولا تمیُّز لها قبل لحوق الفصول بها.(2)
هذا، ولكن قد أشرنا إلى أنّ الجنس والفصل هما من الأجزاء التحلیلیّة الذهنیّة للمهیّة، ولیس بینهما تأثیر وتأثّر حقیقیّ، وغایة مایمكن أنیقال فی تقُّوم الجنس بالفصل أنّ المفهوم الجنسیّ حیث إنّه مفهوم مبهم یحتاج إلى المفهوم الفصلّی حتّى یتمیّز ویتحصّل كمهیّة تامّة. والذی أوقعهم فی هذه التكلّفات هو زعمهم أنّ الجنس والفصل مأخوذان من المادة والصورة الخارجیّتین، وقد ذهبوا الى انّ الصورة شریكة العلّة للمادّة فأجَروا حكمهما فی الجنس والفصل أیضاً، وللكلام ذیل طویل وأصول وفروع ستطّلع علیها فی الأبحاث القادمة، ولعلّك تلاحظ أثر القول بأصالة المهیّة فیها.
قال الاُستاذ(دامظلهالعالی) فی تعلیقته على الأسفار ـ مشیراً إلى عدم كون أحدهما ذاتیّاً للآخر وإلا لدخل فی حدّه ـ ما هذا لفظهُ: «فلو دخل الفصل فی حدّ الجنس انقلب المقسّم
1. راجع: الشوارق: ص156ـ157.
2. راجع: الأسفار: ج5، ص127؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص206؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص68.
مقوّماً هف، ولو دخل الجنس فی حد الفصل أدّى ذلك إلى تكرّر الجنس فی حدّ الفصل إلى غیر النهایة، لأنّه یحتاج فیه إلى فصل یقسّمه ویحصّلُه وهو داخل فی حدّه أعنی حدّ فصل الفصل، وهلمّ جرّاً. فكلٌّ من الجنس والفصل خارج عن حدّ الآخر زائد علیه، والحمل بینهما شائع».(1) وقال بهمنیار: «واعلم أنّ الجنس لیس جنساً للفصل البتّة، ولا الفصل نوعاً للجنس، وإلاّ لاحتاج إلى فصل آخر...»(2) وسیأتی تتمّة الكلام فی الفصل اللاحق.
الذی یعدّ من الكیفیّات المسموعة هو الصوت الحاصل من التكلّم لا نفسه، ویمكن عدّ التكلّم من مقولة «أن یفعل» كما یمكن عدّ إدراك الكلّیات فعلاً أو انفعالاً أو إضافة أیضاً بحسب الأقوال المختلفة فیه.(3)
المشهور تسمیته بالفصل المشهوریّ واختصاص الفصل المنطقیّ بمفهوم الفصل كالكلّی المنطقیّ الذی یطلق على مفهوم الكلّی، لكنّ الفصل المنطقیّ قد یطلق على المشتقّ الذی ینحلّ إلى ذات ثبت له مبدء الاشتقاق.(4)
1. راجع: الأسفار: ج2، ذیل الصفحة 16.
2. راجع: منطق التحصیل: ص19؛ وراجع: الفصل السادس من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: المسألة الخامسة من الفصل الثانی من الشوارق: ص159؛ والمطارحات: ص295 و 366.
3. راجع: الأسفار: ج2، ص25.
4. راجع: الفصل السابع من المقالة الخامسة من الهیات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص303 و 514.
كون الفصل محصِّلاً لإبهام الجنس لا یقتضی اشتماله على حقائق الأجناس والفصول ومفاهیمها، كیف وهو مفهوم بسیط لا یوجد فیه أىُّ مفهوم آخر، فلا یوجد فی مفهوم النطق شیء من مفاهیم الجسم والنامی والحسّاس وغیرها. قال فی الشفاء: «إنّ الناطق هو «شیء له نطق» فلیس فی كونه شیئاً له نطق هو أنّه جوهر أو عرض، إلاّ أنّه یعرف من خارج أنّه لا یمكن أن یكون هذا الشیء إلاّ جوهراً أو جسماً».(1)
هذا مخلص لإشكال، وهو أنّ حدّ الإنسان لا یصدق على النفس بعد مفارقة البدن، فلا تكون إنساناً حقیقةً بل هی نوع آخرُ، لأنّ الحقیقة إلانسانیّة التّی تُعرَّف بحدّها التامّ تشتمل على الجزء الجنسیّ أعنی الجسم، وبانتفائه تنتفی تلك الحقیقة. فأجابوا عنه بأنّ نوعیّة النوع محفوظة بالفصل ولو تبدّل بعض أجناسه، فإنسانیّة الإنسان منحفظة بانحفاظ فصله المأخوذ من صورته أی من نفسه الناطقه.(2)
لكن یرد علیه عدّة إشكالات: منها أنّ الذاتیّ لا یتخلّف فكیف یصحّ فرض انتفاء الجنس مع بقاء الذات؟ ومنها أنّ الكلَّ ینتفی بانتفاء جزئه، فكیف یجوز الحكم ببقاء الذات مع انتفاء بعض أجزائه أو تبدّله بجزء آخر؟ ومنها أنّه قد مرّ أنّ الفصل خاصّة للجنس، فكیف یستصحّ وجوده فی جنس آخر؟ إلى غیر ذلك.
والحقّ فی الجواب أن یقال: إنّ معنى بقاء إنسانیّة الإنسان بعد مفارقة النفس
1. راجع: الأسفار: ج2، ص38؛ والفصل السادس من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص515؛ والمطارحات: ص341.
2. راجع: الأسفار: ج2، ص35ـ36؛ وج5: ص136ـ137.
للبدن هو بقاء كمالاته الوجودیّة لا بقاء حدّه الماهویّ ولا تلازم بین بقاء الوجود على كمالاته وانحفاظ المهیّة على حدّها، وإنّما یتأتّى هذا الجواب بفضل القول بأصالة الوجود، فلا تغفل. وقد أشرنا سابقاً إلى بقاء رسوبات القول بأصالة المهیّة بعدُ، وإنّ هذا الاختلاط أیضاً ناشىء منها، فتفطَّن.
ثمّ إنّ الشیخ ذكر ضوابطَ للفصل(1) لا نطیل بذكرها.
قد اشتهر منهم أنّ أجناس الجواهر وفصولها جواهر، وأجناس الأعراض وفصولها أعراض، واستدلّوا له بأنـّه لولا ذلك لجاز أن یكون مثلاً فصل الجوهر عرضاً وفصل العرض جوهراً، ویلزم منه تقوّم الجوهر بالعرض وبالعكس ودخول المقولات بعضها فی بعض.(2) واعترض علیه بأنـّه لو كان فصل الجوهر جوهراً لزم أن یكون الفصل مهیّة مركّبة من جنس وفصل وكان جنسه الجوهر واحتاج إلى فصل آخر وهلّم جرّاً فیتسلسل. وقد ناقش فیه شیخ الإشراق(3) والإمام الرازیّ أیضاً بوجوه عدیدة. وقال الرازیُّ بعد كلام له: «إنّا لا نتخلّص من هذه الشكوك إلاّ إذا جعلنا الجوهریّة من قبیل اللوازم الخارجیّة بالنسبة إلى ما تحتها».(4)
وقد تعرّض صدر المتألّهین لتشكیكات الرازیّ وأجاب عنها بوجوه متعدّدة، ثمّ قال: «والحلّ فی الجمیع أنّ جنسیّة الجنس لا یقتضی أنیكون جنساً لجمیع ما یندرج تحته سواء كان نوعاً محصَّلاً أو فصلاً محصِّلاً، بل الأجناس كلّها عرضیّات
1. راجع: الفصل الرابع من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص198ـ200؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص69ـ71.
2. راجع: الفصل الثامن من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص303 و514.
3. راجع: المطارحات: ص228 و233 و290؛ وحكمة الإشراق: ص86ـ87.
4. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص66.
بالقیاس إلى الفصول البسیطة القاصیة. لكن یجب أن یُعلم أنّ عارضیّة الجنس للفصل لیس بحسب الوجود كما ینساق إلیه بعض الأفهام القاصرة، ومنه ینشأ أمثال هذه الأغالیط، بل على نحو عروض المهیّة النوعیّة للشخص». وقال أیضاً: «فلیس المراد بالعروض فی هذه المواضع وأمثالها هو العروض بحسب الوجود بمعنى أن یكون للعارض وجودٌ غیر وجود المعروض بل هذا النحو من العروض إنّما یتحقّق فی ظرف التحلیل بین معنیین موجودین بوجود واحد».(1)
وقال الشیخ فی الشفاء: «ویجب أن یُعلم أنّ الذی یقال من أنّ فصول الجوهر جوهر وفصول الكیف كیف، معنى ذلك ان فصول الجوهر یلزم أن تكون جوهراً، وفصول الكیف یلزم أن تكون كیفاً، لا أنّ فصول الجوهر یؤخذ فی مفهوم مهیّتها حدّ الجوهر على أنّها جواهر فی أنفسها، وفصول الكیف یؤخذ فی مهیّتها حد الكیفیّة على أنّه كیفیّة».(2)
وأمّا ما أفاده الاُستاذ(دامظلهالعالی) فهو فی الواقع تفسیر لهذا الكلام الذی نقلناه عن الشیخ، وحاصله أنّ الفصل أمر بسیط لا یتركّب من جنس وفصل حتّى یكون جنس الفصل الجوهریّ جوهراً محمولاً علیه بالحمل الأوّلیّ، لكن لا ینافی ذلك حمل الجوهر علیه بالحمل الشائع، وكذا حمل المقولات العرضیّة على فصول الأعراض.(3)
ثمّ إنّ صدر المتألّهین ذهب إلى أنّ حقائق الفصول هی الوجودات الخاصّة للمهیّات، فلیست بجواهر ولا أعراض.(4) لكن هذا الكلام یحتاج إلى تأویل، ضرورة أنّ الفصل جزء للمهیّة النوعیّة، ولا معنى لجعل الوجود جزءً للمهیّة، فلیتأمّل.
1. راجع: الأسفار: ج4، ص253ـ263؛ راجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص207ـ208.
2. راجع: الفصل السادس من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل؛ ص514.
3. راجع: الأسفار: ج2، ص3941.
4. راجع: نفس المصدر: ص36.
حاصل الإشكال أنّ الصورة الجسمیّة والنفس نوعان من الجوهر مندرجان تحته، وكلُّ واحد منهما جزء صوریٌّ لنوع آخرَ، فإذا اُخذ لا بشرط كان فصلاً فیصحّ أن یقال: بعض الفصول الجوهریة جوهر بالحمل الأوّلیّ.
وحاصل ما أفاده(دامظلهالعالی) فی جواب الإشكال أنّ الفصل وإن كان مأخوذاً من الصورة وكان مفهومه متّحداً بوجه مع مفهوم الصورة، إلاّ أنّ المفاهیم تختلف أحكامها باختلاف الاعتبارات. فمفهوم الفصل مفهوم ناعتیّ حیثیّته أنّه ممیّز ذاتیّ للنوع، فلیس بنفسه مهیّة تامّة حتّى یعدّ نوعاً من الجوهر ویؤخذ الجوهر فی حدّه ویحمل علیه حملاً أوّلیّاً. وأمّا الصورة فلها اعتبارات مختلفة لكلّ واحد منها حكمه الخاصّ: أحدها اعتبار أنّها مهیّة بشرط لا، فمن هذه الحیثیّة لا تحمل علیها المادّة حملاً أوّلیّاً، ولا تكون مندرجة تحت المهیّة الكلّیة للمادّة. وثانیها اعتبار كونها متّحدة مع المادّة (بناءً على كون التركیب بین المادّة والصورة اتّحادیّاً) فمن هذه الحیثیّة یصحّ حمل الجوهر وسائر المفاهیم المنتزعة عن المادّة علیها حملاً شائعاً. وثالثها كونها تمام حقیقة النوع لأنّ شیئیة الشیء بصورته، فمن هذه الحیثیّة أیضاً تحمل علیها المفاهیم الذاتیّة للنوع بما فیها الجوهر. وأمّا النفس فلها مزیّة اُخرى لكونها مجرّدة فی ذاتها وكون وجودها لنفسها، فمن هذه الحیثیّة أیضاً یحمل علیها الجوهر.(1) والظاهر أنّ الحمل بالاعتبار الثالث فی كلّ الصور وكذا بالاعتبار الخاصّ بالنفس حملٌ أوّلیّ.
ثمّ إنّه(دامظلهالعالی) صرّح بأنّ ملاك انتزاع المهیّة هو كون الوجود فی نفسه وإن كان ذلك الوجود عین الوجود للغیر، فیلزم من ذلك أن تكون الصورة باعتبار أنّ لها وجوداً فی نفسها ذاتَ مهیّة، وتكون نوعاً من أنواع الجوهر بحیث یحمل علیها حملاً أوّلیّاً. فلا
1. راجع: نفس المصدر: ص4143.
وجه للتحاشی عن ذلك(1) والاستشكال فی عدّها من أنواع الجوهر كما سیأتی فی الفصل الثالث من المرحلة السادسة أیضاً. وعلى هذا فالأولى فی الجواب أن یقال:
وأمّا الصورة فلها حیثیّتان: إحداهما حیثیّة وجودها فی نفسها، وبهذا الاعتبار تكون نوعاً من أنواع الجوهر ویحمل علیها حملاً أوّلیّاً؛ وثانیتهما حیثیّة وجودها للمادّة، وبهذا الاعتبار لا تنتزع عنها الماهیّة، ویكون حكمها حكم الفصل.
ویستشعر من كلامه فی آخر الفصل أنّ مصحّح كون النفس من أنواع الجوهر كون وجودها لنفسها (لا فی نفسها) وهو مع فساده فی نفسه ـ لاستلزامه عدم انتزاع المهیّة عن الأعراض ـ لا یوافق صدر كلامه حیث صرّح بأنّ الملاك هو كون الوجود فی نفسه (لا لنفسه) فلیتأمّل.
لقائل أن یقول: كون الصورة بشرط لا بالنسبة إلى المادّة وكذا كون المادّة بشرط لا بالنسبة إلیها إنّما یقتضی عدم حمل إحداهما على الاُخرى بالحمل الأوّلیّ، لا عدم حمل جنس من الأجناس علیهما. ویمكن أن یقال فی الجواب: الكلام فی الصورة الجسمیّة (أی الاتّصال الجوهریّ على حدّ تعبیرهم) التی یؤخذ عنها فصل الجسم، والهیولى الأُولى التّی یُؤخذ عنها جنسه ـ كما أصرّ علیه صدر المتألّهین(2) ـ ومقتضى كونهما بشرط لا تبایُنهما، فلا یكون بینهما اتّحاد مفهومیّ ولا یحمل شیء منهما على الآخر بالحمل الأوّلیّ. ولكن للقائل أن یعود ویقول: أحكام المفاهیم تختلف حسب اختلاف الاعتبارات، فعدم حمل مفهوم المّادة مأخوذاً بشرط لا على الصورة لا ینافی حمل نفس هذا المفهوم مأخوذاً لا بشرط ـ وهو اعتبار الجنسیّة ـ علیها، فلیتأمّل.
1. راجع: نفس المصدر: ص3941.
2. راجع: نفس المصدر: ص37ـ38.
وذلك بأن یؤخذ مبهماً ولا بشرط، لا كمهیّة تامّة.
لقد أشار فی كلامه هذا إلى عدّة مسائل:
الاُولى: انّ كلّ مهیّة نوعیّة مشاركةٍ لمهیّة اُخرى فی معنىً ذاتیٍ یحلّل العقلُ مفهومَها إلى جنس وفصل، سواء كانت فی الخارج بسیطةً كالمفارقات والأعراض أو مركّبةً من مادّة وصورة كالأجسام. وهذان المفهومان مأخوذان لا بشرط، كما أنّهما ناقصان یستدعی كلٌّ منهما مفهوماً آخرَ ینضمّ إلیه ویتّحدان كمهیّة واحدة، فكلُّ واحد منهما عین المهیّة التامّة مفهوماً وإن كان لكّلٍ منهما خاصَّتُه من التحصّل والإبهام. ولذلك یكون الحمل بینهما وبین المهیّة النوعیّة أوّلیّاً، بخلاف الحمل بینهما أنفسهما لتغایر حیثیّة الإبهام والتحصّل.
الثانیة: انّ لكلّ مهیّة ـ سواء كانت بسیطة أو مركّبة ـ وجوداً واحداً فی الخارج، ضرورة امتناع انتزاع مهیّة واحدة من وجودین بما أنّهما وجودان اثنان
الثالثة: انّ الجنس والفصل لا یوجدان فی الخارج إلاّ بوجود واحد هو وجود المهیّة النوعیّة. وهذا الكلام واضح بناءً على أصالة المهیّة، وأمّا بناءً على أصالة الوجود فلا یستقیم إلاّ بحسب الاعتبار،(1) فإنّ حیثیّة الجنس والفصل حیثیّة عقلیّة لا خارجیّة، فلا وجود لهما فی الخارج حقیقةً، وأمّا باعتبار الثبوت الخارجیّ للمهیّة فیقال: لمّا كان
1. راجع: الفصل السابع من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص511؛ وراجع: القبسات: ص147.
كلُّ واحد منهما عین المهیّة وكان الحمل بینه وبین المهیّة حملاً أوّلیّاً ولم یكن للمهیّة إلاّ وجود واحد كان ذلك الوجود بعینه وجوداً للجنس والفصل معاً.
الرابعة: انّ المهیّة النوعیّة إذا كانت مركّبة فی الخارج من مادّة وصورة كان الجنس مأخوذاً عن مادّتها والفصل عن صورتها بأخذ مفهومیهما لا بشرط.(1) وجریان هذه القاعدة فی المهیّة الجمسیّة مبنیٌ على كونها مركّبة من الهیولى والصورة، وثانیاً على كون مفهوم جنسها مأخوذاً من الهیولى ومفهوم فصلها مأخوذاً من الصورة لكن كلاهما محلُّ نظر.
الخامسة: انّ التركیب إنّما یكون حقیقیّاً إذا حصل من تألّف الأجزاء أمرٌ آخَرُ وراءها له أثر جدید وراء آثار الأجزاء، كما تحصل الموالید من تركّب العناصر ولها آثار خاصّة وراء مجموع آثار العناصر، وكما یحصل الجسم من اجتماع المادّة والصورة ـ على رأی المشّائین ـ وقد وقع الاختلاف فی أنّ تركّبهما هل هو انضمامیّ أو اتّحادیّ، وقد ذهب السید صدر الدین وصدر المتألّهین إلى الثانی،(2) وتبعهما الاُستاذ(دامظلهالعالی) ویمكن تأییده بأنّ المهیّة الواحدة (مهیّة الجسم) لا تنتزع من شیئین (المادّة والصورة) إلاّ إذا حصل اتّحاد بینهما.
السادسة: انّ أجزاء المركّب الحقیقیّ یحتاج بعضها إلى بعض حتّى تتّحد كحقیقة واحدة، وقد عدّوا هذه المسألة ضروریّة، وقد مرّ الكلام فیها تحت الرقم (97).
ثمّ إنّ الاُستاذ(دامظلهالعالی) بعد الإشارة إلى المسألة الثالثة عطف الكلام على المسألة السادسة، وكأنّه أراد أن یشیر إلى أنّ السابقة هی مبنى اللاحقة، لكن موضوع الاُولى هو الأجزاء الذهنیّة وموضوع الثانیة هو الأجزاء الخارجیّة، وعلى فرض اعتبار الجنس والفصل جزئین خارجیَّین فلا یصحّ جعله مبنى لهذه القضیّة البیّنة.
1. راجع: الأسفار: ج2، ص37؛ وراجع: الشوارق: خاتمة المسألة الخامسة من الفصل الثانی، ص159.
2. راجع: الأسفار: ج5، ص282ـ286؛ وخاتمة المسألة الخامسة من الفصل الثانی من الشوارق: ص160ـ162.
ولا یخفى أنّ مفاد المسألة السادسة هو احتیاج أجزاء المركّب بعضها إلى بعض فی الجملة، وهو أعمُّ من كون تركیب الأجزاء اتّحادیّاً، ولعلّه لأجل ذلك عبّر الاُستاذ(دامظلهالعالی) بقوله «یترجّح» دون أن یؤكّد علیه كنتیجة یقینیّة.
یرد على هذه الحجّة(1) أنّ نفی كون الكثرة من ذاتیّات مهیّة وعوارضها اللازمة لا یُثبت كونَها عرضاً مفارقاً ممّا یحتاج فی عروضه إلى سبق مادّة واستعداد، لجواز كونها من المعقولات الثانیة الفلسفیّة التی ینتزعها العقل ویكون عروضها فی الذهن واتّصافها فی الخارج. ولعلّه لأجل ذلك عدل الاُستاذ(دامظلهالعالی) عن جعل الكثرة «عرضاً مفارقاً» إلى قوله «كانت الكثرة بعرض مفارق» لكنّه بذلك لا یكون عدلاً للتقادیر الثلاثة الاُخر، ومع ذلك لا یجدی فی دفع الإشكال، فإنّه لو كان مثل هذه العوارض محتاجاً إلى سبق استعداد ومادّة لاحتاج الوحدة أیضاً إلیهما، وهو كما ترى. وكیف كان فالحجّة منقوضة بالمجرّدات المثالیّة بناءً على القول بالوجود العینی لها وتعدّدها.
ویمكن إقامة حجّة على تفرُّد كلٍ من المفارقات العقلیّة بصیغة توافق أصالة الوجود، وهی أن یقال: تحقُّق الكثرة فی الوجود إمّا أن یكون بلحاظ المراتب الطولیّة، وإمّا أن یكون بلحاظ اختلاف حدود الوجودات العرضیّة، وإمّا أن یكون بلحاظ انفصال بین وجودین متّحدین بحسب المهیّة وبحسب المرتبة الوجودیّة، والأوّلان ینافیان الوحدة النوعیّة، والأخیر یستلزم الوضع، وهو ینافی التجرّد العقلیّ. لكن یلاحظ علیها أنّ حصر الكثرة فی الوجوه الثلاثة غیر عقلیّ لعدم الدوران بین النفی والإثبات، فلا ینفی احتمال وقوع الكثرة بنحو آخَرَ، وإن لم نكن نعقله بالفعل.
1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین علی إلهیّات الشفاء: ص189؛ وراجع: التحصیل: ص505؛ و المسألة السادسة من الفصل الثانی من الشوارق: ص166؛ والتعلیقات: ص144.
سمّیت بذلك لأنّها تحمل على الأشیاء حملاً ذاتیّاً ولا یحمل علیها شیء كذلك لأنّه لیس فوقها جنس. وأمّا حمل الفصول علیها فقد مرّ أنّه حمل عرضیّ.
وزعم قوم جواز كون شیء واحد جوهراً وعرضاً، ولهم شبهات ذكرها فی الأسفار وأجاب علیها.(1)
وأوّل من أحصاها هو المعلّم الأوّل فی كتابه «قاطیغوریاس»(2) (= المقولات) وكذا فی كتابه «طوبیقا» (= الجدل) وصرّح فی الثانی بأنّ عدّتها عشرة،(3) ونقل عنه أتباع المشّائین من فلاسفة المسلمین، وحكى أبوالبركات البغدادیّ عنه أنّ الأجناس العالیة
1. راجع: الأسفار: ج4، ص280ـ285؛ وراجع: الفصل السادس من المقالة الاُولى من قاطیغوریاس الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص297؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص161ـ164؛ والقبسات: ص4045.
2. راجع: منطق أرسطو: الجزء الأول، ص35.
3. راجع: نفس المصدر: الجزء الثانی، ص502.
عشرة، تسعة منها اعراض، منها وجودیّة كالبیاض والسواد والطول والعرض والعدد ونحوها، ومنها ذهنیّة كالنسب والإضافات.(1) لكن قال شیخ الإشراق ما لفظه «وأمّا المقولات فلیست مأخوذة عن المعلّم بل عن شخص فیثاغوریّ له «أرخوطس» ولیس له برهان على الحصر فی العشرة».(2) ولعلّه وقف على كتاب لأرخوطس باسم المقولات فظنّ أنّه نفس الكتاب الذی ینسب إلى أرسطو. قال الحسن بن سوار «ویقال إنّ أرخوطس رسم كتابه فی المقولات وهو یتضمّن المعانی التی یتضمّنها كتاب أرسطوطالیس هذا إلاّ معانی یسیرة فی الأقاویل الكلّیّة...».(3) وكیف كان فلا ینبغی التشكّك فی نسبة المقولات العشر إلى أرسطو.
وقال صدر المتألّهین: «إنّ المراد من انحصار الأشیاء فیها أنّ كلّ ما له من الأشیاء حدٌّ نوعیٌ فهو منحصر فی هذه المقولات بالذات، ولا یجب أن یكون لكلّ شیء حدٌّ وإلاّ یلزم الدور أو التسلسل»(4) وقال فی موضع آخر: «إنّه لا مقولة خارجة عن هذه العشرة، والشیخ احتجّ على ذلك بحجّة ضعیفة اعترف برداءتها ولذلك طویناها» ثمّ تعرّض لكیفیّة خروج الوحدة والنقطة والآن والوجود والشیئیّة والحركة والاعتبارات العامّة وكذلك الفصول البسیطة والمشتقّات والأعدام منها، وقال فی آخر كلامه «والشیخ قد سلّم خروج هذه الاُمور عن المقولات العشر، وذلك لا یناقض دعوى عشریّة الأجناس العالیة، فإنّ الدعوى أنّ كلَّ ما كانت له مهیّة متحصّلة من جنس وفصل فهو تحت إحدى هذه المقولات. فالبسائط كنفس الاجناس العالیة والفصول الأخیرة والأنواع البسیطة والهویّات الشخصیّة خروجها غیر قادح فی الحصر».(5)
1. راجع: المعتبر: ج3، ص14؛ وراجع: التعلیقات: ص174 و 175.
2. راجع: التلویحات: ص12.
3. راجع: تعلیقة الحسن بن سوار على ترجمة كتاب المقولات فی منطق أرسطو: ج1، ص79.
4. راجع: الأسفار: ج2، ص41.
5. راجع: نفس المصدر: ج4، ص6.
وقال الشیخ فی موضع من الشفاء: «وأمّا نحن فلا نتشدَّد كلَّ التشدُّد فی حفظ القانون المشهور من أنّ الأجناس عشرة، وأنّ كلّ واحد منها حقیقیُّ الجنسیّة، ولا شیء خارج منها».(1)
الفرق بین مفهوم العرض ومفهوم الجوهر بأنّ الأوّل منتزع من نحو وجود الشیء دون الثانی تحكّم، فإنّ الجوهر هو الذی یوجد لا فی موضوع والعرض هو الذی یوجد فی موضوع، ولازمه أنیكون كلاهما من الاعتبارات العقلیّة والمعقولات الثانیة الفلسفیّة كما اختار فی حكمة الإشراق، وقال فی التحصیل: «ولعلّ نسبة الجوهر إلى ما تحته فی أنّ الجوهر لازم نسبة العرض إلى ما تحته ـ إلى أن قال ـ فیشبه أن یكون الجوهریّة من لوازم الجسم وغیره ممّا هو تحت الجوهر».(2) ومن جانب آخر فقد أنهى المقولات فی القبسات إلى مقولتین هما الجوهر والعرض حیث قال فی كلام له «فإذن لمقولات الجائزات جنسان أقصیان، وكلّ حقیقة متأصّلة من المهیّات الممكنة تحت أحد ذینك الجنسین الأقصیین لا محالة فلیتثبّت».(3) وقال فی المطارحات بعد ذكر المقولات العشر والمناقشة فیها: «ویكفی تقسیم المهیّات إلى جوهر وهیئة».(4)
هو عمر بن سهلان الساوجیّ صاحب البصائر.(5)
1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة من الفنّ الأوّل من طبیعیّات الشفاء: ص42؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص169ـ171.
2. راجع: حكمة الإشراق: ص61 و 71.
3. راجع: القبسات: ص40.
4. راجع: المطارحات: ص281.
5. راجع: نفس المصدر: ص278.
قال فی التلویحات: «ولمّا كان المحمول علیه الوجود إمّا موجوداً لا فی موضوع وهو الجوهر وإمّا موجودا فیه إمّا غیر قارّ الذاتكالحركة،أو قارَّها الذی لایعقل إلاّ مع الغیر وهو المضاف، والقارُّ الغیرالإضافیإمّا أن یوجب لذاته التجزیّ والنسبة وهیالكمیة، أو لا یوجب لذاته ذانّك وهو الكیف، فانحصرت الاُمّهات من المقولات فی خمسة».(1)
قد اصطلحوا على الفرق بین المحلّ والموضوع باختصاص الموضوع بما هو مستغنٍ عمّا یوجد فیه، وعلى ذلك یكون قید الاستغناء توضیحیّاً.(2) وقد نسب شیخ الإشراق إلى القدماء تعریف الجوهر بالموجود لا فی محلّ.(3) وقد یطلق الجوهر على الوجود الذی یسلب عنه الكون فی الموضوع وإن لم یكن له مهیّة. قال الشیخ فی النجاة «لو قال قائل فی الأوّل ـ بلا تحاشٍ ـ إنّه جوهر لم یَعنِ إلاّ هذا الوجود وأنّه مسلوب عنه الكون فی الموضوع».(4)
وذلك فی الفصل السادس من المرحلة الخامسة.(5)
1. راجع: التلویحات: ص11.
2. راجع: الفصل الاول من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص296؛ والأسفار: ج4، ص229ـ234.
3. راجع: المقاومات: ص129؛ والمطارحات: ص220.
4. راجع: النجاة: ص251.
5. وراجع: هذه التعلیقة: الرقم 104 و 105.
المتیقَّن من الموجودات العرضیّة هو الكیف النفسانیّ المعلوم بالعلم الحضوریّ ویلیه الكیف المحسوس فی الجملة. ونقل فی الشفاء أقوالاً من بعض القدماء بجوهریّة الكم والكیف.(1)
حاصل الحجّة أنّ العرض قائم بالموضوع، فإن كان الموضوع نفسه قائماً بموضوع آخَرَ من غیر أن ینتهی إلى ما حیثیّة ذاته حیثیّة الاستغناء عن الموضوع لتسلسل. فهناك مهیّةٌ حیثیّةُ ذاتها أنّها لا فی موضوع، وبعبارة اُخرى: كونها لا فی موضوع، ذاتیٌّ لها أو كاشف عن معنى ذاتیّ، وهذا بعینه معنى كون الجوهر جنساً لما یندرج تحته.
ویلاحظ علیها أنّ قیام العرض بالموضوع یستلزم وجود ما لا یحتاج إلى موضوع، لكن لا یستلزم كون الجوهر معنى جنسیّاً، بل یكفی أن یكون موضوع العرض بحیث ینتزع العقل عنه هذا المفهوم، وبعبارة اُخرى: یكفی أن یكون الجوهر ذاتیّاً لموضوع العرض باصطلاح كتاب البرهان كالإمكان للموجودات الممكنة والوجوب للواجب تعالى، والعرض للمهیّات العرضیّة، ولا یلزم أن یكون ذاتیّاً باصطلاح كتاب إیساغوجی.
مفعول لِ »استلزم» فی الموردین.
قد عرفت أنّه لا دلیل على فساد هذا التالی، والأولى النقض بالإمكان الذی هو
1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء.
معنى وحدانیّ منتزع عن جمیع الجواهر والأعراض، فیلزم كونه جنساً مشتركاً بینها، بل النقض بمفهوم الوجود المشترك بین الواجب والممكنات.
كتب الاُستاذ(دامظلهالعالی) فی هامش الكتاب «كون وجود العرض لغیره (ناعتاً للغیر) معنى سلبیّ ـ إلخ ـ » ویلاحظ علیه أنّ كونه معنىً سلبیّاً ممنوع، بل لقائل أن یعكس الأمر فیقول «كون وجود الجوهر لا فی موضوع، معنىً سلبیٌ» قال الشیخ فی إلهیّات الشفاء «ولیس معنى جوهریّتها إلاّ أنّها أمر لیس فی موضوع ـ إلى أن قال ـ وأمّا أنّه لیس فی موضوع فهو سلب».(1) ومع التسلیم فعدم اقتضاء المهیّة للمعنى السلبیّ ممنوع ومنتقض بالإمكان الذی هو سلب الضرورتین على ما صرّح به. ویستفاد من كلامه هذا أنّ المفهوم الجامع إذا كان مفهوماً إیجابیّاً كان ذاتیّاً أو لازماً للذات بحیث یكشف عن وحدة ماهویّة، لكنّه ممنوع ومنتقض بمفهوم الوجود، فلیتأمّل.
هذا التقسیم للمشّائین،(2) وهو مبنیٌ على وجود الهیولى كجزء للمهیّات الجوهریّة المادّیة، ولابدّ من جزء آخَرَ لها هو الصورة، ومع إنكارها ـ على ما ذهب إلیه الإشراقیّون والمحقّق الطوسیّ ـ تصیر الأقسام ثلاثة: المجرّدات التامّة، والنفوس، والأجسام. ویمكن إلحاق قسم آخر إلیها وهو الجواهر المثالیّة (البرزخیّة) التی لها
1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص84.
2. راجع: آخر الفصل الاول من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین علی إلهیّات الشفاء: ص47.
صفات الأجسام على نعت الثبات. وقولهم «ذا علاقة انفعالیّة» احتراز عن العلاقة الفعلیّة التی للعقول. وقال فی التلویحات: «وأقسام الجوهر أربعة: جسم، وجزءاه الهیولى والصورة، والخارج من هذه الأقسام الثلاثة المفارقات»(1) وكلامه هذا مبتنٍ على مماشاة المشّائین، وإلاّ فهو من المنكرین لوجود الهیولى.
قد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (104 و 105).
حاصل وجه الأجودیّة أنّ الكائن فی المحلّ لا یختصّ بالصور المادیّة، فإنّ الصور الإدراكیّة أیضاً حالّة فی النفوس.(2) ولا یخفى أنّ الصور الإدراكیّة من قبیل الكیفیّات النفسانیّة عند المشهور، فهی خارجة عن المقسم، وأمّا القول الآخر فتقییمه موكول إلى محلّه.
من الواضح أنّ التقسیم الأوّلیّ للجوهر لابدّ وأن یكون شاملاً لجمیع الجواهر، فالمراد بالصورة المادیّة جمیع الصور المنطبعة فی المادة لا الصورة الجسمیّة (أی الاتّصال الجوهریّ على حدّ تعبیرهم) خاصّةً، وعطف الصور الطبیعیّة (أی العنصریة والمعدنیّة وغیرها) على الامتدادیّة (أی الصورة الجسمیّة) إشارة إلى هذا التعمیم، ولیس بصدد تقسیم ثانویّ حتّى یرد علیه مثل هذا الإشكال.
1. راجع: التلویحات: ص6؛ والمطارحات: ص221.
2. راجع: الأسفار: ج4، ص234؛ وج5: ص70.
وینسب إلى الرواقیّین، وبه قال فی حكمة الإشراق.(2)
وهو ظاهر كلامه فی التلویحات،(3) وقد تصدّى الشرّاح للجمع بین قولیه.(4)
أی من الأجزاء التی لا تتجزّى، یعنی أنّه كلّما ازداد الوسط عدداً لم یؤثّر فی الحجب شیئاً.(5)
وقد ذكر تفصیل القول فی انقسام الأجسام فی الطبیعیّات،(7) وقد تصدّى صدر المتألّهین لإثبات أنّ هذه المسألة من مسائل الفلسفة الاُولى، وإنّما تعرّض الشیخ لها فی الطبیعیات باعتبار كونها من مبادئ علم الطبیعة.(8)
1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص48؛ والأسفار، ج57، ص2ـ16؛ والقبسات: ص183ـ204.
2. راجع: حكمة الإشراق: ص80 و 88.
3. راجع: التلویحات: ص14.
4. راجع: الأسفار: ج5، ص17ـ18.
5. راجع: النمط الأول من شرح الإشارات؛ وراجع: الأسفار: ج5، ص2946.
6. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ والأسفار: ج5، ص21.
7. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثالثة من الفن الأول من طبیعیات الشفاء: ص85ـ95.
8. راجع: الأسفار: ج5، ص27؛ والقبسات: ص191.
حقیقة الطاقة لیست معلومة بعدُ بحیث یمكن تقدیم تفسیر فلسفیّ قاطع لها، وبناءً على كون الأجسام المتعارفة (المادّة الفیزیائیّة) حاصلة من تراكم الطاقات، لا تخرج الطاقة عن حدّ الجسم ـ بالاصطلاح الفلسفیّ ـ حتّى یستلزم فرض جنس فوقه، لاستحاله تركّب ما یقبل الأبعاد الثلاثة ممّا لیس كذلك وقد أشار فی الأسفار إلى قول شاذّ بأنّ الماء رطوبة متراكمة، وان التراب یبوسة متراكمة.(1)
لا ریب فی أنّ الموجودات المادیّة تتبدّل إلى موجودات مادیّة اُخرى، فتتجدّد لها آثار خاصّة. فالمتبدَّل منه یسمَّى بالقیاس إلى المتبدَّل إلیه مادّة وهیولى، وإذا كان المتبدَّل منه نفسُه متبدّلاً من موجود آخَرَ كان الموجود الأسبق مادّة بالنسبة إلى السابق، وهكذا إلى أن ینتهی إلى ما لم یتبدّل من موجود آخَرَ فیسمَّى بالهیولى الاُولى ومادّة الموادّ.
ثمّ إنّ المتبدّل إلیه لیس مبائناً للمتبدّل منه بالكلّیة،(2) وإلاّ لم یكن التبدّل إلاّ عبارة عن انتفاء موجود وتحقّق موجود آخر، فلابدّ من أمر مشترك بینهما.(3) وهذا الأمر المشترك لا یخلو من أن یكون كلَّ المتبدَّل منه، أو كلَّ المتبدَّل إلیه، أو بعضاً من كلیهما. ولا یجوز أن یكون كلَّ كلیهما وإلاّ لم یحصل تبدُّل، ولا أمراً یباینهما بالكلّیة لاستلزامه خلاف الفرض، كیف وقد فرضناه أمراً مشتركاً بینهما. فعلى الأوّل یكون المتبدَّل إلیه واجداً لكلّ المتبدَّل منه مع أمر زائد علیه كالعناصر المتبدَّلة إلى النبات
1. راجع: الأسفار: ج5، ص67.
2. راجع: حول معنى التبدّل والانقلاب الفصل السابع من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء.
3. راجع: الأسفار: ج5، ص65؛ والمعتبر: ج3، ص201.
مثلاً، وعلى الثانی یكون بالعكس كالنبات المتبدّل إلى عناصره الأوّلیّة، وعلى الثالث یفقد المتبدّل جزءاً ویحصل على جزء آخر، كما یقال فی تبدّل الماء بخاراً إنّ الصورة المائیّة تفسد وتحدث الصورة البخاریّة مكانَها أی فی المادّة الباقیة من الماء.
ثمّ إنّه یقع الكلام فی أنّ الجزء المشترك هل هو موجود بالفعل فی كلتا الحالتین أو یكون فعلیّته رهنَ الجزء الآخر بحیث یكون كلّ من المتبدَّل منه والمتبدَّل إلیه ذا فعلیّة واحدة هی فعلیّة الصورة فقط، فإن جاز كون الأمر المشترك باقیاً بفعلیته فیهما أمكن القول بكون الهیولى الاُولى موجوداً بالفعل باقیاً بعینه فی المركّبات والموالید، وهذا هو القول المنسوب إلى أفلاطون وأشیاعه من الرواقیّین ـ على ما نسب إلیهم ـ ومن تبعهم من فلاسفة المسلمین كشیخ الإشراق والمحقّق الطوسیّ وغیرهما،(1) وإن لم یجز ذلك تعیّن القول بكون المادّة المشتركة أمراً بالقوّة، وإنّما تصیر بالفعل بفضل الصور المتعاقبة علیها، وبالتالی تكون الهیولى الاُولى فی ذاتها فاقدة للفعلیّة، وتتحصّل بالفعل بعرض الصورة الجسمیّة الملازمة لها، وهذا هو الذی ینسب إلى أرسطو(2) وأشیاعه، وإلیه ذهب أكثر فلاسفة المسلمین كالفارابیّ والشیخ الرئیس وصدر المتألّهین.
وللهیولى اصطلاحات اُخرى حسب الاعتبارات المختلفة، قال الشیخ: «وهذه الهیولى من جهة أنّها بالقوّة قابل لصورة أو لصور یسمَّى هیولى لها، ومن جهة أنّها بالفعل حاملة لصورة یسمَّى فی هذا الموضع «موضوعاً» لها ـ ولیس معنى الموضوع ههنا معنى الموضوع الذی أخذناه فی المنطق جزءَ رسمِ الجوهر، فإنّ الهیولى لا تكون موضوعاً بذلك المعنى البتّة، هذا ـ ومن جهة أنّها مشتركة للصور كلّها تسمّى «مادّة طینة» ولأنّها منحلّ إلیها بالتحلیل فتكون هی الجزء البسیط القابل
1. وبه قال أبوالبركات فی المعتبر، ج3، ص195.
2. وانكر ابوالبركات نسبة القول بان الهیولى قوة محضة إلى أرسطو. فراجع: المعتبر: ج3، ص200.
للصورة من جملة المركّب یسمّى «اُسطقساً» وكذلك كلّ ما یجری فی ذلك مجراها، ولأنّها یبتدئ منها التركیب فی هذا المعنى بعینه یسمّى «عنصراً» وكذلك كلّ ما یجری فی ذلك مجراها، فكأنّها إذ ابتدئ منها یسمَّى عنصراً وإذا ابتدئ من المركّب وانتهى إلیها یسمَّى اُسطقساً، إذ الاُسطقس هو أبسط أجزاء المركّب».(1)
وقال صدر المتألّهین: «وربما یتركون هذه الاصطلاحات فیطلقون لفظ الهیولى على ما للفلك من الجزء القابل وإن كان ذلك القابل أبداً بالفعل، وكذلك یسمّونه مادّة مع أنّ مادّة كلّ واحد من الفلكیّات مخصوصة به».(2)
قد ظهر من البیان السابق أنّ أساس النزاع فی مسألة الهیولى هو أنّه هل یوجد فی الأجسام جزء یكون فی ذاته أمراً بالقوّة فاقداً لأیّ فعلیّة سوى فعلیّة أن لا فعلیّة له ـ على حدّ تعبیرهم ـ أو لا؟ وقد یعبّر عنه بالاختلاف فی وجود الهیولى الاُولى وعدمها، كما قد یعبّر عنه بأنّ الجسم هل هو الهیولى الاُولى أو هو هیولى ثانیة مركّبة من جزء غیر متحصّل هو الهیولى الاُولى وآخَرَ متحصّلِ هو الصورة الجسمیّة. وقد عرفت أنّ المشّائین وأتباعهم قائلون بكون الجسم مادّة ثانیة مركّبة من الهیولى الاُولى والصورة الجسمیّة، وقد أقاموا على ذلك حجّتین معروفتین ببرهان الوصل والفصل وبرهان القوّة والفعل، وقد بیّنهما الشیخ فی إلهیّات الشفاء(3) وصدر المتألّهین فی الأسفار مع أبحاث تتعلّق بهما،(4) وتعرّض
1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الاُولى من الفنّ الاول من طبیعیّات الشفاء: ص5.
2. راجع: شرح المنظومة: ص216؛ وراجع: المعتبر: ص10ـ15.
3. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص5565؛ وراجع: النمط الأول من شرح الإشارات؛ وراجع: النجاة: ص202.
4. راجع: الأسفار: ج5، ص77ـ119.
لحجج ضعیفة اُخرى ولما یرد علیها،(1) كما أنّه تعرّض لإشكالات شیخ الإشراق والإجابة علیها.(2)
وقد عوّل الاُستاذ(دامظلهالعالی) على البرهان الثانی، وحاصله أن للجسم حیثیّتین: إحداهما حیثیّة كونه أمراً بالفعل، والاُخرى حیثیّة كونه قابلاً للصور والأعراض اللاحقة به، وهما حیثیّتان متباینتان، فلابدّ من كونه مركّباً من أمرین عینیّین وهما الهیولى الّتی حیثیّة ذاتها حیثیّة القوّة والقبول، والآخر هو الصورة الجمسیّة التی بها فعلیّة الجسم.(3) ثمّ تعرّض لإشكالات اُوردت على الحجّة وتصدّى للإجابة علیها.
وحیث إنّ مدار الاستدلال والإشكال والجواب على مفاهیم القوّة والإمكان والاستعداد ینبغی الإشارة إلى معانی هذه الألفاظ، فنقول: أمّا الإمكان.(4) فقد مرّ شرح معانیه فی الفصل الاوّل من المرحلة الرابعة فی المتن، ومنها الإمكان الاستعدادیّ الذی یعدّونه من مقولة الكیف كما سیأتی بیانه فی الفصل الرابع عشر من هذه المرحلة، وقد أشرنا سابقاً (تحت الرقم 60) إلى أنّ الحقّ كونه من المفاهیم الانتزاعیّة.
وأمّا الاستعداد فقد قیل إنّه من مقولة الإضافة، وقیل إنّه كیفیّة ذات إضافة، ویفترق الإمكان الاستعدادیّ عن الاستعداد بلحاظ النسبة إلى المستعدّ له فی الأوّل وإلى المستعدّ فی الثانی.
وأمّا القوّة فلها معانٍ مختلفةٌ أیضاً،(5) ومن جملتها ما ینطبق على الإمكان
1. راجع: نفس المصدر: ص119ـ128.
2. راجع: نفس المصدر: ص71ـ77.
3. راجع: نفس المصدر: ص110.
4. راجع: النمط الخامس من شرح الإشارات؛ وراجع: التلویحات: ص4850.
5. راجع: الفصل الثانی من المقالة الرابعة: والفصل الرابع من المقالة السادسة؛ والفصل الأوّل من المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص161؛ والنجاة: ص214؛ والأسفار: ج3، ص25؛ والتلویحات: ص31؛ والمطارحات: ص320؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص379؛ وراجع: المرحلة التاسعة فی المتن.
الاستعدادیّ، وقد ذكروا وجوهاً للفرق بین القوّة والاستعداد،(1) من أهمّها اختصاص الاستعداد بالمعنى العرضیّ وشمول القوّة للمعنى الجوهریّ الذی ینطبق على الهیولى الاُولى، وذكروا أنّ النسبة بین القوّة الجوهریّة والقوّة العرضیّة هی النسبة بین الجسم الطبیعیّ والجسم التعلیمیّ. وقد تستعمل القوّة بمعنى أخصَّ من الإمكان الاستعدادیّ وهی القوّة بمعنى المقاومة وصعوبة الانفعال، ویقابلها اللاقوّة بمعنى عدم المقاومة وسهولة الانفعال، ویعمّهما الإمكان الاستعدادیّ، كما أنّها قد تستعمل بمعنى أعمَّ من الإمكان الاستعدادیّ حیث تستعمل بمعنى مطلق الاستعداد فی حین یخصّ الإمكان الاستعدادیّ بالاستعداد الشدید.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّهم اعتبروا استعداد الجسم لصیرورته شیئاً آخر عرضاً قائماً به، وقالوا إنّ الجسم بما أنّه أمر بالفعل (أی الاتّصال الجوهریّ على حدّ تعبیرهم) لا یصلح أن یكون حاملاً للقوّة والاستعداد، ففیه حیثیّة اُخرى جوهریّة حاملة لهذه القوّة العرضیّة، وهی الهیولى الاُولى التی حیثیّة ذاتها حیثیّة قوّة جمیع الصور الممكنة اللحوق بها، ولا فعلیّة لها فی ذاتها، ونسبة الهیولى إلى جمیع الصور متساویة وإنّما تتعیّن صورة خاصّة لها بعروض قوّة عرضیّة خاصّة لها، فالقوّة الجوهریّة المبهمة تتعیّن باستعدادات عرضیّة، كما أنّ الجسم الطبیعیّ (وهو الاتّصال الجوهریّ غیر المتعیّن) یتحدّد بعروض الجسم التعلیمیّ له.(2)
ویلاحظ علیه أوّلا أنّ القوّة والإمكان الاستعدادیّ مفهوم یتنزعه العقل عن حصول شرائط الشیء قبل تحقّقه نفسِه، ولیس أمراً عینیّاً حتى یحتاج إلى محلّ یحلّ فیه. توضیح ذلك أنّ التجارب تهدینا إلى أنّ تحقُّق كلّ حادث منوط بحصول اُمور
1. راجع: الأسفار: ج5، ص75؛ وراجع: المبدء والمعاد لصدرالمتألّهین: ص318.
2. ولتحقیق معنى الجسم التعلیمیّ راجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة؛ والفصل الرابع من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص54 و 101؛ وراجع: التحصیل: ص311؛ و الأسفار: ج5، ص86ـ90.
فیه وارتفاع اُمور اُخرى عنه، وبعد معرفة ذلك نعتبر المادّة الواجدة للشرائط والفائدة للموانع مستعدّةً لتحقّق الحادث المعیّن استعداداً تامّاً، وإذا كانت واجدة لبعض الموانع أو فاقدة لبعض الشرائط نعتبرها مستعدّة له استعداداً ناقصاً. وحسب اختلاف الشرائط الموجودة كثرةً وقلّةً تختلف القوّة والاستعداد شدّةً وضعفاً، وتماماً ونقصاً، وقرباً وبعداً. ولا نعنی بقرب استعداد الجنین للحیاة وبُعد استعداد النطفة لها مثلاً إلاّ أنّ الشرائط الحاصلة فی الجنین أكثر منها فی النطفة،(1) ولیس وراء تلك الشرائط عرض آخَرُ یحل فیه یُسمی بالقوة الاستعدادی وحیث إنَّ حصول الشرائط. تدریجیٌ عادةً یعتبر الاستعداد أمراً یشتدّ شیئاً فشیئاً، وهذا هو الذی یوهم أنّه أمر عینیٌ یسیر من الضعف إلى الشدّة، ومن النقص إلی التمام، ومن البُعد إلى القرب. ولیس كذلك فی الواقع، كیف وقد یكون فی منشأ انتزاعه اُمور عدمیّة كارتفاع الموانع.
وجدیر بالذكر أنّ صدر المتألّهین بالرغم من تأكیده فی عدّة مواضع من كتبه على كون الإمكان الاستعدادیّ عرضاً قائماً بالموضوع، صرّح فی موضع من الأسفار بأنّ مرجع الإمكان الاستعدادی إلى زوال المانع والضدّ إمّا بالكلّیة وهو القوّة القریبة أو بالبعض وهو القوّة البعیدة.(2) وصرّح فی المبدء والمعاد بأنّ معنى وجود الاستعداد فی الخارج اتّصاف الشیء الخارجیّ به،(3) ممّا هو كالصریح فی أنّه من المعقولات الثانیة الفلسفیّة لا من المعقولات الاُولى المندرجة فی المقولات الماهویّة.
وثانیا أنّهم یعتبرون حدوث كلّ حادث جوهریّ أو عرضیّ متوقّفاً على حصول استعداد فی المادّة، فلو كان الاستعداد عرضاً عینیّاً لتوقّف حدوثه على حصول استعداد آخر وهكذا، فیلزم أن تحصل استعدادات وقوىً غیرُ متناهیة لحدوث شیء ما، وهو كما ترى.
1. راجع: المسألة الخامسة والعشرین من الفصل الأوّل من الشوارق.
2. راجع: الأسفار: ج2، ص376.
3. راجع: المبدء والمعاد لصدر المتألّهین: ص318ـ319.
لا یقال: إنّما یلزم التسلسل إذا لم تنتهِ سلسلة القوى إلى ما حیثیّة ذاتها حیثیّة القوّة.
فإنّه یقال: الكلام فی القوى العرضیّة التی تتعیّن بها القوّة الجوهریّة (أی الهیولى) فلو كان عروض كلّ قوّة عرضیّة متوقّفاً على حصول استعداد لها لزم التسلسل، ولا یجدی كون الهیولى قوّة محضة لكلّ الصور والأعراض، لخروجها عن تلك السلسلة.
لا یقال: إنّ الهیولى تستدعی بذاتها قوة عرضیّة خاصّة، ثمّ تصیر هی واسطة لاستعدادها لغیرها من الصور والأعراض.
فإنّه یقال: نسبة الهیولى إلى جمیع ما یحلّ فیها متساویة على الفرض، فلا معنى لاستدعائها لعرض معیّن، مضافاً إلى أنّ هذا الفرض یستلزم قِدم ذلك العرض بقِدم الهیولى ـ على زعمهم ـ فلا یجدی فرضه لتعلیل الحوادث، فافهم.
وثالثا أنّ القوّة متقدّمة على الفعل زماناً، فإن اعتبرت الهیولى الاُولى قوةً للصورة الجسمیّة أیضاً لزم تقدّمها علیها بالزمان، ولزم أن یكون لها فعلیّة قبل حدوث الصورة الجسمیّة. فینقل الكلام إلیها، مع أنّه یعارض قولهم بملازمة الصورة الجسمیّة للهیولى دائماً؛ وإن لم تعتبر قوّةً للصورة الجسمیّة لزم كون الهیولى قابلة لما لیس فیها قوّة قبوله، وفی ذلك هدم لأساس البرهان.
ورابعا أنّه على فرض كون الإمكان الاستعدادیّ أمراً عرضیّاً محتاجاً إلى محلّ جوهریّ جاز أن یكون محلّه هو الجسم بما له من الفعلیّة، لا سیّما على القول بكون العرض من مراتب وجود الجوهر. وأمّا قولهم انّ حیثیّة كون الشیء أمراً بالفعل لا تتّفق مع كونه قابلاً لشیء آخر لمغایرة حیثیّة الوجدان لحیثیّة الفقدان، فممنوع، لأنّ هذا التغایر إنّما یحصل بتحلیل من العقل، ضرورة عدم كون الفقدان أمراً عینیّاً. وهذا بدوره یدلّ على كون القبول أمراً انتزاعیّاً، منشأه اتّحاد وجود سابق بوجود لاحق، فالفقدان مفهوم ینتزعه العقل من نقص الوجود السابق، والقبول مفهوم ینتزعه من قیاسه إلى الوجود اللاحق.
وخامسا أنّ الإمكان الاستعدادیّ على فرض كونه عرضاً حالّاً فی الجسم أمر موجود بالفعل، ولا معنى لقیامه بالقوّة المحضة التی لا فعلیّة لها.
لا یقال: الهیولى تتحصل بفضل الصورة الجسمیّة الحالّة فیها فیصّح نسبة الاستعداد إلیها بذلك.
فإنّه یقال: نسبة الاستعداد إلى الهیولى إنّما هو باعتبار كونها قوّة محضة لا باعتبار كونها متحصّلة بالصورة، وإلاّ لما احتیج إلى اثبات جوهر هو عین القوّة.
وسادسا أنّ الوجود مساوق للفعلیّة، ولا معنى لفرض موجود فی الخارج لا حظّ له من الفعلیّة إلاّ أنّه لا فعلیّة له، وهل هذا إلاّ كفرض موجود لا وجود له إلاّ أنّه لا وجود له؟!
لا یقال: فقدان الهیولى للفعلیّة إنّما هو بحسب ذاتها وبصرف النظر عن حلول الصورة فیها، ولیس معنى ذلك وجود أمر فاقد للفعلیّة مطلقاً، بل الهیولى توجد فی الخارج مع الصورة وتتحصّل بتحصّلها.
فإنّه یقال: لاشكّ أنّه لیس للجسم أزید من فعلیّة واحدة، فمعنى تحصّل الهیولى بالصورة أنّ الصورة واسطة لعروض الفعلیّة والتحصّل للهیولى، فالفعلیّة لیست صفة ثابتة لها فی الحقیقة، بل هی وصف بحال متعلّقها، نظیر ما یقال من أنّ المهیّة موجودة فی الخارج بعرض الوجود، فغایة ما یمكن أن یقال بشأنها أنّها اعتبار عقلیّ، وقد صرّح صدر المتألّهین فی موضع من الأسفار بأنّها أمر عقلیٌ،(1) وفی موضع آخر بأنّ المادّة أمر عدمّیٌ،(2) وقال فی المبدء والمعاد: «لا شكّ عندنا فی أنّ الهیولى لیست أمراً مبائناً فی الوجود لعلّته القریبة من الصورة وغیرها بحسب نفس الأمر، إذ لا وجود لها استقلالیّاً، بل الوجود إنّما یكون بالذات للصورة، والهیولى منها بمنزلة الظل
1. راجع: الأسفار: ج5، ص74.
2. راجع: نفس المصدر: ص146.
من ذی الظلّ، والظلّ أمر عدمّیٌ فی الخارج، إلاّ أنّ للعقل أن یتصوّرها شیئاً آخر غیر الصورة یكون مهیّتها فی نفسها قوّةَ شیء واستعدادَ أمرٍ حادث كما یتصوّر للظلّ معنى آخَرُ غیرُ الضوء مهیّته عدم النور ونقصانُه».(1)
لا یقال: یمكن أن تكون الصورة واسطة لثبوت الفعلیّة للهیولى لا لعروضها، وعلیه یكون اتّصافها بالفعلیّة حقیقیّاً.
فإنّه یقال: حیثیّة الهیولى هی كونها قوّة محضة، وهذه الحیثیّة ذاتیّة لها لا تفترق عنها، فلا معنى لاتّصافها بالفعلیّة حقیقةً بواسطة فی الثبوت، وإلاّ لكان لشیء واحد فعلیّتان اثنتان.
لا یقال: كون القوّة ذاتیّاً للهیولى نظیر كون الإمكان ذاتیّاً للمهیّة، فكما أنّ صیرورة المهیّة واجبة بالغیر لا تنافی إمكانها الذاتیّ كذلك صیرورة الهیولى أمراً بالفعل لا تنافی كونها عین القوّة المحضة بالذات.
فإنّه یقال: إمكان المهیّة أمر عقلىٌّ ینتزع من مقام ذات المهیّة التی یعتبرها العقل للموجودات الممكنة، وأمّا القوّة المزعومة للهیولى فهو أمر جوهریّ عینیّ على الفرض، فلا معنى لاجتماعها مع الفعلیّة، ولیس ذلك إلاّ اجتماعاً للمتقابلین.
لا یقال: الجهة مختلفة، فاتّصاف الهیولى بالفعلیّة هو بالنظر إلى وجودها فی نفسها، واتّصافها بالقوّة یكون بقیاسها بالصور التی یستحلّ فیها، ولا مانع من اتّصاف الشیء بمتقابلین من جهتین مختلفتین.
فإنّه یقال: هذا أمارة كون القوّة أمراً عقلیّاً لا عینیّاً، وإلاّ لزم تركّب الهیولى من حیثیّتین خارجیّتین، ثمّ ینقل الكلام إلى حیثیّة قوّتها، وهلّم جرّاً. وإذا جاز كون شیء واحد فی ذاته أمراً بالفعل، وبالقیاس إلى شیء آخرَ أمراً بالقوّة فلیكن ذلك هو الجسم.
1. راجع: المبدء والمعاد، ص265.
ثمّ إنّ برهان الوصف والفصل قریب المأخذ من هذا البرهان، وبالتأمّل فی ما أوردنا علیه تعرف ما فی ذلك البرهان أیضاً، فتدبّر جیّداً.
هذا الإشكال قریب من رابع الإشكالات التی أوردناها على البرهان وممّا نقله صدر المتألّهین عن بعض شیعة الأقدمین،(1) وحاصله على ما قرّره الاُستاذ(دامظلهالعالی) أنّا نسلّم لزوم استعداد الجسم لحلول الصور والأعراض اللاحقة به، لكن لا نسلّم لزوم قیام هذا الاستعداد بما لا فعلیّة له فی ذاته، بل یجوز قیامه بالجسم بما له من الفعلیّة.
وقد أجاب عنه بما حاصله أنّ الاتّصال الجوهریّ الذی هو الحیثیّة الفعلیّة للجسم مغایر للصور النوعیّة التی تحلّ فی الجسم ویتّحد بها، والمغایر للشیء بما أنّه مغایر له یأبى عن قبوله والاتّحاد به، فلابدّ أن یكون هناك أمر لا یأبى بذاته عن قبول كلّ واحد منها، ولیس ذلك إلاّ ما حیثیّة ذاته حیثیّة القبول والقوّة المحضة، وهی الهیولى الاُولى.
وهذا الجواب مبنیٌّ على انحصار اتّحاد الشیئین فی اتّحاد ما بالقوّة بما بالفعل، واللامتحصّل بالمتحصّل، ومرجعه إلى إنكار الفعلیّات الطولیّة والصور المتراكبة كما ذهب إلیه صدر المتألّهین(2) خلافاً للشیخ فی طبیعیّات الشفاء. لكن للمُسْتَشْكِل منعُ ذلك وخاصّةً بالنظر إلى ما سیأتی منه(3) أنّ الصور النوعیّة المختلفة فی الحقیقة صورة واحدة سیّالة تشتدّ وجوداً بالحركة الجوهریّة، وینتزع عن حدّ كل مرتبة منها ماهیّةٌ خاصّة، حیث ینتفی ـ وفقاً لهذا النظر ـ موضوع اتحاد الشیئین وقبول أحدهما للآخر، وسیجیء تتمّة الكلام فی محلّه. وهذا أیضاً من الموارد التی اختلطت فیها الأبحاث الماهویّة بالوجودیّة، ومن آثار رسوب أصالة المهیّة فی الأذهان.
1. راجع: الأسفار: ج5، ص111ـ114.
2. راجع: نفس المصدر: ص327ـ338.
3. راجع: الفصل الثامن من المرحلة التاسعة فى المتن.
وكیف كان فللمستشكل أن یقول: التغایر الماهویّ بین الجسم والصور النوعیّة لا یمنع من كون وجوده على نعت خاصّ ضروریّاً لحصول الكمالات النوعیّة اللاحقة، ویعبّر عن ذلك بقبوله لها واتّحاده بها، سواء اعتبرنا الجمیع وجوداً وحدانیّاً ذا مراتب وشؤون، أو وجودات متعدّدة متراكبة یحتاج بعضها إلى بعض، حسب ما یقتضیه سنخ وجودها، ولك أن تقول: كون وجود الصورة ناعتیّاً هو المبرّر لاتّحادها مع المنعوت بها.
وأمّا ما أضاف إلیه من أنّ الاتّصال الجوهریّ لو كان هو الموضوع للاستعداد لاستلزم كونه حاملاً لقوّة نفسه،(1) وبالتالی مقدّماً على نفسه بالزمان، فهو مبنیٌ على مقدّمتین: إحداهما أنّ الجسم من الحوادث المسبوقة بالإمكان الاستعدادیّ، وثانیتهما أنّ موضوعیّة شیء للاستعداد یستلزم موضوعیّته لكلّ ما یحتاج إلى سبق استعداد حتّى نفسه، وكلتا المقدّمتین ممنوعتان:
أمّا الاُولى فلأنّ الجسم سواء قلنا ببساطته أو تركّبه من الهیولى والصورة لیس مسبوقاً بعدم زمانیّ حتّى یحتاج إلى سبق استعداد ومادّة، وإلاّ لزم تقدّم الهیولى على الصورة الجسمیّة بالزمان، ولزم أیضاً فرض هیولى اُخرى للجسم سابقة علیه. على أنّ ذلك لا یختصّ بالجسم، فالصورة النوعیّة والأعراض المكتنفة بها اللاحقة للجسم فی بدء وجوده أیضاً كذلك، لأنّ الجسم لا یوجد أوّلَ ما یوجد عاریاً عن أیّة صورة نوعیّة، كما أنّه لا یوجد من دون أن یتقدّر بمقدار خاصّ ویتكیّف بكیفیّة متعیّنة، ولیس لشیء منها تقدّمٌ بالزمان على الباقی. فلو اعتبرنا تقدّم المادّة زماناً على كلّ ما یتّحد بها لزم القول بتقدّم الهیولى على الجمیع بالزمان. فلا سبیل إلاّ إلى القول بكون مبدء الجسمانیّات نوعاً تامّاً ومتحصّلاً واجداً لما یلزم وجود الجسم من الصور والأعراض وبكونه أمراً إبداعیّاً غیر مسبوق بمادّة ومدّة، وبكونه مادّة اُولى لجمیع الحوادث.
1. راجع: الأسفار: ج5، ص113.
وأمّا الثانیّة فلأنّ ما یلزم القول بكون الجسم موضوعاً للاستعداد هو كونه حاملاً لقوّة ما سیوجد فیه لا كونه حاملاً لأیّة قوّة مفروضة حتّى قوّة وجوده نفسه، كیف والهیولى الاُولى أیضاً لیست حاملة لقوّة نفسها، وإلاّ لكانت متقدّمة على نفسها بالزمان!
هذا إشكال آخر على قول المشّائین، وهو أن القوّة والاستعداد معنىً عرضیٌّ، فلا یصحّ فرض قوّة جوهریّة على ما یزعمون بشأن الهیولى الاُولى.(1) وقد أجاب عنه بأنّ البرهان قائم على وجود جزء جوهریّ للجسم هو قوّة جمیع الصور اللاحقة به، ولا یُدفع البرهان بمثل هذا الوجه الراجع إلى الفهم العرفیّ من اللفظ.
والأولى فی بیان الإشكال أن یقال: القوّة إذا اُخذت بمعنى الاستعداد كانت إضافة أو كیفیّة ذات إضافة على ما هو المسلّم عند المستدلّ، وإذا اُخذت بالمعنى الذی یقابل الفعلیّة كانت من المعانی العقلیّة (المعقولات الثانیة الفلسفیّة) وتحصل من قیاس أمر سابق إلى أمر لاحق له علاقة خاصّة به، فلا تكون من المقولات حتّى تعدّ جوهراً أو عرضاً. وعلى أیّ حال فلا وجه للقول بوجود جوهر هو عین القوّة، فتأمّل.
حاصل هذا الإشكال أنّ القوّة والاستعداد یبطل بتحقّق المستعدّ له، ولو كانت الهیولى قوّةً لزم بطلانها عند تحقّق المقویّ علیه. وأجاب عنه تبعاً لصدر المتألّهین(2) بأنّ الذی یبطل عند تحقّق المستعدّ له هو الاستعداد الخاصّ لذلك المستعدّ له،
1. راجع: نفس المصدر: ص71.
2. راجع: نفس المصدر: ص74ـ76 و 119.
وهو أمر عرضیّ، وأمّا الهیولى فهی القوّة المطلقة لجمیع الصور، فلا یوجب حلول صورة خاصّة فیها بطلانها من رأس.
لكن للمستشكل أن یقول: إذا تعیّنت هذه القوّة المبهمة بسبب الإمكان الاستعدادیّ لشیء خاصّ فلا محالة تصیر الهیولى بتمام ذاتها قوّةً متعیّنة لذلك الشیء لمكان بساطتها، فیلزم بطلانها عند تحقّقه، فتأمّل.
هذا الإشكال یرد على مثل صدر المتألّهین(1) ممّن یقول بكون النفس مادّة للصورة العقلیّة، ولا یجدی لدفعه تفسیر المادّة بغیر ما یوجد فی الأجسام،(2) لأنّه إمّا أن یَعترف بلزوم استعداد النفس لحصول تلك الصور أو لا؟ وعلى الأوّل یلزمه الاعتراف بوجود مادّة حاملة للإمكان الاستعدادیّ فیجری فیه برهان القوّة والفعل بعینه، وعلى الثانی ینهدم أساس ذلك البرهان. لكن یمكنه أن یقول بأنّ المادّة الحاملة لاستعداد النفس هو مادّة البدن المتّحدة بها مادامت متعلّقة بالبدن. وأمّا كون اتّحاد النفس بالصور المعقولة اشتداداً فی جوهرها المجرّد فهو عبارة اُخرى عن ثبوت الحركة الجوهریّة فیها، فلا یلائم إنكار كونه من باب الحركة. كما أنّ جعل الحصول على كلّ مرتبة عقلیّة شرطاً لنیل ما فوقها لا یخرجها عن مجرى البرهان المذكور، فتأمّل.
هذا الإشكال قریب ممّا ذكرناه فی الإشكال الأخیر، وقد أشبعنا القول فیه، فراجع الرقم (132).
1. راجع: نفس المصدر: ص70ـ71.
2. راجع: تعلقیة الأسفار: ج5، ص70.
3. راجع: الأسفار: ج5، ص116ـ117.
هناك مسألتان: إحداهما عدم انفكاك الهیولى عن صورة مّا، وثانیتهما عدم انفكاكها عن الصورة الجسمیّة خاصّة.(1) والمسألة الثانیة إنّما تطرح بعد إثبات الصورة الجسمیّة وأنّ الجسم ماهیّة تامّة ولیس معنى جنسیّاً فقط.(2) وكلتا المسألتین متفرّعتان على ثبوت الهیولى الاُولى كقوّة جوهریّة محضة. والمسألة الاُولى واضحة بالنظر إلى كون الوجود مساوقاً للفعلیّة، والمفروض أنّ الهیولى فاقدة للفعلیّة فی ذاتها، فلابدّ من اتّحادها بالصورة التی حیثیّتها حیثیّة الفعلیّة حتّى تتحصّل موجوداً بالفعل، لكن هذا البیان لا یثبت لزوم اتّحادها بالصورة الجسمیّة خاصّة، فتدبّر.
إن اُرید بالصورة المقوّمة للمادّة ما هو أعمُّ من الصورة الجسمیّة لم یصحّ الاستدلال بتبدّل الصور لإثبات عدم كون الصورة تامّة الفاعلیّة، فإنّ المفروض عدم تبدّل الصورة الجسمیّة؛ وإن اُرید بها الصور المنوّعة كان الأولى تأخیر هذه المسألة عن إثبات تلك الصور. ثمّ لسائل أن یسأل: لِم لا یجوز أن تكون الصورة الجسمیّة فاعلاً تامّاً للهیولى ولا تكون لتلك الصور جهة فاعلیّة لها أصلاً؟(3)
أضف إلى ذلك أنّ للصور النوعیّة وجوداً واحداً سیّالاً عند المصنّف(دامظلهالعالی) كما سیأتی فی الفصل الثامن من المرحلة التاسعة، فلا تكثّر لها بالفعل بحسب
1. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص65؛ وراجع: النجاة: ص203ـ205؛ والنمط الاول من شرح الإشارات؛ والأسفار: ج5، ص129ـ156.
2. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ والأسفار: ج5، ص130.
3. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ والتحصیل، ص341؛ والأسفار: ج5، ص145.
الوجود الخارجیّ حتّى یتبدّل بعضها إلى بعض، اللّهمّ إلاّ أن یفسّر ذلك بتبدّل الحدود، فتأمّل.
الأولى أن یقال فی الجواب: إنّ ضرورة كون العلّة أقوى وجوداً من المعلول إنّما هی فی العلّة المفیضة للوجود، وهی ههنا المفارق دون الصورة.(1) على أنّ كون الهیولى واحدة بالعدد ممنوع ـ وقد اعترف صدر المتألّهین بكون وحدتها جنسیّة(2) ـ وخاصّة بالنظر إلى ما سیأتی فی الفصل التالی من أنّ الجسمیّة تبطل ببطلان الصورة النوعیّة وتحدث جسمیّة اُخرى بحدوث الصورة الجدیدة، فَلْیَلْتَزِمْ بمثله فی الهیولى، وفی الالتزام به هدم للأساس، ولا یجدی الفرق بین المادّة الاُولى والثانیة بأنّها تنحفظ شخصیّتها بالوحدة النوعیّة للصورة الجسمیّة بخلاف الثانیة، فإنّ الوحدة النوعیّة وحدة ماهویّة موطنها الذهن، والتحصّل الخارجیّ رهن للوجود، فَتَفَطَّنْ.
هذا فی غیر الصورة الجسمیّة.
هذه المقدّمة قابلة للمنع، فإنّها لیست بیّنة ولا مبیّنة. وقد استدلّ لها فی الأسفار بقوله «إذ لو لم یكن كذلك لكانت بعد التجرید عن الصور المختلفة والهیئات المتفاوتة إمّا حقائق مختلفة متخالفة بذواتها البسیطة، أو متفاوتة بفصول ذاتیّة غیر
1. راجع: الفصل المذكور من إلهیات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص79؛ والتحصیل: ص343؛ والأسفار: ج5، ص152.
2. راجع: الأسفار: ج5، ص74ـ75 و 123 و 152ـ156 و 187.
تلك الصور والهیئات، أو حقیقة واحدة غیر الحقیقة الواحدة المسمّاة بالجوهر القابل للأبعاد، أو هی من طبیعیة اُخرى یكون بمنزلة الفصل لها، والكلّ فاسد عند العقل الصحیح، فبقی كون الجمیع مشتركة فی طبیعة واحدة نوعیّة هی الجسمیّة، أی الجوهر المصحّح لفرض الأبعاد».(1)
لكن هذه الحجّة قابلة للمناقشة، لجواز كون الجسم معنى جنسیّاً غیر متحصّل إلاّ بالفصول،(2) ومع فرض حذف جمیع الصور المنوّعة لا یبقىٰ شیء متحصّل فی الخارج حتّى یتردّد بین كونه حقیقة واحدة أو حقائق مختلفة. ودعوى تجویز العقل وجودَ الجسم بصرافته فی الخارج مثل دعوى تجویز اللون بصرافته من غیر تعیّن، وسیأتی فی الفصل اللاحق أنّا لا نقدر على تصوّر جسم من غیر أن یكون عنصراً أو شجراً أو شیئاً من سائر الأنواع.
143 ـ قوله «فی كلّ جسم» متعلّق بقوله «ثبت» لا بـ «الحلول» فلا تغفل.
یمكن المناقشة فی هذا الاستدلال(3) بأنّ الطبیعة النوعیّة بما أنّها مهیّة لا تقتضی شیئاً من الغنى والافتقار، لأنّهما من أوصاف الوجود، وكما أن المهیّة لا تقتضی الوجود كذلك لا تقتضی شیئاً من أوصافه. ولعلّه لأجل ذلك أضاف قوله «وفی ذاته» حتّى یكون فی قوّة أن یقال «الجسم من حیث مهیّته ومن حیث وجوده...» فتأمّل.
1. راجع: نفس المصدر: ص130ـ131.
2. راجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص171.
3. راجع: آخر الفصل الثانی من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص64؛ والتحصیل: ص319 و 347؛ وراجع: الأسفار: ج5، ص129ـ133 و 137؛ حیث قال «ثمّ إنك لمّا علمت من طریقتنا ـ الخ ـ».
إن اُرید استحالة تبدّل كلّ من المستقلّ والناعت إلى الآخر فهو ممنوع لجواز كون الناعتیّة لازمة للمرتبة الضعیفة، فلا مانع من صیرورة الناعت مستقلّاً باشتداد وجوده وبلوغه إلى مرتبة یلزمها الاستغناء عن المحلّ، كما أنّ النفس تتجرَّد بالحركة الجوهریّة وتصیر مستغنیّة عن البدن حتّى فی فعلها عند اتّحادها بالعقل الفعّال ـ على ما قالوا ـ وإن اُرید خصوص تبدّل المستقلّ إلى الناعت فهو على الأقلّ غیر ضروریّ ویحتاج إلى برهان.
أی فی تعرّیها عن الهیولى ومفارقتها لها.
لكنّه لیس تقییداً فی الحقیقة، لأنّها عند بلوغ الغایة ـ على الفرض ـ لا تبقى جسمانیّةً ومحدودةً بحدودها الماهویّة، فلا یصدق علیها الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة الذی هو جنس لجمیع الصور الطبیعیّة أو لازم لها على الأقلّ، فتخرج عن القاعدة المبحوث عنها تخصّصاً.
قال فی الأسفار: «إنّ مادّة الشیء لیست داخلة فی قوام مهیّة ذلك الشیء وإلاّ لكانت بیّنةَ الثبوت له ولم یفتقر فی إثباتها إلى برهان، لكنّ الجسم بما هو جسم قد حصل لنـا معناه ـ وهو الجوهر الذی یمكن أن یفرض فیه أبعاد ثلاثة على الوجه المذكور ـ وشككنا فی أنّه هل له مادّة تحمل معناه أم لا، إلى أن جاء البرهان الحاكم
بوجود جوهر آخَرَ مادّی»(1) ثمّ نقل كلام الشیخ فی آخر الفصل الثانی من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء، لكن فی دلالة كلام الشیخ على عدم دخول المادّة فی قوام مهیّة الجسم نظر یظهر بالتأمّل فیه. وكیف كان فالجمع بین هذه الدعوى وما أصرّ علیه(2) من أخذ الجنس من الهیولى والفصل من الصورة، مشكل جدّاً. مضافاً إلى أنّ عدم دخول المادّة فی مهیّة الجسم لا یستلزم عدم دخول الجسم فی مهیّة الحیوان والإنسان.
وأمّا الاستدلال لعدم دخول المادّة فی قوام مهیّة الجسم بأنـّه لو كان كذلك لكانت بیّنة الثبوت له، فیلاحظ علیه بأنّ معرفة الجسم بأنـّه جوهر قابل للأبعاد الثلاثة لیست بمعرفة تامّة لحقیقة الجسم على فرض كونه مركّباً من جوهرین، والذاتیّ إنّما یكون بیّن الثبوت إذا عُرفت الذات معرفةً تامّة، كما أنّ معرفة النفس بأنّها جوهر مدبّر للبدن لا تستلزم العلم بتجرّدها، مع أنّه ذاتیّ لها.(3)
الكلام ههنا فی إثبات أنّ الجسم یتنوّع بحلول جواهرَ اُخرى غیرِ محسوسة بذاتها فیه، وهو مذهب المشّائین وأتباعهم من فلاسفة المسلمین، وخالفهم شیخ الإشراق تبعاً للأقدمین ـ على ما نسب إلیهم ـ. قال فی المطارحات: «أمّا الصورة فالقدماء
1. راجع: الأسفار: ج5، ص136 و 128؛ وج2: ص32ـ35.
2. راجع: نفس المصدر: ج2، ص37ـ38.
3. راجع: القبسات: ص46.
4. لتحقیق معانی الفصل راجع: الفصل الرابع من المقالة السادسة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص249؛ والتحصیل: ص533.
یرون أنّ كلّ ما ینطبع فی شیء هو عرض، ویتأبَّون عن تسمیة المنطبع فی المحلّ جوهراً»(1) وقال فی حكمة الإشراق: «والحقُّ مع الأقدمین فی هذه المسألة».(2)
وللقائلین بالصور النوعیّة الجوهریّة حجج منقولة فی الشفاء(3) والأسفار،(4) وتصدّى شیخ الإشراق لمناقشتها،(5) وصاحب الأسفار للإجابة علیها،(6) لكنّه أبدى مذهباً آخر، وهو أن الصورة النوعیّة لیست بجوهر ولا عرض بل هی الوجود الخاصّ للشیء،(7) وقد مرّت الإشارة إلى مذهبه فی حقیقة الفصل وأنّه نحو وجود الشیء تحت الرقم (103).
هذه ثانیة الحجج المنقولة فی الأسفار،(8) وحاصلها أنّ لكلّ نوع من الأنواع الجسمانیّة حیثیّةً ذاتیّة غیرَ حیثیّة الجسمیّة یستحیل تعقّله كنوع تامّ بدون تعقّل تلك الحیثیّة، فهی مقوّمة له، ومقوّم الجوهر أمر جوهریّ، فهی أمر جوهریّ.
هذا الإشكال أورده صاحب المطارحات على حجّة اُخرى قریبة المأخذ من هذه الحجّة، وهی ثالثة الحجج المنقولة فی الأسفار.(9)
1. راجع: المطارحات: ص284.
2. راجع: حكمة الإشراق: ص88.
3. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثانیة؛ والفصل الثانی من المقالة الرابعة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص69ـ74 و 170ـ171؛ والتحصیل: ص336ـ338.
4. راجع: الأسفار: ج5، ص157ـ182.
5. راجع: المقاومات: ص149ـ152؛ والمطارحات: ص284ـ293؛ وحكمة الإشراق: ص82ـ88.
6. راجع: الأسفار: ج5، ص167ـ180.
7. راجع: نفس المصدر: ص181؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص3.
8. راجع: الأسفار: ج5، ص166.
9. راجع: نفس المصدر: ص171؛ وراجع: المطارحات: ص288.
الأولى فی الجواب أن یقال: كون الفصل مأخوذاً من الصورة بأخذ مفهومها لا بشرط لا یوجب سرایة جمیع أحكام الفصل إلى الصورة وبالعكس، فلا منافاة بین عدم اندراج الفصل تحت الجوهر واندراج الصورة تحته.(1) قال صدر المتألّهین فی نظیر هذا المقام: «زوال الفصل وإن استلزم زوال الجنس من حیث هو جنس لكنّه لا یستلزم زواله من حیث هو مادّة».(2)
هذه اُولى الحجج المنقولة فی الأسفار،(3) وقد ناقشها فی المطارحات.(4) ونقول من رأس: لا ریب أنّ الانواع الجسمانیّة تنتزع عنها مفاهیمُ عامّةٌ كالجوهر والجسم، ومفاهیمُ اُخرى یختصّ كلّ واحد منها بنوع خاصّ. فإن كان شیء منها مركّباً فی الواقع من فعلیّات متراكبة كان له لا محالة صور متعدّدة بعضها فوق بعض، وربما یزول بعضها فیبقى بصورة واحدة أو أكثر، كالنبات الذی یعود تراباً.
لكنّ المركّب لابدّ من أن ینتهی إلى البسیط لاستحالة تركّب موجود محدود من اُمور غیر متناهیة بالفعل، فالنوع الجسمانیّ البسیط تنتزع عنه ثلاثة مفاهیم مثلاً: الجوهر، والجسم، والمفهوم الخاصّ بذلك النوع. فعلى القول ببساطته الحقیقیّة ونفی الهیولى الاُولى ـ كما هو المختار ـ لا مجال للقول بانتزاع المفاهیم العامّة من الأجزاء الخارجیّة (الهیولى والصورة) فتعود تلك المفاهیم اُموراً عقلیّة من قبیل المعقولات الثانیة الفلسفیّة، وتحمل على الأنواع الجسمانیّة بالحمل الشائع. اللّهمّ إلاّ أن یقال بأنّها
1. راجع: هذه التعلیقة: الرقم 104.
2. راجع: الأسفار: ج5، ص120.
3. راجع: نفس المصدر: ص157ـ166.
4. راجع: المطارحات: ص287ـ288.
من الأجزاء التحلیلیّة للماهیّة كأجناس الأعراض وفصولها، فتكون من قبیل المعقولات الاُولى وتحمل على الماهیّات النوعیّة بالحمل الأوّلیّ، فلیتأمّل.
وأمّا على القول بكون البساطة نسبیّة وكون كلّ موجود جسمانیّ مركّباً من جزأین خارجیّین (الهیولى والصورة) لا أقلَّ منهما، فإمّا أن یؤخذ الجوهر والجسم كلاهما معنیین جنسیّین بعضهما فی طول بعض، أو یؤخذ الجسم فقط جنساً ویؤخذ الجوهر معنىً عقلیّاً لازماً له؛ وعلى كلا الوجهین إمّا أن یلتزم بكون الجنس والفصل مأخوذین من المادّة والصورة وإمّا أن یُجوَّز كونهما من المعانی التحلیلیّة كأجناس الأعراض وفصولها. وكیفما فرض فلا تكفی الصورة الجسمیّة للتحصّل التامّ، بل یحتاج كلّ نوع جسمانیّ إلى انضمام جزء آخرَ به تتحصّل ماهیّته تحصّلاً تامّاً، وهو الصورة المنوّعة. ولا یجوز جعل الجوهر جنساً لها بناءً على كون الجنس مأخوذاً من الهیولى، وإلاّ لزم تركّبها من جزأین آخرین وهكذا فیتسلسل، فلابدّ من القول بكونها أمراً بسیطاً غیر مندرج تحت مقولة الجوهر بل إنّما یحمل علیها حملاً شائعاً. أمّا إذا جُوّز كون الجنس والفصل جزأین تحلیلیّین غیر مأخوذین من المادّة والصورة أمكن القول بكون الجوهر جنساً للصور النوعیّة محمولاً علیها بالحمل الأوّلیّ. نعم یكون الفصل على أیّ حال معنى بسیطاً غیر مندرج تحت الجوهر اندراج النوع تحت جنسه على ما مرّ بیانه. فتأمّل جیّداً.
لقد تصدّى فی الشفاء(1) لتبیین العلاقة بین المادّة والصورة وأنّ الصورة علّة لوجود المادّة، إلاّ أنّها لیست مفیضة لوجودها لقصور الجسمانیّات عن إفاضة الوجود،(2) ولهذا
1. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثانیة من إلهیّات الشفاء وراجع: التحصیل: ص340ـ343؛ وراجع: الأسفار: ج5، ص145ـ151.
2. راجع: المطارحات: ص445449.
یعبّرون عنها بشریكة العلّة للمادّة. وأمّا الصور النوعیّة فقالوا إنّها مقوّمة للمادّة بشركة الصورة الجسمیّة،(1) بل قالوا إنّها مقوّمة للصورة الجسمیّة أوّلاً.(2) وقوله «علّة فاعلیّة» احتراز عن العلّیّة المادّیة التی تكون للمادّة بالنسبة إلى الجسم وعلّیة التشخّص التی لها بالنسبة إلى الصورة.(3) وقوله «متقدّمة علیه» یعنی التقدّم بالعلّیة لا بالزمان.
قال فی الأسفار: «فصل فی أنّ تقویم الصورة الطبیعیّة للجسمیّة لیس على سبیل البدل»(4) وفرّع علیه زوال الجسم بزوال صورة طبیعیّة وحدوث جسم آخر بحدوث صورة طبیعیّة اُخرى، لكنّه أنكر ذلك فی بعض موارد اُخرى ونسبه إلى مكابرة العقل والحسّ جمیعاً.(5) وهذا البحث مبنیٌ على تعدّد الصور وتعاقبها، وأمّا بناء على كون جمیع الصـور مراتبَ وجود واحد ـ على ما سیجیء ذكره فی مبحث الحـركة الجوهـریّة ـ فیفقد البحث موضوعهـا، إلاّ أن یـؤوّل تعاقب الصـور بتعاقب المراتب الموجودة بالقوّة، فكلّ مرتبة تشتمل على صورة طبیعیّة تقوّم شخص الصورة الجسمیّة الموجودة فی ضمنها، وبتبدّلها إلى مرتبة اُخرى توجد صورة طبیعیّة اُخرى مشتملة على شخص آخر من الصورة الجسمیّة، كلُّ ذلك باعتبار الوجود بالقوّة.
ثمّ إنّ زوال المقوّم إذا كان موجباً لزوال المتقّوم لزم القول بزوال الهیولى الاُولى بزوال الصورة الجسمیّة المقوّمة لها، ولا یبقی حینئذ مبرّر لوجودها. وقد فرّق صدر المتألّهین بینهما بأنّ الهیولى تنحفظ شخصیّتها بانحفاظ نوعیّة الصورة الجسمیّة
1. راجع: التحصیل: ص336.
2. راجع: نفس المصدر: ص337ـ338؛ وراجع: الأسفار: ج5، ص185.
3. راجع: نفس المصدر: ص154ـ156؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص81.
4. راجع: الأسفار: ج5، ص182ـ183؛ والتحصیل: ص337.
5. راجع: الأسفار: ج5، ص120؛ و ج2: ص24؛ وراجع: التلویحات: ص19؛ وتعلیقة صدرالمتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص179؛ والمطارحات: ص367.
بخلاف الجسم،(1) لكن بقاء شخص الهیولى حقیقةً مع تبدّل أشخاص مقوّمها مشكل جدّاً والفرق بینها وبین الجسم أشدُّ إشكالاً.
یمكن أن یدفع الإشكال بأنّ المراد بالقبول أعمُّ من الاتّصاف بالفعل وبالقوّة. مضافاً إلى أن العدد بما أنّه موجود أمر وحدانیٌ قابل للقسمة إلى الآحاد أو إلى أعداد اُخرى، والكثرة بالفعل صفة للمعدود. واعلم أنّهم لا یعتبرون «الواحد» عدداً لعدم قبوله القسمة بما أنّه واحد، ویسمّونه مبدء العدد،(3) لكنّهم یعتبرونه عرضاً،(4) خلافاً لصدر المتألّهین وأتباعه حیث یقولون بأنـّه من أوصاف الوجود. وقد ذكروا وجوهاً للفرق بین المقدار والجسمیّة.(5)
قال فی الأسفار: «وله تعریفان: أحدهما كون الكم بحیث یمكن أن یفرض فیه
1. راجع: الأسفار: ج5، ص182؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص74.
2. راجع: الأسفار: ج4، ص8ـ10.
3. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج2، ص98؛ وراجع: المطارحات: ص237.
4. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص94ـ96.
5. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص171ـ175؛ وراجع: الأسفار: ج4، ص94ـ96.
أجزاء تتلاقى على الحدود المشتركة. والحدّ المشترك ما یكون بدایةً لجزء ونهایةً لآخَرَ. وثانیهما كونه قابلاً للانقسامات الغیر المتناهیة بالقوّة. والمنفصل یقابله فی كلا المعنیین».(1) وقال فى التحصیل: «المتّصل هو الذی یمكن أن یفرض بین أجزائه حدّ مشترك، وهذا الحدّ أمّا فی الجسم فهو السطح، وفی السطح الخطّ، وفی الخطّ النقطة».(2) وهكذا مثّل له فی شرح المنظومة.(3) فالحدّ المشترك على رأی هؤلاء أمر مغایر للمحدود من حیث النوع، ویقع طرفاً للكم لا جزءاً منه كما أنَّ السطح حدّ مشترك یفرض بین أجزاء الجسم وكذلك الخط للسطح، والنقطة للخطّ، لكنّ الاُستاذ(دامظلهالعالی) مثّل للحدّ المشترك بالجزء المتوسّط بین جزأین من الخطّ، والأوّل أولى بل هو المتعیّن، فإنّ الظاهر من قولهم «تتلاقى على حدود مشتركة» أنّ الأجزاء غیر الحدود.
حاصل البیان أنّه إذا قسّم الخمسة إلى اثنین وثلاثة مثلاً فإن جعل واحد من آحادها حدّاً مشتركاً بین الجزئین صارت الآحاد الباقیة أربعة، وإن جعل بینهما حدّ من غیر آحاده صار المجموع ستّة. لكنّ الأمر واضح فی نفسه ولا یزیده هذا البیان وضوحاً، ولقائل أن یقول إنّه من قبیل «باؤك تجرّ وبائی لا تجرّ» لأنّه إن كان البناء على اعتبار الحدّ واحداً من جملة الآحاد فلیعتبر فی الشقّ الأوّل أیضاً فتكون الآحاد خمسة لا أربعة، وإن كان البناء على عدم اعتباره من جملة الآحاد فلیفعل فی الشقّ الثانی أیضاً فتكون الآحاد خمسة لا ستّة.(4)
1. راجع: نفس المصدر: ص13ـ14؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص178ـ179.
2. راجع: التحصیل: ص354.
3. راجع: شرح المنظومة، ص133؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص181.
4. راجع: المطارحات: ص236.
هذا البیان ـ بصرف النظر عمّا وقع فیه من التسامح حیث اعتبر جزء من الزمان موجوداً بالفعل مع عدم وجود جزء بالفعل فی الكم المتّصل ـ یدلّ على أنّ القوّة أمر إضافیٌ، ویصحّ اعتبار موجود بالفعل قوّةً بالإضافة إلى موجودٍ لاحقٍ به من غیر حاجة إلى مادّة تقوم قوّته بها وإلاّ لزم التركّب فی الأعراض، وبذلك ینهدم أساس ما احتجّوا به على إثبات الهیولى الاُولى، فتذكّر.
الذی یصحّ دعوى الضرورة فیه هو اتّصاف الأشیاء الخارجیّة بالأعداد كاتّصافها بالآحاد، وهذا لا یستلزم كون العروض أیضاً فی الخارج، بحیث یصحّ عدّ العدد من المهیّات الحقیقیّة، فإنّ الأشیاء الخارجیّة تتّصف بالمعقولات الثانیة الفلسفیّة أیضاً كالإمكان والوجوب والوحدة وغیرها، والأشبه كون العدد من هذا القبیل، ویدلّ علیه صحّة حمل أعداد مختلفة على أشیاءَ معیّنةٍ حسبَ اختلاف الاعتبارات، وصحّة حمل عدد على عدد وهكذا مرّات عدیدة من غیر حصول شیء بإزائها.(2)
الجسم التعلیمیّ أو الحجم ینتزع من حدود الجسم الطبیعیّ، والسطح ینتزع من حدّ الحجم، كما أنّ الخطّ هو طرف السطح، والنقطة طرف الخطّ. والحدود والأطراف
1. راجع: الفصل الخامس من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص367؛ والمطارحات: ص245ـ246.
2. راجع: المطارحات: ص358؛ وحكمة الإشراق: ص6768.
3. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص375.
اُمور عدمیّة لا یصحّ عدّها من المهیّات الحقیقیّة.(1) وقد فرّق الشیخ بین اعتبار كونها نهایات واعتبار كونها مقادیر،(2) لكنّه غیر مجدٍ فى إثبات كونها اُموراً عینیّة. وقد صرّح صدر المتألّهین فی موضع بكونها من العوارض التحلیلیّة،(3) وإن نسب اُستاذه هذا القول إلى بعض المقلّدین.(4)
كذا قال فی الشفاء،(5) واحتمل فی الأسفار عدم التخالف النوعیّ بینها.(6)
فیه نظر واضح، فإنّ الشكل غیر المنتظم أیضاً شكل واحد لا تركیب فیه بالفعل، وفرض قسمته إلى أشكال منتظمة لسهولة المحاسبة لا یستلزم تركّبه منها حقیقة، وإلاّ لزم القول بتركّب المربّع من مثلّثین وهكذا فی كثیر من الأشكال المنتظمة.
من أحكام الكم أنّه لا تضادّ فیه، وإنّما عبّروا بالأحكام دون الخواصّ (كما یعبّر
1. راجع: المطارحات: ص262ـ263.
2. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص102؛ وراجع: التحصیل: ص372؛ والمطارحات: ص247؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص215.
3. راجع: تعلیقة صدر المتألهین على إلهیّات الشفاء، ص104.
4. راجع: القبسات: ص285ـ292.
5. راجع: الفصل الخامس من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء.
6. راجع: الأسفار: ج2، ص99ـ100.
7. راجع: المباحث المشرقیة، ج1، ص188ـ190؛ وراجع: المطارحات: ص240.
بالخواص عن المساواة والمفاوتة، والانقسام، ووجود العادّ) لأنّ بعضها لا یختصّ بالكم بل یشمل بعضاً آخر من المقولات،(1) وبعضها الآخر لا یشمل جمیع أقسام الكم.
قال فی الشفاء: «لهذا ما قال الفیلسوف المقدّم: لا تحسبنّ أنّ ستّةً ثلاثةٌ وثلاثة، بل هو ستّة مرّةً واحدة»(2) وقال صدر المتألّهین: «فالحقّ أنّ مهیّة العدد أمر بسیط لا اختلافَ أجزاءٍ فیها»(3) ویتأیّد بذلك ما أشرنا إلیه سابقا(4) من أنّ العدد لیس مركّباً بالفعل حتّى من الآحاد، بل ینقسم إلیها كما ینقسم إلى أعداد اُخرى أحیاناً.
قال فی الأسفار: «وعلیه براهینُ كثیرةٌ نذكر منها ثلاثةً» ثمّ ذكر هذا البرهان المسمَّى ببرهان المسامتة وقال «وهو المعوّل علیه».(6)
قال الشیخ فی عیون الحكمة (ص 34): «لو كان بُعد غیر متناهٍ خلأً أو مَلأً لكان لا یمكن أن تكون حركة مستدیرة، فإنّه إذا أخرجنا عن مركزها خطّاً إلى المحیط بحیث لو اُخرج فی جهةٍ قاطَعَ خطّاً مفروضاً فی البعد غیر المتناهی على نقطة، فإنّه إذا دار زالت تلك النقطة عن محاذاة المقاطعة إلى المباینة إذا صارت فی جهة
1. راجع: التحصیل: ص361ـ364؛ والأسفار: ج4، ص18ـ30.
2. راجع: الفصل الخامس من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء.
3. راجع: الأسفار: ج4، ص185.
4. راجع: هذه التعلیقة: الرقم 156.
5. راجع: النمط الأوّل من الاشارات؛ وراجع: الفصلین السابع والثامن من المقالة من الفن الأوّل من طبیعیات الشفاء: ص98ـ103؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص192ـ203.
6. راجع: الأسفار: ج4، ص21ـ22؛ وشرح المنظومة: ص225؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص196؛ ونقد المحصل: ص217؛ وراجع: الفصل الثامن من المقالة الثانیة من الفن الاول من طبیعیات الشفاء: ص5758؛ والنجاة: ص123؛ والتحصیل: ص385ـ387.
اُخرى، فیصیر بعد أن كان المركز مسامتاً بها شیئاً من ذلك الخطّ غیرَ مسامت لشیء منه ثمّ یعود مسامتاً، فلابدّ من أوّل نقطة تسامتٍ فی ذلك الخطّ وآخر نقطة تسامتٍ علیها. لكن أیّ نقطة فرضناها على خطّ غیر متناه فإنّا نجد خارجاً عنها نقطة اُخرى یمكن أن نصلها بالمركز، فیكون القطع الحاصل إذا بلغه النقطة صار مسامتاً قبل أوّل ما سامَت ـ أو بعد آخر ما سامَت ـ هذا خلف. لكنّ الحركات المستدیرة ظاهرة الوجود فالأبعاد الغیر المتناهیة ممتنعة الوجود».
توضیح البرهان أنّه لو فرض خطّ غیر متناه أمكن أن یفرض بموازاته خطّ یكون محوراً لكرة، وأمكن أن تتحرّك الكرة بحیث یصیر الخطّ المحوری مائلاً إلى الخطّ غیر المتناهی فیخرج عن الموازاة إلى المسامتة، ولازمه أن یتقاطعا لا محالة بحكم مصادرة اقلیدس، ویتعیّن محلّ التقاطع حسب مقدار حركة الكرة وارتسام الزوایا التی تحصل حول مركزها حتّى ینتهی إلى نقطة المحاذاة لمركز الكرة حیث تصیر الزاویة قائمة. فهناك زوایا حادّة بین الخطّ الموازی والخطّ المقاطع، تختلف درجاتها من فوق الصفر إلى مادون التسعین درجة. فعند حصول أوّل جزء من الحركة ترتسم زاویة حادّة قریبة من الصفر وترتسم نقطة على الخطّ غیر المتناهی تكون طرفاً للخط المساس، وهی أول نقطة للمسامتة فلو كان الخط الأول متناهیاً أمكن جعل النقطة الاُولى طرفاً له، لكن لمّا فرضناه غیر متناه توجد علیها نقاط اُخرى قبل النقطة الّتی فرضناها نقطة اُولى للمسامتة وأبعد منها عن نقطة المحاذاة، ویمكن وصل تلك النقاط بمركز الكرة برسم خطوط مستقیمة اُخرى قبل أن یصل إلى الخطّ الموازی وتنطبق علیه. فمقتضى وجود المبدء للحركة أن تكون على الخطّ نقطة متعیّنة للمسامتة، ومقتضى كون الخطّ غیر متناه أن تفرض قبلها نقاط اُخرى للمسامتة إلى غیر النهایة. ومنشأ هذا التناقض هو فرض عدم التناهی، فاستحالة التناقض یكشف عن بطلان الفرض بالبرهان الخلفیّ.
واعلم انه قد یقرّر البرهان بوجه آخر، وهو أن یفرض الخطّ المحوریّ مقاطعاً للخطّ غیر المتناهی ویفرض حركة الكرة إلى حیث یصیر موازیاً له، ویسمّى ببرهان الموازاة.(1) والفرق بین التقریرین أنّ التركیز فی التقریر الأول على اُولى نقاط المسامتة، وفی التقریر الثانی على آخرتها.
ثمّ إنّ صدر المتألّهین نقل قدحاً فی هذا البرهان عن بعض أكابر المتأخّرین وتصدّى للإجابة علیه،(2) لكن الظاهر ورود الإشكال، وتقریره بوجه أوضح أنّ الحركة متكمّمة بالكمیة الاتّصالیّة، وكلّ مقدار وامتداد سواء كان قارّاً أو غیر قارّ یقبل الانقسام إلى غیر النهایة، فكلّما فرضت الحركة قصیرة أمكن فرض أقصر منها، فالزاویة التی ترتسم حول مركز الكرة بسبب حركة محورها كلّما كانت شدیدة الحدّة أمكن فرض أحدَّ منها، وهذا هو السرّ فی إمكان فرض نقطة قبل النقطة المفروضة كنقطة اُولى للمسامتة. هذا مضافاً إلى ما یرد على جمیع البراهین الریاضیّة فی هذا المضمار. وسیأتی الإشارة إلیه تحت الرقم (168).
وأمّا البرهانان الآخران فهما البرهان السلّمیّ وبرهان التطبیق(3) ویستفاد من هذه البراهین لإبطال التسلسل أیضاً، وقد ذكرها مع عدّة اُخرى من البراهین فی مباحث العلّة والمعلول من الأسفار،(4) وللمناقشة فی جلّها مجال واسع.
وهی أنّ الخطّین إذا كانا متوازیین فلا یتقاطعان وإن امتدّا إلى غیر النهایة، وإذا خرجا عن التوازی تقاطعا لا محالة.
1. راجع: شرح المنظومة: ص225.
2. راجع: الأسفار: ج4، ص22ـ23.
3. راجع: نفس المصدر.
4. راجع: نفس المصدر: ج2، ص144ـ170؛ وراجع: القبسات: ص227ـ237.
یشكل الجمع بین القول باستحالة الغیر المتناهی بالفعل والقول بجواز وقوع حوادثَ غیرِ متناهیة، خاصّة بالنظر إلى أنّ المتفرّقات فی وعاء الزمان مجتمعات فی وعاء الدهر.(1) ویمكن دفع الإشكال بأنّ العدد أمر یقبل التنصیف وسائر النسب الكسریّة، ولهذا فلا یصدق إلا على الاُمور المحدودة، فالاُمور التی لا تتناهى لا تكون معروضة للعدد بما أنّها غیر متناهیة. وإذا صحّ هذا الجواب أمكن إجراؤه فی المقادیر الهندسیّة أیضاً، فیقال: المقادیر الهندسیّة بما أنّها تلك المقادیر لا تعرض إلاّ للأجسام المتناهیة، فلا تدلّ البراهین الهندسیّة كالبرهان السلّمیّ وبرهان المسامتة على تناهی العالم الجسمانیّ فی الواقع. وفیه تأیید لكون الكم اعتباریّاً كما أشرنا إلیه سابقاً.(2)
وقال فی تعلیقته على الشفاء: «إنّ المشهور فی تعریف الكیفیّة أنّها هیئة قارّة لا یوجب تصوُّرها تصوُّرَ شیء خارج عنها وعن حاملها ولا یقتضی قسمة ولا نسبة».(3) وزاد فی الأسفار كما فی المباحث المشرقیّة قوله «فی أجزاء حاملها»(4). ثمّ إنّ الرازیّ أورد على هذا التعریف سبع إشكالات، وقال بعدها: «ولعلّ الأقرب أن یقال: الكیف هو العرض الذی لا یتوقّف تصوُّره على تصوُّر غیره ولا یقتضی
1. راجع: القبسات: ص185ـ187.
2. راجع: هذه التعلیقة: الرقم 160 و 161.
3. راجع: الأسفار: ج4، ص59؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص121؛ والتحصیل: ص393.
4. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص257.
القسمة واللاقسمة فی محلّه اقتضاءً أوّلیّاً».(1) ونقل فی الأسفار والتعلیقة تلك الإشكالات، ثمّ قال: یمكن الجواب عن أكثر هذه الإیرادات.
الظاهر أنّ مراده بعض معروضاتها، فإنّ جمیع معروضات المقولات النسبیّة لیست هی الكیفیّات، وزاد فی تعلیقته على الشفاء «والكمیات» وقال فی المباحث المشرقیّة «معروضاتها التی هی فی الكیفیّات».
وتسمّى أیضاً الانفعالات والانفعالیّات. ومطالب هذا الفصل تشكّل تفسیراً فلسفیّاً لآراء طبیعیّة قدیمة انكشف فساد أكثرها بفضل تقدّم العلوم الطبیعیّة وبمعونة الأجهزة والأدوات الحدیثة. وأمّا الآراء الطبیعیّة الحدیثة فتستدعی تفسیراً فلسفیّاً آخرَ یتوقّف على تبیین تلك الآراء ومعرفة قیمتها العلمیّة، وهو أمر لا یسعنا الغور فیه بالفعل.
وهو طعم یلذع اللسان كطعم الفلفل.
1. راجع: نفس المصدر: ص261.
2. راجع: الفصل السابع من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص122ـ126؛ والأسفار: ج4، ص64ـ104؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص265ـ315؛ والتحصیل: ص394ـ395.
وهما متقاربان، وجعلوا الفرق بینهما أنّ الأوّل یقبض ظاهر اللسان، والثانی باطنَه.
وجعلهما فی الأسفار(1) من باب الوضع، لأنّ حقیقة معناهما هو اختلاف الأجزاء واستواؤها فی الوضع. وأمّا الصلابة واللین فقد جعلهما من باب الكیفیّات الاستعدادیّة، لأنّ الأوّل استعداد طبیعیّ نحو اللاانفعال، والثانی استعداد طبیعیّ نحو الانفعال والانغمار.
بناء على كون الكم من المعقولات الثانیة یمكن جعل الكیفیّات المختصّة بالكمیّات المتّصلة من أعراض الجسم الطبیعیّ، وینتزع عن جمیعها مفهوم المقدار، وأمّا الكیفیّات المختصّة بالعدد فهی أوصاف اعتباریّة كنفس العدد.
یعنی أنّ بین السطح المستوی والسطح المنحنی أیضاً تخالفاً نوعیّاً، وقوله «وأیضاً غیره لما یخالفه» یعنی أنّ بین أنواع السطح المنحنی أیضاً تغایراً نوعیّاً، كالسطح
1. راجع: الأسفار: ج4، ص84 و 108؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص318.
2. راجع: الفصل السابع من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص403؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص414428؛ والأسفار: ج4، ص162ـ183.
المقعّر والسطح المحدّب. وقوله «وكذا الأجسام التعلیمیّة لما یخالفها» یعنی أنّ كلَّ نوع من أنواعها یباین النوع الآخر كالكرة والاُسطوانة والمكعّب وغیرها. ویمكن أن یراد التباین بین الأجسام التعلیمیّة والسطوح والخطوط.
قد مرّ منه وجود الكم المنفصل فی المجرّدات، ولازمه وجود الكیفیّات المختصّة به فیها أیضاً. وقد منع صدر المتألّهین عروضه للمفارقات،(1) والأمر سهل بناءً على كونه اعتباریّاً.
قد أشرنا سابقاً إلى معانی القوّة والإمكان والاستعداد،(3) والمراد هنا بالقوّة المقاومة واللاانفعال كالمصحاحیّة، والمراد باللاقوّة الانفعال وعدم المقاومة كالممراضیّة. وأمّا القوّة بمعنى مبدئیّة التأثیر والفعل فهو خارج عن الكیفیّة الاستعدادیّة كما سیأتی فی المتن.
قد أورد فی الأسفار ایراداً على هذا التعریف هو أنّ الاستعداد من باب المضاف
1. راجع: الاسفار: ج4، ص62.
2. راجع: الفصل الثانی من المقالة الرابعة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص161 و 165؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص315؛ والأسفار: ج4، ص104.
3. راجع: هذه التعلیقة: الرقم 132.
لا الكیف(1) (ومن الواضح أنّه لا یصحّ أخذ مقولة فی تعریف ما هو من مقولة اُخرى). ویمكن دفعه بأنّ الاستعداد من قبیل الكیفیّات ذات الإضافة لا من قبیل الإضافات.
ثمّ إنّ تقیید الاستعداد بالشدید أو الكامل ـ كما وقع فی كلام الشیخ ـ یُخرج الاستعداد الضعیف عن التعریف، فیقع السؤال: من أیّ المقولات هو؟ وینقدح هناك سؤال آخر، وهو أنّ مفهوم الشدّة مفهوم مشكّك، فهل یعتبر أشدُّ مراتب الاستعداد أوّلاً؟ فإن كان الأوّل كان الأولى تقیید الاستعداد بالأشدّ دون الشدید، وإن كان الثانی فما هو النصاب المعتبر فیه؟
قال بهمنیار: «والانفصال بین الحال والملكة انفصال بأعراض لا بفصول داخلة فی طبیعة الشیء، بل الحال بینهما كالحال بین الصبیّ والرجل».(2) وقال الرازیُّ: «والافتراق بینهما افتراق بالعوارض لا بالفصول ـ إلخ ـ »،(3) وحكاه فی الأسفار ثمّ قال: «من أراد أن یعرف فساد هذا القول فینبغی أن ینظر فی أمر الحال والملكة فی باب العلم، فإنّ الحال هو الصورة الحاصلة، وهی من الأعراض التی موضوعها النفس. وأمّا إذا صار العلم ملكة فلابدّ أن یتّحد النفس بجوهر عقلیّ وبه یصیر جوهراً فعّالاً لمثل تلك الصور وأمثالها ـ إلخ ـ».(4) وهو مبنیّ على اعتبار المرتبة
1. راجع: الأسفار: ج4، ص105.
2. راجع: التحصیل: ص394.
3. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص319.
4. راجع: الأسفار: ج4، ص110.
الشدیدة والمرتبة الضعیفة نوعین متخالفین ـ حسب ما أشار إلیه الاُستاذ(دامظلهالعالی) ـ لكن یتّجه علیه اعتبار المراتب المتوسّطة أیضاً أنواعاً متخالفة، فتفطّن.
وأمّا بناء على كون الوجود ذا مراتب مشكّكة وكونه قابلاً للاشتداد كما هو الحقـ فیمكن القول بكون الجمیع مراتب حقیقة واحدة. وأمّا قدرة النفس على إصدار الصور العلمیّةبعد ما صار العلم ملكة لهفلیس یكفی دلیلاً على كون هذه الملكة جوهراً عقلیّاً، بل یكفی لتبیینه تكامل جوهر النفس، خاصّةً بالنظر إلى ما ذهب إلیه صدر المتألّهین وتبعه علیه الاستاذ(دامظلهالعالی) من كون العرض من مراتب وجود الجوهر، فتبصّر.
استیفاء البحث عن الإرادة وما یتعلّق بها یستدعی وضع رسالة مستقلّة، ونرجو منالله تعالى أن یوفّقنا لذلك إن شاء الله العزیز. وقد تعرّض له فحول العلماء وأكابر الحكماء فی مسفوراتهم منهم الشیخ الرئیس وصدر المتألّهین واُستاذه.(1) وقد أشار الاُستاذ(دامظلهالعالی) هنا إلى جوانب منه: أحدها مفهوم الإرادة، وثانیها مغایرتها للشوق، وثالثها مبادئ الإرادة، ورابعها عدم كونها إرادیّة، وخامسها كونها من لوازم العلم الذی هو متمّم لفاعلیّة الفاعل العلمیّ، وسادسها ملاك اختیاریّة الفعل.
ونركّز ههنا على عدّة نقاط هامّة فقط، فنقول: إنّ الإرادة قد تستعمل بمعنى قریب من الحبّ والرضا كقوله تعالى: «تُرِیدُونَ عَرَضَ الدُّنْیا وَاللّهُ یُرِیدُ الآخِرَة»(2) یعنی تحبّون عرض الدنیا وترضون بها ولكن الله یرضى لكم الآخرة، والإرادة بهذا
1. راجع: الفصل السابع من المقالة الثامنة، والفصل الاول من المقالة العاشرة من إلهیّات الشفاء وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص160ـ164؛ وراجع: القبسات: ص309ـ343 و 444 و 473؛ وراجع: الأسفار: ج2، ص220 و 253 و260؛ وج3: ص211؛ وج4: ص113؛ وج6: ص323؛ وراجع: الاخلاق إلى نیقوماخوس: ج1، ص265ـ274.
2. سورة الأنفال، الآیة 67.
المعنى كیف نفسانیّ فی ذوی النفوس، ویقابلها الكراهة؛ وقد تستعمل بمعنى الطلب التشریعیّ ویقال لها «الإرادة التشریعیّة» التی تتجلّى فی الأوامر والنواهی؛ وقد تستعمل بمعنى إجماع العزم المستتبع لحركة العضلات ـ إذا تعلّقت بالأفعال البدنیّة ـ ولا یضادّها شیء. والإرادة بهذا المعنى هی معركة الآراء، وذهب كثیر منهم إلى أنّها هی الإرادة بالمعنى الأوّل، ولهذا فقد عرّفوها بالشوق المؤكّد، وذكروا أحكامها فی باب الكیف النفسانیّ.
قال صدر المتألّهین: «والحقّ أنّ التغایر بینهما بحسب الشدّة والضعف لا غیر، فإنّ الشوق قد یكون ضعیفاً ثمّ یقوى فیصیر عزماً».(1) لكن صرّح الشیخ بالمغایرة بینهما حیث قال: «والإجماع لیس هو الشوق. فقد یشتدّ الشوق إلى الشیء فلا یُجمع على الحركة البتّة».(2) وقد یقال بإمكان تحقّقها بدون الشوق كمن یرید قطع عضو من أعضائه تحفّظاً على سلامة سائر الأعضاء ولیس له شوق إلى قطع العضو. ویلاحظ علیه أنّ قطع العضو وإن لم یكن مشتاقاً إلیه بالذات إلاّ أنّه مشتاق إلیه بالتبع لأجل الاشتیاق إلى سلامة الأعضاء التی تتوقّف على قطعه، فیتولّد من الاشتیاق إلى السلامة شوق إلى أسبابه، كما تتولّد من إرادة فعل ذی أسباب إراداتٌ متعلّقة بأسبابه. قال الشیخ: «لا یمكن أن تكون حركة نفسانیة لا عن شوق البتّة».(3)
ویكفی لإثبات وجود الإرادة بالمعنى الثالث ومغایرتها للشهوة والغضب والشوق، التأمّل فی حالات النفس، بل هو الطریق الوحید للكشف عن أمثال هذه الأمور، كما یكفی لإثبات مغایرتها لنفس تحریك العضلات، التأمّل فی حال من یرید فعلاً بزعم قدرته علیه وهو عاجز عنه، كمن ابتلی بالفالج ولمّا یعلم به بعدُ.
1. راجع: المبدء والمعاد: ص234.
2. راجع: الفصل الرابع من المقالة الرابعة من الفن السادس من طبیعیات الشفاء: ص343؛ وراجع: التحصیل: ص804.
3. راجع: الفصل الخامس من المقالة السادسة من إلهیّات الشفاء.
وأمّا حقیقتها فالأشبه أنّها فعل اختیاریّ صادر عن النفس بنوع من التجلّی، ولا یختصّ الفعل الاختیاریّ بما كان مسبوقاً بالإرادة، بل یعمّ فعل الفاعل بالقصد ـ وهو المسبوق بالإرادة ـ وفعل الفاعل بالعنایة والفاعل بالرضا والفاعل بالتجلّی. وملاك اختیاریّة الفعل كونه صادرة عن رضى من الفاعل بغیر قهر قاهر، وإن شیءت قلت: ملاكها ملاءمة الفعل لذات الفاعل العلمیّ وصفاته الذاتیّة بما تشتمل على الحبّ وغیره. نعم، قد یستعمل الاختیار فی مقابل الإكراه، فیختصّ بما كان انتخاب الفعل من قِبل الفاعل نفسه من دون إكراه وتهدید من غیره، كما أنّه قد یستعمل فی مقابل الاضطرار فیختصّ بما كان للحصول على الغرض طرق مختلفة دون ما ینحصر فی طریق واحد كمن یضطرّ لحفظ نفسه إلى أكل المیتة.
ومن هنا یظهر النظر فی تفسیر الاختیار والاضطرار بالإمكان والضرورة، كما یظهر النظر فی ما ذكره صدر المتألّهین من إنّ الإرادة لو كانت فعلاً اختیاریّاً لاحتاجت إلى إرادة اُخرى.(1)
وأمّا مبادئها العلمیّة والشوقیّة فمعروفة، لكن ینبغی الالتفات إلى أن الشوق لا یختصّ بالشوق الحیوانیّ بل یشمل الشوق الإنسانیّ المتعالی بمراتبه، كما أنّ العلم لا یختصّ بالتصورّ والتصدیق بل یشمل العلم الحضوریّ أیضاً. ولْیُعلم أنّ الشوق والرضا والحبّ وما یشابهها وإن كانت لا تنفكّ عن العلم إلاّ أنّها لیست نفس العلم،(2) فحیثیّة العلم هی الكشف فقط وحیثیّة هذه الاُمور هی ما یستلزم الانجذاب نحو الملائم والانسیاق نحو المطلوب فی ذوی النفوس. ومن هنا یظهر ما فی إرجاع إرادة الواجب تعالى إلى العلم، فإن لم یكن بدٌّ من الإرجاع فالأولى إرجاعها إلى الحبّ.(3)
1. راجع: الأسفار: ج4، ص114.
2. راجع: الفصل الرابع من المقالة الرابعة من الفن السادس من طبیعیّات الشفاء: ص343؛ وراجع: التحصیل: ص804.
3. راجع: الفصل الثالث عشر من المرحلة الثانیة عشر فى المتن.
بل سیأتی فی الفصل السابع من المرحلة الثامنة، وراجع الفصل الثالث منها أیضاً.
سیجیء تمام الكلام فی القدرة فی البحث عن قدرته تعالى فی الفصل الثالث عشر من المرحلة الثانیة عشر.
من الكیفیّات النفسانیّة هیئات راسخة فی النفس خاصّتها إغناء الفعل الإرادیّ عن التروّی كالشجاعة والسخاء وغیرهما، وتسمَّى بالأخلاق.(2) وقد تخصّ الأخلاق بالملكات الفاضلة، كما أنّها قد تعمَّم تارة إلى نفس الأفعال القیمیّة، واُخرى إلى الحالات الشوقیّة وغیرها من مبادئ الأفعال القیمیّة وإن لم تبلغ حدّ الملكة، والمراد بها ههنا هی المَلَكات.
والملكة تحصل عادةً من تكرّر الحالات، ولهذا تطلق الأخلاق على الهیئات الراسخة فی النفوس الإنسانیّة وما یشابهها بسبب تكرّر الحالات والأفعال الناشیءة منها، دون المفارقات والنفوس الفلكیّة ـ على القول بها ـ. قال صدر المتألّهین: «وكأنّه أمر حاصل عقیب تعمّل واكتساب، فلیس للأفلاك والمبادئ خُلق».(3) وقال الشیخ فی التعلیقات: «نسبة الأفعال الجمیلة إلى وجود الملكة الفاضلة كنسبة
1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الرابعة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص162؛ وراجع: التحصیل: ص473؛ وراجع: الأسفار: ج4، ص111؛ وج6: ص307ـ323.
2. راجع: الفصل السابع من المقالة التاسعة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: النجاة: ص296؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص385؛ وطهارة الاعراق: لابن مسكویه، ص36؛ وراجع: الأسفار: ج4، ص114؛ وراجع: النمط الثالث من الإشارات.
3. راجع: الأسفار: ج4، ص115.
التأمّلات والأفكار إلى وجود الیقین. فكما أنّ التأمّلات والأفكار لا توجد الیقین بل تُعدّ النفس لقبول الیقین فكذلك الأفعال الحسنة تُعدّ النفس لقبول الملكة الفاضلة من عند واهب الصور».(1)
واعلم أنّ اعتبار الملكة كمبدء لصدور الفعل لیس بمعنى ضرورة صدور الفعل عن صاحبها ولا استغناء الفاعل عن الإرادة، قال صدر المتألّهین: «ولیس الخلق أیضاً یلزمه المبدئیّة للفعل بل كونه بحیث إذا اُرید الفعل یصدر بلا صعوبة ورویّة»(2) نعم، یمكن أن یقال إنّ صاحب الملكة یلزمه غالباً إرادة الفعل، بل یمكن أن تبلغ الملكة حدّاً من الشدّة والرسوخ لا ینفكّ عنه إرادة الفعل المناسب لها أبداً كما فی المعصومین(علیهمالسلام) لكن لیس معنى ذلك اضطرار الفاعل فی فعله، لأنّ الاختیار لا یستلزم ترك الفعل أحیاناً كما ربما یتوهَّم، بل ملاكه كما أشرنا إلیه هو كون الفعل ناشیءاً عن الرضا والحبّ، كما أنّه لیس معناه عدم توسّط الإرادة بین الملكة والفعل بحیث یخرج الفعل عن وصف الإرادیّة.
بالنظر إلى أنّ العقل العملیَّ لم یبحث عنه فی هذا الكتاب ینبغی أن نذكر بعض كلمات القوم فی هذا الباب. فنقول: قد قسّموا قوى النفس الناطقة إلى نظریّة وعملیّة، فعن المعلّم الثانی أنّ النظریّة هی التی بها یحوز الإنسان علمَ ما لیس من شأنه أن یعمله إنسان، والعملیّة هی التی یعرف بها ما شأنه أن یعمله إنسان.(3) وعرّف الشیخ فی الإشارات القوّة العملیّة بقوله: «هی التی تستنبط الواجب فی ما
1. راجع: التعلیقات: ص37.
2. راجع: الأسفار: ج4، ص115.
3. راجع: شرح المنظومة: ص305.
یجب أن یفعل من الاُمور الإنسانیّة جزئیّةً لیتوصّل به إلى أغراض اختیاریّة، من مقدّمات أوّلیّة وذائعة وتجربیّة، وباستعانة من العقل النظریّ فی الرأی الكلّی إلى أن ینقل به إلى الجزئیّ».(1)
وقال فی الشفاء: «إنّ للإنسان تصرُّفاً فی اُمور جزئیّة، وتصرُّفاً فی اُمور كلیّة، والاُمور الكلّیة إنّما یكون فیها اعتقاد فقط ولو كان أیضاً فی عمل ـ إلى أن قال ـ فیكون للإنسان اِذَنْ قوّةٌ تختص بالاُمور الكلّیة وقوّة اُخرى تختصّ بالرویّة فی الاُمور الجزئیّة فی ما ینبغی أن یفعل أو یترك ممّا ینفع ویضرّ، وفی ما هو جمیل وقبیح وخیر وشرّ، ویكون ذلك بضرب من القیاس والتأمّل ـ إلى أن قال ـ فالقوّة الاُولى للنفس الإنسانیّة قوّة تنسب إلى النظر فیقال «عقل نظریّ» وهذه الثانیّة قوّة تنسب إلى العمل فیقال «عقلی عملیّ».(2)
وقال فی موضع آخر: «أمّا النفس الناطقة الإنسانیّة فتنقسم قواها إلى قوّة عاملة وقوّة عالمة، وكلُّ واحدة من القوّتین تسمَّى عقلاً باشتراك الاسم أو تشابهه. فالعاملة قوّة هی مبدء محرِّك لبدن الإنسان إلى الأفاعیل الجزئیّة الخاصّة بالرویّة على مقتضى آراء تخصّها ـ إلى أن قال ـ وهذه القوّة یجب أن تتسلّط على سائر قوى البدن على حسب ما توجبه أحكام القوى الاُخرى التی نذكرها حتّى لا ینفعل عنها البتّة، بل تنفعل تلك عنها، وتكون متبوعة دونها لئلاّ یحدث فیها عن البدن هیئة انقیادیّة مستفادة من الاُمور الطبیعیّة، وهى التی تسمَّى أخلاقاً رذیلة، بل یجب أن تكون غیر منفعلة البتّة وغیر منقادة، بل متسلّطة فتكون لها أخلاق فضیلة ـ إلى أن قال ـ وإنّما كانت الأخلاق التی فینا منسوبة إلى هذه القوّة لأنّ النفس الإنسانیّة كما یظهر من بعدُ
1. راجع: النمط الثالث من شرح الإشارات، ص86ـ87.
2. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من الفنّ السادس من طبیعیات الشفاء: ص347؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج2، ص412؛ والأسفار: ج9، ص82؛ وراجع: التعلیقات: ص30.
جوهرٌ واحدٌ وله نسبة وقیاس إلى جنبتین: جنبة هی تحته، وجنبة هی فوقه، وله بحسب كلّ جنبةٍ قوّةٌ بها تنتظم العلاقة بینه وبین تلك الجنبة. فهذه القوّة العملیّة هی القوّة التی لها لأجل العلاقة إلى الجنبة التی دونها وهو البدن وسیاسته، وأما القوة النظریّة فهی القوّة التی لها لأجل العلاقة إلی الجنبة التی فوقها لینفعل ویستفید منها ویقبل عنها، فكأنّ للنفس منها وجهین: وجه إلى البدن، ویجب أن یكون هذا الوجه غیر قابل البتّة أثراً من جنس مقتضى طبیعة البدن، ووجه إلى المبادئ العالیة، ویجب أن یكون هذا الوجه دائمَ القبول عمّا هناك والتأثّر منها، فمن الجهة السفلیّة تتولّد الأخلاق، ومن الجهة الفوقانیّة تتولّد العلوم».(1) وقال فی رسالة النفس: «والنفس الناطقة إذا أقبلت إلى العلوم سمّی فعلها عقلاً، وسمّیت بحسبه عقلاً نظریّاً. وإذا أقبلت على قهر القوى الذمیمة الداعیة إلى الجربزة بإفراطها والغباوة بتفریطها، أو التهوّر بثورانها والجبن بفتورها، أو الفجور بهیجانها والشلّ بخمودها فتستخرِجها إلى الحكمة والتجلّد والعفّة وبالجملة العدالة سمّی فعلها سیاسة، وسمّیت بحسبه عقلاً عملیّاً».(2)
وقال صدر المتألّهین: «وأمّا النفس الإنسانیّة فتنقسم إلى عاملة وعالمة، فالعاملة هی التی بها تدبیر البدن، وكمالُها فی أن تتسلّط على سائر القوى الحیوانیّة ولا یكون فیها هیئة انقیادیّة (انقهاریّة) لهذه القوى، بل یدبّرها على حسب حكم القوّة النظریّة. وأمّا العالمة فهی القوّة النظریّة، وهی التی بسببها صارت العلاقة بین النفس وبین المفارقات لتنفعل عنها وتستفید منها العلوم والحقائق. فالعاملة یجب أن لا تنفعل عن قوى البدن، والعالمة یجب أن تكون دائمَ التأثّر عن المفارق ـ إلخ ـ ».(3)
وقال فی موضع آخر: «أمّا العاملة فلا شكَّ أنّ الأفعال الإنسانیّة قد تكون حسنة
1. راجع: الفصل الخامس من المقالة الاُولى من الفنّ السادس من طبیعیّات الشفاء: ص291ـ292؛ وراجع: النجاة: ص164.
2. راجع: رسائل الشیخ: ص205.
3. راجع: الأسفار: ج8، ص130.
وقد تكون قبیحة، وذلك الحسن والقبح قد یكون العلم به حاصلاً من غیر كسب وقد یحتاج إلى كسب، واكتسابه إنّما یكون بمقدّمات یلائمها، فإذَنْ یتحقّق ههنا اُمور ثلاثة: الأوّل القوّة التی یكون بها التمییز بین الاُمور الحسنة والاُمور القبیحة. والثانی المقدّمات التی تستنبط منها الاُمور الحسنة والقبیحة. والثالث نفس الأفعال التی توصف بأنّها حسنة أو قبیحة. واسم العقل على هذه المعانی الثلاثة بالاشتراك الاسمیّ. فالأوّل هو العقل الذی یقول الجمهور فی الإنسان إنّه عاقل ـ إلى أن قال والثانی هو العقل الذی یردّد المتكلّمون على ألسنتهم فیقولون هذا ما یوجبه العقل أو ینفیه العقل أو یقبله العقل أو یردّه، فإنّما یعنون به المشهور فی بادی رأی الجمیع، فإنّ بادی الرأی المشترك عند الجمیع أو الأكثر من المقدّمات المقبولة والآراء المحمودة عند الناس یسمّونه العقل. والثالث ما یذكر فی كتب الأخلاق، ویراد به المواظبة على الأفعال التجربیّة والعادیّة على طول الزمان، فیكتسب بها خلق وعادة. ونسبة هذه الافعال إلى ما یستنبط من عقل عملیّ كنسبة مبادئ العلم التصوریّة والتصدیقیّة إلى العقل النظریّ».(1)
وقال فی التحصیل: «اعلم أنّ النفس الإنسانیّة التی ذكرنا أنّها واحدة وتتصرّف فی هذه القوى تقوى على إدراك المعقولات وعلى التصرّف فی القوى البدنیّة بالطبع لا بالإكتساب. ولیست حقیقة النفس أنّها تقوى على هذین، فإنّ القوّة معنى عدمیٌّ، والنفوس موجودة بالفعل، ولو كانت حقیقة النفس أمراً بالقوّة لما كان لها أن تفعل، فیجب أن تقوى على هذین بأمر غیر ذاتها بل بهیئتین، فبإحداهما تُقبِل النفس على مفید الصورة المعقولة الذی نبیّنه من بعدُ، وهذه الهیئة تسمّى عقلاً نظریّاً؛ وبالاُخرى تُقبِل على البدن وتتصرّف فی قواها، وتسمَّى عقلاً عملیّاً، لأنّ بها تعمل النفس. وإنّما یسمَّى عقلاً لأنّها هیئة فی ذات النفس لا فی مادّة، وهی العلاقة بین النفس والبدن،
1. راجع: نفس المصدر: ج3، ص418؛ وراجع: المبدء والمعاد: ص260.
ولیس من شأنها أن تدرك شیئاً بل هی عمّالة فقط. ولا یمتنع أن تكون العلاقة بین النفس والبدن بقوّة لها بدنیّة. والقوّة التی یسمّى عقلاً عملیّاً هی عاملة لا مدركة على ما ذَكرتُ ـ إلى أن قال ـ ثمّ هذه القوّة ربما كانت بالفطرة متصرّفة على مثال العقل النظریّ فتسوس البدن وقواه بحسبه، ولا محالة یكون بهیئة اُخرى لا هذه الهیئة، وتسمّى هذه الهیئة ـ إذا كانت على الصفة المذكورة ـ ملكة فاضلة. وربما كانت هذه الهیئة مذعنة للقوى البدنیّة فتكون كأنّها مَسوسة من جهتها».(1)
هذه نماذج من كلمات القوم حول العقل العملیّ، وللتأمّل فیها مجال واسع. ولا یخفى ما بینها من الاختلاف، ویتحصّل منها ثلاثة تفاسیر للعقل العملیّ: أحدها أنّه قوّة تدرك الأحكام المتعلّقة بأعمال الإنسان فی مقابل العقل النظریّ الذی یدرك سائر الأحكام. وخاصّة هذا التفسیر عدم التركیز على الأحكام الجزئیّة. وهذا هو الذی یبدو من كلام الفارابیّ. و ثانیها أنّه قوّة تدرك الأحكام الجزئیّة المتعلّقة بالعمل (دون الكلّیات) وهو الذی یستفاد من كلمات الشیخ وصدر المتألّهین. وثالثها أنّه قوّة نفسانیّة غیر مدركة لشیء، متصرّفة فی القوى البدنیّة. وهو الذی صرّح به بهمنیار، ولا یخلو من غرابة. ویمكن أن یضاف إلیها تفسیر رابع هو أنّ العقل العملیّ یدرك الأحكام الاعتباریّة المتعلّقة بالعمل، تلك الأحكـام التی لا سبیل للبرهان إلیها ـ حسب زعم هؤلاء المفسّرین ـ وإنّما تقام علیها قیاسات جدلیّة مبتنیة على آراء محمودة ومفاهیم مستعارة من الحقائق النظریّة. ویمكن اعتبار هذا الكلام تفسیراً للمعنى الأوّل.
ثمّ الذی یستفاد من كلماتهم فی ارتباط الأخلاق بالعقل العملیّ أنّها ملكات حاصلة للنفس بسبب تسلّط العقل العملیّ على القوى الحیوانیّة أو انقیاده لها. نعم، فی كلام صدر المتألّهین أنّ معنى العقل فی كتب الأخلاق هو المواظبة على الأفعال التجربیّة والعادیّة حتّى یكتسب بها خُلق وعادة، وكأنّ كلام الاُستاذ(دامظلهالعالی) ناظر إلیه.
1. راجع: التحصیل: ص789.
البحث عن الأخلاق ومعرفة اُصولها وتمییز الفضائل عن الرذائل وتحدید معیارها ممّا یتعلّق بالحكمة العلمیّة، ولا مجال للخوض فیها ههنا. ولهم فی هذه المباحث مذاهب شتّى.
وقد اشتهر بین علماء الأخلاق تقسیم الملكات الخلقیّة حسب قوى النفس إلى ثلاث شعب أصلیّة(1) ـ على ما اُشیر إلیه فی المتن ـ وانّ كلّ فضیلة فهى متوسّطة بین رذیلتین فی طرفی الإفراط والتفریط، وهذا هو الذی لهج به أفلاطون،(2) وركّز علیه أرسطو،(3) حتّى اشتهر عنه أنّ معیار الفضیلة هو الوسطیّة والاعتدال، فدار النقاش طویلاً حول هذه النظریّة، ولعلّ أجود التوجیهات لها هو أنّ للإنسان قوى مختلفة تتزاحم الأفعال المتعلّقة بها، فلابدّ من إعطاء كلّ قوّة حظَّها اللائق بها (العدالة) بقدر ما لا یزاحم مقتضیات القوى الاُخرى وبنحو لا تطغى على القوى المتعالیة الخاصّة بالإنسان ولا یعوقها عن بلوغ غایتها المنشودة،(4) فالتفریط یوجب الحرمان من منافع تلك القوّة وقصورها عن خدمتها المیسّرة لها، والإفراط یوجب طغیانها وتضییع سائر القوى. وهذا هو المصحّح لجعل الفضیلة وسطاً محفوفاً برذیلتین. وقد عرفت من كلامالشیخ أنّ معیار الفضیلة هو تسلّط القوّة العقلیّة على القوى الحیوانیّة، وأنّ ملاك الرذیلة انقیادها لتلك القوى.(5) والحقّ أنّ معیار الفضیلة هو الإعانة على بلوغ الإنسان إلى كماله النهائیّ والقرب إلى الله تعالى، ومعیار الرذیلة هو المنع من ذلك، فتبصّر.
1. راجع: طهارة الأعراق: لابن مسكویه، ص19ـ20.
2. راجع: مقدمة الأخلاق إلى نیقوماخوس: ص5051.
3. راجع: الأخلاق إلى نیقوماخوس: ج1، ص230ـ231.
4. راجع: الفصل السابع من المقالة التاسعة، والفصل الأخیر من المقالة العاشرة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج4، ص115.
5. راجع: الفصل الخامس من المقالة الاُولى من الفنّ السادس من طبیعیّات الشفاء، ص291؛ والنجاة: ص296 و307؛ والمباحث المشرقیة: ج2، ص413؛ والأسفار: ج9، ص87.
قال الرازیّ: «أمّا الحكمة فهی إمّا أن تكون غریزیّة أو مكتسبة، فالحكمة الغریزیّة هی كون النفس صادقة الأحكام فی القضایا الفطریّة. وهذه الحكمة الغریزیّة هی الاستعداد الأوّل لاكتساب الحكمة الكسبیّة، وللنفوس تفاوت فیها حتّى أنّ البالغ فیها إلى الدرجة العالیة هو النفس القدسیّة النبویّة، وتقابلها النفس البهیمیّة التی لا تنتفع بتنبیه منبّه وتعلیم معلّم».(1)
وقال فی موضع آخر: «وأمّا الحكمة فهی الخُلق الذی تصدر عنه الأفعال المتوسطة بین الجربزة والغباوة، وهذان الطرفان رذیلان. وظنّ بعضهم أنّ الحكمة العملیّة ههنا هی التی نجعل قسیمة للحكمة النظریّة حیث یقال: الحكمة إمّا نظریّة وإمّا عملیّة. وذلك باطل، لأنّ المراد بالحكمة العملیّة ههنا ملكة تصدر عنها الأفعال المتوسّطة بین الجربزه والغباوة، وأمّا إذا قلنا إنّ من الحكمة ما هو نظریّ ومنه ما هو عملیّ، لم نرد به الخُلق، فإن ذلك لیس جزءاً من الفلسفة، بل نرید معرفة الإنسان الملكات الخُلقیة بطریق القیاس أنّها كم هی؟ وما هی؟ وما الفاضل منها وما الردیء؟ وأنّها كیف تحدث من غیر قصد اكتساب؟ وأنّها كیف تكتسب بقصد؟ وأیضاً معرفة السیاسات المنزلیّة والمدنیّة. وبالجملة المعرفة بالاُمور التی لنا أن نفعلها. وهذه المعرفة لیست غریزیّة، بل متى حصّلناها كانت حاصلة لنا من حیث هی معرفة، وإن لم نفعل فعلاً ولم نخلق خلقاً، فلا تكون أفعال الحكمة العملیّة الاُخرى، ولا أیضاً الخلق، وتكون عندنا لا محالة معرفة مكتسبة یقینیّة. فالحاصل أنّ الحكمة العملیّة قد یراد بها العلم بالخُلق، وقد یراد بها نفس الخُلق، وقد یراد بها الأفعال الصادرة عن الخُلق. فالحكمة العملیّة التی جُعلتْ قسیمة للحكمة النظریة هی العلم بالخُلق. والحكمة العملیة التی جُعلتْ إحدی الفضائل الخلقیة الثلاث فهی نفس الخُلق وأیضا
1. راجع: المباحث المشرقیة: ج2، ص413.
فالحكمة العملیّة بالمعنى الاوّل لا تشارك الحكمة العملیّة بالمعنى الثانی، لأنّ الحكمة العملیّة بالمعنى الأوّل لیس علماً بهذا الخلق فقط بل وبسائر الأخلاق من الشجاعة والعفّة والسیاسات أیضاً، فظهر الفرق بین البابین».(1)
لا یزال كلّ إنسان یجد لذّاتٍ وآلاماً مختلفة فی نفسه فلا یحتاج لمعرفتهما إلى تعریف، إلاّ أنّ تحلیل معناهما ومعرفة ما یوجبهما یفید فی البرهنة على إثباتهما فی غیر الإنسان، أو إثبات أصناف اُخرى منهما للإنسان ممّا لم یحصل له بعدُ، كاللذّات التی تحصل للنفس من درجات القرب إلى الله سبحانه والآلام التی تحصل لها من البُعد منه، نعوذ بالله تعالى.
قال الشیخ فی إلهیّات الشفاء: «واعلم أنّ لذّة كلّ قوّة حصول كمالها لها، فللحسّ المحسوسات الملائمة، وللغضب الانتقام، وللرجاء الظفر، ولكلّ شیء ما یخصّه، وللنفس الناطقة مصیرها عالَماً عقلیّاً بالفعل».(2)
وقال فی موضع آخر: «یجب أن یُعلم أنّ لكلّ قوّة نفسانیّة لذّةً وخیراً یخصّها، وأذىً وشرّاً یخصّها. مثاله أنّ لذّة الشهوة وخیرها أن یتأدّى إلیها كیفیّة محسوسة ملائمة من الخمسة، ولذّة الغضب الظفر، ولذّة الوهم الرجاء، ولذّة الحفظ تذكّر الاُمور الموافقة الماضیة، وأذى كلّ واحد منها ما یضادّه. ویشترك كلّها نوعاً من الشركة فی أنّ الشعور بموافقتها وملاءمتها هو الخیر واللذّة الخاصّة بها، وموافق كلّ واحد منها بالذات والحقیقة هو حصول الكمال الذی هو بالقیاس إلیه كان بالفعل، فهذا أصل. وأیضاً فإنّ هذه القوى وإن اشتركت فی هذه المعانی فإنّ مراتبها فی
1. راجع: نفس المصدر: ج1، ص386؛ وراجع: الأسفار: ج4، ص116.
2. راجع: الفصل الأخیر من المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج4، ص132.
الحقیقة مختلفة، فالذی كماله أفضل وأتمُّ، والذی كماله أكثر، والذی كماله أدوم، والذی كماله أوصل إلیه وأحصل له، والذی هو فی نفسه أكمل فعلاً وأفضل، والذی هو فی نفسه اشدُّ إدراكاً فاللذّة التی له هی أبلغ وأوفى لا محالة، وهذا أصل».(1)
وربما یتراءى من كلامه أن اللذّة هی نفس حصول الكمال، لكن لیس هذا مراد الشیخ بدلیل قوله «إنّ الشعور بموافقتها وملاءمتها هو الخیر واللذّة» وأصرح منه كلامه فی موضع آخر حیث قال: «فإنّ اللذّة لیست إلاّ إدراك الملائم من جهة ما هو ملائم»(2) فحصول الكمال الذی هو الملائم لا یوجب لذّة ما لم یدرك.
وأتمُّ بیاناته فی هذا الباب ما ذكره فی الإشارات بقوله «إنّ اللذّة هی إدراك ونیل لوصول ما هو عند المدرِكَ كمال وخیر من حیث هو كذلك، والألم هو ادراك ونیل لوصول ما هو عند المدرِك آفة وشرّ ـ إلى أن قال ـ وكلّ لذّة فإنها تتعلّق بأمرین: بكمال خیریّ، وبإدراك له من حیث هو كذلك».(3)
وحاصل مایستفاد من كلماته أنّه یعتبر فی حصول اللذّة اُمور: الأوّل وجود قوّة مدركة، فلا تحصل اللذّة لغیر ذوی الإدراك. والثانی حصول الملائم له. والثالث إدراك ذاك الملائم بما أنّه ملائم. فلو حصل الملائم من غیر إدراك والتفات إلیه لم تحصل لذّة، كما أنّه إذا أدرك ذات الملائم من غیر التفات إلى ملاءمته له أو مع اعتقاده عدم الملاءمَة لم تحصل لذّة. وكیف كان فاللذّة والألم بناءً على ما یستفاد من هذه الكلمات نوعان من الإدراك، فلا یصحّ جعلهما نوعاً آخر من الكیف النفسانیّ فی قبال العلم والإدراك.
وقال بهمنیار: «لا تكون لذّة وألم حیث لایكون إدراك، فإذن یجب أن یتقدّمهما
1. راجع: الفصل السابع من المقالة العاشرة من إلهیّات الشفاء.
2. راجع: الفصل الأخیر من المقالة الثامنة من نفس المصدر.
3. راجع: النمط الثامن من الإشارات.
الإدراك إلى أن قالـ واللذّة تتبع إدراك الملائم، أوهی نفس الإدراك،ولا محالة تكون كمالاً للمدرِك، والألم یتبع إدراك المنافی، ولا محالة یكون نقصاناً للمدرك».(1)
ونقل الرازیّ كلاماً عن الشیخ فی «الأدویة القلبیّة» ممّا یدلّ على أنّ الإدراك یغایر اللذّة مغایرةَ السبب للمسبّب، ثمّ قال: «ههنا بحث لابدّ منه، وهو أن نعرف أنّ الحالة التی نجدها من النفس التی سمّیناها باللذّة أهی نفس إدراك الملائم أو أمر مغایر لذلك الإدراك؟ وبتقدیر كونها مغایرة لذلك الإدراك أهی معلول ذلك الإدراك أو معلول شیء آخر، وإن كانت لا توجد إلاّ مع ذلك الإدراك؟ فهذه اُمور لا بدّ من البحث عنها، وإلى الآن لم یصحّ عندی شیء من هذه الأقسام بالبرهان، ولكنّ الأقرب إلى الظنّ أنّ الألم لیس هو نفس إدراك المنافی»(2) وقد تصدّى فی الأسفار للردّ علیه وإثبات أنّ اللذّة والألم هما نفس إدراك الملائم والمنافر.(3)
ثمّ إنّ الشیخ قال فی موضع من طبیعیّات الشفاء «إنّ من الحواسّ ما لا لذّة لها فی محسوسها ولا ألم، ومنها ما یلتذّ ویألم بتوسّط أحد المحسوسات»(4) وعدّ البصر والاُذن من القسم الأول، وذكر فی الأسفار بحثاً طویلاً حول ذلك.(5)
ونقول: یشبه أن تكون اللذّة كیفیّة إدراكیّة حاصلة للنفس بسبب بعض علومها الحضوریّة والحصولیّة التـی تحصل لها بوسـاطة قواها الإدراكیّة ـ أعنی العلم بالملائمات ـ لكنّها لیست نفس العلم والإدراك، كما أنّ الرضا والشوق أیضاً كذلك. وأمّا القوى الإدراكیّة فلیس لها إلاّ الإدراك، وإسناد اللذّة إلیها مجازیّ كإسناد الشوق إلیها، ومن المعلوم مباینة القوى الإدراكیّة للشوقیّة. ومصحّح الإسناد هو العلاقة
1. راجع: التحصیل: ص559.
2. راجع: المباحث المشرقیة، ج1، ص388.
3. راجع: الأسفار: ج4، ص119ـ124.
4. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثانیة من الفنّ السادس من طبیعیّات الشفاء: ص300.
5. راجع: الأسفار: ج4، ص136ـ144.
السببیّة، لكونها آلاتٍ لحصول الإدراك المؤثّر فی حصول اللذّة، وكذلك الأمر فی الألم. وأمّا أعضاء الحسّ كالعین والاُذن فلیس لها إدراك ولا لذّة ولا ألم ولا شیء آخرُ من الكیفیّات الإدراكیّة. ومن هنا یظهر وجه عدّ اللذّة والألم نوعین مستقلّین من الكیف النفسانیّ غیر العلم، فتبصّر.
وینبغی أن نشیر ههنا إلى أمرین:
الأمر الاول أنّ اللذّة وإن كانت فی ذوی النفوس من قبیل الكیف النفسانیّ، لكن لا یستلزم ذلك نفی حقیقتها من غیر ذوی النفوس كالمفارقات والمبدء الأعلى تبارك وتعالى، فهی بمنزلة العلم الذی یعدّ من الكیفیّات النفسانیّة ویوجد حقیقته بنحو أتمَّ وأعلى فی المجرّدات وفی الواجب تعالى. قال الشیخ فی الإشارات: «أجلُّ مبتهج بشیء هو الأوّل بذاته. لأنّه أشدّ الأشیاء إدراكاً لأشدّ الأشیاء كمالاً ـ إلى أن قال ـ والأوّل عاشق لذاته معشوق لذاته، عُشق من غیره أولم یُعشق».(1)
ومن هنا یظهر أنّه یصحّ اعتبار حبّه تعالى لذاته وابتهاجه بذاته من صفاته الذاتیّة.
الأمر الثانی أنّ المشّائین اعتبروا اللذّة العقلیّة الحاصلة من العلم الحصولیّ بحقائق الأشیاء أشدَّ اللذات وأشرفها، فجعلوا غایة السعادة الانسانیة سعة ذلك العلم وتلك اللذّة ودوامهما، لكون القوّة العاقلة أشرف القوى النفسانیّة وكون سائر القوى خادمة لها، فإنّهم وإن اعتبروا فی السعادة كمال القوّة العاملة أیضاً بتهذیب الأخلاق واكتساب الملكات الفاضلة، لكنّهم حیث اعتبروها أنزل رتبةً بالنسبة إلى القوّة العاقلة لم یَسَعْهم إلاّ اعتبارُ كمالها فی مرتبة دون الكمال الأقصى.
ومن الواضح قصور هذه الاُصول عن معرفة السعادة الحقیقیّة التی هی نیل درجات
1. راجع: الإشارة الأخیرة من النمط الثامن من الإشارات؛ وراجع: الفصل الأخیر من المقالة الثامنة، والفصل الرابع من المقالة التاسعة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التعلیقات: ص72 و 157؛ والتحصیل: ص577؛ والتلویحات: ص91؛ والمطارحات: ص501؛ وحكمة الإشراق: ص136؛ والأسفار: ج2، ص263ـ264؛ والنجاة: ص245.
القرب من الله تعالى والفوز بلقائه والخلود فی جواره ـ رزقنا الله تعالى ـ اللّهمّ إلاّ بتفسیرها بنوع من المعرفة العقلیّة. كما أنّ تلك الاُصول عقیمة عن تبیین العلاقة بین الإیمان والعمل الصالح وبین تلك السعادة المتعالیة، كیف وإدراك المفاهیم لا یناط بشیء من هذا القبیل، فربما یكون بعض الكفّار المعاندین والفجّار المفسدین أعلم بدقائق الفلسفة والعلوم من بعض المؤمنین القانتین وعباد الله الصالحین.
وأمّا أتباع المشّائین من فلاسفة المسلمین فإنّهم وإن عرفوا بفضل معارف الإسلام أنّ السعادة الحقیقیّة إنّما تحصل بالتقرّب إلى الله تعالى إلاّ أنّهم لم یرافقهم النجاح فی تبیین ذلك على أساس اُصول المشّائین، وكان الإشراقیّون أقرب إلى النجاح منهم.
وأمّا صدر المتألّهین فحیث ذهب إلى أنّ الإدراك العقلیّ یحصل بمشاهدة الحقائق المجرّدة عن بُعد أمكنه تفسیر السعادة الحقیقیّة بالمشاهدة الحضوریّة للمبادئ العالیة وخاصّةً للمبدء الأعلى تبارك وتعالى، وجعلُ ذلك كمالاً نهائیّاً للقوّة العاقلة التی هی رئیسة القوى الإنسانیّة بل المرتبة العلیا للنفس الناطقة ـ حسب ما قالوا ـ كما أنّه استطاع تفسیر العلاقة المذكورة بأنّ الارتیاض الفكریّ والعملیّ یُعدّان النفس الإنسانیّة شیئاً فشیئاً لتلك المشاهدات. لكن بالمناقشة فی تفسیره الذی قدّمه للإدراك العقلیّ ـ كما سیأتی فی محلّه إن شاء الله تعالى ـ تفقد هذه الآراء رصیدها الفلسفیّ.
ویشبه أن یكون دور الإدراكات العقلیّة فی السعادة الحقیقیّة دور تهیئة الأرضیّة للإیمان والعمل الصالح، وتقویة المعارف المحتاج إلیها فی التقرّب إلى الله تعالى، وأن یكون الدور الأساسیّ فی حصول السعادة القُصوى والكمال الحقیقیّ للإیمان بالله تعالى وتوجّه النفس إلیه بالذكر والتضرع والخشوع، وتقویة ذلك بالأعمال الصالحة التی یؤتىٰ بها بقصد التقرّب إلیه والتی یتبلور فیها توجّه النفس إلى ساحة
قدسه، حتّى تأخذ النفس حظّها من العبودیّة فی جمیع شؤونها الفردیّة والاجتماعیّة، فتتهیّأ شیئاً فشیئاً لمشاهدة أنوار جلاله وجماله وتجلیّات أسمائه وصفاته، إلى أن تخرق عین القلب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة وتصیر معلّقة بعزّ قدسه. ولیس شیء من ذلك من فعل القوّة العاقلة المدركة للمفاهیم الذهنیّة ممّا یتیسّر للكفّار والفجّار.
والعلاقة بین العبادة وبین الوصول إلى الغایة القصوى یتبیّن بمعرفة أنّ حقیقة العبادة هی نفی الاستقلال والأنانیّة وتركیز توجّه القلب إلى ساحة قدسه تعالى فتستعدّ النفس بذلك لشهود ذاتها وحقیقة وجودها الذی هو عین الربط، ذلك الشهود الذی ینتهی إلى شهود ذی الربط، وتفصیل ذلك یحتاج إلى مجال أوسع.
ومن هنا یظهر أنّ الكمال الأقصى للنفس الإنسانیّة أرفع بكثیر ممّا بلغت إلیه عقول المشّائین، وأجلّ من أن تبیّنه اُصولهم. والحمد لله الذی هدانا لهذا وما كنّا لنهتدی لولا أن هدانا اللّه.
اللذّة والألم ـ سواء كانا من قبیل الإدراك أو كانا نوعین آخرین من الكیف النفسانیّ أمران وجودیّان یتعاقبان على النفس، فینطبق علیهما حدّ الضدّین، ویكون تقابلهما تقابل التضادّ لا تقابل العدم والملكة، اللّهمّ إلاّ مجازاً باعتبار متعلّقهما، ومجرّد كون الألم إدراكاً للعدم ـ على فرض الصحّة ـ لا یجدی فی جعله أمراً عدمیّاً، وإلاّ لزم اعتبار العلم بالمعدوم أمراً عدمیّاً مقابلاً للعلم بالموجود مقابلة العدم للملكة! ففرق جلیٌّ بین نفی العلم بشیء عمَّن مِن شأنه العلم به وبین العلم بنفی شیء عن شیء من شأنه وجوده له. واتّحاد العلم بالمعلوم لا یوجب سرایة جمیع أحكام المعلوم إلى العلم، فإنّ هذا الاتّحاد إن اعتبر بین العلم والمعلوم بالعرض كان اتّحاداً
بحسب المفهوم، ولا ینافی كون العلم وجودیّاً بالحمل الشائع والمعلوم عدمیّاً. وإن اعتبر بین العلم والمعلوم بالذات كان المعلوم بالذات موجوداً لا محالة ولو كان وجوده فی ظرف الذهن. وكون هذا المفهوم عدمیّاً بالحمل الأوّلیّ لا یوجب حمل العدم علیه بالحمل الشائع حتّى یوجب كون العلم أیضاً عدمیّاً بالحمل الشائع لأجل اتّحاده به فیعدّ عدماً للملكة.
وبهذا یظهر النظر فی ما أجاب به عن الإشكال تبعاً لصدر المتألّهین.(1) لكن لكلامه تأویل آخر، وهو أنّ اعتبار الألم عدمیّاً یكون بالنظر إلى حضور أمر عدمیّ للنفس، فیكون علماً حضوریّاً به، ولا مجال فیه للحدیث عن الفرق بین الحمل الأوّلیّ والشائع. ویلاحظ علیه أنّ الأمر العدمیّ بما أنّه عدمّیٌ لیس له حضور للنفس، وإنّما الحضور یكون لموضوعه الوجودیّ. مضافاً إلى أنّ الألم لیس نفس العلم بل هو كیفیّة وجودیّة علمیّة.
وأمّا أصل الإشكال فهو ناشیء عن توهّم أنّ تعبیر «بالذات» فی قولهم «إنّ الشرّ بالذات هو العدم» وقولهم «إنّ الألم شرّ بالذات» ناظر إلى جهة واحدة، فیلزم إمّا انفساخ القول الأوّل أو الالتزام بكون الألم عدمیّاً. فأجاب صدر المتألّهین بالالتزام بعدمیّة الألم، وتصدّى لتوجیهه بما مرّت الإشارة إلیه.
والحقّ فی الجواب أن یقال: إنّ التعبیر المذكور فی المقامین لیس بمعنى واحد. توضیح ذلك أنّ العدم بما أنّه بطلان محض لیس له موضع فی دار الوجود، فجعل البطلان المحض شرّاً بالذات مساوق لنفی الشرّ بالذات مطلقاً، وبانتفاء ما بالذات ینتفی ما بالعرض أیضاً. فالمراد بأنّ الشرّ بالذات هو العدم أنّ تحلیل الشرور یقضی بأنّ الشرّیة وصف للموجود بما أنّه یستلزم عدماً، وبعبارة اُخرى: الخیریّة والمطلوبیّة صفة للوجود فینتزع العقل من عدم الخیر وصفاً ینسبه إلى عدم الوجود.
1. راجع: الأسفار: ج4، ص126.
ثمّ إذا استلزم وجود شیء نفی كمال مطلوب سمّی ذلك الشیء شرّاً لاستلزامه عدم الكمال المطلوب. فالعلّة فی شرّیته هی استلزامه لعدم ذلك الكمال، لكنّ العلّیة هنا لیست بمعنى التأثیر الخارجیّ، بل هی على وزان قولهم «علّة حاجة الممكن إلى العلّة هی الإمكان». وحیث إنّ العدم المضاف إلى الكمال صار سبباً لاتّصاف ذلك الشیء بالشرّیة بحسب التحلیل العقلیّ، فهو یتّصف بالشرّیة فی رتبة متقدّمة على رتبة اتّصاف ذلك الشیء بها. وهذا هو المراد بكون العدم شرّاً بالذات. وأمّا اتّصاف الألم بالشرّیة بالذات فإنّما هو بلحاظ كونه منفوراً بالطبع فی مقابل الشرّیة التی تتّصف بها بعض اللذّات لأجل استلزامها ألماً من جهة اُخرى. فالشرّیة بهذا المعنى لا ینافی كون المتّصف بها أمراً وجودیّاً.
الغرض من هذا البحث إثبات أنّ المقولات النسبیّة ـ ومنها الإضافة ـ هیئات حاصلة للموضوع من نسب خاصّة وأنّها لیست نفس تلك النسب. وهذا قبل كلّ شیء یرمی إلى نفی كون النسبة جنساً مشتركاً بینها، وإلاّ لكانت النسبة مقولة، وكان كلّ واحد ممّا یسمَّى بالمقولات النسبیّة نوعاً منها، كما ذهب إلیه شیخ الإشراق.
وقد استدلّ الاُستاذ(دامظلهالعالی) على ذلك بأنّ النسبة لیست مهیّة لأنّها لا تحمل على شیء ولا یحمل علیها شیء، فلا یصحّ عدّها من المقولات. ویمكن المناقشة فیه بأنّ النسبة إذا كانت أمراً موجوداً فی الخارج كان ذا مهیّة لا محالة، لأنّ الممكن مهما بلغ مرتبة وجوده فی الشدّة أو الضعف كان زوجاً تركیبیّاً مركّباً من مهیّة ووجود. وقوله «لا تحمل على شیء» ممنوع، فإنّها تحمل على النسب المكانیّة والزمانیّة وغیرهما
من أنواع النسبة حمل الجنس على أنواعها، والاستدلال بكونها وجوداً رابطاً غیر مقنع للخصم، خاصّة بالنظر إلى ما مرّ من المصنّف(1) من عدم الاختلاف النوعیّ بین الوجود الرابط والمستقلّ، وصیرورة الرابط مستقّلاً بتوجیه الالتفات إلیه.
ثمّ للخصم أن یمنع حصول هیئة عینیّة للموضوع زائدة على نفس النسبة ـ على فـرض قبول كون النسبة أمراً عینیّاً ـ ولو كانت حاصلة لا نطبق علیها حدّ الكیف،(2) ولا ینافی ذلك لزوم النسبة لها، لأنّ هذا اللزوم لا یستلزم اندراجها تحت اللازم. وعلى هذا فیدور الامر بین قبول النسبة كمفهوم جنسیّ بین أنواعها وجعلها هی المقولة وبین القول باعتباریّة النسبة وجمیع ما یسمَّى بالمقولات النسبیّة، والأقرب هو الأخیر.
الغرض من هذا البحث بیان ثلاثة اُمور: تعریف الإضافة، والفرق بینها وبین مطلق النسبة، والفرق بین المضاف الحقیقیّ والمشهوریّ. أمّا الأوّل فمن الواضح عدم إمكان تعریف الإضافة بالحدّ ـ بناء على كونها مقولة ـ لبساطة المقولة وعدم تركّبها من الجنس والفصل حتّى یؤخذا فی حدّها. وقد ذكروا لها رسوما(3) ووقع الكلام فیها بالنقض والإبرام، والإشكال بالدور وعدم كونها أعرف من المعرَّف. وترى المصنّف(دامظلهالعالی) بعد ما ذكر لها من التعریف یقول: «ولعلّ المعقول من لفظ الإضافة مشفّعاً ببعض ما له من الأمثلة أعرف عند العقل ممّا أوردناه من الرسم».
وأمّا الفرق بین الإضافة ومطلق النسبة فهو أنّ النسبة فیها متكرّرة بخلافها فی
1. راجع: الفصل الثانی من المرحلة الثالثة.
2. راجع: المقاومات: ص148.
3. راجع: المقالة الرابعة من قاطیغوریاس الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص31، و ص404-412؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص430؛ والأسفار: ج4، ص189ـ192 و 198ـ200.
سائر المقولات.(1) وكان ینبغی له أن یعید ههنا ما ذكره فی البحث السابق أنّ الإضافة لیست هی نفس النسبة المتكرّرة بل الهیئة الحاصلة منها. وأمّا الفرق بین المضاف الحقیقیّ والمشهوریّ فبأنّ المضاف الحقیقیّ هو نفس الإضافة أو مفهوم المضاف،(2) ویقابله ذات الموضوع المعروض للإضافة أو الذات مع الإضافة، وهو المضاف المشهوریّ.
قال الشیخ فی إلهیّات الشفاء: «هل الإضافة فی نفسها موجودة فی الأعیان أو أمر متصوّر فی العقل، ویكون ككثیر من الأحوال التی تلزم الأشیاء إذا عُقلتْ بعد أن تحصل فی العقل اُمور لم تكن لها من خارج فتصیر كلّیة وذاتیّة وعرضیّة، ویكون جنس وفصل، ویكون محمول وموضوع وأشیاءُ من هذا القبیل».(3)
وقال الرازیّ: «من الناس من زعم أنّها غیر موجودة فی الأعیان بل هی من الاعتبارات الذهنیّة كالكلّیة والجزئیة واحتجّ علیه باُمور خمسة» ثمّ ذكر تلك الحجج وقال فی آخر كلامه «وأمّا أدلّة النفاة فلیست فی غایة القوّة، ولنا فیها نظر».(4)
والظاهر من كیفیّة طرح المسألة فی كلام الشیخ والرازیّ أنّ الإضافة هل هی من المعقولات الثانیة المنطقیّة (كالكلّیة والذاتیة) أو لا؟ والحقّ فی الجواب هو النفی، ولا یحتاج ذلك إلى مزید من التأمّل فی المفاهیم الإضافیّة، حیث إنّها ناظرة
1. راجع: التحصیل: ص409؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص166؛ والمقاومات: ص143؛ والمطارحات: ص270ـ272 و 282؛ وشرح المنظومة: ص192.
2. راجع: التحصیل: ص411؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص429؛ والأسفار: ج4، ص188 و 199؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء، ص146.
3. راجع: الفصل الأخیر من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء.
4. راجع: المباحث المشرقیة، ج1، ص435439؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء، ص149ـ153؛ وراجع: الأسفار: ج4، ص200ـ203.
إلى الخارج، وتنطبق على الأشیاء العینیّة ویكون الاتّصاف بها فی الأعیان. لكن هذا النفی لا یستلزم كونها من قبیل المفاهیم الماهویّة حتّى یبرّر عدّها من المقولات، لجواز كونها من المعقولات الثانیة الفلسفیّة التی یكون عروضها فی الذهن واتّصافها فی الخارج، كمفاهیم الإمكان والوجوب والمهیّة والعرض وغیرها.
قال صدر المتألّهین: «واعلم أنّ كثیراً من الأشیاء ما هی موجودة لا بوجود مستقلّ كمفهوم العرض ومهیّة الجنس والفصل البسیط، فإنّ أمثال هذه الأشیاء لا توجد بوجودات مستقلّة. ومن هذا القبیل الإضافات والنسب ـ إلى أن قال ـ وهذا بخلاف الاُمور الذهنیّة كقولنا الحیوان جنس، والإنسان نوع، فإنّ الجنسیّة والنوعیّة وما أشبههما لیست من الأحوال الخارجیّة التی تثبت للأشیاء فی الأعیان بل فی الأذهان. وبهذا یعلم فساد رأی من زعم من الناس أنّ الإضافة غیر موجودة فی الأعیان بل من الاعتبارات الذهنیّة كالكلّیة والجزئیة».(1)
وقال فی موضع آخر: «لیس للإضافة وجود متقرّر كسائر الأعراض حتّى یكون حدوثها لشیء وزوالها عنه یوجب انفعالاً وتغیُّراً فی ذات الموصوف بها أو فی صفاته الحقیقیّة، فإنّ تجدّدها وزوالها قد یكون بسبب تجدّد أحد الطرفین بخصوصه مع ثبات الطرف الآخر، فإنّ صیرورة أاحد فی المجلس ثانیَ الاثنین بعد ما لم یكن كذلك وثالثَ الثلاثة ورابعَ الأربعة وهكذا لا یوجب تغیُّراً فی ذاته ولا فی صفاته المتصوّرة، فكذلك تغیُّر الإضافات لا یوجب فی واجب الوجود تغیُّراً لا فی ذاته ولا فی صفاته الكمالیّة».(2)
وقال فی موضع آخر: «ولا یذهب على أحد أنّ كون الشیء بحسب جوهر ذاته متعلّقَ الوجود بغیره لا یوجب كونه من مقولة المضاف بالذات، لأنّ المتضایفین
1. راجع: الأسفار: ج4، ص200.
2. راجع: نفس المصدر: ص207.
مفهومان ذهنیّان كلّیان یُعقل كلٌّ منهما مع الآخر. ولیس كذلك حال الوجودات العینیّة إذا كان بعضها مستحیل الانفكاك عن الآخر، وإلاّ لكان جمیع الوجودات داخلة تحت جنس المضاف بالذات، ولیس كذلك».(1)
وقال أیضاً فی الردّ على قول الرازیّ بكون العلم إضافة ما هذا لفظه: «فهذا وأمثاله كیف یكون حقیقتها حقیقة الإضافة التی لا تحصُّل لها خارجاً وذهناً إلاّ بحسب تحصُّل حقیقة الطرفین».(2)
ومثلها كلمات اُخرى له فی مواضع متفرّقة من الأسفار(3) وسائر كتبه، ووصف الإضافة فی بعض المواضع بالاعتباریّة وعدّها من المعقولات الثانیّة كما مثّل فی شرح المنظومة للمعقول الثانی الفلسفیّ بالإضافة.(4)
والعجب من صدر المتألّهین وأتباعه كیف جعلوا الإضافة من المقولات مع أمثال هذه التصریحات بكونها من قبیل مفهوم العرض وغیره من المفاهیم الاعتباریّة! ولعلّ المقولات كانت أعمَّ عندهم من المعقولات الاُولى أعنی المفاهیم الماهویّة، وكانت تشمل المعقولات غیر المنطقیّة، كما ربما یؤیّده تقسیم المقولات إلى وجودیّة كالكم والكیف، وذهنیّة كالنسب والإضافات.(5)
وكیف كان فالأشبه أنّ الإضافة لیست من المفاهیم الماهویّة والمعقولات الاُولى الفلسفیّة، بل هی من المفاهیم الاعتباریّة بمعنى المعقولات الثانیة الفلسفیّة، ویؤیّد ذلك لحوقها للواجب تعالى وللمفارقات، وكذا لحوقها للاعتباریّات وللاُمور الذهنیّة بما أنّها ذهنیّة، كما أنّها قد تلاحظ بین الواجب والممكن، وبین الحقیقی والاعتباریّ، وبین
1. راجع: نفس المصدر: ج5، ص72.
2. راجع: نفس المصدر: ج3، ص352.
3. راجع: نفس المصدر: ج3، ص391.
4. راجع: شرح المنظومة: ص35.
5. راجع: المعتبر: ج3، ص19.
الذهنیّ والخارجیّ، وبین الموجود والمعدوم بل بین المعدومین والممتنعین. ویؤیّده أیضاً تغیُّرها بتغیّر الاعتبارات ككون الشیء ثانیَ الاثنین إذا لوحظ مع فرد آخر، وثالثَ الثلاثة إذا لوحظ مع آخرین، وهكذا. والقول بتنوّعها إلى نوعین: خارجیّ وذهنیّ أو حقیقیّ واعتباریّ، تكلّف ظاهر، اللّهم الاّ إن یراد تنوّعها باعتبار المتعلّقات.
إذا كانت الإضافة حاصلة من نسبة متكرّرة بین شیئین، وكانت النسبة ممّا یقوم بطرفیها استدعى فعلیّةُ النسبة حصولَ الطرفین، فلا تحصل الإضافة بالفعل لشیء من طرفیها إلاّ بحصولهما بالفعل، وإذا لوحظ وجودها بالقوّة استدعت وجود طرفیها بالقوّة، وإذا لوحظت فی الذهن استدعت تحقُّق طرفیها فی الذهن. وهذا ممّا لا غبار علیه.
وقد استشكل على ذلك بأمرین: أحدهما تحقُّق إضافة التقدُّم والتأخّر بین أجزاء الزمان مع امتناع اجتماعها بالفعل. ولا یختصّ هذا الإشكال بأجزاء الزمان كما لا یخفى. وثانیهما تحقُّق إضافة العالمیّة والمعلومیّة بین الإنسان العالم الموجود بالفعل وبین ما لم یوجد بعدُ كالقیامة ـ على ما مثّلوا به ـ. وقد یقرَّر بالإضافة الحاصلة بین العلم والمعلوم الذی لمّا یتحقّق، كما فی المباحث المشرقیّة والأسفار.
أمّا من قال باعتباریّة الإضافة فهو فی فسحة من أمثال هذه الإشكالات، لأنّ ظرف العروض عنده هو الذهن، فیعتبر اجتماع الطرفین فیه وإن كانا غیر مجتمعین فی الخارج.
وأمّا القائلون بعینیّة الإضافة فلهم أجوبة غیر كافیة، منها ما ذكره الشیخ فی الجواب عن الإشكال الأوّل بأنّها من قبیل الإضافات الذهنیّة،(1) وتبعه على ذلك
1. راجع: الفصل الأخیر من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص152؛ وراجع: التحصیل: ص410؛ والمقاومات: ص142.
غیره. ونقل الرازىّ كلاماً عن الشیخ واعتراض علیه(1) وتبعه صدر المتألّهین فی الأسفار.(2) ثمّ أشار إلى جواب(3) ذكر حاصله فی المتن، وفیه إشارة إلى ما یمكن أن یقال بأنّ الجزئین المتقدّم والمتأخّر معانِ فی آن هو الحدّ المشترك بینهما بحیث یصحّ عدّه نهایة الجزء المتقدّم وبدایة الجزء المتأخّر، وبهذه المعیّة الآنیّة یبرّر اجتماع وجودیهما المتضایفین. ودفعه بأنّ أجزاء الزمان لیست من الاُمور الدفعیّة كالاتّصال والانفصال حتّى تكون لها معیّة فی الآن. مضافاً إلى أنّ التقدّم والتأخر فی أجزاء الزمان لا یختصّ بالأجزاء المتّصلة المشتركة فی حدّ واحد.
وأمّا ما صحّ عنده من الجواب فهو أنّ معیّة أجزاء الزمان إنّما هی باتّصالها فی الوجود الوحدانیّ التدریجیّ، ولا ینافی هذه المعیّة كونها غیر قابلة للاجتماع بالذات، كما لا ینافی وحدة العدد كونه عین الكثرة.
وأنت خبیر بأنّ الزمان بما أنّه موجود واحد لیس له أجزاء بالفعل، فلا یتّصف فی هذا اللحاظ بالتقدّم والتأخّر. وإنّما یتّصف بهما بما له من الأجزاء الموجودة بالقوّة. ففرض التقدّم والتأخّر فیه یساوق فرض تحقّق الأجزاء المتكثّرة بما هی متكثّرة. فلا یفید وحدة أجزاء الزمان لدفع هذا الإشكال. كما أنّ العدد الخاصّ بما أنّه موجود لیس إلاّ أمراً واحداً لا كثرة فیه.
ویمكن أن یفسّر كلام صدر المتألّهین هذا باجتماع أجزاء الزمان فی وعاء الدهر ـ كمـا صرّح به فـی تعلیقته على الشفاء(4) ـ. ویـلاحظ علیـه أنّ الدهـر لیس وعـاء المتدرّجات بما أنّها متدرّجات، فتبصّر.
وأمّا جواب الشیخ فإن أراد أنّ أجزاء الزمان تتّصف بالتقدّم والتأخّر فی وعاء
1. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص431.
2. راجع: الأسفار: ج4، ص193.
3. راجع: نفس المصدر: ص202.
4. راجع: تعلیقة صدر المتألّهین على ألهیّات الشفاء: ص153.
الذهن بحیث یكون الذهن ظرف هذا الاتّصاف فهو واضح الفساد، وإن أراد أنّ الذهن هو ظرف العروض فقط كان حقّاً لكنّه لا یختصّ بالإضافة الحاصلة بین أجزاء الزمان، بل یجری فی سائر الإضافات أیضاً، ویؤول إلى ما ذكرنا من أنّ الإضافة من المعقولات الثانیة الفلسفیّة.
أمّا الإشكال الثانی فلم یتعرّض له الشیخ فی الشفاء، إلاّ أنّه صرّح فی موارد بأنّ المتضایفین متكافئان فی اللزوم لا فی الوجود، وبتحقّق التضایف بین موجود ومعدوم.(1) وقال الرازیّ: «وأمّا العلم المتعلّق بأنّ القیامة ستكون فهو علم بحكم من أحكام القیامة وهو صفة أنّها ستكون، فهذه الصفة حاضرة فی الذهن، وحضورها فی الذهن لا یكون إلاّ حال كونها معدومة فی الأعیان، فإذاً المعلوم حاضر مع العلم».(2)
ویرد على ظاهر كلامه أنّ الصفة لا تتحقّق قبل الموصوف، ولا فی ظرف غیر ظرف تحقُّقه.
وقال صدر المتألّهین: «المعلوم بالحقیقة هو الصورة الحاضرة عند العقل، والإضافة بالحقیقة بین العلم ومهیّة المعلوم، والمعلوم من القیامة أنّها ستكون لا عین وجود القیامة». ثمّ قال: «ویرد علیه شكّان: أحدهما أنّ العلم من الموجودات الخارجیّة ولهذا عدّ من الكیفیّات النفسانیّة... ولیس مهیّة المعلوم بما هی معلومة من الموجودات العینیّة. والثانی أنّ العلم فی الحقیقة نفس وجود مهیّة المعلوم عند العاقل، ولیس بین الوجود والمهیّة تغایر حتّى یقع بینهما إضافة العلم والمعلوم» وأجاب عن الأوّل بأنّ الإضافة بین العلم والمعلوم إنّما هی من حیث كونه حكایة عن مهیّة المعلوم، وبهذا اللحاظ یكون كلاهما ذهنیّین. وعن الثانی بأنّ الإضافة بین العلم والمعلوم بالذات أمر اعتباریّ، حاصلة بین أمرین متغایرین بالاعتبار متّحدین بالذات.(3)
1. راجع: التعلیقات: ص76 و 91 و 95.
2. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص432.
3. راجع: الأسفار: ج4، ص194.
وهذا الجواب على التقریر الثانی ـ أعنی فرض الإضافة بین العلم والمعلوم ـ ظاهر، وأمّا على التقریر الأوّل ـ أعنی فرض الإضافة بین ذات العالم وذات المعلوم فیمكن تتمیمه بأنّ الإضافة بینهما تكون بالعرض، فالإنسان إنّما یكون طرف الإضافة للقیامة بما أنّه عالم، كما أنّ القیامة إنّما تكون طرفاً لها بما أنّها معلومة، والعالم والمعلوم عنوانان عرضیّان، فالإضافة تكون فی الحقیقة بین العلم والمعلوم بالذات. لكن بعد ذلك كلّه یبقى السؤال عن الإضافة بین المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض، حیث إنّ الأوّل حاكٍ عن الثانی فهما متضایفان رغم أنّهما غیر مجتمعین فى الوجود. فلا مناص إلاّ بالمصیر إلى أنّ عروض إلاضافة إنّما هو فی الذهن وأنّ الاتّصاف بها خارجیّ فقط على ما هو شأن جمیع المعقولات الثانیة الفلسفیّة.
هذا نظیر ما ذكره فی الاضافة، وقد مرّ الكلام فیه، وسیعیده فی البحث الثانی، وسیأتی منه التشكیك فی كون الأین مقولة مستقلّة.(2)
لكن هذا الثبوت البدیهیّ أعمُّ من كونه ثبوتاً للمهیّة أو ثبوتاً لوصف عقلیّ لیس بإزائه شیء منحاز.
1. راجع: الفصل الخامس إلى التاسع من المقالة الثانیة من طبیعیّات الشفاء: ص49-68؛ والنجاة: ص118ـ124؛ وراجع: المعتبر: ج2، ص40-69؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص217ـ257؛ والأسفار: ج4، ص39 و 217؛ وراجع: التحصیل: ص358 و 378 و 413؛ والمقاومات: ص144؛ والمطارحات: ص273 و 281؛ والتعلیقات: ص95 و 76.
2. راجع: الفصل السابع من المرحلة التاسعة من المتن.
والفرق بینه وبین القول الثالث یظهر فی أنّ الرأس مثلاً یصحّ اعتباره على القول الثالث مكاناً للعمامة، بخلافه على القول الرابع حیث یلزم علیه اعتبار العمامة مكاناً للرأس. ویرد علیهما جمیعاً أنّ نفس السطح بما أنّه سطح یكون من مقولة الكم، ووصف المماسّة یكون من مقولة الإضافة، والحاصل من مجموع المقولتین لیس مهیّة واحدة مستقلّة، بل هو مفهوم اعتباریّ. كما أنّ عروض الإضافة للسطح لا یجعله نوعاً خاصّاً منه حتّى یعدّ المكان نوعاً من الكم. فحاصل هذین التعریفین یرجع إلى إنكار كون المكان مهیّة عینیةّ. أضف إلى ذلك أنّ الإضافة أمر اعتباریّ كما حقّقناه.
هذا هو القول المنسوب إلى أفلاطون، ومن المحتمل وقوع خطأ فی تفسیر كلامه، فلعلّه أراد بكون المكان بُعداً مجرّداً أنّه حجم الجسم المتمكّن بصرف النظر عن كونه عارضاً للجسم الطبیعیّ متّحداً به، فمرجعه إلى جعل الجسم التعلیمیّ مكاناً للجسم الطبیعیّ، ویكون المراد بالتجرید هنا قصر النظر على الحجم لا مفارقة المادّة التی هی من أوصاف الجواهر المجرّدة العقلیّة. وكیف كان فمن الغریب اعتبار موجود مجرّد عن المادّة مكاناً للمادیّات، مع أنّ نسبة المجرّد إلى جمیع المادّیات على السواء، ویلزم علیه كون المكان عاقلاً لذاته، وكونه أشدّ وجوداً من المتمكّنات، إلى غیر ذلك قال فی القبسات (ص 164) «إن البُعد المفطور المكانیّ المجرّد قد أبطله أفلاطن بالبراهین والشریك الرئیس نقل ذلك عنه فی الشفاء وشارحا الاشارات إمام المتشكّكین وخاتم المحققین نقلا عنه. ثمّ ینسب فریق من هؤلاء المختلقین إثباته إلیه».
ونقول: الأشبه أن یقال إنّ المكان هو حجم الجسم بصرف النظر عن نفس الجسم، فإذا قصرنا النظر على حجم العالم الجسمانیّ ـ أو إن شیءت فقل: على بُعده
وامتداده ـ كان ذلك مكاناً للعالم، ووقوع كلّ جسم خاصّ فی جزء من ذلك الحجم یعیّن مكانه ویبرّر الإشارة الحسیّة إلیه. فمكان كلّ جسم خاصّ هو جزء من حجم العالم إذا أُخِذَ الحجم بعین الاعتبار مجرّداً عن الاجسام المتمكّنة
ثمّ إنّه یشكل الجمع بین قبوله الإشارة الحسّیة وبین جعله أمراً غیر متناه وغیر ذی وضع،(1) كما أنّه یلزم على القول بكونه غیر متناه، وجودُ الخلأ وراء المحدّد، وهو لا یوافق اُصولهم.
ولكلامهم تأویل آخر، وهو كونه من المفاهیم الاعتباریّة المتعلّقة بالأعیان.
قال فی الأسفار: «هكذا قیل ولیس بسدید ـ إلى أن قال ـ فكذلك لكلّ حادث متى یخصّه ولا تكون مشتركة بینه وبین غیره.(2)
وعلى هذا فینبغی تعمیم تعریف المتى بأن یقال: «هو الهیئة الحاصلة للشیء من
1. راجع: الأسفار: ج4، ص39 و 43 و 57.
2. راجع: نفس المصدر: ص219؛ وراجع: الفصل العاشر الى الثالث عشر من المقالة الثانیة من الفن الاول مـن طبیعیات الشفـاء: ص68ـ81؛ والنجاة: ص115؛ والتحصیل: ص360 و 422 و 453 و 464؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص642678؛ والأسفار: ج3، ص115ـ181؛ والمطارحات: ص279؛ والمعتبر: ج2، ص69ـ80؛ وج3، ص35.
نسبته إلى الزمان أو الآن» كما فی التحصیل (ص 414)، لكن لِیُعْلَم أنّ الاُمور الآنیّة لیس لها وجود منحاز، كما أنّ نفس الآن كذلك.
قال الشیخ فی التعلیقات: «الوضع هو نسبة أجزاء جملة الشیء بعضها إلى بعض، مأخوذةً مع نسبتها إلى الجهات الخارجة عنها: كانت تلك الجهات حاویة أو محویّة».(1)
وقال تلمیذه فی التحصیل: «وهو كون الجسم بحیث یكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة فی الانحراف والموازاة والجهات وأجزاء المكان، مثل القیام والقعود وبالجملة هو كون الجسم بحیث یكون لأجزائه نسبة إلى حاویه ومحویّه. وبعبارة اُخرى: الوضع هیئة كون الشیء ذانسبة لبعضه إلى بعض فی الجهات المختلفة. وتلك النسبة للأجزاء إضافة، ووضع للكلّ».(2) وقال فی موضع آخر: «هو كون الشیء ذانسبة لبعضه إلى بعض فی الجهات المختلفة».(3)
وقال شیخ الإشراق: «هو كون الجسم بحیث یكون لبعض أجزائه إلى بعض نسبة مختلفة بالجهات».(4) وقال فی موضع آخر: «هو كون الجسم بحیث یكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة فی الجهات المختلفة، كالقیام والقعود».(5) ومثله فی الأسفار.(6)
1. راجع: التعلیقات: ص43.
2. راجع: التحصیل: ص33ـ34.
3. راجع: نفس المصدر: ص415.
4. راجع: المقاومات: ص144.
5. راجع: المطارحات: ص275.
6. راجع: الأسفار: ج4، ص220.
وقال الرازیّ: «هو هیئة تحصل للجسم بسبب نسبة أجزائه بعضها إلى بعض، نسبةً تتخالف الأجزاء لأجلها بالقیاس إلى الجهات فی الموازاة والانحراف، مثل القیام والقعود والاستلقاء والانبطاح».(1)
ولیس فی شیء من هذه التعاریف ذكر من نسبة مجموع الأجزاء بما أنّها كلٌّ واحدٌ إلى الخارج، وأمّا ما ذكر فی التحصیل من أنّ تلك النسبة للأجزاء إضافة، وللكلّ وضع، فالمراد به أنّ الهیئة الحاصلة للكلّ من نسبة بعض أجزائه إلى بعض هی الوضع. وكذا المراد من النسبة إلى الحاوی والمحویّ هو النسبة بین كلّ واحد من الأجزاء وبین الحاوی والمحویّ، لا نسبة الكلّ إلیهما. فإنّ الوضع یتغیّر بتغیّر نسبة كلّ واحد من الأجزاء إلى الخارج ولا یتوقف على تغیّر نسبة المجموع إلیه. ولیس یتعیّن اعتبار النسبة إلى الحاوی فی كلّ وضع، فإنّ الفلك الأقصى لا یوجد وراءه خلأ ولا ملأ ـ حسب ما زعموا ـ فلیس لأجزائه المفروضة نسبة إلى الحاوی، بل إلى المحویّ فقط، بل لیس یلزم اعتبار النسبة إلى المحویّ أیضاً، لصحّة اعتبار الوضع للفلك بمـا یحتوی علیه ـ أی لكلّ العالم الجسمانیّ ـ مع أنّه لا حاوی ولا محویّ له.
قال فی حاشیة شرح المنظومة ما حاصله أنّ اعتبار نسبة الأجزاء إلى الخارج ضروریٌ، وإلاّ لم یكن فرق بین القیام والانتكاس، لا نحفاظ نسبة الأجزاء بعضها إلى بعض فی الصورتین.(2) ویلاحظ علیه أنّ النسبة تتغیّر بتغیّر جهة الأجزاء فتبصّر.
قال فی التحصیل: «والوضع قد یكون بالقوّة مثل ما یقال إنّ الدائرة التی حول قطب
1. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص455.
2. راجع: شرح المنظومة: ص139.
الرحى أصغر من طوقها. وذلك لأنّ الدائرة التی حول القطب غیر موجودة بالفعل حتّى تكون قریبة بالقطب أو بعیدة منه».(1)
ذكر فی الأسفار إشكالاً فی الجمع بین قبول الاستقامة والانحناء للشدّة والضعف ـ كما قالـوا ههنـا ـ وبین ما ذكـروا فی باب الكم أنّ الاستدارة والتحدیب لا یقبل الاشتداد والتضعّف. ودفعه بأنّ الكم إذا كان مجرّداً عن المادّة لا یقبل الاشتداد أو الضعف، إذ لا مادّة هناك حتى یقبل التبدّل، بخلاف الكم الواقع فی مادّة مخصوصة. وقال فی آخر كلامه: «فالا نحناء الطبیعیّ یقبل الأشدّ دون التعلیمیّ، وهذا من مقولة الوضع دون ذلك. فاعلم هذا، فإنّه شیء یغفل عنه الأكثرون».(2)
والظاهر أنّ مراده بالكم المجرّد ههنا هو الذی لوحظ مستقّلاً عن المادّة لا المجرّد فی الواقع، ولذا فرّع علیه أنّ التعلیمیّ لا یقبل الأشدّ. وإذا كان هذا هو المراد فیرد علیه أنّ تجرید الكم عن المادّة اعتباراً لا ینافی حلوله فیها واقعاً. ولو كان المراد المجرَّد الواقعیَ لم یرد علیه هذا الإشكال لكنّه لم یستقم التفریع والمقابلة بین الطبیعیّ والتعلیمیّ. مضافاً إلى أنّ الفلاسفة لم یفرّقوا بین الكم المثالیّ والطبیعیّ، مع أنّ المشّائین غیر قائلین بالمثال أصلاً.
ویمكن أن یجاب عن الإشكال بوجه آخر، وهو أنّ الكم بما أنّه كم لا یقبل الاشتداد والتضعّف، وإنّما یقبل الزیادة والنقصان، لكن بما أنّه له كیفیّات خاصّة یشتدّ ویتضعّف، فهما فی الواقع وصفان للكیفیّة.
1. راجع: التحصیل: ص415؛ وراجع: المقاومات: ص145؛ والمطارحات: ص276؛ والأسفار: ج4، ص222.
2. راجع: الأسفار: ج4، ص223.
لا یخفى أنّ المراد بـ «أین» ههنا لیس هو مقولة الأین، بل المراد به الجهة.
اختلفوا فی مفاد اللام فی قولنا «القوى للنفس» و«الفرس لزید» أنّه من أیّ المقولات: فقیل: إنّه من مقولة الجدة التی یعبّر عنها بالملك ومقولة «له»؛ وقال صدر المتألّهین: إنّه من مقولة المضاف؛(2) وقال بعضهم إنّه جدة اعتباریّة؛ وقال الاُستاذ بخروجه عن المقولات مع الفرق بین المثالین، فإنّ الأوّل تعبیر عن حیثیّة وجودیّة هی قیام وجود شیء بشیء، والآخر مفهوم اعتباریٌ من القسم الرابع من الاعتباریّات التی ذكرناها تحت الرقم (10) والحقّ أنّ أصل الجدة أیضاً مفهوم اعتباریّ، ونقل عن الشیخ التشكیك فی كونها من المقولات الحقیقیّة.
قال فی الأسفار: «وأمّا الحالة التی تقع للفاعل المتجدّد عند انقطاع تحریكه، وللمنفعل عند انقطاع تحرّكه، كالقطع فی نهایة الحركة، واحتراق الثوب بعد استقراره، فهل تكونان من هذین البابین أم لا؟ فنقول: هما من حیث تخصیصهما
1. راجع: نفس المصدر: ص222.
2. راجع: نفس المصدر: ص223.
بأنّهما فی نهایة الحركتین یصحّ عدّهما من هاتین المقولتین، وكذا الحال فی جمیع ما یقع فی حدود الحركة وأطرافها الدفعیّة. وإذا لم یعتبر تخصیصهما كذلك فلیسا من المقولتین».(1) ولا یخفى أنّ اعتبار شیء دفعیّ من المقولة المتقوّمه بالتدرّج كیفما فرض لا یخلو من مسامحة كاعتبار الآنیّات من الزمانیّات.
هذا الإشكال هو الذی أورده الرازی(2) ونقله فی الأسفار.(3) وحاصل الجواب أنّ التأثیر والتأثّر موجودان فی الخارج بنفس وجود المؤثّر والمتأثّر لا بوجودین منحازین. ومآله إلى كونهما من المعقولات الثانیة دون المقولات الماهویّة. فالحقّ أنّ هاتین المقولتین تعبیران عن نحو من العلّیة والمعلولیة مما یختص بالمادیّات ویتمُّ بالحركة. ودعوى حصول هیئة حقیقیة للفاعل والمنفعل غیر مسموعة.
1. راجع: نفس المصدر: ص224.
2. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص456458.
3. راجع: الأسفار: ج4، ص225ـ228.
قد تعرّض الشیخ للبحث عن الوحدة والكثرة فی باب المقولات عند الكلام على الكم المنفصل، (1) وحیث إنّ الواحد عندهم لیس من العدد یكون البحث عن الواحد هناك من باب الاستطراد. وقد تعرّض له فی الأسفار فی مرحلة مستقلّة بعد البحث عن الماهیّة وقبل المقولات، وعكس الاُستاذ(دامظلهالعالی) فأخّره عن مبحث المقولات.
ثمّ إنّ المحقّقین اتّفقوا على أنّ مفهومی الوحدة والكثرة بدیهیّان غنیّان عن الاكتساب، لكنّ الشیخ ذكر أنّ الكثرة أعرف عند الخیال والوحدة أعرف عند العقل،(2) وتبعه على ذلك آخرون،(3) وبذلك یستصحّ أخذ مفهوم الانقسام الذی هو خاصّة العدد بل هو نفسه ـ على حدّ تعبیرهم ـ فی تعریف الوحدة، فیقال ـ «الواحد هو الذی لا ینقسم من حیث إنّه لا ینقسم» وأمّا التقیید بالحیثیّة فلأجل أن یندرج التعریف ما یكون فی نفسه منقسماً لكن له حیثیّة غیر قابلة للقسمة، فیتّصف باعتبار تلك الحیثیّة بالوحدة.
1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء.
2. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثالثة من نفس المصدر.
3. راجع: التحصیل: ص366؛ والمباحث المشرقیة، ج1، ص84؛ والشوارق: المسألة السابعة، من الفصل الثانی،ص170.
وبعد قبول أنّها لا تكون مندرجة تحت المقولات یقع التساؤل حولها من أیّ المفاهیم هی؟ ویمكن الإجابة علیه بأنّ الوحدة عرض مستقلّ غیر داخل فی شیء من المقولات العرضیّة، فإنّهم صرّحوا بعدم انحصار المهیّات فی المقولات، واختصاص المقولات بالمهیّات المركّبة من الأجناس والفصول، وقد صرّح الشیخ وبهمنیار والرازی(1) وغیرهم بعرضیّتها. لكن یشكل ذلك فی حمل الواحد على الواجب تعالى، لتعالیه عن عروض الأعراض واختصاصها بالمهیّات الجوهریّة. وقد سبق من الاُستاذ(دامظلهالعالی) أنّ كلّ مفهوم یحمل على أكثر من مقولة واحدة أو یعمّ الواجب والممكن فإنّه لیس بمفهوم ماهویّ،(2) فلا سبیل إلاّ إلى القول بكونها من المفاهیم المنتزعة عن الوجود، فیكون من قبیل المعقولات الثانیة الفلسفیّة كما صرّح به المحقّق الطوسی(قدسسره)(3) ویكون الكثرة المقابلة لها أیضاً كذلك؛(4) وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ العدد لیس مفهوماً ماهویّاً، فراجع الرقم (160) وعلى ذلك فلا وجه لإصرار صدر المتألّهین ومن تبعه على نفی كونها من ثوانی المعقولات.(5) اللّهمّ إلاّ أن یراد أنّها لا تكون من المعقولات الثانیة المنطقیّة مما یكون الاتّصاف بها أیضاً فی الذهن، فافهم.
لكن لكلامه تأویل آخَرُ وهو أنّ مفهوم الوحدة كمفاهیم الوجود والوجوب والإمكان وإن كان یعدّ من المعقولات الثانیة الفلسفیّة بما هو مفهوم إلاّ أنّ مصداقه نفس حقیقة الوجود العینیّة، فالمراد بكون الوحدة من الحقائق الخارجیّة أنّ مصداقها هو حقیقة الوجود الخارجیّة.
1. راجع: الفصل الثالث من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص366؛ والمطارحات: ص246؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص86 و 87؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على الشفاء: ص94ـ100.
2. راجع: الفصل الأوّل من المرحلة السادسة من المتن.
3. راجع: المسألة السابعة من الفصل الثانی من الشوارق: ص171.
4. راجع: المطارحات: ص358؛ وحكمة الإشراق: ص68.
5. راجع: الأسفار: ج2، ص88.
ویلاحظ علیه أن المفهوم الذی یشار به إلى الحقائق العینیّة بما أنّها حقائق عینیّة هو مفهوم الوجود، فلنا أن نجعله مرآة لها بلا تعمّل واعتبار خاصّ، وهذا هو المبرّر للبحث عن حقیقة الوجود وأصالتها. وهذا بخلاف مفهوم الوحدة وما ضاهاه ممّا یحتاج إلى تعمّل ذهنیّ خاصّ، كلحاظ كون الموجود غیر قابل للانقسام، فلا یصحّ جعله مرآة للحقیقة العینیّة بما أنّها حقیقة عینیّة لا غیر. وأمّا كون الحقیقة العینیّة مصداقاً لمفهوم خاصّ كیفما اتّفق فلا یوجب وجود حقیقة عینیّة بإزاء ذلك المفهوم بما أنّه ذلك المفهوم، فتبصّر.
صرّح به فی التجرید،(1) وقال صدر المتألّهین: «اعلم أنّ الوحدة رفیق الوجود یدور معه حیثما دار، إذ هما متساویان فی الصدق على الأشیاء، فكلّ ما یقال علیه إنّه موجود یقال علیه إنّه واحد».(2)
ویلاحظ علیه أنّ الوحدة تحمل على المفاهیم والماهیّات بصرف النظر عن وجوداتها كالوحدة النوعیّة والجنسیّة، فلا یكون الوجود والوحدة متساویین فی الصدق. اللّهمّ إلاّ أن یراد إمكان حمل الوجود علیها ولو كان باعتبار وجودها فی الذهن، فافهم.
وقد اُورد علیه أیضاً بالنقض بالموجود الكثیر حیث یصدق علیه الوجود دون الوحدة. وقد أجاب عنه فی الأسفار بما حاصله أنّ الوحدة كالوجود على أنحاء شتّى، وكلّ وحدة خاصّة یقابلها كثرة خاصّة، والوحدة المطلقة یقابلها الكثرة المطلقة، كما أنّ الوجود المطلق یقابله العدم المطلق. لكنّ العدم
1. راجع: المسألة السابعة من الفصل الثانی من الشوارق: ص169.
2. راجع: الأسفار: ج2، ص91.
المطلق لا خبر عنه فكذلك الكثرة المطلقة لا وجود لها، إذ كلّ موجود فله وحدة ولو بالاعتبار.(1)
وحاصل ما أفاده الاُستاذ(دامظلهالعالی) أنّ تقسیم الموجود إلى الواحد والكثیر یحصل بقیاس الموجودات بعضها إلى بعض، كما أنّ تقسیم الموجود إلى الخارجیّ والذهنیّ وإلى ما بالفعل وما بالقوّة أیضاً كذلك. وبعبارة اُخرى: كلّ موجود من حیث هو موجود فهو واحد، وهذا هو الوحدة العامّة كالخارجیّة والفعلیّة العامّتین الشاملتین لجمیع الموجودات. ثمّ إذا قایسنا هذه الموجودات المتّصفة بالوحدة بعضها إلى بعض وجدنا بعضها متّصفاً بالانقسام كالأعداد دون بعضها الآخر كالواحد، فإذا أخذنا هذا الاختلاف بعین الاعتبار صحّ تقسیم الموجود إلى الواحد والكثیر، وهاتان الوحدة والكثرة هما الوحدة الخاصّة والكثرة الخـاصّـة.
ویلاحظ علیه أنّ ما یكون بالذات واجداً للانقسام بالفعل ـ على ما زعموا ـ هو العدد، وقد حقّقنا أنّه أمر اعتباریّ لا وجود حقیقیّاً له، وأمّا المعدودات فلیس لمجموعها وجود ولا وحدة، وأمّا كلّ واحد منها فله وجود ووحدة إلاّ أنّه لا یتّصف بالكثرة. وأمّا الوحدات غیر الحقیقیّة فسیأتی أنّها مجازیّة لا یصحّ عدّ البحث عنها بحثاً فلسفیّاً. فتقسیم الموجود إلى الواحد والكثیر لا یرجع إلى محصَّل. نعم، یصحّ تقسیم الموجود إلى ما لا یوجد له إلاّ مصداق واحد كالواجب تعالى وكالعقول على القول بانحصار كلّ نوع منها فی فرد، وإلى ما یوجد له مصادیق كثیرة كالنفوس والمادّیات. وكثرة الموجودات وإن كانت ملازمة لضعف وجودها، لكن لیس معنى ذلك التشكّك بین الواحد والكثیر، فلیس الإنسان الواحد بأشدّ وجوداً من الناس الكثیرین حتّى بالتشكیك العامّی.
1. راجع: نفس المصدر: ص91.
ثمّ إنّ الاُستاذ(دامظلهالعالی) أضاف فی آخر كلامه كما فی تعلیقته على الأسفار(1) أنّ السرّ فی انقسام الموجود إلى قسمین مع صدق أحدهما على مطلق الموجود أنّ الوجود حقیقة مشكّكة، فللحقیقة فی نفسها أوصاف كالوحدة والخارجیّة والفعلیّة، وللمراتب المختلفة أوصاف تحصل من مقایسة بعضها إلى بعض.
وقد أشرنا سابقاً إلى ما فی إرجاع هذه الاختلافات إلى التشكیك من الشكّ، فلیس ملاك كلّ تقسیم للموجود هو اختلاف المراتب، ولیس كلّ تشكیك مستلزماً لتقسیم یكون أحد القسمین فیه صادقاً على مطلق الموجود، كما أنّ العلّة أشدّ وجوداً من معلولها مع أنّ العلّیة لیست صفة عامّة لجمیع الموجودات.
الواحد غیر الحقیقیّ لیس واحداً حقیقةً، فلا یكون تقسیم الواحد إلى الحقیقیّ وغیر الحقیقیّ تقسیماً حقیقیّاً، فلا یفید إلاّ بیان المصطلحات.
إذا كانت الوحدة منتزعة من نفس الوجود كان كلّ وجود عین الواحد مصداقاً. فالأولى تعریف الواحدة الحقّة بما یمتنع فرض ثان لها، وتنحصر فی الواجب تعالى.
لو اعتبر الوحدة كمهیّة حقیقیّة كما یعتبرون العدد كذلك كان لهذه القسمة وجه،
1. راجع: نفس المصدر: ص90.
لكن قد عرفت أنّ الوحدة والكثرة مفهومان انتزاعیّان من قبیل المعقولات الثانیّة الفلسفیّة، ولیس بإزاء شیء منهما مهیّة متحقّقة فی الخارج.
یعنی بالوضعیّ ما یقبل الإشارة الحسیّة، لكن النقطة لا وجود حقیقیّاً لها وإنّما هی طرف الخطّ، والطرف أمر عدمیّ.
والأولى فی بیان أقسام الوحدة أن یقال:
الوحدة إمّا أن تكون صفة للوجود أو لغیره. أمّا الوحدة التی هی صفة للوجود فإمّا أن تكون صفة لوجود یمتنع فرض ثان له كالواجب تعالى وتسمّى وحدةً حقّةً، وإمّا أن تكون صفة لما یمكن فرض ثان له وتسمّى وحدة عددیّة. والواحد بالعدد إمّا أن یمتنع انقسامه بحیث لا یمكن تبدّله إلى الكثیر كالمجرّدات وإمّا أن لا یمتنع بل یمكن تبدّله إلى الكثیر كما فی المادّیات وتسمّى وحدةً اتّصالیّة.
وأمّا الوحدة فی غیر الوجود فإمّا أن تكون صفة لمفهوم ذهنیّ غیر ماهویّ كوحدة مفهوم الوجود ومفهوم المهیّة، وامّا أن تكون صفة لماهیّة یعتبر لها وجود فی الخارج، فإن كانت المهیّة تامّة سمّیت وحدةً نوعیّة وإلاّ سمّیت وحدة جنسیّة. وأمّا الوحدة الفصلیّة فهی ملازمة للوحدة النوعیّة ولذلك لا یعتبرونها قسماً برأسها.
ثمّ إنّهم ذكروا أقساماً اُخرى للوحدة كالوحدة الصناعیّة وغیرها من الوحدات الاعتباریّة ولا یصحّ عدّ البحث عنها بحثاً فلسفیّاً.
الوجود المنبسط فی الأصل اصطلاح عرفانیّ، ویمكن تطبیقه بحسب النظر
الفلسفیّ على الصادر الأوّل، حیث إنّه ببساطته واجد لكمالات مادونه. وأمّا تفسیره بحیث لا یقبل هذا التطبیق فغیر مقبول بحسب هذا النظر.
قال شیخ الإشراق: «ومن لواحق الواحد الهوهو، وهو أن یكون ذات واحدة لها اعتباران یشار إلیها أنّ صاحب هذا الاعتبار بعینه ذو ذلك، كقولهم هذا القائم، هو الطویل».(1) وقال فی موضع آخر: «ومن لواحق الوحدة الهوهو، ومن لواحق الكثرة الغیریّة».(2)
واعتبار الهوهویّة من عوارض الوحدة إنّما هو بالنظر إلى أنّها لا تتحقّق إلاّ إذا لوحظ جهة وحدة بین شیئین، بخلاف الغیریّة التی یوصف بها الكثیر بالنظر إلى عدم لحاظ الوحدة بین آحاده. والذی یعتبر فی مطلق الحمل هو أعمُّ من الوحدة والاتّحاد، فإن فی أقسام الحمل ما لا اختلاف فیه بین الموضوع والمحمول إلاّ بحسب الفرض أو اللفظ أو بحسب الوجود الذهنیّ الذی لا یلاحظ فیه كما فی الحمل الأوّلیّ مثل «الإنسان إنسان» والاتّحاد لا یكون إلاّ بین شیئین.
ومن جانب آخر فإنّ الوحدة والاتّحاد لا یساوقان الحمل، لأنّ الحمل یختصّ بالقضیّة بخلافهما، اللّهمّ إلاّ أنّ یعمّم إلى الوجود العینیّ، فلیتأمّل.
ثمّ إنّ الهوهویّة المعتبرة فی الحمل كما أنّها تحتاج إلى جهة وحدة بین
1. راجع: التلویحات: ص27.
2. راجع: المطارحات: ص311؛ وراجع: الفصل الأوّل من المقالة السابعة من إلهیّات الشفاء.
الموضوع والمحمول كذلك تحتاج إلى جهة كثرة بینهما یبرّر جعلهما موضوعاً ومحمولاً. فإمّا أن یكون الوحدة حقیقیّة دون الكثرة كما فی حمل مفهوم على نفسه أو حمل وجود على نفسه ـ إذا كان له فرض صحیح ـ وإمّا أن یكون بالعكس كحمل القائم على الطویل.
وأمّا الوجود العینیّ فقد مرّ أنّ كلّ موجود بما أنّه موجود فهو واحد، فلا یعقل الاتّحاد فی وجود واحد إلاّ باعتبار اختلاف مفهومین محمولین علیه، حیث یكون الاتّحاد حقیقةً بین المفهومین، ویكون وصف الوجود هو الوحدة دون الاتّحاد. وأمّا الاتّحاد بین وجودین فقد حصروه فی موجودین یكون أحدهما بالقوّة والآخر بالفعل كاتّحاد الهیولى بالصورة، وربما صرّحوا بامتناع الاتّحاد بین موجودین بالفعل. لكن یلزمهم القول بأنّ وجود الصورة الجسمیّة وغیرها فی الحیوان والإنسان إنّما هو بالقوّة، وأن البدن بما له من الصورة الجسمیّة والطبیعیّة غیر موجود بالفعل فی الإنسان الحیّ، وإنّما یصیر موجوداً بالفعل بعد مفارقة النفس!!
والحقّ أنّ الاتّحاد بین وجودین یكون على أنحاء شتّى: أحدها أن یكون وجود واحد ذا شؤون مختلفة عَرْضاً، فیكون كلّ شأن منه متّحداً مع آخر، كما أنّه متّحد بنفس المتشأّن. وثانیها أن یكون الوجود ذا مراتب طولیّة مشكّكة بالتشكیك الخاصّیّ ممّا لا استقلال فیه للمرتبة الدانیة دون المرتبة العالیة، فیكون كلّ مرتبة منها متّحداً مع اُخرى. وثالثها أن یكون أحد وجودین اثنین متعلّقاً بالآخر ناعتاً له، سواء كان أحدهما عرضاً والآخر جوهراً، أو یكونا كلاهما جوهرین كالنفس والبدن وقد یكون بینهما تشكیك عامّیّ. ولا برهان على الحصر فی ما ذكر.
وأمّا الحمل بین وجودین وبین مراتب وجود واحد وبین شؤونه العرْضیّة فهو
من قبیل حمل «ذی هو» على ما سیأتی بیانه. وحمل الحقیقة والرقیقة أیضاً من هذا القبیل، لأنّه فی الواقع حمل بعض مراتب الوجود المشكّك بالتشكیك الخاصّیّ على بعض، ولیس شیء من مراتب الوجود عین اُخرى، بل المرتبة العالیة مقوّمة للمرتبة الدانیة، والدانیة متقوّمة بها، والعالیة واجدة لكمال الدانیة والدانیة عین الربط بها لا استقلال لها دونها. وجدیر بالذكر أنّهم صرّحوا تارة بامتناع اتّحاد الاثنین(1) واُخرى باتّحاد الهیولى والصورة واتحاد العاقل بالمعقول، واتّحاد الآحاد بالعدد، ممّا یحتاج الجمع بین أقوالهم إلى تأویل، فلیتأمّل.
ذكر هذا الاعتراض فی الأسفار(2) ونقل ثلاثة أجوبة عنها ثالثها لأستاذه،(3) واستشكل على الجمیع ثمّ أجاب بما ذكر حاصله فی المتن. والأولى أن یقال: إنّ ملاك الحمل أحد الأمرین: وحدة الموضوع والمحمول مفهوماً كما فی الحمل الأوّلیّ الذاتیّ، أو اتّحادهما وجوداً كما فی الحمل الشائع الصناعیّ، فإن كان كلاهما أو أحدهما من المعقولات الثانیة كان مصداقها واحداً حقیقة، وأمّا إذا كان كلاهما. من المعقولات الاُولى وكان لكلّ منهما ما بإزاء عینیّ غیر ما للآخر فلابدّ من الاتّحاد الوجودیّ بینهما بأحد الأنحاء المذكورة سابقاً،(4) وحینئذ فالمفهوم الحاكی عن أحد الموجودین لا یحمل على الآخر مواطاةً، بل بالاشتقاق أو إضافة «ذی» ونحوه، فلا یحمل مفهوم عرض على جوهر، بل لابدّ من أخذ مفهوم عرضیّ مشتقّ أو إضافة لفظة ذی ونحوها. والجزء المقداریّ مضافاً إلى أنّه لا وجود له بالفعل لیس عین
1. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص90؛ والأسفار: ج2، ص97.
2. راجع: الأسفار: ج2، ص95ـ97.
3. راجع: القبسات: ص201ـ203.
4. راجع: الرقم (166).
الجزء الآخر کما أنّه لیس عین الكلّ، فلابدّ من أخذ مفهوم اشتقاقیّ عنه حتّى یحمل على غیره من الأجزاء أو على الكلّ. ثمّ إنّه یمكن إسراء الإشكال إلى آحاد العدد بناءً على قولهم بوجود العدد فی الخارج واشتماله بالفعل على الآحاد واتّحاد الوحدة والكثرة فیه، بأن یقال: كلّ واحد من آحاد العدد متّحد بالآخر فی الكم المنفصل ومغایر له فی وجوده الخاصّ، فیلزم أن یجوز حمل بعضها على بعض وعلى الكلّ، ولا یدفعه ما ذكره صدر المتألّهین من الجواب.
الحمل من المعقولات الثانیة المنطقیّة ممّا یكون المتّصف به وبطرفیه فی الذهن. فاعتبار الحمل فی الوجود العینىّ مشكل، إلاّ أن یراد حمل مفهومین مشیرین إلى الوجود العینیّ مثل أسماء الإشارة. ویمكن أن یراد بالحمل مطلق الاتّحاد، فیعتبر اصطلاحاً عامّاً مشتركاً بین معنى منطقیّ ومعنى فلسفیّ، فلیتأمّل.
الوجود النعتیّ هو الوجود الرابطیّ الذی ینعت غیره كالصور والأعراض. ومن مثل هذا الوجود یؤخذ مفهوم مشتقّ یحمل على المنعوت به. والسرّ فیه اشتمال المشتقّ على مفهوم الارتباط أو على مفهوم إضافیّ مثل «ذی». ولا یعنی ذلك حمل الوجود الرابطیّ بما هو وجود على غیره، بل الأمر من حیث المفهوم راجع إلى التعمّلات الذهنیّة، ومن حیث اللفظ راجع إلى قواعد اللغة والنحو.
قد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (215).
من القواعد المعروفة أنّ ثبوت شیء لشیء فرعٌ لثبوت المثبَت له، وهی تناظر المثَل المشهور «ثبّت العرشَ ثمّ انقش» وقد اُورد على كلّیتها بأنّ ثبوت الوجود للمهیّة لیس فرعاً على ثبوت المهیّة، حیث لا ثبوت لها وراء الوجود. وقد التزم بعض بالاستثناء، وردّ بأنـّه غیر جارٍ فی القواعد العقلیّة، وصحّحها بتبدیل الفرعیّة من الاستلزام وهو فی الحقیقة تسلیم للإشكال. وأجاب الاُستاذ(دامظلهالعالی) تبعاً لصدر المتألّهین بأنّ ثبوت الوجود للمهیّة خارج عن القاعدة تخصّصاً لأنّه لیس ثبوتَ شیء لشیء بل إنّما هو ثبوت الشیء، ولذا التزم بعدم الرابط فی الهیّة البسیطة،(1) وقد مرّت المناقشة فیه تحت الرقم (39).
والأولى أن یقال: إنّ للقاعدة نوعین من الموارد: أحدهما ثبوت شیء عینیّ لآخرَ كذلك فی الخارج، وثبوت الوجود للمهیّة لیس من هذا القبیل، فإنّ الوجود عین المهیّة فی وعاء الأعیان؛ وثانیهما ثبوت محمول لموضوع فی القضیّة، وهو لا یستوجب أكثر من ثبوت الموضوع فی الذهن، فالموجود الذی یحمل فی الهلیّة البسیطة على المهیّة هو مفهوم یثبت لموضوع ثابت فی الذهن، فلا یرد النقض به على القاعدة. وحمل الموجود على المهیّة وإن كان بلحاظ الخارج إلاّ أنّه لا یقتضی إلاّ اتّحاد مصداقیهما فی الخارج، لا كون الخارج وعاء الحمل الذی یعتبر فیه التغایر بین الموضوع والمحمول، فالإشكال ناشیء عن الخلط بین المفاهیم الفلسفیّة والمنطقیّة.
1. راجع: الأمر الثالث من الفصل الأوّل من المرحلة الثانیة.
اعلم أنّ المعلّم الأوّل بعد ما تعرّض للأجناس العالیّة فی كتاب «قاطیغوریاس» الذی هو أوّل كتبه المنطقیّة تعرّض للبحث عن المتقابلات وأقسامها الأربعة،(2) وتبعه على ذلك أتباع المشّائین من فلاسفة الإسلام. فینقدح هناك سؤال: هل البحث عن التقابل هو من الأبحاث المنطقیّة أو الفلسفیّة؟ فالظاهر ممّا صنع المعلّم الأوّل وأشیاعه أنّهم اعتبروه بحثاً منطقیّاً، كما أنّ الظاهر من صدر المتألّهین وأتباعه أنّهم اعتبروه بحثاً فلسفیّاً من فروع الغیریّة المتلازمة مع الكثرة، وقد سبقهم إلیه شیخ الإشراق.
ثمّ إنّه بناءً على كون البحث منطقیّاً یقع التساؤل حوله: هل هو من الأبحاث المتعلّقة بالمعانی المفردة أو من الأبحاث المتعلّة بالقضایا؟ فالظاهر من المعلّم الأوّل هو الأوّل، لكن یرد علیه أنّه جعل التناقض تقابلاً بین الموجبة والسالبة ممّا هو ظاهر فی أنّه اعتبر هذا التقابل فی القضایا، وإن صرّح تارة بجریانه فی المحمولات،(3) واُخرى بوقوعه فی الإیجاب والسلب،(4) ولعلّه لذلك عبّر الحكماء المسلمون بالتقابل بین الإیجاب والسلب، وسیأتی الكلام فیه.
ومن جانب آخر فإنّه یرد على صدر المتألّهین ومن حذا حذوه أنّ مقسم المتقابلات إذا كان هو الموجود الكثیر فیشكل اعتبار السلب والعدم أحد طرفی التقابل، ولا ینفع الاعتذار بفرض مصداق للعدم، فإنّ هذا الفرض لا یبرّر اعتبار المجموع من الوجود والعدم موجوداً كثیراً كما لا یخفى.
1. راجع: القبسات: ص345ـ348.
2. راجع: الجزء الأوّل من منطق أرسطو، ص63.
3. راجع: نفس المصدر: ص65.
4. راجع: نفس المصدر: ص104 و 105.
والأشبه أنّ هذا التقسیم لیس تقسیماً حقیقیّاً، وإنّما هو بیان للمصطلحات الدائرة فی الفلسفة والمنطق، فلیس هناك مقسم حقیقیّ جامع بین الأقسام، اللّهمّ إلاّ عنوان «المفاهیم المتقابلة» ومن الواضح أنّ البحث عن المفاهیم هو من شأن المنطقیّ. لكنّ البحث عن الأضداد لیس بحثاً عن مفاهیمها، فینبغی فصله عن سائر أقسام التقابل. ثمّ إنّ البحث عن تناقض القضایا وتضادّها هو بحث آخر راجع إلى تقابل الصدق والكذب، وهو غیر البحث عن تقابل المفاهیم المفردة، فلا ینبغی الخلط بینهما.
ربما یتراءى من كلام الاُستاذ(دامظلهالعالی) أنّه اعتبر تناقض القضایا هو الأصل، وأنّ تناقض المفردین إنّما هو لأجل رجوعهما إلى قضیّتین هلیّتین. ویمكن أن یستظهر منه أنّ الأصل فیه هو تقابل السلب والإیجاب بما أنّهما وصفان للحكم، وأنّ وصف القضیّة بالنقیض وصف بحال المتعلّق حیث إنّ مضمون القضیّة هو متعلّق السلب والإیجاب، ویؤیّده تفسیر كلام المحقّق الطوسی(قدسسره) بأنّ مراده من رجوع تقابل السلب والإیجاب إلى القول هو تعلّق السلب والإیجاب بمضمون القضیّة.
وكیف كان فتناقض قضیّتین إنّما هو لأجل امتناع اجتماعهما على الصدق والكذب، كما أنّ تضادّهما إنّما هو لأجل امتناع اجتماعهما على الصدق فقط، وبعبارة اُخرى: صدق إحدى القضیّتین المتناقضتین یستلزم لذاته كذب الاُخرى، فالتناقض أصالةً یكون بین الصدق والكذب. ثمّ إنّ امتناع اجتماع الصدق والكذب لیس لخصوصیّة فی الصدق والكذب بأعینهما بل لأجل أنّ الكذب نفی للصدق، فالتناقض الأصیل إنّما هو بین الوجود والعدم.
وأمّا الأیجاب والسلب فإن اعتبر كوصفین للحكم فی القضیّة لزم الالتزام بوجود الحكم فی السالبة، وهو لا یوافق مذهب صدر المتألّهین وأتباعه، وإن اُرید بهما وجود الحكم وعدمه كان مرجعه إلى تناقض الوجود والعدم.
فالحقّ أنّ التناقض إنّما هو بالأصالة بین الوجود والعدم كمفهومین مفردین باعتبار أنّ مصداق أحدهما الوجود العینیّ ومصداق الآخر نفیه، ولا نعنی بمصداق العدم إلاّ نفی مصداق الوجود. فالبحث عن التناقض یناسب مبحث النسب بین المفاهیم فی المنطق، كما أنّ البحث عن تناقض القضایا وتضادّها له محلّه فی باب القضایا، وسیأتی الكلام على سائر أقسام التقابل.
قد عدّوا تقابل العدم والملكة قسماً مستقلاًّ لافتراقه عن التضادّ والتضایف بأن أحد طرفیه عدم بخلافهما، ولافتراقه عن التناقض باعتبار الشأنیّة فی موضوع الملكة وهو غیر معتبر فی تقابل التناقض. وقد عمّموا شأنیّة الموضوع إلى نوعه وجنسه، وقد صرّح المعلم الأوّل باعتبار الوقت،(1) لكن المتأخرین ألغوا هذا القید ووصفوا ما یشترط فیه الوقت بالمشهوری(2) ونَسَبَه فى الأسفار إلى المنطقیّین.(3) والحقّ أنّ تقابل العدم والملكة لیس قسماً برأسه بل هو قسم من تقابل التناقض اشترط فی الوجود أن یكون وجودَ صفة لما من شأنه أن یتّصف به وفی العدم أن
1. راجع: نفس المصدر: ص64 و 65.
2. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص99 و100.
3. راجع: الأسفار: ج2، ص117.
یكون عدمَ تلك الصفة، وهو أمر راجع إلى الوضع. قال المحقّق الطوسیّ فی التجرید: «وتقابل العدم والملكة، وهو الأوّل (یعنی تقابل الإیجاب والسلب) مأخوذاً باعتبار خصوصیّة».(1) ویشهد له أنّ المرودة التی هی عدم لملكة الالتحاء، تختصّ بالغلام إذا اعتبر الموضوع صنف الرجل، ویصحّ اتّصاف المرأة بها اذا اعتبر الموضوع نوع الإنسان، ولا معیار لتعیین الموضوع هل هو الشخص أو الصنف أو النوع أو الجنس إلاّ الوضع.
قد مرّ البحث عن الإضافة وعدم كونها من المفاهیم الماهویّة تحت الرقم (192 و193) وقد سبق فی المتن أنّ المضاف الحقیقیّ هو نفس الإضافة دون الموضوع المتّصف به، فتقابل التضایف یكون فی الواقع بین الإضافتین مثل إضافة الاُبوّة وإضافة البنوّة، وأمّا زید الأب وعمرو الابن فلیسا متضایفین حقیقةً ولا یتوقّف تصوّر أحدهما على تصوّر الآخر. ولا ینتقض باجتماع العالم والمعلوم فی موضوع واحد فی العلم بالذات مع أنّهما متضائفان، لأنّ التقابل إنّما هو بین العنوانین لا بین الذاتین، وقد اُجیب بتعدّد الاعتبار.
وسرّ التقابل بین المتضایفین أنّ كلّ واحد من المفهومین مشتمل على نسبة إلى الآخر، فالمفروض فیه أنّ هناك مفهوماً آخَرَ یضاف إلیه، واعتبارُهما واحداً یناقض هذا الفرض. فهذا التقابل أیضاً یرجع إلى التناقض.
1. راجع: المسألة السابعة من الفصل الثانی من الشوارق، ص179؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص103؛ وراجع: التحصیل: ص556.
والحاصل أنّ تقابل المفاهیم ذاتاً ینحصر فی تقابل التناقض، فقد یعتبر مطلقاً وهو الذى سمَّوه بتقابل الإیجاب والسلب، وقد یعتبر مقیّداً بكون الوجود وجود صفة من شأن الموضوع أن یتّصف بها وهو الذی سمَّوه بتقابل العدم والملكة، وأمّا تقابل المفاهیم الوجودیّة فإنّما هو لاستلزام كلّ من المتقابلین نفی الآخر كالمتضایفین، فیكون من أقسام التقابل بالعرض، وفی الجمیع یكون التقابل بین المفاهیم.
بیان الإشكال على ما ذكره فی الأسفار(1) أنّا إذا لا حظنا أمرین متقابلین بما أنّهما متقابلان یحصل إضافة متشاكلة الأطراف بینهما، وكذا إذا لا حظنا أمرین متماثلین أو متضادّین، وبهذا الاعتبار یصحّ جعل التضایف مقسماً للتقابل والتماثل والتضادّ وغیرها، ویكون كل واحد منها قسماً من التضایف وقسیماً للآخر. ومن جانب آخَرَ فقد جُعل التضایف قسماً من أقسام التقابل ویكون قسیماً للتناقض والتضادّ. فكیف یمكن أن یكون التقابل مقسماً لأقسام یكون قسم منها وهو التضایف مقسماً لاُمور منها التقابل، فیكون التقابل قسماً لقسم من أقسامه؟ وكیف یمكن أن یكون التضادّ الذی هو أحد أقسام التقابل قسیماً له حیث یقسم إلى التقابل والتضادّ وغیرها؟
وأمّا على ما ذكره الاُستاذ(دامظلهالعالی) فحقّ العبارة أن یقال «من قبیل جعل الشیء قسماً لقسمه» لا «قسیماً لقسمه» ولَعَلَّهُ تصحیف.
وكیف كان فالجواب أنّ التقابل الذی هو مقسم للتضایف وغیره هو التقابل بالحمل الشائع، والذی هو قسم من التضایف هو التقابل بالحمل الأوّلیّ، نظیر ما اُجیب به عن إشكال كون الجزئیّ كلّیاً.
1. راجع: الأسفار: ج2، ص110.
ظاهر الأسفار أنّ هناك اصطلاحین للأضداد: أحدهما للقدماء، والآخر للمشّائین. وقال الاُستاذ(دامظلهالعالی) فی تعلیقته على الأسفار: «وبناء الأحكام فی الأبحاث الفلسفیّة على الاصطلاح المجرّد بعید غایتَه»(1) ثمّ قام بتبیین لمذهب المشّائین وتوجیه لما اعتبروه من القیود فی تعریف الضدّین نظیر ما ذكر من البیان فی المتن. وحاصله أنّ التضادّ لیس تباینَ المفاهیم أو تباینَ الماهیّات التامّة وعدم تصادقها، فإنّ ذلك هو شأن جمیع المفاهیم والماهیّات، بل التضادّ هو أن تكون ماهیّة كلّ من الضدّین طاردة للآخر، ناظرةً إلیه وآبیةً عن الاجتماع معه فی الوجود.
ویلاحظ علیه أنّ الماهیّة ـ أیّة ماهیّة كانت ـ لا تكون فی ذاتها ناظرة إلى ماهیّة اُخرى وطاردة لها، فضلاً أن تكون لها اقتضاء عدم الاجتماع فی الوجود معها. فلیس فی مفهوم السواد مثلاً شیء من هذه الاُمور، وإنّما وجود السواد یكون بحیث لا یجتمع مع وجود البیاض، ویعرف ذلك من الخارج لامن نفس المفهوم. اللّهمّ إلاّ أن یعتبر الإضافة من المهیّات، وقد عرفت ما فیه.
وجود الموضوع بمعناه الأعمّ للمتضادّین لا یحتاج إلى هذا البیان، ففرض أمرین وجودیّین متقابلین إنّما یصحّ إذا فرض هناك أمر ثالث لا یجتمعان فیه. ثمّ أشار إلى أنّ الموضوع بمعناه الأعمّ یشمل محلّ الجوهر أیضاً، ولذا ذهب القدماء إلى
1. راجع: نفس المصدر: ج2، ص111ـ112.
وقوع التضادّ بین الجواهر،(1) لكنّ المشّائین لمّا اعتبروا غایة الخلاف بین الضدّین ـ وسیأتی وجهه ـ حصروا التضادّ فی الأعراض، فمعنى الموضوع المذكور فی تعریفهم هو معناه الخاصّ بالعرض، أی المستغنی عن الحالّ.
لمّا نسب طرد الضدّ الآخر إلى ماهیّة الضدّ فرّع علیه أنّ هذا الطرد إنّما هو لأجل فصله(2) المتمّم لماهیّته، فاللون الذی هو جنس مشترك بین السواد والبیاض مثلاً لیس طارداً لأحدهما وإنّما فصل السواد ـ وهو «قابض نور البصر» على حدّ تعبیرهم ـ هو الذی یطرد البیاض بفصله ـ وهو «مفرّق نور البصر» ـ وهذا هو الموجب لأخذ قید «الدخول تحت جنس قریب» فی التعریف. ثمّ أشار إلى أنّ الاستقراء یفید عدم التضادّ بین الأجناس،(3) فینحصر التضادّ فی الأنواع الأخیره، فیكون الضدّان داخلین تحت جنس قریب بحكم الاستقراء أیضاً. لكنّ الوجه الأوّل قابل للمناقشة، فالمعوّل على الاستقراء لو تمّ. وقد صرّح المعلّم الأوّل بوقوع التضادّ بین جنسین.(4)
هذا القید هو عمدة الخلاف بین أتباع المشائین والقدماء، فاعتباره یستلزم نفی ثالث الأضداد،(5) كما أنّهم بنوا نفی التضادّ بین الجواهر أیضاً على اعتبار هذا القید. وقد صرّح المعلّم الأوّل بأنّ من المتضادّین ما یجب أن یكون أحدهما موجوداً فی
1. قال الشیخ فی التعلیقات، «فالجواهر متضادّة بصورها إذ لاتجتمع فی موضوع» (ص143).
2. راجع: المطارحات: ص315 و 316؛ وراجع: الأسفار: ج2، ص115 و 116.
3. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص104؛ وراجع: الأسفار: ج2، ص113.
4. راجع: الجزء الأوّل من منطق أرسطو، ص70.
5. راجع: المطارحات: ص314.
الموضوع، فلیس بینهما متوسّط كالفرد والزوج، ومن المتضادّین ما لا یجب ذلك فی موضوعهما كالأبیض والأسود، فیوجد بینهما متوسّط أو متوسّطات كالأدكن والأصفر وسائر الألوان،(1) ولیس فی كلامه ما یدلّ على اعتبار هذا القید.
وأمّا الشیخ فمع تصریحه فی قاطیغوریاس الشفاء بأنـّه قد یتعرّى الموضوع عن الضدّین فیكون بینهما واسطة كالسواد الصرف والبیاض الصرف فإنّ بینهما وسائط ألوان یخلو الموضوع عنهما إلیها وربما خلا عنهما إلى العدم بأن یصیر مشفّاً فتكون الواسطة سلب الطرفین من غیر إثبات واسطة خلیطة، مع ذلك اعتبر فی الضدّین الحقیقیّین غایة البعد والخلاف، وقال فی إلهیّات الشفاء: «ویكون التضادّ غایة الخلاف للمتقابلات المتّفقة فی الجنس والمادّة، وذلك لأنّه یصدق غایة الخلاف حیث كان متوسّط وحیث لم یكن ـ إلى أن قال ـ فقد بان أنّ ضدّ الواحد واحد، والمتوسّط فی الحقیقة هو الذی مع أنّه یخالف یشابه، فحینئذ یجب الانتقال إلیه أوّلاً فی التغیّر إلى الضدّ، فإنّ الأسود لذلك یغبرّ ویخضرُّ ویحمرّ أوّلاً ثمّ یبیضّ».(2)
وقد فسّر كلامه بأنّ تقابل الأوساط وكذا تقابل كلّ من الطرفین مع أحد الأوساط إنّما هو لاشتمال الأوساط على الطرفین، فتقابل البیاض والحمرة إنّما هو لاشتمال الحمرة على شیء من السواد، وتقابل السواد والحمرة إنّما هو لأجل اشتمالها على شیء من البیاض. ویشهد لهذا التفسیر وصف الواسطة بالخلیطة فی كلامه المنقول عن قاطیغوریاس. لكن یلاحظ علیه أنّ اعتبار جمیع الأوساط أخلاطاً من الطرفین مشكل جدّاً، ولا تساعد علیه التجارب العلمیّة. ولذلك ذهب بعض المتأخّرین إلى زیادة قسم آخر من التقابل سمَّوه بالتعاند، وهو التقابل بین هذه الأوساط.(3)
1. راجع: الجزء الأوّل من منطق أرسطو: ص64.
2. راجع: الفصل الأوّل من المقالة السابعة من إلهیّات الشفاء.
3. راجع: الأسفار: ج2، ص119 و 120.
ثمّ إن الشیخ استدلّ على نفی الضدّ الثالث بأنّ مخالفته للضدّین إمّا أن یكون فی معنى واحد من جهة واحدة فیكون المخالفان للواحد من جهة واحدة متّفقة فی صورة الخلاف ویكون نوعاً واحداً لا أنواعاً كثیرة، وإمّا أن یكون فی جهات فیكون ذلك وجوهاً من التضادّ لا وجهاً واحداً فلا یكون ذلك بسبب الفصل الذی إذ الحق الجنس فعل ذلك النوع من غیر انتظار شیء وخصوصاً فی البسائط، وقد علمت هذا، بل یكون من جهة لواحقَ وأحوالٍ یلزم النوع، وكلامنا فی نمط واحد من التضادّ».(1)
ومثله كلام صدر المتألّهین(2) المنقول فی المتن. وهذا الاستدلال مبنیّ على اعتبار المضادّة معلولاً للفصل وأنّ الفصل الواحد لا یكون علّة إلاّ لأمر واحد، وكلتا المقدّمتین ممنوعتان.
وأضعف منه ما استدلّ به فی المتن من أنّ التضادّ نسبة، ولا تتحقّق نسبة واحدة بین مزید من طرفین. فإنّه منقوض بالتضایف بین الإخوة الكثیرین. وغایة ما یثبت به على فرض تسلیم الكبرى أنّ نسبة التضادّ إنّما تتحقّق بین ضدّین اثنین، فكلّ تضادّ یكون بین طرفین، فاذا كان هناك أضداد متعدّدة تحقّق بین كلّ ضدین منها تضادّ خاصّ، لا أنّه یمتنع وجود أكثرَ من ضدّین فی الخارج، وذلك كتضایف الإخوة تماماً.
وجدیر بالذكر أنّ اعتبار التضادّ بین الحرارة والبرودة مبنیّ على اعتبارهما كنوعین من الكیف الملموس، ویمكن أن یكون البرودة عدماً للحرارة. مضافاً إلى أنّ الأشبه كون الحرارة من الجواهر بناءً على أنّها نوع من الطاقة.
1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة السابعة من إلهیّات الشفاء.
2. راجع: الأسفار: ج2، ص114.
قال الشیخ فی إلهیّات الشفاء بعد إبطال كون التقابل بینهما من أقسام التقابل بالذات: «وإذ قد بان لك جمیع هذا فبالحریّ أن نجزم أن لا تقابل بینهما فی ذاتیهما، ولكن یلحقها تقابل، وهو أنّ الوحدة من حیث هی مكیال تُقابل الكثرةَ من حیث هی مكیل»(1) وقال فی التحصیل: «واعلم أنّ التقابل بین الواحد والكثیر تقابل المضاف، لا أنّ كلّ واحد منهما حقیقته حقیقة الإضافة، بل كلّ واحد منهما له ماهیّة معقولة ثمّ یعرض لها التضایف كما ذكرنا فی حال الخطّ والصغر والكبر، وهذا التضایف هو من حیث إنّ الوحدة هی علّة للكثرة، والعلّة والمعلول متضایفان لا من حیث إنّهما وحدة وكثرة بل من حیث إنّهما علّة ومعلول».(2)
وقال شیخ الإشراق بعد الإشارة إلى حاصل كلام التحصیل: «وهو خطأ، فإنّ الوحدة التی تبطلها الكثرة الحادثة لیست بعلّة للكثرة المبطلة لها ـ إلى أن قال ـ والتقابل من جهة تمانعهما لا من جهة علّیتهما، فلا حاصل لما ذكروا. فیجب علیهم أن یجعلوا له قسماً آخر، إلاّ أنّ المشهور فی الكتب تقابل الإیجاب والسلب والمتضایفین والمتضادّین والعدم والملكة».(3) ومثله كلام صدر المتألّهین فی الأسفار.(4) وللاُستاذ(دامظلهالعالی) كلام فی تعلیقته على الأسفار نظیر ما فی المتن قال فی آخره «فقد ظهر ممّا قدّمناه أنّ الواحد والكثیر لا تقابل بینهما من حیث هما واحد وكثیر».
1. راجع: الفصل السادس من المقالة الثالثة من إلهیّات الشفاء.
2. راجع: التحصیل: ص369؛ و المباحث المشرقیة: ج1، ص98.
3. راجع: المطارحات: ص318.
4. راجع: الأسفار: ج2، ص122ـ126.
وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ التقابل بالذات بین المفاهیم ینحصر فی تقابل الوجود والعدم، وأنّ تقابل المفاهیم الثبوتیّة إنّما هو تقابل بالعرض لاستلزامه التناقض، حتّى أنّ تقابل التضایف لیس تقابلاً بالذات، وكذلك الواحد والكثیر إنّما یتقابلان لاستلزام كلّ منهما نفی الآخر.
ینبغی تقدیم اُمور:
الأمر الأوّل فی تعریف العلّة والمعلول. قال الشیخ فی رسالة الحدود: «إن العلّة هی كلُّ ذات یلزم منه أن یكون وجود ذات أخرى إنّما هو بالفعل من وجود هذا بالفعل، ووجود هذا بالفعل لیس من وجود ذلك بالفعل».(1) وقال فی التحصیل: «كلُّ وجود شیء یكون معلوماً من وجود آخر، ووجود ذلك الآخر لا یكون معلوماً من وجود الأوّل، فإنّ الأوّل نسمّیه علّة، والثانی معلولاً»(2) ولا یخلو عن غرابة ولعلّ فیه تصحیفاً.
وقال المحقّق الطوسیّ فی التجرید: «كلُّ شیء یصدر عنه أمر إمّا بالاستقلال أو بالانضمام فإنّه علّة لذلك الأمر، والأمر معلول له» ولعلّ المراد بلفظة الصدور فی التعریف كما ذكر فی الشوارق(3) هو ما یعمّ صدور الوجود بالتأثیر كما فی الفاعل، أو بالبعث كما فی العلّة الغائیّة، وصدور التقوّم كما فی العلّة المادّیة والصوریّة.
1. فی النسخة المطبوعة، «العلّة كل ذات، وجود ذات آخر بالفعل من وجود هذا بالفعل، ووجود هذا بالفعل لیس من وجود ذلك بالفعل»، انظر رسائل ابن سینا، ص117.
2. راجع: التحصیل: ص519.
3. راجع: المسألة الاُولى من الفصل الثالث من الشوارق.
ویمكن أن یكون التعریف مختصاً بعلّة الوجود، وهی اللائقه باسم العلّة وبالبحث عنها فی مباحث الوجود.(1)
وقال المحقّق الشریف: «الأولى أن یقال: العلّة ما یَحتاج إلیه أمر، سواء كان احتیاجه إلیه بحسب الوجود دون المهیّة كالعلل الخارجیّة، أو بحسبهما معاً كالعلل الداخلیّة».
وقال فی حكمة الإشراق: «ونعنی بالعلّة ما یجب بوجوده وجود شیء آخر بتّةً دون تصوُّر تأخُّرٍ».(2) ونقل فی المطارحات عن بعض أهل العلم «انّ العلّة هی ما یحصل منه وجود شیء آخر ولم یحصل وجوده من ذلك الآخر» ثمّ اعترض علیه بأنّ عدم حصول وجود العلّة من المعلول هو لازم حصول وجوده منها، ولا دخل له فی معنى العلّة، وقال: «یكفی أن یقال: إنّ العلّة على أحد مفهومیها هی ما یجب به وجود شیء آخر، أو ما یحصل به وجود شیء آخر ـ إلى أن قال ـ والعلّة قد یقال ویُعنى بها ما یتوقّف وجود الشیء علیه، وهذا إمّا أن یكون كلَّ ما یجب به وجود الشیء أو جزءَ ما یجب به وجود الشیء، فإنّ المعلول یتوقّف على جزء العلّة وعلى كلّها»(3) وكلامه هذا فی كتابیه لا یستقیم إلاّ على أصالة الوجود، فافهم.
وقال فی الأسفار: «العلّة لها مفهومان: «أحدهما هو الشیء الذی یحصل من وجوده وجود شیء آخر، ومن عدمه عدم شیء آخر؛ وثانیهما هو ما یتوقّف علیه وجود الشیء فیمتنع بعدمه ولا یجب بوجوده».(4)
والذی بنى علیه كلامه أوّلاً فی المتن هو المعنى الثانی الأعمّ حیث قال: «فهذا الوجود المتوقّف علیه نسمّیه علّة، والشیء الذی یتوقّف على العلّة معلولاً له» وإن كان كلامه فی آخر الفصل مختصّاً بالعلّة المفیضة.
1. راجع: القبسات: ص53.
2. راجع: حكمة الإشراق: ص62.
3. راجع: المطارحات: ص376 و 377.
4. راجع: الأسفار: ج2، ص127.
وأكثر التعاریف دوریّة لاشتمالها على باء السببیّة أو ما یفید معناها، والأولى أن یقال: «العلّة أمر یحتاج إلیه ـ أو یتوقَّف علیه ـ أمر آخر بما أنّه محتاج إلیه ومتوقَّف علیه، وذلك الأمر المحتاج أو المتوقِّف هو المعلول بما أنّه محتاج ومتوقِّف». واعتبار قید الحیثیّة هو لأجل التنبیه على أنّ النار مثلاً لیست علّة من جمیع الجهات، بل علّیتها إنّما هی من حیث توقّف الحرارة الناشیءة منها علیها، فلا ینافی كونها معلولة لأمر آخر، كما أنّه تصدق علیها مفاهیم اُخرى من حیث ذاتها أو من حیثیّات اُخرى.
الأمر الثانی فی كیفیّة تعرّف الذهن على هذین المفهومین. لا شكَّ أنّ هذین المفهومین لیسا من المفاهیم الماهویّة، بل هما من المعقولات الثانیة الفلسفیّة التی یكون عروضها فی الذهن، واتّصافها فی الخارج. فلیس فی الخارج موجود یكون ماهیتهُ العلّیة أو المعلولیّة، كما لا یكون لهما فرد حسّیّ أو خیالیٌّ.
وربما یُظنّ أنّ المعقولات الثانیة منتزعة من المهیّات، ولهذا تسمّى بالثانیة، لكن فی التسمیّة ووجهها نظر، وإنّما نسمّیها نحن بالثانیة حفظاً لاصطلاح القوم، ونقترح تسمیتها بالمفاهیم الفلسفیّة. كما أنّ انتزاعها من المهیّات ممنوع، كیف وجلّها لولا كلّها تحكی عن أنحاء الوجودات وروابطها، والمهیّات لیست فی ذواتها إلاّ أنفسها، ولیس لها حیثیّة تصلح لانتزاع هذه المفاهیم، حتّى أنّ الإمكان إنّما ینتزع من نسبة الوجود إلى المهیّة، وفی الحقیقة یكون وصفاً للمهیّة بحال متعلّقها كما أشرنا إلیه سابقاً.
وكیف كان فهذان المفهومان المتضایفان إنّما یحكیان عن موجودین یكون أحدهما محتاجاً إلى الإخر، فالنفس إنّما تستعدّ لإدراكهما إذا قایستْ موجودین ببعضهما ووجدتْ أحدَهما محتاجاً إلى الآخر فی وجوده، لكن من أین یحصل لها هذا الاستعداد؟
یمكن أن یقال: إنّ هذا الاستعداد یحصل بتجربة اُمور لا تحصل بدون اُمور اُخرى، فعند ذلك ینتزع مفهوم الحاجة والتوقّف الذی به قوام مفهوم العلیّة والمعلولیّة.
لكن لقائل أن یرجع القول ویسأل: بماذا علمت النفس أنّ إدراكاتها التی هی صور قائمة بها تكون حاكیة عن اُمور خارجة عنها حتّى تعلم بوجود الاُمور الخارجیّة وتُجری علیها تجاربها؟ وبماذا علمتْ أنّ حصول شیء عند حصول شیء آخر أو انعدامه عند انتفاء ذلك الشیء لیس أمراً اتفاقیّاً؟ وأنَّ هذا یكشف عن ارتباط وجودیّ بینهما؟ وهل كلّ ذلك إلاّ لأجل علمها المسبّق بالرابطة العلّیة بین الصور الذهنیّة والاُمور العینیّة وكذا بین الاُمور العینیّة أنفسها؟ وإلاّ فمجرّد التعاقب أو التقارن لا یكشف عن العلّیة والمعلولیّة بین شیئین متعاقبین أو متزامنین ولو تكرّر تعاقبهما وتزامنهما مراراً، كما أنّ تعاقب اللیل والنهار وتقارن معلولی علّة واحدة كتقارن حدوث الحرارة والنور فی المصباح الكهربائیّ لا یكشف عن علّیة أحدهما للآخر، مع أنّه یتكرّر دائماً.
فالحقّ أنّ النفس تجد هذه الرابطة أوّلاً بین نفسها وبین أفعالها كالإرادة مثلاً بالعلم الحضوریّ حیث تصدر الإرادة عن النفس وتقوم بها وتتوقّف علیها، وبالمقایسة بینهما تستعدّ لإدراك مفهومی العلّة والمعلول على وجه خاصّ. ومن الواضح أنّه لا یلزم لانتزاعهما سبق إدراك مفهوم النفس ومفهوم الإرادة ولا أیّ مفهوم آخَرَ، وإنّما یكفی العلم الحضوریّ بهما والالتفات إلیهما من حیث قیام أحدهما بالآخر وصدوره عنه، وأخذ ذلك بعین الاعتبار.
ثمّ إنّ النفس تجد نظیر هذه الرابطة بین الاُمور النفسانیّة التی تعلم بها حضوراً، فتجد توقّف بعضها على بعض وإن لم یكن على نعت الصدور والقیام، فتستعدّ لإدراك مفهومی العلّة والمعلول العامّین، أی مطلق المتوقّف والمتوقَّف علیه.
وبهذا یظهر السرّ فی بداهة المفاهیم كمفاهیم تصوّریّة، وهو أنّها تؤخذ من المعلومات الحضوریّة بلا واسطة واكتساب.
الأمر الثالث فی ضرورة احتیاج المعلول إلى العلّة. إنّ احتیاج المعلول إلى
العلّة كقضیّة حقیقیّة من البدیهیّات الأوّلیة التی لا یحتاج التصدیق بها إلى مزید من تصوّر الموضوع والمحمول.
والسرّ فی بداهتها أنّها من القضایا التحلیلیّة التی ینحلّ مفهوم موضوعها إلى مفهوم المحمول، لأن مفهوم «المعلول» یتضمّن مفهوم «المحتاج إلى العلّة» فإنّ تعریف المعلول كما ذكرنا فی الأمر الأوّل هو الموجود المحتاج إلى موجود آخرَ یسمَّى بالعلّة، فحمل «المحتاج إلى العلّة» على «المعلول» حمل ذاتیّ من قبیل ثبوت الشیء لنفسه.
لكنّ القضایا الحقیقیّة حیث إنّها فی قوّة القضایا الشرطیّة ـ كما أشرنا إلیه سابقا(1) ـ لا تدلّ على تحقّق مصداقها فی الخارج، فلا تدلّ هذه القضیّة على وجود اُمور معلولة فی الخارج حتّى یُحكم باحتیاجها إلى العلّة حكماً ضروریّاً. فلا یصحّ الاستدلال بها لإثبات احتیاج موجود خارجیّ إلى العلّة إلاّ بعد إثبات كونه معلولاً. فلابدّ أوّلاً من معرفة خواصّ المعلولیّة حتّى تعرف مصادیق المعلول العینیّة بتطبیق تلك الخواصّ علیها، أو معرفة خواصّ العلّة المطلقة أعنی الواجب بالذات حتّى تعرف المعالیل بفقدانها، وهذا هو شأن الفلسفة الإلهیّة. وأمّا معرفة العلاقة الخاصّة بین المعلولات وعللها الخاصّة القریبة فمن شأن سائر العلوم باستعانة بالاُصول الفلسفیّة.
الأمر الرابع فی بداهة وجود العلّة والمعلول فی الخارج. قد عرفت فی الأمر الثانی أنّ النفس تجد علاقة العلّیة بین نفسها وبین أفعالها المباشرة بالعلم الحضوریّ، فتعلم بتحقّق العلّة والمعلول فی دار الوجود على نعت الموجبة الجزئیّة، ولا تحتاج فی معرفة ذلك إلى برهان. وأمّا فی ماوراء نطاق وجودها فإنّما تتعرّف علیه بنوع من البرهنة وإن كانت غیر نابهة لها، وهذه المعرفة قد تسمّى «فطریّة» كما یقال إنّ العلم بوجود الحقائق الخارجیّة فطریّ، وإن كانت هذه اللفظة مشتركة بین معان ومكتنفة بهالة من الإبهام.
1. راجع: التعلیقة: الرقم (20).
الأمر الخامس فی كیفیّة معرفة علاقة العلّیة بین الموجودات. أمّا علاقة العلّیة بین الموجودات المادّیة فتكشف بتوقّف وجود بعضها على بعض، وذلك بالتجربة والاختبار بالوضع والرفع. وهو ما تستهدفه العلوم التجریبیّة، وإن كان تعیین العلّة التامّة بعینها تعینیاً یقینیّاً فی غایة الصعوبة، لبقاء احتمال أن یكون هناك أمرٌ غیرُ محسوسٍ مؤثّرٌ فی حصول المعلول كما أنّ التجربة لا تفی بإثبات العلّة المنحصرة.
وأمّا معلولیّة الأشیاء لعللها المفیضة ولذات الواجب تبارك وتعالى فالمعروف عندهم طریقان لإثباتها: أحدهما إثبات الإمكان لها من طریق تلازم المهیّة والإمكان حتّى تشملها البراهین التی تثبت أنّ كلَّ ممكن یحتاج إلى الواجب، ثمّ إثبات الوسائط بأدلّتها الخاصّة. وثانیهما تعریف صفات الواجب تعالى من البساطة والصرافة واللاتناهی ونحوها ومعرفة المعلولیّة بفقدان تلك الصفات.
ولصدر المتألّهین طریقة اُخرى تبتنی على اُصوله من أصالة الوجود وتشكّكه وكون المعلول رابطاً بالنسبة إلى علّته غیرَ مستقّلٍ عنها واستلزامِ ذلك كونه مرتبةً ضعیفةً من وجود علّته. فبالنظر إلى هذه الاُصول یستنتج أنّ حقیقة الوجود لا تقتضی نقصاً ومعنى عدمیّاً مطلقاً، فإذا كان هناك موجود ضعیف وناقص بوجهٍ من الوجوه كان ذلك أمارة على معلولیّته. فیُعرف المعلول بنقص الوجود وشوبِهَ بالأعدام.
ویمكن تبیین ذلك بوجهین آخرین: أحدهما أنّا إذا لا حظنا علّة ومعلولاً، ولا محالة یكونان متسانخین، لمنجد تمایزاً بینهما یوجب اختصاص أحدهما بالعلّیة والآخر بالمعلولیّة إلاّ شدّة الوجود فی الأوّل وضعفه فی الثانی. فنعلم أنّ ملاك المعلولیّة هو ضعف الوجود، فكلّ موجود ضعیف هو معلول لما هو أشدُّ منه (بالتشكیك الخاصّیّ) إلى أن ینتهی إلى موجود لا یمكن فرض أشدَّ منه، وهو الواجب تعالى.
وثانیهما أن العلّیة والمعلولیّة هما من الخواصّ الذاتیّة للموجودات، فما یكون
علّة لشیء لا یمكن جعله معلولاً وبالعكس.(1) فإمكان المعلولیّة فی شیء یساوق وجوبها، وإلاّ لم تكن ذاتیّة له. وكلّما كان فی الموجود ضعف ونقص أمكن كونه معلولاً لموجود أقوى منه فوجب ذلك إلى أن ینتهی إلى الكامل المطلق.
وبالجملة فالمسبوقیّة والملحوقیّة بالعدم أی الحدوث والزوال، والاشتباك بالعدم أی التدرّج والحركة، وكلّ محدودیّة فی الوجود أمارة على المعلولیّة.
إذا عرفت هذه الاُمور فاعلم أنّ عنوان الفصل یدلّ على أنّه معقود لبیان أمرین: أحدهما إثبات العلیّة والمعلولیّة فی الخارج، وثانیهما إثبات أنّ العلیّة رابطة وجودیّة ولیست من الاُمور الراجعة إلى المهیّات. والأمر الأوّل ینحلّ إلى أمرین: أحدهما أنّ فی دار الوجود علّةً ومعلولاً فی الجملة، وثانیهما أنّ كلّ ممكن فهو معلول، كما صرّح بهما فی بیان النتائج الحاصلة من البحث. وقد ركز الاُستاذ ـ قدّس الله سرّه ـ على الأمر الأخیر واستنتج منه ما قبله، وإنّما یتأتَّى ذلك إذا كان وجود الممكن فی الخارج ثابتاً، لكن إثباته لا یستغنی عن مبدء العلّیة، كما مرّ نظیره فی إثبات وجود المعلول فی الخارج فی الأمر الثالث.
ثم إنّه ذكر فی ما مضى(2) أنّ احتیاجالممكن إلى العلّة من الضروریّات الأوّلیة، وعلیه فیكون بیانه ههنا تنبیهیّاً، لكن لایساعد علیه لفظةُ «الإثبات» فی عنوان الفصل.
وكیف كان فهذا البیان مبنیٌ على معرفة حال المهیّة وأنّها فی ذاتها متساویة النسبة إلى الوجود والعدم، فلابدّ لرجحان أحدهما من أمر وراء ذات المهیّة وهو العلّة. ویلاحظ علیه أنّ مثل هذا البیان یناسب القول بأصالة المهیّة، وأمّا القائل باعتباریّتها فالألیق به أن یركّز على الوجود. وجدیر بالذكر أن الترجّح من غیر
1. قال الشیخ فی التعلیقات، ص179، الوجود إمّا أن یكون محتاجاً إلى الغیر، فتكون حاجته إلى الغیر مقوّمة له، وإمّا أن یكون مستغنیاً عنه، فیكون ذلك مقوّماً له. ولایصحّ أن یوجد الوجود المحتاج غیر محتاج، كما أنّه لا یصحّ أن یوجد الوجود المستغنی محتاجاً، وإلاّ قد تغیّر وتبدّل حقیقتهما.
2. راجع: الفصل السادس من المرحلة الرابعة.
مرجّح لیس إلاّ حصول المعلول بلا علّة، فإنّ المرجّح لیس إلاّ علّة الرجحان، وهو الأصل البدیهیّ الذی أشرنا إلیه فی الأمر الثالث.
والحاصل من هذا البیان أنّه كلّما تحقّق فی الخارج موجود ممكن ذو مهیّة متساویة النسبة إلى الوجود والعدم كان محتاجاً إلى العلّة، وكان تحقّقه كاشفاً عن تحقّق علّته. لكن إثبات تحقّق مثل هذا الموجود یحتاج إلى بیان آخر، كما أنّ تعیین مصادیقه كذلك.
شروع فی بیان ثانی الأمرین اللذینِ أشار إلیهما فی عنوان الفصل، وهو كون العلّیة فی الوجود. فإنّ العلّیة لیست مجرّد إضافة ذهنیّة بین مفهومین أو مهیَّتین بل هی عبارة عن علاقة خارجیّة بین وجودین، فالوجود الذی یكون مفتقراً فی ذاته إذا قویس إلى الوجود المفتقَر إلیه انتزع مفهوم المعلول للأوّل، ومفهوم العلّة للثانی. وهذه المقایسة والإضافة وإن كانت لازمة فی انتزاع المفهومین لكن لیس معناها أنّ حقیقة العلّیة لیست إلاّ لحاظاً ذهنیّاً وإضافة اعتباریّة كما ربما یتوهّم بعض الغربیّین، بل اللازم أیضاً أن یكون نفس الوجود الخارجیّ ذا حقیقة تعلّقیّة. وبعبارة اُخرى: فإنّ عروض المفهومین وإن كان ذهنیّاً إلاّ أنّ الاتّصاف بهما خارجیّ على ما هو شأن جمیع المفاهیم الفلسفیّة.
وقد ابتدأ الاُستاذ(قدسسره) بیان مسألة الجعل، وهی التی قدّمها فی الأسفار(1) على مباحث العلّة والمعلول، وبیّن أنّ أثر العلّة إنّما هو وجود المعلول لا مهیّته ولا اتّصاف المهیّة بالوجود، وهو ممّا یؤكّد أصالة الوجود كما أشرنا إلیه فی بیان الصلة بین مسألة
1. راجع: الأسفار: ج1، ص396423؛ وج2: ص380ـ382؛ و راجع: المسألة الخامسة والثلاثین من الفصل الأوّل من الشوارق.
أصالة الوجود وسائر المسائل تحت الرقم (10). ثم عاد أخیراً إلى بیان أنّه لا استقلال للمعلول دون العلّة، فالمعلول لیس وجوداً یطرأ علیه إضافة إلى وجود آخر، بل هو نفس التعلّق والربط بالعلّة المفیدة. ثمّ أشار إلى ان الوجود الرابط لا مهیّة له بما أنّه رابط إلاّ أن یلتفت إلیه العقل ویلاحظه استقلالاً، وقد مرّ مایتعلق بهذا الأمر فی الفصلین الأوّلین من المرحلة الثانیة مع ما یلاحظ علیه، فراجع الرقم (40 و41).
المراد بالعلل الكثیرة أن تكون أنواع متعدّدةٌ عللاً لنوع واحد من المعلول كمایكون كلُّ واحد من الشمس والنار والحركة علّة للحرارة، لا أن تجتمع علل تامّة التأثیر على معلول واحد شخصیّ، وهو محال، ولا أن تجتمع علل ناقصة تشكّل علّة تامّة واحدة، وهى العلّة المركّبة. وفی هذا التقسیم اعتراف بصدور المعلول الواحد عن الكثیر فی الجملة، وسیأتی البحث عنه فی الفصل الرابع.
جعل العلل المعدّة فی مقابل العلل الحقیقیّة تلویح إلى أنّ العلّة المعدّة لیست علّة بالذات وفی الحقیقة لما هی معدّة له، وهو كذلك فإنّ علّیتها على هذا الوجه تكون بالعرض،(1) وان كانت حقیقیّة على وجه آخر وبالنسبة إلى أمر آخر، فحركة ید البنّاء علّة لانتقال الموادّ، ومن هذه الحیثیّة لا تعدّ معدّة بالمعنى الأخصّ، بل إعدادها إنّما هو بالنسبة إلى تحقّق البناء.
1. راجع: التحصیل: ص527.
هناك مسألتان یجمعهما تقارن المعلول مع العلّة التامّة، وهو متفرّع على وجوب كلّ واحد منهما بالقیاس إلى الآخر، وهذا غیر الوجوب الغیریّ المختصّ بالمعلول فی مقابل القول بكفایة الأولویّة، والذی مرّ البحث عنه فی الفصل الخامس من المرحلة الرابعة.
أمّا الوجوب بالقیاس فواضح بعد تصوّر معنى العلّة التامّة ومعلولها تصوّراً صحیحاً، فإنّ معنى العلّة التامّة أنّها واجدة لجمیع ما یتوقّف علیه وجود معلولها، فلو فرض عدم تحقّق المعلول بعد تحقّقها كان معنى ذلك أنّ تحقّقه رهن لأمر آخر وهو خلاف الفرض. إلاّ أن یفرض تحقّقه صدفةً وفیه إنكار أصل العلّیة، أو یفرض وجوب وجوده وخروجه عن نطاق ذلك الأصل، وهو ینافی إمكانه وسبق العدم علیه. كما أنّ كلّاً من الفرضین ینافی معلولیّته المفروضة. وكذلك معنى توقّف المعلول على العلّة استحالة تحقّقه بدونها وهو بعینه معنى وجوب العلّة بالقیاس إلیه.
والحاصل أنّ وجوب كلّ واحد منهما بالقیاس إلى الآخر بدیهیّ، وما ذكرنا من البیان لا یعدو حدّ التنبیه.
وأمّا مقارنة المعلول للعلة التامّة وعدم انفكاكه عنها وكون وجوبه بالقیاس متزامناً مع تحقّقها، ذلك التزامن الذی یفیده لفظ «عند» فی عنوان المسألتین، فقد أنكره قوم من المتكلّمین زاعمین أنّ الالتزام به ینافی حدوث العالم من ناحیة، واختیار الواجب تعالى من ناحیة اُخرى، ولذا نسبوا القول بكونه تعالى فاعلاً موجَباً (بالفتح) إلى الحكماء لالتزامهم بهذه القاعدة كالتزامهم بأختها أعنی قاعدة «الشیء ما لم یجب لم یوجد» وقد مرّ الكلام فیه فی الفصل الخامس من المرحلة الرابعة.
فتارة تشكّكوا فی التلازم بین الوجوب بالقیاس والتزامن كما سیأتی فی الإشكال المنقول عنهم فی المتن، وتارة ذهبوا إلى خروج الفاعل المختار عن مبدء العلیّة تخصّصاً وأنكروا إطلاق العلة علیه، وتارة خصّصوا القاعدة بالفاعل الموجَب (بالفتح) والتزموا بخروج الفاعل المختار عنها تخصیصاً، إلى غیر ذلك من التمحّلات.
والحقُّ أنّ استحالة انفكاك المعلول عن العلّة ووجوب تزامنهما إذا كانا زمانیّین قریب من البداهة إن لم یكن بدیهیّاً. لأن عدم تحقّق المعلول فی زمان تحقُّق العلّة التامّة إمّا أن یكون لأجل توقّفه على وجود أمر آخر لم یوجد بعدُ، وهو خلاف الفرض؛ أو لأجل وجود مانع من تحقّقه، فزوال المانع شرط لتحقّقه، ویرجع الأمر إلى عدم كون العلّة تامّةً لفقدانها لهذا الشرط العدمیّ، وهو خلاف الفرض أیضاً.(1)
ومن ناحیة اُخرى: إن وجود المعلول فی كلّ قطعة من الزمان تَسَعُه هو فرد لماهیّته، فعدم تحقّقه فی أیّة قطعة من الزمان تكون العلّة التامّة موجودة فیها ینافی وجوب ذلك الفرد بالقیاس إلى العلّة، ولا یكفی وجوده فی قطعة اُخرى من الزمان لأنّه فرد آخر.
وهذا بصرف النظر عن إثبات كون المعلول وجوداً رابطاً بالنسبة إلى علّته المفیضة التی هی عین العلّة التامّة إذا كانت بسیطة أو جزءٌ منها إذا كانت مركّبة، وأمّا بالنظر إلى ذلك فالأمر أوضح كما ذكر الاُستاذ(قدسسره) فی جواب الإشكال.
وأمّا ما ذكره من الوجهین فلا یصحّ عدّهما برهانین على القاعدة، فإنّ امتناع تحقّق العدم فی غیر زمان تحقّق علّته لیس أوضح من امتناع وجود المعلول فی غیر زمان وجود علّته، ولعلّهُ أشار إلى هذا بقوله «فافهم ذلك».
1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الرابعة، والفصل الثانی من المقالة السادسة من إلهیّات الشفاء؛ والمسألة الثانیة من الفصل الثالث من الشوارق؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص477؛ والأسفار: ج2، ص131.
قد أشرنا إلى أنّ بعض المتكلّمین حاول إنكار التلازم بین قاعدة وجوب العلّة والمعلول بالقیاس إلى بعضهما وقاعدة تزامنهما، وإلى فشل هذه المحاولة. ثمّ إنّ بعضهم ادّعى خروج الفاعل المختار ولا سیّما الواجب تعالى عن مصبّ مبدء العلّیة زاعماً أنّ الخلق نوع آخَرُ من التأثیر غیر العلّیة، وهو سخیف جدّاً، فإنّه لا معنى للعلّة إلاّ ما یتوقّف علیه شیء آخَرُ كما مرّ فی الأمر الأوّل، وإن أبىٰ أحد عن إطلاق لفظة العلّة علی الله تعالى فلیس له أن یستنكف عن قبول توقّف العالم علیه سبحانه، فلیعبّر عنه بما یحلو له من الألفاظ، والقاعدة العقلیة لا تدور مدار اللفظ.
وادّعى بعضهم اختصاص القاعدة بالفاعل غیر المختار مستنداً إلى وضوح انفكاك فعل الإنسان عن ذاته، واُجیب عنه بأنّ الإنسان لیس علّة تامّة لفعله، والكلام فی العلّة التامّة. ثمّ عقّب علیه بأنّ الله تعالى علّة تامّة للعالم بأجمعه، إذ لا یتصوّر وراءه أمر آخَرُ یتمّم علّیته، فیلزم على القاعدة قدم العالم ولا سبیل إلیه، لأنّ فیه سدّاً لباب إثبات الصانع، لأنّ ملاك احتیاج المعلول إلى العلّة ـ فی زعمه ـ هو الحدوث، وفرض قدم العالم یغنیه عن الصانع. واستنتج أنّ انتقاض القاعدة بفعل الواجب كاشف عن اختصاصها بالفاعل غیر المختار، وأمّا الفاعل المختار فلا یتّصف فعله بالوجوب بالقیاس بل لا یحتاج إلى مرجّح.
وقد أشار الاُستاذ(قدسسره) إلى أنّ مرجع هذا الكلام إلى إنكار مبدء العلّیة. واختار بعضهم بعد قبول لزوم المرجّح أنّ مرجّح الفعل إذا كان الفاعل مختاراً هو نفس إرادته، وكان الجواب الفصل ما أشار إلیه فی آخر المسألة أنّ إرادة الواجب إن كانت عین ذاته تعالى رجع الكلام إلى كون الذات علّة تامّة ومرجّحاً للفعل، وان كانت أمراً حادثاً كانت لا محالة من مخلوقاته وعاد الكلام إلیها، على أنّ ذلك یستلزم كون الذات معرضاً للحوادث وهو محال كما بُیّن فی محلّه. وأمّا القول
بكون الإرادة منتزعة عن مقام الفعل كسائر الصفات الفعلیّة فلا یغنیه شیئاً، لأنّ الأمر الانتزاعیّ لا یصلح علّةً لمنشأ انتزاعه.
لمّا كان السبب فی إنكار جریان القاعدة بالنسبة إلى الواجب تعالى هو ما أشرنا إلیه من أنّهم زعموا أنّ ذلك یستلزم سلب الاختیار عنه تعالى من ناحیة، وقِدَم العالم من ناحیة اُخرى، لهذا تَعرّض الاُستاذ(قدسسره) لهاتین المسألتین، فبیَّن أنّ اختیار الواجب لیس رهنَ حدوث فعله حدوثاً زمانیّاً، بحیث إذا كان فعله قدیماً كان ذلك كاشفاً عن عدم اختیاره، بل حقیقة الاختیار كون الفاعل راضیاً بفعله غیرَ مجبور علیه، وهذا حاصل فی الواجب بتمام معنى الكلمة، حیث إنّه لا یُعقل أن یُجبِره شیء على الفعل. لأنّ المُجبِر المفروض إمّا أن یكون واجباً آخر أو شیئاً من مخلوقاته فیلزم الشرك، وإمّا أن یكون شیئاً من مخلوقاته نفسه، وهو محال أیضاً لأنّه یستلزم كونه تعالى متأثّراً عن مخلوقاته معلولاً لها، وهو سبحانه منزّه عن التأثّر والمعلولیّة والإمكان من جمیع الجهات. فالقاعدة لا تمتّ إلى الجبر بصلة أصلاً.
وأمّا حدوث العالم بالمعنى الذی یفسّرونه به فهو فرض یحتوی فی صمیمه على التناقض، لأنّ مسبوقیّة العالم بزمان خالٍ عنه یستلزم وجود الزمان قبل العالم وهو من العالم! وقد مرّ الكلام فیه فی الفصل السادس من المرحلة الرابعة، وسیكّرره فی الفصل الثالث والعشرین من المرحلة الثانیة عشر.
وكان ینبغی التصریح بأنّ التزامن إنّما یتصوّر بین أمرین زمانیّین، وأمّا إذا كان أحد الأمرین غیر واقع فی ظرف الزمان كالواجب تعالى فلا یتصوّر تقارنهما فی الزمان أصلاً.(1) ولعلّه بذلك ینحسم مادّة كثیر من المجادلات.
1. راجع: القبسات: ص89 و 248ـ249.
لمّا فرغ من بیان المسألتین وأوضح أنّه لا یصحّ الاتكاء علیهما للمناقشة فی القاعدة أخذ فی بیان سائر الشبهات التی تشبّث المتكلّمون بها فی المقام.
فمنها أنّهم ادّعوا تارة عدم لزوم المرجّح فی فعل الفاعل المختار، وتارة اُخرى ذهبوا إلى أنّ الإرادة مرجّحة له فلا یحتاج إلى مرجّح آخر. وأجاب علیها بأنّ إنكار لزوم المرجّح فی مورد یعنی حصول المعلول بلا علّة تامّة، وهو محال. وأمّا الإرادة فلا تصلح بنفسها مرجّحةً للفعل، لأنّها أمر ذو إضافة، ولا تتحقّق إلاّ بتعیُّن ما تُضاف إلیه، فتعیُّن متعلّقها مقدّم على تحقّقها، فیحتاج إلى مرجّح غیرها.
واعلم أنّ هذه القاعده هی إحدى معارك الآراء، وقد دارت حولها مناقشات طویلة لا بین المسلمین فقط بل بین علماء اللاهوت من المسیحیّین وفلاسفتهم أیضاً، ونقل عن بعض المصوّرین الغربیّین أنّه صوّر حماراً مات جوعاً وعطشاً لاستواء طریقین متساویین بینه وبین محلّ الماء والعشب، یرید بذلك الاستهزاء بمقالة الفلاسفة فی استحالة الترجیح بلا مرجّح. وهذا نظیر ما قالوا انّ الهارب من السَّبُع إذا عنّ له (أی ظهر أمامه) طریقان متساویان لا یبقىٰ متحیّراً فی اختیار أحدهما حتّى یدركه السَّبُع بل یختار أحد الطریقین لینجی نفسه. واستنتج بعضهم أنّ المحال هو الترجُّح بلا مرجّح، وفی هذه الأمثلة ونظائرها إنّما یرجّح الفاعل أحد المتساویین بإرادته لا أن یترجَّح ذلك بلا مرجّح. وزعم بعضهم أنّ الترجیح بلا مرجّح إنّما یكون قبیحاً كترجیح المرجوح إذا لم یكن ضرورة فی اختیار أحدهما، وإلاّ فلا یكون قبیحاً فضلاً أن یكون محالاً.
وقد اختلط علیه أمر الترجیح الفلسفیّ بالترجیح الأخلاقیّ، وإنّما كلام الفلاسفة فی حصول المعلول بلا علّة تامّة له، ومرادهم باستحالة الترجیح بلا مرجّح استحالة
صدور الفعل من الفاعل الذی هو علّة ناقصة من دون ضمّ ما یتمّم العلّة. ویمكن أن یراد بلفظة «الترجیح» مصدر الفعل المجهول فیرادف الترجُّح.
وكیف كان فلا شكَّ أنّ الإرادة بمعنى التصمیم على الفعل الذی تهیّاً جمیع مقدّماته مؤثّرة فیه ومتمّمة لعلّته، وإنّما الكلام فی مبادئ تلك الإرادة وأنّه هل یكفی فی تعلّقها بفعل خاصّ من فعلین متساویین كون كلّ واحد منهما محقّقاً لغرضه أو یلزم علاوةً على ذلك ما یعیّن تعلّقها بأحدهما بعینه. وهذه الأمثلة لا تنفی مثل هذا المرجّح، وإنّما تنفی رجحان المتعلّق فی نفسه، فربما یكون المرجّح لتعلّق الإرادة بأحد الأمرین بعینه وقوعه فی جهة الیمین مثلاً أو قرب، جارحته المقدّمة منه، أو وقوع نظره علیه أوّلاً، إلى غیر ذلك ممّا یصلح سبباً لالتفات الفاعل إلى أحدهما بعینه وإن لم یشعر نفسه بالمرجّح بحیث لو سئل عنه لم یملك جواباً،(1) كما أنّ مثل هذا المرجّح لا یضرّ باختیاریة الإرادة، لأنّه یكفی فی الاختیاریّة كون الإرادة ناشیءة عن رضى الفاعل من غیر إجبار من الغیر، ولیس معنى تأثیره فی تعلّق الإرادة بأحد الأمرین كونه علّة تامّة لتحقُّق الإرادة حتّى یتوهّم أنّ مثل هذه الإرادة تصیر جبریّاً، فإنّ الإرادة فعل للنفس، وملاك كونها اختیاریّة هو ما أشرنا إلیه من صدورها عن رضىً كامن فی النفس من غیر إجبار مُجبر، وبها یصیر الفعل اختیاریّاً أیضاً.
قال فی الأسفار: «ومنهم من قال إنّه تعالى عالم بجمیع المعلومات فیعلم أنّ أیّ المعلومات یقع وأیّها لا یقع، فما علم منه أنّه سیقع یكون واجب الوقوع لأنّه لو لم
1. راجع: الأسفار: ج1، ص209.
یقع كان علمه جهلاً، وإذا كان ذلك مختصّاً بالوقوع، وغیرهُ ممتنعَ الوقوع فلا جرم یرید ما یعلم أنّه یقع ولا یرید غیره لأنّ إرادة المحال محال».(1)
ثمّ أجاب عنه بوجهین: احدهما مبنیٌ على كون العلم تابعاً للمعلوم، وهو أنّ تخصیص وقوعه فی ذلك الوقت تبع لقصده إلى إیقاعه فیها، فلو كان القصد إلى إیقاعه فیه تابعاً لعلمه بوقوعه فیه لزم الدور. وثانیهما مبنیٌ على عدم كون علمه تعالى تابعاً للمعلوم، وهو أنّ علمه تعالى سبب لتحصُّل الممكنات مقدَّم علیها لا أنّه تابع لحصولها.(2)
وأمّا ما أجاب به الاُستاذ(قدسسره) من كون الإمكان متأخرّاً عن الوجود، فیوهم مناقضته لما مرّ فی الفصل السادس من المرحلة الرابعة من تقدُّم الإمكان على الحاجة المتقدّمة على الوجوب والوجود، وإن كان ذلك من منظر آخر ومن حیثیّة اُخرى.
والأحسن أن یقال: امتناع وقوع ما لا یقع إن كان ذاتیّاً فهو خارج عن محلّ الكلام، وإن كان امتناعاً بالغیر كان معلولاً لعدم تعلّق إرادته تعالى به، فتعلیق عدم إرادته على امتناعه بالغیر یستلزم الدور. ثمّ إنّ وجوب ما یقع لا یمكن أن یكون ذاتیّاً، فلا جرم یكون وجوباً بالغیر ولأجل تعلّق إرادته تعالى به، فالقول بأنّ سبب إرادته هو العلم بوجوب وقوعه یستلزم الدور. وكلٌّ من الامتناع بالغیر والوجوب بالغیر یلازم إمكانه الذاتیّ ولا ینقلب الإمكان بسبب تعلّق العلم به وجوباً، كما لا ینقلب بسبب عدم تعلّق العلم به امتناعاً، وهذا مراد من قال «العلم تابع» فافهم.
وقال السبزواری(رحمةالله) فی ما علّق على ثانی الوجهین اللذینِ ذكرهما صدر المتألّهین ما هذا لفظه: «یعنی علمه فی الأَزل بما علیه الشیء إن كان بسبب شیئیّة الوجود لزم الدور، وإن كان بسبب شیئیّة المهیّة یلزم ثبوت المعدوم، وإن كان بسبب شیئیّة
1. راجع: نفس المصدر: ج2، ص133.
2. راجع: نفس المصدر: ص135ـ136.
المهیّة والعین الثابت متقرّراً بوجود الحقّ تعالى تبعاً وتطفّلاً كما سَیَجیء فی الإلهیّات فهو شیء لم یصلوا إلیه فضلاً عن وصولهم إلى كونه بسبب انطواء وجودات الأشیاء بنحو أعلى وأبسط فی وجود بسیط الحقیقة، مع أنّ ذلك العلم الأزلیّ الوجوبیّ لا یكون مخصّصاً للحدوث لكونه فعلیّاً».(1)
أقول: العلم من الصفات ذات الإضافة ولا یُعقل بدون فرض متعلّق له، فالمتعلّق إن كان هو المهیّة الموجودة فی الخارج فوجودها بصرف النظر عن تعلّق العلم به واجب بالغیر، فوجوبه لیس ناشیءاً عن العلم وإلاّ لدار. وإن كان المتعلّق نفس المهیّة بدون الوجود لزم ثبوت المهیّة قبل الوجود، وهو محال خلافاً لما زعمه بعض المتكلّمین.
فإن قلت: متعلّق العلم هو المهیّة الموجودة فی علم الباری تعالى.
قلت: لهذا الكلام تفسیران: أحدهما ما یزعمه العامّة من أنّ لله تعالى ذهناً كذهن الإنسان توجد فیه صور الأشیاء، وتلزم علیه توالى فاسدة جدّاً. وثانیهما ما قال به صدر المتألّهین فی باب علم الباری تعالى وأشار إلیه المحقّق السبزواریّ، من تحقُّق كلّ شیء بنحو البساطة فی ذاته تعالی لاشتماله علی كلّ الكلمات. فهذا المعنی مضافاً إلی أنّه یعید عن أذهان هؤلاء لا یصحّح تخصّص المعلول، لأنّ هذا العلم هو عین ذاته سبحانه وحكمه حكم الذات.
هذا الكلام یوافق مشرب المعتزلة ومن حذا حذوهم، حاصله أنّ حدوث العالم فی زمان خاصّ دون سائر الازمنة إنّما هو لأجل كونه ذا مصلحة فی ذلك الوقت. ویلاحظ علیه أوّلا أنّ الزمان من لوازم العالم الجسمانیّ، ولیس قبل خلق العالم ولا بعده زمان حتّى یختصّ وجود العالم بزمان خاصّ. وثانیا لو فرض وجود زمان
1. راجع: هامش الأسفار: ج2، ص135 و 136.
قبل وجود العالم كان مخلوقاً له تعالى لا محالة، فینقل الكلام إلیه ویلزم قدم مخلوق واحد لا أقلّ منه، ولا یعقل حدوث الزمان فی زمان خاصّ كما لا یخفى. وثالثا انّ المصلحة تنتزع من ارتباط شیء بشیء آخر، ففی أجزاء العالم یصحّ أن یقال إنّ خلق بعضها فی مكان أو زمان خاصّ یكون ذا مصلحة بالنظر إلى مایرتبط به فی ذلك المكان أو الزمان، مثلاً یصحّ أن یقال إنّ خلق الإنسان فی الكرة الأرضیّة واجد لمصلحة لا توجد فی كرة اُخرى لما توجد فی الأرض من الهواء والأقوات وسائر لوازم حیاته، أو یقال إنّ خلق الإنسان قبل خلق الأقوات فیها لیس فیه مصلحة، وأمّا كلّ العالم فلیس له ارتباط بشیء آخر وراءه حتّى یقال إنّ خلقه فی وقت خاصّ یكون ذا مصلحة لا توجد فی سائر الأوقات.(1)
قد مرّ الكلام فیه فی الفصل السابع من المرحلة الرابعة، وإنّما تعرّض له ههنا أیضاً لأجل أنّ بقاء المعلول بعد فناء العلّة نوع آخَرُ من الانفكاك بینهما، فلو ثبت إمكانه كان ناقضاً لقاعدة التزامن. وكان ینبغی حلّ شبهة بقاء البناء بعد موت البنّاء(2) وأمثالها بأنّ هذه العلل من قبیل العل المعدّة، والكلام فی العلّة الحقیقیّة التی تشمل الفاعل الحقیقیّ وعلل القوام.
قال فی الأسفار: «إنّ لهذا المطلب حیث تعصّبت طائفة من الجدلیّین فیه لا بدّ من
1. راجع: الأسفار: ج2، ص136؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص481.
2. راجع: الفصلین الأوّلین من المقالة السادسة من إلهیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص526؛ وراجع: المسألة السادسة والثلاثین من الفصل الاول من الشوارق؛ والأسفار: ج1، ص219؛ وج2: ص212.
مزید تأكید وتقویة، فلنذكر فیه براهین كثیرة»(1) ثمّ ذكر عشرة براهین علیه، وبعد ذلك تعرّض لشبهات المخالفین ودفعها.
ونقل فی القبسات عن المعلّم الأوّل أنّ العدم الذی هو من الرؤوس الثلاثة(2) التی هی مبادی الكون هو العدم لا بزمان ولا بمكان. ثمّ نقل كلاماً عن الشیخ حاصله أنّ العدم مبدء بالعرض، لأنّ بارتفاعه یكون الكائن لا بوجوده.(3) وعقّب علیه بأنّ العدم المتقدّم على وجود الكائن، تقدُّماً بالزمان لیس بمقابل لوجود الكائن فی الزمان المتأخّر، فلا یصحّ أن یقال إنّ بارتفاعه یكون وجود الكائن، واستنتج أنّ العدم الذی بارتفاعه یكون وجود الكائن هو العدم الدهریّ.(4)
هذه قاعدة معروفة فی ألسنة الحكماء، وقد عدّها السیّد الداماد من اُمّهات الاُصول العقلیّة،(5) وادّعى ابن رشد اتّفاق القدماء علیه، بل ربما یدّعى اتّفاق أهل النظر جمیعاً من العرفاء والمتكلّمین أیضاً.(6) غیر أنّ الإمام الرازیّ صرّح بالمخالفة،(7)
1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة السادسة من إلهیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص524؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص485494 و 54؛ والأسفار: ج2، ص383ـ392.
2. المُراد بالرؤوس الثلاثة هو المادّة والصورة والعدم، راجع: القبسات: ص175؛ وراجع: الأسفار: ج5، ص272؛ وج3: ص254.
3. راجع: النجاة: ص101؛ وراجع: المسألة الثامنة من الفصل الثالث من الشوارق.
4. راجع: القبسات: ص224ـ225.
5. راجع: نفس المصدر: ص351.
6. راجع: أساس التوحید: ص16.
7. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص460468.
ونسب جواز صدور الكثیر عن الواحد إلى الأشاعرة،(1) لكن ردّ علیه المحقّق الطوسیّ بأنّ الأشاعرة یقولون بأنّ الصفة الواحدة لا تقتضی أكثَر من حكم واحد، وأمّا الذات فلایعدّونها علّة حتّى ینسب إلیهم جواز صدور الكثیر عنها، واستنتج أنَّ الرازیَّ خالف الكلّ فی ذلك.(2) وناقش فیها صاحب المعتبر أیضاً بأنـّه لو صحّت هذه القاعدة لكانت الموجودات كلّها سلسلة واحدة لا تتكوّن حلقاتها إلاّ واحدة بعد واحدة، ولیس كذلك.(3) وكیف كان فالكلام حول هذه القاعدة یقع فی أمور:
الأمر الأوّل فی مفاد القاعدة وبیان مغزاها وتعیین مجراها. ویتوقّف هذا الأمر على توضیح مفهوم الواحد والصدور المأخوذین فیها. فنقول: أمّا الواحد فالمراد به ههنا البسیط كما صرّح به فی المتن. لكن عرفت سابقاً أنّ البسیط مفهوم مشكّك، فقد یطلق علىمالا یتركّب من مادّة وصورة خارجیّتین، فیشمل الأعراض والعقول بل نفس المادّة والصورة؛ وقد یطلق على مالایتصوّر له أجزاء بالفعل ولا بالقوّة حتّى لو كان ذلك بتبع الموضوع، فینحصر فی المجرّدات؛ وقد یطلق على ما لیس له أجزاء عقلیّة أیضاً ولا یتصوّر له أیُ تركیب حتّى من المهیّة والوجود، فیختصّ بذات الواجب تبارك وتعالى.
فإن كان المراد بالبسیط هذا المعنى الأخیر اختصّ جریان القاعدة بالواجب تعالى فیثبت بها أنّه لا یصدر منه فی المرتبة الاُولى إلاّ أمر واحد هو العقل الأوّل كما قالت به قاطبة الحكماء، أو النظام الجملیّ كما اختاره السیّد الداماد،(4) أو الوجود المنبسط والفیض المقدّس كما هو مختار العرفاء. وقد حاول صدر المتألّهین وبعض أتباعه الجمع بین مقالة الحكماء والعرفاء.(5)
1. راجع: تلخیص المحصّل: ص237.
2. راجع: نفس المصدر: ص238.
3. راجع: المعتبر: ج3، ص151.
4. راجع: القبسات: ص410 و 361ـ363؛ وراجع: أساس التوحید: ص504.
5. راجع: أساس التوحید: ص72ـ74.
وعلى هذا یكون المراد بالصدور صدور المعلول عن الفاعل الحقیقیّ الحقّ والاستناد الخاص المحض إلى العلّة المفیضة للوجود من غیر استناد إلى شرط أو استعداد خاصّ حاصل من المعدّات. وقد صرّح صدر المتألّهین بهذا الاختصاص فی موضع من الأسفار،(1) لكن ظاهر كثیر من كلمات الحكماء بل صریح بعضها هو عدم الاختصاص، ونقل عن بعضهم جریان القاعدة فی المعدّات أیضاً.(2)
وبناءً على التعمیم فالمراد بالبسیط هو الحیثیّة الواحدة التی یصدر عنها المعلول ولو كانت مقترنة بحیثیّات اُخرى. وبعبارة اُخرى فإنّ المركّب إنّما یتركّب من بسائط، فكلّ من أجزائه البسیطة لا یصدر عنه إلاّ معلول واحد، فتعدّد المعالیل تابع لتعدّد الحیثیّات فلا تكون أكثر من الحیثیّات الموجودة فی العلّة. والكلام الفصل فی بیان مجرى القاعدة یتوقّف على تحقیق مفاد أدلّتها.
وجدیر بالذكر أنّ إثبات وحدة الصادر الأوّل ینحصر طریقه عند القوم فی إثبات هذه القاعدة، لكن بعد إثبات التشكیك فی الوجود وأنّ وجود المعلول رابط بالنسبة إلى وجود العلّة الفاعلة وأنّ الوجود كلّما كان أقوى كان أبسط، أمكن اثبات وحدة الصادر الأوّل وبساطته من غیر حاجة إلى هذه القاعدة فتبصّر.
الأمر الثانی فی علاقة هذه القاعدة بقاعدة تسانخ العلّة والمعلول.(3) ویشهد لهذه العلاقة ما یلاحظ من الاستدلال بقاعدة التسانخ لإثبات هذه القاعدة فی كلام الاُستاذ(قدسسره). فینبغی إلقاء ضوء على تلك القاعدة حتّى یتبیّن مدى العلاقة بینهما. فنقول: السنخیّة بین العلّة والمعلول قد تلاحظ بین العلّة المفیضة ومعلولها، وقد
1. راجع: الأسفار: ج8؛ وراجع: الشوارق: المسألة الثانیة من الفصل الثالث.
2. راجع: أساس التوحید: ص5051.
3. راجع: نفس المصدر: ص5355.
تلاحظ بین سائر أقسام العلّة الحقیقیّة والمعدّة والمعلول المنسوب إلیها. أمّا الأوّل فهو أمر قریب من البداهة إن لم یكن بدیهیّاً، فإنّ العلّة المفیضة هی المعطیة لوجود المعلول، ومن الواضح استحالة إعطاء الشیء لما هو فاقد له ورجوع ذلك إلى التناقض. فمقتضى هذه القاعدة أن تكون العلّة المفیضة واجدةً لكمال المعلول، لا لوجود المعلول بحدّه بحیث یلزم منه صدق ماهیّة المعلول على العلّة، بل بنحو اتمَّ وأعلى.
وأمّا السنخیّة بین الفاعل الطبیعیّ ومعلوله، وبین الشرط والمشروط، وبین المعدّات والمستعدّات فلیس ممّا یستقلّ به العقل بل یحتاج إلى التجربة. فاشتراط التركیب بین عنصرین بجریان الكهرباء أو وجود الحرارة مثلاً لیس ممّا یقضی به العقل قبل التجربة، فلا یستقلّ العقل بلزوم الشروط ولا بتعیینها ولا بوحدتها أو كثرتها. وهذا ممّا أغفله الحكماء واكتفوا بدعوى بداهة المسانخة إجمالاً وأنّه لولا ذلك لجاز تأثیر كلّ شیء فی كلّ شیء.
وكیف كان فمجرى قاعدة التسانخ هو العلّة المفیضة ومعلولها، فإن كان مجرى قاعدة «الواحد» أیضاً ذلك اتّحد موردهما، وإن عمّمتْ إلى سائر العلل كان موردها أعمَّ من قاعدة التسانخ، كما أنّه لو اختصّ مجراها بالواجب تعالى كان مجرى قاعدة التسانخ أعمَّ منها.
الأمر الثالث فی إثبات القاعدة. ادّعى السیّد الداماد كونها من فطریّات العقل الصریح وأنّ ما اُقیم علیها من البراهین بیانات تنبیهیّة.(1) وقال فی الشوارق: «فالحقّ ما ذكره الشارح القدیم من أنّ الحكم بأنّ الواحد لا یصدر عنه إلاّ الواحد، بدیهیّ لایتوقّف إلاّ على تصوّر طرفیه»(2) وقال المحقّق الطوسیّ فی شرح الإشارات: «وكان
1. راجع: القبسات: ص351.
2. راجع: المسألة الثانیة من الفصل الثالث من الشوارق.
هذا الحكم قریباً من الوضوح، ولذلك وسم الفصل بالتنبیه، وإنّما كثرت مدافعة الناس إیّاه لإغفالهم معنى الوحدة الحقیقیّة».(1)
وكیف كان فقد نقل فی المباحث المشرقیّة أربعة براهین علیها وناقش فی الجمیع،(2) وقد تصدّى أساطین الحكمة للردّ على شبهاته فی كتبهم كالقبسات(3) والأسفار،(4) والشوارق وغیرها. ولا یَسَعُنا الخوض فی جمیع ما قیل أو یمكن أن یقال بهذا الصدد.(5) فلنقتصر على ما اعتمد علیه سیّدنا الاُستاذ(قدسسره) وهو روح أكثر البراهین لولا كلّها.
وحاصله أنّ من الواجب وجودَ سنخیّة ذاتیّة بین المعلول وعلّته، فلو فرض صدور أمرین متباینین أو أكثر عن علّة واحدة لزم أن یكون فی العلّة جهتان أو أكثر تُسانخ بكلّ واحدة منها واحداً من المعالیل، وقد فُرضتْ بسیطةً ذاتَ جهةٍ واحدة.
ویستفاد من هذا البرهان عدم اختصاص القاعدة بالواجب تعالى بل تشمل كلَّ ما یكون بسیطاً بحسب وجوده الخارجیّ، كما أنّها لا تختصّ بالواحد الشخصیّ بل النوع الواحد من العلّة أیضاً لا یصدر منه إلاّ النوع الواحد من المعلول، ویشهد له عدم التفصیل بین الواحد الشخصیّ والواحد النوعیّ فی هذه القاعدة بخلاف عكسها حیث خصّصها بالواحد الشخصیّ كما سیأتی فی المتن.
ویلاحظ علیه أنّ مجرى هذا البرهان هو العلّة البسیطة التی لیس لها إلاّ نوع واحد من الكمال، فلا یصدر منه إلاّ هو واجد لمرتبة نازلة منه. فالعقول العرضیّة ـ على القول بها ـ تكون مشمولة لهذه القاعدة بخلاف العقول الطولیّة وبخلاف ذات الواجب تبارك
1. راجع: أواخر النمط الخامس من شرح الإشارات.
2. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص460468.
3. راجع: القبسات: ص351ـ367.
4. راجع: الأسفار: ج2، ص204ـ212؛ وج7: ص192ـ244.
5. راجع: التحصیل: ص531؛ والمطارحات: ص385ـ386؛ وشرح المنظومه: ص127؛ والتعلیقات: ص27.
وتعالى، فإنّها وإن كانت بسیطة إلاّ أنّها فی عین بساطتها واجدة لكمالات كثیرة على نعت الجمعیّة والوحدة، فهذا البرهان لا ینفی صدور الكثیر منها لعدم منافاته لقاعدة التسانخ.
وبذلك یظهر أنّ قاعدة التسانخ أعمُّ مورداً من هذه القاعدة، لشمولها للواجب تعالى والعقول الطولیّة بخلافها، فتفطّن.
الأمر الرابع فی عكس القاعدة، وهو أنّ المعلول الواحد لا یصدر إلاّ عن العلّة الواحدة. إنّ وحدة المعلول قد یُعنى بها وحدته الشخصیّة، فیكون مفاد القاعدة أنّ المعلول الواحد الشخصیَّ لا یصدر عن عدّة علل تامّة التأثیر، سواء كانت واحدة بالنوع أو لم تكن. وأمّا اجتماع عدّة علل ناقصة تشكّل علّة تامّة مركّبة فممّا لا كلام فیه.
وامتناع صدور فعل واحد شخصیّ عن فواعل متعدّدة تامّة الفاعلیّة واضح لا خلاف فیه. لأنّ مقتضى كون الفاعل تامّاً وجوبُ صدور الفعل عنه، ومقتضى تعدُّده تعدُّد الفعل، ففرض وحدة الفعل مع تعدّد الفاعل لا یستقیم إلاّ على فرض كون كلّ واحدة منها ناقصة التأثیر أو كون بعضها فاقدة التأثیر.
وقد یُعنى بوحدة المعلول وحدته بالنوع وإن كان متكثّراً بالشخص، فیكون مفاد القاعدة أنّ النوع الواحد من المعلول لا یصدر إلاّ عن نوع واحد من العلّة. وهذا ممّا وقع فیه الخلاف: قال فی المباحث المشرقیّة: «وأمّا الواحد النوعیُّ فالصحیح جواز استناده إلى علل كثیرة»(1) وقال فی التجرید: «وفی الوحدة النوعیّة لا عكس» وقال فی المطارحات: «وأمّا الأمر الكلّیّ كالحرارة المطلقة فیجوز أن یقال بوجه مّا أنّ لها عللاً كثیرة ـ إلى أن قال ـ فإنّها یجوز أن تقع جزئیّات منها بسبب الحركة، واُخرى بسبب الشعاع، واُخرى بسبب ملاقاة النار. ویجوز أن یكون للأشیاء الكثیرة
1. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص468.
لازم واحد بالنوع، وعرضیّ مفارق واحد أیضاً بالنوع».(1) وقال فی الأسفار: «وأمّا الواحد النوعیُّ فالصحیح جواز استناده إلى المتعدّد كالحرارة الواقعة إحدى جزئیّاتها بالحركة، واُخرى بالشعاع، واُخرى بالغضب، واُخرى بملاقاة النار».(2)
لكن قال السیّد الداماد بامتناع صدور الواحد عن الكثیر مطلقاً حتّى فی الشروط ومتمّمات العلّة»(3) وقال فی الشوارق: «وأمّا إذا لم یفرض اجتماعهما بل فُرض تبادلهما ابتداءً أو تعاقبهما فالمشهور هو الجواز، والمحقّق الشریف جوّز التبادل الابتدائیَّ دون التعاقب ـ إلى أن قال ـ والتحقیق امتناع كلیهما جمیعاً».(4)
والذی یقتضیه البرهان هو امتناع صدور المعلول الواحد النوعیّ عن الفواعل المفیضة المتكثّرة نوعاً، اداءً لحقّ التسانخ، فإنّه إن كان الفاعل ذا كمال واحد كان فعله الصادر عنه مرتبةً نازلةً من كماله، فلا یمكن أن یصدر عمّا هو فاقد لهذا الكمال؛ وإن كان الفاعل ذا كمالات كثیرة متمیّزة فی الوجود كان الفعل صادراً عنه بما أنّه واجد للكمال المسانخ له، فإذا كان الفاعل متعدّداً كان العلّة للمعالیل المتكثّرة بالشخص والواحدة بالنوع، نفسَ الكمال المشترك الذی هو واحد بالنوع، وأمّا صدور الحرارة عن أشیاءَ متعدّدة فلیس صدورَ فعل عن فاعل حقیقیّ مفیض للوجود.
الأمر الخامس فی ما یترتّب على القاعدتین. أمّا القاعدة الاُولى فبناءً على اختصاصها بالبسیط من جمیع الجهات لا یترتّب علیها إلاّ وحدة الصادر الأوّل، وقد مرّ أنّ القاعدة قاصرة عن إثبات ذلك، وأنّه یثبت من طریق آخر. وأمّا بناءً على تعمیمها لغیر الواجب وللواحد النوعیّ فیترتّب علیها أنّ كلّ ما یصدر عن علّة واجدة لنوع واحد من الكمالات الوجودیّة فهو واحد بالنوع. وقد استدلّوا بها فی
1. راجع: المطارحات: ص380.
2. راجع: الأسفار: ج2، ص211.
3. راجع: القبسات: ص368.
4. راجع: المسألة الثانیة من الفصل الثالث من الشوارق.
موارد كثیرة: منها ما استُدلّ به لإثبات الصور النوعیّة وعدم جواز إسناد آثارها إلى المهیّة الجنسیّة؛ ومنها ما استُدلّ به لنفی علیّة المادّة للصور،(1) ومنها ما استدلّ به لإثبات القوى المتعدّدة للنفس ـ خلافاً لصدر المتألّهین فی منع الاستدلال بها لذلك ـ ؛ ومنها ما سیأتی فی البحث عن نفی الاتّفاق أنّ الطبیعة الواحدة لا تفعل إلاّ فعلاً واحداً؛(2) ومنها ما استُدِلّ به فی الأسفار على اعتبار غایة التباعد بین الضدّین؛(3) ومنها ما استُدلّ به لبیان قاعدة إمكان الأشرف، من أنّه لو صدر الأشرف والأخسّ معاً لزم صدور الكثیر عن الواحد،(4) إلى غیر ذلك.(5)
وأمّا القاعدة الثانیة فلستُ أذكر مورد الاستدلال بها إلاّ فى احتیاج المادّة إلى الفاعل غیر المادّیّ،(6) وفی إثبات توحید الواجب تعالى فی الربوبیة بناءً على وحدة العالم.(7) وفی كثیر من الاستدلالات بهما نظر لا یَسَعُنا بیان وجهه ههنا، فلیطلب من محالّها.
یستفاد من هذا التعریف أنّ الدور إنّما یتصوّر بین العلّة والمعلول، لأنّ التوقّف
1. راجع: التحصیل: ص341.
2. راجع: الفصل الثالث عشر من المرحلة الثامنة من المتن.
3. راجع: الأسفار: ج2، ص114؛ وراجع: الفصل التاسع من المرحلة السابعة من المتن؛ وراجع: الرقم (229) من التعلیقة.
4. راجع: المطارحات: ص434؛ والتلویحات: ص51؛ والقبسات: ص372ـ347؛ والأسفار: ج7، ص244ـ253؛ وأساس التوحید: ص131.
5. راجع: أساس التوحید: ص121.
6. راجع: الفصل السادس من المرحلة الخامسة من المتن.
7. راجع: الأسفار: ج6، ص94ـ99.
المأخوذ فی التعریف أمارة المعلولیّة، والمتوقَّف علیه هو العلّة، واستحالته ظاهر. وأمّا التسلسل فلا یختص بالعلّة والمعلول، بل مفهومه یشمل كلّ ما یترتّب على الآخر، ویختصّ الاصطلاح بما لا ینتهی إلى حلقة أخیرة من جهة الصعود أو النزول أو كلیهما.
والبراهین التی اُقیمت على استحالة التسلسل(1) على قسمین: منها ما یختصّ بتسلسل العلل، ومنها ما یعمّ العلل والمعالیل وغیرها، كما أنّ بعضها یختصّ بالأبعاد كالبرهان السلّمیّ وبرهان المسامتة. وهذان البرهانان وبرهان التطبیق تتشكّل من مقدّمات ریاضیّة، ویرد علیها أنّ الأحكام الریاضیّة تختصّ بالمقادیر المتناهیة، فلا یصحّ تعمیمها إلى غیر المتناهی حتّى تترتّب علیها توالی فاسدة مذكورة فی هذه البراهین. وقد أشار الاُستاذ(قدسسره) إلى أنّ أكثر البراهین لا تخلو من مناقشة. وأمّا البراهین المذكورة فی المتن فتختصّ بتسلسل العلل، وإن كان ربما یعمّم البرهان الثانی إلى غیرها أیضاً، وسیأتی الكلام فیه.
هذه الشروط هی مورد الخلاف بین الحكماء والمتكلّمین. فالمتكلّمون لا یعتبرون هذه الشروط، ویُجرون براهین التسلسل فی الحوادث الواقعة فی طول الزمان والحوادث المجتمعة فی زمان واحد، فیقولون بامتناع تسلسلها ویستنتجون انتهاء سلسلة الحوادث إلى حادثة هی مبدأها واُخرى منتهاها، وكذا تناهی عدّة الحوادث فی كلّ زمان، وأمّا الحكماء فلایوجبون المبدء والمنتهی للحوادث الزمانیة
1. راجع: نفس المصدر: ج2، ص144ـ167؛ والقبسات: ص228ـ233؛ وحكمة الإشراق: ص63؛ والمباحث المشرقیة: ص470477؛ وتلخیص المحصل: ص246؛ وراجع: المسألة الثالثة من الفصل الثالث من الشوارق؛ وشرح المنظومة: ص129ـ131؛ والتحصیل: ص577.
ولاتناهیها فی زمان واحد استناداً إلى براهین التسلسل، بل یجوّزون عدم تناهیها لأجل ما یعتبرون فیها من الشروط الثلاثة. والمعیار فی اعتبار الشروط هو مفاد البراهین فینبغی النظر فی كلّ واحد منها على حدة.
هذا البرهان یختصّ بالعلل الفاعلیّة المفیضة، فإنّ المعلول انّما یكون رابطاً بالنسبة إلى علّته المفیضة لاغیر، ویجری فی العلل التامّة لاشتمالها على العلّة المفیضة، ومن الواضح اجتماع الشروط الثلاثة فی مصبّ هذا البرهان.
هذا البرهان أقامه الشیخ أوّلاً على تناهی العلل الفاعلیّة، وقال فی آخر كلامه «وهذا البیان یصلح أن یُجعل بیاناً لتناهی جمیع طبقات أصناف العلل، وإن كان استعمالنا له فی العلل الفاعلیّة، بل قد علمت أنّ كلّ ذی ترتیب فی الطبع فإنّه متناهٍ، وذلك فی الطبیعیّات».(1) وهكذا عمّمه فی القبسات،(2) ووصفه صدر المتألّهین بأسدّ البراهین لإبطال التسلسل.(3)
ومن الواضح أنّ التعمیم إنّما یمكن بالتركیز على عنوانی الوسط والطرف، وعلى هذا فلقائل أن یقول: إنّ هذین العنوانین متضایفان، ومع الشكّ فی وجود الطرف یكون صدق عنوان الوسط على الموجودات التی فُرضتْ غیرَ متناهیة مشكوكاً فیه. لا یقال: یثبت عنوان الوسط لها بإثبات خاصّته وهو كون العلّیة
1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص558.
2. راجع: القبسات: ص229.
3. راجع: الأسفار: ج2، ص145.
مشفوعة بالمعلولیّة، فإنّه یقال: إنّما یثبت ذلك فی تسلسل العلل، ففرض معلولیّة الجملة مستلزم لقبول علّة وراءها، وأمّا فی غیر العلل فلیس هناك ما یثبت شیئاً وراء الجملة غیر المتناهیة حتّى یثبت لها عنوان الوسط. فالسرّ فی ثبوت عنوان الوسط للعلل المتّصفة بالمعلولیّة أیضاً هو ثبوت كونها معلولة، فالتركیز فی البیان لیس على ما بالذات، ومع التركیز على عنوان المعلولیّة یرجع إلى برهان الفارابیّ، ولعلّه لذلك سمّی بالأسدّ علاوةً على كونه أخصر.
وإن سلّمنا فی غیر العلل صدق كون كلّ واحد من الحلقات متلوّاً بآخر، واستلزامَه لكون المجموع متلوّاً بآخر، وسلّمنا صحّة إطلاق الجملة والمجموع على غیر المتناهی، كان البرهان جاریاً فی الحوادث المتعاقبة فی طول الزمان أیضاً لصدق أنّ كلّ واحد منها مسبوق بآخر، ولیس فی البرهان ما یدلّ على اشتراط الاجتماع فی الوجود لعدم توقّف عنوانی الوسط والطرف على ذلك. ومع الإصرار على هذا الشرط یمكن أن یقال إنّه یكفی اجتماعها فی وعاء الدهر كما ذهب إلیه السید الداماد واستنتج منه امتناع امتداد الحوادث إلى لا نهایة فی جانب الأزل.(1)
هذا البرهان تامٌّ فی تسلسل العلل كما أشرنا إلیه، لأنّ المفروض أنّ كلّ حلقة من السلسلة لأجل معلولیّتها متوقّفة على ما قبلها ومشترطة بوجود حلقة قبلها، فما لم یوجد أمر غیر متوقّف على شیء ولا مشروط بهذا الشرط لا توجد حلقات لسلسلة مترتّبةً بعضها على بعض. والشروط الثلاثة موجودة فی مصبّ هذا البرهان، ولا دلیل على تعمیمه لغیر العلل، اللّهمّ إلاّ أن یقال بشموله للعلل المعدّة أیضاً فلا یعتبر شرط الاجتماع فی الزمان، فافهم.
1. راجع: القبسات: ص228.
هذا هو كلام السیّد فی القبسات(1) وتقویم الإیمان، وقد نقله فی الأسفار(2) ملخّصاً، وعلّق علیه السبزواریّ وقال فی آخر كلامه «ولیت شعری لِمَ سكت المصنّف عن النفی والإثبات؟ ولعلّه سكت تأدّباً». وحاصله أنّ شرطَی الترتّب والاجتماع فی الوجود بالفعل حاصلان فی جهة التصاعد دون جهة التنازل، لعدم تحقّق المعلولات فی مرتبة ذات العلّة، بخلاف العلل فإنّها واجبة الحصول فی مرتبة ذات المعلول.
والذی یمكن أن یقال فی توجیه كلامه أنّ مراده بتحقّق العلّة فی مرتبة ذات المعلول وجوب وجودها عند وجود المعلول، وأنّ المراد بعدم تحقّق المعلول فی مرتبة ذات العلّة عدم وجوب وجوده عند وجودها. وهذا إنّما یصحّ فی العلل الناقصة كما نبّه علیه فی المتن.
وكیف كان فلا یثبت بهذا الكلام جواز تحقّق سلسلة غیر متناهیة من المعالیل فی الخارج، لأنّ وجود كلّ معلول یستدعی وجود جمیع أجزاء علّته التامّة، فتكون العلل الناقصة أیضاً واجبة الوجود بالقیاس إلى معالیلها، ومجتمعة الوجود فی مرتبة ذات المعلول ـ على حدّ تعبیر السیّد ـ فلو كانت براهین التسلسل جاریة فی غیر العلل أیضاً لا متنع تحقُّق سلسلة غیر متناهیة من المعالیل، وامتنع تحقق حوادث غیر متناهیة فی جانب الأبد على مذهب السیّد، حیث یعتبر الاجتماع فی وعاء الدهر كافیاً لجریان براهین التسلسل، وكان غایة ما یثبت بذلك البیان إمكان تحقّقها ذاتاً لا وقوعاً.
1. راجع: نفس المصدر: ص233ـ234؛ وراجع أیضاً: ص184.
2. راجع: الأسفار: ج2، ص167ـ169.
قد عرفت أنّ برهان الفارابیّ یختصّ بالعلل، وأنّ برهان الشیخ إنّما یتمّ بإرجاعه إلى ذلك فراجع الرقم (247).
إثبات اعتبار هذه الشروط من طریق أنّ السلسلة إنّما تصدق بتوفّرها مشكل، لعدم دوران الأحكام العقلیّة مدار الألفاظ، مضافاً إلى منع عدم الصدق فی ما عدا الترتّب، فالمعیار لاختبار اعتبار شرط وعدمه هو مقتضى البرهان، وقد عرفت ما یقتضیه كلّ برهان على حدة.
سیأتی الكلام فی العلّة المادّیة والصوریّة فی الفصل الرابع عشر. وأمّا لا تناهی الصور التی هی علل صوریّة للمركّبات فیتصوّر على وجوه:
أحدها أن تكون المركّبات الموجودة فی زمان واحد غیر متناهیّة فتكون صورها أیضاً كذلك. وهذا ممّا لا دخل لبراهین التسلسل فیه، لعدم الترتّب بینها، إلاّ على مذهب من لا یرى الترتّب شرطاً فی التسلسل فیمنع وقوع حوادث غیر متناهیة فی زمان واحد استناداً إلى براهین التسلسل.
ثانیها أن تكون المركّبات المتعاقبة فی طول الزمان غیر متناهیة فتكون صورها أیضاً كذلك وهذا هو محلّ الكلام بین من یشترط الاجتماع فی الزمان كجمهور الفلاسفة ومن لا یشترط كالسیّد الداماد وجمهور المتكلّمین.
ثالثها أن تكون الصور متعاقبة على مادّة واحدة بالكون والفساد، وهذا أیضاً ممّا لا یمنعه جمهور الفلاسفة.
رابعها أن تكون الصور متراكبة على مادّة واحدة فی زمان واحد ـ عند من یجوّز تراكب الصور المتعدّدة بالفعل ـ وهذا مستحیل لتناهی كلّ موجود مادّی. وأمّا جریان براهین التسلسل فیه فمنوط بجریانها فی المعالیل، لأنّه لا علّیة بین الصور إلاّ من جهة توقّف كلّ صورة عالیة على صورة سافلة، والصورة السافلة تعدّ مبدء السلسلة، فغایة ما یلزم منه تسلسل المعالیل لا تحقّقها بلاعلّة مبتدأة.
خامسها أن تُفرض لكلّ صورة صورةٌ اُخرى لاعلى وجه التراكب بل على وجه التضامن، بأن تكون كلّ صورة مركّبةً من جزئین یكون أحدهما علّة صوریّة للمجموع وهكذا إلى غیر النهایة. وهذا الفرض مضافاً إلى أنّه ینافی بساطة الصورة، وتناهی الموجودات المادّیة، یكون مجرى براهین التسلسل أیضاً حتّى عند من یخصّها بالعلل، سوى البرهان الأوّل المذكور فی المتن حیث إنّه یختصّ بالعلل المفیضة كما نبّهنا علیه، لكنّ الكلام فی عدّ الصورة علّة للمركّب، فلقائل أن یمنع ذلك استناداً إلى أنّ المجموع المركّب عنوان انتزاعیّ، ولیس بین المادّة والصورة وبین المجموع تأثیر وتأثّر خارجیّ حتّى یصدق علیه عنوان العلّة حقیقةً ویثبت لها أحكام العلّة ممّا یختصّ بالتأثیر العینیّ،(1) مضافاً إلى ما فی وجود الهیولى من الشكّ، لو لم یكن نفیها معلوماً.
وأمّا فرض تعدّد الصور العرْضیة للمادّة الواحدة ففرض ساقط فضلاً عن لا تناهیها، لأنّ بتعدّدها تتعدّد المادّة، ویرجع الأمر إلى الوجه الأوّل.
وبالتأمّل فی ما ذكرنا یظهر حال العلل المادّیة فی التناهی وعدمه، وجریان براهین التسلسل فیها.
وأمّا العلّة الغائیّة فهی التی لأجلها یصدر الفعل عن الفاعل، ووجودُها الخارجی
1. سنعود إلیه تحت الرقم (279).
وإن كان متأخّراً عن الفعل ولیس له علّیة للفعل المتقدّم علیه إلاّ أنّ وجودها العلمیّ متقدّم علیه ومتمّم لفاعلیّة الفاعل، وسیأتی تفصیل الكلام فیها.
وأمّا لا تناهی العلل الغائیّة(1) فیتصوّر على وجوه:
أحدها أن تكون لاُمور غیر متناهیّة مجتمعةٍ فی الوجود عللٌ غائیّة غیر متناهیة، بحیث یكون لكلّ واحد منها علّة غائیّة متناهیة. وهذا كالوجه الأوّل المذكور فی العلل الصوریّة.
وثانیها أن تكون لاُمور متعاقبة غیر متناهیة علل غائیّة كذلك، وهذا بحذاء الوجه الثانی من الوجوه المذكورة هناك.
وثالثها أن تتناوب العلل الغائیّة فی طول زمان وجود المعلول، بحیث یكون وجوده فی الزمان الأوّل معلولاً لعلّة غائیّة خاصّة، وفی الزمان الثانی معلولاً لغایة ثانیة، وفی الزمان الثالث لغایة ثالثة، وهكذا إلى غیر النهایة. وهذا الوجه ـ على فرض صحّته ـ یحاذی الوجه الثالث المذكور هناك.
ورابعها أن تكون لفعلٍ واحدٍ غایةٌ، وللغایة غایةٌ اُخرى وهكذا، بحیث یكون الوصول إلى كلّ غایةٍ ذریعةً إلى الوصول إلى غایة فوقها. وتسلسل مثل هذه الغایات مستحیل، لأن المفروض توقّف وجود المعلول علیها فیجری فیه برهان الفارابىّ وبرهان الشیخ، بل البرهان الأوّل أیضاً، لأنّ العلّة الغائیّة متمّمة لفاعلیّة الفاعل كما أشرنا إلیه.
وأمّا فرض كون الغایة متضمّنة لغایة اُخرى حتّى یتناظر مع الوجه الخامس من الوجوه المذكورة فی العلل الصوریّة فساقط، لأن العلّة الغائیّة مغایرة لوجود المعلول، فلا یصحأن تكون الغایة مشتملة على غایة اُخرى، سواء فی الوجود العینیّ أو العلمیّ. لكن یتصوّر ههنا وجه آخر لایجری فی العلل الصوریّة، وهو اجتماع غایات متعدّدة لفعل واحد، وحكمه نظیر حكم الوجه الأوّل، وسیأتی الكلام فیه تحت الرقم (258).
1. راجع: الأسفار: ج2، ص169 و 265؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص539؛ والتحصیل: ص559.
عطف على كلامه فی ابتداء الفصل الأوّل من هذه المرحلة، وقد ذكرنا هناك أنّ الألیق بالقائل بأصالة الوجود أن یركّز على الوجود لا المهیّة. وحاصل هذا البیان أنّ المهیّة التی تكون فاقدة فی حدّ ذاتها للوجود لا تتلّبس به إلاّ بإعطاء الغیر، وهو الفاعل.
وجدیر بالذكر أنّ للفاعل فی عرف الفلاسفة اصطلاحین: أحدهما فی الفلسفة الاُولى والإلهیّات والمراد به معطی الوجود وموجد المعلول؛ وثانیهما فی الطبیعیّات والمراد به سبب الحركة. وهذا البیان یثبت الفاعل الإلهیّ الذی یفیض الوجود والذی سیأتی أنّه فوق الطبیعة.
وقد شبّه الفاعل الإلهیّ بالفاعل الطبیعیّ الذی یصیر منشأ للحركة فی الأجسام، تقریباً إلى الأذهان، ثمّ انتقل إلى مقالة المادّیّین المنكرین للفاعل الإلهیّ. ولْیُعلمْ أنّ قصرهم العلل فی العلل المادّیة لیس بمعنى قصرهم إیّاها فی العلّة المادّیة التی تعدّ كقسم من العلل الأربع والتی هی جزء مقوّم للمعلول، بل المراد بالعلل المادّیة ههنا ما یشمل الفاعل الطبیعیّ والمعدّات أیضاً، فتبصّر.
اعلم أنّهم قد قسموا كلَّ واحد من العلل إلى ما بالذات وما بالعرض، وإلى القریب والبعید، وإلى الخاصّ والعامّ، وإلى الجزئیّ والكلّیّ، وإلى البسیط والمركّب، وإلى
ما بالقوّة وما بالفعل.(1) وأمّا أقسام العلّة الفاعلیّة فلیست مأثورة عن القدماء، وقد ذكر صدر المتألّهین فی كتبه لها ستّة أقسام،(2) وذكر فی تعلیقته على إلهیات الشفاء بعد ذلك تقسیماً آخر للفاعل إلى التسخیریّ وغیره،(3) والّذی أنهى الأقسام إلى الثمانیة ـ فی ما نعلم ـ هو المحقّق السبزواریّ فی منظومة الحكمة.(4)
ثمّ إنّه عرّف فی الأسفار الفاعل بالجبر بالّذى یصدر عنه فعله بلا اختیار بعد أن یكون من شأنه اختیار ذلك الفعل وعدمه. والظاهر أنّ مراده بذلك أن یكون صدور الفعل عنه بقهر قاهر بحیث یسلب عنه الاختیار بالكلّیة، لا الفاعل المكَره الّذى یختار الفعل لأجل تهدید الغیر ـ على ما یظهر من كلام الاُستاذ(قدسسره) ـ ویؤیّده أنّه صرّح تارةً بكون الفاعل بالجبر مشتركاً مع الفاعل بالطبع والفاعل بالقسر فی كونها جمیعاً بالتسخیر، واُخرى بنفی الاختیار عنهما.(5)
وكیف كان ففی عدّ الفاعل بالقسر والفاعل بالجبر نوعین من الفاعل نظر، لأنّ الفعل الّذى یصدر بالقسر إنّما هو فعل للقاسر، ولیس للمقسور إلاّ الانفعال، وكذلك الفاعل بالجبر بالمعنى الّذى استظهرناه من كلام صدر المتألّهین. وأمّا بالمعنى الذی فسّر به فی المتن فهو من قبیل الفاعل بالقصد كما نبّه علیه الاُستاذ(قدسسره).
ثمّ إنّ صدر المتألّهین عرّف الفاعل بالعنایة بالفاعل الّذی یكون فعله تابعاً لعلمه التفصیلیّ بوجه الخیر فیه من غیر قصد وداعٍ زائد على ذاته، واختار كون فاعلیّته
1. راجع: الفصل الثانی عشر من المقالة الاُولى من طبیعیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص522؛ والمسألة السابعة من الفصل الثالث من الشوارق؛ وشرح المنظومة: ص125.
2. راجع: الأسفار: ج2، ص220ـ225؛ والمبدء والمعاد: ص133ـ135.
3. راجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص244.
4. راجع: شرح المنظومة: ص115.
5. راجع: الأسفار: ج2، ص222؛ والمبدء والمعاد: ص134.
تعالى من هذا القبیل،(1) وفی الواقع یكون الفاعل بالتجلّی عنده أحد قسمَی الفاعل بالعنایة، ویمتاز بكون العلم التفصیلیّ فیه عین ذات الفاعل.
وكیف كان فوجه امتیازه عن الفاعل بالقصد هو احتیاج الفاعل بالقصد إلى القصد الزائد على الذات بخلافه. وأمّا التمثیل بسقوط من وقع على جذع عال بمجرّد التصوّر، فلعلّه مبنیٌّ على المسامحة والتقریب إلى الذهن، والحقُّ أنّ هذا السقوط أمر قسریّ عامله جاذبیّة الأرض مثلاً، ولیس فعلاً صادراً عن ذلك الشخص، ونسبته إلى الساقط هی نسبة الانفعال إلى المنفعل لا نسبة الفعل إلى الفاعل بالمعنى الفلسفیّ أی المؤثّر، وإن صحّ اعتباره فاعلاً بالمعنى النحویّ، فتفطّن.
قال فی الأسفار: «قد اشتهر من الفلاسفة الأقدمین أنّ المؤثّر فی الوجود مطلقاً هو الواجب تعالى، والفیض كلّه من عنده، وهذه الوسائط كالاعتبارات والشروط التی لابدّ منها فی أن یصدر الكثرة عنه تعالى فلا دخل لها فی الإیجاد بل فی الإعداد» ثمّ نقل حجّة علیه من بعضهم وناقش فیها وقال فی آخر كلامه «ولنا بفضل الله وإلهامه برهان حكمیّ على هذا المقصد العالی ستطّلع علیه إن شاء الله تعالى».
واعلم أنّ لهذا الكلام تفاسیر:
أحدها نفی التأثیر مطلقاً عن غیر الواجب تعالى كما حكی عن الأشاعرة، وهو باطل بالضرورة، بل به ینسدّ باب إثبات الواجب بالبرهان.
ثانیها نفی التأثیر الذی لا یحتاج إلى تأثیر الغیر عن غیره سبحانه، وهو مقتضى
1. راجع: الأسفار: ج2: ص225؛ والمبدء والمعاد: ص135.
كونه علّةً اُولى تنتهی إلیه سلسلة الفواعل وكون الجمیع مسخّرات بأمره، كما علیه جمیع الفلاسفة وغیر الأشاعرة من المتكلّمین.
وثالثها نفی التأثیر الاستقلالیّ عن غیره سبحانه بمعنى كون جمیع الفواعل روابط مَحْضَة غیر مستقلّة فی الذات والتأثیر وكونها مجاری فیضه أو شرائط لقابلیّة القوابل. وهذا هو ما أثبته صدر المتألّهین(قدسسره) بالبرهان، وبذلك فتح باباً عظیماً لحلّ مسائل التوحید، ومن جملتها التوحید الأفعالیّ المبحوث عنه ههنا، وهو مفاد الحوقلة وكثیر من الآیات الكریمة والروایات الشریفة، فجزاه الله عنّا خیر جزاء المعلّمین.
وجدیر بالذكر أنّ إطلاق المعدّ على غیره سبحانه من الفواعل یكون باصطلاح خاصّ غیر ما مرّ، وذلك أنّ له اصطلاحات ثلاثة:
الاوّل: ما یقرّب المادّة إلى تأثیر الفاعل ویهیّئها له، وهو ما مرّ.
الثانی: ما یقتضی التغیّر بوجه، فیشمل الفاعل الطبیعیّ دون المجرّد.
الثالث: ما لا یفیض الوجود استقلالاً فیشمل ما سوى الله تعالى من العلل، وهو المراد به ههنا.
قد مرّت الإشارة إلى ما فی عدّ المادّة والصورة علّتین من النظر، وسیأتی بیانه.
هذا الكلام لا یوافق ما مرّ منه فی الفصل الثانی من المرحلة الرابعة أنّ الإمكان
بالقیاس لا یتحقّق بین موجودین مطلقاً، وقد أشرنا إلى المناقشة فیه، فراجع الرقم (61).
اعلم أنّ الشیخ وصف البحث عن العلّة الغائیّة بأفضل أجزاء الحكمة،(1) وتبعه على ذلك تلمیذه فی التحصیل(2) وصدر المتألّهین فی الأسفار.(3) وبالرغم من بذل جهود وافرة لحلّ مسائلها فقد بقیتْ لها زوایا خفیّة تستدعی جهوداً اُخرى، ولعلّ المولى تعالى یوفّقنا لإلقاء ضوء على بعض تلك الزوایا، وهو الولیّ الحمید. وبهذا الصدد ینبغی تقدیم اُمور:
الامر الاوّل فی بیان حقیقة الغایة والعلّة الغائیّة. الغایة فی اللغة المدىٰ والمنتهىٰ، ویستعمل بمعنى الفائدة المقصودة من الفعل، بمناسبة انتهاء الفعل إلیها. ویستعمل فی الاصطلاح بمعنى نهایة الحركة، وبمعنى ما یفعل الفاعل فعلَه لأجله، وربما یحصل الخلط بین المعنیین.(4)
ومن الواضح أنّ تحقُّق الغایة فی الخارج مترتّب على الفعل ومتأخّر عنه، ولا یعقل تأثیرها فی وجود الفعل المتقدّم علیها، بل بالحقیقة یكون الفعل والحركة علّة معدّة لحصولها. فالغایة الخارجیّة لا علّیة لها بالنسبة إلى الفعل، وإنّما العلّیة لوجودها العلمیّ المتقدّم على الفعل، وربما نسبوا التأثیر إلى مهیّتها التی توجد قبل وجودها
1. راجع: آخر الفصل الأخیر من المقالة السادسة من إلهیّات الشفاء.
2. راجع: التحصیل: ص549.
3. راجع: الأسفار: ج2، ص270.
4. راجع: المطارحات: ص431.
الخارجیّ بالوجود الذهنیّ، وهو یوافق القول بأصالة المهیّة وإن تفوّه به بعض القائلین بأصالة الوجود أیضاً. بل الحقُّ أنّ وجودها العلمیّ أیضاً لیس علّة مؤثّرة فی تحقُّق الفعل إلاّ بمعنى الشرط، وإنّما المقتضی هو الحبّ، وما یترتّب علیه من الإرادة (فی مقابل الكراهة) والشوق والطلب والقصد وما یشابهها من المعانی التی تُعَدّ من المبادئ النفسیّة لأفعال ذوی النفوس، وأمّا نفس الحبّ فیوجد فی المجرّدات التامّة أیضاً. وإنّما ینسب العلّیة إلى الغایة لكونها متعلّق الحبّ والعلم، فتبصّر.
الامر الثانی فی نبذ من أحكام الغایة بالمعنیین. إنّ الفعل إنّما یكون ذا غایة بمعنى نهایة الحركة إذا كان أمراً ممتدّاً متدرّج الوجود، وأمّا الأمر المجرّد الذی لا تعلّق له بالمادّة فلا یُعقل له غایة بمعنى نهایة الحركة وطَرَف الامتداد. وأمّا الحركة والأمر المتدرّج الوجود فغایتها هی طَرَف امتدادها، وهو أمر عدمیّ. بمنزلة النقطة من الخّط وسیأتی أنّ الحركة بما هی لا تقتضی وجوداً ثابتاً وراءها، وإذا ترتّب على الحركة وجود ثابت فهو یقارن غایة الحركة بوجه، فیكون غایة بالعرض، فغایة الحركة بالذات هی نقطة انتهائها.
وأمّا الغایة بمعنى الفائدة المقصودة من الفعل والتی لأجلها یفعل الفاعل فعله فتختصّ بالفاعل ذی الشعور، وربّما تتّحد بحسب الوجود الخارجیّ مع غایة الحركة وإن اختلفت الحیثیّتان، كما إذا حصل شوق بمجرّد تخیُّل الوصول إلى غایة الحركة فبعثَ الفاعلَ نحوها؛ وقد تكون أمراً مقارناً لها كلقاء الصدیق المقارن للوصول إلى مكان خاصّ.
ثمّ إنّ الغایة بهذا المعنى قد تكون مطلوبة لنفسها بحسب قصد الفاعل فتكون غایةً أخیرة له، وقد تكون مطلوبة لأجل التوصّل بها إلى أمر آخر فتكون غایة متوسّطة، كما إذا كان غایة السفر الوصولَ إلى معهد علمیّ وكان ذلك وسیلة إلى التعلّم، وكان التعلّم مقصوداً لأجل العمل، والعمل لأجل التقرّب إلى الله تعالى. لكن
یمكن أن یتعلّق قصد الفاعل بنفس التعلّم بالأصالة من دون أن یكون ذریعة إلى العمل، فیكون هو الغایة القصوى بالنسبة إلیه، فتفطّن.
وكما یمكن أن تكون لفعلٍ واحدٍ غایاتٌ مترتّبة طولاً كذلك یمكن أن تكون لفعلٍ واحدٍ غایاتٌ متعدّدة عرْضاً بحیث یكون كلّ واحدة منها جزءَ الغایة ولولا بعضها لم یصدر ذلك الفعل، أو یكون كلّ واحدة منها غایة مستقلّة. ولا یمتنع اجتماع الغایات المستقلّة بخلاف الفواعل المستقلّة. وذلك أنّ الفاعل إذا كان له مقصودات متعدّدة وعَلِم أنّ جمیعها تحصل بفعل واحد صحّ اعتبار الجمیع عللاً غائیّة له بمعنى ما لأجله، وأمّا الغایة بمعنى منتهى الحركة فلا تتعدّد فی الحركة الواحدة.
الامرالثالث فی بیان وجه الحاجة إلى العلّة الغائیّة. الفعل الاختیاریّ هو الّذی یصدر عن علم من الفاعل ورضىً منه، وهذان المبدءان یفترقان عن بعضهما فی النفوس المتعلّقة بالمادّة كما یفترقان فیها عن ذات الفاعل، وأمّا فی المجرّد التام فتتّحد الجمیع لمكان بساطة وجوده، كما أنّ صفات الواجب تبارك وتعالى عین ذاته المقدّسة.
ثمّ إنّ النفوس لمكان فقدانها للكمال الذی یترتّب على الفعل تشتاق إلیه، وفی الحقیقة یكون فعلها لأجل الاستعداد لنیل كمال جدید، وأمّا المجرّد التامّ فلیس فاقداً لأیّ كمال ممكن له، فلا یتصوّر له شوق إلى شیء، وإنّما له الحبّ فحسب. وقد أشرنا فی الأمر الأوّل إلى أنّ العلّة الغائیّة هی الحبّ المشترك بین جمیع الفواعل العلمیّة.
فتلخّص أنّ وجه الحاجة إلى العلّة الغائیّة هی قوام الفعل الاختیاریّ بها، وبعبارة اُخرى: فاعلیّة مثل هذه الفواعل تقتضی استناد أفعالها إلى العلم والرضى. إلاّ أنّهما قد یكونان زائدین على الذات كما فی النفوس، وقد یكونان عین الذات كما فی المجرّدات التامّة. فقد ظهر أنّ العلّة الغائیّة تختصّ بالفاعل العلمیّ، ولا معنى لتحقّقها فی ما هو فاقد للشعور.
إذا عرفت هذه الاُمور فاعلم أنّ الغایة بمعنى منتهى الحركة لا تمتّ إلى العلّة
الغائیّة بصلة إلاّ باعتبار اتّحادها أو تقارنها مع متعلّق العلم والحبّ فی الأفعال المتدرّجة، كما أشرنا إلیه فی الأمر الثانی.
ثمّ اعلم أنّه لا اختلاف بین الحكماء فی وجود العلّة الغائیّة للفعل الاختیاریّ فی الجملة، وإنّما الاختلاف فی ثبوتها للأفعال الطبیعیّة، ولبعض الأفعال الإرادیّة كالجزاف والعبث ولأفعال الواجب تبارك وتعالى. فالكلام یقع فی ثلاث مسائل:
المسألة الاُولى: فی العلّة الغائیّة للأفعال الطبیعیّة. إنّ وجود العلّة الغائیّة للفعل الطبیعیّ یتصوّر على وجوه:
أحدها: أن یُفرض للفاعل الطبیعیّ شعور وشوق، وهذا ما التزم به صدر المتألّهین فی مواضع من كتبه،(1) فذهب إلى أنّ للموجودات المادّیة مرتبةً من العلم والشوق. وهو ینافی ما ذهب إلیه من أنّ العلم نحو الوجود المجرّد، ویستلزم رجوع الفاعل الطبیعیّ إلى العلمیّ والإرادیّ، إلى غیر ذلك من الإشكالات.
ثانیها: أن یُفسّر الشوق والطلب والإرادة بالمیل الطبیعی لكلّ طبیعة إلى غایة خاصّة، كما ربما یظهر ممّا حكی عن المعلّم الأوّل، ویرجع إلى أنّ لحركة كلٍ من الطبائع جهةً خاصّةً تتعیّن باقتضاء من نفس الطبیعة. لكن تسمیة ذلك شوقاً أو نحوه لا یعدو حدّ المجاز، ولا یثبت به أمر حقیقیّ.
ثالثها: أن یُسند العلم والشوق إلى طبیعة العالَم، ویرد علیه ما یرد على الوجه السابق، مضافاً إلى منع وجود مثل هذه الطبیعة.
رابعها: أن تُسند المبادئ العلمیّة إلى المُثُل العقلیّة، وهو إنّما یتمّ على مذهب الأفلاطونیّین، مضافاً إلى أنّ ذلك یرجع إلى اثبات العلّة الغائیّة للمُثُل لا للطبائع.
خامسها: أن تُسند المبادئ العلمیّة إلى الفاعل المسخِّر، وینتهی إلى الواجب
1. راجع: الأسفار: ج2، ص273ـ278 و 232ـ246؛ وج7: ص148ـ168؛ وراجع: رسائل ابن سینا: ص379؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص522.
تبارك وتعالى. وهذا الوجه وإن كان حقّاً إلاّ أنّ مرجعه إلى اثبات العلّة الغائیّة للفاعل غیر الطبیعیّ، لكن یثبت به كسابقه أن للأفعال الطبیعیّة غایاتٍ مقصودةً فی الجملة، فلا یصحّ عدّها جزافیّة أو اتّفاقیّة.
وأمّا المنكرون للعلّة الغائیّة بالنسبة إلى الأفعال الطبیعیّة فقد احتجّوا بحجج ضعیفة ستأتی الإشارة إلیها فی المتن، واستنتجوا نفی العلّة الغائیة لها على الإطلاق ـ على ما حكی عنهم ـ.. والذی یصحّ التمسّك به هو عدم الشعور للفاعل الطبیعیّ، لكنّه ینتج نفی العلّة الغائیّة لنفس الطبیعة لا للفاعل المسخِّر، فافهم.
المسألة الثانیة: فی الجزاف والعبث ونحوهما. سیأتی التعرّض لهذه المسألة فی الفصل الآتی، ولا بأس بالإشارة إلى ملخّص البحث ههنا، فنقول: إن الأفعال الإرادیّة تصدر غالباً لأجل التوصّل بها إلى فائدة تترتّب علیها، لكنّ الفاعل المختار قد یفعل فعلاً بلا قصد إلى ترتّب فائدة علیه كحركات الصبیان وانتقال المریض من جانب إلى جانب آخر واللعب باللحیة وغیرها، فتوهّم بعضهم أنّ هذه الأفعال فاقدة للعلّة الغائیّة. وحاصل ما ذكروا فی دفع هذا التوهّم أنّ العلل الغائیّة أعمُّ ممّا یرتضیه العقل وتقتضیه الحكمة، وكذا أعمُّ ممّا یُلتفت إلیه ویُقصد تفصیلاً، فهذه الأفعال وإن كانت فاقدة للأغراض العقلیّة أو كانت غیر مسبوقة بالالتفات التفصیلیّ إلاّ أنّها لیست فاقدة للغایات مطلقاً، وفی جمیعها ما یوجب نوع التذاذ للفاعل.
المسألة الثالثة: فی العلّة الغائیّة لأفعال الله تعالى. قد عرفت أنّ العلّة الغائیّة لفعل الفاعل المختار فی الحقیقة هو حبّ الفاعل، فإذا ثبت أنّ للواجب تعالى حبّاً وابتهاجاً بذاته لذاته،(1) وأنّ حبّ الشیء یستلزم ذاتاً حبَّ لوازمه وآثاره، صحّ أن
1. راجع: الفصل الأخیر من المقالة الثامنة والفصل الرابع من المقالة التاسعة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: آخر النمط الثامن من شرح الإشارات؛ والتحصیل: ص577؛ والأسفار: ج2، ص263ـ264؛ والتلویحات: ص91؛ وحكمة الإشراق: ص136؛ والتعلیقات: ص72 و 157؛ والنجاة: ص246.
یُعتبر حبُّه تعالى لذاته بالأصالة ولآثاره بالتبع مقتضیاً لأفعاله، فصحّ إطلاق العلّة الغائیّة على حبّه الذی هو عین ذاته، ویلزم اتّحاد العلّة الفاعلیّة والعلّة الغائیّة فیه سبحانه، ویجری ذلك فی جمیع المجرّدات التامَّة. وأتباع المشّائین جعلوا علمه بنظام الخیر هو الغایة، وقد عرفت أنّ العلم بما أنّه علم لا یكون مقتضیاً للفعل، واتّحاد العلم بذاته سبحانه لا یوجب جعل حیثیّة العلم هو الغایة، وإلاّ فلیكن القدرة أو الحیاة غایة!
ومن الفلاسفة من أنكر العلّة الغائیّة لفعل الواجب تعالى كشیخ الإشراق(1) استناداً إلى أنّ العلّة الغائیة تختصّ بالفاعل المرید، وفعله تعالى أعلى من أن یكون بإرادة. وبعبارة اُخرى: إذا كان المراد بالغایة ما یتعلّق به قصد الفاعل أوّلا وبالأصالة، ویقصد الفعل ثانیاً وبتبعه، فهی تختصّ بالفاعل بالقصد، وهو سبحانه أجلّ من ذلك. والجواب أنّ الغایة ما یتعلّق به حبّ الفاعل وهو یستلزم الشوق والقصد فی بعض الموارد، فلیس الملاك هو القصد والإرادة العارضة بل الحبّ الذی هو أعمّ ممّا یكون عین ذات الفاعل أو أمراً عارضاً له.
ونسب إلى المعتزلة أنّ غایة أفعاله تعالى هی المصالح التی تترتّب علیها والفوائد التی تعود إلى المخلوقین، فهو تعالى یفعل أفعاله لأجل تلك المصالح، وهذا فی قبال ما نسب إلى الأشاعرة من إنكار الحكمة والمصلحة فی أفعاله سبحانه. وقد عرفت سابقا(2) أنّ المصلحة تنتزع من ارتباط الأشیاء بعضها ببعض، وأمّا الفعل المتعلّق بالكلّ وبالصادر الأوّل فلا یجری فیه ذلك. ثمّ إنّ المصلحة الخارجیّة تترتّب على الفعل ولیس لها علّیة كما عرفت فی الأمر الأوّل، فلابدّ من اعتبار العلم بالمصلحة علّة غائیّة، فیمكن إرجاع هذا القول إلى قول من یقول بأن
1. راجع: المطارحات: ص427429.
2. راجع: التعلیقة: الرقم (240).
العلم بنظام الخیر هو الغایة. كما یمكن أن یفسّر المصلحة بمطلق الخیر ویعتبر حبّه تعالى للخیر علّة غائیة لفعله، فیرجع إلى ما حقّقناه.
والحاصل أنّه إن كان المراد بالعلّة الغائیّة ما یكون زائداً على ذات الفاعل ـ سواء كـان ذلك علماً أو حبّاً أو شـوقاً أو إرادة ـ فهی منفیّة عن الواجب تعالى، وإن كان المراد بها ما یعمّ العلم والحبّ الذاتیّین فهی متحقّقة فی الواجب تعالى من غیر أن یستلزم نقصاً وحاجة.(1)
ركز الاُستاذ(قدسسره) فی بیانه هذا على تعریف الحركة المأثور عن المعلّم الأوّل كأصل موضوع، وهو خلاف ما التزم به فی سائر المباحث من تقدیم ما لا یتوقّف على المتأخّر، وأضاف إلیه أنّ الكمال الثانی مطلوب لنفسه والكمال الأوّل مطلوب لأجل الثانی. ویلاحظ علیه أن المطلوبیّة صفة ذات إضافة، ولا تعقل بدون المضاف، فإذا لم یصحّ اتّصاف الطرف بالطلب لم یصحّ اتّصاف الحركة وغایتها بالمطلوب، وقد أشرنا فی التعلیقة السابقة إلى أنّ الموجود الفاقد للشعور لا یتّصف بالطلب حقیقةً. فغایة ما یستفاد من هذا البیان أنّه إذا كان الكمالان مطلوبین كان الثانی هو المطلوب لنفسه. ومع ذلك فیمكن أن یناقش فیه بأنّ الشخص ربما یزعجه الجلوس فی مكان خاصّ، فیشتاق إلى الخروج عنه فیختار مكاناً آخر ویتحرّك إلیه، فبالنسبة إلى هذا الشخص تكون الحركة مطلوبة لنفسها، ویكون الوصول إلى غایة الحركة مطلوباً بالتبع، فلیتأمّل.
ثمّ إنّ تسمیة الحركة وغایتها كمالاً للمتحرّك إنّما هو باعتبار إمكانهما له، ومعناه أنّه أمر وجودیّ یمكن أن یكون الشیء واجداً له ـ ولو كان ذلك بقیمة فقد ما
1. راجع: الأسفار: ج6، ص358ـ368؛ والقبسات: ص333ـ342.
یجده بالفعل ـ ، وهذا ما یُشعر به قید الحیثیّة المأخوذ فی التعریف، ولا یستلزم ذلك كونَ المتحرّك فی حال الحركة أو فی حال الوصول إلى الغایة أكملَ وجوداً منه فی حال سكونه، وسیأتی الكلام فیه.
لمّا استنتج من تعریف الحركة أنّ النسبة بینها وبین غایتها نسبة النقص إلى التمام، فرّع علیه أوّلاً أنّ هذه النسبة تقتضی نوعاً من الاتّحاد بینهما، وثانیاً أنّها تقتضی اتّحاداً بین المتحرّك والغایة، وثالثاً أنّها تقتضى اتّحاداً بین المحرّك والغایة، وأرسلها إرسال المسلّمات، وكأنّه أشار بالتفریع إلى أنّ نفس النسبة والارتباط تقتضی الاتّحاد، ولعلّه عطف على ما ذكره سابقا(1) من أنّ وحدة النسبة تقتضی اتّحاد طرفیها فی ظرف تحقّق النسبة. ویلاحظ علیه مضافاً إلى منع هذا الاقتضاء، أنّ ظرف تحقّق النسبة هو الذهن، ولا یجدی ذلك فی ما هو بصدده. وسیأتی تتّمة الكلام فی المرحلة اللاحقة.
قد عرفت أنّ نسبة الطلب والإرادة إلى الطبیعة الفاقدة للشعور مبنیٌّ على المسامحة والتجوّز، ولا یثبت به وجود العلّة الغائیّة لفعلها.
قد أشرنا سابقاً إلى أنّ الحركة بذاتها لا تقتضی وجوداً ثابتاً وراءها، وسیأتی تمام الكلام فی محلّه إن شاء الله تعالى.
1. راجع: الفصل الأوّل من المرحلة الثانیة فی المتن.
أمّا الغایة بمعنى منتهى الحركة فلا معنى لها فی المجرّدات، وأمّا الغایة بمعنى ما لأجله یصدر الفعل فلا تثبت بهذا البیان، فلا یتبیّن به وجود الغایة بأحد المعنیین لكلّ فعل.
وهذه الغایة التی لا توجد فی الطبائع هی العلّة الغائیّة.
المسامحة هی فی تسمیة الشرط فاعلاً، ولیس ذلك بغریب.
بل من المستحیل أیضاً أن یكون علّة غائیّة لعلّته التی هی الفعل، وإنّما هی غایة له بمعنى منتهى الحركة، فتفطّن.
غیر خفیّ أنّ الاستكمال إنّما یتمّ فی الفاعل المتعلّق بالمادّة، أمّا الفاعل المجرّد التامّ فلیس الفعل ولا غایته كمالاً ثانیاً له،ولا یستكمل بفعله، كیف وهو معطٍ لوجود معلوله، ولا معنى للاستكمال بما هو واجد له، ولیس له كمال ممكن لم یحصل له بعدُ.
لابدّ من تفسیر الإرادة ههنا بالمحبّة، لوضوح أنّ الإرادة بمعناها المصطلح لا تتعلّق بالنفس.
قد عرفت أنّ العلّة الغائیّة هی الحبّ، والعلم شرط لوجوده، فراجع الرقم (258).
قال فی المطارحات: «ویجب علیك أن تعتقد أنّ العلّة الغائیّة وإن كانت منفیّةً عن واجب الوجود لیس بمنفیّ عنه أنّه غایة جمیع الموجودات، وأنّ جمیعها بحسب ما لها من الكمالات طالبة لكمالاتها ومتشبّهة ـ فی تحصیل ذلك الكمال بحسب ما یتصوّر فی حقّها ـ به من جهة ما یكون على كمال لائق بها، وانّ لكلّ نوع من الأنواع المفارقة والأثیریّة والعنصریّة كمالاً مّا وعشقاً إلى ذلك الكمال».(1)
وقال فی الأسفار: «وأمّا الغایة بمعنى كون علمه بنظام الخیر الذی هو عین ذاته داعیاً له إلى إفادة الخیر بالوجه الذی ذكرناه أوّلاً فهو ممّا ساق إلیه الفحص والبرهان ـ إلى أن قال ـ كما أنّ المبدء الأوّل غایة الأشیاء بالمعنى المذكور فهو غایة بمعنى أنّ جمیع الأشیاء طالبة لكمالاتها ومتشبّهة به فی تحصیل ذلك الكمال بحسب ما یتصوّر فی حقّها».(2)
والحاصل أنّ إطلاق الغایة على الله تعالى یكون بمعنیین: أحدهما أنّ ذاته من حیث كونها عین العلم بنظام الخیر علّة غائیّة لإیجاد الأشیاء ـ ولك أن تقول: من حیث كونها عین الحبّ لذاته ولآثار ذاته من جهة خیریّتها ـ.. وثانیهما من حیث إنّ ذاته محبوبة لجمیع الموجودات، فهی علّة غائیة لأفعال جمیع الفواعل.
وإثبات المعنى الأخیر كما ترى یتوقّف على إثبات الحبّ والشعور لجمیع الموجودات حتّى الكائنات المادّیة، ولا سبیل لعقولنا إلى إثبات ذلك وإن ادّعاه أهل
1. راجع: المطارحات: ص433.
2. راجع: الأسفار: ج2، ص273؛ وراجع: القبسات: ص462466؛ والتعلیقات: ص62.
الكشف وتؤیّده ظواهر كثیر من الآیات الكریمة كقوله عزّ من قائل: «وَإِنْ مِنْ شَیْءٍ إِلاّ یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِیحَهُمْ»،(1) وقوله:«كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِیحَه»،(2) وقوله: «وَإِنَّ مِنْها لَما یَهْبِطُ مِنْ خَشْیَةِ اللّه».(3) ویمكن أن یكون إسناد العلم والمحبّة والخشیة إلیها باعتبار صورها الملكوتیّة التی تظهر فی القیامة، والله العالم.
وكیف كان فقد حاول سیّدنا الاُستاذ(قدسسره) إثبات كونه تعالى غایة الغایات بالمعنى الثانی من طریق أنّ كلَّ غایة فإنّما یتعلّق بها الطلب والإرادة لما فیها من الجهة المطلوبة أی جهة الخیر، وإذا كانت هذه الجهة الراجعة إلى الوجود غیر ذاتیّة لها فلابدّ أن تنتهی إلى ما هو مطلوب وخیر بالذات. وحیث إنّ ذاته المقدّسة هی الخیر المحض، وكلّ ما هو خیر فإنّما استفاد خیریّته منه سبحانه فذاته هی المطلوبة بالذات وغایة الغایات.
فإن كان المراد بهذا البیان وجود الطلب والمحبّة فی جمیع الموجودات حقیقةً فسبیله سبیل بیان الشیخ الإشراقیّ وصدر المتألّهین؛ وإن كان المراد أنّ كلّ ما له علّة غائیّة فی فعله ـ وینحصر ذلك فی ذوی الشعور ـ فلابدّ أن تنتهی غایته إلى الله سبحانه، فله وجهان: أحدهما أنّه لابدّ أن یتعلّق حبّه أوّلاً بذاته سبحانه وعلى ضوء ذلك یتعلّق ثانیاً بسائر الأشیاء بدعوى أنّ ما لا یكون بخیر ذاتاً لا یكون مطلوباً بالأصالة، فهو ممنوع، فقد عرفت أنّ الغایات المتوسّطة قد تكون أخیرة بالنسبة إلى من یقصدها بالأصالة. وثانیهما أنّ الحبّ إنّما یتعلّق بشیء من جهة أنّه خیر، والفاعل إنّما یقصد شیئاً بالذات لما یزعم أنّه خیر بالذات، فالمقصود بالذات هو الخیر بالذات فی نظر الفاعل، فكأنّ من یحبّ غیره سبحانه یخطئ فی التطبیق،
1. سورة الإسراء، الآیة 44.
2. سورة النور، الآیة 41.
3. سورة البقرة، الآیة 74.
فیزعم ما لیس بخیر ذاتیّ خیراً ذاتیّاً فیقصده بالأصالة، ولو كان عارفاً بأنـّه لیس بخیر ذاتاً لم یتعلّق به حبّه بالأصالة، ففی الحقیقة یكون المحبوب بالأصالة هو الله تبارك وتعالى وإن لم یشعر به، فهذا وجه وجیه، رزقنا الله تعالى تلك المعرفة والمحبّة بحقّ من یحبّهم ویحبّونه.
ثمّ إنّه ربما یطلق الغایة والمنتهى على الله تعالى باعتبار أنّه سبحانه هو الآخر الباقی بعد فناء كلّ شیء ورجوع الجمیع إلیه، كمال قال تعالى: «إِنَّ إِلی رَبِّكَ الرُّجْعی»،(1) وقال: «وَأَنَّ إِلی رَبِّكَ الْمُنْتَهی»،(2) وقال: «إِلی رَبِّكَ مُنْتَهاها»(3) وهذا المعنى أعمّ من منتهى الحركة، فإنّ ذلك یختصّ بالمتحرّكات والمتدرّجات، وأمّا هذا المعنى فیشمل المجرّدات باعتبار انتهاء حدودها الوجودیّة وإحاطة وجوده تبارك وتعالى علیها من جمیع الجهات والحیثیّات، فیكون هو الأوّل من جهة البدء وهو الآخر من جهة العود، وذلك فی كلّ شیء بحسبه.(4)
كذا فی النسخة، والصحیح «غیر الإرادة» بحذف یاء النسبة، أو «غیر ارادیّة» بحذف اللام، ویؤیّد الأوّل أنّ تثلیث المبادئ یشعر بكون الإرادة من سنخ الشوق، وهو لا یوافق ما صرّح به سابقا(5) من تغایرهما. وكیف كان فوصف الإرادیّة قد یكون
1. سورة العلق، الآیة 8.
2. سورة النجم، الآیة 42.
3. سورة النازعات، الآیة 44.
4. راجع: القبسات: ص463466.
5. راجع: الفصل الخامس عشر من المرحلة السادسة من المتن.
باعتبار أنّ الفعل مستند إلى إرادة الفاعل وقصده، فالفعل الجارحیّ المستند إلى الإنسان بما أنّه ذو نفس تتّحد فیها القوى المختلفة یكون إرادیّاً باعتبار أنّ من مبادئه الإرادة، وأمّا باعتبار استناده إلى القوّة العاملة التی تُعَدّ فاعلاً مباشراً له فلا تكون إرادیّة، لأنّ هذه القوّة فاقدة للشعور والقصد. وأمّا الشوق فلیس مستنداً إلى إرادة الإنسان، والأشبه أنّه كیفیّة انفعالیة تحصل فی النفس، وإن صحّ استناده إلى قوّة فاعلیّة فی النفس فصدوره عن تلك القوّة أیضاً لیس إرادیّاً، نعم ربما یكون الشوق إرادیّاً باعتبار تأثیر الإرادة فی مقدّمات حصوله. وأمّا العلم فربما یحصل للإنسان بلا إرادة منه مطلقاً، لكن قد یكون حصوله بسبب التفكّر الإرادیّ، فحینئذ یصحّ عدّه إرادیّاً باعتبار سببه الإرادیّ. وأمّا نفس الإرادة فإنّها وإن لم تكن إرادیّة بمعنى استنادها إلى إرادة اُخرى لكنّها اختیاریّة لصدورها عن رضىً كامن فی النفس، وكذلك الإذعان والتصدیق. هذا بناءً على ما هو الحقّ عندنا من كون الإرادة فعلاً للنفس، وأمّا بناءً على كونها من قبیل الشوق فسبیلها سبیله.
والحاصل أنّ إطلاق القول بأنّ هذه المبادئ كلّها غیر إرادیّة لا یستقیم إلاّ أن یكون المراد أنّ صدور كلّ واحد من هذه الاُمور من مبدئه القریب غیر منوط بسبق إرادة علیه، فتبصّر.
هذا الكلام مشعر بأنّ الفاعل الطبیعیّ لا غایة له بمعنى العلّة الغائیّة، وأمّا عدّ منتهى الحركة غایةً للقوّة العلمیّة والشوقیّة فباعتبار انطباق متعلّق العلم والشوق علیه، فالعلّة الغائیّة للفعل بالحقیقة هی حبّ الفاعل لكماله الذی لا ینفكّ عن العلم به، ویستتبع ذلك شوقاً إلى ذلك الكمال الحقیقیّ أو المظنون إذا كان الفاعل فاقداً له، كما فی ذوی النفوس المتعلّة بالمادّة.
التسمیة باعتبار فقد التعقّل فی من كان من شأنه ذلك. قال فی الشفاء: «فإن كان التخیّل، وحده هو المبدء للشوق سمّی ذلك الفعل جزافاً ولم یسمَّ عبثاً».(1) وعن الفارابیّ: «إنّ غایة الحركة إمّا أن یكون بحسب العقل أو بحسب التخیّل، فإن كان بحسب العقل كان الواجب المقصود یسمَّى الغایةَ بالحقیقة، وإن كان بحسب التخیّل كان إمّا مطابقاً لما یتخیّل فیسمَّى عبثاً، وإمّا مخالفاً لِما یتخیّل فیسمَّى جزافاً».(2) والأمر فی الاصطلاح سهل.
انقطاع الحركة لا یوجب انتفاء غایتها لأنّ نقطة انقطاعها هی غایتها، وإنّما یسمّى الفعل باطلاً باعتبار عدم وصوله إلى غایة القوّة الشوقیّة.(3)
عدّ العلم علّةً للشوق إنّما یصحّ باعتبار توقّفه على العلم، ویؤیّده عدّهم القوّة الشوقیّة مبدءاً برأسها.
اعلم أنّه قد یراد بالاتّفاق نفی السبب الفاعلیّ لأمر، ویلزمه نفی السبب الغائیّ أیضاً؛
1. راجع: الفصل الخامس من المقالة السادسة من إلهیّات الشفاء.
2. راجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص539540.
3. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص536.
وقد یراد به نفی إیجاب الفاعل، فیكون حصول المعلول عنه اتّفاقیّاً من غیر ضرورة؛ وقد یراد به نفی السبب الغائیّ عمّن یكون من شأنه أن یكون له غایة مقصودة مع قبول السبب الفاعلیّ وإیجابه للفعل؛ وقد یراد به أمر حقیقیّ هو سبب بعض الحوادث، وقد حكى الشیخ عن بعض عبدة الأوثان أنّهم اتّخذوا صنماً باسم البخت للعبادة!(1)
ثمّ إنّ الشیخ قام بتحلیل لمفهوم الاتّفاق فی كلام طویل أخذ عنه مَن بعدَه،(2) وحاصله أنّ مفهوم الاتّفاق فی لغتنا هو وقوع أمر أقلّیّ الوقوع أو متساوی الوقوع واللاوقوع ولو بحسب اعتقاد القائل، وأنّ السبب الفاعلیّ یتّصف بالاتّفاقیّ إذا كان تأثیره غیر دائمیّ ولا أكثریّ، كما یتّصف به الغایة إذا كانت كذلك. ثمّ قام بتعلیل لعدم صدور الفعل عن الفاعل فی موارد نادرة، واستنتج أنّ فعله معارَض بتأثیر فاعل آخر، فنبسة الفعل الأكثریّ إلیه لیس نسبةَ المعلول إلى علّته التامّة، لأنّ من أجزائها عدمَ المعارِض. وأمّا الفعل النادر فلیس مستنداً إلى ما یُظنّ أنّه فاعل أقلّیّ التأثیر، بل فاعله الحقیقیّ أمر آخَرُ یكون الفعل بالنسبة إلیه دائمیّاً أو أكثریّاً، وكذلك الفاعل المتساوی التأثیر واللاتأثیر، فنسبة الفعل إلى الفاعل النادر التأثیر أو متساوی التأثیر واللاتأثیر نسبةٌ إلى سبب بالعَرض، كما أنّ الغایة النادرة أو المساویة كذلك تكون غایةً بالعَرض.
فتحصّل أنّ الاتّفاق إنّما یصدق بمقایسة الفعل إلى سبب فاعلیّ أو غائیّ بالعَرض من حیث كونه أقلّیّاً أو متساویاً، فلیس الاتّفاق أمراً عینیّاً یكون علّةً لأمر أو معلوله، وإنّما یصحّ قبول وقوع الاتّفاق على هذا الوجه الذی قوامه بالمقایسة. ولعلّ من أنكر وقوع الاتّفاق مطلقاً ـ كما حكى الشیخ عن بعضهم(3) ـ لم ینكره بهذا المعنى.
1. راجع: الفصل الثالث عشر من المقالة الاولى من طبیعیّات الشفاء؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص531.
2. راجع: التحصیل: ص535؛ والأسفار: ج2، ص255؛ والمقاومات، ص177؛ والمطارحات: ص383ـ384.
3. راجع: الفصل الثالث عشر والرابع عشر من المقالة الاُولى من طبیعیّات الشفاء.
نُسب القول بالاتّفاق إجمالاً إلى ذیمقراطیس وأتباعه وإلى أنباذقلس وشیعته، أمّا الأوّل فقد نقل عنه القول بأنّ العالم تكوَّن من أجرام صغار متحرّكة اصطدم بعضها ببعض فحصلت من اجتماعها الأرض والسماوات، فذاك الاجتماع والتركّب لیس معلولاً لسبب خاصّ ولا لغایة مقصودة، لكنّ الاُمور الجزئیّة ـ على حدّ التعبیر المأثور عنه ـ من مثل الحیوانات والنباتات لم تتكوّن بالاتّفاق، ولكلّ واحد منها طبیعةٌ مؤثّرة فی أفعالها الخاصّة بها.
وتنقدح حول ما نقل عنه سؤالات: أحدها أنّ نفس الذرّات هل هی معلولة لفاعل إلهیّ أو لا؟ وثانیها أنّها هل وُجدت لغایة أو لا؟ وثالثها أنّ حركاتها التی أدّت إلى اجتماعها هل كانت باقتضاء من ذاتها أو لا؟ ورابعها أنّ طبائع المركّبات والموالید هل لها فاعل إلهیّ أو لا؟ وخامسها أنّها هل وجُدت لغایة أو لا؟ وسادسها أنّها هل تكون لأفاعیلها علل غائیّة أو لا؟ ولسنا على یقین ممّا كان یجیب به عن هذه السؤالات، وإنّما حاصل ما نقل عنه أنّ تكوُّن الأجسام الأوّلیّة كان اتّفاقیّاً وأمّا آثار الطبائع فلیست اتّفاقیّة، فهو قائل بسببیّتها الفاعلیّة لأفعالها المنسوبة إلیها.
وكیف كان فلم تُنْقَل عنه حجّة على ما ذهب إلیه من الاتّفاق، وقد تصدّى الشیخ لإبطال رأیه بأنّ الاتّفاق لیس إلاّ غایةً عَرَضیّةً لأمر طبیعیّ أو إرادیّ، بل أو قسریّ ـ والقسریّ إنّما ینتهی إلى طبیعة أو إرادة، فإنّه لا یستمرّ قسر على قسر إلى غیر النهایة ـ فتكون الطبیعة أو الإرادة فی ذاتهما أقدم من الاتّفاق، فیكون السبب الأوّل للعالم طبیعةً أو إرادة. ثمّ تعجّب منه كیف جعل الأمر الدائم ببخت أو اتّفاق، وجعل الاُمور الجزئیّة لغایة!(1)
فكلامه هذا كما ترى مركّز على إثبات سبق التأثیر الطبیعیّ أو الإرادیّ على
1. راجع: نفس المصدر.
الاتّفاق، ولعلّه استفاد من كلامه أنّ جوابه على السؤالات الاُولى كان بالنفی، وإلاّ فیمكن أن یكون مراده نفی السبب الذاتیّ لاجتماع الذّرات بما هو اجتماع، فیكون ذلك نظیر تلاقی جسمین أو شخصین إذا كان أحدهما أو كلاهما متحرّكاً، حیث لا یكون للتلاقی سبب إلاّ تحرّكهما أو تحرّك أحدهما على وجه خاصّ. وبعبارة اُخرى: إنّ التلاقی كالاجتماع یكون أمراً انتزاعیّاً فلیس له سبب خاصّ وراء السبب الذی یكون لمنشأ انتزاعه. بل یمكن أن یؤوّل كلامه بما لا ینافی وجود الغایة للفاعل الإلهیّ المسخّر بالنسبة إلى تكوّن الأجسام أیضاً. نعم، كلامه لا یساعد القول بكون الاجتماع غایة مقصودة لطبیعة الذّرات، ولیس هناك ما یبطله، فتدبّر جیّداً.
وأمّا السؤال عن الفرق بین الأجسام الأوّلیّة والحیوان والنبات، فكان یمكنه أن یجیب عنه بأنّ تلك الأجسام لیس لها هویّة زائدة على الذرّات المجتمعة، فلیس یجب إسنادها إلى سبب فاعلیّ أو غائیّ زائد على ما كان للذرّات من السبب، بخلاف النبات والحیوان ممّا یكون له صورة زائدة على الموادّ المجتمعة فیجب نسبة صورها إلى سبب غیر ما كان لموادّها من النسبة، كما أنّ أفعالها تستند إلى صورها الزائدة على موادّها.
وأمّا أنباذقلس وشیعته فقد نَسب الشیخ إلیهم القولَ بأنّ الكائنات تكوّنت عن المبادئ الاُسطقسیّة(1) بالاتّفاق (دون نفس الاُسطقسات) فما اتّفق أن كان هیئة اجتماعه على نمط یصلح للبقاء والنسل بقی ونَسَل، وما اتّفق أن لم یكن كذلك لم ینسل.(2) ثمّ فسّر كلامهم بأنّهم خلطوا الاتّفاق بالضرورة؛ فجعلوا حصول المادّة بالاتّفاق، وتصوُّرَها بصورها بالضرورة لا لغایة.(3)
1. الاُسطقس لفظة یونانیة معناها الأبسط، والمراد به آخر ما ینحلّ إلیه المركّب، وباعتبار أنّه یبتدئ منه التركیب یسمَّى عنصراً.
2. راجع: الفصل الثالث عشر والرابع عشر من المقالة الاُولى من طبیعیّات الشفاء.
3. راجع: الفصل الرابع عشر من المقالة الاُولى من نفس المصدر.
وحول كلام هؤلاء أیضاً مواضع للسؤال نظیر ما ذكرنا حول كلام ذیمقراطیس. وجدیر بالذكر أنّ الشیخ الإشراقیَّ بمقتضى حسن ظنّه بالفلاسفة الأقدمین فسّر قولهم بالاتّفاق بأنّ مرادهم أنّ الاُمور اللاحقة بالمهیّات لیست لذاتها بل لغیرها، ووَصفِ أكثر ما نسب إلى أنباذقلس بالافتراء والاختلاق.(1)
وكیف كان فلم یتحقّق ممّن یعتدّ بقوله من الفلاسفة القولُ بالاتّفاق بمعنى نفی السبب الفاعلیّ، أو نفی الإیجاب والضرورة، أو نفی السبب الغائیّ مطلقاً حتّى ممّن شأنه أن یكون له ذلك، والمتیقّن ممّا نقل عن ذیمقراطیس نفی السبب الفاعلیّ لحصول الهیئات الاجتماعیّة للذرّات، ونفی السبب الغائیّ لحركات الذرّات أنفسها، كما أنّ المتیقّن ممّا نقل عن أنباذقلس نفی السبب الغائیّ عن أفعال الطبائع فی الجملة. حتّى أنّ المادّیّین من فلاسفة المغرب لا ینكرون السبب الفاعلیّ المادّیّ، وإنّما ینكرون السبب الإلهیّ والسبب الغائی للعالم، كما ینكرون السبب الغائیَّ فی غیر أفعال ذوی الشعور. نعم، نُقل عن بعض متأخّریهم التشكّك فی أصل العلّیة كقانون كلّیّ للوجود، وفی كون العلّة موجبة لحصول المعلول، ولیس ذلك إلاّ من سخافة آرائهم فی الفلسفة، بل هم المنكرون لأساسها.
قد عرفت أنّ حاصل ما نقل عن أنباذقلس ومَن تبعَه هو نفی الغایة عن الكائنات، وقد حكی عنهم عدّة حجج ذكر أهمَّها فی المتن.(2) لكن یحتمل فی معنى نفی الغایة عنها وجوه:
1. راجع: المقاومات: ص178؛ والمطارحات: ص432.
2. راجع: الفصل الرابع عشر من المقالة الاُولى من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج2، ص254.
أحدها نفی السبب الغائیّ عنها مطلقاً حتّى لمبادئها العالیة وللواجب تبارك وتعالى، وهو مردود بعد إثبات الحكمة له تعالى وأنّ جمیع أفعاله سواء كانت بالمباشرة أو بالتسبیب والتسخیر مؤدّیة إلى غایات صالحة لنظام العالم، وأنّ ذلك النظام یكون على الوجه الأحسن والأتقن، وأنّ تحقُّقه مطلوب له سبحانه على وجه یلیق بساحة قدسه جلّ وعزّ.
ثانیها نفی العلّة الغائیة عن نفس الكائنات بالمعنى الذی یستلزم الشعور والقصد. وهذا الوجه لا سبیل لنا إلى إبطاله وإن فُرضت جمیع حججهم مخدوشة، لأنّ المفروض أنّ الفاعل الطبیعیّ لا قصد له ولا شعور، فكیف یمكن إثبات ما یحتاج إلیهما له؟ ولعلّ مرادهم بنفی الرویّة عن الطبیعة (فی الحجّة الاُولى) ما یعمّ نفی الشعور أیضاً، فلا یرد علیها ما ذكروه من الجواب. وأمّا إثبات الجهة لحركات الطبائع وتسمیتها میلاً أو قصداً طبیعیّاً فلا یجدی كما عرفت سابقاً،(1) اللّهمّ إلاّ أن یثبت لها نوع من الشعور والقصد حقیقةً، فتدخل بذلك فی الفواعل الإرادیّة.
ثالثها نفی ضرورة ترتّب الغایة ـ بمعنى منتهى الحركة ـ على أفعال الطبائع، فی مقابل من یثبت لها جهة خاصّة بحیث تؤدّی حركاتها إلى غایات معیّنة، فلا ینبت الشعیر البُرَّ ولا الزیتون الدّر. وهذا الوجه أیضاً مردود ویرجع فی الحقیقة إلى نفی الضرورة عن الغایات التی هی معلولات للأفعال ونفی الإیجاب عن عللها، مع أنّ مورد هذه العلاقة الضروریّة ممّا یثبت بالتجربة كما أن جمیع الأسباب المادّیة تعرف كذلك، ولا ینافی ضرورتها اشتراط تأثیرها بشروط خاصّة. ولهذا قال سیّدنا الاُستاذ(قدسسره) فی آخر كلامه: «لو جاز لنا أن نشكَّ فی ارتباط هذه الغایات بفواعلها لجاز لنا أن نشكَّ فی ارتباط الفعل بالفاعل»، فافهم.
1. راجع: الرقم (258).
ویسمّى المادّیة بالعنصریّة أیضاً.(1) ولمّا كانت لفظتا «المادیّة» و«الصوریّة» منسوبتین إلى المادّة والصورة ابتدأ بالإشارة إلى مفهومهما وإثبات وجودهما، وقد مرّ بیان ذلك فى المرحلة السادسة، ثمّ أشار إلى وجه علّیتهما، وهو كون كلّ واحدة منهما جزءاً للمركّب، فوجود المركب یتوقّف علیهما، وكلُّ ما یتوقّف علیه شیء فهو علّة لذلك الشیء. لكن وجودهما فی ضمن الكلّ لیس وجوداً على حدة حتّى یعتبرا شیئین مغایرین للكلّ ویلاحظ توقُّف الكلّ علیهما وتأثیرهما فی وجوده،(2) إلاّ أن یتوسّع فی مفهوم التوقّف، والأمر فی الاصطلاح سهل.
ثمّ إنّ المركّب یتصوّر على وجوه:
أحدها أن یتركّب أمر بالقوّة مع ما بالفعل كتركّب الجسم من الهیولى والصورة على رأی المشّائین ومن حذا حذوهم، وهو رهن إثبات الهیولى الاُولى كقوّة جوهریّة محضة لا فعلیّة لها فی ذاتها، وقد عرفت ما فیه من الكلام، فراجع الرقم (132 ـ 137).
ثانیها أن یتركّب أمران بالفعل یكون وجود أحدهما للآخر، بحیث لا یمكن أن یوجد بدونه، وبعبارة اُخرى یكون وجود أحدهما رابطیّاً بالنسبة إلى الآخر، فإن كان أحدهما عَرَضاً رجع الأمر إلى اتّحاد الجوهر بالعرض فی الوجود العینىّ، وإن كان كلاهما جوهرین رجع إلى اتّحاد الفعلیّات المتراكبة، وهو مقتضى إنكار الهیولى التی لا فعلیّة لها.
1. راجع: الفصل الرابع من المقالة السادسة من إلهیّات الشفاء؛ والمقاومات: ص176؛ والمطارحات: ص378؛ والأسفار: ج2، ص229؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص517.
2. راجع: القبسات: ص5456.
والإشكال باستلزام ذلك كون شیء واحد شیئین لإن شیئیّة الشیء بصورته وفعلیّته، یندفع، بأنّ الاتّحاد غیر الوحدة. والحقّ أنّ اجتماع الفعلیّتین أو أكثر إنّما یمتنع فی فرضین: أحدهما أن یفرض صیرورتهما واحداً بالحقیقة، وثانیهما أن تكون الفعلیّتان متزاحمتین متدافعتین، وذلك فی الفعلیّات العرْضیة، وأمّا الفعلیّات المتراكبة فلا تزاحم ولا تدافع بینها كما لا تدافع بین العناصر والنبات، وبین البدن والنفس. ولا دلیل على انحصار الاتّحاد فی ما یكون أحدهما قوّة محضة، وأن ضنّوا عن تسمیة تراكب الفعلیّات اتّحاداً فلا نشاحّ فیها فلیسّموه انضماماً.
ثالثها أن تجتمع اُمور موجودة بالفعل من غیر حاجة لبعضها إلى بعض ثمّ یحصل فیها أمر آخر به هویّة ذلك الشیء المركّب، كما تحصل صورة النبات فی موادّ متكثّرة مجتمعة، وتكون وحدتها باعتبار وحدة الصورة المتعلّة بها.
رابعها أن تجتمع اُمور موجودة بالفعل كذلك وتتركّب بالتفاعل من غیر أن یحصل فیها صورة اُخرى كما ربما یقال عن المركّبات الكیمیاویّة، ولا وجه لتسمیتها واحداً بالحقیقة، وإن جاز وصفها بالاتّحاد بوجه فی مقابل المختلطَینِ اللَّذین لا تفاعل بینهما.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ تركّب الشیء من العلّة المادیّة والعلّة الصوریّة لا یتصوّر فی الفرض الأخیر؛ وأمّا الفرض الأوّل فیختصّ بمن یثبت الهیولى كقوّة محضة؛ وأمّا الفرض الثانی فیصحّ فیه عدّ الموادّ المجتمعة عللاً مادّیّة والصورة الحاصلة فیها علّة صوریّة للمجموع؛ وأمّا الفرض الثالث فیصحّ فیه عدّ الجوهر المستقلّ علّة مادیّة والجوهر الحالّ فیه علّة صوریّة. وأمّا إذا كان هناك سلسلة من الصور المتراكبة فالجوهر المحلّ علّة مادیّة فقط، والصورة الأخیرة علّة صوریّة فقط، وأمّا المتوسّطات فكلُّ واحدة منها صورة لما دونه، والمجموع منها ومن مادّتها مادّة لما فوقه. وقد ظهر بذلك أنّ المادّة معنى ذو إضافة كالصورة بالمعنى المبحوث عنه ههنا.
المراد بالطبیعیّین مطلق المادّیّین المنكرین لماوراء الطبیعة لا خصوص القائلین بالطبائع، كما أنّ مرادهم بالعلل المادّیة ما یشمل الفواعل الطبیعیّة لا خصوص الهیولى الاُولى، فكیف یُعقل حصرهم العلل فی ما لا یقولون بوجوده؟! فهذا الحصر یمكن أن یراد به أمران: أحدهما نفی الفاعل الإلهیّ، وواضح أنّه لا ربط لهذا المعنى بهذا المبحث. وثانیهما إنكار الصور الجوهریّة التی یثبتها المشّاؤون ومن یجری مجراهم، فإنّهم لا یقولون بحدوث صور جوهریّة فی المركّبات، وإنّما یقولون بحدوث أعراض فیها كما یُحكىٰ عن الأقدمین، وكما هو مقتضى الأمثلة المأثورة عن أوائل المشّائین كصورة السریر ونحوها، وإن حمله المتأخّرون على المسامحة فی المثال. فیؤول معنى حصرهم العلل فی العلل المادّیة إلى أنّ حدوث أمر مادّی لا یعنی سوى حدوث أعراض فی الموادّ بسبب تفاعل بعضها مع بعض، أو بسبب حركتها الذاتیّة ـ على مذهب المادّیین الجدلیّین ـ .
وعلى هذا فالذی یرّد مقالتهم هو إثبات الصور الجوهریّة ثمّ إثبات أنّ الفاعل المادّی لیس من شأنه إعطاء الصور، وإنّما الذی یحصل من تفاعل الموادّ هو تغیّر الأعراض، كما أنّ وجود نفس الموادّ یحتاج إلى علّة مفیضة وراء الطبیعة.
ثمّ إنّ الحجّة الاُولى مبتنیة على قبول المادّة كقوّة محضة، وهو ممنوع، مضافاً إلى أنّها لا تردّ مقالة المادّیین. وكذلك الحجّة الثانیة مع ما فیها من الخلط بین الإمكان الاستعدادیّ الذى یقابل الفعلیّة ویرتفع بتحقّقها والإمكان الذی یقابل الوجوب والامتناع ویلازم المهیّة. وأمّا الحجّة الثالثة فإنّها مبتنیة على تعمیم قاعدة «الواحد» للفواعل المادّیة، ومع ذلك فیمكن أن یقال: إنّ سبیل المادّة فی تأثیراتها الكثیرة هو سبیل الشمس فی آثارها المتعدّدة. والحلّ أنّ المادّة بوحدها لا تكون مؤثّرة فی آثار متعدّدة، بل العلّة فی كلّ واحد منها
مركّبة من اُمور كثیرة منها شروط القابل وارتفاع الموانع، كما مرّ فی جواب شبهات القائلین بالاتّفاق.
فإن قلت: إنّ بعض المادّیین یقولون بوحدة طبیعة المادّة، فلا یعقل حصول اختلاف فی أجزائها حتّى تحصل فواعل وقوابل مختلفة.
قلت: القول بوحدة طبیعة المادّة لا یمنعهم من قولهم بحصول الاختلاف فی أعراض الذرّات بالاتّصالات والانفصالات الاتّفاقیّة كما فی مذهب ذیمقراطیس. فیجب إثبات أنّ الحركة الحاصلة من الأشیاء المتّفقة الحقیقة لا تكون إلاّ على نهج واحد وذات جهة واحدة، فلا یحصل تصادم بین تلك الذرّات، فلیتأمّل.
هذا الكلام مبنیٌّ على ما أشرنا ألیه من نفیهم تعدّد الفعلیّات عن مركّب حقیقىّ، فحیث لم یوجد فی مركّب إلاّ فعلیّة واحدة لم تكن الآثار إلاّ منتسبة إلى تلك الفعلیّة الواحدة، لكن قد عرفت أنّه لا دلیل على نفی الفعلیّات المتراكبة. فهل ترى أنّ البدن مثلاً یفقد فعلیّتَه بتعلّق النفس وبه تملك النفسُ آثاره التی كانت له ـ على حد التعبیر الوارد فی المتن ـ ثمّ بعد الموت وانقطاع تعلّق النفس به تحدث له فعلیّةٌ جدیدةٌ تنتسب إلیها نفس تلك الآثار؟!(1)
قد عرفت أنّ التركیب الحقیقیّ یحصل باتّحاد أمرین یكون أحدهما رابطیّاً بالنسبة إلى الآخر كالصور المتراكبة، كما أنّه یحصل باتّحاد الموادّ فی ظلّ صورة واحدة تتعلّق بها جمیعاً، بل یمكن أن یعدّ تركّب الموادّ الكیمیاویّة بالتفاعل أیضاً تركیبا
1. راجع: المطارحات: ص367.
حقیقیّاً بالنظر إلى اقتضاء تلك المركّبات التلازم بین عناصرها وإلى اشتراكها فی التأثیر، وإن لم یصدق علیها الواحد الحقیقیّ، مادام لم یثبت حدوث صورة جدیدة فیها فیرجع إلى الفرض السابق.
ذكروا أنّ القوّة الجسمانیّة كأیّة قوّة لا تتّصف فی نفسها بالشدّة والضعف، فاتّصافها بهما إنّما هو بأحد الاعتبارات الثلاث: إمّا باعتبار سرعة الفعل وبُطئه مع وحدة المسافة، فالقوّة التیّ تحرّك السهم إلى هدف معیّن فی زمان أقلَّ تُعدّ أشدَّ؛ وإمّا باعتبار زمان بقاء الفعل مع عدم اعتبار وحدة المسافة، فالقوّة التی ترمی سهماً یبقى فی الجوّ أكثرَ من سهم آخر تعدّ أشدَّ منه؛ وإمّا باعتبار عدّة الفعل، فالرامی الذی یقوى على رمَیات أكثر یعدّ أقوى. فلا تناهی القوّة الجسمانیّة إمّا أن یكون باعتبار الشدّة أی سرعة الفعل، أو باعتبار المدّة أی زمان بقاء الفعل، أو باعتبار عدّة الفعل.(1)
ویلاحظ علیه أوّلا أنّه بناءً على التشكیك فی الوجود تتّصف القوّة بحسب مرتبة وجودها بالشدّة والضعف، وإنّما تُعرف تلك المرتبة بمعرفة الآثار، والإثبات غیر الثبوت. وثانیا أنّ الاعتبارین الأوّلین متلازمان، لأنّ السهم الذی یقطع مسافة معیّنة فی زمان أقصر هو بعینه الذی یقطع مسافة أطول فی زمان معیّن ویبقى أكثر فی الجوّ، فیرجع التفاوت إلى السرعة والكثرة.
ثمّ إنّ الاستدلال على تناهی القوّة الجسمانیّة من حیث سرعة الفعل سهل، لأنّه
1. راجع: الفصل العاشر من المقالة الثالثة من الفنّ الأوّل من طبیعیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص603؛ وراجع: النمط السادس من شرح الإشارات؛ وراجع: المسألة الرابعة من الفصل الثالث من الشوارق؛ والأسفار: ج3، ص221.
كلّما ازداد السرعة انتقص الزمان، ففرض لا تناهیها یستلزم وقوعه بلا زمان، مع أنّ فعل الفاعل الجسمانیّ هو الحركة، والزمان لازم لها. لكنّه یتوقّف على إثبات انحصار الفعل الجسمانیّ فی الحركة، فتبصّر. وأمّا تناهی أعداد الفعل الصادر من القوّة الجسمانیّة فذكروا له بیاناً طویلاً حاصله أنّ القوّة الجسمانیّة تتناسب مع حجم الجسم، فمع انتصاف الجسم تنتصف تلك القوّة وهكذا، فلا محالة یكون عدد الأفعال الصادرة عن الجزء أقلَّ من عدد الأفعال الصادرة عن الكلّ بنسبة ما یكون الجزء أصغر، فیكون عدد أفعال الجزء متناهیاً، فكذلك أفعال الكلّ لزیادته على الجزء بنسبة متناهیة. وبنفس البیان یثبت تناهی القوّة الجسمانیّة مدّةً أیضاً.(1)
وقد اُوردتْ حوله شكوك وأجابوا عنها بوجوه لا نطیل بذكرها. وهناك شبهتان اُخریان: إحداهما التشكّك فی تناهی الأبعاد، فغایة ما یثبت بهذا البیان هو تناهی القوّة الجسمانیّة. فی الأجسام المتناهیة، وأمّا لو فُرض العالم الجسمانیُّ غیرَ متناه فلا تجری فیه هذه الحجة. وثانیتهما التشكّك فی النسبة بین الجزء والكلّ فی اللامتناهی، فلقائل أن یقول إنّ النسبة المذكورة إنّما هی فی الاُمور المتناهیة، وأمّا اللامتناهی فلیس له مقدار، ولا نسبة مقداریّة بینه وبین أجزائه حتّى یقال إنّ نصفه مثلاً أقّلّ من الكلّ بنسبة متناهیة.
ثمّ إنّه یشكل علیهم الجمع بین هذه القاعدة والقول بلا تناهی حركات الأفلاك، ولا یجدی إسناد قوّتها اللامتناهیة على التحریك إلى المفارقات، لأنّ الكلام فی التحریك الذی هو من قبیل فعل الفاعل الطبیعیّ أو المتعلّق بالمادّة، ولكن إشكال النقش یرتفع بانتفاء العرش.
وأمّا الاستدلال لتناهی آثار القوى الجسمانیّة بأنّها متحرّكة بحركة جوهریّة، وكل
1. راجع: الفصل العاشر من الثالثة الأوّل من طبیعیّات الشفا؛ والتحصیل: ص601605؛ والأسفار: ج3، ص232ـ243؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص501507؛ وراجع: التلویحات: ص59.
جزء منها محدود بحدّین عدمیّین، فیكون تأثیره لا محالة محدوداً أیضاً، فیلاحظ علیه أنّ غایة ما یثبت به تناهی آثار كلّ جزء من تلك الحركة الجوهریّة شدةً ومدّةً، وأمّا تناهیها عدداً فی زمان واحد فهذا البیان قاصر عن إثباته. أضف إلى ذلك أنّ الحركة الواحدة لا جزء لها بالفعل، ولا یصحّ إسناد الآثار الفعلیّة إلى ما وجوده بالقوّة، وأمّا الكلّ فیبقى السؤال عن تناهیه، فتدبّر جیّداً.
هذه الحجّة مبتنیة على مسألة اُخرى هی أن القوى الجسمانیّة لا تؤثّر إلاّ بمشاركة الوضع، وقد استدلّ لها فی الشوارق والأسفار بمثل ما ذكره فی المتن، وللإمام الرازیّ بیان فی هذا المقام منقول فیهما،(1) وحاصله أنّ اختلاف تأثیر القوى الجسمانیّة بقرب المادّة المنفعلة وبُعدها دلیل على اشتراط تأثیرها بحصول نسبة مكانیّة خاصّة بین الفاعل والمنفعل، ویعبّر عنه بأنّ تلك القوى لا تؤثّر إلاّ بمشاركة المادّة والوضع. واستنتج منه عدم تأثیر الأجسام فی المجرّدات ولا فی إیجاد الجسم أو الهیولى أو الصورة.(2)
وغیر خفیّ أنّ المراد بالوضع ههنا غیر ما یعدّ من المقولات وغیر الوضع بمعنى كون الشیء قابلاً للإشارة الحسیّة، بل بمعنى نسبة الشیء إلى ما یسامته. قال الشیخ فی التعلیقات: «الوضع نسبة الشیء فی حیّزه الذی هو فیه إلى ما یسامته أو یجاوره أو یكون منه بحال».(3)
وأمّا البیان الأوّل فیلاحظ علیه أنّ احتیاج القوّة الجسمانیّة إلى مادّتها فی التأثیر
1. راجع: المسألة الرابعة من الفصل الثالث من الشوارق؛ وراجع: الأسفار: ج2، ص377ـ380؛ وج3، ص101.
2. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص500؛ وراجع: التحصیل: ص341.
3. راجع: التعلیقات: ص107.
لیس هو بمعنى وجود وضع بینها وبین المنفعل ولا مستلزماً له استلزاماً بیّناً. وأمّا البیان الثانی فیلاحظ علیه مضافاً إلى ابتنائه على استقراء ناقص أنّه لا یثبت عدم إمكان صدور سائر الصور غیر الصورة الجسمیّة عن الجسم، ولا یثبت انحصار تأثیر القوى الجسمانیّة فی تغییر الأعراض.(1) وأمّا الاستدلال بهذه القاعدة للمسألة المبحوث عنها وهی تناهی آثار القوى الجسمانیّة فلا یتمّ لإثبات جمیع صورها، فلا یثبت بها مثلاً تناهیها مدّةً، ولا عدّةً مترتبّة فی طول الزمان، إلاّ أن یثبت تضعّف القوّة فی طول الزمان بالتأثیر، وهو على ذمّة العلوم الطبیعیّة.
1. راجع: فی ما یتعلّق بهذا المبحث (عدم صدور الجسم عن الجسم) النمط السادس من الإشارات؛ والتحصیل: ص521؛ والتلویحات: ص61؛ والمطارحات: ص445449؛ والاسفار: ج5، ص146.
ذكر الشیخ تفصیل معانی القوّة والفعل وكیفیّة الانتقال من بعضها إلى بعض،(1) وكذا أقسام القوّة(2) والاستعداد،(3) وأخذ عنه مَن بعده.(4) وقد أشرنا سابقاً إلى معانی القوّة والإمكان والاستعداد والنسبة بینها، فراجع الرقم (132).
والقوّة ههنا فی مقابل الفعل، ومعناه إمكان وجود شیء لم یوجد بعدُ، فإذا وُجد تبدّلت إلى الفعل. وغیر خفیّ أنّ هذا الإمكان غیر ما هو لازم للمهیّة أینما تقرّرت، والذی لا یتبدّل إلى مقابله أبداً.
ثمّ إنّ القوّة بهذا المعنى كالإمكان معنى ذو إضافة ینتزع من وجود شیئین أحدهما متقدّم على الآخر زماناً ویمكن وجود المتأخّر فیه، فبهذا الاعتبار یسمّى المتقدّم حاملاً لقوّة المتأخّر ویقال إنّ المتأخّر موجود فیه بالقوّة، فإذا تحقّق سمّی موجوداً بالفعل، ویقال: إنّ المتقدّم هو المتأخّر بالقوّة، كما یقال: النطفة إنسان بالقوّة. فتقسیم الموجود إلى ما بالقوّة وما بالفعل تقسیم قیاسیّ كتقسیمه إلى ما فی الذهـن وما فی الخارج، ولازم هذا الاعتبار ـ أعنی اعتبار إمكان وجود المتأخّر فی المتقدّم ـ أن یبقى المتقدّم ولو بجزء منه بعد تحقُّق المتأخّر، لكن قد یعمّم ما
1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الرابعة من إلهیّات الشفاء.
2. راجع: الفصل الرابع من المقالة السادسة من نفس المصدر.
3. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثامنة من نفس المصدر.
4. راجع: التحصیل: ص471474؛ والأسفار: ج3، ص25.
بالقوّة إلى كلّ سابق یمكن أن یلحقه لاحق فی طول الخطّ وإن لم یبق شیء من السابق بعد تحقّق اللاحق كما فی جزئَیِ الزمان.(1)
قد ظهر من تعریف القوّة والفعل أنّهما یوجدان فی ما هو واقع فی ظرف الزمان، لكن قد یراد بما بالفعل ما لیس فیه قوّة وإمكان لشیء آخر فیختصّ بالمفارقات ویقال إنّها فعلیّات لا قوّة معها، أمّا ما بالقوّة فیختصّ بالمادیّات. وینقدح ههنا سؤال هو أنّه هل یوجد فی المادیّات ما لا یكون مسبوقاً بقوّة وإمكان فی شیء آخر أو لا؟ وجوابهم عن هذا السؤال هو أنّ كلّ حادث فهو مسبوق بمادّة حاملة لقوّة وجوده. فلو وجد ما لم یكن مسبوقاً بمادّة كذلك لم یكن حادثاً زمانیّاً. والهیولى الاُولى عندهم غیر مسبوقة بمادّة اُخرى دفعاً للتسلسل، ولذلك یعدّونها قدیماً من حیث الزمان ویصفونها بأنّ وجودها إبداعیّ. وأمّا من یقول بحدوث العالم المادّیّ برمّته بمعنى وجود المبدء الزمانیّ له فیقول إنّ المادّة الاُولى إبداعیّة غیر مسبوقة بعدم زمانیّ لكنّه ینكر قِدمَها، ولا یرى تلازماً بین كونها إبداعیّة وكونها قدیمة.
ثمّ إنّ بعض المدقّقین أضاف أنّ كون البدن حاملاً لقوّة النفس لیس بمعنى إمكان وجودها وحلولها فی البدن، بل معناه كونه حاملاً لإمكان حدوث النفس متعلّقةً به.(2)
1. راجع: القبسات: ص84.
2. راجع: الأسفار: ج3، ص55.
وكیف كان فقد استدلّوا لضرورة سبق المادّة على كلّ حادث زمانیّ بأنّ الحادث قبل وجوده یكون ممكن الوجود، وإلاّ لكان واجباً أو ممتنعاً، وهذا الإمكان أمر عینیّ لقبوله الشدّة والضعف والقرب والبعد، وحیث إنّه لا یكون جوهراً فلابدّ من وجود جوهر یكون قائماً به، فاستنتجوا أنّ كلّ حادث فهو مسبوق بمادّة حاملة لإمكانه.(1)
ویلاحظ علیه أوّلاً أنّ الإمكان المقابل للوجوب والامتناع لیس هو الإمكان الذی یتبدّل إلى الفعلیّة ویرتفع بحصولها؛ وثانیاً أنّ هذا الإمكان المقابل للفعلیّة أمر منتزع من حصول الشرائط وارتفاع الموانع أو هو تعبیر عن عدم المانع، ولیس امراً عینیّاً ذا ماهیّة حتّى یبحث عن كونه جوهراً أو عرضاً؛ وقد مرّ البحث عنه تحت الرقم (132).
هذا هو مغزى البرهان الذی اُقیم على وجود الهیولى الاُولى كقوّة جوهریّة لا فعلیّة لها، وقد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (132).
هذا هو ما أشرنا إلیه تحت الرقم (286) من انتهاء الموادّ إلى مادّة اُولى، دفعاً للتسلسل ولا تناهی العلل المادیّة.
الإشكال إنّما یرد بناءً على فرض كون المادّة حادثاً زمانیّاً بمعنى كونها مسبوقة
1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الرابعة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص443 و 481؛ وراجع: الأسفار: ج3، ص49؛ والمباحث المشرقیة، ج1، ص135؛ وراجع: النمط الخامس من الإشارات.
بعدم زمانیّ، وأمّا على فرض كونها أمراً إبداعیّاً یبتدئ الزمان بوجوده فلا یرد ذلك الإشكال، فتبصّر.
بعد ما ذكر البیان المشهور لإثبات تقدّم القوّة على كلّ حادث زمانیّ أخذ فی طور آخرَ من البحث یتبیّن به العلاقة بین القوّة والفعل، وتحقُّق الحركة بالانتقال من الأوّل إلى الثانی، بل تثبت به الحركة الجوهریّة أیضاً مع بعض ما یتفرّع علیها. وقد ركّز فی هذا البیان على وجود النسبة بین القابل والمقبول واتّحاد طرفیها، ثمّ استنتج أنّ الاختلاف بین القوّة والفعل یرجع إلى ضعف الوجود وشدّته، فهناك وجود واحد یسیر من الضعف إلى الشدّة وینقسم بالقوّة إلى جزء سابق هو قوّة لما یلیه. فالحركة تنطوی فی صمیمها على قوى وفعلیّات مترتّبة، لأنّ كلّ جزء سابق منها قوّة بالنسبة إلى جزء لاحق. فلننظر إلى أیّ مدى ینجح هذا البیان.
هذا البیان ـ كما أشرنا إلیه آنفاً ـ مركّز على وجود النسبة الخارجیّة بین القابل والمقبول، أمّا وجود القابل والمقبول فمشهود من تبدّل نوع جوهریّ إلى نوع جوهریّ آخر فی الجملة؛ وأمّا كون النسبة أمراً عینیّاً فیُعرف من تعیّن القابل والمقبول، فلو كان أمراً اعتباریّاً لما تعیَّن أحدهما للقابلیّة للآخر وجاز العكس أو اعتبار شیء آخر قابلاً أو مقبولاً. ویعرف أیضاً من اتّصاف النسبة بالقرب والبعد، والشدّة والضعف.
ویلاحظ علیه أوّلا أنّ نفی الاعتباریّة الجزافیّة عن النسبة المذكورة لا یعنی كونها أمراً عینیّاً، فلیكن من الاعتبارات العقلیّة الحاصلة من المقایسات والإضافات، كما مرّ الكلام فیه مراراً. وثانیا أنّ اتّصافها بالأوصاف الوجودیّة إنّما هو باعتبار تحقّق الشرائط وارتفاع الموانع واحداً بعد آخر، كما ذكرنا فی اتّصاف الإمكان الاستعدادیّ بها، فلا یدلّ ذلك على أنّ هناك أمراً عینیّاً باسم النسبة یقترب شیئاً فشیئاً، أو یشتدّ یسیراً یسیراً وراء ما یتوفّر من الشروط ویرتفع من الموانع.
هذا هو المبنى الثانی للبیان، وهو أنّ وجود النسبة بین شیئین یستلزم أوّلاً وجود الطرفین فی ظرف وجود النسبة، وثانیاً كون أحدهما موجوداً للآخر. ویلاحظ علیه أوّلا أنّ النسبة ـ كما مرّ ـ اعتبار عقلیّ ظرف عروضه هو الذهن وإنّما الخارج هو ظرف الاتّصاف بها، فإن اقتضى وجودُها وجودَ طرفیها فی ظرف وجودها لاقتضى وجودَ الطرفین فی الذهن، وثانیا أنّه ربما یعتبر النسبة بین موجود ومعدوم كنسبة الأمس إلى الیوم ونسبة الیوم إلى الغد، فعلى فرض وقوع النسبة فی الخارج لا یقتضی ذلك وجود طرفیها فی زمان وقوعها، بل ولا یقتضی الاتّصال بینهما كالنسبة بین منفصلین فی المكان أو الزمان، وثالثا منع اقتضاء النسبة كونَ وجود أحد الطرفین للغیر، كالنسبة المتكرّرة بین الأخوین أو بین الأب والابن، فلا یصحّ تعلیل كون الوجود الرابطیّ للغیر بوجود النسبة بینهما، وفی ما نحن فیه لا یصحّ تعلیل كون الوجود بالفعل لما بالقوّة بمجرّد النسبة بینهما، لأنّه من قبیل التعلیل بالأعمّ.
هذه العبارة توهم أنّ المراد بالوجود الخارجیّ ما یقابل الوجود الذهنیَ، خاصّة
بالنظر إلى ما وصفه به من منشأیّة الآثار، ولعلّه أتى بلفظة «الجمیع» فی العبارة الآتیة فرقاً بین هذا الوجود الضعیف المفروض والوجود الذهنیّ، حیث إنّ الوجود الذهنیّ لا یترتّب علیه شیء من آثار الوجود الخارجیّ بخلاف هذا الوجود الذی ربّما یترتّب علیه بعض آثار الوجود القویّ المتأخّر، لا جمیعها، فتأمّل.
وكیف كان فقد استنتج(قدسسره) من ثبوت النسبة بین القابل والمقبول ولزوم وجود الطرفین فی ظرف وجود النسبة أن المقبول یجب أن یكون موجوداً فی ظرف وجود القابل الذی هو ظرف وجود النسبة، وأضاف إلیه أنّ المقبول بوجوده المتـأخّر لیس موجـوداً فی القابـل فلابدّ أن یكـون له وجود آخـر ـ وإن شیءت قلت: مرتبة اُخرى من الـوجود ـ فی ظرف تحقُّق القابـل، وحیث إنّ هذه المرتبة من وجوده لا یترتّب علیه جمیع آثار الوجود المتأخّر كانت لا محالة مرتبة ضعیفة منه.
ویلاحظ علیه مضافاً إلى ما مرّ من منع وجود النسبة فی الخارج كأمر عینیّ، ومنع استلزامها لوجود الطرفین فی زمان واحد، أوّلا أنّ لقائل أن یقول: إنّ ظرف وجود النسبة فی الواقع هو ظرف وجود المقبول، وفی ذلك الظرف یكون القابل موجوداً، لما مرّ من لزوم بقاء القابل بعد تحقّق المقبول؛ وثانیاً أنّه لو فرض للمقبول وجود آخر فی القابل كانت النسبة ثابتة بین القابل وتلك المرتبة الضعیفة من وجود المقبول، فحینئذ ینقدح سؤال: هل یوجد بین القابل ووجود المقبول المتأخّر أیضاً نسبة أو لا؟ فإن كان الجواب بالإثبات لزم الاعتراف بوجود النسبة بین المتقدّم والمتأخّر مع اختلاف الزمان، وفیه هدم لأساس الحجّة؛ وإن كان الجواب بالنفی فلا یفی البیان بإثبات اتّحاد القابل والمقبول، ذلك الاتّحاد الذی یُطلب بهذه الحجّة، لأنّ ملاك الاتّحاد على الفرض هو النسبة، وهی مفقودة بین المتقدّم والمتأخّر.
غایة ما یثبت بالبیان المذكور ـ بصرف النظر عن جمیع الملاحظات المذكورة ـ اتّحاد تلك الوجودات لا وحدتها، فإنّ الوحدة المشكّكة إنما یوجد فی مراتب وجود واحد یكون بعضها رابطاً غیر مستقلّ بالنسبة إلى الآخر، لا رابطیّاً متعلّق الوجود به، ومقتضى البیان المذكور هو الثانی دون الأوّل، اللّهمّ إلاّ أن یراد التشكیك العامّی بین مرتبتین من وجود المقبول ـ على فرض صحّة عدّ الجزئین المتّصلین مرتبتین مشكّكین ـ لكنّ الغرض الأصلیّ هو بیان العلاقة بین القابل والمقبول لا بین جزئَیْ المقبول، فافهم.
ثمّ إن اُرید بهذا البیان إثبات أنّ العلاقة بین القوّة والفعل هی نوع من العلاقة بین الضعیف والشدید وأنّ المقبول یكون مطلقاً أقوى وأشدّ من القابل ففیه منع واضح ـ مضافاً إلى ما مرّ من الشكّ فی التشكیك المذكور ـ فإنّ القابل إنّما یكون فاقداً لشخص الكمال الذی یوجد فی المقبول، سواء كان فاقداً لنوعه أو لأنواع أكمل منه أو لم یكن، وإنّما یتبدّل القوّة فعلاً بتحقّق ذلك الشخص من الكمال فی القابل ولو كان ذلك بقیمة فقد ما یجده من الكمال المساوی أو الأشدّ أو الأضعف. وهذه نكتة هامّة یبتنی علیها كثیر من المسائل من أهمّها وجود الحركة المتشابهة الأجزاء، والحركة التضعّفیّة، فتدبّر حقَّه.
بناءً على تركّب القابل من مادّة وصورة، وخاصّةً بناءً على كون القوّة والإمكان الاستعدادیّ عرضاً قائماً بالقابل، تنحلّ سلسلة القوابل والمقبولات إلى ثلاث سلاسل متشابكة، ولا تكون كلّ حلقة سابقة بمجموعها قوّةً لما تلیها، بل تكون كل
حلقة مركّبة من ثلاثة اُمور یكون واحد منها قوّة لما یحدث فی الحلقة اللاحقة، فكیف یكون للجمیع وجود واحد ذو مراتب؟! غایة الأمر أن تكون لها وجودات متّحدة بضروب من الاتّحاد. نعم، بناءً على إنكار الهیولى كقوّة جوهریّة محضة وكون الإمكان الاستعدادیّ أمراً انتزاعیّاً من غیر أن یكون له مهیّة، یمكن أن یكون بعض الحلقات أمراً وحدانیّاً.
وكیف كان، ففرض سلسلة من القوابل والمقبولات یكون كلّ واحدة من حلقاتها موجوداً واحداً هو بعینه قوّة لما بعده فرض لا نعقله لا سیّما بالنظر إلى مبانی القوم، اللّهمّ إلاّ فی نفس الزمان بناءً على صحّة عدّ كلّ جزء مفروض منه قوّةً لما یلیه، كما أشرنا إلیه تحت الرقم (285)؛ وذلك لا یستقیم إلاّ باعتبار القوّة أمراً قیاسیّاً، فتفطّن.
ثمّ إنّ تلك السلسلة إنّما تتصوّر فی اُمور طولیّة یتبدّل بعضها إلى بعض دون الاُمور العرْضیّة المتزامنة، بل هناك سلاسل لا تُحصى من الحوادث، فلا یصحّ أن یستنتج أنّ عالم المادّة جمیعاً وجود واحد متدرّج ذو مراتب، فتبصّر.
الذی یستفاد من ذلك البیان هو ترتّب القوى والفعلیّات فی سلسلة واحدة من دون فصل بینها، ففی تلك السلسلة المفروضة تتّصل الفعلیّة التی هی كمالٌ ثانٍ بقوّتها، فلیس هناك مجال لتحقّق الكمال الأوّل حتّى ینطبق علیه حدّ الحركة. وبعبارة اُخرى: إنّ «الكمال الأوّل لما بالقوّة من حیث إنّه بالقوّة» إنّما یتصوّر بین قوّة وفعل هما مبدء الحركة وغایتها ـ على ما قیل ـ وذلك یستلزم فصلاً زمانیّاً بینهما، وأمّا إذا فرض ترتّب الفعلیّات بعضها على بعض من دون فصل زمانیّ بینهما فهناك یحصل الكمال الثانی من دون توقّف على شیء آخر یسمّى بالحركة. وفرق واضح بین أن یقال: إن
الحركة هی ترتّب القوى والفعلیّات، وأن یقال: إنّ الحركة هی الواسطة بین القوّة والفعل. وتفسیر الحركة بترتّب الفعلیّات إنّما یوافق النزعة القدیمة لبارمنیدس وزنون ممّن یفسّرها بترتّب السكونات، وهو فی الواقع إنكار لحقیقتها.
بل تحقّق أنّ «ما بالقوّة» معقول ثان كسائر المفاهیم الفلسفیّة یطلق على موجود سابق زماناً باعتبار إمكان وجود أمر لاحق فیه أو متعلّقاً به (كالنفس التی تتعلّق بالبدن) ولیس للقوّة والإمكان مهیّة جوهریّة أو عرضیّة، كما أنّهما لا یعبّران عن ضعف الوجود أو شدّته. وقد یطلق ما بالقوّة على معنى أعمّ، فیشمل كلّ سابق یمكن أن یلحقه لاحق كالجزء المتقدّم من الزمان من حیث إمكان لحوق الجزء المتأخّر به. وأمّا «ما بالفعل» فربما یطلق على الموجود اللاحق باعتبار لحوقه بالسابق أو تحقّقه فی الحال، كما ربّما یطلق على ما لیس فیه قوّة أصلاً كما فی المجرّدات.
قد عرفت أنّ هذا المعنى لا یستنتج من البیان السابق، وكذا ما فرّع علیه.
الكلام حول الحركة یقع فی اُمور:
الأمر الأوّل فی تعریف الحركة. الحركة فی العرف یطلق غالباً على الانتقال من مكان إلى مكان آخر، وإلیه یرجع الحركة فی الوضع لتغیّر مكان الأجزاء، لكن
معناها المصطلح فی عرف الفلاسفة أعمُّ من ذلك، فیشمل الحركة فی الكیف والكم وغیرهما أیضاً. ثمّ إنّ تعریف الحركة المصطلحة لا یمكن بالحدّ المنطقیّ، سواء اعتُبرتْ مقولةً كما ذهب إلیه فی التلویحات،(1) أو اعتُبرتْ نحواً من الوجود كما اختاره صدر المتألّهین وأتباعه وهو الحقّ، لعدم وجود الجنس والفصل لا للمقولات وللمفاهیم الوجودیّة التی هی من المعقولات الثانیة الفلسفیّة.
وقد عرّفوا الحركة بتعاریف مختلفة(2) كما یلی:
الف) الحركة خروج الشیء من القوّة إلى الفعلتدریجاً، أو یسیراً یسیراً، أو لادفعة؛
ب) الحركة كمال أوّل لما بالقوّة من حیث إنّه بالقوّة؛
ج) الحركة موافاة حدود على الاتّصال؛
د) الحركة كون الشیء بین المبدء والمنتهى، أو بین القوّة والفعل.
إلى غیر ذلك، والأحسن أن یقال: الحركة هی التغیّر التدریجیّ. فالتغیّر بمنزلة الجنس للحركة، والتدریجیّ بمنزلة الفصل لها یخرج به التغیّر الدفعیّ. ومن وجوه حسن هذا التعریف قلّة ألفاظه، وخلوّه عن المفاهیم الغامضة المحتاجة إلى التبیین، أو المشتركة المحتاجة إلى التعیین، أو الخارجة من حقیقة الحركة من غیر ضرورة إلى استخدامها.
وقد حاول السیّد الاُستاذ(1) تطبیق ما أفاده فی الفصل السابق على التعریفین الأوّلین، وقد أشرنا إلى ما فی ذلك من النظر، فراجع الرقم (296).
الأمر الثانی فی إثبات وجود الحركة. یبدو لأوّل وهلة أنّ وجود الحركة لا سیّما الحركة الأینیّة والوضعیّة یثبت بالحسّ والمشاهدة، لكن یمكن أن یقال: إنّ الذی
1. راجع: التلویحات: ص11.
2. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الثانیة من الفنّ الأوّل من طبیعیّات الشفاء؛ والنجاة: ص105؛ والتحصیل: ص418420؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص547550؛ والأسفار: ج3، ص21ـ31.
تراه العین مثلاً هو صور مرتّبةٌ واحدةً بعد اُخرى تتّصل ببعضها فی ظرف الإدراك، فیظنّ أنّها متّصلة فی ظرف الواقع أیضاً كما فی تصویرات الأفلام، فلا یثبت بمثل هذا الإدراك، وجود الحركة كأمر وحدانیّ متّصل فی الخارج، فمن المحتمل أن تكون هناك اُمور ساكنة مترتّبة تنعكس فی ظرف الإدراك كأمر واحد ممتدّ.
وهذه الشبهة تجری فی جمیع المحسوسات، والسبیل إلى دفعها هو الاستعانة بالبراهین العقلیّة، لكن ههنا طریقان للعلم بوجود الحركة فی الجملة من غیر حاجة إلى تلك البراهین: أحدهما أنّ حصول صورة إدراكیّة تدریجاً یعنی وجود الحركة فی وعاء من الواقع، فإنّ الذهن بصرف النظر عن مرآتیّته لما وراءه أمر عینیّ. وثانیهما أنّ تغیّر الكیف النفسانیّ تدریجاً یعلم بالعلم الحضوریّ الذی لا یقبل الخطأ، فیثبت به هذا النوع من الحركة.
الأمر الثالث فی دفع بعض ما اُورد من الشكوك حول وجود الحركة.(1) حكی عن عدّة من فلاسفة یونان یُنسَبون إلى أرض «إیلیا» أنّهم كانوا ینكرون الحركة كامتداد واحد غیر مركّب من أجزاء دفعیّة لا تقبل الانقسام، كما كانوا ینكرون الانقسام إلى غیر النهایة فی كلّ امتداد كالخطّ والزمان، فكانوا یقولون بأنّ الممتدّات كلّها مركّبة من أجزاء لا تتجَزَّأ. فالخطّ یتركّب من نقاط لا طول لها، والزمان ینقسم إلى آنات لا امتداد لها، والحركة تتشكّل من سكونات متتالیة لا تدرّج فیها. وحكی عن واحد منهم یسمَّى «زنون الإیلیائیّ» شبهات حول وجود الحركة أهمّها هاتان الشبهتان:
الشبهة الاُولى: لو كانت الحركة امتداداً واحداً غیر مركّب من أجزاء دفعیّة لما وقف انقسامها إلى نهایة، فكانت كلّ حركة مركّبةً من حركات غیر متناهیة، وكان لكلّ واحدة منها امتداد لا محالة، فیلزم كون الحركة المتناهیة غیر متناهیة.
1. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص549؛ والأسفار: ج3، ص26ـ28.
وقد اُجیب عنها بأنّ أجزاء الحركة غیر موجودة بالفعل، ووجودها بالفعل رهن انقسامها بالفعل وتبدّلها إلى حركتین أو أكثر، وعندئذٍ تنعدم الحركة الواحدة، وهكذا فی كلّ جزء منها.
والأولى أن یستفصل فیقال: إن اُرید بعدم تناهی الحركة عدم تناهی عدد الأجزاء فهذا اللاتناهی هو بمعنى لا یقف، وكون الحركة الواحدة قابلة للانقسام إلى أجزاء لا تتناهى كذلك لا یعنی اجتماع الوحدة واللاتناهی فی شیء واحد، فإنّ الوحدة نعت الكلّ، واللاتناهی هو وصف الأجزاء الموجودة بالقوّة، كما لا یوجب قابلیّةُ انقسام الواحد إلى نصفین كونَه اثنین. وإن اُرید به عدم تناهی مقدار الأجزاء (الكم المتّصل) بدعوى أنّه إذا كان هناك عدد غیر متناه من الامتدادات لزم كون مقدار الجمیع غیر متناه، مع أنّ المفروض أنّ مقدار الحركة متناه، فالجواب أنّ مقدار كلّ واحد من الأجزاء هو كسرٌ مقامه عدد الأجزاء، فمجموع مقادیر الكسور یساوی مقدار الكلّ وإن كان المقام غیر متناه.
الشبهة الثانیة: لو كانت الحركة غیر مركّبة من السكونات والأجزاء الدفعیّة لزم أن یكون المتحرّك فی كلّ آن غیر موجود فی نقطة من المسافة وإلاّ كان ساكناً فیها، مع أنّه فی زمان الحركة لا یكون خارجاً عن النقاط المتوسّطة بین المبدء والمنتهى، فیلزم التناقص. وهذه الشبهة هی التی دَعَتْ بعض فلاسفة اُروبا (هیجل) إلى القول بوجود التناقض فی الأعیان وأنّ الحركة هی تناقض عینیّ!
والجواب أنّه كما لا تنقسم الحركة إلى اجزاء دفعیّة كذلك لا ینقسم الزمان إلى الآنات ولا الخطّ إلى النقاط، وإنّما هی مفاهیم عدمیّة تحكی عن نهایات تلك الامتدادات، ففرض النقطة فی الخطّ إنّما هو بفرض انقسامه إلى خطّین فیسمّى منتهى أحدهما ومبتدأ الآخر نقطةً، وكذلك الآن بالنسبة إلى الزمان والطرف الآنىُّ بالنسبة إلى الحركة. وإذا أخذنا هذه الحقیقة بعین الاعتبار اتّضح معنى كون
المتحرّك فی كلّ آن فی نقطة من المسافة، وهو أنّه لو انقطعت الحركة وكذلك الزمان والمسافة انطبقت المقاطع الثلاثة بعضها على بعض. وبهذا المعنى لا یصحّ نفی كون المتحرّك فی آن مفروض فی نقطة مفروضة، ولكن لیس معنى كونه فیها سكونَه واستقرارَه فیها، فتفطّن.
وهناك اُمور اُخرى سیأتی البحث عنها إن شاء الله تعالى.
سیأتی الكلام على كلّ واحد منها فی محلّه.
الأولى تقدیم البحث عن التغیّر على الحركة لكونه أعمَّ منها، وبالنظر إلى انقسامه إلى الدفعیّ والتدریجیّ یتحصّل تعریف للحركة بأنّها تغیّر تدریجیّ كما صرّح به الاُستاذ(قدسسره) ههنا، وقد أشرنا إلیه تحت الرقم (299). وجدیر بالذكر أنّ تصوّر مفهوم التغیّر لا یتوقّف على تصوّر مفهومَی القوّة والفعل، بل یكفی فیه تصوّر أمرین یزول أحدهما ویحدث الآخر (الغیر) مكانه، بل یكفی فیه تصوّر زوال شیء وتبدّل وجوده إلى عدمه، ولهذا یكون مفهومه أوضح منهما كما أنّه أوضح من سائر المفاهیم المأخوذة فی تعریف الحركة.
والمتغیّر فی العرف یطلق على شیء تزول عنه صفة وتحدث فیه صفة اُخرى، ومقتضى ذلك ثَبات الذات فی الحالین، ولعلّه من هذا نشأَ الإشكال فی الحركة الجوهریّة بأنّ مقتضاها عدم بقاء الذات، وسیأتی الكلام فیه. لكن بالتأمّل یظهر أن
اتّصاف الذات بالتغیّر إنّما هو اتّصاف بحال المتعلّق، والتغیّر فی الحقیقة وصف لما یزول ویحدث مكانه غیره، وینسب إلى موصوفه بالعرض. ویمكن أن یعتبر التغیّر مجموع الزائل والحادث، خاصّةً فی ما إذا كانا جزئین لشیء واحد. وكیف كان فیصحّ تقسیم الموجود العامّ بالنظر الفلسفیّ إلى ثابت ومتغیّر.
والتغیّر قد یكون بحیث یتمیّز حدّ بین المتغیّر إلیه، فیصحّ أن یقال: إنّ فی هذا الآن مثلاً زال الأوّل وحدث الثانی، وقد یكون بحیث لا یتمیّز حدّ بینهما، فلا یصحّ تعیین آنٍ أو نقطة لحصول التغیّر ولا طرفٍ لامتداد الزائل وحدوث الحادث. والأوّل هو التغیّر الدفعیّ، والثانی هو التغیّر التدریجیّ أعنی الحركة. والاُستاذ(قدسسره) خصّص التغیّر الدفعیّ بالمعانی الآنیّة كالاتّصال والانفصال ممّا ینتزع عن آن ابتداء أو انتهاء حركة أو حركتین، ولهذا أكّد على أنّ التغیّر الدفعیّ لا یتمّ إلاّ بحركة، لكن تتصوّر له فروض اُخرى سنشیر إلیها، اللّهمّ إلاّ أن یكون المراد أنّه بناءً على ثبوت الحركة فی الجوهر الجسمانیّ وحركة الأعراض بتبع الجواهر لا یبقى مصداق للتغیّر الدفعیّ إلاّ المعانی الآنیّة، فلیتأمّل.
ثمّ إنّه تفرض فی بدء النظر صور للتغیّر:
الف) زوال ذات وحدوث ذات اُخرى مكانها؛
ب) زوال جزء موجود بالفعل من الكلّ وحدوث جزء آخر كذلك مكانه؛
ج) زوال جزء موجود بالقوّة وحدوث جزء آخر كذلك؛
د) زوال صفة وحدوث صفة اُخرى مكانها؛
ه) زوال جزء موجود بالفعل منها وحدوث جزء آخر منها كذلك؛
و) زوال جزء موجود بالقوّة من الصفة وحدوث جزء آخر منها كذلك،
أمّا الصورة الاُولى فلا مصداق لها فی الخارج، لأنّ الأجسام لا تنعدم بالكلّیة، وإنّما تزول عنها صورة وتخلفها صورة أخرى.
وأمّا الصورة الثانیة فمصداقها هو تبدُّل الصور، فبناءً على أنّ الصورة الاُولى تفسد دفعةً وتحدث مكانها صورة اُخرى تكون هذه الصورة من مصادیق التغیّر الدفعیّ (الكون والفساد) ولا ضیر فی القول بأنّ كلتا الصورتین متحرّكتان بحركة جوهریّة، لأنّ التغیّر الحاصل من تبدّل إحدى الحركتین بالاُخرى غیر التغیّر التدریجیّ فی كل واحدة منهما، فتفطّن.
وأمّا بناءً على كون الصور الجسمانیّة صورة واحدة سیّالة فتكون من قبیل التغیّر التدریجیّ، وسیأتی الكلام علیه.
وأمّا الصورة الثالثة فإنّما یتحقّق لها مصداق بناءً على القول بالحركة الجوهریّة، وأمّا بناءً على إنكارها فلا یتصوّر لها مصداق.
وأمّا الصورة الرابعة فمصداقها تعاقب الأعراض المتضادّة، ولا یكون إلاّ دفعیّاً.
وأمّا الصورة الخامسة فلا مصداق لها إلاّ تبدّل مراتب العدد، وقد مرّ النظر فی اعتباره وصفاً حقیقیاً، فراجع الرقم (160).
وأمّا الصورة السادسة فمصداقها الحركات العَرَضیّة، وهو مورد اتّفاق الكلّ.
ثمّ إنّه یمكن فرض صورة اُخرى للتغیّر، وهو حدوث أمر من غیر زوال أمر آخر، أمّا فی الذوات فكما فی حدوث الصور المتراكبة مع بقاء الصورة النازلة السابقة، وهو من التغیّر الدفعیّ، ویصحّ اعتبار الزوال فیها بالنظر إلى زوال وصف الوحدة أو النقص أو غیر ذلك. وأمّا فی الأعراض فكما فی ازدیاد الكم بالنموّ واشتداد الكیف، وهو من التغیّر التدریجیّ.
كما أنّه یمكن فرض صورة اُخرى أیضاً، وهو زوال أمر من غیر حدوث أمر آخر، أمّا فی الذوات فكتبدّل النبات إلى التراب بزوال الصورة النباتیّة مع بقاء الصورة الترابیّة السابقة بناءً على القول بتراكب الصور واجتماع الفعلیّات، وهذا من التغیّر الدفعیّ أیضاً وإن كانت كلّ من الصور الزائلة والباقیة متحرّكة بحركة
جوهریّة، كما مرّ فی الصورة الثانیة. وأمّا فی الأعراض فكانتقاص الكم بالذبول وتضعّف الكیف، وهو من التغیّر التدریجیّ، فافهم.
اعلم أنّ الشیخ ذكر للحركة معنیین، وخصّ وجود أحدهما بالذهن، والآخر بالخارج.(1) وقد لخّص ذلك البیان فی المباحث المشرقیّة،(2) ونقله فی الأسفار،(3) ودارت حوله مناقشات لا نطیل بذكرها ونقدها. ومن هنا نشأ البحث حول الحركة التوسّطیّة والقطعیّة، فقیل بوجود الحركة بمعنى التوسّط فی الخارج دون القطع، وقیل بالعكس، وقیل بوجودهما معاً. وقد اختلفت كلماتهم فی تفسیر الحركة بالمعنیین ووجه الفرق بینهما، وقال السید الداماد: «الحركة التوسّطیّة حالة بسیطة شخصیّة هی كون المتحرّك متوسّطاً بین المبدء والمنتهى غیر مستقرّ النسبة إلى حدود ما فیه الحركة، فلا محالة أیّ آنٍ یفرض فی زمان الحركة تكون فیه للمتحرّك موافاةُ حدٍّ من الحدود لا تكون له تلك الموافاة قبل ذلك الآن ولا بعده، فلا یكون له ذلك الحّد فی آنین. وهذه الحالة البسیطة بحسب ذاتها، السیّالة الغیر القارّة بحسب نسبتها اللازمة لها إلى حدود المسافة بالموافاة یقال له الحركة التوسّطیّة فالحركة بهذا المعنى لا یتصوّر انطباقها على مسافة مّا، ولا على زمان مّا، ولا على أمر مّا ممتدّ الهویّة أصلاً... . والثانی هیئة متّصلة هی القطع المنطبق على المسافة المتّصلة ما بین طرفیها المبدء والمنتهى تقال لها الحركة القطعیّة، وهی تدریجیّة الوجود غیر قارّة الأجزاء»،(4) انتهى ملخّصاً.
1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الثانیة من الفنّ الأوّل من طبیعیّات الشفاء.
2. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص550554.
3. راجع: الأسفار: ج3، ص31ـ37.
4. راجع: القبسات: ص204ـ205.
وقد فرّق بینهما أیضاً بأنّ الحركة التوسّطیّة راسمة للزمان، والحركة القطعیّة واقعة فی وعاء الزمان، وأنّ الاُولى تكال بالآن السیّال، والثانیّة تقدّر بالزمان.
ثمّ إنّه أقام ثلاثة براهین على وجود كلتا الحركتین فی الخارج، وقال فی بعض كلامه: «لو لم یكن له ـ أی للمتحرّك ـ فی الوجود إلاّ الحركة التوسّطیّة والآن السیّال لم یكن یتصوّر له بحسب الوجود فی الخارج إلاّ موافاة الحدود من دون موافاة شیء من المقادیر المتّصلة التی هی بینها، فیلزم لا محالة أن یكون یطفر مادام متحرّكاً بطفرات لا إلى نهایة». وقد أنكر إسناد القول بنفی الحركة القطعیّة إلى كبار الفلاسفة، ونسبه إلى شزدمة من المقلّدین، واستشهد بكلمات للشیخ لإثبات أنّه قائل بالحركة القطعیّه أیضاً فی الخارج،(1) وفی كلامه مواقع للنظر.
والذی یلوح من المتن أنّ خاصّة الحركة التوسّطیّة هی كونها ثابتة بسیطة غیر منقسمة، وخاصّة القطعیّة هی كونها متقضیّة تدریجاً ومنقسمةً إلى أجزاء وسیأتی فی الفصل الحادی عشر أنّ تصویر الآن السیّال تصویر وهمیّ مجازیّ. وقد وجّه وجود كلا المعنیین فی الخارج بأنّ للحركة اعتبارین: أحدهما كون المتحرّك بین المبدء والمنتهى من دون اعتبار نسبة لها إلى حدود المسافة، وثانیهما اعتبار نسبة الحركة إلى حدود المسافة التی یقطعها المتحرّك تدریجاً، فیؤول الأمر إلى اختلاف الاعتبار، ثمّ ذكر فی آخر كلامه أنّ الصورة التی یأخذها الخیال من الشیء المتحرك شیئاً فشیئاً فتجتمع فیه صورةً واحدة متّصلة هی غیر موجودة فی الخارج، وجدیر بالذكر أنّ الشیخ ركز على هذا الأمر فی نفیه الحركة بغیر معنى التوسّط عن الخارج، فتأمّل جیّداً.
وكیف كان ففی المسألة جهات من الإبهام لعلّها تتوضّح بتذكّر اُمور:
1. إنّ المفهوم المعقول من الحركة ـ وهی الحركة بالحمل الأوّلیّ ـ وكذا الصورة
1. راجع: نفس المصدر: ص206ـ217.
الخیالیّة التی تحصل فی الذهن على نعت الاتّصال والاجتماع لا تكونان حركة بالحمل الشائع، فلا یكون لهما خواصّ الحركة الخارجیّة، كما هو شأن سائر المفاهیم. والظاهر أنّ هذا هو المعنى الأوّل الذی أكّد الشیخ على عدم وجوده فی الأعیان، حیث وصفه بالأمر المعقول؛
2. إنّ الحركة ـ كما حقّقها صدر المتألّهین ـ لیست من العوارض الخارجیّة للأشیاء بل هی من العوارض التحلیلیّة للوجود، فمن الموجود ما هو ثابت ومنه ما هو سیّال، فكما أنّ الثّبات لیس أمراً عارضاً للموجود الثابت كذلك الحركة والسیلان والتدرّج لیس أمراً عارضاً للموجود السیّال، وإنّما العقل ینتزع من الأوّل مفهوم الثَّبات ومن الثانی مفهوم السیلان والتدرّج والحركة، فلیس بإزاء مفهوم الحركة فی الخارج إلاّ نحو وجود الموجودات المتحرّكة. والوجود السیّال وجود واحد متّصل ممتدّ، ولیس له أجزاء بالفعل ولا حدود متمیّزة، وحدوث الحدّ والجزء بالفعل یساوق انقطاع الحركة وانفصام الوحدة، لكنّ الانقسام بالقوّة لا یقف إلى نهایة كما هو الشأن فی كلّ امتداد وبُعد، كالخطّ والسطح والزمان. فلا یلزم من صدق الحركة على الخارج كون الشیء بصرف النظر عن حمل الحركة علیها أمراً غیر تدریجیّ، كما لا یلزم منه وجود كون آنیّ أو أكوان آنیّة لنفس الحركة كما ربما یتوهّم. ولعلّ من هذا التوهّم نشأ القول بأنّ الحركة التوسّطیّة تكال بالآن السیّال، فلیتأمّل.
3. إنّ الزمان ـ كما حقّقه صدر المتألّهین أیضاً وسیأتی فی الفصل الحادی عشر لیس أمراً مبائناً للاُمور الزمانیّة ولا ظرفاً فارغاً تملأه الحوادث، بل هو فی الحقیقة بُعد من أبعاد الموجودات المادّیة یعبّر عن ترتّب أجزائها بالقوّة، وقد اعتبروه عرَضاً غیر قارّ من أنواع الكم المتّصل، ولنا فی كونه مهیّة عَرَضیّة كلام یجری فی سائر أقسام الكم المتّصل أیضاً، والأشبه أنّه معقول ثان ینتزع من نحو وجود الزمانیّات بالنظر إلى ترتّب أجزائها المفروضة طولیّاً بحیث لا یوجد جزء إلاّ مع انعدام جزء سابق علیه.
فهذا البُعد الخاصّ یسمّى زماناً والأشیاء الواجدة له تسمَّى زمانیّات، كما أنّها بالنظر إلى تغیّرها تدریجاً تسمّى متحرّكات، ونفس التغیّر التدریجیّ یسمّى حركة، وهما مفهومان متلازمان ولیس بینهما علیّة ومعلولیّة بمعنى التأثیر والتأثّر الخارجیّ.(1)
4. انّ اعتبار «الكون بین المبدء والمنتهى» أو «التوسّط بینهما» كأمر ثابت لا یتغیّر ولا ینقسم، لا یعنی إلاّ مفهوماً عقلیّاً هو الحركة بالحمل الأوّلیّ، ولیس كلّیاً طبیعیّاً ولا وجوداً شخصیّاً خارجیّاً، وأما الكون والتوسّط الخارجیّ فهو أمر تدریجیّ قابل للانقسام، ولا یتّصف بالثبات والبساطة بمعنى عدم قبول الانقسام، نعم یتّصف بالاتّصال والوحدة، ولا ینافی ذلك تحقّق أجزائه المفروضة مترتّباً بعضها على بعض. فإن كان المراد بالحركة التوسّطیة ذلك المفهوم العقلیّ فإنّه وإن كان أمراً ثابتاً لا یتغیّر ولا ینقسم لكنّه لیس أمراً خارجیاً وإنّما له من الحركة مفهومها بالحمل الاَوّلیّ، ولا ینافی ذلك كون مصداقها أمراً متدرّجاً منقسماً بالقوّة، لتعدّد الحمل. وإن كان المراد بها الكون السیّال الخارجیّ فهو لیس أمراً ثابتاً لا ینقسم. ومجرّد عدم اعتبار نسبتها إلى الحدود لا یصحّح ثباتها وعدم قابلیّتها للانقسام. فالحركة التوسّطیّة كأمر ثابت غیر منقسم لا تنطبق على حقیقة الحركة الخارجیّة والتی هی حركة بالحمل الشائع، ولا یجدی فی ذلك اعتبار نسبتها إلى الثابتات فی وعاء الدهر، كما أنّه لا یصحّ جعلها بهذا الاعتبار راسمةً للزمان الذی هو عین التدرّج وعدم الثبات، إذا صحّ جعل الحركة بوجهٍ راسمةً للزمان.
والحاصل أنّ الأمر یدور بین اعتبار الحركة التوسّطیة كمفهوم عقلیّ له خاصّته من الثبات والكلّیة وعدم الانقسام فیلزم نفیها عن الخارج، وبین إلغاء قید الثبات وعدم الانقسام فتصیر هی الحركة القطعیّة بعینها، ولا یبقى فرق بینهما إلاّ بحسب الاعتبار، ولیس من شأن الحكیم أن یولی عنایة بمثل هذا الفرق.
1. راجع: الأسفار: ج3، ص199ـ200.
وقد ظهر أنّ نفی الحركة القطعیّة بمعنى الأمر الواحد المتّصل المتدرّج القابل للانقسام لا إلى نهایة یؤول إلى نفی حقیقة الحركة والقول بالوجودات الآنیّة المترتّبة. اللّهمّ إلاّ أن یكون مراد النافی نفی الأكوان المترتّبة بحیث یعدّ كلّ واحد منها قطعاً لحدّ من المسافة، أو یكون مراده نفی اجتماع أجزائها فی الخارج كاجتماع أجزائها فی الخیال ـ كما لا یبعد هذا المعنى عن كلام الشیخ ـ فلیتأمّل.
قد مرّ أن الحركة تتعلّق بستّة اُمور منها المبدء والمنتهى. ویمكن أن یستدلّ للزومهما فی كلّ حركة بما یستفاد من التعریف المشهور «إنّ الحركة خروج الشیء من القوّة إلى الفعل تدریجاً» فهناك قوّة هی مبدء الحركة، وفعلیّة هى منتهاها، والحركة هی نفس الخروج أو التوسّط بینهما. لكن یمكن أن یقال: إنّ المبدء والمنتهى إنّما یلزمان الحركة المحدودة بما أنّها محدودة لا بما أنّها حركة، فلو وجدت حركة أزلیّة وأبدیّة ـ كما یقال عن حركة الأفلاك ـ لم تحتج إلى مبدء ومنتهى. وبذلك یظهر أنّ أخذ القوّة والفعل فی تعریف الحركة لیس بمعنى أنّهما طرفان لازمانِ لكلّ حركة،(1) وبالنظر إلى هذا الإیهام یظهر وجه حسنٍ آخر للتعریف الذی اخترناه.
ثمّ إنّ وجود المبدء والمنتهى للحركة المحدودة لیس بمعنى أنّ جزئین منها یتّصفان بهذین الوصفین، لأنّ كلّ جزء فُرض للحركة كان له امتداد قابل للانقسام
1. راجع: أواخر الفصل الأوّل من المقالة الثانیة من الفنّ الأوّل من طبیعیّات الشفاء.
لا إلى نهایة، فكان لما فُرض مبدءاً مبدء، ولمبدئه مبدء وهكذا. لكن لا یلزم من ذلك أن یكون المبدء والمنتهى أمرین وجودیّین واقعین فی طرفَیِ الحركة، بل یكفی اعتبار الطرفین العدمیَّین مبدءاً ومنتهى لها، كما هو الشأن فی سائر الامتدادات، كالنقطة التی تعتبر مبدءاً ومنتهى للخطّ.
نعم، الأمر الذی لابدّ من وجوده فی كلّ حركة هو جهة الحركة، وتعدّد جهات الحركة أحد أمارات تعدّدها، ولعلّ اعتبار المبدء والمنتهى إنّما هو بالنظر إلى تعیّن الجهة بهما، فلیتأمّل.
فالقوّة والفعل إنّما یصحّ اعتبارهما مبدءاً وغایةً للحركة بالعرض لا بالذات، خاصّة بالنظر إلى أنّ المادّة عندهم هی موضوع الحركات، وسیأتی الكلام فیه.
ربما یظنّ أنّ الحركة من الأعراض التی تلحق الجواهر بلا واسطة أو بواسطة عرض آخر، ومن هنا جعلها الشیخ الإشراقیّ من المقولات العرضیّة، وربما یظنّ أنّ الحركة إذا نُسبت إلى المحرّك كانت من مقولة أن یفعل، وإذا نُسبت إلى المتحرّك كانت من مقولة أن ینفعل، إلى غیر ذلك من الوجوه التی ذكرها الشیخ فی طبیعیّات الشفاء.(1) ثمّ قال: «إنّ قولنا إنّ مقولة كذا فیها حركة قد یمكن أن یفهم منه أربعة معانٍ: أحدها أنّ المقولة موضوع حقیقیّ لها قائم بذاته، والثانی أنّ المقولة وإن لم تكن الموضوعَ الجوهریَّ لها فبتوسّطها تحصل للجوهر، إذ هی موجودة
1. راجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة من الفن الأوّل من نفس المصدر.
فیها أوّلاً كما أنّ الملاسة إنّما هی للجوهر بتوسّط السطح، والثالث أنّ المقولة جنس لها وهی نوع لها، والرابع أنّ الجوهر یتحرّك من نوع لتلك المقولة إلى نوع آخر ومن صنف إلى صنف. والمعنى الذی نذهب إلیه هو هذا الأخیر».(1)
ثمّ إنّ تحوّل شیء الى شیء آخرَ یتصوّر على وجوه: أحدها أن یتحوّل من فرد من مهیّة إلى فرد آخر مع وحدة الصنف، ثانیها أن یتحوّل من صنف إلى صنف آخر من مهیّة واحدة، وثالثها أن یتحوّل من نوع إلى نوع آخر مع وحدة الجنس القریب، ورابعها أن یتحوّل من جنس قریب أو متوسّط إلى جنس آخر كذلك، وخامسها أن یتحوّل من مقولة (جنس عال) إلى مقولة اُخرى. أمّا الفرضان الأوّلان فلا یوجبان تغیّراً فی الذاتیّات، وأمّا سائر الفروض فیوهم تغیّر الذاتیّ وانقلاب المهیّة. وقد لاحظنا أنّ الشیخ جعل من مصادیق المعنى الصحیح لوقوع الحركة فی المقولة أن یتحرّك الموضوع من نوع من تلك المقولة إلى نوع آخر منها، وسیأتی أنّ الحركة عند صدر المتألّهین وأتباعه تستلزم دائماً تبدّل نوع إلى نوع آخر. وكیف كان فیتساءل عن كیفیّة الجمع بین قبول هذا التحوّل وقبول القاعدة القائلة إنّ تخلّف الذاتیّ وتبدّله محال.
والجواب أنّ الحركة إنّما هی سیلان الوجود، ولیست من المهیّات ولا من الاعتباریات اللاحقه بها بما أنّها مهیّات. فالموجود إذا كان ثابتاً انعكس فی الذهن كمفهوم ماهویّ ثابت لا یتغیّر ولا یتبدّل، وأمّا إذا كان سیّالاً فربما ینتزع عن جمیع حدود حركته مهیّة واحدة، وهذا هو الذی یعبّر عنه بتحوّله من فرد إلى فرد آخر، أو من صنف إلى صنف آخر، یعنون الفرد أو الصنف الموجود بالقوّة. وربما تنتزع عن الحدود المختلفة مهیّات متعدّدة، وعند ذلك یقال إنّه تحوّل من نوع إلى نوع آخر،
1. راجع: الفصل الثالث من الثانیة من الفنّ الأوّل من نفس المصدر؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص563567؛ والأسفار: ج3، ص69ـ75.
لكن لا یعنی ذلك انقلاب المهیّة، فإنّ المهیّة بما أنّها مهیّة لم تنقلب عمّا هی علیه، وإنّما التحوّل والتغیّر واقع فی حدود الوجود وینتزع من كل حدّ من حدوده مهیّة خاصّة ثابتة بما أنّها مهیّة. وأمّا التحوّل من مقولة إلى مقولة اُخرى فغیر واقع.
وقد یظنّ أنّ تغیّر الوجود فی نفسه الذی یطرد العدم عن المهیّة، أیضاً یوجب تغیّر المهیّة، ولهذا نسبوا التغیّر إلى الوجود الناعت، كما أنّه قیل إنّ التشكیك فی العرضیّات دون الأعراض. ویلاحظ علیه أنّ الوجود الناعت الذی یعبّر عنه بالمشتقّات كالمتكمّم والمتكیّف مفهوم انتزاعیّ، ولا یعقل التغیّر فیه إلاّ بتغیّر منشأ انتزاعه.
والحاصل أنّ جعل المسافة ـ بمعنى ما فیه الحركة ـ هی المقولة إنّما یتوجّه بالنظر إلى أنّها لا تتغیّر فی أیّ حركة، فلصدق مفهومها على جمیع مراتب الحركة یصحّ اعتبارها كمجرى لها.
قد مرّ فی الفصل الثالث عشر من المرحلة السادسة أنّ تبدُّل الخطّ المستقیم إلى المستدیر ممتنع إلاّ بزوال الأوّل وحدوث الثانی، فلا یصحّ عدّ هذا التغیّر حركة، مضافاً إلى توقّفه على إثبات الحركة فى الكم، فكان الأولى تقدیم ذلك، وسیأتی الكلام فیها.
للمعترض أن یرجع القول فیسلّم تبدیل الأجزاء المنضمّة إلى الأجزاء الأصلیّة
وینكر كون ذلك بالحركة، بدعوى أنّ الجزء المنضمّ وإن حصل فیه تغیّرات تدریجیّة لكن صورة الجزء الأصلیّ إنّما تحصل فیه دفعةً، وبعبارة اُخرى: عندما یستعدّ للحوقه بالأجزاء الأصلیّة ینعدم الكم السابق ویحدث كم جدید، فتبدّل الكم دفعیّ لا تدریجیّ.(1)
أخذ التدرّج فی مفهوم شیء بأیّ نحو كان یستلزم عدم انفكاكه عن الحركة، فإذا كانت الحركة مستدعیة للانقسام إلى أجزاء آنیّة الوجود، كان الشیء الذی اُخذ فی مفهومه التدرّج أیضاً منقسماً إلی أجزاء آنیّة الوجود لكن قد عرفت أنّ الحركة والتدرّج لا تقتضی الانقسام إلى أجزاء آنیّة، وإنّما تقتضی الانقسام إلى أجزاء ممتدّة من سنخها، والجزء الآنیّ للحركة تعبیر مسامحیٌ حقیقته أنّه إذا انقسمت الحركة إلى أجزاء بالفعل كان كلّ جزء منها منتهیاً إلى طرف آنیّ هو فی الواقع أمر عدمی.
وكیف كان فقد عرفت فی محلّه(2) أنّ ما یسمّى بمقولة أن یفعل ومقولة أن ینفعل هو فی الواقع معقول ثان یعبّر عن نحو العلّیة والمعلولیّة بین الاُمور المادّیة، ولا یتمّ ذلك إلاّ بالحركة. فالإشكال فی وقوع الحركة فیهما یرجع إلى الإشكال فی وقوع الحركة فی الحركة، وسیأتی الكلام فیه فی الفصل اللاحق.
بل لزوم الموضوع فی كلّ حركة ممنوع، وسیأتی الكلام فیه فی الفصل التاسع.
1. راجع: الأسفار: ج3، ص89ـ93.
2. راجع: التعلیقة: الرقم 207.
من ذلك ما حكى الشیخ عن بعضهم أنّ الجوهر أیضاً منه قارّ ومنه سیّال،(1) لكنّه أوّله بالكون والفساد، ووصفه فی موضع آخر(2) بأنـّه قول مجازیّ، ثمّ أقام حججاً على عدم جواز وقوع الحركة فی الجوهر.(3)
هذا هو أوّل البراهین التی أقامها صدر المتألّهین على وجود الحركة فی الجوهر،(4) وهو یتشكّل من مقدّمتین: إحداهما أنّ علّة الحركات العرضیّة هی الطبیعة الجوهریّة، وثانیتهما أنّ علّة المتحرّك یجب أن تكون متحرّكة، فینتج أنّ الطبیعة الجوهریّة متحرّكة. أمّا المقدّمة الاُولى فقد تصدّى لإثباتها فی فصل مستقلّ،(5) وحاصل كلامه فیه أنّ الحركات سواءً كانت طبیعیّة أو قسریّة أو إرادیّة تنتهی لا محالة إلى الطبیعة،(6) واستشهد بقول الحكماء فی تعریف الطبیعة أنّها المبدء بالذات لحركة المتحرّكات. وأمّا المقدّمة الثانیة فاحتجّ لها كما فی المتن بأنّ العلّة إذا كانت ثابتة كان معلولها ثابتاً ولم تنعدم أجزاؤه شیئاً فشیئاً.
ویمكن أن یستشكل بأنّ الطبیعة إن كانت علّة للحركات العرضیّة فِلِمَ لا تكون
1. راجع: الثانی من ثانیة الأوّل من طبیعیّات الشفاء.
2. راجع: الثالث من ثانیة الأوّل من نفس المصدر؛ وراجع: الأسفار: ج3، ص111.
3. راجع: نفس المصدر؛ وج3: ص85 و 105ـ107؛ وراجع: التحصیل: ص426؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص583593.
4. راجع: الأسفار: ج3، ص6164.
5. راجع: نفس المصدر: ص6467.
6. سیأتی الكلام فیه فی الفصل العاشر من هذه المرحلة.
تلك الحركات دائمة بدوام الطبیعة؟ ولِمَ لا یجوز أن یستشهد بالسكونات على ثَبات الطبیعة؟
ویمكن أن یقال فی دفع الإشكال: إنّ بعض الطبائع مسخَّرة لفاعل إرادیّ، كالقوى المنبثّة فی عضلات الحیوان، ففعلها تابع لإرادة النفس المسخِّرة لها، وأمّا سائر الطبائع فأفعالها منوطة بحصول شرائط كوجود موادّ خارجیّة وأوضاع خاصّة وارتفاع موانع، فالطبیعة إنّما تكون مقتضیة للحركات العرضیّة لا علّة تامّة لها.
لكن هناك إشكال أصعب دفعاً، وهو عدم ثبوت الحركات العرضیّة فی جمیع الأجسام بالضرورة، فغایة ما یثبت بهذا البیان وجود الحركة الجوهریّة فی الجملة. اللّهمّ إلاّ أن یقال بأنّ إمكان الحركة العرضیّة فی جمیع الأجسام كافٍ لإثبات مبدء لها یصحّ استناد تلك الحركة الممكنة الوقوع إلیه على فرض التحقّق، أو یقال بأنّ الطبائع أمثال فحكمها واحد، فلیتأمّل.
حاصل الإشكال أنّ استناد المعلول المتغیّر إلى العلّة الثابتة ممّا لا محیص عنه، فكما أنّ القائل بالحركة الجوهریّة یسند الجوهر المتحرّك بالذات إلى العلّة الثابتة، فلتكن الأعراض المتغیّرة أیضاً مستندة إلى جوهر ثابت.
وحاصل ما ذكره من الجواب أنّ بین الحركة الجوهریّة والحركة العَرَضیّة فرقاً من جهة أنّ الحركة الجوهریّة هی عین وجود الجوهر ومجعولة بجعله جعلاً بسیطاً، لما أنّ وجوده لنفسه، أمّا الأعراض فلیس وجودها لأنفسها بل لموضوعاتها، فتكون مجعولة بجعل تألیفیّ ولابدّ من واسطة هی الجوهر.
لكن یلاحظ علیه أنّ وجود الصور الجوهریّة أیضاً للموادّ كما مرّ فی الفصل الثالث من المرحلة الثانیة، فإن كان ملاك الفرق هو كون وجود الأعراض للغیر
لجرى ذلك فی الصور الجوهریّة أیضاً. قال الشیخ فی التعلیقات «الجسم لیس مستقلاً بنفسه فإنّ وجودَه لغیره، فالصور الجسمیّة موجودة للهیولى، قائمة بها»(1) والأولى فی الجواب أن یقال ـ مضافاً إلى أنّ الحركة لو كانت ذاتیّة للأعراض لما تخلّفت عنها ـ إنّ تغیُّر الفاعل إنّما یلزم فی الفاعل الطبیعیّ، والحركة الجوهریّة لمّا كانت عین وجود الجوهر لا تحتاج إلاّ إلى فاعل إلهیّ یفیض وجوده الذی هو عین الحركة، وأمّا الأعراض فهی على صنفین: منها أعراض لازمة لموضوعاتها مجعولة بجعلها على ما سیأتی، ومنها أعراض مفارقة تقع فیها الحركات المشهورة، وهی التی تحتاج إلى فاعل طبیعیّ یستند إلیه تغیّرها لا وجودها، والفاعل الطبیعیّ یجب أن یكون متغیّراً بتغیّر فعله، فافهم.
ذكر فی الأسفار مقدّمة لهذا البرهان بیّن فیها أنّ العوارض المشخّصة إنّما هی علامات التشخّص، وأنّ الوجود متشخّص بذاته، وإنّما تنبعث عنه انبعاثَ الضوء عن المضیء، ثمّ قال: «كلُّ شخص جسمانیّ یتبدّل علیه هذه المشخّصات كلّاً أو بعضاً كالزمان والكم والوضع والأین وغیرها فتبدُّلها تابع لتبدُّل الوجود المستلزم إیّاها، بل عینه بوجه، فإنّ وجود كلّ طبیعة جسمانیّة یُحمل علیه بالذات أنّه الجوهر المتّصل المتكمّم الوضعیّ المتحیّز الزمانیّ لذاته، فتبدّل المقادیر والألوان والأوضاع یوجب تبدّل الوجود الشخصیّ الجوهریّ الجسمانیّ، وهذا هو الحركة فی الجوهر».
والحاصل أنّ كلَّ شخص من الموجودات الجسمانیّة فله وجود واحد متشخّص بذاته، وتنتزع عنه مفاهیم عرَضیّة هی علامات تشخّصه، وتبدّل تلك العلامات یعنی تبدّلاً فی ذی العلامة، وهو الجوهر الباقی بشخصه.
1. راجع: التعلیقات: ص64.
وهذا البیان إنّما یتمّ بعد إثبات أنّ لكلّ موجود جسمانیّ وجوداً واحداً هو بعینه وجود مهیّته الجوهریّة وماهیّاته العرضیّة، لا أنّ هناك وجوداتٍ منضمّةً ببعضها أو متّحدةً اتّحادَ الرابطیّ بموضوعه. وذلك هو الذی یعبّر عنه بأنّ وجودات الأعراض من مراتب وجود الجوهر أو شؤونه وأطواره. ومجرّد إثبات أنّ الوجود متشخّص بذاته لا یكفی مؤونته، لجواز أن یكون للجوهر وجود متشخّص بذاته، وینضمّ إلیه أو یتّحد به وجودات عرَضیّة لكلٍّ منها تشخُّصه.
ولهذا ركّز فی المتن على أنّ الأعراض من مراتب وجود الجوهر، كمقدّمة اُولى للبرهان، وبیّنها بأنّ وجودها فی نفسها عین وجودها لموضوعاتها. لكن لقائل أن یقول: إنّ الوجود للغیر الذی یعبَّر عنه بالوجود الناعت لیس إلاّ عنواناً انتزاعیّاً یحكی عن اتّحاد بین الوجودین لا وحدتهما حقیقةً. فمعنى العینیّة أن لیس هناك وجودان اثنان للعرض، لا أنّ وجود العرض عین وجود الجوهر، فتأمّل.
وأسدُّ البراهین لإثبات الحركة فی الجوهر هو ما أشار إلیه صدر المتألّهین فی مواضع، ویبتنی على معرفة حقیقة الزمان كبُعد تدریجیّ للموجود الجسمانیّ، فكما أنّ الجسم التعلیمیّ دلیل على أنّ الجسم الطبیعیّ أمر ممتدّ فی ذاته یتعیّن امتداده بالجسم التعلیمیّ كذلك الزمان یدلّ على أنّ الموجود الجسمانیّ أمر متدرّج فی ذاته. بل الحقّ أنّ الزمان لیس من العوارض الخارجیّة للأجسام، وإنّما هو مفهوم عقلیّ ینتزع عن نحو وجودها التدریجیّ ویجری ذلك فی مطلق الكم المتّصل كما أشرنا إلیه مراراً.
قال صدر المتألّهین: «فالزمان عبارة عن مقدار الطبیعة المتجدّدة بذاتها من جهة تقدّمها وتأخّرها الذاتیّین، كما أنّ الجسم التعلیمیّ مقدارها من جهة قبولها للأبعاد الثلاثة، فللطبیعة امتدادان، ولها مقداران: أحدهما تدریجیّ زمانیّ یقبل الانقسام الوهمیّ إلى متقدّم ومتأخّر زمانیّین، والآخر دفعیّ مكانیّ یقبل الانقسام إلى متقدّم
ومتأخّر مكانیّین. ونسبة المقدار إلى الامتداد كنسبة المتعیّن إلى المبهم، وهما متّحدان فی الوجود متغایران فی الاعتبار، وكما لیس اتّصال التعلیمیّات المادّیة بغیر اتّصال مّا هی مقادیره فكذلك اتّصال الزمان لیس بزائد على الاتّصال التدریجیّ الذی للمتجدّد بنفسه. فحال الزمان مع الصورة الطبیعیّة ذاتِ الامتداد الزمانیّ كحال المقدار التعلیمیّ مع الصورة الجرمیّة ذاتِ الامتداد المكانیّ. فاعلم هذا، فإنّه أجدى من تفاریق العصا.
ومن تأمّل قلیلاً فی مهیّة الزمان یعلم أن لیس لها اعتبار إلاّ فی العقل، ولیس عروضها لما هی عارضة له عروضاً بحسب الوجود كالعوارض الخارجیّة للأشیاء كالسواد والحرارة وغیرهما، بل الزمان من العوارض التحلیلیّة لما هو معروضه بالذات. ومثل هذا العارض لا وجود له فی الأعیان إلاّ بنفس وجود معروضه، إذ لا عارضیّة ولا معروضیّة بینهما إلاّ بحسب الاعتبار الذهنیّ، وكما لا وجود له فی الخارج إلاّ كذلك فلا تجدّد لوجوده ولا انقضاء ولا حدوث ولا استمرار إلاّ بحسب تجدّد ما اُضیف إلیه فی الذهن وانقضائه وحدوثه واستمراره. والعجب من القوم كیف قرّروا للزمان هویّة متجدّدة! اللّهمّ إلاّ أن عنوا بذلك أنّ مهیّة الحركة مهیّة التجدّد والانقضاء لشیء یکون الزمان كمّیتها. ولهذا رأی صاحب التلویحات أنَّ الحركة من حیث تقدّرها عین الزمان وإن غایرته من حیث هی حركة، فهو لا یزید علیها فی الأعیان بل فی الذهن فقط إذا اعتبرت من حیث هی حركة فقط».(1)
وقال فی موضع آخر: «اعلم أنّه فرق بین الأحوال التی هی من ضروریّات وجود الشیء ولوازم هویّته بحیث لا یمكن خلوّ الموضوع عنها وعمّا یستلزمها أو ما یلزمها بحسب الواقع، والأحوال التی لیست من هذا القبیل فیمكن خلوّ الموضوع عنها فی الواقع، فالقسم الأوّل كالمقدار والوضع والمكان والزمان للجسم،
1. راجع: الأسفار: ج3، ص103ـ104 و 115ـ118.
والقسم الثانی كالسواد والحرارة والكتابة وأشباهها له ـ إلى أن قال ـ لا شبهة فی أنّ كون الشیء واقعاً فی الزمان وفی مقولة «متى» ـ سواء كان بالذات أو بالعرض ـ هو نحو وجوده، كما أنّ كون الشیء واقعاً فی المكان وفی مقولة «أین» ـ سواء كان بالذات أو بالعرض ـ هو نحو وجوده. فإنّ العقل المستقیم یحكم بأنّ شیئاً من الأشیاء الزمانیّة أو المكانیّة یمتنع بحسب وجوده العینیّ وهویّتهِ الشخصیّة أن ینسلخ عن الاقتران بهما ویصیر ثابت الوجود بحیث لا تختلف علیه الأوقات ولا تتفاوت بالنسبة إلیه الأمكنة والأحیاز، ومن جوّز ذلك فقد كابَر مقتضى عقله، وعاند ظاهرهُ باطنَه، ولسانُه ضمیرَه.
فإذن كون الجسم بحیث تتغیّر وتتبدّل علیه الأوقات ویتجدّد له المضیّ والحال والاستقبال ممّا یجب أن یكون لأمر صوریّ داخل فی قوام وجوده فی ذاته حتّى یكون فی مرتبة قابلیّة لهذه التجدّدات غیر متحصّلة الوجود إلاّ بصورة التغیّر والتجدّد ـ إلى أن قال ـ فإذن تبیّن وانكشف أنّ نعت التغیّر والتجدّد للأجسام ووقوعها فی مقولة «متى» أمرٌ صوریّ جوهریّ مقوّم لها أو مقوّم لما یلزم وجودها وشخصیّتها أو فی مرتبة وجودها وشخصیّتها، ولیس من العوارض التی یمكن تجرّد الجسم عنها وخلوّه فی الواقع عن عروضها كالسواد والحرارة ونظائرهما، فوجب أن یكون صورة الأجسام صورة متجدّدة فی نفسها وطبیعتها التی بها یكمل ذاتها ویتحصّل نوعیّتها ویتقّوم مادّتها أمراً متجدّدة الهویّة متدرّجة الكون حادثة الذات...»(1).
والحاصل أنّه ما من شیء جسمانیّ إلاّ وینتزع مفهوم الزمان عن نحو وجوده ومن جهة انقسامه إلى اجزاء سابقة ولاحقة بالقوّة، ولا یمكن انتزاع مثل هذا المفهوم إلاّ ممّا كان وجوده تجدّدیّاً وقابلاً للانقسام إلى أجزاء سابقة ولاحقة زماناً، فوجود جمیع الجواهر الجسمانیّة یكون متجدّد الذات، وهو الحركة فی الجوهر.
1. راجع: نفس المصدر: ج7، ص290ـ295.
ولا یخفى أنّ هذا البرهان یثبت الحركة الجوهریّة المتشابهة الأجزاء كما أنّ الزمان أمر وحدانیّ لا تشكیك فی أجزائه إلاّ من حیث التقدّم والتأخّر. وهذا لا یوافق ما یقال من لزوم الاشتداد فی كلّ حركة، وسیأتی الكلام فیه.
سیأتی فی الفصل التالی أنّ الصور الجوهریّة على قسمین: قسم منها یتعاقب على المادّة من دون أن تكون الصورة اللاحقة مرتبة كاملة من وجود الصورة السابقة بل بطریق اللبس بعد الخلع، وقسم منها یحصل طولیّاً بطریق اللبس بعد اللبس. وفی هذا القسم فقط یمكن أن تعتبر الصور المتواردة صورةً واحدة ذات مراتب، لكن فی هذا القسم أیضاً یمكن منع وحدة الصور، لأنّ هذه الوحدة تقتضی أن ترجع الاختلافات إلى الضعف والشدّة، فتتحقّق مرتبة من الحیوان والنبات وآثارهما فی التراب مثلاً، وأیضاً یلزم من وحدتها عدم تعیّن حدود بین المراتب بحیث یصحّ تمییز الأنواع عن بعضها، والواقع خلافه. فالحقّ أنّ لكلّ من الصور الجوهریّة وجوداً سیّالاً خاصّاً، وأنّ بعضها یوجد فوق بعض حالّاً فیه أو متعلّقاً به. فهناك حركة جوهریّة واحدة تعمّ جمیع الأجسام، وتوجد فوقها صور متعاقبة أو متراكبة حسب ما تستعدّ لها الموادّ، ولكلّ واحدة منها حركتها الجوهریّة الخاصّة بها.
یتصوّر الحركة ـ وهی التغیّر التدریجیّ ـ على ثلاثة أشكال: حركة متشابهة لا تختلف بالشدّة والضعف، وحركة اشتدادیّة تسیر من الضعف إلى القوّة، وحركة تضعّفیة تسیر من القوّة إلى الضعف. وتوجد أمثلتها فی الحركة الأینیّة، فمثال الاُولى الحركة التی تكون سرعتها ثابتة، ومثال الثانیة الحركة التی تزداد سرعتها شیئاً فشیئاً، ومثال
الثالثة الحركة التی تنتقص سرعتها یسیراً یسیراً. ویجری هذا التقسیم فیها أیضاً باعتبار اشتداد وجود المقولة بالحركة أو تضعّفه أو انحفاظ مرتبة وجوده فی مراحلها. لكن بعض التعاریف التی ذكرها الفلاسفة للحركة یوحی بنفی الحركة التضعفیّة بل المتشابهة أیضاً، من ذلك ما یستظهر من أوّل التعاریف التی ذكرناها تحت الرقم (299) أن المتحرك یصیر أقوىٰ بالحركة لما یخرج من القوة إلی الفعل، وخاصَّةً بالنظر إلی ما صَّرح به الاُستاذ(قدسسره) أنّ العلاقة بین القوّة والفعل هی العلاقة بین الضعف والشدّة وبین النقص والكمال، وكذا ما یستظهر من التعریف الثانی أنّ المتحرّك یستكمل بالحركة لما أنّها كمال أوّل له ومقدّمة للحصول على الكمال الثانی. لكن یمكن أن یقال: إن الفعلیّة إنّما تكون أقوى بالنسبة إلى حیثیّة القوّة التی فی المتحرّك لا إلى فعلیّته، وكذا الاستكمال إنّما تكون بالنظر إلى تلك الحیثیّة. وكیف كان فقد بیّنّا تحت الرقم (294 و 297) أنّ القوّة والفعل أمران قیاسیّان، وأنّ الموجود بالقوّة إنّما یسمّى «بالقوّة» بالنظر إلى إمكان تبدّله إلى موجود آخر، سواء كان مساویاً له أو أقوى أو أضعف منه، ویتمّ ذلك بترك ما یجد من الفعلیّة التی تزول لا محالة بانصرام الزمان ویمتنع العود إلیها البتّة، ولا تكون الحركة المتشابهة عوداً إلى القوّة، ولا التضعّفیّة عوداً إلى قوّة القوّة، وإنّما هما سیر إلى الفعلیّة التی تساوی الفعلیّة الزائلة أو تنقص منها بحسب مرتبة الوجود وشدّته وضعفه.
نعم، إذا كانت الحركة إرادیّة قد یكون اختیار التضعّف فاقداً للمصلحة ومخالفاً للحكمة إذا لم یكن وراءه غایة أشرف، لكن مخالفة الحكمة غیر الامتناع، وجمیع الحركات لیست إرادیّة، ووجود الغایة الحكیمة للعالم الجسمانیّ كنظام واحد لا ینافی وجود الحركة المتشابهة والتضعّفیّة فیه، وسیتّضح وجهه عند الكلام على كیفیّة وجود الشرور فی القضاء الإلهیّ. وسیأتی فی الفصل التالی قبول الحركة المتشابهة فی الجملة.
ثمّ إنّ لصدر المتألّهین كلاماً استُظهر منه لزوم الاشتداد فی كلّ حركة حیث قال: «لكنّ المقولة التی فیها الحركة لابدّ أن تقبل الاشتداد والاستكمال، وهذا فی الأین والوضع غیر ظاهر عند الناس وذلك متحقّق فیهما، فإنّ كلّاً منهما یقبل التزیّد والتنقّص، وأمّا الحركة فی الكیف فهو اشتداده أو تضعّفه...» فقال المحقّق السبزواریّ فی تعلیقته على صدر هذا الكلام: «... وهذا تشكیك فی متن الحركة بما فیها من الاتّصال واختلاف الأجزاء، ویتفرّع علیه امتناع الحركة من الشدّة إلى الضعف بالذات، فإنّ لازمها هو خروج الشیء من الفعل إلى القوّة تدریجاً...» وكتب السیّد الاُستاذ فی تعلیقته: «هذا صریح منه(رحمةالله) فی أنّه لا یرى شیئاً من أقسام الحركة خالیاً من معنى التشكیك، ولازمه المنع من وقوع الحركة من الشدّة إلى الضعف، وكذا الحركة من مشابه إلى مشابه، أی مع التساوی بین الأجزاء من حیث الشدّة والضعف» ولیت شعری على ماذا حملوا عبارته الأخیرة «أمّا الحركة فی الكیف فهو اشتداده أو تضعّفه»؟! فهذه العبارة أمارة واضحة على أنّ مراده لزوم كون المقولة التی تقع فیها الحركة ممّا یقبل الاشتداد والتضعّف والتزیّد والتنقّص، لا لزوم كون كلّ حركةٍ اشتدادیّةً.(1)
لعبارة «الحركة فی الحركة» ثلاثة معان: أحدها أن یكون تحقّق الحركة والتدریج تدریجیّاً، فیفرض لها حال لا یصدق علیها الحركة ولا السكون، وهذا واضح البطلان. وثانیها أن تتّصف حركة مّا بوصف آخر تدریجاً، كما تتّصف الحركة الأینیّة بازدیاد السرعة أو انتقاصها، فحیثیّة التسارع التدریجیّ العارضة على تلك الحركة غیر ما كان لها بما أنّها حركة أینیّة، فلك أن تعتبرها حركتین اثنتین تختلفان
1. راجع: نفس المصدر: ج3، ص80ـ81.
باختلاف المبدء والمنتهى وباختلاف الجهة، فالحركة الأینیّة یكون مبدؤها نقطة خاصّة ومنتهاها نقطة اُخرى وتكون جهتها من الیمین إلى الیسار على الخطّ المستقیم مثلاً، وأمّا ازدیاد السرعة فتُعتبر حركةً اُخرى مبدؤها درجة من السرعة ومنتهاها درجة اُخرى لها، ویكون جهتها من الضعف إلى الشدّة على الخطّ المنحنی مثلاً. وثالثها أن یوجد أمر متحرّك فی محلّ متحرّك، فیكون للحالّ حركة بتبع المحلّ، وحركة اُخرى لها بالأصالة، كما فی الصور المتراكبة ـ على القول بها ـ فحركة المحلّ تكون حركة متشابهة وكذا حركة الحالّ بتبعه، وأمّا الحركة الأصیلة للحالّ فربما تكون متشابهة أیضاً، وربما تكون اشتدادیّة أو تضعّفیّة. ومن هذا القبیل وجود الحركتین للأعراض المتغیّرة تدریجاً. والمعنیان الأخیران صحیحان، فلنسمّهما بالحركة على الحركة فرقاً بینهما وبین المعنى الباطل.
قال صدر المتألّهین: «هی ـ أی الحركة ـ بعینها مقولة أن ینفعل إذا نُسبت إلى القابل، ومقولة أن ینفعل إذا نُسبت إلى الفاعل، ولهذا یمتنع أن تقع الحركة فی شیء منهما، لأنّها الخروج عن هیئة والترك لهیئة، فهی یجب أن تكون خروجاً عن هیئة قارّة، لأنّها لو وقعت فی هیئة غیر قارّة لما كان خروجاً عنها بل إمعاناً فیها. وبالجملة معنى الحركة فی مقولة عبارة عن أن یكون للمتحرّك فی كلّ آنٍ فردٌ من تلك المقولة، فلابدّ لما یقع فیه الحركة من أفراد آنیّة بالقوّة، ولیس لتینك المقولتین فرد آنیّ...».(1)
وفیه تصریح بأن هاتین المقولتین هما نفس الحركة، وإنّما تختلفان بالاعتبار، ولازم ذلك أن تكونا مفهومین انتزاعیّین لا مهیّتین حقیقیّتین، كما أشرنا إلیه سابقاً،
1. راجع: نفس المصدر: ص77ـ79؛ والتحصیل: ص429.
فراجع الرقم (207 و 307). ثمّ إنّه بیّن عدم إمكان الحركة فیهما التی هی فی معنى الحركة فی الحركة بأنّ الحركة خروج عن هیئة، فإن كانت تلك الهیئة غیر قارّة لم یتحقّق خروج عنها بل كان الخروج إمعاناً فیه، وهذا ما أشار إلیه سیّدنا الاُستاذ بقوله ـ «على أنّ لازم الحركة...» وقال السبزواریّ فی تعلیقته على هذا الموضع من الأسفار: «لأنّ الهیئة الغیر القارّة لكلّ فرد منها أجزاء غیر متناهیة، ففی الآن لا یمكن للموضوع الخروجُ منها، فلیلبث فی كلّ منها زماناً، فیلزم السكون فیها لعدم التبدّل فیها» ویمكن توضیحه بأنّ مبدء الحركة أمر آنیّ ینطبق على الآن الذی هو مبدء زمانها، وتحقُّق الحركة إنّما هو بالخروج عن ذلك المبدء الآنیّ، وأمّا على فرض وقوع الحركة فی الحركة فیلزم أن یكون المبدء أمراً زمانیّاً تدریجیّ الوقوع، فلم یكن شروع الحركة بالخروج عنه بل بالإمعان فیه، وحیث إنّ الحركة هی الخروج فلا یتحقّق لها شروع.
وكیف كان فالظاهر أنّ مراده بنفی الحركة فی الحركة هو المعنى الأوّل الذی أشرنا إلیه آنفاً، ویكفی لإبطاله أن یقال: یلزم منها أن یفرض للمتحرك حال لا یكون فیه متحرّكاً ولا ساكناً. لكنّ الاُستاذ(قدسسره) وجّه الإمعان فی الحدود بحصول البطء فی الحركة، ممّا یمكن إرجاعه إلى المعنى الثانی من المعانی التی ذكرناها للحركة فی الحركة، فلیتأمّل.
وأمّا قوله «وبالجملة معنى الحركة ـ الخ » فالمراد به أنّ الحركة لو تقطّعت لَصدق على مقاطعها مفهوم المقولة التی تقع الحركة فیها، لكنّه لا یصدق على مقاطعها مفهوم أن یفعل أو أن ینفعل، كما لا یصدق علیها مفهوم الحركة. وهذا الوجه أیضاً ینفی الحركة فی الحركة بالمعنى الأوّل، لكنّه لمّا كان موهماً لنفی سائر المعانی تصدّى الاُستاذ(قدسسره) لنقده بأنّ الذی نسلّم هو لزوم انتهاء الحركة إلى أفراد آنیّة ولو مع الواسطة، وذلك حاصل فی الحركة على الحركة، فافهم.
یلاحظ علیه مضافاً إلى عدم ثبوت المادّة كقوّة لا فعلیّة لها أنّ الوحدة المبهمة للمادّة لا تقتضی كون العالم بأجمعه حقیقة واحدة سیّالة، كیف وقد صرّح(قدسسره) بأنّ المادّة فی وحدتها وكثرتها تابعة للصورة، فالأولى أن یستدلّ بكثرة الصور على كثرة المادّة وكثرة الحقائق السیّالة فی العالم. اللّهمّ إلاّ أن یقال إن وحدة الصورة قد ثبتت بالبیان السابق، لكن قد عرفت النظر فیه، فراجع الرقم (295 و 313). نعم، الوحدة الاتّصالیّة للأجسام تُثبت وحدة الحركة المتشابهة فیها، لكنّها لا تنافی الكثرة الحاصلة بتكثر الصور المتعاقبة والمتراكبة، فتفطّن.
اعلم أنّ للموضوع اصطلاحاً فی المنطق، وهو جزء القضیّة الذی یحكم علیه؛ واصطلاحین فی الفلسفة بینهما عموم وخصوص مطلق، فالاصطلاح العامّ یشمل الجوهر بما أنّه معروض للأعراض، والمادّة التی تحلّ فیها الصورة، والاصطلاح الخاصّ یختصّ بالأخیر. قال الشیخ الرئیس فی رسالة الحدود: «یقال «موضوع» لكلّ شیء من شأنه أن یكون له كمال ما وقد كان له، ویقال «موضوع» لكلّ محلٍّ متقوّمٍ بذاته مقوّمٍ لما یحلّ فیه ـ كما یقال «هیولى» للمحلّ الغیر المتقوّم بذاته بل بما یحلّه ـ ویقال «موضوع» لكلّ معنى یحكم علیه بسلب أو إیجاب».(1)
فإن أرید بموضوع الحركة موضوع القضیّة التی یحمل فیها الحركة علیه، فالموضوع بالذات هو الوجود ویحمل علیه الحركة كعارض تحلیلیّ، وتحمل على
1. راجع: رسائل ابن سینا: ص94.
المهیّة والمقولة بعرض الوجود. وإن اُرید بموضوع الحركة موضوع العرض فذلك یختصّ بالحركات العرضیّة بما أنّها أنحاء وجودات الأعراض، ولا یصحّ التساؤل عن موضوع الحركة الجوهریّة بهذا المعنى، وإن وقع السؤال كان الجواب بالسلب التحصیلیّ. وإن اُرید به محلّ الصور الجوهریّة السیّالة اختصّ وجود الموضوع بحركاتها خاصّة، فتبقى حركات الموادّ بلا موضوع، إلاّ على القول بثبوت المادّة التی لا فعلیّة لها ونفی إسناد الحركة إلیها لعدم تحصّلها بذاتها، فتأمّل.
وكیف كان فإطلاق الموضوع على المادّة إنّما هو باعتبار حلول الصورة فیها لا باعتبار حركة الصورة، فالحركة بما أنّها حركة لا تقتضی موضوعاً أصلاً. وتوهُّم لزوم الموضوع لكلّ حركة إنّما نشأ من توهُّم كون الحركة من العوارض الخارجیّة.
قد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (279 و 313).
بل فی هذا القسم أیضاً توجد حركتان: إحداهما للجسم المتحصّل بما أنّه جسم، وهی حركة متشابهة دائماً، وثانیتهما للصورة المنطبعة فی الجسم بناء على جوهریّتها. وأمّا فی القسم الأوّل فربما توجد حركات كثیرة بناء على تراكب الصور.
إن اُرید بأنّ مجموع الفعلیّة والقوّة یصیر قوّةً لفعلیّة الحدّ اللاحق، أنّ الفعلیّة السابقة تبقى بعد حدوث اللاحقة أیضاً كان اعترافاً بتعدّد الفعلیّات، وإن اُرید أنّ الفعلیّة
السابقة لا تبقى على نعت الفعلیّة بل تندمج فی الصورة اللاحقة وتملك الأخیرة آثارها، فهو ممنوع كما مرّ الكلام فیه، مضافاً إلى أنّه یستلزم كون الموضوع فی الحركات الطولیّة أیضاً نفس المادّة الاُولى.
قد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (314) وأمّا تسمیة الحركة التضعّفیّة حركةً بالعرض فكأنّه فی غیر محلّه، لأنّ حقیقة الحركة لیست إلاّ التغیّر التدریجیّ وهی موجودة فی الحركة التضعّفیّة أیضاً. ومع فرض الإصرار على سائر التعاریف والالتزام بكون الحركة اشتدادیّة دائماً یبقى السؤال عن حقیقة هذا التغیّر التدریجیّ النزولیّ من الوجهة الفلسفیّة. نعم، قد تكون غایة هذه الحركة مقصودة بالعرض أو بالتبع، لكن لا یقتضی ذلك كون الحركة بالعرض. وأمّا دعوى تشافع هذه الحركة بحركة اشتدادیّة فی جمیع الموارد فممنوعة، ومع التسلیم فلا یوجب ذلك سلب حقیقة الحركة عنها.
یلاحظ علیه أوّلاً أنّ المبدء والمنتهى یختصّان بالحركة المتناهیة، وثانیاً أنّ المبدء والمنتهى فیها بالذات هما طرفاها العدمیّان،(1) وثالثاً أنّه على فرض قبول المادّة كمبدء للحركة وقبول الفعلیّة المحضة كغایة لها إنّما یتّجه ذلك فی الحركات الطولیّة الاشتدادیّة دون الحركات العرْضیّة المتشابهة، ورابعاً أنّه یتوقّف على وحدة تلك الحركات الطولیّة، وقد عرفت النظر فیها.(2)
1. راجع: التعلیقة: الرقم 303.
2. راجع: التعلیقة: الرقم 295 و 313.
قد ظهر ممّا سبق أنّ الفاعل یقال على معنیین:(1) أحدهما الفاعل الإلهیّ الذی یفیض وجود معلولاته، وثانیهما الفاعل الطبیعیّ الذی یستند إلیه تغیّر الأجسام فی أعراضها. فالحركة الجوهریّة لمّا كانت عین وجود الجوهر لا تحتاج إلاّ إلى فاعل إلهیّ معطٍ للوجود. وأمّا الحركات العرضیّة فهی التی تحتاج إلى فاعل طبیعیّ أیضاً،(2) ومن هنا أقام صدر المتألّهین الحجّة الاُولى على وجود الحركة فی الجوهر على ما مرّ بیانه، فراجع الرقم (310 و 311).
ثمّ إنّهم أقاموا حججاً على لزوم الفاعل الطبیعیّ للحركات العرضیّة،(3) وناقش الإمام الرازیّ فی جملة منها،(4) وأجاب علیه صدر المتألّهین ولا نطیل بذكرها ونقدها.
قد مرّ الكلام فی القاعدة المشهورة القائلة «إنّ الفاعل الجسمانیّ لا یفعل إلاّ بمشاركة المادة والوضع» تحت الرقم (284). وأمّا الاستدلال بها لإثبات كون الأعراض اللازمة مجعولة بجعل موضوعاتها دون الأعراض المفارقة، فیرد علیه أن لا ملاك للفرق فی مقتضى تلك القاعدة، فإذا كان من شرط التأثیر الجسمانیّ حصول وضع بین الفاعل والمنفعل لم یجزْ اعتبار الأعراض المفارقة أیضاً معلولةً لموضوعاتها، واختصّ ذلك بالحركة القسریّة بناء على استنادها إلى القاسر، فافهم.
1. راجع: الأسفار: ج3، ص15ـ16.
2. راجع: نفس المصدر: ص48 و ص64.
3. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الثانیة من الفنّ الأوّل من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج3، ص41.
4. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص554561.
ثمّ إنّه بناءً على كون الأعراض من مراتب وجود الجوهر أیضاً یلزم أن تكون بأجمعها مجعولة بجعل واحد من غیر فرق بین العرض اللازم والمفارق، وعلیه فلا تتمّ الحجّة الاُولى على وجود الحركة الجوهریّة، ولو فُصّل بینهما لم تتمّ الحجّة الثانیة، إلاّ أن یقال: إنّ وجود العرض مطلقاً مجعول بجعل الجوهر، لكن تغیّره مستند إلى الطبیعة الجوهریة، فتأمّل.
یمكن أن یقال: إنّ القاسر بالذات أمر یدخل فی المقسور ویبقى فیه مادامت الحركة باقیة، ویؤیّده ما یقول علماء الفیزیاء الیوم من انتقال الطاقة إلى الجسم المتحرّك.
إنّ للناس فی الزمان أقوالاً مختلفة جدّاً بین من یقول إنّه هو الله ـ سبحانه وتعالى عمّا یصفون ـ ومن یقول إنّه جوهر مجرّد، ومن یقول إنّه جوهر جسمانیّ هو الفلك، ومن یقول إنّه مقدار الوجود، ومن یقول إنّه مقدار حركة الفلك الأقصى، ومن یقول إنّه مقدار الحركة مطلقاً، إلى من یقول إنّه أمر منتزع عن ذات البارئ ـ جلّ وعزّ ـ ومن یقول إنّه أمر موهوم.(1) والمشهور بین الفلاسفة أنّه كم متّصل غیر قارّ یعرض للجسم بتوسّط الحركة، واختاره الشیخ واستدلّ علیه بما حاصله أنّ للحركة مقداراً تتقدّر به، وتتعیّن درجة سرعتها وبطئها بالنظر إلیه، وهو الزمان.(2)
1. راجع: العاشر من ثانیة الاوّل من طبیعیات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج3، ص141ـ148؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص642653.
2. راجع: الحادی عشر من ثانیة الأوّل من طبیعیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص453.
وذكر صدر المتألّهین لإثبات وجود الزمان برهانین:(1) أحدهما على طریقة الطبیعیّین، وهو ما ذكره الشیخ فی الشفاء، وثانیهما على طریقة الإلهیّین، وهو ما ذكره فی المتن. وقد اعتبره تارة عرضاً غیر قارّ من مقولة الكم، وربما أردفه بمقولة متى، وتارة جعل فاعله نفس الفلك الأقصى.(2) إلاّ أنّ ما انتهى إلیه رأیه هو ما نقلنا عنه تحت الرقم (312) من أنّه من العوارض التحلیلیّة للوجودات السیّالة، والتی لا وجود لها فی الأعیان إلاّ بنفس وجود معروضاتها، كما أنّ الحركة كذلك، ولازمه أن یكون لكلّ متحرّك زمان یخصّه كما صرّح به فی المتن.
قد عرفت أنّ الحركة التوسّطیّة كأمر غیر منقسم لا وجود لها فی الخارج، وأما العنوان المنتزع من المتحرّك وهو الكون بین المبدء والمنتهى فإنّما یصدق علیه بوساطة الحركة القطعیّة.
قد مرّ أنّ الحركة القطعیّة تنطبق على الزمان بلا واسطة، فاعتبروا للحركة التوسّطیة بما أنّه أمر بسیط غیر منقسم أمراً تنطبق علیه بلا واسطة بحذاء الزمان للحركة القطعیة، وسمَّوه بالآن السیّال والزمان التوسّطیّ، وشبّهوه بنقطة رأس المخروط التی تمرّ بوحدها على نقاط الخطّ، وبالواحد الساری فی مراتب العدد. وقد عرفت حال العرش فضلاً عن النقش.
1. راجع: الأسفار: ج3، ص115.
2. راجع: نفس المصدر: ج3، ص123.
بناءً على أنّ زمان كلّ متحرّك أمر قائم بنفس ذلك المتحرّك لا یبقى للزمان المشترك بین الحركتین إلاّ زمان متحرّك آخَرَ أطولَ امتداداً منهما فینطبق زمان كل منهما على جزئه، ولست أفهم كیفیّة استلزام ذلك لوجود مادّة مشتركة بینهما، إلاّ أن یراد باشتراكها شمول زمانها لزمان كلتا الحركتین، أو یراد تحقّق كلتا الحركتین فی موضوع واحد، فلیتأمّل.
قال الشیخ فی الشفاء: «وأمّا الاُمور التی لا تقدُّم فیها ولا تأخُّر بوجه فإنّها لیست فی زمان، وإن كانت مع الزمان، كالعالَم فإنّه مع الخردلة ولیست فی الخردلة، وإن كان شیئاً له من جهة تقدُّم وتأخّر، مثلاً من جهة ما هو متحرّك، وله جهة اُخرى لا یقبل التقدّم والتأخّر، مثلاً من جهة ما هو ذات وجوهر، فهو من جهة ما لا یقبل تقدُّماً وتأخّراً لیس فی زمان، وهو من الجهة الاُخرى فی الزمان. والشیء الموجود مع الزمان ولیس فی الزمان فوجوده مع استمرار الزمان كلّه هو الدهر، وكلّ استمرار وجود واحد فهو فی الدهر، وأعنی بالاستمرار وجوده بعینه كما هو مع كلّ وقت بعد وقت على الاتّصال، فكان الدهر هو قیاس ثبات إلى غیر ثبات. ونسبة هذه المعیّة إلى الدهر كنسبة تلك المعیّة إلى الزمان. ونسبة الاُمور الثابتة بعضها إلى بعض والمعیّة التی لها من هذه الجهة هو معنى فوق الدهر. ویشبه أن یكون أحقّ ما یسمّى به السرمد. وكلّ استمرار وجود بمعنى سلب التغیّر مطلقاً من غیر قیاس إلى وقت فوقت هو السرمد».(1)
وقال فی عیون الحكمة: «وذوات الأشیاء الثابتة وذوات الأشیاء الغیر الثابتة من جهة والثابتة من جهة، إذا اُخذت من جهة ثباتها لم تكن فی الزمان بل مع الزمان.
1. راجع: الثالث عشر من ثانیة الأوّل من طبیعیّات الشفاء.
ونسبة ما مع الزمان ولیس فی الزمان [ إلى الزمان من جهة ما مع الزمان] هو الدهر، ونسبة ما لیس فی الزمان إلى ما لیس فی الزمان من جهة ما لیس فی الزمان، الأولى أن یسمّى السرمد، والدهر فی ذاته من السرمد، وبالقیاس إلى الزمان دهر».(1)
وقال فی التعلیقات: «العقل یفرض(2) ثلاثة أكوان: أحدها الكون فی الزمان، وهو متى الأشیاء المتغیّرة التی یكون لها مبدء ومنتهى، ویكون مبدأه غیر منتهاه، بل یكون متقضّیاً ویكون دائماً فی السیلان وفی تقضّی حال وتجدّد حال. والثانی كون مع الزمان ویسمّى الدهر، وهذا الكون محیط بالزمان، وهو كون الفلك مع الزمان، والزمان فی ذلك الكون، لأنّه ینشأ من حركة الفلك، وهو نسبة الثابت إلى المتغیّر، إلاّ أنّ الوهم لا یمكنه إدراكه، لأنّه رأى كلَّ شیء فی زمان، ورأى كلَّ شیء یدخله «كان» و«یكون» والماضی والحاضر والمستقبل، ورأى لكلّ شیء متى، إمّا ماضیاً أو حاضراً أو مستقبلاً. والثالث كون الثابت مع الثابت، ویسمّى السرمد، وهو محیط بالدهر».(3)
وقال فی التحصیل: «وهذه المعیّة إن كانت بقیاس ثبات إلى غیر ثبات فهو الدهر، وهو محیط بالزمان. وإن كانت بنسبة الثابت إلى الثابت فأحقُّ ما یسمّى به السرمد، بل هذا الكون ـ أعنی كون الثابت مع غیر الثابت والثابت مع الثابت ـ بإزاء كون الزمانیات فی الزمان، فتلك المعیّة كأنّها متى الاُمور الثابتة، وكون الاُمور الزمانیّة فی الزمان متاها. ولیس للدهر ولا للسرمد امتداد، لا فی الوهم ولا فی الأعیان، وإلاّ كان مقدار الحركة».(4)
وقال فی القبسات: «للحصول فی نفس الأمر أوعیة ثلاثة: فوعاء الوجود المتقدّر السیّال أو العدم المتقدّر المستمرّ للمتغیّرات الكیانیّة بما هی متغیّرة، زمان؛ ووعاء
1. راجع: عیون الحكمة: ص42
2. فی القبسات، یدرك.
3. راجع: التعلیقات: ص141ـ142 و 43.
4. راجع: التحصیل: ص463.
صریح الوجود المسبوق بالعدم الصریح، المرتفع عن اُفق التقدّر واللاتقدّر، للثابتات بما هی ثابتات، وهو حاقّ متن الواقع، دهر؛ ووعاء بحت الوجود الثابت الحقّ المتقدّس عن عروض التغیّر مطلقاً، والمتعالی عن سبق العدم على الإطلاق، وهو صرف الفعلیّة المحضة من كلّ جهة، سرمد. وكما الدهر أرفع وأوسع من الزمان فكذلك السرمد أعلى وأجلّ وأقدس وأكبر من الدهر. فالحدوث بحسب سبق العدم الصریح أحقُّ الأسماء وأجدرها به الحدوث الدهریّ».(1)
وتنقدح حول هذه الكلمات وأشباهها أسئلة كما یلی:
1. هل الدهر اسم لوعاء الثابتات أو لنسبة الثابتات إلى المتغیّرات؟ وبعبارة اُخرى: هل الدهر هو بإزاء الزمان للمتغیّرات أو بإزاء «متى» التی تعدّ من المقولات النسبیّة؟ والجواب أنّه اسم للوعاء الذی یعتبر بإزاء الزمان، لكن حیث لم یوجد لفظة للدلالة على المعنى النسبیّ بإزاء متى اُطلق الدهر على ذلك المفهوم النسبیّ أیضاً، وكذلك السرمد؛
2. هل للثابتات وعاء حقیقیّ كالزمان للمتغیّرات أو إطلاق الوعاء هناك إطلاق مجازیّ؟ والجواب أنّه وإن كان ظاهر بعض الكلمات أنّ للثابتات وعاءاً حقیقیّاً أیضاً لكنّ الحقّ أنّه نحو من التجوّز، كما أنّ إطلاق ألفاظ العالم والصقع والساحة ونحوها أیضاً كذلك. بل الحقّ أنّ الزمان أیضاً لیس وعاءاً حقیقیّاً للمتغیّرات، بل هو عبارة عن بُعد من أبعاد المادّیّات، كما مرّ الكلام فیه. والحاصل أنّ الدهر بمعناه الفلسفىّ (لا اللغویّ) مفهوم ینتزعه العقل من نحو ثبات الوجود فی الثابتات ویعتبره كوعاء لها، كما أنّه ینتزع مفهوم الزمان من نحو الوجود السیّال، ویعتبره كوعاء للمتغیّرات بما لها من الحركة والسیلان؛
1. راجع: القبسات: ص7؛ وراجع: فی ما یتعلّق بذلك المباحث المشرقیة: ج1، ص645؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص157.
3. هل الذی ینسب إلى الدهر والسرمد هو المعیّة فقط، أو یصحّ نسبة التقدّم والتأخّر إلیهما أیضاً؟
والجواب أنّه لا یعقل التقدّم والتأخّر فی نفس السرمد والدهر، لعدم انقسامهما إلى أجزاء بالقوّة، وكذا فی ما ینسب إلیهما كوعائین، فلیس مثلاً بین المجرّدات تقدّم وتأخّر دهریّان، وإنّما یكون بینها معیّة دهریّة فقط. وأمّا بین السرمد والدهر والزمان فظاهر كلام الشیخ وتلمیذه أنّ النسبة بینها هی المعیّة، فالنسبة بین السرمد والدهر معیّة سرمدیّة، والنسبة بین الدهر والزمان معیّة دهریّة، وكذا بین ما ینسب إلیها. لكنّ السیّد الداماد ینسب نوعاً من التقدّم والتأخّر إلیها، فیجعل السرمد متقدّماً على الدهر تقدماً سرمدیّاً، ویجعل الدهر متقدّماً على الزمان تقدّماً دهریّاً. ومن هنا فإنّه ینسب الحدوث الدهریّ إلى الفلك الأقصى ونفس الزمان،(1) ویخصّ الحدوث الزمانیّ بالحوادث الواقعة فی وعاء الزمان. ویمكن توجیهه بحیث لا ینافی المعیّة بأنّ الدهر مثلاً أوسع من الزمان فیصحّ اعتبار شموله وإحاطته بالزمان من جهة البدء وهو التقدّم، ویصحّ اعتبار إحاطته علیه من جهة المنتهى وهو التأخّر، كما یصحّ اعتبار وجوده مع وجود الزمان، وهو المعیّة. وهذا نظیر ما یقال فی معنى قوله تعالى: «هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ» وقوله سبحانه: «وَ هُوَ مَعَکُمْ أَیْنَ مَا کُنْتُمْ».(2) كما أنّه یمكن تأویل تقدم السرمد علی الدهر وتقدم الدهر على الزمان إلى التقدم الرتبیّ أو الذاتىّ، فلیتأمّل؛
4. هل الدهر مختصّ بنسبة الثابتات إلى المتغیّرات أو یشمل نسبة الثوابت بعضها إلى بعض؟
والجواب أنّ الدهر بمعنى الوعاء یختصّ بالثابتات الممكنة، كما أنّ السرمد بمعنى الوعاء یختصّ بالواجب تعالى وتقدّس.(3) وأمّا معناهما الإضافیّ فالدهر عبارة
1. راجع: القبسات: ص18 و 87ـ90.
2. سورة الحدید، الآیة 4.
3. راجع: نفس المصدر: ص16ـ17.
عن نسبة الثابتات الممكنة أو جمیع الثوابت حتّى الواجب تعالى إلى المتغیّرات، كما أنّ المعنى الإضافیّ للسرمد یختصّ بنسبة الواجب سبحانه إلى سائر المجرّدات. وأمّا نسبة الثابتات الممكنة بعضها إلى بعض فربّما یقتضی إطلاق كلماتهم كونه من السرمد، لكنّ الأولى جعلها من الدهر، فمن الغریب جعل وعاء المجرّدات هو الدهر وجعل نسبة بعضها إلى بعض من السرمد!
5. هل المراد بالثابتات فی كلماتهم هذه هو المفارقات أو أعمُّ منها؟
والجواب أنّ الثابتات فی كلمات الشیخ ومن یحذو حذوه تشمل الجواهر المادّیة فی الجملة، وعلى الأقلّ تشمل الفلك، وقد صرّح به فی التعلیقات. ومنشأ ذلك أنّهم یجعلون الفلك فاعلاً للزمان وراسماً له بحركته، فلا یكون الفلك نفسه واقعاً فی وعاء الزمان بل هو موجود مع الزمان معیّةً دهریّة. والسرّ فیه أنّ الزمان هو مقدار الحركة، والحركة عندهم تختصّ بالأعراض، فالذی یصحّ اعتباره راسماً للزمان العامّ هو الحركة الوضعیّة للفلك، وأمّا جوهر الفلك فلا حركة له فلا زمان له.(1) وعلى هذا فبناءاً على القول بالحركة الجوهریّة وجعل الزمان بُعداً من أبعاد الجواهر المادّیة تنحصر الثابتات فی المجرّدات، فتفطّن؛
6. هل للمتغیّر وجهُ ثباتٍ ینسب إلى الدهر أو لا؟ وعلى الثبوت فما هو معنى ذلك الوجه؟
والجواب أنّ للجواهر المادّیة وخاصّةً جوهر الفلك ـ عند الشیخ وسائر المنكرین للحركة الجوهریّة ـ حیثیّتین: حیثیّة ذات الجوهر، وحیثیّة كونه معروضاً للأعراض التی تقع فیها الحركة. فحیثیّة الذات هی حیثیّة الثبات، وتنسب إلى الدهر، وأمّا حیثیّة التغیّرات العرضیّة فتنسب إلى الزمان. وأمّا القائلون بالحركة الجوهریّة ففی كلماتهم أیضاً ما یدلّ على وجود الحیثیّتین لبعض الموجودات، منها ما صرّح به صدر المتألّهین
1. راجع: التعلیقات: ص139.
من أنّه ما من شیء إلاّ وله نحو من الثبات، وإن كان الثباتُ ثباتَ التغیّر.(1) ویمكن تقریبه بأنّ المتغیّر إنّما یكون متغیّراً بلحاظ تبدّل أجزائه المفروضة أو تبدّل أوصافه، وأمّا وصف التغیّر فلا یكون متغیّراً، بل هو ثابت له. وهذا الثبات لابدّ من نسبته إلى الدهر الذی هو وعاء الثابتات.
ویلاحظ علیه أنّ ثبات وصف التغیّر إنّما هو باعتبار وجود مفهومه فی الذهن، وأمّا التغیّر الخارجىّ فلا یتّصف بالثبات بما أنّه تغیّر خارجیّ بالحمل الشائع.
ویمكن تقریبه بوجه آخر، وهو أنّ وقوع كلّ حادث زمانیّ فی زمانه الخاصّ به ثابت لا یزول عنه، ویرجع إلى نسبته إلى الثابتات. وبناءاً علیه فیحمل ذلك الكلام على أنّ وجه ثبات كلّ متغیّر هو نسبته إلى الثابتات، ومن هذه الحیثیّة تجتمع المتفرّقات فی وعاء الدهر، فیصحّ أن یقال أنّ لها معیّةً دهریّة من جهة ثباتها.
ثمّ إنّ لهذا الكلام تأویلاً آخر، وهو أنّ للمتغیّرات صوراً ملكوتیّة ثابتة فمعیّة بعضها لبعض تكون باعتبار تلك الصور دهریّةً.(2) لكن تلك الصور اُمور ثابتة لیس لها حیثیّة التغیّر أصلاً.
وممّا یتصوّر له حیثیّتان بوجه خاصّ النفس، فإنّ لها وجهین: وجهاً إلى المفارقات، ووجهاً إلى البدن والمادیّات. فبالنظر إلى تجرّد ذاتها تنسب إلى الدهر وهو وجهها الثابت، وبالنظر إلى تعلّقها بالبدن تنسب إلى الزمان، وهو وجهها المتغیّر، فتفطّن.
قد عرفت أنّ الأولى جعلُ نسبة الثابتات الممكنة بعضها إلى بعض من النسب
1. راجع: الأسفار: ج3، ص183.
2. راجع: نفس المصدر: ص104ـ105.
الدهریّة. نعم، نسبة الواجب إلى سائر المجرّدات سرمدیّة. والمراد بالكلّیّ فی كلامه هذا هو المصطلح فی باب الوجود، لا ما ینطبق على كثیرین، فتبصّر.
قد عرفت صحّة اعتبار التقدّم السرمدیّ للواجب على جمیع المخلوقات، وكذا اعتبار التقدّم الدهریّ للمجرّدات على الحوادث، لكنّه لا ینفی المعیّة السرمدیّة والدهریّة، لاختلاف الاعتبارین. والمعیّة وإن كانت لا تُقابل التقدّم ولا التأخّر بالذات، إلاّ أنّها لا تجامع شیئاً منهما من جهة واحدة، لأنّ كلّاً منهما یقابلها بالعرض لكونه مصداقاً لسلب المعیّة وعدم التقارن. وسیجیء تتمّة الكلام.
من المفاهیم المتعلّقة بالحركة مفهوم السرعة، ویُعنى بها ثلاثة معانٍ: أحدها ما یحصل من نسبة المسافة التی یقطعها المتحرّك إلى زمان قَطْعها، وهو لازم كلّ حركة، ویتراوح فی ما بین الصفر واللانهایة، لأنّ معنى كون السرعة صفراً عدم حصول القطع فی أیّ زمان، وهو السكون، ومعنى كون السرعة غیر متناهیة تحقّق القطع بلا زمان، وهو الطفرة الدفعیّة لا الحركة التی هی التغیّر التدریجیّ. والسرعة بهذا المعنى أمر تشكیكیّ یتّصف بالشدّة والضعف، ولا یقابل البطء كما أشار الیه فی آخر الفصل.
وثانیها السرعة فی مقابل البطء، ویتحصّل معناها بالمقایسة بین حركتین مختلفتین من حیث شدّة السرعة ـ بالمعنى الأوّل ـ وضعفها، فالحركة الشدیدة السرعة بالقیاس إلى غیرها تسمّى سریعة، والأخرى بطیئة. ولا یعقل أن تتّصف حركة واحدة مقیسة
إلى حركة خاصّة اُخرى بالسرعة والبطء كلیهما، فالمفهومان متقابلان. وحیث إنّهما وجودیّان ولا یتصوّر أحدهما إلاّ مع تصورّ الآخر وبالقیاس إلیه فهما متضایفان.
ووِزانُ السرعة فی مفهومیها هذین وِزانُ الطول، فإنّه قد یستعمل بمعنى الامتداد اللازم فی كلّ خطّ، وقد یستعمل فی مقابل القِصَر وبالقیاس إلیه.
وثالثها ازدیاد السرعة شیئاً فشیئاً، ویعبّر عنه بالتسارع فی مقابل التباطؤ. وقد مرّ تحت الرقم (315) أنّه یصحّ اعتباره حركةً على الحركة، وإن شیءت قلت: السرعة كیفیّة للحركة، والتسارع حركة اشتدادیّة فی هذه الكیفیّة، كما أنّ التباطؤ حركة تضعّفیة فیها. وكان الاُستاذ(قدسسره) قد وعدَنا فی الفصل الثامن أن یبّین لنا أنّ الحركة فی الحركة توجب بطئاً فی الحركة،(1) ولكن لم یحالفه التوفیق. والذی نتصوّر فی تقریبه ـ وإن كـان بعیداً عن مسـاق كلامه ـ أن تتباطأ الحركة لتضعّف القـوّة المحرّكة أو لمعارضتها بقوّة أضعف منها، فیعتبر التباطؤ حركةً نزولیّة لكیفیّة تلك الحركة. لكن من الجدیر أن یقال: إنّ الحركة على الحركة قد توجب ازدیاد السرعة أیضاً، وذلك عند اشتداد القوّة المحرّكة أو تعزّزها بقوّة موافقة لها من حیث الجهة، فلیتأمّل.
قد عرفت أنّهما وصفان متضایفان، وبالتالی فهما متقابلان، ومجرّد اتّصاف حركة واحدة بهما لا ینافی تقابلهما لتعدّد الاعتبار، كما أنّ اتّصاف شخص واحد بالأب من جهة وبالإبن من جهة اُخرى لا ینافی تقابلهما.
قد مرّ تحت الرقم (192 و 193 و 224) أنّ عروض الإضافة ذهنیّ، وأنّ التضایف
1. راجع: تعلیقة الأستاذ على الأسفار: ج3، ص199.
2. راجع: الأسفار: ج3، ص198؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص605.
یكون فی الواقع بین الإضافتین، فتلازم المضافین إنّما یلزم فی الذهن وعند التعقّل، ولا ینافی ذلك انفكاكهما فی الخارج عن بعضهما، كما فی تضایف المتقدّم والمتأخّر الزمانیّین.(1)
الغرض من هذا الفصل بیان مفهوم السكون ونسبة إلى الحركة وكیفیّة وجوده فی الخارج. فابتدأ(قدسسره) بما هو مرتكز فی الأذهان من عدم اجتماع الحركة والسكون فی شیء واحد من جهة واحدة، واستنتج منه أنّهما متقابلان. ثمّ تصدّى لإثبات أنّ السكون لیس أمراً ثبوتیّاً، فلا یكون تقابله مع الحركة من التضایف والتضادّ. ثمّ بیّن أنّ السكون لو كان بمعنى سلب الحركة لكان كلّ غیر متحرّك ساكناً، ولیس كذلك، فإنّه لا یصدق الساكن على الواجب تعالى ولا على المجرّدات. فالسكون عدم للحركة عمّا من شأنه أن یتحرّك، فالنسبة بینهما العدم إلى الملكة. وتحصّل بذلك مفهومه، ونسبته إلى مفهوم الحركة.(2)
ثمّ تعرّض لكیفیّة وجوده فی الخارج. وبیانه أنّ السكون إذا وجد كان لا محالة فی ما من شأنه الحركة وهو الجسم باعتبار ما یقع فیه الحركة من المقولات التی تحمل علیه، دون المفارقات. فعلى القول بالحركة الجوهریّة لا یوجد جوهر جسمانیّ ساكن فی جوهریّته، ولا فی أعراضه المتحرّكة بتبع جوهره من حیث هی
1. قال الشیخ فی التعلیقات، ص91، «المتضایفان من حیث هما متضایفان متكافئان فی اللزوم لا فی الوجود»؛ وراجع: نفس المصدر: ص143.
2. راجع: الأسفار: ج3، ص189؛ وراجع: الفصل السابع من رابعة الأوّل من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص594597.
تابعة. وأمّا الحركات المشهورة فی الأعراض ـ وهی التىّ سمّاها من ذی قبلُ بالحركات الثانیة ـ فلیست بدائمة، وربما یخلفها سكون. فاتّصاف الأجسام بالسكون إنّما یكون باعتبار عدم وقوع هذه الحركات فی أعراضها، وهذا هو المراد بسكونها النسبیّ، أی السكون فی الجملة، وهو السكون المتأصّل المقابل للحركات الأصیلة للأعراض دون حركاتها التبعیّة. ولا یذهبنّ علیك أنّ هذه النسبیّة غیر ما یقول به بعض علماء الفیزیاء من أنّ الحركة والسكون أمران نسبیّان، فتبصّر.
إنّ الحكماء بعد مـا أثبتوا وحدة شخصیّة لكلّ حركة ـ على خلاف ما كان یتوهّمه بارمنیدس وأتباعه من تركّب كلّ حركة من سكونات كثیرة ـ تناولوا كثرة الحركات بالبحث، فاعتبروا لها كثرة جنسیّة ونوعیّة وعددیّة، وبیّنوا أنّ الكثرة تحصل لها بتعدّد الموضوع والزمان والمسافة وسائر ما تتعلّق به، كما أنّهم بحثوا عن تخالف الحركات وتضادّها إلى غیر ذلك.(1) وقد عدل سیّدنا الاُستاذ(قدسسره) عن تلك المسائل ـ ولعلّه لما رأى من قلة فوائدها أو كونها أنسب بالطبیعیات ـ وأشار إجمالاً إلى انقسامات الحركة، وجعل محور تلك الانقسامات الاُمورَ الستّة التی تتعلّق بها. فابتدأ بالكثرة التی تحصل لها باختلاف المبدء والمنتهى، لكنّ الأمثلة التی ذكرها فی هذا الموضع هی التی تذكر للانقسام الذی یحصل باعتبار اختلاف المقولات، فتدبّر.
1. راجع: الفصل الثـانی إلى السادس من رابعـة الأوّل من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص434 ـ443 و 587595 و 619622؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص598604 و 606612 و 621622 و 629639؛ وراجع: الأسفار: ج3، ص193ـ196 و 200ـ232.
لمّا استوفى البحث عن القوّة بمعنى القبول حاول تتمیم الكلام بالبحث عن القوّة بمعنى مبدء الفعل، وخاصّةً بالنظر إلى مناسبة ذلك للبحث عن فاعل الحركة وأقسامه، وقد صدّر مبحث القوّة والفعل فی الأسفار بهذا البحث.(1)
والحاصل أنّ القدرة أخصُّ من القوّة حیث تختصّ بالفاعل العلمیّ. لكن للقدرة مصادیق مختلفة منها ما یوجد فی الحیوان وذوی النفوس، ومنها ما یوجد فی المجرّدات التامّة وفی الواجب تعالى. أمّا قدرة الحیوان فلیست علّة تامّة للفعل، وإنّما تتمّ العلّة بلحوق اُمور اُخرى كحضور المادّة وغیره من الشروط وأجزاء العلّة التامّة. وأمّا قدرة الواجب تعالى التی هی عین ذاته المقدّسة فهی علّة تامّة لما سواه بما فیه الصادر الأوّل، ولا یعقل توقّف صدوره على أمر آخر، لانتفاء كلّ شیء فی تلك المرتبة غیر ذاته سبحانه. واستنتج أنّ تعریف مطلق القدرة بصحّة الفعل والترك، غیر صحیح. لأنّ الصحّة المضافة إلى الوجود والعدم لا یعنی فی الفلسفة إلاّ الإمكان الخاصّ الذی هو عبارة عن انتفاء الضرورتین وتساوی النسبتین، والحال أنّ نسبة الصادر الأوّل مثلاً إلى الواجب تعالى لیس هو ذلك الإمكان، بل الضرورة، فلیلتمس للقدرة تعریف أعمُّ حتّى یشمل قدرة الواجب سبحانه أیضاً،(2) وسیأتی الكلام فیه فی الفصل الثالث عشر من المرحلة الثانیة عشر.
ثمّ انتقل إلى مباحث اُخرى حول القدرة ممّا قد مضى بعضها فی الفصل الخامس من المرحلة الرابعة والفصل الثالث من المرحلة الثامنة، وسیأتی بعضها الآخر.
1. راجع: الأسفار: ج3، ص5 وما بعدها؛ وراجع: الفصل الثانی من المقالة الرابعة من إلهیّات الشفاء.
2. راجع: الأسفار: ج3، ص8ـ15؛ وراجع: القبسات: ص309ـ313.
هذه المرحلة تشتمل على البحث عن التقدّم والتأخّر، والبحث عن الحدوث والقدم. وقد قدّم فی الأسفار البحث عن الحدوث والقدم، والأحسن ما صنعه الاُستاذ(قدسسره) فی المتن. وقد ذكروا حول التقدّم والتأخّر أبحاثاً، منها البحث عن مفهومهما وكیفیّة الانتقال من بعض أقسامهما إلى بعض، ومنها البحث عن كیفیّة اشتراك المفهومین بین الأقسام، ومنها البحث عن تعداد أقسامهما، إلى غیر ذلك.
أمّا مفهوم التقدّم والتأخّر فحاصل ما ذكره الشیخ(1) أنّ معناهما الأقربیّة والأبعدیّة عن مبدء محدود، وإلیه یرجع ما ذكره فی المتن. وعلى هذا فانتزاع هذین المفهومین یتوقّف على تصوّر شیئین مترتّبین وتصوّر مبدء لهما یشتركان فی النسبة إلى ذلك المبدء ویفترقان فی أنّ لأحدهما من النسبة ما للآخر من غیر عكس، كما أنّ الإمام والمأموم یشتركان فی النسبة إلى المحراب، لكن للإمام من القرب إلیه ما لیس للمأموم.
وربما یُشعر ذلك البیان بضرورة وجود أمر خارج عن المتقدّم والمتأخّر ـ كالمحراب الخارج عن الإمام والمأموم ـ ثمّ قیاس كلیهما إلیه وأخذ تمایزهما فی
1. راجع: الفصل الأّول من المقالة الرابعة من إلهیات الشفاء.
النسبة إلیه بعین الاعتبار. لكن من المحتمل أن یكون المراد هو الاستعانة بذلك الأمر الخارج على تصوّر الجهة فی خطّ الترتّب، فإنّ مجرّد ترتّب الشیئین لا یكفی لانتزاع مفهوم المتقدّم والمتأخّر عنهما، بل یلزم علاوةً على ذلك، أخذ جهة الترتّب بعین الاعتبار، وذلك یتوقّف على اعتبار المبدء. والمبدء وإن كان یمكن اعتباره فی نفس المتقدم والمتأخّر كالنقطة التی یبتدئ منها الامتداد الملحوظ بینهما إلاّ أنّ اعتبار المبدء الخارجیّ أقرب إلى فهم المتعلّم. ویمكن تأیید هذا الوجه بما ذكره الشیخ من أنّ المبدء فی التقدّم والتأخّر الزمانیّین هو الآن.
بـل یمكن أن یقـال: إنّ أخْذَ المبـدء ـ ولـو كان ذلك هـو النقطة أو الآن أو ما شابههما ـ أیضـاً غیر لازم لتعقّل معنى التقـدّم والتأخّـر، وأنّ تعیین جهة الترتّب لا یتوقّف على تعیین المبدء، كما أنّه یكفی لتصوّر معنى الفوق تصوّر أمر یصحّ أن یعتبر بالنسبة إلیه تحتاً. وإنّما یلزم تصوّر المبدء لتحقّق إضافة الأقربیّة والأبعدیّة.
والحاصل أنّ التقدّم والتأخّر مفهومان متضایفان، ویكفی فی تعقّلهما مقایسة أمرین مترتّبین واعتبار جهة الترتّب. وأمّا الأقربیّة والأبعدیّة فهما حاصلان بإضافة اُخرى عارضة على تلك الإضافة كالأكبریّة والأصغریّة العارضتین على إضافة الكبر والصغر. على أنّ إضافة التقدّم والتأخّر لیس هی إضافة القرب والبعد بعینها، بل القرب والبعد من المبدء أمارة التقدّم والتأخّر.
ثمّ إنّ الترتّب بین المتقدّم والمتأخّر قد یكون حقیقیّاً وقد یكون بالجعل والاعتبار، فترتّب المعلول على العلّة وترتّب أجزاء الممتدّات بما فیها الزمان ترتّبٌ حقیقیّ، أمّا ترتّب الأشیاء الموضوعة بعضها تلوَ بعض فهو غیر حقیقیّ ویرجع إلى الترتّب بالعرض. لكن الترتّب الحقیقیّ لا یستلزم كون الجهة أیضاً حقیقیّة، فإنّ ترتّب أجزاء الخطّ والسطح مثلاً حقیقیّ لكن لا یتعیّن جهة الترتّب بالذات، ولهذا یمكن اعتبار كلّ من الجزئین متقدّماً من جهة ومتأخّراً من جهة اُخرى، بخلاف جهة
الترتّب فی الزمان، فإنّها متعیّنة بالذات. وحتّى فی ما یكون جهة ترتّبه متعیّنة یمكن اعتبار جهة اُخرى على خلاف تلك الجهة، كما إذ أخذنا سلسلة من العلل والمعالیل، وابتدأنا من المعلول الأخیر واعتبرناه هو الأوّل واعتبرنا علّته هو الثانی وهكذا.
وأمّا كیفیّة انتقال الذهن إلى أقسام التقدّم فلا ینبغی الارتیاب فی سبق الحسّیّات ثمّ ما هو أقرب إلیها، ولهذا جعل الشیخ معرفة التقدّم المكانیّ والزمانیّ مقدّماً على سائر الاقسام، ثمّ أشار إلى التقدّم بالشرف ثمّ إلى التقدّم بالطبع، وختم الأقسام بالتقدّم بالعلیّة. ولا نرى كثیر فائدة فی البحث عن كیفیّة الانتقال وتعیین السابق واللاحق والمناقشة فی ما ذكر فی هذا الباب.
وأمّا كیفیّة إطلاق لفظتی التقدّم والتأخّر على أقسامهما فقد نقل صدر المتألّهین عن بعضهم أنّه على سبیل الاشتراك اللفظیّ، وعن صاحب المطارحات القول بالاشتراكالمعنویّ بین التقدّم بالعلّیة والتقدّم بالطبع، وجعل التقدّم الزمانیّ من قبیل التقدّم بالطبع، وإرجاع التقدّم المكانیّ إلى الزمانیّ، وجعل التقدّم بالشرف من قبیل المجاز أو الاشتراك فی الاسم. وعن أكثر المتأخّرین القول بالاشتراك المعنویّ بین جمیع الأقسام، بین من یقول بأنـّه على نعت التواطؤ ومن یقول بأنـّه على نعت التشكیك.(1)
ثمّ إنّه نقل عن بعضهم أنّ الأمر المشترك بین جمیع أصناف السبق هو أنّه یوجد للمتقدّم الأمرُ الذی به المتقدّم أولى من المتأخّر. وناقش فیه بأنّ المتقدّم بالزمان لا یمتاز بشیء هو أولى به من المتأخّر ممّا یقع باعتباره التقدّم الزمانیّ.(2)
وقال الشیخ: «إنّ التقدّم والتأخّر وإن كان مقولاً على وجوه كثیرة فإنّها یكاد أن تجتمع على سبیل التشكیك فی شیء، وهو أن یكون للمتقدّم، من حیث هو متقدّم،
1. راجع: الأسفار: ج3، ص258؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص154؛ و المطارحات: ص303ـ307؛ والقبسات: ص61 و 302.
2. راجع: الأسفار: ج3، ص259؛ والمطارحات: ص304.
شیء لیس للمتأخّر، ویكون لا شیء للمتأخّر إلاّ وهو موجود للمتقدّم».(1) ومثله كلام تلمیذه فی التحصیل.(2)
وناقش فیه صدر المتألّهین بأنّ الزمان الموجود للحادث المتأخّر لیس بموجود للمتقدّم ولا كان موجوداً له، كما أنّ المتقدّم كذلك. وبأنـّه یوجد كثیر من المعانی للمتأخّر ولا یوجد مثلها للمتقدّم كالإمكان والجوهریّة وغیرهما ممّا یوجد فی المبدَعات المتأخّرة عن المبدِع الأوّل. فكان ینبغی أن یقیّد بما فیه التقدّم، وهو مع ذلك منقوض بأجزاء الزمان.(3)
ویمكن الدفاع عنه بأنّ قید الحیثیّة فی كلام الشیخ یفید التقیید المذكور. وأما الإشكال الأخیر فقد أجاب عنه سیّدنا الاُستاذ(قدسسره) بأنّ الأمر المشترك بین المتقدّم والمتأخّر بالزمان هو قوّة ما یلحق بهما والذی یعدّ مبدءاً لهما ویمتاز المتقدّم بقوّة المتأخّر أیضاً. وهو حاصل ما ذكره فی المتن.
ویلاحظ علیه أنّ مقایسة المتقدّم والمتأخّر إلى أمر لاحق بهما إنّما یلزم فی انتزاع مفهوم الأقرب والأبعد ـ كما أشرنا إلیه ـ لا فی انتزاع نفس هذین المفهومین.
والحاصل أنّ الأمر المشترك بین جمیع أقسام التقدّم هو اعتبار جهة الترتّب بین أمرین مترتّبین.
وجدیر بالذكر أنّ استعمال التشكیك فی مورد التقدّم ربما یكون باعتبار كون التقدّم من الأمور التی یقع بها التشكیك ـ أعنی التشكیك بالأوّلیّة ـ وربما یكون باعتبار أنّ إطلاق التقدّم على بعض الأقسام أسبق أو أولى منه على بعض آخر،
1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الرابعة من إلهیّات الشفاء.
2. راجع: التحصیل: ص467.
3. راجع: الأسفار: ج3، ص259؛ والمطارحات: ص303.
وهذا أیضاً ممّا لا غبار علیه.(1) وربما یكون باعتبار أنّ ما فیه التقدّم فی المتقدّم أولى أو أشدّ أو أكثر منه فی المتأخّر، كما یظهر من بعض الكلمات، وهو محلّ نظر.
ذكر الشیخ للتقدّم والتأخّر خمسة أقسام، وتبعه على ذلك غیره.(2) ولمّا كانت العلّیة عندهم على قسمین: العلّیة فی الوجود، والعلّیة فی التقرّر الماهویّ، وتسمّى بالعلّیة فی القوام، لهذا أفرز بعضهم القسم الأخیر وسمّاه بالتقدّم بالتجوهر، فصارت الأقسام ستّة. وزاد السیّد الداماد التقدّمَ الدهریَّ. لكن لم یتعرّض له صدر المتألّهین وزاد قسمین آخرین: التقدّم بالحقیقة والتقدّم بالحقّ.(3)
وقد نبّه سیّدنا الاُستاذ(قدسسره) على أنّ بعض هذه الأقسام اعتباریّ، لكن لم یعیّن القسم أو الأقسام الاعتباریّة. ولعلّ المتیقّن من التقدّم الاعتباریّ ما یكون بحسب الجعل والاعتبار كالتقدّم الرتبیّ الوضعیّ، لكنّه لیس قسماً برأسه، بل هو بحسب التقسیم المذكور یكون صنفاً من التقدّم الرتبیّ. ویمكن عدّ التقدّم بالتجوهر أیضاً اعتباریّاً لكونه تابعاً للمهیّة الاعتباریّة، وقد نسبه الأستاذ(قدسسره) إلی القائلین بأصالة المهیّة. وحصر فی المطارحات التقدَّم الحقیقیّ فی التقدّم بالعلیّة(4) بما یشتمل على التقدّم بالطبع وبرجوع التقدّم الزمانیّ إلیه. فتمییز التقدّم الحقیقیّ عن غیره یتطلّب مزید تدقیق.
فنقول: التقدّم والتأخّر من المعقولات الثانیة، ویكونان بأنفسهما اعتباریّین بأحد معانی الاعتبار المذكورة سالفاً تحت الرقم (10) لكن تقسیمهما إلى الحقیقیّ والاعتباریّ یكون من وجهة نظر اُخرى. وقد عرفت أنّ مفهومهما یتحصّل
1. راجع: الأسفار: ج3، ص266.
2. راجع: التحصیل: ص467؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص446؛ والتلویحات: ص29.
3. راجع: الأسفار: ج3، ص257؛ وراجع المسألة السادسة والعشرین من الفصل الأوّل من الشوارق.
4. راجع: المطارحات: ص307.
بملاحظة الترتّب بین أمرین وجَهةِِ الترتّب بینهما، فإذا كان الترتّب حقیقیّاً وجَهةُ الترتّب متعیّنةً بالحقیقة كان التقدّم لایقاً باسم «الحقیقیّ». فلننظر فی أیّ الأقسام یكون الأمران حقیقیّین.
ثمّ إنّ التقدّم والتأخّر قد یلاحظان فی الوجودات العینیّة، وقد یلاحظان فی المفاهیم والمهیّات، فالأولى بالقائل بأصالة الوجود جَعْلُ التقدّم الماهویّ من الأقسام الاعتباریّة وإن فُرضَ له جهةُ ترتّب متعیّنةٌ فی نظر العقل، كتقدّم الجنس على النوع أو تقدّم الجنس العالی على المتوسّط والسافل. وعلى هذا فالتقدّم الرتبیّ والتقدّم بالتجوهر یعدّان من الأقسام الاعتباریّة. أمّا الأخیر فواضح، وأمّا الأوّل فلأنّ صنفاً منه تابع للوضع والاعتبار، وصنفاً منه یتعلّق بالمفاهیم والماهیّات.
والظاهر أنّ اتّصاف الشریف والدنیّ، أو الأشرف والشریف، أو الدنیّ والأدنى بالتقدّم والتأخّر بالشرف أیضاً یكون اعتباریّاً، والنسبة بینهما بالحقیقة تكون بالكمال والنقص أو بالشدّة والضعف. وتلك المفاهیم وإن كانت مشكّكة ویمكن اعتبار تضایف بینهما لكنّها غیر مفهوم التقدّم والتأخّر، فهذان المفهومان إنّما یعتبران فی مواردها اعتباراً.
وأمّا التقدّم والتأخّر فی كلّ جزئین من أجزاء الزمان فهما من الأوصاف اللازمة لها المنتزعة عن نحو وجوده السیّال. فالترتّب بینها حقیقیّ، وجهة الترتّب متعیّنة بالذات من جانب الأزل إلى جانب الأبد. فهذا التقدّم ممّا یلیق باسم «الحقیقیّ» بل لا یبعد كونه أصلاً فی هذا المعنى. أمّا الأقدمیّة فهی إضافة عارضة لها كإضافة الأكبریّة الحاصلة من مقایسة كبیرین ببعضهما بعد انتزاع مفهوم الكبر عن مقایسة كلّ واحد منهما بالصغیر.
ولا یلاحظ فی انتزاع مفهوم المتقدّم والمتأخّر من أجزاء الزمان توقّف أحد الجزئین على الآخر، ولا كون أحدهما قوّة للآخر ـ إذا صحّ هذا التعبیر فی مورد أجزاء
الزمان ـ ولا قربه من مبدء محدود، فلا یصحّ إرجاعه إلى التقدّم بالطبع أو غیره. وإن لوحظ شیء من هذه الاُمور كان ذلك مقتضیاً لاعتبار تقدّم آخر. كما إذا اعتبر جهةٌ اُخرى لترتّب أجزاء الزمان على خلاف جهتها الطبعیّة، كأن یفرض الآن الأخیر مبدءاً واعتبر الزمان المتّصل به متقدّماً والذی قبله متأخّراً وهكذا بالرجوع قهقرى. وأمّا التقدّم والتأخّر فی الزمانیات فهو تابع لما فی أجزاء الزمان.
وأمّا التقدّم بالطبع فهو فی الواقع نوع من التقدّم بالعلّیة بالمعنى العامّ، ومن یحلو له تكثیر الأقسام فله أن یجعله قسماً برأسه، كما لأحد أن یفرد العلّة المفیضة الإلهیّة. وكیف كان فالترتّب بین العلّة والمعلول أمر عقلیّ وله جهة متعیّنة فی نظر العقل، ویعبّر عنه بالفاء المتخلّل بین وجود العلّة ووجود المعلول، كما یقال: تحرّكت الید فتحرّك المفتاح. فیصحّ عدّ التقدّم بالعلّیة أیضاً من الأقسام الحقیقیّة. وأمّا أخذ سلسلة من العلل والمعالیل وجعل المعلول الأخیر مبدءاً للسلسلة فهو أمر آخر، والتقدّم الحاصل منه هو من الأقسام الاعتباریّة.
وأمّا التقدّم الدهریّ فإنّه وإن كان فی مورد العلّة إلاّ أنّ الملحوظ فیه لیس هو حیثیّة العلّیة، ولهذا فلا یجری فی مطلق العلل، بل الملحوظ هو تقدّم وعاء على آخر، ومثله التقدّم السرمدیّ. فإن ركزنا على عنوان الوعاء أشكل جعله من الأقسام الحقیقیّة. لأنّ إطلاق الوعاء فی مورد المجرّدات ولا سیّما الواجب تبارك وتعالى مبنیٌ على المسامحة والتجوّز. وإن لاحظنا مرتبة الوجود أمكن إرجاعه إلى التقدّم العلّیّ أو الرتبیّ، ولعلّ هذا هو السرّ فی عدم ذكره فی كلام صدر المتألّهین.
وأمّا التقدّم بالحقیقة فهو یتصوّر بعد اعتبار تعمیم الوجود لما هو بالعرض والمجاز، ومثل هذا التقدّم لا یصحّ عدُّه تقدُّماً حقیقیّاً.
وأمّا التقدّم بالحقّ فهو نوع خاصّ من التقدّم بالعلّیّة بمعناها العامّ. واعتبار الفلاسفة وجود مطلق المعلول كأمر مستقلّ لا یوجب عدَّ تقدُّم الوجود المستقل
على الرابط قسماً برأسه، فإنّ ذلك یرجع إلى خطأهم فی تفسیر العلّیة. كیف وقد أثبت صدر المتألّهین نفسُه الوجودَ الرابط من طریق تحلیل حقیقة العلّیة. وقد أشرنا آنفاً إلى صحّة اعتبار تقدّم كلّ نحو من العلّة تقدُّماً على حدة، من غیر ما یوجب ذلك.
نعم، بناءاً على اختصاص حقیقة الوجود بالواجب تبارك وتعالى ونفیها عن المخلوقات ـ كما هو المأثور عن الصوفیّة ـ لم یندرج التقدّم بالحقّ فی التقدّم بالعلیّة، لكنّه یرجع إلى التقدّم بالحقیقة، فافهم.
والحاصل أنّ التقدّم الحقیقیَّ على قسمین: التقدّم الزمانیّ، والتقدّم بالعلّیة على أنحائه.
إنّ المتقدّم والمتأخّر یجمعهما امتداد أو ما هو بمنزلته من المعانی العقلیّة یصحّح الترتّب بینهما، ویمكن تمثیله كخطّ عمودیّ، وهو الذی یسمّونه بـ «ما فیه التقدّم» ویختصّ كلٌ منهما بموضعه الخاصّ من ذلك الأمر الجامع، ویسمّى الوصف الخاصّ بالمتقدّم من جهة تقُّدمه بـ «ما به التقدّم». وقد عرفت أنّ ذلك لا یعنی تشكیكاً بین المتقدّم والمتأخّر بالأولویّة أو الأشدّیة أو الأكملیّة، كما أنّ الجزء المتقدّم من الزمان لیس أولى بالزمانیّة ولا أشدّ ولا أكمل من الجزء المتأخّر، فما یُرى من الأولویّة واُختیها فی بعض أقسام التقدّم لیس هی ما به التقدّم، إلاّ أن یعتبر فیه تقدّم اعتباریّ آخر، فتفطّن.
ثمّ إنّ الأمر الجامع فی التقدّم المكانیّ هو الامتداد المكانیّ، وفی التقدّم الزمانی
هو الامتداد الزمانیّ، وفی التقدّم بالطبع هو الوجود بصرف النظر عن وجوبه، وفی التقدّم العلّیّ هو وجوب الوجود، وفی التقدّم الدهریّ هو وعاء الوجود، وفی التقدّم بالحقیقة هو مطلق الثبوت، وفی التقدّم بالحقّ هو حقیقة الوجود من حیث الاستقلال والربط. وأمّا التقدّم بالشرف فیختلف بحسب الموارد، ففی مثال الشجاع والجبان یكون الأمر الجامع هو الوصف الحاصل للنفس من قوّتها الغضبیّة، وفی مثال العالم والجاهل هو الوصف الحاصل من القوّة العقلیّة، وهكذا.
وقد جعل الاُستاذ(قدسسره) ملاك التقدّم الزمانیّ اشتمال المتقدّم والمتأخّر على قوّة الأجزاء اللاحقة، وجعَل ما به التقدّم أكثریّةَ تلك القوى فی المتقدّم بالنسبة إلى المتأخّر، وكأنّه عدل ههنا إلى أنّ ما به التقدّم هو قوّة المتأخّر. لكن قد عرفت عدم الحاجة إلى اعتبار القوّة فی انتزاع مفهوم التقدّم والتأخّر أصلاً. على أنّ استعمال القوّة فی مورد أجزاء الزمان لا یعنی إلاّ تقدّم بعضها على بعض، وهو غیر المعنى المصطلح الذی ینسب إلى المادّة، وإلاّ لاحتاج الخروج عن كلّ جزء إلى ما یلیه إلى حركة وزمان، فتبصّر.
المعیّة أو التقارن إضافة متشابهة الأطراف بین أمرین، وتُنتزع من وقوعهما فی عَرْض واحد، فیصحّ اعتبار الأمر المشترك بینهما كخطّ اُفقیّ على خلاف الأمر المشترك بین المتقدّم والمتأخّر، وتختلف هذه الإضافة عن إضافة التقدّم والتأخّر فی أنّها متشابهة الأطراف فیتّصف كلٌّ من المتضایفین بمثل ما یتّصف به الآخر، بخلاف تلك الإضافة حیث إنّها متخالفة الأطراف، ومقتضى ذلك أن یتّصف كل
منهما بمقابل الآخر، وهذا هو السرّ فی اختصاص المتقدّم بما به التقدّم لا أولویّته بالأمر المشترك أو ما یشابهها.
وعلى ضوء هذا التحلیل یظهر أنّ كلّاً من الإضافتین معنىً وجودیٌّ یعتبر بین أمرین وجودیَّین، وإن صحّ اعتبار أمر عدمیّ فیهما فلا یختصّ ذلك بإحداهما، فلیس شیء منهما أولى بالعدمیّة من الاُخرى، حتّى یعتبر بینهما تقابل السلب والإیجاب، أو تقابل العدم والملكة. فإذا وجد بینهما تقابل بالذات كان من قبیل التقابل بین المفاهیم الوجودیّة. فإن عُمّم التضادّ إلى الإضافات أمكن جعله من قبیل التضادّ، وإلاّ كان التقابل بینهما بالعرض لكون كلّ واحدة من الإضافتین مصداقاً لسلب الاُخرى. هذا، مضافاً إلى ما مرّ تحت الرقم (224) أنّ التقابل بالذات إنّما یكون بین الوجود والعدم.
شروع فی القسم الثانی من مباحث هذه المرحلة. وابتدأ(قدسسره) ببیان مفهوم القدم والحدوث، فذكر أنّ للقدم معنىً عرفیّاً، هو أطولیّة امتداد أحد الوجودین من جانب الأزل، ویقابله الحدوث، ولازمه كون وجود الحادث متأخّراً عن القدیم ومسبوقاً بعدمه المقارن لجزء من وجود القدیم.(1)
وأمّا المعنى الفلسفیّ لهما فیحصل بتصرّفین فی المعنى العرفیّ: أحدهما تبدیل المفهوم النسبیّ إلى النفسیّ بأن یؤخذ الحادث بمعنى «المسبوق بالعدم» والقدیم بمعنى «غیر المسبوق بالعدم». وثانیهما التعمیم إلى الذاتیّ والدهریّ وما بالحقّ أیضاً. وقد أشرنا تحت الرقم (342) إلى رجوع الأخیرین إلى الذاتیّ بمعنى العلّیّ.
1. راجع: الأسفار: ج3، ص244.
وقد ظهر سرّ أولویّة تقدیم مبحث التقدّم والتأخّر على مبحث القدم والحدوث، وهو أخذ معنى السبق والتقدّم فی مفهومهما.
للحدوث الزمانیّ تعریف مشهور هو كون وجود الشیء مسبوقاً بعدم زمانیّ، مع تفسیر العدم الزمانیّ بعدم ذلك الشیء مقارناً لجزء من الزمان. وهذا التعریف إنّما ینطبق على الحوادث الزمانیّة لا على نفس الزمان كامتداد واحد ولا على أجزائه، لأنّه لا یعقل للزمان ظرف زمانیّ ینطبق وجود كلّه أو بعضه على شیء من ذلك الظرف.
وللقدم الزمانىّ تعریف هو كون وجود الشیء الزمانیّ غیر مسبوق بعدم زمانیّ، ولا مصداق له سوى الأفلاك على القول بوجودها وأزلیّتها. فالزمان لا یتّصف نفسه بالقدم الزمانیّ بهذا المعنى أیضاً لعدم شأنیّته لذلك.
لكن یمكن تعریف الحدوث الزمانیّ بوجه آخر، وهو وجود المبدء الزمانیّ للشیء، وكذا یمكن تعریف القدیم الزمانیّ بما لا أوّل زمانیّاً لوجوده.(1) فبناءاً على هذا التعریف یتّصف كلّ جزء من أجزاء الزمان بالحدوث الزمانیّ، لأنّه مبدوّ بآن هو أوّل زمانیّ له وإن لم یكن الآن جزءاً من الزمان، وكذا یتّصف به كلّ الزمان بناءاً على القول بمحدودیّته من جهة البدء، وأمّا بناءاً على القول بعدم محدودیّته فیتّصف بالقدم الزمانیّ بهذا المعنى.
وكذا یمكن أخذ النفی فی تعریف القدیم على نعت السلب التحصیلیّ، فتتّصف به المجرّدات أیضاً، ویكون معنى قدمها زماناً أنّه لا یتصوّر أیّ زمان إلاّ وتكون هی
1. راجع: التحصیل: ص463؛ وراجع: القبسات: ص170ـ172.
موجودة معه، وإن لم تكن موجودة فیه. ولعلّه إلى هذا المعنى أشار شیخ الإشراق حیث قال: «وعلى الاصطلاحات كلّها لا یخرج الشیء من القدم والحدوث».(1)
إذا فرض الزمان غیر متناهٍ من جهة البدء فلا یتصوّر مسبوقیّته بجزء زمانیّ آخر، كما لا یتصوّر له مبدء آنیّ، فقیاس الكلّ على الأجزاء ههنا فی غیر محلّه، إلاّ على القول بتناهیه، حیث یتصوّر له حینئذٍ مبدء آنیّ.
المشهور بین الحكماء أنّ الحدوث على قسمین: زمانیّ، وذاتیّ.(2) أمّا الزمانیّ فقد مرّ الكلام فیه، وأمّا الذاتیّ فهو الحدوث الذی ینسب إلى ذات الشیء بصرف النظر عن الزمان. وبیّنوا ذلك ببیانین: أحدهما أنّ كلّ ممكن فهو من حیث مهیّته لا یستحقّ الوجود وإنما یستحق الوجود بالنظر إلی علّته، فالعقل یعتبر له مرتبة متّصفة بالعدم سابقة على مرتبة وجوده الحاصل من الغیر، فیصحّ أن یقال إنّ وجوده مسبوق بالعدم الثابت لذاته ومهیّته. وهذا العدم یجتمع مع الوجود بخلاف العدم الزمانیّ، لأنّ مصبّه هو مرتبة الذات ولا یتخلّى الموجود عنها أبداً.(3)
1. راجع: المطارحات: ص325؛ والأسفار: ج3، ص246.
2. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص134؛ والأسفار: ج3، ص246 و 271؛ والتحصیل: ص468469؛ وراجع: القبسات: ص19ـ22.
3. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الرابعة من إلهیّات الشفاء؛ وتعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص159ـ160.
وحیث كان هذا البیان مشعراً بأنّ تلك المرتبة المتقدّمة هی مرتبة ذات المهیّة من حیث هی، وتلك المرتبة لا تقتضی وجوداً ولا عدماً، فكما لا یصحّ نسبة استحقاق الوجود إلیها كذلك لا یصحّ نسبة استحقاق العدم إلیها أیضاً، لهذا عدل بعضهم عن التعریف المشهور للحدوث، وهو المسبوقیّة بالعدم، إلى المسبوقیّة بالغیر، وبیَّن للحدوث الذاتیّ ثانی البیانین، وهو أنّ كلّ ممكن فهو مسبوق بوجود علّته، لأنّ وجوده مستفاد منها، فیصحّ أن یقال إنّه حادث بمعنى مسبوقیّته بالعلّة.(1) وتعبیر «السبق العلّی» كما مرّ فی كلام الاُستاذ(قدسسره) أوفق بهذا البیان.
وكیف كان فالحدوث الذاتیّ مساوق للإمكان الذاتیّ، كما أنّ القدم الذاتیّ مساوق للوجوب الذاتیّ. وكما أنّ الإمكان الذاتیّ أوفق بالقول بأصالة المهیّة كذلك الحدوث الذاتیّ. ثمّ إنّ السیّد الداماد(قدسسره) استظهر من بعض كلمات الشیخ تثلیث أقسام الحدوث، وجعل القسم الثالث الحدوث الدهریّ.(2)
هذا الاسم مأخوذ من التقدّم بالحقّ الذی زاده صدر المتألّهین على الأقسام المشهورة للتقدّم، وقد سمّاه نفسه بالفقر الذاتیّ حیث قال بعد ذكر البیانین للحدوث الذاتیّ: «لكن هذان الوجهان لا یجریان فی نفس الوجودات المجعولة التی هی بذاتها آثار الواجب تعالى، وقد أشرنا إلى أنّ لها ضرباً آخر من التأخّر، فلها ضرب آخر من الحدوث، وهو الفقر الذاتیّ، أعنی كون الشیء متعلّق الذات
1. راجع: المسألة السادسة والعشرین من الفصل الأوّل من الشوارق.
2. راجع: القبسات: ص35.
بجاعله. وبعبارة اُخرى: كون الموجود بما هو موجود متقوّماً بغیره. والمهیّة لا تعلّق لها من حیث هی هی بجاعل، ولیست هی أیضاً بما هی هی موجودةً، فلا حدوث لها بهذا المعنى ولا قِدَم، ولا قدیم بهذا المعنى أیضاً إلاّ الواجب، ولا بأس بأن یصطلح فی القدیم والحادث على هذا المعنى وإن لم یشتهر من القوم».(1)
فالفرق بین الحدوث بالحقّ والحدوث الذاتیّ بالمعنى المشهور هو الفرق بین الإمكان الفقریّ الجاری فی الوجود والإمكان الذاتیّ الجاری فی المهیّة. وهذه المناسبة بین الحدوثین هی الموجبة لتقدیم الحدوث بالحقّ على الحدوث الدهریّ.
إنّ السیّد الداماد بعد ما ذكر سبعة أقسام للتقدّم والتأخّر بزیادة التقدّم الدهریّ والسرمدیّ على الأقسام الستّة المشهورة، بیّن أنّ قسمین منها یتمیّزان بكون القبلیّة فیهما بحسب الانفكاك فی ظرف الوجود لا بحسب خصوص المرتبة العقلیّة، وهما التقدّم الزمانیّ، والتقدّم السرمدیّ.(2) ثمّ تعرّض لوجوه الاختلاف بینهما وهی خمسة أوجه.(3)
فالخاصّة التی یتمیّز بها الحادث الدهریّ عن الحادث الذاتیّ هو انفكاك وعائه عن وعاء القدیم الدهریّ فی متن الأعیان بخلاف الحادث الذاتیّ الذی یكون تأخُّره فی ظرف التحلیل الذهنیّ فقط. لكن بالنظر إلى أنّ استعمال الوعاء فی مورد
1. راجع: الأسفار: ج3، ص249ـ250.
2. راجع: القبسات: ص62 و 88.
3. نفس المصدر: ص88ـ90.
المجرّدات ولا سیّما فی مورد الواجب تبارك وتعالى لا یخلو عن تجوّز، یمكن إرجاع التقدّم الدهریّ والسرمدیّ إلى تقدّم مراتب الوجود العالیة على المرتبة الدانیة المادّیة فی متن الواقع. ولذا فسّر الاُستاذ(قدسسره) الحدوثَ الدهریّ بمسبوقیّة المعلول بعدمه المتقرّر فی مرتبة علّتها.
ثمّ إنّه ذكر أنّ القبلیّة والبعدیّة الزمانیّتین لیستا متقابلتین، لأنّ من شرط التقابل وحدة الزمان، ولا یتصوّر ذلك فیهما، فلیس بین العدم والوجود الزمانیّین لشیء واحد تقابل، بخلاف القبلیّة والبعدیّة الدهریّة، حیث لا اختلاف زمانیّاً بینهما.(1) وهذا هو المراد بما حكى عنه فی المتن من أنّ القبلیّة والبعدیّة فی الحدوث الدهریّ غیر مجامعتان.
1. نفس المصدر: ص17.
الغرض من هذا الفصل كما صرّح به فی عنوانه بیان ثلاثة اُمور: تعریف العلم، وانقسامه الأوّلیّ، وهو انقسامه إلى الحصولیّ والحضوریّ، وبعض خواصّه وهو تجرّده. أمّا مطلب «ما» الشارحة و«هل» البسیطة فهما واضحان فی مورد العلم، لبداهة مفهومه، وضرورة وجوده. فبالعلم یُعرف كلُّ شیء، فكیف لا یكون نفسه معروفاً؟ وبالعلم یُثبَت وجود كلّ شیء فكیف یكون وجوده مجهولاً؟ وأمّا المراد بتعریفه فلیس تعریفاً بالجنس والفصل، لأنّ العلم بمعناه العامّ لیس من قبیل المهیّات، لوجوده فی الواجب تعالى أیضاً، مضافاً إلى أنّ المفهوم البدیهیّ لا یحتاج إلى تعریف، بل لا یمكن تعریفه مطلقاً.(1) بل المراد ذكر أخصّ خواصّه، وهو ما سیأتی فی آخر الفصل.
وابتدأ(قدسسره) بتقسیم العلم إلى الحصولیّ والحضوریّ، وعرّف الأوّل بالعلم بمهیّات الأشیاء، والثانی بالعلم بوجوداتها. لكنّ الأحسن تعریف الحصولیّ بالعلم غیر المباشر وبوساطة الصورة العلمیة، وتعریف الحضوریّ بالعلم المباشر وبلا وساطتها. لأنّ العلم الحصولیّ لا ینحصر فی العلم بالمهیّات، فلنا علوم بالوجودات
1. راجع: الأسفار: ج3، ص278.
وبالواجب تبارك وتعالى تتمثّل فی المعقولات الثانیة، وهی علوم حصولیّة، ولو كان العلم الحصولیّ مختصّاً بالمهیّة لَما تعلّق بما لا مهیّة له كالواجب الوجود.
ولمّا كان البحث عن الوجود الذهنیّ ـ الذی مرّ فی المرحلة الثالثة ـ فی الواقع بحثاً عن العلم الحصولیّ، قدّم ذكر الحصولیّ بالإشارة إلى ما مرّ فی تلك المرحلة. ثمّ جاء إلى العلم الحضوریّ لیُثبته من طریق بعض مصادیقه الحاصلة لنا بالوجدان، وهو علمنا بأنفسنا ووجود هذا العلم وإن كان بدیهیّاً إلاّ أنّه لمّا كان من المحتمل أن یحصل خطأ فی تفسیره ویُتوهَّم أنّه من قبیل العلوم الحصولیّة، نبّه على ذلك بوجهین(1):
أحدهما أنّ عِلم كلّ أحد بنفسه التی یشیر إلیها بضمیر المتكلّم لو كان علماً بالمهیّة وبوساطة المفهوم لكان ذلك المفهوم فی حدّ نفسه قابلاً للصدق على كثیرین، والحال أنّ هذا المعلوم أمر شخصیّ لا ینطبق على غیره بوجه. لكنّه یتمّ بعد إثبات أنّ ذلك المفهوم لابدّ وأن یكون مفهوماً كلّیاً ولیس من قبیل المفاهیم الجزئیّة، فإنّ المفهوم أعمّ من الكلیّات، ولهذا یقع مقسماً للكلّی والجزئیّ. كما أنّ المهیّة التی تكون متعلّقة لمطلق العلوم بما فیها الإدراكات الحسیّة والخیالیّة لابدّ أن تؤخذ بمعنى یصدق على الجزئیّات، فتفطّن.
وثانیهما أنّه لو كان هذا العلم علماً بالمهیّة دون الوجود الشخصیّ للنفس كان لازمه أن تكون للنفس مهیّة قائمة بوجودها العینیّ، ومهیّة اُخرى قائمة بالذهن الذی هو أیضاً من مراتب وجودها العینیّ، فكان لها مهیّتان قائمتان بوجود واحد، ویمتنع ذلك لأنّه من قبیل اجتماع المثلین.
ویرد علیه النقض بالعلم الحصولیّ بالنفس، فإنّه لیس لأحد إنكار ذلك زائداً على العلم الحضوریّ بها. والحلّ أنّ هذا الاجتماع ـ بعد قبول امتناعه فی الجملة
1. راجع: نفس المصدر،ص288ـ289؛ وج6: ص156ـ164؛ وراجع: حكمة الإشراق: ص111؛ والتحصیل: ص808؛ والتلویحات: ص70؛ وراجع: المطارحات: ص484؛ والتعلیقات: ص79 و 147 و 148 و 160ـ161 و 162.
إنّما یلزم إذا كانت المهیّتان قائمتین بمرتبة واحدة من الوجود، وفی ما نحن فیه لیس كذلك، فإنّ إحداهما قائمة بنفس الوجود، وثانیتهما قائمة بمرتبة خاصّة منها یعبّر عنها بالذهن. والقیام بهما لیس على نهج واحد، فإنّ المهیّة القائمة بالوجود هی مهیّة ذلك الوجود لكنّ المهیّة القائمة بالذهن لیست هی مهیّة الذهن ولا متّحدة به اتحاد المهیّة بالوجود، وإنّما هو مفهوم حاصل له یحمل علیه النفس بالحمل الأوّلیّ فقط، ولا یحمل علیه الذهن بوجه.
ثمّ إنّه یمكن التنبیه على ضرورة العلم الحضوریّ بأنـّه إذا كان المعلوم بالعلم الحصولیّ معلوماً بوساطة الصورة العلمیّة یجب أن تكون تلك الصورة الواسطة معلومة بنفسها دفعاً للتسلسل، فالعلم بها یكون بلا وساطة، وهو العلم الحضوریّ.
یمكن أن یراد بهذه العبارة ثلاثة معانٍ: أحدها أنّ كلّ علم حصولیّ لابدّ وأن یكون مأخوذاً عن معلوم حضوریّ، بدعوى أنّ العلم الحصولیّ صورة ولا یمكن أخذ الصورة إلاّ بحضور ذی الصورة، ولو أمكن لم یعلم مطابقتها لها. لكنّ الكلّیة ممنوعة، فمن الجائز أن تحصل صورة علمیّة بلا فعّالیّة من النفس نظیر ما یحصل من الصور فی المرائی، ویعلم المطابقة من البرهان.
وثانیها أنّ كلّ صورة علمیّة لابدّ وأن یكون نفسها معلومة بالعلم الحضوریّ. وهذا ما أشرنا إلیه آنفاً عند الكلام فی ضرورة وجود العلم الحضوریّ. لكنّه لا یزلزل موقع العلم الحصولیّ بل یثبّته.
وثالثها أنّ ما نعتبره علماً حصولیّاً كاشفاً عن المعلومات بالعرض هو فی الواقع علم حضوریّ كاشف عن المعلومات بالذات فقط، وكاشفیّته عمّا وراءه إنّما هو باعتبار من العقل. فالعلم الحصولیّ اعتبار یضطرّ إلیه العقل ـ على حدّ تعبیره الآتی
وهذا هو الذی یرومه بهذه العبارة ویرمی إلیه. وبهذا الصدد یقدّم البحث عن تجرّد العلم.
شروع فی إثبات تجرّد العلم، وهو أخصّ خواصّه. وقد عقد فی الأسفار فصلاً لنقل كلمات القوم حول حقیقة العلم ونقدها.(1) ومن جملتها أنّ التعقّل عبارة عن حضور صورة مجرّدة عن المادّة عند موجود مجرّد عن المادّة. وقال فی نقده: «وبالجملة فهو یوجب الاعتراف فی ظاهر الأمر بأنـّه لیس الإدراك نفسَ حضور الصورة».(2) ثمّ قال: «وأمّا المذهب المختار ـ وهو أنّ العلم عبارة عن الوجود المجرّد عن المادّة الوضعیّة ـ فَتَرِدُ علیه أیضاً إشكالات كثیرة فی ظاهر الأمر، ولكن كلّها مندفعة عند إمعان النظر» ثمّ أخذ فی بیان الإشكالات ودفعها.(3) ثمّ عالج تبیین مذهبه بقوله: «العلم لیس أمراً سلبیّاً كالتجرّد عن المادّة، ولا إضافیّاً، بل وجوداً، ولا كلّ وجود بل وجوداً بالفعل لا بالقوّة، ولا كلّ وجود بالفعل بل وجوداً خالصاً غیر مشوب بالعدم، وبقدر خلوصه عن شوب العدم یكون شدّة كونه علماً ـ إلى أن قال ـ فلا علم لأحد بشیء من الجسم وأعراضه اللاحقة إلاّ بصورة غیر صورتها الوضعیّة المادّیة التی فی الخارج».(4)
ثمّ تعرّض لوجوه الفرق بین حضور الصورة الإدراكیّة للنفس وبین حصولها فی المادّة، وهی ثمانیة أوجه.(5) وقال فی موضع آخر: «الحقّ كما سبق أنّ العلم عبارة
1. راجع: الأسفار: ج3، ص284ـ296؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص319ـ332؛ وراجع: النمط الثالث من شرح الإشارات؛ وراجع: التلویحات: ص68؛ والمطارحات: ص474489.
2. راجع: نفس المصدر: ص290.
3. نفس المصدر: ص292ـ296.
4. نفس المصدر: ص298.
5. نفس المصدر: ص300ـ304؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص332.
عن وجود شیء بالفعل لشیء، بل نقول: العلم هو الوجود للشیء المجرّد عن المادّة، سواء كان ذلك الوجود لنفسه أو لشیء آخر، فإن كان لغیره كان علماً لغیره، وإن لم یكن لغیره كان علماً لنفسه».(1)
وجدیر بالذكر أنّه صرّح فی مواضع اُخرى بسریان العلم والحبّ فی جمیع الموجودات،(2) ولا یتیسّر الجمع بینهما إلاّ بتكلّف، فلیتأمّل.
والحاصل أنّ العلم عند صدر المتألّهین هو نحو الوجود المجرّد عن المادّة، ولهذا فهو یرى أنّ المعقولیّة أمر ذاتیّ للصورة العقلیّة، وكذا المحسوسیّة للصورة الحسیّة، والمتخیَّلیة للصورة الخیالیّة. ومن هنا یقیم برهاناً على اتّحاد العالم والمعلوم، وسیأتی الكلام فیه. وكذا یرى المعلومیّة مساوقةً للتجرّد، ولهذا قال فی كلامه الذی مرّ ذكره أنّه لا علم لأحد بشیء من الجسم وأعراضه إلا بصورة غیر صورتها المادیّة.
لكن فی كلا الأمرین نظر، ویشبه أن یكون تحقّق العلم خاصّاً بالموجود المجرّد الذی وجوده لنفسه،(3) فالجوهر الجسمانیّ لا یكون عالماً لعدم تجرّده، والعرض لا یكون عالماً لعدم كون وجوده لنفسه وإن فرض مجرّداً كما فی الكیف النفسانیّ. وكذا یشبه أن یكون شرط تجرّد المعلوم خاصّاً بالعلوم الحصولیّة، وأمّا علم العلّة بالمعلوم علماً حضوریّاً فیمكن تعلّقه بالموجود المادّیّ بما أنّه مادّیّ. والإشكال بأنـّه لا حضور للموجود المادّی لنفسه فكیف یكون حاضراً للعالِم؟ مندفع بأنّ غیبوبة أجزائه بعضها عن بعض لا تنافی حضورها للفاعل المفیض، كما أنّ تفرّق الزمانیّات لا ینافی اجتماعها فی وعاء الدهر. وستأتی تتمّة للكلام عند البحث عن علم الواجب تبارك وتعالى إن شاء الله العزیز.
1. نفس المصدر: ص354.
2. راجع: الأسفار: ج2، ص235ـ239؛ وج7؛ ص148ـ168.
3. راجع: التعلیقات: ص60 و 69 و 77 و 78 و 189؛ وراجع: الأسفار: ج6، ص165ـ167.
وكیف كان فالصورة العلمیّة التی هی عماد العلوم الحصولیّة مجرّدة عن المادّة، وتوجد فی كلمات القوم إشارات إلى ذلك،(1) وإن كان تركیزهم على الصورة العقلیّة. وقد استدلّ سیّدنا الاُستاذ(قدسسره) على تجرّدها مطلقاً بوجهین، ویمكن استفادة وجه ثالث من أواخر كلامه، وسنشیر إلیه.
الوجه الأوّل: أنّ الصورة العلمیّة أمر بالفعل، ولا یعقل لها قوّة تخرج عنها بالحركة، وتكون فی ما بین القوّة والفعل غیر متّصفة بالمعلومیّة ولا باللامعلومیّة، كما لا یتصوّر لها إمكان التبدّل إلى صورة اُخرى. وما یتوهّم من التغیّر والتحوّل فیها فإنّما هو بحدوث صورة جدیدة. وما هذا شأنه لا یكون أمراً مادّیاً.
الوجه الثانی: أنّ الصورة العلمیّة فاقدة للخواصّ اللازمة للمادّة، وهی الانقسام والمكان والزمان. فإنّ الأمر المادّیّ سواء كان جوهراً أو عرضاً حالّاً فیه یقبل الانقسام إمّا بالذات كالكم، وإمّا بالتبع كالجوهر الجسمانیّ وسائر أعراضه، فیصحّ أن ینقسم إلى جزئین بانعدام الكلّ وتبدّله إلى شیئین آخرین. والصورة العلمیّة لیست كذلك، أمّا الصور العقلیّة والمعانی الجزئیّة فواضح، وأمّا الصور المقداریّة فإنّها وإن لم تفقد بعض آثار المادّة إلاّ أنّها لا تتجزّأ إلى الأجزاء بالفعل كالاُمور المادّیة، وتصوُّر الأجزاء لها إنّما هو بحدوث صور اُخرى لا بتبدّل الكلّ إلیها. ولا تكون أجزاؤها المفروضة أجزاء العلم بحیث یكون نصفُها نصفَ العلم وثلثُها ثلثَه وهكذا.
وكذلك كلّ أمر مادّی یصحّ نسبتها إلى المكان ویمكن الإشارة الحسیّة إلیه، والصورة العلمیّة لیست كذلك، كما أنّ وجودها لیس تدریجیّاً منطبقاً على الزمان ولا متغیّراً بتغیّره.
1. راجع: التحصیل: ص745؛ وراجع: الفصل الثانی من المقالة الثانیة من الفنّ السادس من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج3، ص475487 و 493497.
حاصل الإشكال أنّ ما ذكر من عدم وجود خواصّ المادّیات فی الصورة العلمیّة ممنوع، أمّا الانقسام فلإمكان عروضه لها بعرض المحلّ بأن تفرض الصورة العلمیّة منطبعة فی محلّ مادّیّ فتنقسم بانقسامه. وأمّا النسبة إلى المكان فلما ثبت فی العلوم الطبیعیّة من اختصاص كلّ جزء من أجزاء الدماغ بنوع من الإحساس، بحیث یختلّ ذلك الإحساس باختلال الجزء الدماغیّ الخاصّ به. وأمّا النسبة إلى الزمان فلحدوث كلّ إدراك فی زمان معیّن.
وحاصل الجواب أنّ انطباع الصور الإدراكیّة فی الأعضاء الحسیّة أو الجهاز العصبیّ والمخّ ممتنع، لاستلزامه انطباع الكبیر فی الصغیر.(1) ولا یجدی القول بأنّ الصورة المنطبعة صغیرة فی نفسها وإنّما یعلم مقدار ذی الصورة بالمقایسات، لأنّ ما یدرك أخیراً ولو كان ذلك بعد حصول المقایسات هو صورة كبیرة لا یمكن انطباعها فی جسم صغیر، ولیس إدراك الصورة الكبیرة مركّباً من إحساس صورة صغیرة وعلم آخر بمقدارها الواقعیّ، كما هو واضح بالوجدان.(2)
وأمّا ما ثبت بالتجارب العلمیّة من ارتباط كلّ نوع من الإحساس بجزء خاصّ من الدماغ مثلاً فلا یعنی انطباع الصورة الإدراكیّة فیه، بل معناه كون ذلك الجزء آلة للإحساس، وبتأثّره بالتفاعلات الفیزیائیة ـ الكیمیاویّة، تستعدّ النفس للإدراك. والنسبة الزمانیّة أیضاً تحصل بمقارنة تلك التفاعلات المادّیة للزمان.
وأخیراً استدلّ على عدم زمانیّة الصورة الإدراكیّة ببقائها بعینها وتذكّرها بعد سنین متطاولة، والاُمور الزمانیّة لا تبقى بعینها لتدرّج وجودها.
ویمكن استفادة دلیل آخر على تجرّد الإدراك، وهو أنّ المادّة البدنیّة وحتّى المادّة
1. راجع: نفس المصدر: ج1، ص299؛ وج8: ص178ـ179 و 230ـ241.
2. راجع: حكمة الإشراق: ص100.
العصبیّة تتحوّل بالتحلّل وجذب موادّ غذائیّة جدیدة، فلو كانت الصورة العلمیّة حالّة فیها وكانت هی المدرِكة لها لتغیّر الإدراك بتغیّر المحلّ المدرِك. ولا یجدی فرض تماثل الصور المتناوبة، لعدم بقاء ما یدرِك تلك الصور ویدرك تماثلها.
وأیضاً إذا قایسنا بین صورتین، سواء كانتا متماثلتین أو متخالفتین، وسواء كانتا متزامنتین أو غیر متقارنتین فی زمان حدوثهما، لزم وجودهما لمدرِك واحد، ولا یستقیم ذلك بالانطباع، لأنّ كل جزء من الدماغ مثلاً إنّما یدرِك ـ على الفرض ـ ما ینطبع فیه خاصّةً، ولا خبر له عن ما یدرِك الجزء الآخر حتّى یقایس بینهما. فالصور العلمیّة اُمور مجرّدة قائمة بالنفس المجرّدة، وهی التی تدركها وتقایس بینهما، وتحكم بتماثلها أو تخالفها.
بعد ما أثبت(قدسسره) تجرّد الصور العلمیّة رجع إلى ما أشار إلیه من انتهاء العلم الحصولیّ إلى الحضوریّ فقال: «إنّ الصورة العلمیّة بما أنّها مجرّدة تكون أقوى وجوداً من المادیّات، فمرتبة وجودها فوق مرتبة المادیّات، والتشكیك فی مراتب الوجود یقتضی كون العالی علّةً للسافل وكون المجرّد علّةً للمادّیّ، فالصور العلمیّة فی الحقیقة هی مبادئ وجود المادیّات وعللها المفیدة لها، والعلم یعنى شهودها. لكن قد تكون المشاهدة عن قُرب، كما فی المشاهدات العرفانیّة، وقد تكون عن بُعد، كما فی العلوم العادیّة، فهی أیضاً علوم حضوریّة إلاّ أنّها تحصل لمن لم یصل بعدُ إلى قرب تلك الحقائق المجرّدة بحیث یستطیع مشاهدتها عن قریب».(1)
فالعلم سواء كان إحساساً أو تخیّلاً أو تعقّلاً إنّما هو مشاهدة اُمور مجرّدة عن المادّة، تجرّداً مثالیّاً كما فی الإحساس والتخیّل، أو تجرّداً عقلانیّاً كما فی التعقّل. وإنّما
1. راجع: الأسفار: ج1، ص287ـ291.
ینسب إلى المادیّات لكونها آثار وجود تلك المجرّدات، ولاشتراكها معها فی المهیّة. فما یسمّى علماً حصولیّاً بالمادیّات لا حقیقة له، بل إنّما هو علم حضوریّ بالاُمور المجرّدة، وینسبه العقل إلى المادیّات اعتباراً. والداعی إلى هذا الاعتبار هو احتیاج الإنسان إلى الاتّصال بالمادّیات والانتفاع بها، فیضطرّ العقل إلى ذلك الاعتبار.
وهذا الاتّجاه هو الاتّجاه الأفلاطونی(1) إن لم یكن أبعد مدى منه، وسیأتی منه فی الفصل العشرین من المرحلة الثانیة عشر الإشكال فی إثبات المُثُل الأفلاطونیّة. اللّهمّ إلاّ أن یؤوّل كلامه ههنا بوجود الاُمور العقلیّة على نعت البساطة فی عقل واحد، فلیتأمّل.
ثمّ إنّ صدر المتألّهین ذهب إلى أنّ الإدراك الحسّیّ والخیالیّ یحصل فی المرتبة المثالیّة للنفس لا فی المثال الأعظم البرزخیّ، على خلاف ما ذهب إلیه الشیخ الإشراقیّ، فالمدرَكات الجزئیّة هی صور قائمة بالنفس لا مستقلّة عنها، وبهذا یفترق الإدراك العادیّ عن المشاهدة العرفانیّة. واستدلّ على ذلك بأنّ النفس ربما تتصوّر صوراً قبیحة وجزافیّة لا یصحّ إسنادها إلى الحكیم، فهی لیست إلاّ من شیطنة القوّة المتخیّلة، وحیث لا فرق بین إدراكها وإدراك سائر الصور فهی كلّها موجودة فی صقع النفس.(2)
ویمكن تعمیم هذا الإشكال إلى المفاهیم العقلیّة أیضاً بالنظر إلى وجود المفاهیم العدمیّة والاعتباریّة والمفاهیم الكلیّة المأخوذة من الصور القبیحة، فینتج أنّ الإدراكات العقلیّة أیضاً حاصلة فی المرتبة العقلیّة للنفس لا فی العالَم العقلّی المستقلّ، فهی لیست إلاّ مفاهیم قائمة بالنفس.
1. راجع: نفس المصدر: ج3، ص507.
2. راجع: نفس المصدر: ج1، ص303؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص132؛ وراجع: المطارحات: ص495.
و كیف كان، فیلاحظ على ما استدلّ به لكون الاُمور المعلومة عللاً فاعلیّة للمادّیات أنّ تجرُّد الصور العلمیّة لا یكفی دلیلاً على كونها فی سلسلة العلل، فلعلّها من قبیل الكیفیّات النفسانیّة المجرّدة الحاصلة للنفس، ولیست عللاً مفیدة لأیّ شیء. وإنّما الذی یقع فی سلسلة العلل المفیدة هو المجرّد التامّ الذی لا تعلّق له بالمادّة بنحو من الأنحاء ولو كان بوساطة النفس.
والحاصل أنّ الصور العلمیّة ـ سواء كانت عقلیّة أو خیالیّة أو حسیّة ـ صور مجرّدة حاصلة للنفس قائمة بها لا استقلال لها دون النفس، ومشهودة لها شهوداً حضوریّاً، وتفترق عن سائر الكیفیّات النفسانیّة بخاصّة ذاتیّة لها هی مرآتیّتها لماوراءها، فإذا نُظر إلیها كانت معلومة بالعلم الحضوریّ، وإذا نظر فیها كانت علوماً حصولیّة للمعلومات الخارجیّة. فالصور أنفسها معلومات بالذات علماً حضوریّاً، والأشیاء الخارجیّة معلومات بالعرض بوساطة تلك الصور علماً حصولیّاً. فانتهاء العلوم الحصولیّة إلى الحضوریّة إنّما یصحّ بالمعنى الثانی من المعانی المذكورة تحت الرقم (353) ولا یقتضی كون نسبة العلم إلى الأشیاء الخارجیّة اعتباریّة، فتبصّر.
لابدّ من تأویل لهذه العبارة بما یرجع إلى حضور الذات لذاتها، لأنّه إن اُرید بالكمالات الممكنة ما یعمّ الكمالات الثانیة كما هو الظاهر فهی غیر حاصلة لجمیع النفوس، وإن اُرید بها خصوص الكمالات الأوّلیّة المقوّمة للنوع فهی لا تختصّ بالمجرّدات، بل الأنواع المادّیة أیضاً واجدة لها، كما أنّها واجدة لبعض كمالاتها الثانیة.
ثمّ إنّه بالنظر إلى ما مرّ یمكن أن یعرَّف العلم بحضور شیء بذاته أو بصورته المجرّدة عند الموجود المجرّد الذی وجوده لنفسه. مع تفسیر حضور الشیء بما یعم حضور العالِم عند نفسه أوّلاً، وبما یعمّ حضور المادّیات لعللها المفیضة ثانیاً.
لا ریب أنّ علم المجرّد بذاته لیس أمراً خارجاً عن ذاته فهو عالم ومعلوم وعلم. وهذا ممّا اتّفق علیه الحكماء وأمّا علمه بغیره فالمشهور عندهم أنّه یتحقّق بحصول صورة علمیّة للعالم، لكن اختلفت كلماتهم فی تفسیر هذا الحصول وبیان الفرق بینه وبین سائر أنواع الحصول والوجود للغیر، والذی یستفاد من كلمات الشیخ وأتباعه أنّه نحو من وجود العرض للموضوع، والفرق یرجع إلى التجرّد وعدمه، فالموضوع المجرّد یصیر عالماً بالصورة الحالّة فیه لأجل تجرّده بخلاف الموضوعات الجسمانیّة.
وهذا البیان لم یُقنع شیخ الإشراق وصدر المتألّهین. فقال الأوّل فی التلویحات: «وكان یصعب علیّ مسألة العلم، وما ذكر فی الكتب لم یتنقَّح لی»(1) ثمّ نقل مكاشفة له رأى فیها المعلم الأوّل وسأله عن مسائل العلم، وانتهى رأیه إلى أنّ العلم إضافة إشراقیّة. وقال صدر المتألّهین: «إنّ مسألة كون النفس عاقلة لصور الأشیاء المعقولة من أغمض المسائل الحكمیّة التی لم تنقّح لأحد من علماء الإسلام إلى یومنا هذا»(2) وانتهى رأیه إلى اتّحاد العاقل بالمعقول وجوداً، وأنّ حصول الصورة العلمیّة للعالم شبیه بحصول الصور الجسمانیّة للمادّة.(3)
وقد حُكی القول باتّحاد العاقل والمعقول عن بعض القدماء. قال الشیخ فی الإشارات: «إنّ قوماً من المتصدّرین یقع عندهم أنّ الجوهر العاقل إذا عقل صورة
1. راجع: التلویحات: ص70ـ74.
2. راجع: الأسفار: ج3، ص312.
3. راجع: نفس المصدر: ص319.
عقلیّة صار هو هو ـ إلى أن قال ـ وكان لهم رجل یعرف بـ «فُرفوریوس» عمِل فی العقل والمعقولات كتاباً یُثنی علیه المشّاؤون، وهو حَشَفٌ كلّه. وهم یعلمون من أنفسهم أنّهم لا یفهمونه ولا فرفوریوس نفسه. وقد ناقضه من أهل زمانه رجل، وناقض هو ذلك المناقض بما هو أسقط من الأوّل».(1) وقال فی الشفاء: «وما یقال من أنّ ذات النفس تصیر هی المعقولات فهو من جملة ما یستحیل عندی، فإنّی لست أفهم قولهم أنّ شیئاً یصیر شیئاً آخر، ولا أعقل أنّ ذلك كیف یكون ـ إلى أن قال ـ نعم هذا فی شیء آخر یمكن أن یكون، على ما سنفصّله فی موضعه».(2)
ولعلّ هذا الموضع الذی أشار إلیه هو الفصل السابع من المقالة الاُولى من كتاب «المبدء والمعاد» حیث صحّح القول به فی الواجب تبارك وتعالى وبیّنه ببیان طویل نقله فی الأسفار ونَقده.(3)
وقال فی التعلیقات: «كل ما یعقل ذاته فإنّه هو العقل والعاقل والمعقول. وهذا الحكم لا یصحّ إلاّ فی الأوّل».(4) ومراده أنّ هذا الاتّحاد فی مورد العلم بالغیر یختصّ بالواجب تبارك وتعالى، وأمّا فی العلم بالنفس فهو حاصل فی جمیع الجواهر المجرّدة.
وقال فی التعلیقات أیضاً: «وأمّا ما یقال إنّا إذا عقلنا شیئاً فإنّا نصیر ذلك المعقول، فهو محال، فإنّه یلزم أن یكون إذا عقلْنا الباری أن نتّحد به ونكون هو. وهذا الحكم لا یصحّ إلاّ فی الأوّل، فإنّه یعقل ذاته، وذاته مبدء المعقولات، فهو یعقل الأشیاء من ذاته، وكلّ شیء حاصل له حاضر عنده معقول له بالفعل».(5) ولعلّه أراد بذلك أن یفرّق بین علم الواجب بغیره وعلمنا بغیرنا بأنّ الثانی من قبیل
1. راجع: النمط السابع من الإشارات.
2. راجع: الفصل السادس من المقالة الخامسة من الفنّ السادس من طبیعیّات الشفاء.
3. راجع: الأسفار: ج3، ص437443.
4. راجع: التعلیقات: ص159.
5. راجع: نفس المصدر: ص159.
العرض الحالّ فی جوهر النفس بخلاف الأوّل،(1) وعلیه فینبغی تعمیم الاتّحاد إلى علوم المفارقات،(2) فلیتأمّل.
ثمّ إنّه أورد فی كتبه إشكالات على القول بالاتّحاد، وقد تصدّى فی الأسفار للإجابة علیها،(3) كما أنّه أقام برهاناً على الاتّحاد غیر ما فی المتن سنشیر إلیه. لكن ینبغی قبل ذلك إلقاء ضوء على مفهوم العبارة، ولعلّه بهذا یندفع كثیر من الإشكالات لولا كلّها.
فنقول: المراد بالاتّحاد المعقول بین العاقل والمعقول هو الاتّحاد فی الوجود دون المفهوم والمهیّة. فمن البدیهیّ أنّ مهیّة العاقل لا تنقلب إلى مهیّة المعقول، ولا مهیّة المعقول تنقلب إلى مهیّة العاقل، كما أنّ اتّحاد مفهومین متبائنین ببعضهما أو اتّحاد وجودٍ بما أنّه وجود بمفهوم بما أنّه مفهوم أیضاً غیر معقول.
وأمّا اتّحاد الوجودین فلیس المراد به أنّ وجودین اثنین یصیران وجوداً واحداً بعینه، بل المراد ما یشتمل اتّحاد الرابط بالمستقلّ، واتّحاد الرابطیّ بالموضوع. أمّا الأوّل فیجری فی كلّ علّة مفیضة للوجود مع معلولها، ویرجع إلى التشكیك الخاصّ فی حقیقة الوجود، ومعناه عدم استقلال المعلول دون العلّة وكونه ربطاً محضاً بها. فالاتّحاد بهذا المعنى حاصل فی علم العلّة والمعلول ببعضهما علماً حضوریّاً. وأمّا العلوم الحصولیّة فما كان منها من فعل النفس كما فی المعقولات الثانیة یجری هذا المجرى، وكذا فی غیرها عند من یعدّها من فعل النفس. لكن هذا الممشى یختصّ بالقائلین بالتشكیك الخاصّیّ فی حقیقة الوجود كصدر المتألّهین وأتباعه.
وأمّا الاتّحاد بالمعنى الثانی فینقسم إلى قسمین: اتّحاد العرض بالجوهر، واتّحاد
1. راجع: نفس المصدر: ص81؛ وراجع: السادس والسابع من ثامنة إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص573-574.
2. راجع: النجاة: ص193.
3. راجع: الأسفار: ج3، ص321ـ335 و 346ـ359 و 427؛ وراجع: المطارحات: ص474؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص328ـ331.
الصورة بالمادّة. فكلّ من یقول بأنّ العلم كیف نفسانیّ ویصحّح اتّحاد وجود العرض بوجود الجوهر لا یتحاشی عن اتّحاده بالنفس اتّحادَ العرض بالموضوع، كما صرّح به صدر المتألّهین وأتباعه ومنهم الاُستاذ(قدسسره) فی مواضع متعدّدة،(1) ولا سیّما على القول بكون العرض من مراتب وجود الجوهر وشؤونه. وحیث إنّ المعلوم بالذات هو الصورة العلمیّة فیتمّ القول باتّحاد العلم والعالم والمعلوم بهذا المعنى. لكن یظهر من كلامهم فی هذا الباب أنّهم یذهبون إلى أبعدَ من ذلك، ممّا یرجع إلى كون النفس كمادّة للمعقولات، وكونها كصور للنفس تتحصّل بالاتّحاد معها تحصّلاً جوهریّاً جدیداً. فلننظر ماذا یفیده البرهان.
قال صدر المتألّهین ما ملخّصه: «إنّ الصورة المعقولة بالفعل وجودها فی نفسها ووجودها للعاقل شیء واحد من جهة واحدة بلا اختلاف. فلو فُرض أنّ المعقول بالفعل أمرٌ وجودُه غیر وجود العاقل ویكون الارتباط بینهما بمجرّد الحالّیّة والمحلّیة لكان یلزم أن یمكن اعتبار وجود كلٍّ منهما مع عزل النظر عن اعتبار صاحبه. لكنّ المعقول بالفعل لیس له وجود آخر إلاّ هذا الوجود الذی هو بذاته معقول لا بشیء آخر. وكون الشیء معقولاً لا یتصوّر إلاّ بوجود عاقل له، فلو كان العاقل أمراً مغایراً له لكان هو فی حدّ نفسه مع قطع النظر عن ذلك العاقل غیر معقول، لكنّ المعقول بالفعل لا یمكن أن یكون إلاّ معقولاً بالفعل، لأنّ ذلك الكون فی نفسه هو بعینه معقولیّته، سواء عقَله غیره أو لم یعقله. وقد مرّ أنّ المتضایفین متكافئان فی الوجود فی درجة الوجود أیضاً.
وإذا علمتَ الحال فی الصورة المعقولة فاعلم أنّ الحال فی الصورة المحسوسة أیضاً على هذا القیاس ـ إلى أن قال ـ ثمّ إنّهم زعموا أنّ الجوهر المنفعل العقلیّ من الإنسان یصادف الصور العقلیّة ویدركها إدراكاً عقلیّاً، فنقول: تلك القوّة الانفعالیّة بماذا
1. راجع: الأسفار: ج1، ص306.
أدركت الصورة العقلیّة؟ أتدركها بذاتها المعرّاة عن الصور العقلیّات؟ فلیت شعری كیف تدرك ذاتٌ عاریة جاهلة غیر مستنیرة بنور عقلیّ صورةً عقلیّةً نیّرةً فی ذاتها معقولةً صرفةً، والعین العمیاء كیف تبصر وترى! وإن أدركتْها بما استنارت به من صورة عقلیّة فكانت تلك الصورةعاقلة بالفعل كما كانت معقولة بالفعل ـ إلى أن قال ـ حصول الصورة الجسمانیّة الطبیعیّة للمادّة التی تستكمل بها وتصیر ذاتاً متحصّلة اُخرى یُشبه هذا الحصول الإدراكیَّ، فكما لیست المادّة شیئاً من الأشیاء المتعیّنة بالفعل إلاّ بالصور فكذلك حال النفس فی صیرورتها عقلاً بالفعل بعد كونها عقلاً بالقوّة».(1)
وقد ركّز فی هذا البیان على أنّ الصورة العقلیّة تكون بذاتها معقولة لا بعروض أمر فیها، فمع قطع النظر عن جمیع الأشیاء تكون معقولة، ولمّا كانت حیثیّة المعقولیّة هی حیثیّة الوجود للغیر (أی للعاقل) فیلزم أن تكون الصورة العقلیّة بذاتها عاقلةً لذاتها. وأیضاً لمّا كانت المعقولیّة مفهوماً إضافیاً وهی مع ذلك ثابتة لذات الصورة العقلیّة لزم أن تكون العاقلیّة أیضاً ثابتة لها لتكافؤ المتضایفین. وأخیراً أشار إلى وجه ثالث هو أنّ النفس الفاقدة فی ذاتها للصورة العقلیّة لا یمكنها أن تدرك تلك الصورة، كما أنّ العین العمیاء لا یمكنها أن تُبصر وتَرى، فیجب أن تتّحد بما هی عاقلة لذاتها حتّى تعقلها.
لكن یلاحظ على الوجه الأوّل أنّ وصف المعقولیّة مفهوم إضافیّ غیر داخل فی ذات شیء من الأشیاء ولا منتزع عنها إلاّ باعتبار طرف هو عاقل لها، فالصورة العقلیّة إنّما تكون بحیث یمكن أن تصیر معقولة، وأمّا فعلیّة هذا الوصف فهی رهن لفعلیّة وجود العاقل بما أنّه عاقل. فإن ثبت كونها عاقلة لذاتها كما فی الجوهر المجرّد اتّصف بالمعقولیّة لذاتها، وإن لم یثبت كما فی الصورة التی یكون وجودها للغیر فمعقولیّتها إنّما تكون للغیر لا لذاتها.
1. راجع: نفس المصدر: ج3، ص313ـ320؛ وج6: ص165ـ168؛ وراجع: تعلیقة السبزواری علیه.
ومنه یظهر النظر فی الوجه الثانی، فإنّ الذی ینسب إلى الصورة العقلیّة بصرف النظر عن الموجود الذی هی حاصلة له هو إمكان المعقولیّة، فیتضایف مع إمكان وجود عاقل له.
وأمّا الوجه الثالث فهو أشبه بالبیان التمثیلیّ منه بالبیان البرهانیّ، فلقائل أن یقول: إنّ عاقلیّة النفس بالفعل إنّما هی عین قیام الصورة العقلیّة بها، فللنفس فی ذاتها استعداد العاقلیّة، وفعلیّتها هی بحصول الصورة العقلیّة لها، فهی كالعین المبصرة التی لم تصادف الصورة المرئیّة بعدُ، فإذا صادفتْها صارت مبصرة بالفعل، ولا یستلزم ذلك كون الصورة المرئیّة مبصرة لنفسها.
ثمّ إنّ اعتبار نسبة الصورة العقلیّة إلى النفس كنسبه الصورة إلى المادّة لا یفترق عن اعتبارها كنسبة العرض إلى الجوهر فی أنّ النفس تستكمل(1) بها، كما أنّهما لا یفترقان فی أنّ المفروض فی كلیهما اتّحاد وجودین ببعضهما، وإنّما یختلف الاعتباران فی أنّ الصورة جوهر تتحصّل بها المادّة تحصّلاً جوهریّاً جدیداً بخلاف العرض، وإنّما یصحّ ذلك فی ما ثبت جوهریّته وجوهریّة الصورة العقلیّة مطلقاً ممنوع. بل لقائل أن یقول: إنّ اتّحاد الجوهر بالعرض أوثق من اتّحاد المادّة بالصورة، خاصّةً بالنظر إلى القول بأنّ العرض من شؤون وجود الجوهر، فلیتأمّل.
وكیف كان، فلمّا كان هذا البیان غیرَ وافٍ عند الاُستاذ(قدسسره) بإثبات المرام كما صرّح به فی تعلیقته على الأسفار(2) عدل عنه إلى بیان آخر، وحاصله أنّ العلم بالشیء هو حصول الصورة العلمیّة للعالم، فوجودها نوع من الوجود للغیر (أی للعالم) والوجود للغیر یتّحد مع وجود ذلك الغیر وإلاّ كان له وجود لنفسه أیضاً. فالعلم الذی هو المعلوم بالذات متّحد مع وجود العالم، وهو المطلوب.
1. راجع: التعلیقات: ص77؛ «الفرق بین الاستكمال والانفعال».
2. راجع: الأسفار: ج3، ذیل الصفحة 313ـ314؛ وج6: ذیل الصفحه 169ـ.170
وهذا البیان یُثبت الاتّحاد الأعمّ من اتّحاد العرض بالجوهر واتّحاد الصورة بالمادّة، لكن فی تعمیمه للعلم الحضوریّ نظر واضح، فلا حضور الشیء لنفسه من قبیل الوجود للغیر، ولا حضور المعلول عند العلّة، ولا حضور العلّة عند المعلول. مضافاً إلى أنّه لا یساعد ما ذهب إلیه من رجوع العلم الحصولیّ إلى الحضوریّ وأنّه مشاهدة الصور المجرّدة المستقلّة، فإنّ وجودها یكون لأنفسها، فتبصّر.
قد اُورد فی هذا الكلام إشكال على جریان هذا البرهان فی العلم الحصولیّ وإشكالات على القول بالاتّحاد فی العلم الحضوریّ. أمّا الإشكال الأوّل فهو أنّ هذا البرهان مبتنٍ على كون وجود العلم للغیر، مع أنّ الذی ینقسم إلى ما وجوده لنفسه وما وجوده لغیره هو الموجود الخارجیّ الذی یكون وجوده فی نفسه، فالأعراض الخارجیّة التی هی بالحمل الشائع أعراض یكون وجودها لغیرها، وبعض الجواهر الخارجیّة التی هی بالحمل الشائع جواهر یكون وجوده لنفسه، أمّا الجوهر أو العرض الذهنیّ فلیس مندرجاً فی مقولة حتّى یقال إنّ وجوده لنفسه أو لغیره، وإنّما یحمل الجوهر أو العرض علیه بالحمل الأوّلیّ. والحاصل أنّه لا معنى لفرض الاتّحاد بین وجود النفس والمفاهیم الذهنیّة.
والجواب أنّ للمفاهیم اعتبارین: اعتبار المفهومیّة، واعتبار الوجود فی الذهن، والاتّحاد إنّما یلاحظ بین وجود النفس والصورة العلمیّة بما أنّها وجود لا بما أنّها مفهوم، وبهذا الاعتبار تدخل فی مقولة الكیف بالنظر إلى مهیّته، كما مرّ الكلام فیه فی المرحلة الثالثة.
لكنّ الاُستاذ(قدسسره) أجاب عن الإشكال برجوع العلم الحصولیّ إلى الحضوریّ، فتدبّر.
وأمّا العلم الحضوریّ فاُورد علیه بأنّ اتّحاد شیئین یقتضی تعدّداً بینهما كما أنّه
یقتضی جهة وحدة لهما، لكن فی العلم بالنفس لا توجد جهة كثرة، فلا یصدق الاتّحاد وإنّما هو الوحدة. وأمّا فی علم العلّة بالمعلول وبالعكس وعلم أحد المعلولین بالآخر فلا توجد جهة وحدة للعالِم والمعلوم. على أنّ لازم الاتّحاد صیرورة جمیع المجرّدات شخصاً واحداً، لأنّها لا تخلو من أن یكون كلّ اثنین منها علّة ومعلولاً أو یكونا معلولین لعلّة ثالثة، فیلزم أن یكون واحد منها عالماً بالجمیع ومعلوماً للجمیع، والقول باتّحادها یستلزم كون الجمیع شخصاً واحداً.
وقد أجاب سیّدنا الاُستاذ(قدسسره) عن إشكال وحدة العالِم والمعلوم فی العلم بالنفس بأنّ إطلاق الاتّحاد هناك إنّما هو بالنظر إلى التغایر الاعتباریّ بینهما. وأمّا إشكال تعدّد العالم والمعلوم فی علم العلّة بالمعلول وبالعكس فقد أجاب عنه بأنّ مرادنا بالاتّحاد لیس هو صیرورة العالم والمعلوم وجوداً واحداً شخصیّاً ذا مرتبة واحدة، وإنّما یشمل اتّحاد الوجود الرابط بالمستقّل ـ كما أشرنا إلیه عند توضیح المسألة ـ فالعلّة تتّحد بالمعلول الذی هو عین الربط بها اتّحادَ الحقیقة بالرقیقة، كما أنّ المعلول یتّحد بها اتّحادَ الرقیقة بالحقیقة. وبهذا یظهر الجواب عن الإشكال الأخیر. وأمّا معلولا علّة ثالثة فالمراد باتّحادهما انتزاع ماهیّتَی العالم والمعلوم عن كلّ واحد منهما بما أنّه عالم.
لكنّ فهمی یقصر عن نیل ما أراد بهذا الكلام الأخیر، وقد أجاب فی بعض دروسه بأنّ لكلّ واحد من المعلولین علماً حضوریّاً بالعلّة، فیشاهد ما للآخر من الكمال الوجودیّ فی ذات العلّة. ویمكن أن یناقش فیه بأنّ علم كلّ واحد منهما بالعلّة یتعلّق بالحیثیّه التی صدر عنها وجوده، وإن كانت جمیع الحیثیّات موجودة فی ذات العلّة على نعت البساطة، لكن لا یتجلّىٰ للمعلول إلاّ ما یرتبط به وجوده، ولهذا لا یحیط المعلول بالعلّة علماً.(1) كما أنّ فرض معلولین مجردّین فی مرتبة واحدة لا یخلو من صعوبة بالنظر إلی مبانیهم، فإن فُرضا متحدّین بالنوع كان
1. راجع: المبدء والمعاد: ص34.
الفرض مخالفاً لما التزموا به من انحصار كلّ نوع مجرّد فی فرد واحد، وإن فُرضا مختلفین بالنوع كالعقول العرْضیّة كان مخالفاً لقاعدة عدم صدور الكثیر عن الواحد، خاصّةً بالنظر إلى رأی الاُستاذ فی المُثُل الأفلاطونیّة. فینحصر مورد الفرض فی النفوس المفارقة، بصرف النظر عن ما ذهب إلیه صدر المتألّهین من تنوّعها بالصور العقلیّة والملكات الخُلقیّة، فتفطّن.
وكیف كان فإثبات العلم الحضوریّ لمعلولی علّة ثالثة ببعضهما بالبیان الفلسفیّ مشكل جدّاً. وكان الأولى تأخیر هذا البحث إلى الفصلالحادی عشر أو تقدیم ذلك الفصل.
المراد بالعلم فی عنوان الفصل هو التصوّر، فإنّه إمّا أن یكون بحیث لا یمتنع صدقه على أكثرَ من واحد وهو الكلّیّ، أو یمتنع ذلك وهو الجزئیّ، والأوّل هو المفهوم العقلیّ، والثانی ینقسم إلى الحسّیّ والخیالیّ. فكان الأولى تقدیم انقسام العلم الحصولیّ إلى التصوّر والتصدیق.
وقد نبّه الاُستاذ(قدسسره) على أنّ الصورة العلمیّة أیّاً ما كانت لا تمتنع بذاتها عن الانطباق على أكثر من واحد، وشأنها شأن التصاویر التی لا یمتنع انطباقها على ذوات متعدّدة. فامتناع الصورة الجزئیّة عن ذلك. لابدّ وأن یرجع إلى أمر خارج عن ذاتها. وعلّله باتّصال أدوات الحسّ بالمعلوم الخارجیّ الشخصیّ، وبتوقّف الصورة الخیالیّة على العلم الحسّی.
ویمكن المناقشة فیه أوّلا بأن اتّصال أدوات الحسّ بالخارج لا یوجب بنفسه
عدم صدق الصورة العلمیّة على غیر ما تتّصل به آلة الإحساس، وثانیا بأنـّه لا یكفى توقُّف الصورة الخیالیّة على العلم الحسّیّ دلیلاً على جزئیّتها، كیف والصور العقلیّة أیضاً مسبوقة به. بل السرّ فیه یرجع إلى ما أشرنا إلیه تحت الرقم (90 و 355) من أنّ الصورة العلمیّة بما لها من المرآتیّة قابلةٌ لأن تكون منظوراً فیها وأن تكون منظوراً إلیها، فإذا نُظر فیها بحیث لم تكن نفسها ملحوظة استقلالاً كان التوجّه معطوفاً إلى المحكیّ، فإن كان المحكیّ أمراً شخصیّاً عُدّ العلم جزئیّاً، وإلاّ عُدّ كلّیاً. وهذا هو العلم الحصولیّ. وأمّا إذا نُظر إلیها نظراً استقلالیّاً واختُبر قابلیّتها للانطباق لم یمتنع انطباقها على أكثر من واحد، لكن هذا الانطباق لیس هو انطباق العلم وحكایته عن المعلوم، بل هو من قبیل انطباق القوالب على الأشیاء. كما أنّه إذا نُظر إلى كلّ صورة إدراكیّة كأمر موجود فی ظرف الذهن كانت أمراً شخصیّاً لا مفهوماً كلیّاً ولا جزئیّاً، وهذا هو اعتبار كونها معلومةً بالعلم الحضوریّ.
المراد بالخارج هو الخارج عن وعاء المفاهیم، لا خصوص الخارج عن البدن أو الخارج من النفس، فالنفس والبدن كلاهما یعتبران خارجین بالنسبة إلى المفاهیم الحاكیة عنهما، والعلم الحضوریّ بالنفس هو علم بوجودها الخارجیّ.
ثمّ إنّ من العلوم الحصولیّة ما ینتزع عن الموجود الخارجیّ المشهود بالعلم الحضوریّ بلا فعّالیّة إیجابیّة من العقل، كالمفاهیم الماهویّة المأخوذة عن النفس وقواها وأفعالها المباشرة وحالاتها وانفعالاتها كمفهوم العقل والخیال والإرادة والمحبة والخوف، ومنها ما ینتزع بتعمّل منه ومقایسة بعض المشهودات إلى بعض كمفهوم العلّة والمعلول وغیرهما من المعقولات الثانیة الفلسفیّة، وقد عرفت سابقاً أنّ مفهوم الجوهر والعرض أیضاً من هذا القبیل، ومنها ما ینتزع عن المفاهیم الذهنیّة
الحاضرة عند النفس، فتعتبر تلك المفاهیم مصادیقَ ذهنیّة لها، كانتزاع مفهوم «الكلّیّ» عن مفهوم «الخوف» فی الذهن، وهذه هی المعقولات الثانیة المنطقیّة. ومن المفاهیم ما یحصل للذهن بارتباطٍ بالخارج المادّیّ وانفعالٍ للنفس بتبع انفعال البدن عنه، إمّا بلا واسطة كالصور الحسّیة، أو بواسطة كالصور الخیالیّة والمفاهیم الماهویّة الحاكیة عن المحسوسات كمفهوم اللون والصوت وغیرهما. وهذه المفاهیم هی التی تنتهی إلى الحسّ، ومن فقدَ حاسّةً من الحواسّ فقدَ العلوم المتعلّقة بها.(1)
ثمّ إنّ المشهور بینهم أنّ هناك نوعاً آخر من العلم الحصولیّ غیر الحسّیّ والخیالیّ والعقلیّ، وهو الوهمیّ.(2) ولا بأس بالإشارة إلى بعض كلماتهم فی هذا الباب.
قال الشیخ فی النجاة: «ثمّ القوّة الوهمیّة، وهی قوّة مرتّبة فی نهایة التجویف الأوسط من الدماغ، تدرك المعانی الغیر المحسوسة الموجودة فی المحسوسات الجزئیّة، كالقوّة الحاكمة بأنّ الذئب مهروب عنه وأنّ الولد معطوف علیه».(3) وقال أیضاً: «وأمّا المعنى فهو الشیء الذی تدركه النفس من المحسوس من غیر أن یدركه الحسّ الظاهر أوّلاً، مثل إدراك الشاة معنى المضادّ فی الذئب، وهو المعنى الموجب لخوفها إیّاه وهربها عنه، من غیر أن یكون الحسّ یدرك ذلك البتّة».(4)
وقال فی الإشارات: «فإنّ الحیوانات ناطقها وغیر ناطقها تدرك فی المحسوسات الجزئیّة معانیَ جزئیّةً غیر محسوسة ولا متأدیّة من طریق الحواسّ، مثل إدراك الشاة معنى فی الذئب غیر محسوس، وإدراك الكبش معنى فی النعجة غیر محسوس، إدراكاً جزئیّاً یحكم به كما یحكم الحسّ بما یشاهده».(5)
1. راجع: الفصل الخامس من المقالة الثالثة من برهان الشفاء.
2. راجع: التحصیل: ص745ـ746.
3. راجع: النجاة: ص163.
4. راجع: نفس المصدر: ص162.
5. راجع: النمط الثالث من الإشارات.
وقال فی الشفاء ما ملخّصه: «إنّ الوهم هو الحاكم الأكبر فی الحیوان، ویحكم على سبیل انبعاث تخیّلیّ، من غیر أن یكون ذلك محقّقاً، وهذا مثل ما یعرض للإنسان من استقذار العسل لمشابهته للمرارة، فإنّ الوهم یحكم بأنـّه فی حكم ذلك، ویتّبع النفس ذلك الوهم وإن كان العقل یكذّبه. والحیوانات وأشباهها من الناس إنّما یتّبعون فی أفعالهم هذا الحكم من الوهم الذی لا تفصیل منطقیّاً له، بل هو على سبیل انبعاث ما فقط ـ إلى أن قال ـ إنّ من الواجب أن یبحث الباحث ویتأمّل أنّ الوهم الذی لم یصحبه العقل حال توهمّه كیف ینال المعانی التی هی فی المحسوسات عند ما ینال الحسّ صورتها. فنقول: إنّ ذلك للوهم من وجوه: من ذلك الإلهامات الفائضة على الكلّ من الرحمة الإلهیّة، مثل حال الطفل ساعةَ یولد فی تعلّقه بالثدی، وإذا تعرّض لحدقته بالقذى بادر فأطبق جفنه قبل فهم ما تعرّض وما ینبغی أن یفعل بحسبه، كأنّه غریزة لنفسه لا اختیار معه. وكذلك للحیوانات إلهامات غریزیّة، وهذه الإلهامات یقف بها الوهم على المعانی المخالطة للمحسوسات فی ما یضرّ وینفع، فیكون الذئب یحذره كلُّ شاة وإن لم تره قطّ ولا أصابتها منه نكبة. وقسم آخر یكون لشیء كالتجربة، وذلك أنّ الحیوان إذا أصابه ألم أو لذّة أو وصل إلیه نافع حسّی مقارناً لصورة حسیّة فارتسم فی المصورة صورة الشیء وصورة ما یقارنه، فاذا لاح للمتخیّلة تلك الصورة من خارج تحركت فی المصوّرة وتحرّك معها ما قارنها من المعانی النافعة أو الضارّة، فأحسّ الوهم بجمیع ذلك معاً، فرأى المعنى مع تلك الصورة، وهذا هو على سبیلٍ تُقارب التجربة، ولهذا تخاف الكلاب المدر والخشب وغیرها. وقد یقع للوهم أحكام اُخرى بسبیل التشبیه، بأن یكون للشیء صورة تقارن معنى وهمیّاً فی بعض المحسوسات، ولیس تقارن دائماً ذلك وفی جمیعها، فیلتفت مع وجود تلك الصورة إلى معناها وقد تخلّف».(1)
1. راجع: الفصل الثالث من المقالة الرابعة من الفنّ السادس من طبیعیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص801.
وقال فی منطق النجاة: «الوهمیّات هی آراء أوجب اعتقادَها قوّةُ الوهم التابعةُ للحسّ، مصروفة إلى حكم المحسوسات، لأنّ قوّة الوهم لا تتصوّر فیه خلافَها. ومثال ذلك اعتقاد الكلّ من الدهماء ـ ما لم یُصرفوا عنه قسراً ـ أنّ الكلّ ینتهی إلى خلأ، أو أن یكون الملأ غیر متناه، ومثل تصدیق الأوهام الفطریّة كلّها بأنّ كلّ موجود فیجب أن یكون متحیّزاً فی جهة. وهذان المثالان من الوهمیّات الكاذبة. وقد یكون منها صادقة یتبعها العقل، مثل أنّه كما لا یمكن أن یُتوهَّم جسمان فی مكان واحد فكذلك لا یوجد ولا یعقل جسم واحد فی وقت واحد فی مكانین ـ إلى أن قال ـ ففطرة الوهم فی المحسوسات وفی الخواصّ التی لها من جهة ما هی محسوسة، صادقة یتبعها العقل، بل هو آلة للعقل فی المحسوسات. وأمّا فطرتها فی الاُمور التی لیست بمحسوسة لتصرفها إلى وجود محسوس فهی فطرة كاذبة».(1)
وقال شیخ الإشراق: «وأثبت بعض الناس فی الإنسان قوّة وهمیّة هی الحاكمة فی الجزئیّات، واُخرى هی متخیّلة لها التفصیل والتركیب، وأوجب أنّ محلّهما التجویف الأوسط. ولقائل أن یقول: إنّ الوهم بعینه هو المتخیّلة ـ إلى أن قال ـ فالحقّ أنّ هذه الثلاث شیء واحد وقوّة واحدة، باعتبارات یعبّر عنها بعبارات».(2)
وقال صدر المتألّهین: «والتوهّم إدراكٌ لمعنى غیر محسوس بل معقول، لكن لا یتصوّره كلّیاً بل مضافاً إلى جزئیّ محسوس، ولا یشاركه غیرهُ لأجل تلك الإضافة إلى الأمر الشخصیّ ـ إلى أن قال ـ واعلم أنّ الفرق بین الإدراك الوهمیّ والعقلیّ لیس بالذات، بل أمر خارج عنه، وهو الإضافة إلى الجزئیّ وعدمها، فبالحقیقة الإدراك ثلاثة أنواع كما أنّ العوالم ثلاثة، والوهم كأنّه عقل ساقط عن مرتبته».(3)
1. راجع: النجاة: ص6263.
2. راجع: حكمة الإشراق: ص209ـ210؛ وراجع: الفصل الأوّل من المقالة الرابعة من الفنّ السادس من طبیعیّات الشفاء.
3. راجع: الأسفار: ج3، ص360ـ362؛ وراجع: أیضاً الأسفار: ج3، ذیل الصفحة 362؛ و راجع: نفس المصدر.
و قال فی موضع آخر: «واعلم أنّ الوهم عندنا وإن كان غیر القوى التی ذُكرتْ إلاّ أنّه لیس له ذات مغایرة للعقل، بل هو عبارة عن إضافة الذات العقلیّة إلى شخص جزئیّ وتعلّقها به وتدبیرها له، فالقوّة العقلیّة المتعلّقة بالخیال هو الوهم، كما أنّ مدركاته هی المعانی الكلیّة المضافة إلى صور الشخصیّات الخیالیّة».(1)
وكتب الاُستاذ(قدسسره) فی تعلیقته على الأسفار: «لا ینال الوهم كلَّ صورة عقلیّة مضافة إلى الجزئیّ، كالإنسان والفرس والسواد والبیاض مثلاً،(2) وإنّما ینال اُموراً جزئیّة موجودة فی باطن الإنسان كالمحبّة والعداوة والسرور والحزن، ولا مانع من نسبة إدراكها إلى الحسّ المشترك كما سیأتی فی سفر النفس، ومجرّد تسمیتها معانی فی مقابل الصور المدركة من طریق الحواسّ الظاهرة لا یوجب مباینةً نوعیّةً فی الفعل حتّى یحوج إلى إثبات قوّة اُخرى، فالحقّ إسقاط الوهم من رأس وإسناد فعله إلى الحسّ المشترك».
وقال أیضاً: «الحقّ أنّ الإدراك نوعان بإسقاط الإحساس كما اُسقط الوهم، فإنّ حضور المادّة المحسوسة وغیبتها لا یوجب مغایرة بین المدرك فی حال الحضور وعدمه. نعم، الغالب هو كون الصورة أقوى جلاءً عند النفس مع حضور المادّة، وربما كان المتخیَّل أقوى وأشدَّ ظهوراً مع عنایة النفس به».
وتثور حول هذه الكلمات تساؤلات كما یلى:
1. هل یدرك الوهمُ المعانیَ الجزئیّة المتعلقّة بالخارجیّات كعداوة الذئب مثلاً أو یدرك المعانی الحادثة فی النفس؟
2. هل یُدرك الوهم خصوص التصوّرات، وشأنه شأن الحواسّ الظاهرة فی
1. راجع: نفس المصدر: ج8، ص215ـ220.
2. قال فی التحصیل: ص784: «وههنا معانٍ لا یدركها الحسّ كالمعنى الذی ینفرّ الشاة عن الذئب، بل كالإنسانیة والشكلیة والعددیة، لا مجرّدة بل مأخوذة مع شخص محسوس منتشر، ولا محالة أنّ النفس تدركها بواسطة قوّة بدنیّة. والقوّة التی بها تدركها تسمّى وهماً».
إدراكها للصور الحسّیة، أو هو مدرك للتصدیقات، وشأنه شأن النفس العاقلة فی حكمها بالإیجاب والسلب؟
3. هل الوهم مدرك لنوع واحد من المعانی أو له أنواع متعدّدة من الإدراك؟
4. ما هو منشأ الأحكام الوهمیّة؟ وما هی قیمة تلك الأحكام؟
5. هل الواهمة قوّة مستقلّة فی قبال سائر القوى الإدراكیّة للنفس أو لیست فی الواقع إلاّ إحدى تلك القوى وتسمّى واهمةً باعتبار خاصّ؟ وما هی نسبة هذه القوّة إلى سائر القوى؟
أمّا السؤال الأوّل فالجواب عنه أنّ مدلول كلمات القوم هو الأوّل، لكن ظاهر كلام الاُستاذ(قدسسره) فی تعلیقته على الأسفار هو الثانی. ولعلّ مراده أنّ ما ننسبه من المعانی إلى الخارجیّات هو فی الواقع ممّا قد وجدناه أوّلاً فی أنفسنا، ثمّ بمشاهدة آثاره فی الحیوان أو الإنسان الخارجیّ نعتقد بوجود ذلك فیه. وهذا حقٌّ فی ما نشعر به من الإدراكات المنطویة على نوع من الاستدلال الارتكازیّ، لكن مدّعى القوم أنّ فی الحیوان إدراكاً غریزیّاً للمعانی الجزئیّة ببعض الأشیاء الخارجیّة، كإدراك الشاةِ عداوةَ الذئب، وهو من فعل قوّته الواهمة.
أمّا الجواب عن السؤال الثانی فهو أنّ مقتضى عدّهم القوّةَ الواهمة من الحواسّ الباطنة أنّ شأنها التصوّر كسائر الحواسّ، لكنّهم قد ینسبون الأحكام إلى الحواسّ أیضاً كما أنّهم ینسبون اللذّة والألم إلیها. والحقّ أنّ الحكم لا یكون إلاّ للنفس، وإنّما یُنسب بعض الأحكام إلى الحواسّ بالنظر إلى أنّ متعلّقه أمر محسوس بالحسّ الظاهریّ أو الباطنیّ، وأنّ طریق الوصول إلیه هو الحسّ.
وأمّا السؤال الثالث فالجواب عنه أنّ ما ینسب إلى الوهم كقوّة مدركة للتصوّرات هو نوع واحد من المدرَكات، وهو المعنى الجزئیّ المتعلّق بالمحسوسات. وأمّا الأحكام الموصوفة بالوهمیّات فهی على أنواع ذكرها الشیخ فی الشفاء وتلمیذه فی
التحصیل،(1) وتشترك فی اعتبار معنى وهمّی فی متعلّقها. لكن یشكل هذا الاعتبار فی الوهمیّات التی ذكروها فی المنطق، كتوهّم أنّ كلّ موجود یجب أن یكون فی مكان وزمان. والظاهر أنّه من قِبل الاشتراك فی الاسم، فتفطّن.
وبالتأمّل فی كلامهما یظهر الجواب عن السؤال الرابع أیضاً.
وأمّا السؤال الخامس فقد عرفت أنّ المشهور بینهم كون القوّة الواهمة قوّةً مستقلّةً، لكن احتمل الشیخ فی موضع من الشفاء(2) كونَ المتوهّمة هی المفكّرة والمتخیّلة بعینها، وذهب شیخ الإشراق إلى وحدة الواهمة والمتخیّلة والحسّ المشترك، وذهب سیّدنا الاُستاذ(قدسسره) فی تعلیقته على الأسفار إلى كونها هی الحسّ المشترك، لكنّه نسب إلیها إدراك المحبّة ونحوها، مع أنّها معلومة بالعلم الحضوریّ، ویمكن تأویل كلامه إلى أنّه یتصوّر معانیها الجزئیّة. وذهب صدر المتألّهین إلی أنّ الوهم هو العقل المتنزّل عن مرتبته، ولا یخلو كلامه عن غموض، فلیتأمّل.
والحقّ أنّ المحبّة ونحوها من الكیفیّات النفسانیّة تُعلم علماً حضوریّاً، ویأخذ الذهن منها معانی جزئیّة، على وزان الصور الخیالیّة، فیتذكّرها بعد زوالها، كما أنّه یأخذ معانی كلّیةً كسائر المعقولات. وأمّا المعانی الجزئیّة التی ندركها فی الحیوانات والأناسیّ فهی فی الأصل مأخوذة من حالاتنا النفسیّة، وننسبها إلیها لِما نرى فیها من آثارها. وأمّا الإدراك الغریزیّ فله شأن آخر، ولیس أمراً مشعوراً به. وأمّا الأحكام فكلّها صادرة من النفس، فما كان منها منتهیاً إلى البدیهیّات فهو صادق وذو قیمة منطقیّة، وما كان منها ناشیءاً عن مجرّد التخیّل والتمثیل فقیمته رهن للبرهان.
1. راجع: الفصل الثالث من المقالة الرابعة من الفنّ السادس من طبیعیات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص801..
2. راجع: الأوّل من رابعة السادس من طبیعیّات الشفاء.
العلم بالشیء قد یحصل من طریق الحسّ والمشاهدة ویتعلّق بالاُمور القابلة للزوال بما هی كذلك، فیتغیّر بتغیُّر المعلوم، كما أنّ حدوثه منوط بوجود المعلوم، ویسمَّى علماً جزئیّاً وزائلاً ومتغیّراً، وقد یحصل من طریق العقل وبالاستدلال بالعلل والأسباب على المعالیل والمسبّبات، كعلم المنجّم بوقوع الخسوف لیلة كذا، من طریق العلم بأسبابه، ومثل هذا العلم لا یكون تابعاً لوجود المعلوم ولا یتغیّر بتغیّره، فیمكن حصوله قبل تحقّق المعلوم ومعه وبعده، ویسمّى علماً كلّیاً ودائماً وثابتاً.
فهذا التقسیم یجری أصالة فی القضایا والتصدیقات بخلاف التقسیم السابق، وإن صحّ اتّصاف التصوّرات المأخودة منها أیضاً بالكلّی والجزئیّ بهذا المعنى، فیقال: انخساف القمر لیلة كذا معلوم للمنجّم علماً كلّیاً.
وقد یستعمل الكلّی والجزئیّ بهذا الاصطلاح فی مقدّمات البرهان، حیث یشترطون فی براهین العلوم أن تكون مفیدة للیقین الدائم، فیجب أن تكون مقدّماتها یقینیّة على الدوام، فیعبّرون عن هذا الشرط بالكلّیة والدوام.(1)
ثمّ إنّ المشّائین ذهبوا إلى أنّ علم الواجب تعالى بالحوادث الجزئیّة یكون بهذا المعنى كلّیاً،(2) لما أنّه ناشیء من ذات الواجب التی هی علة اُولى لجمیع
1. راجع: الفصل الثامن من المقالة الثانیة من برهان الشفاء؛ والتحصیل: ص238.
2. راجع: النمط السابع من الإشارات؛ وراجع: التعلیقات: ص13ـ15 و23ـ25 و 97 و 115 116 و 120 و 121 و 162ـ163؛ وراجـع: الأسـفـار: ج3، ص403417؛ وراجـع: الفصـل السـادس مـن المقـالة الثـامنـة مـن إلهیّات الشفـاء؛ وراجع: المبـاحث المشرقیة: ج1، ص363ـ365؛ والتحصیـل: ص495496 و 576؛ والنجـاة: ص247ـ249.
الموجودات، ولما أنّه موجود قبل حدوثها كما أنّه لا یتغیّر بتغیّرها، وبهذا الاعتبار یسمّى علم ما قبل الكثرة.(1)
ذكر الشیخ فی الشفاء أنَّ النفس مادامت متعلّقة بالبدن تكون عقلاً بالقوّة بالنسبة إلى اُمور، وإن كانت عقلاً بالفعل بالنسبة إلى اُمور اُخرى، ویسمّى عقلاً هیولانیّاً بمعنى مطلق الاستعداد (لا بمعنى الاستعداد المطلق) وجوّز العقل بالفعل من جمیع الجهات فی النفوس القدسیّة كنفوس الأنبیاء.
ثمّ ذكر أنّ التعقّل یكون على وجوه ثلاثة: أحدها أن تكون الصورة العلمیّة حاضرة عند النفس تفصیلاً وتكون ملتفتة إلیها. وثانیها أن تكون الصورة مكتسبة لكنّ النفس أعرضتْ عنها لاشتغالها بغیرها، ویمكنها استحضارها متى شاءت. وثالثها أن یكون التعقّل على نعت البساطة والإجمال من غیر تفصیل وتكثّر، كمن یُسأل عن مسائل یعلم جوابها من غیر تفصیل، وإنّما یحصل التفصیل عند الشروع فی البیان. وجعل علم المفارقات بالكثرات من هذا القبیل. كما أنّه وجّه علم الواجب تعالى بالأشیاء على هذا الوجه.(2)
وقد ناقش الشیخ الإشراقی(3) والإمام الرازی(4) فی القسم الأخیر. وقال صدر
1. راجع: المطارحات: ص332.
2. راجع: السادس من خامسة السادس من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: السابع من ثامنة إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التعلیقات: ص120 و 152 و 193؛ وراجع: التحصیل: ص812ـ814.
3. راجع: المطارحات: ص478480؛ وحكمة الإشراق: ص151.
4. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص335ـ337.
المتألّهین: «إنّ إثبات العقل البسیط لا یمكن إلاّ بالقول باتّحاد العاقل والمعقول، والقول بأصالة الوجود وتشكّكه».(1)
ولْیُعلمْ أنّ العقل البسیط الذی أثبته الشیخ إنّما هو فی العلم الحصولیّ، وعلم الواجب تعالى أجلُّ شاناً من ذلك كما سیأتی الكلام فیه، وكذلك علم المفارقات. نعم، بناءً على تعمیمه للعلم الحضوریّ یجری فی علم المجرّدات وعلم الواجب تبارك وتعالى على وجه أشرف وأعلى.
نُقل عن المعلّم الأوّل أنّ العقل على ثلاثة أضرب: العقل الهیولانیّ وهو القوّة التی للنفس للتعقّل قبل أن تعقل بالفعل، والعقل بالملكة وهو الذی قد صار یَعقل وله ملكة أن یَعقل، والعقل الفعّال وهو الذی به یصیر الهیولانی ملكة، ونسبته إلى النفس العاقلة نسبة ضوء الشمس إلى العین المبصرة.(2)
وقال المعلّم الثانی: إنّ العقل النظریّ واقع عند القدماء على أربعة أنحاء: عقل بالقوّة، وعقل بالفعل، وعقل مستفاد، وعقل فعّال. وإنّما أسقطوا العقل بالملكة من الاعتبار إذ لیس بینه وبین العقل الهیولانیّ كثیر تفاوت فی الدرجة العقلیّة.(3)
وذكر الشیخ للقوّة النظریة للنفس أربع مراتب: العقل الهیولانیّ، والعقل بالملكة وهو الذی قد حصلت له الأوّلیات مثل أنّ الكلّ أعظم من الجزء، والعقل بالفعل
1. راجع: الأسفار: ج3، ص368ـ377.
2. راجع: نفس المصدر: ص428433.
3. راجع: نفس المصدر: ص421427.
وهو الذی حصلت له الصور المكتسبة من الأوّلیات مخزونةً عنده بحیث متى شاء رجع إلیها وطالعها بالفعل، والعقل المستفاد وهو الذی تكون الصورة حاضرة عنده فیطالعها ویعقلها بالفعل ویعقل أنّه یعقلها بالفعل. ویسمّى مستفاداً لكونه مستفاداً من العقل الفعّال.(1)
وقال فی الأسفار(: «والفرق بینه (أی العقل المستفاد) وبین العقل الفعّال أنّ العقل المستفاد صورة مستفادة كانت مقترنة بالمادّة ثمّ تجرّدت عنها بعد تحوّلها فی الأطوار، والعقل الفعّال هو صورة لم تكن فی مادّة أصلاً، ولا یمكن أن تكون إلاّ مفارقة».)(2)
وقال المحقّق السبزواریّ فی تعلیقته على الأسفار: «فی حصول العقل المستفاد بالنسبةإلى كل المعقولات مادامت النفس مشغولةبتدبیر البدن خلاف، والحقّ حصوله، إذ البدن یصیر بالنسبة إلى بعض المتألّهة كقمیص یلبسه تارةً ویخلعه اُخرى».(3)
إذا كان التعقّل عبارة عن حصول صورة عقلیّة للنفس فلابدّ من وجود مبدء لتلك الصورة تفیض عنه عند حصول استعداد خاصّ للنفس بالنسبة إلیها. وذلك المبدء هو العقل الفعّال الذی هو أقرب العقول إلى عالم المادّیات.(4) ثمّ إنّ النفس قد تنسى ما
1. راجع: الخامس من اُولى السادس من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: النمط الثالث من الإشارات؛ والنجاة: ص165ـ166؛ وراجع: التحصیل: ص815 و 819.
2. راجع: الأسفار: ج3، ص461.
3. راجع: نفس المصدر: ذیل الصفحة 426.
4. راجع: الخامس من خامسة السادس من طبیعیّات الشفاء؛ والنجاة: ص166 و 192؛ وراجع: التحصیل: ص160 و 810ـ811 و 814ـ815؛ وراجع: الأسفار: ج7، ص264.
تعقّلتْه ثمّ تتذكّره بعد حین، فتجده عین ما اكتسبته سابقاً، وهذا دلیل على أنّ للصور العقلیّة خزانةً قد تتّصل النفس بها بسبب استعداد خاصّ، وقد تنقطع عنها لحصول مانع، وتلك الخزانة هی العقل الفعّال.(1) وقد استدلّوا لوجوده بوجوه اُخرى.(2)
هذا ما ذكره أتباع المشّائین ممّن یرى أنّ التعقّل هو حصول صورة عقلیّة للنفس، وأمّا من یرى أنّ العلم من مقولة الإضافة أو یرى أنّ الإدراك هو مشاهدة اُمور مجرّدة مستقلّة كسیدنا الاُستاذ(قدسسره) فلا یحتاج إلى إثبات مبدء لإفاضة الصورة العقلیّة، لعدم اعتقاده بحصول صورة للنفس.
ثمّ إنّهم عبّروا عن ارتباط النفس بالعقل الفّعال واستفاضتها منه بالاتّصال، لكن حكی عن بعض القدماء أنّ النفس تصیر عند التعقّل متّحدةً بالعقل الفعّال. وقد ناقش فیه الشیخ الرئیس(3) وشیخ الإشراق(4) والإمام الرازیّ،(5) وقد تصدّى صدر المتألّهین لتوجیه بما لا یخلو عن نظر.
ویمكن أن یقال: إنّ اتّحاد النفس بالعقل الفعّال هو من قبیل اتّحاد الوجود الرابط بالمستقلّ، وهذا الاتّحاد وإن لم یختصّ بحال التعقّل لكن لمّا كانت النفس تستكمل بالصور العقلیّة ویشتدّ بها وجودها كان اتّحادها به عند التعقّل أقوى وأوثق، فإنّ وجود المعلول كلّما كان أقوى وأوسع كان اتّحاده بالعلّة أوثق وأشمل.
یعنی أنّهم أثبتوا علاوةً على العقول الطولیّة عقولاً عرْضیّة هی المُثُل الأفلاطونیّة،
1. راجع: الأسفار: ج7، ص274؛ وراجع: التحصیل: ص815؛ وراجع: القبسات: ص385ـ387.
2. راجع: الأسفار: ج7، ص262ـ281.
3. راجع: النمط السابع من الإشارات.
4. راجع: التلویحات: ص6869؛ والمطارحات: ص475.
5. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص327.
وسیأتی الكلام فیها فی الفصل العشرین، ومرتبة هذه العقول العرضیّة هی دون مرتبة العقول الطولیّة.
یرید التأكید على بساطة التصوّر، فی مقابل التصدیق المحتاج إلى تصوّرین لا أقلَّ منهما، لكن لِیُعلم أنّ من التصوّر ما هو مركّب تركیباً ناقصاً لا یصحّ السكوت علیه كالتركیب الإضافیّ ومقدّم الشرطیّة، وكتصوّر القضیّة التامّة من غیر إذعان للنفس بالنسبة بین أجزائها. ومهما تعدّدت التصوّرات فلا تحصل منها قضیّة إلاّ بتحقّق الحكم، وبهذا یظهر أنّ قوام القضیّة إنّما هو بالحكم ولا تخلو منه أیّة قضیّة. وقد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (39).
واعلم أنّ لفظة «التصدیق» مشتركة بین نفس الحكم ومجموع القضیّة المشتملة علیه.
ومثل هذا الكلام یجری فی الحمل الأوّلی. وقد مرّ أنّ النسبة إنّما تلاحظ بین الموضوع والمحمول الموجودین فی الذهن، ولا شكّ فی تغایرهما فی ذلك الوعاء، وإن لم یتغایرا فی الخارج.
قد عرفت أنّ القضیّة أیّاً ما كانت لا تتحقّق إلاّ بالحكم، فالقول بنفی الحكم
فی القضیّة السالبة یساوق القول بنفی كونها قضیّة، وهو كما ترى. ولهذا ذكر الاُستاذ(قدسسره) فی بعض كلماته أنّ فی مثل هذه القضایا یعتبر عدم الحكم حكماً عدمیّاً.
بالنظر إلى أنّ القضیّة لا تتشكّل إلاّ بالحكم ینقدح سؤال هو أنّه هل الحكم من سنخ التصوّر ویكشف عن أمر خارجیّ أو لیس له شأن الكاشفیّة؟ فعلى الأوّل یكون كسائر التصوّرات التی لا تتلاحم بأنفسها، وعلى الثانی یكون قوام القضیّة بأمر غیر كاشف عن الخارج.
فأجاب(قدسسره) بأنّ الحكم وإن كان فعلاً للنفس إلاّ أنّ هذا الفعل یفترق عن سائر الأفعال بكونه أمراً حاكیاً عن اتّحاد الموضوع والمحمول فی الخارج.
توضیح ذلك أنّ المعلوم الخارجیّ ینحلّ فی الذهن إلى مفهومین، وقد مثّل له بأنّا إذا رأینا زیداً القائم حصلت لنا صورة إدراكیّة بسیطة، ثمّ إذا رأینا عمرواً القائم ورأینا زیداً فی غیر حال القیام استعدّ الذهن لتحلیل كلّ من هذه الإدراكات البسیطة إلى مفهومین، فإذا أردنا حكایة ما شاهدناه أخذنا المفهومین وجعلناهما موضوعاً ومحمولاً فی قضیّة وحكمنا باتّحادهما لتصلح القضیّة حاكیةً عن المعلوم البسیط. هذا فی الهلیّات المركّبة، ویجری مثله فی تحلیل المدرَك إلى مهیّة ووجود فی الهلیّة البسیطة.
فهذا الحكم باتّحاد الموضوع والمحمول فی الحملیّات وبالملازمة أو العناد بین المقدّم والتالی فی الشرطیّات وإن كان هذا الحكم فعلاً صادراً عن النفس إلاّ أنّه من سنخ المفاهیم ویحكی عن اتّحاد المفهومین قبل التحلیل، فلیس أمراً أجنبیّاً عن الخارج.
الحكم باتّحاد الموضوع والمحمول ونحوه قد لا یحتاج إلاّ إلى تصوّر الطرفین فیكون بدیهیّاً أوّلیّاً، وذلك فی القضیّة التحلیلیّة التی ینحلّ موضوعها إلى المحمول بوجه. وقد یحتاج الحكم إلى استخدام الحواسّ الظاهرة فتسمّى القضیّة محسوسة، أو إلى الحواسّ الباطنة فتسمّى وجدانیّة، وقد یعبّر عنهما بالمشاهَدات. وقد یحتاج إلى إجراء تجربة على الموادّ الخارجیّة فتسمّى تجربیّة، أو إلى إخبار عدّة یمتنع تواطؤهم على الكذب فتسمّى متواترة، أو إلى قیاس خفیّ یكون حدّه الأوسط حاضراً فی الذهن فتسمّى فطریّة، ویعبّر عنها بالقضیّة التی یكون قیاسها معها، كالحكم بزوجیّة الأربعة لأجل انقسامها إلى متساویین.
وكلّ هذه الاُمور لا یعدّونه اكتساباً، بلّ یخصّون الاكتساب بالتعمّل الفكریّ والسیر الذهنیّ من المطلوب إلى مبادیه ثمّ من المبادی إلى المطلوب. والأولى اختصاص الأوّلیّات والوجدانیّات المأخوذة عن العلوم الحضوریّة باسم البدیهیّ، وجعل سائر الأقسام، إذا كانت یقینیّة من القضایا القریبة إلى البداهة، لاحتیاج جمیعها إلى نوع من القیاس والاستنتاج، وأقربها إلى البداهة هی التی سمَّوها باسم الفطریّات.
لكن فی عدّ جمیعها یقینیّةً نظر، فأنّ المحسوسات لا تكون یقینیّة على الإطلاق لما نرى من كثرة الخطأ فی القضایا الحسّیة، فلا یحصل الیقین بالمدركات الحسّیة إلاّ بالبرهان. وأمّا الصور الحسّیة فهی معلومة بالعلم الحضوریّ ولا تعدّ من المحسوسات، لأنّ الكلام فی العلوم الحصولیّة الحاكیّة عمّا وراءها وأمّا القضایا الحاكیة عن ثبوت تلك الصور الحسّیة فهی من الوجدانیّات، وتكون بدیهیّة لا محالة لحكایتها عن المعلومات الحضوریّة.
وأمّا المتواترات فاحتیاجها إلى البرهان واضح، ویختلف إحراز امتناع التواطؤ على الكذب فی الموارد، ولیس له حدّ مضبوط.
وأمّا التجربیّات فیرد علیها ما یرد على المحسوسات من احتمال الخطأ، لابتنائها على المحسوسات. ثمّ إنّ فیها إشكالاً من جهة اُخرى، وهو أنّ تعمیم الحكم من الموارد التی اُجریت علیها التجربة إلى غیرها یحتاج إلى ضمّ مقدمة اُخرى، فما هی تلك المقدّمة؟
وقد ذكر المنطقیّون أن تلك المقدّمة هی أنّ الأمر الدائمیّ أو الأكثریّ لیس اتّفاقیاً وأنّ القسر الدائمیّ أو الأكثریّ محال.(1) ویلاحظ علیه أنّ هذه المقدّمة لیست بدیهیّة، فما یبتنی علیه أولى بعدم البداهة. مضافاً إلى أنّ اختبار أكثر الموارد غیر متیسّر فضلاً عن جمیعها، فكیف یُعلم باندراج موارد التجربة المحدودة فی مفاد هذا الكبرى النظریّة على فرض كونها یقینیّة؟
وقد یقال: إنّ تلك المقدّمة هی أنّ حكم الأمثال فی ما یجوز وما لا یجوز واحد. ویلاحظ علیه بمنع التماثل فی ما هو ملاك التأثیر، فمن أین یُعلم تماثل شیئین فی العلّیة التامّة لحصول أثر مُعیّن إذا لم یعلم تماثلهما من كلّ وجه، واحتمل اختصاص أحدهما بمصاحبة أمر خاصّ؟ مضافاً إلى أنّ ضمّ هذه المقدّمة لا یقتضی تكرّر الإدراك.
وقد لجأ الطبیعیّون إلى أصل موضوع هو أنّ فعل الطبیعة یكون دائماً على وتیرة واحدة. ویلاحظ علیه مضافاً إلى عدم بداهته أنّه لا ینفی تأثیر عامل أو شرط غیر ملتفَت إلیه فی التجربة حتّى یثبت استناد الأثر إلى طبیعة معیّنة.
وقد یتمسّك بمحاسبات الاحتمالات فی التجارب المتكرّرة ممّا یؤدّی إلى
1. راجع: التحصیل: ص96ـ97؛ والنجاة: ص61؛ وراجع: الفصل التاسع من المقالة الاُولى والفصل الخامس من المقالة الثالثة من برهان الشفاء.
تضعّف احتمال الخلاف لغایته فیلحق بالعدم.(1) ویلاحظ علیه أنّ احتمال الخلاف وإن كان فی غایة الضعف یكون مانعاً عن حصول الیقین المطلوب.
والحاصل أنّ الحكم الكلّیّ یتوقّف على معرفة كون الموضوع علّة تامّة للمحمول حتّى یندرج فی تلك الكبرى القائلة أنّ انفكاك المعلول عن علّته التامّة محال. ومعرفة العلّیة الخاصّة تتوقَّف غالباً على تغییر الاُمور الحافّة بالمعلول حتّى یُعرف ما یتوقّف علیه وجوده بالضبط. لكن یبقى بالأخرة احتمال وجود أمر غیر محسوس مؤثّر فی تحقّق المعلول ولو كان على نعت الشرط.
ولهذا فلن تصل القوانین التجریبیّة إلى حدّ الیقین المضاعف. مضافاً إلى أنّه لیس فی وسع التجربة تعیین العلّة المنحصرة. فیبقى احتمال وجود علّة اُخرى تنوب عن العلّة المحرزة على حاله.
لا ریب فی أنّه یستحیل اجتماع النقیضین وارتفاعهما وأنّه لا واسطة بین الإیجاب والسلب، وأنّ هذا حكم بدیهیّ أوّلیّ، ویمكن التعبیر عن هذا المعنى بقضیّتین حملیّتین بأن یقال: اجتماع النقیضین محال، وارتفاعهما محال. فیكون موضوع إحداهما «اجتماع النقیضین» وموضوع الاُخرى «ارتفاع النقیضین» ویكون المحمول فی كلتیهما مفهوم «محال».
ومن المعلوم أنّ مفهوم المحال أوالممتنع مأخوذ من موادّ القضایا، فكلّ واحدة من هاتین القضیّتین مأخوذة من قضیّة اُخرى بإقحام المحمول فی الموضوع وجعل المادّة محمولاً، فكان الأصل هكذا: النقیضان لا یجتمعان بالضرورة، ولایرتفعان
1. راجع: الاُسس المنطقیّة للاستقراء.
بالضرورة وهذا هو الشكل الثانی لبیان ذلك المعنى البدیهیّ، والموضوع فیهما عنوان انتزاعیّ من قبیل المعقولات الثانیة الفلسفیّة.
ویمكن التعبیر عنه بوجه ثالث بأن یقال: النقیضان لا یُحملان على موضوع واحد، ولا یُسلبان عنه. فالقضیّة الاُولى ناظرة إلى موجبتین تكون إحداهما معدولة المحمول، والقضیّة الثانیة ناظرة إلى سالبتین كذلك. وهذا الوجه یرجع إلى اعتبار التناقض فی المفردات.
لكنّ الاُستاذ(قدسسره) حاول إرجاع القضیّتین إلى قضیّة واحدة على شكل المنفصلة الحقیقیّة بأن یقال: القضیّة إمّا أن یكون إیجابها صادقاً وسلبها، كاذباً، وإمّا أن یكون إیجابها كاذباً وسلبها صادقاً. فموضوع هذه المنفصلة الحقیقیّة هو ذات القضیّة بصرف النظر عن الإیجاب والسلب. فالموضوع من المعقولات الثانیة المنطقیّة، ویكون المحمول مأخوذاً من قضیّة اُخرى حاكیة عن صدق قضیّة ثالثة وكذب قضیّة رابعة. وعلى هذا فاستحالة اجتماع النقیضین وارتفاعهما من الأحكام المنطقیّة ویكون موضوعها قضیّتین متناقضتین، ویؤول الأمر إلى اعتبار التناقض بین الصدق والكذب بالأصالة، وقد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (222). والأبسط الأقرب هو الوجه الثانی، وهو الأنسب بالمباحث الفلسفیّة.
وأمّا أنّ هذا الحكم بدیهیّ أوّلیّ فیمكن بیانه بناءاً على الوجه المذكور بهذا الشكل:
إنّ مفهوم «عدم الاجتماع» الذی هو محمول القضیّة مأخوذ فی مفهوم الموضوع أی النقیضین ومندرج فی تعریفه، فالقضیّة تحلیلیّة ینحلّ موضوعها إلى المحمول، ولهذا تكون من البدیهیّات الأوّلیّة.
یعنی أنّه كلَّما حصلنا على قضیّة معلومة سواء كانت بدیهیّة أو نظریّة أجرینا علیها
قیاساً استثنائیّاً بهذا الشكل: إمّا أن تكون هذه القضیّة صادقةً ونقیضها كاذباً وإمّا أن تكون كاذبةً ونقیضها صادقاً. لكنّها صادقةٌ فیكون نقیضها كاذباً. فیحصل لنا الیقین المضاعف أی العلم بصدق الأصل وكذب النقیض. ولو لم تكن تلك المنفصلة معلومة لنا لكان من المحتمل صدق النقیضین معاً، ولم نكن نستطیع نفی احتمال الخلاف، ولهذا سمّیت باُمّ القضایا واُولى الأوائل.(1)
والحاصل أنّ كلَّ قضیّة تحتاج فی نفی احتمال النقیض إلى قضیّة استحالة الجمع بین النقیضین. وعلیه یحمل كلام صدر المتألّهین حیث شبّه نسبة هذه القضیّة إلى سائر القضایا بنسبة الواجب إلى الممكنات،(2) لا ما یتراءى منه أنّ نفس هذه القضیّة تكفی لإثبات سائر القضایا وتحصیل العلم بجمیع المعلومات.
ثمّ إنّ من الواضح أنّ حصول الاعتقاد الجزمیّ بأیّة قضیّة لا یتوقّف على الالتفات إلى هذه القضیّة، بل غایة ما یمكن أن یقال فی توقّف سائر القضایا على هذه القضیّة أنّ الالتفات إلى استحالة نقیضها یتوقّف على الالتفات إلى هذه القضیّة، بل یمكن منع هذا التوقّف أیضاً، خاصّةً بالنظر إلى اعتبارها من القضایا المنطقیّة، فلیتأمّل.
یتحدّث تأریخ الفلسفة عن أشخاص كانوا یعیشون فی الیونان فی عصر سقراط، وكانوا یسمَّون بـ «سوفیست» بمعنى الحكیم، وقد اُخذ عنه السوفسطیّ والسفسطة فی اللغة العربیّة. وكانت لهم آراء شاذّة حول مسائل المعرفة من إنكار المعقولات
1. راجع: الفصل الثامن من المقالة الاُولى من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین على الشفاء: ص38؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص348؛ وراجع: الأسفار: ج1، ص90؛ وج3: ص443.
2. راجع: نفس المصدر: ج3، ص444.
والقیم الأخلاقیّة، وأغربها ما حكی عن واحد منهم باسم «جورجیاس» أنّه قال فی كتاب له أن لا وجود لأیّ شیء، ولو كان هناك موجود لم یمكن معرفته، ولو كان یمكن معرفته لما أمكن تعریفه للآخرین!
وبالرغم من عدم صمود هذه الآراء تجاه الهجمات العنیفة التی شنّتها علیها الفلاسفة كسقراط وأفلاطون وأرسطو، فقد أورثتْ نزعاتٍ تبلورتْ فی آراء الشكّاكین واللاأدریّین، حتّى انتهت إلى المثالیّة والنسبیّة وغیرهما من مدارس الشكّ فی الفلسفة الغربیّة إلى یومنا هذا.
ونحن لا نملك معلوماتٍ واسعةً عن عقائد السوفسطیّین والد وافع التی دفعتهم إلى هذا الاتّجاه المتطرّف الذی كان یحمل أشدَّ الأخطار على الفكر والأخلاق، ولیس لدینا ما یسمح بإصدار حكم قاطع بشأنهم، ولأجل ذلك نتلقّى ما حكی عنهم كشبهات تتطلّب أجوبة حاسمة.
وقد تعرّض الشیخ لبعض هذه الشبهات ودفعها، وللعلل التی توجب تحیُّر الضعفاء وطریق علاجها، وتبعه على ذلك من تأخّر عنه.(1)
إذا كان السوفسطیّ منكراً لمطلق العلم كان مفتاح تبكیته أن یُلزَم بأنّ إنكاره هذا لا یجتمع مع عدم الإنكار، فیُقرّ بعلمه باستحالة اجتماع النقیضین، ثمّ یؤخذ منه الاعتراف بوجود نفسه وشكّه وهكذا. وأمّا إذا أبدى الشكَّ فی هذه الاُمور أیضاً لم ینجح محاجّته، ومثل هذا الشخص إمّا أن یكون معانداً فلیؤدّب، وإمّا أن یكون
1. راجع: الفصل الثامن من المقالة الأولى من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: تعلیقة صدر المتألّهین علی إلهیّات الشفاء: ص3941؛ والتحصیل: ص292؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص349ـ351؛ والمطارحات: ص212؛ والأسفار: ج1، ص90؛ وج3: ص445.
مصاباً فی عقله فلیسلّم إلى الطبیب. والوجه فی ذكر شبهات السوفسطیّین فی هذا الموضع أنّ مفتاح حلّ تلك الشبهات هو إلزامهم بقبول الأوّلیّات ولا سیّما قضیّة استحالة اجتماع النقیضین.
إذا كان المدّعى نفی أی واقعیّة وراء النفس وإدراكاتها أو الشكَّ فی ذلك اتّجه هذا الدفع. فإنّه لا معنى لوقوع الخطأ فی الإدراك إلاّ عدم مطابقته لما یحكی عنه، فقبول الخطأ فی الإدراك ینطوی على قبول الواقع الخارجیّ. ومن الطریف أنّ بعض المثالیّین استدلّوا على نفی الواقع المادّیّ بوجود الخطأ فی الإدراكات الحسّیة، مع أنّه نعم الدلیل علیه نفسه. أمّا إذا كان المدّعى نفی العلم بحقائق تلك الواقعیّات بعد الاعتراف بوجودها فی الجملة فلا یجدی هذا البیان. ومثل هذا الشخص المفروض یمكنه أن یفرّق بین إدراك النفس وشؤونها وإدراك ماوراء النفس بأنّ الأوّل علم حضوریّ غیر قابل للخطأ بخلاف الثانی.
المراد هدم المبنى القائل إنّ كلّ علم ینتهی إلى الحسّ، بأنـّه لو كان كذلك لم یحصل لنا علم بعدم مطابقة الإدراكات الحسّیة للمدرَكات المحسوسة، فلیس هناك حاسّة تفیدنا هذا العلم، ولو كان لنا مثل هذه الحاسّة لكانت إدراكاتها غیر مطابقة للواقع على الفرض فكان نفس هذا الاعتقاد أیضاً غیر مطابق للواقع. فیُعلم أنّ لنا مبدءاً آخر للإدراك وراء الحواسّ، وهو العقل، وخطأ الحواسّ لا یمسّه بسوء. وقد مرّ الكلام فی أنّ قسماً من العلوم ینتهی إلى الحسّ لا جمیعها، فراجع الرقم (360).
إن كان مراد القائل بالأشباح أنّ جمیع الصور الذهنیّة حتّى المعقولات المأخوذة عن المعلومات الحضوریّة لیست إلاّ أشباحاً غیر مطابقة لمحكیّاتها أدّى ذلك إلى السفسطة وإنكار مطلق العلم الحصولیّ، أمّا إذا كان مراده خصوص الصور الحسیّة فدفعه یحتاج إلى بیان آخر.
یعنى أنّه إذا كان نفس هذا الكلام «العلوم نسبیّة» إنّما یصدق نسبیّاً كان معناه أنّه لا یصدق فی بعض الموارد، فهناك علم غیر نسبیّ، فیكون مطلقاً. وإمّا إذا كان هذا الكلام یصدق مطلقاً فهو نفسه علم مطلق.
سیأتی فی الفصل اللاحق أنّ من المفاهیم ما یعتبر لأجل حاجة المجتمع وتأمین مصلحته، فاعتباره تابع لتلك الحاجة والمصلحة، فیصحّ عدّ مثل هذه المفاهیم والقضایا المتشكّلة منها نسبیّاً بهذا المعنى.
مقسم هذا التقسیم فی الأصل هو التصوّر، ووصف التصدیقات بهما بالنظر إلى التصوّرات التی تتعلّق بها. والحقیقیّ ههنا اصطلاح خاصّ منسوب إلى الحقیقة بمعنى المهیّة، ویساوی المفهوم الماهویّ، وینحصر فی المقولات وأنواعها، بناءا
على كون نفس المقولات من المفاهیم الماهویّة كما هو المشهور. وأمّا نفس مفهوم الماهیّة وكذا مفهوم العرَض ـ على القول المشهور ـ فهما من المفاهیم الاعتباریّة. وغیر خفیّ أنّ هذا الاصطلاح أنسب بالقول بأصالة المهیّة.
ثمّ إنّ لفظة «الاعتباریّ» تطلق على معانٍ مختلفة قد أشرنا الیها تحت الرقم (10) وستأتی الإشارة إلى بعضها فی المتن. والمراد به ههنا مطلق المعقولات الثانیة، سواء كانت فلسفیّة أو منطقیّة. أمّا الفلسفیّة فتنقسم إلى قسمین: قسم منها یحكی عن الوجود وشؤونه، فمصداقه الوجود العینیّ، وقسم منها یحكی عن عدم الوجود، فیفرض له مصداق. وأمّا المفاهیم المنطقیّة فلها مصادیق ذهنیّة فقط.(1) واعلم أنّ شیخ الإشراق بذل جُهداً بالغاً فی تبیین الاعتبارات العقلیّة وتمییزها عن المفاهیم الماهویّة، وتقسیمها إلى الذهنیّة والعینیّة وإن كان فی كلماته مواقع للنظر.(2)
لم نجد فی كلمات القوم إشارةً إلى كیفیّة انتزاع مفهوم الوجود وتعرُّف الذهن علیه، وإنّما اكتفَوا بأنّ مفهومه بدیهیّ التصوّر بل هو أوّل التصوّرات البدیهیّة وأعرفها. وإنّما سیّدنا الاُستاذ(قدسسره) هو أوّل من تعرّض له من فلاسفتنا فی من نعلم.
وحاصل بیانه أنّ النفس تنشیء وجوداً رابطاً بین جزئی القضیّة ـ كما مرّ ذكره فی الفصل الثامن من هذه المرحلة ـ وهذا الوجود الرابط من حیث إنّه فعل صادر من النفس وجود خارجیّ تَعلم به علماً حضوریّاً، ومن حیث إنّه یحكی عن اتّحاد الموضوع والمحمول فی الخارج یُعدّ مفهوماً، فهذا الوجود الذی یكون وجوداً بالحمل
1. راجع: نفس المصدر: ج1، ص332ـ339.
2. راجع: التلویحات: ص21ـ26؛ وراجع: المقاومات: ص125ـ128؛ والمطارحات: ص340ـ371؛ وحكمة الإشراق: ص64ـ73.
الأوّلیّ وبالحمل الشائع كلیهما هو مبدء تعرّف الذهن على مفهوم الوجود. لكنّه معنى حرفیّ غیر قابل للحكایة عن الوجودات المستقلّة، فتعمد النفس وتنظر إلیه نظراً استقلالیّاً، كما تنظر إلى الحروف ذلك النظرَ فتحكی عنها كمعنى اسمیّ، كما یقال: مِنْ للابتداء. وهكذا تنتزع مفهوم الوجود المضاف إلى المحمول، كوجود القیام، ثمّ تجرّده عن تلك الإضافة أیضاً فتنال مفهوم الوجود المستقلّ كمعنى اسمیّ عامّ.
ویجری نظیر هذا البیان فی انتزاع مفهوم العدم، فإنّ فی القضایا السالبة أیضاً یُعتبر حكم عدمیٌّ، وإن لم یكن حكماً حقیقیّاً على رأی الاُستاذ(قدسسره) فتَعتبر ذلك عدماً رابطاً، ثمّ تنتزع عنه مفهومَ عدم المحمول، ثمّ تُجرّده عن الإضافة فیحصل مفهوم العدم على نعت الإطلاق.
لكنّ الالتزام بمثل هذا البیان فی سائر المفاهیم الفلسفیّة مشكل جدّاً، فلیس هناك مثلاً وجوداتٌ حاضرةٌ عند النفس تكون علَّةً ومعلولاً بالحمل الأوّلیّ والحمل الشائع معاً، وإذا كان یكفی فی أمثالها أن تكون وجودات حاضرة عند النفس ویكون تأثیرها أو تأثّرها معلوماً لها علماً حضوریّاً فِلمَ لا نقول بكفایة حضور وجود عینیّ عندها لانتزاع مفهوم الوجود منه؟ نعم، یبقى السؤال عن سبب عدم انتزاع مفهوم الوجود لأوّل وهلة تشاهد وجوداً مّا، ولأوّل مرّة تلتفت إلى وجودها. والجواب أنّ الذهن إنّما یستعدّ لانتزاع هذه المفاهیم بعد مقایسة مصادیقها بمقابلاتها، كمقایسة وجود شیء بزواله، ومقایسة العلّة إلى معلولها، وهكذا. وهذا هو السرّ فی كون هذه المفاهیم مزدوجة.
إنّ فی ما یتعلّق بعمل الإنسان مفاهیمَ وقضایا مختلفة تتطلب تبییناً فلسفیاً من جهات متعدّدة: فهناك عبارات إنشائیّة لیست من قبیل القضایا ولا تحكی بمدالیلها المطابقیّة
عن واقعیّات وراءها، فلا تحتمل الصدق والكذب، وإنّما تدلّ بالالتزام على مطلوبیّة متعلّقاتها للمنشیءین، كالأوامر والنواهی الشرعیّة والتكالیف القانونیّة والعرفیّة. وهناك قضایا حملیّة أو شرطیّة یمكن إرجاعها إلىالحملیّات، وربما تخلف العباراتِ الإنشائیّة، كالحكم بحسن فعل أو قبحه ووجوبه أو حرمته أو جوازه، ومثل القضایا التی تثبت أحكاماً وضعیّة كالصحّة والفساد والمالكّیة والزوجیّة ونحوها وتنقسم هذه القضایا إلى فقهیّة وأخلاقیّة وقانونیّة (حقوقیّة). وتنقسم الأخیرة بدورها إلى مدنیّة واقتصادیّة وجزائیّة وسیاسیّة وغیرها. وجمیع هذه العبارات الإنشائیّة والخبریّة تشتمل على أنواع من المفاهیم الاعتباریّة، مثل ما یقع متعلّقاً للأحكام القیمیّة كالملك والحقّ والزوج ونحوها، وما یقع متعلّقاً للإنشاء أو ینتزع من الأمر والنهی كالوجوب والحرمة.
فالبحث عن هذه المفاهیم والقضایا یدور حول اُمور من أهمّها:
الف) كیف تحصل المفاهیم المأخوذة فی هذه العبارات وكیف یتعرّف الذهن علیها، وتحت أیّ نوع من أنواع المفاهیم تندرج؟
ب) هل العبارات القیمیّة والمتعلّقة بالأعمال الاختیاریّة كلّها إنشائیّة، وحتّى ما یكون بحسب ظاهر اللفظ قضیّة خبریّة یرجع إلى الإنشاء، أو یكون الأمر بالعكس، أو الموارد مختلفة: فالأصل فی بعضها هو الإنشاء وفی بعضها الآخر هو الإخبار؟
ج) هل القضایا القیمیة كلّها تابعة لأمیال ورغبات للأفراد أو المجتمعات، أو لجمیعها رصائد واقعیّة تستند تلك القضایا إلیها، أو هی مختلفة فی ذلك؟ وإذا كانت هناك ملاكات حقیقیّة فما هی تلك الملاكات؟
د) ما هو الفرق بین القضایا الشرعیّة والأخلاقیة والقانونیة؟ وهل یرجع ذلك الفرق إلى ملاكاتها الواقعیّة إذا كان هناك مثل تلك الملاكات؟
ومن الواضح أنّ المجال لا یَسَعُ إشباعَ الكلام حول هذه المَحاوِر، فسوف نكتفی ببیان موجز فی كلّ باب.
أمّا المحور الأوّل فقد تصدّى الاُستاذ(1) لتبیینه بأنّ المفاهیم المختصّة بهذا الباب استعیرت من سائر المفاهیم ـ أعمَّ من المعقولات الاُولى والثانیة ـ وتُشكّل نوعاً خاصّاً من الاعتباریّات.
وجدیر بالذكر أنّه ذكر فی مبحث الاعتباریّات من «اُصول فلسفه» أنّ الوجوب المستعمل فی هذا الباب مستعار من الوجوب بالغیر الذی هو من المعقولات الفلسفیّة، لكنّ الأولى جعله مستعاراً من الوجوب بالقیاس الذی تتّصف به العلّة أیضاً بالقیاس إلى معلولها، لأنّ الفعل سبب لحصول الغایة ویعدّ واجباً لأجل التوصّل به إلى تحصیل الغایة المطلوبة بالأصالة.
ولْیُعلمْ أنّ إطلاق الاستعارة ههنا لیس یعنی الاستعارة فی علم البیان بعینها، فإنّ هذه الإطلاقات حقیقیّة بحسب عرف المحاورة، وإنّما تشیر إلى بدء انتقال الذهن من سائر المفاهیم إلى هذه الاعتباریّات الخاصّة.
وأمّا المحور الثانی فزعم بعض فلاسفة اُروبا المتأخّرین أنّ العبارات القیمیّة كلّها إنشائیّة لا تحتمل الصدق والكذب، ولهذا یصبح البحث عن صحّتها وسقمها لغواً، وإنّما هی رغبات الناس أو الحكّام تتبلور فی تلك الإنشاءات، ولیس تصحّ إدانة تشریع كما لا یصحّ إدانة أحد فی انتخاب لون اللباس. ومن هنا نشأت نظریّة النسبیّة والوضعیّة فی الأخلاق والحقوق، التی تؤدّی إلى هلاك القیم الأخلاقیّة والدینیّة، وانهیار أسس الفضائل والكمالات الإنسانیّة. وقد تبنّى هذا الأصلَ بعض المسلمین وحاول إثبات مبدء ذاتیّ للقیم وهو الله تعالى كما أنّه مبدء ذاتیّ للوجود، ممّا یؤدّی فی أحسن وجوهه إلى النزعة الأشعریّة فی الحسن والقبح.
وواضح أنّ المجال یضیق بنا عن نقد هذه الآراء السخیفة ونقض المغزولات الواهیة، ولهذا نركّز على أهمّ النكات فنقول:
القیمة ـ بمعناها الخاصّ ـ عبارة عن مطلوبیّة الفعل الاختیاریّ بتبع مطلوبیّة
غایته، فإن كانت الغایة المطلوبة بالأصالة كمالاً حقیقیّاً للإنسان مطلوباً له بفطرته كان الفعل المؤدّی إلیها ذا قیمة مطلقة، وإذا كانت الغایة كمالاً مقدّمیّاً صار الفعل ذا قیمة محدودة بقدر ما یؤثّر فی التوصّل إلى الغایة القصوى. والوجوب المستعمل فی هذا الباب أو ما یؤدّی معناه كهیئة الأمر مأخوذ من الوجوب بالقیاس كما أشرنا إلیه، وهو الذی یشكّل مادّة القضیّة. وبهذا تتضّح العلاقة بین المفاهیم الواقعیّة والمفاهیم القیمیّة، وكیفیّة استنتاج القضایا القیمیّة من القضایا الواقعیّة، فتفطّن.
فلیست القیمة ناشیءة عن الأمر والإنشاء، فإنّ الإنشاء قد یستعمل فی اُمور غیر قیمیّة كأمر المعلّم بتركیب عنصرین للحصول على ظاهرة كیمیاویّة خاصّة، أو بالقیام بعملیّة ریاضیّة للحصول على نتیجتها. وقد یستعمل فی روابط اجتماعیة ساذجة كأمر الخادم بإحضار الطعام، ویكون منشأه غالباً رغبة الآمر فی موضوع الأمر، ولا یثبت بذلك قیمة للفعل فی حدّ نفسه، وإذا كانت هناك قیمة فإنّما هى لإطاعة ذلك الأمر، ویعتبر الأمر موضوعاً لها فقط. وقد یستعمل فی الأفعال القیمیّة المطلوبة لجمیع العقلاء أو لطائفة منهم كالأوامر الشرعیّة والتشریعیّة، ویلعب دور تعیین القیمة وتثبیتها، كما أنّه قد یعبّر عنها بقضایا خبریّة كالإخبار عن حسن الفعل وقبحه. وتفصیل الكلام موكول إلى فلسفات الأخلاق والتشریع والسیاسة.
وأمّا المحور الثالث فمقتضى النزعة المشار إلیها أنّ القیمة تابعة لرغبات الناس وأمیالهم، ولیس وراءها حقائق ثابتة تستند إلیها، كما أنّه لیس هناك ما تُدان به رغبة دون اُخرى. لكنّ الحقّ أنّ القیم تابعة لعلاقات واقعیّة بین الأفعال الاختیاریّة وغایاتها المترتّبة علیها. والفرق بین القضایا القیمیّة وغیرها أنّها تكشف عن علاقة الأسباب الاختیاریّة بغایتها المطلوبة لذاتها، بخلاف القضایا الواقعیّة، حیث لا یشترط فیها أن تكون المعلولات مطلوبة بالفطرة أو مؤدّیة إلى الكمال الحقیقیّ والسعادة الأبدیّة، ولا أن تكون أسبابها أفعالاً اختیاریّة.
نعم، یمكن أن یُعتبر بعض الأفعال ذا قیمة عند بعض الطوائف دون بعض، فتختلف وتتدافع القیم الاجتماعیّة، لكنّ السرّ فی هذا التعارض هو اختلاف الناس فی معرفة الهدف الأعلى وفی معرفة الطرق المؤدّیة إلیه. ولا محالة یكون بعض الآراء صائبة وبعضها خاطئة، ولهذا تصحّ إدانة الآراء الخاطئة وتوضیح بطلانها ببیان ما یترتّب علیها من المفاسد ومنع الفرد والمجتمع عن نیل ما یبتغیه من المصالح. وبهذا یظهر أنّ للقیم الحقیقیّة رصائدَ واقعیةً، وتصحّ البرهنة لها باعتبار تلك الرصائد، كما یصحّ الاستدلال على القیم الزائفة ببیان بطلان ما اعتبرته من الأهداف وما اتّخذتْه من الوسائل والسبل لتحقیقها.
ولمّا كان تقییم الأفعال رهنَ معرفةِ علاقاتها الغامضة والمعقّدة بجمیع شؤون الإنسان من الفردیّة والاجتماعیّة، الجسدیّة والروحیّة، والدنیویّة والاُخرویة وترجیحِ بعض المصالح على بعض عند التزاحم ممّا لا یتیسّر للأشخاص العادیّین كانت إقامة البرهان فی جمیع الموارد فی حدّ المحال. وهذا هو سرّ حاجة الإنسان إلى منبع آخر للمعرفة وهو الوحی والنبوّة.
وللنسبیّة فی الأخلاق والتشریعات معنى آخر یرجع إلى أخذ قیود وشروط مكانیّة وزمانیّة وغیرها فی موضوعات القضایا، وذلك لا یختصّ بالقضایا القیمیّة، فإنّ للقضایا الواقعیّة أیضاً قیوداً وشرائط تختصّ بها، وهذه القیود لا تنافی إطلاق القضیّة فی دائرة مدلولها، كما أنّها لا تعنی كونها جزافیّة غیر مستندة إلى ملاكات حقیقیّة.
وأمّا المحور الرابع فالفرق بین القضایا الأخلاقیّة والقوانین الوضعیّة أنّ الغایة المنشودة للقیم الأخلاقیّة هی وصول الإنسان إلى كماله الحقیقیّ وسعادته الأبدیّة، بینما تكون غایة القوانین الوضعیّة تأمین مصالح المجتمع فی هذه الدنیا بما أنّها قوانین وضعیّة اجتماعیّة، وتتّسم بضمان الإجراء من ناحیة الحكومة. نعم، یمكن
أن تكون قضیّةٌ واحدة بعینها أخلاقیّةً من جهة ووضعیّةً من جهة اُخرى، فیكون لكلِّ من الجهتین حكمها ولوازمها. وأمّا القضایا الشرعیّة فتختصّ بكون المشرّع هو الله تعالى بالمباشرة أو بوساطة من نصبه لذلك من المعصومین، ولهذا فلا سبیل للخطأ إلیها بوجه. وتعمّ الأحكام الأخلاقیّة والقانونیّة وغیرها ممّا یحتاج إلیه الإنسان فی حیاته.
والأنظمة المختلفة تجتمع فی النظام الكلّیّ الإسلامیّ كحلقات مرتبطة ببعضها، ویُسیطر على الجمیع النظامُ الأخلاقیّ الهادف إلى الغایة القصوى. فغایات سائر الأنظمة تصیر كغایات متوسّطة للنظام الجامع، وتتبلور غایته النهائیّة فی غایة النظام الأخلاقیّ، وتتحدّد سائر الغایات والقیم التابعة لها على ضوء غایة النظام الأخلاقیّ.
القضایا الاعتباریّة بما لها من المفاهیم المستعارة من الحقائق لا تتوفّر فیها شرائط البرهان، ولا تستنتج من مقدّمات كذلك، لكنّ القضایا المستندة إلى الحقائق تمكن البرهنة علیها بالنظر إلى تلك الحقائق، كما أشرنا إلیه آنفاً.
ذكر المنطقیّون أنّ الجدل یتشكّل من المقدّمات المشهورة والمقبولة، لكن لا یعنی ذلك أنّ المقدّمات المشهورة غیر یقینیّة وغیر صالحة لتشكیل البرهان مطلقاً، بل ربما تكون نظریّة تحتاج إلى برهان، وقد یكون صدقها مشترطاً بشرط خفیّ غیر مذكور فی القضیّة. فمثل هذه القضایا بصرف النظر عن إقامة البرهان علیها وبشكلها المطلق لا تصلح للبرهان.
قال الشیخ فی برهان الشفاء: «بل المشهورات هذه وأمثالها منها ما هو صادق ولكن یحتاج فی أن یصیر یقیناً إلى حجّة، ومنها ما هو صادق بشرط دقیق لا یفطن له الجمهور».(1)
فالقضیّة المشهورة إذا كانت مستندة إلى برهان كانت یقینیّة، والتی لها شرط دقیق إذا أخذ فیها ذلك الشرط كانت یقینیّة وجاز تشكیل البرهان منها وعلیها. وأمّا النصوص المتلّقاة من الوحی ونحوه فهی لا تقصر عن المتواترات فی إفادة الیقین، فتبصّر.
قد مرّ الرقم (353 و 356) أنّ تجرّد المعلوم فی العلم الحضوریّ بالغیر غیر لازم، وأنّ غیبوبة المادّی عن ذاته لا یستلزم غیبوبته عن فاعله المفیض، كیف والمعلول مادّیاً كان أو مجرّداً لیس إلاّ عین الربط بالعلّة فهی مهیمنة علیه ومحیطة به بتمام معنى الكلمة، ولا یتمّ ذلك إلاّ بحضوره عندها.
هذا بیان لإثبات علم أحد المعلولین المجرّدین بالآخر علماً حضوریّاً، وتقریره أنّه قد تقدّم أنّ حقیقة العلم الحصولیّ لیست إلاّ مشاهدة الصورة العقلیّة أو المثالیّة عن
1. راجع: الفصل الرابع من المقالة الأولی من برهان الشفاء؛ وراجع: الخامس من أولی السادس من طبیعیات الشفاء.
بُعد، فالنفس والصورة المجرّدة التی تشاهدها وتعلم بها علماً حضوریّاً معلولان لعلّة ثالثة، فیثبت علم أحدهما بالآخر علماً حضوریّاً.
وقد مرّت المناقشة فی رجوع العلم الحصولیّ إلى الحضوریّ بهذا المعنى، فراجع الرقم (355)، كما أنّه قد أشرنا تحت الرقم (358) إلى ما فی إثبات العلم الحضوریّ لمعلولی علّة ثالثة ببعضهما بالبیان الفلسفیّ من الصعوبة.
هناك مسألتان: إحداهما أنّ كلّ مجرّد یكون وجوده لنفسه فهو عالم بذاته، ومعلوم لذاته، وهو نفس العلم بذاته. وإنّما اعتبرنا قید الوجود لنفسه فی عنوان المسألة لما سیأتی فی آخر الفصل أنّ هذا الحكم یختصّ بما یكون كذلك. وقد أسلفنا ذلك تحت الرقم (353 و 356).
وثانیتهما أنّ كلّ مجرّد فهو علم ومعلوم لكلّ ما یصلح للعالمیّة به، وإذا كان وجوده لنفسه وكان تامّ التجرّد أیضاً كان عالماً بكلّ ما یصلح للمعلومیّة. وذلك الغیر الذی یصلح للعالمیّة والمعلومیّة حضوراً إمّا أن یكون علّته، أو معلولَه المجرّد ـ عند من یشترط التجرّد فی المعلومیّة مطلقاً ـ أو شریكَه فی المعلولیّة لثالث إذا ثبت العلم الحضوریّ لمعلولیْ علّة ثالثة ببعضهما.
أمّا المسألة الاُولى فقد تصدّى(قدسسره) لإثباتها بادئاً بإثبات معلومیّة المجرّد لذاته. وتقریره أنّ كلّ مجرّد فهو بما أنّه مجرّد یكون أمراً بالفعل، فهو واجد لشرط المعلومیّة، فیمكن أن یكون معلوماً، والإمكان فی المجرّدات یساوق الفعلیّة، فهو معلوم بالفعل. ولمّا كان المعلوم والعلم متّحدین
مصداقاً ومختلفین اعتباراً ثبت كونه عین العلم. وأمّا العالمیّة فشرطها الكافی هو التجرّد وكون الوجود لنفسه، فالجوهر المجرّد یكون عالماً بنفسه، فثبت المطلوب.(1)
لكنّ الأولى إثبات العالمیّة أوّلاً ثمّ ترتیب المعلومیّة علیها، لأنّ فعلیّة عنوان المعلومیّة فرع على فعلیّة وجود العالم، كما سبقت الإشارة إلیه تحت الرقم (357).
وأمّا المسألة الثانیة فقد اكتفى بدعوى جریان البرهان المذكور فی المسألة الاُولى فیها أیضاً، ثمّ تعرّض لإشكال كتبه إلى الشیخ الرئیس بعض معاصریه،(2) وهو أنّ لازم ذلك كون النفس عالمة بجمیع المعلومات، والوجدان یدفعه. وأجاب عنه بأنّ شرط العالمیّة بجمیع المعلومات هو التجرّد التامّ، وهو غیر موجود فی أنفسنا مادام بعض كمالاتها لم یخرج إلى الفعلیّة بعدُ. ولهذا اعتبرنا فی عنوان المسألة أن یكون العالم تامَّ التجرّد.
لكن تُمكن المناقشة فی جریان ذلك البرهان فی علم أحد المعلولین بالآخر حضوراً بمنع إمكان العالمیّة والمعلومیّة لكلّ منهما بالنسبة إلى الآخر، لعدم كون أحدهما رابطاً قائم الذات بالآخر كما فی العلّة والمعلول، وقصورِ ما یُثبت نحواً آخر من الحضور لهما، فلیتأمّل.
تثار حول هذا العنوان تساؤلات كما یلی:
1. راجع: الأسفار: ج3، ص447461؛ وراجع: النمط الثالث من الإشارات.
2. نفس المصدر: ص458.
الف) هل یشمل العلم المذكور فی العنوان كلَّ علم، سواء كان حضوریّاً أو حصولیّاً، وسواء كان الحصولیّ بدیهیّاً أو غیر بدیهیّ إلى غیر ذلك من الأقسام أو یختصّ بقسم خاصّ منها؟ وعلى الأخیر فما هو ذلك القسم؟
ب) هل یشمل السبب أنواع العلّة من التامّة والناقصة، والمفیضة والمعدّة، والمقتضی والشرط، وسبب الوجود وسبب القوام، أو یختصّ بقسم خاصّ من الأسباب، وعلیه فما هو ذلك القسم؟
ج) كیف یجمع بین هذه القضیّة وما نرى من حصول العلم بذوات الأسباب من غیر طریق العلم بأسبابها، كعلمنا الحضوریّ بأنفسنا وكالعلم بالمشاهدات والمجرّبات والمتواترات وغیرها؟ وإذا كان طریق العلم بالمسبّبات منحصراً فی العلم بأسبابها لزم عدم حصول العلم بشیء من غیر طریق العلم بالواجب تبارك وتعالى لأنّه سبب كلّ ذی سبب، والوجدان یدفعه.
وبصدد الإجابة على هذه الأسئلة نرى من الواجب بیان الغرض من عقد هذه المسألة والنظر فی ما استدلّ به لإثباتها، فنقول:
قال الشیخ فی منطق الشفاء ما حاصله: إذا كان ثبوت المحمول للموضوع معلولاً لعلّة مّا كانت النسبة الضروریّة بینهما لأجل وجود تلك العلّة، وإلاّ كانت النسبة بینهما بالإمكان لا بالوجوب. وحیث إنّ مقدّمات البرهان یجب أن تكون بحیث تنتج علماً ضروریّاً بالنتیجة كان من الواجب أن یكون الحدّ الأوسط علّة لثبوت المحمول للموضوع إذا كان لذلك الثبوت علّة، ومثل هذا البرهان یسمیّ لمیّاً. وأمّا إذا لم یكن ثبوت المحمول للموضوع معلولاً لعلّة توجبه بل كان ذاتیّاً له (بالمعنى المصطلح فی كتاب البرهان).(1)
1. إنّما أضفنا هذا التوضیح لأنّ الذاتیّ المصطلح فی كتاب إیساغوجى لا یكون إلاّ بیّناً، فتفطّن.
فلا یخلو إمّا یكون ذلك بیّناً بنفسه فلا یحتاج إلى برهان، وإمّا أن یكون غیر بیّن، فالعلم به یحصل إمّا بالاستقراء أو من طریق الملازمة بینه وبین لازمٍ آخرَ بیّنٍ، وهو برهان الإنَّ المطلق. وأمّا الاستدلال بالمسبّب فلا یفید علماً بالسبب المعیّن، لاحتمال تحقّق المسبّب من غیر هذا السبب، إلاّ إذا علم بانحصار السبب التامّ.(1)
وبالتأمّل فی كلامه هذا یتّضح أوّلا أنّ الغرض من عقد هذه المسألة هو بیان الفرق بین البرهان اللمّی المفید للعلم الضروریّ والدلیل الذی لا یفید ذلك العلم، وبیان المورد الذی لا یحصل العلم الضروریّ فیه إلاّ من طریق برهان اللمّ.
وثانیا أن المراد بالعلم ههنا هوالعلم المكتسب بالبرهان دون العلم الحضوری والعلم الحصولیّ البدیهیّ والعلم المتغیّر الجزئیّ. ومنه یظهر الجواب عن السؤال الأوّل.
وثالثا أنّ المراد بالسبب هو السبب التامّ لثبوت المحمول للموضوع لا مطلق الأسباب. وهذا هو الجواب عن السؤال الثانی.
وبعد اتّضاح هذه النكات یظهر الجواب عن السؤال الثالث أیضاً، وهو أنّ هذه العلوم التی لا تحصل من طریق العلم بالأسباب هی علوم غیر مكتسبة بالبرهان، فلا تدخل فی موضوع المسألة.
ثمّ إنّ الإمام الرازیّ عقد فصلاً خاصّاً لبیان أنّ العلم بالعلّة یوجب العلم بالمعلول دونالعكس، وفصلاً آخر لبیان أنّ العلم بذوات الأسباب لا یحصل إلاّ بالعلم بأسبابها،(2) وتبعه على ذلك صدر المتألّهین فی الأسفار، لكنّه عمّم البحث إلى جمیع العلوم حتّى
1. راجع: الفصل الثامن والفصل التاسع من المقالة الاُولى من كتاب البرهان.
2. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص357ـ363.
العلم الحضوریّ بالنفس، وذكر لتوجیهه بیاناً غامضاً.(1) ومن الواضح أنّه خروج عن مورد المسألة التی ذكرها الشیخ،(2) وفى كلامهما مواقع للنظر لا نطیل بذكرها.
إشارة إلى قاعدة امتناع صدور الواحد عن الكثیر، وقد عرفت منع شمولها لمثل العلل المركّبة. ولو كانت جاریة فیها لكان الدلیل أیضاً مفیداً للیقین مطلقاً. على أنّ هذه المقدّمة مستغنىً عنها، لأنّ العلم بأحد السببین التّامین أیضاً یوجب العلم بالمسبّب، كما أنّ النسبة بینه وبین معلوله ضروریّة، فافهم.
قد عرفت أنّ مثل هذا العلم خارج عن مورد المسألة عندهم، لاختصاصها بالعلوم المكتسبة بالبرهان، وهم یعدّون المحسوسات من البدیهیّات. نعم، بناءاً على كون المحسوسات غیر بدیهیّة كما هو الحقّ یحتاج التصدیق بوجود المحسوسات الخارجیّة إلى برهان، كأن یقال: هذا الأثر الحادث فی النفس أمر معلول، فعلّته إمّا أن تكون هی النفس أو ما هو خارج عنها، لكنّ النفس لیست بعلّة له، فعلته موجودة فی خارج النفس. وحیث أنّ الحدّ الاوسط ـ وهو عدم علیّة النفس ـ فی هذا القیاس لیس علّة ولا معلولاً للمطلوب بل یكون أمراً ملازماً له فهو برهان إنّىٌّ مفید للیقین. واعلم أنّ الشیخ صرّح بأنّ الحكم بوجود المحسوس فی الخارج إنّما هو للعقل، وتبعه على ذلك غیره.(3)
1. راجع: الأسفار: ج3، ص387403.
2. راجع: نفس المصدر: ج6، ذیل الصفحة 229ـ230.
3. راجع: التعلیقات: ص68 و 88 و 148؛ والأسفار: ج3، ص498.
حكى الإمام الرازیّ القولَ بذاتیّة العلوم للنفس عن بعض القائلین بقدم النفوس، ونقل عنهم حجّةً ضعیفةً ونقدَها. وتبعه على ذلك صدر المتألّهین فی الأسفار.(1) ثمّ إنّ الرازیّ حكى القول بالتذكّر عن المحقّقین من القائلین بقدم النفوس مع الاعتراف بعدم كون العلوم ذاتیّة للنفس، ثمّ ذكر حجّة لهم وناقش فیها كما صنع فی الأسفار.(2)
عدُّ تدبیر البدن أمراً ذاتیّاً للنفس بمعنى كونها علّة تامّة له ینافی القول بقدمها كما ینافی القول ببقائها بعد مفارقة البدن، لاستلزامهما تخلّف الذاتیّ عن الذات فلابدّ من تأویله إلى الاقتضاء، وعلیه فلا منافاة بین تزاحمه مع الالتفات إلى علومه، لإمكان تأویل ذاتیّة العلوم إلى الاقتضاء المستلزم لفعلیّتها لولا المانع. فتزاحمهما یضاهی تزاحم الأفعال الصادرة من النفس بوساطة القوى المتعلقّة بالبدن، ممّا هو غیر قابل للإنكار.
والأولى أن یقال: إذا كان الاشتغال بتدبیر البدن مانعاً عن الالتفات إلى العلوم الذاتیّة المفروضة لما أمكن الالتفات مادام الاشتغال باقیاً، وهو باطل بالضرورة. فتوقّف حصول العلم على مقدّماته دلیل على أنّ للنفس استعداداً للعلوم فقط، وأنّه مقتضى جوهر ذاته دون فعلیّتها. كما أنّ عدم استطاعة الطفل تعقّلَ كثیر من المعقولات دلیل على عدم حصولها له وتوقّف ذلك على الاكتساب.
1. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص374؛ والأسفار: ج3، ص487.
2. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص376؛ والأسفار: ج3، ص491.
العلم الفعلیّ یستعمل بمعنیین: أحدهما ما یقابل الانفعالیّ،(1) وهو ما ذكره ههنا، وثانیهما ما یقابل الذاتیَّ، والمراد به العلم فی مقام الفعل دون مقام الذات، كما فی العلم بعد الإیجاد.
1. راجع: التعلیقات: ص66؛ و المباحث المشرقیة: ج1، ص365.
إلى هنا انتهى البحث عن الاُمور العامّة التی تشكّل موضوعاتٍ لمسائل الفلسفة الاُولى بمعناها الخاصّ، ولقسم منها بمعناها العامّ الشامل للإلهیّات. وقد مرّت الإشارة إلى اختلاف الحكماء فی اندراج العلم الإلهیّ ومعرفة الربوبیّة فی الفلسفة الاُولى، فراجع الرقم (4).
وقد حاول سیّدنا الاُستاذ(قدسسره) توجیه اندراج مسائل هذا العلم فی الفلسفة الاُولى بأنّها فی الحقیقة تتعلّق بمبحث الوجوب والإمكان الذی مرّ ذكره فی المرحلة الرابعة من هذا الكتاب. وإنّما أفردوا هذه المسائل المتعلّقة بالواجب تبارك وتعالى لشرافة موضوعها. ویمكن مثل هذا التوجیه لاندراج هذه المسائل فی مبحث العلّة والمعلول، بالنظر إلى كون الواجب تعالى هو العلّة الاُولى، وله أتمّ معانی العلّیة وأكمل مراتبها.
وظاهر صدر المتألّهین فی الأسفار أنّه اعتبر العلم الإلهیّ علماً مستقلّاً عن الفلسفة الاُولى وعلم ما بعد الطبیعة، حیث قال فی مقدّمة السفر الثالث: «فهذا شروع فی طور آخَر من الحكمة والمعرفة، وهو تجرید النظر إلى ذوات الموجودات وتحقیق وجود المفارقات والإلهیّات، والمسمَّى بمعرفة الربوبیّة والحكمة الإلهیّة ـ إلى أن قال ـ وهو مشتمل على علمین شریفین: أحدهما العلم بالمبدء، وثانیهما العلم بالمعاد».(1)
1. راجع: الأسفار: ج6، ص3 و 8.
وهناك مناهج اُخرى لتقسیم المباحث العقلیّة وترتیبها. من أشهرها تقدیم المباحث المنطقیّة، وإتباعها بالطبیعیّات، وختمها بالاُمور العامّة والإلهیّات. ومنها ما صنعه بهمنیار فی التحصیل مقتدیاً فی الترتیب بالحكمة العلائیّة لاُستاذه، حیث قسّمه إلى ثلاثة كتب: الكتاب الأوّل فی المنطق، والكتاب الثانی فی الاُمور العامّة أو علم ما بعد الطبیعة، والكتاب الثالث فی العلم بأعیان الموجودات، وجعَله مشتملاً على مقالتین: إحداهما فی البحث عن الواجب تعالى، واُخراهما فی البحث عن أبواب الطبیعیّات، وجعَل الباب الأخیر منها فی البحث عن أحوال النفس ومعادها.
وسلك الشیخ فی الإشارات مسلكاً بدیعاً، فجعَل هذا الكتاب على قسمین: قسم فی المنطق، وقسم فی الحكمة، وجعَل قسم الحكمة على عشرة أنماط: النمط الأوّل فی تجوهر الجسم، الثانی فی الجهات، الثالث فی النفس الأرضیّة والسماویّة، الرابع فی الوجود وعلله بما یشتمل على البحث عن الواجب تعالى ووحدته، الخامس فی الصنع والإبداع، السادس فی الغایات ومبادیها، السابع فی التجرید، الثامن فی البهجة والسعادة، التاسع فی مقامات العارفین، والعاشر فی أسرار الآیات وخوارق العادات.
والحاصل أن كیفیّة تقسیم المباحث العقلیّة وترتیبها لیست أمراً متّفَقاً علیه بین الفلاسفة، ولا ملتزَماً به فی كتب فیلسوف واحد، وقد مرّ ما یتعلّق بذلك تحت الرقم (8 و 25).
قال الشیخ: «الحقّ ما وجوده له من ذاته. فلذلك، البارئ هو الحقّ، وما سواه باطل.
كما أنّ واجب الوجود لا برهان علیه، ولا یعرف إلاّ من ذاته. فهو كما قال: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ».(1)
ویمكن تفسیر هذا الكلام بأنّ مراده هو نفی برهان اللمّ، ویستشهد بكلامه فی الشفاء حیث قال: «ولا برهان علیه لأنّه لا علّة له»(2) ویجمع بین قوله هذا وما أقام من البراهین فی كتبه المختلفة على وجود الواجب تبارك وتعالى كغیره من الفلاسفة بأنّها ترجع إلى براهین إنّیة.(3)
لكن لهذا الكلام تأویل آخر أشدُّ مناسبةً لذیل كلامه، أعنی قوله: «ولا یعرف إلاّ من ذاته» وإن كان بعیداً عن مساق كلمات المشّائین وأتباعهم. وهو أنّ غایة ما تفیده البراهین أنّ فی دار الوجود موجوداً مّا یمتنع عدمه فیقال إنّه واجب الوجود، وهكذا یوصف بالحیاة والعلم والقدرة من الصفات الذاتیّة، كما أنّه یتّصف بالعلّیة والخالقیّة والربوبیّة وغیرها من الصفات الفعلیّة والإضافیّة. وموضوع جمیع هذه الأوصاف هو ما یطلق علیه «شیء» أو «موجود» ونحوها من المفاهیم العامّة، وأمّا حقیقته فغائبة عن إدراكنا ومعرفتنا، كما أنّ صفاته التی ننسبها إلیه إنّما نعرفها بمصادیقها المحدودة فی أنفسنا ثمّ نجرّد المفاهیم عن الحدود العدمیّة تجریداً ذهنیّاً فننسبها إلیه سبحانه. فلا حقیقةُ ذاته معروفةٌ لنا، ولا كُنْهُ صفاته معلوم لعقولنا. وهذا هو معنى ما یقال من عدم قدرة العقل على معرفة كنه ذاته وصفاته، وقد یستدلّ علیه بأنّ العقل إنّما یمكنه اكتناه المهیّات، وحیث إنّه تعالى لا مهیّة له ـ كما مرّ البحث عنه تحت الرقم (62) وسیأتی الكلام فیه أیضاً ـ فلا یستطیع العقل اكتناه ذاته سبحانه.(4)
1. راجع: التعلیقات: ص70؛ و سورة آل عمران، الآیة 18.
2. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء.
3. راجع: تعلیقة الأستاذ1 على الأسفار: ج6، ص29.
4. راجع: المبدء والمعاد: ص3340.
لكنّ العبارة القائلة «لا یُعرف إلاّ من ذاته» توحی بإمكان معرفته من طریق آخر، كما وردت عن أئمّة أهل البیت(علیهمالسلام) روایات مستفیضة تدلّ على أنّه تعالى لا یُعرف إلاّ به، وإنّما خَلْقُه یُعرف به لا بالعكس.(1) وعن الإمام الصادق(علیهالسلام) أنّه قال: «ومن زعم أنّه یعبد بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب ـ إلى أن قال ـ إنّ معرفة عین الشاهد قبل صفته، ومعرفة صفة الغائب قبل عینه».(2) وعن الإمام الباقر(علیهالسلام): «كلُّ ما میّزتموه بأوهامكم فی أدقّ معانیه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إلیكم».(3) وقد تكرّر هذا المضمون فی أدعیتهم ومناجاتهم كقول سیّد الشهداء(علیهالسلام) فی دعاء عرفة «ألِغیرك من الظهور ما لیس لك حتّى یكون هو المظهر لك؟!» وقول الإمام السجّاد(علیهالسلام) فی مناجاته التی رواها أبو حمزة الثمالیّ: «بك عرفتك وأنت دللتنی علیك ودعوتنی إلیك، ولو لا أنت لم أدرِ ما أنت».
والتفسیر الفلسفیّ لهذه المعرفة هو أنّه علم حضوریّ للمعلول بالنسبة إلى علّته المفیضة، وله مراتب أدناها ما هو حاصل لكلّ إنسان حصولاً غیر مشعور به فی هذه النشأة للجمیع، ولعلّه هو ما أشار إلیه عزّ اسمه بقوله: «ألست بربّكم قالوا بلى»(4) خاصّةً بالنظر إلى ما ورد فی تفسیره عن أئمّة أهل البیت(علیهمالسلام) أنّ هذا الجواب كان عن رؤیة ومُعایَنة.(5) وهو أحد معانی فطریّة معرفته سبحانه.
ولهذا العلم مراتب كاملة تحصل بتكامل النفس وتعالیها عن المادّیات واقترابها من الحضرة الإلهیّة إلى أن تصل إلى «مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِیكٍ مُقْتَدِرٍ»(6) وتخاطَب
1. راجع: الكافی: ج1، «باب أنّه تعالى لا یعرف إلاّ به».
2. راجع: تحف العقول: كلامه (علیهالسلام) فی وصف المحبّة لأهل البیت(علیهمالسلام).
3. راجع: المحجّة البیضاء: ج1، ص219.
4. سورة الأعراف، الآیه 172.
5. راجع: الكافی: ج2، ص13؛ وراجع: المیزان فی التفسیر القرآن: ج8، ص340 و 345.
6. سورة القمر، الآیة 55.
بقوله عزّ من قائل: «یَا أَیَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِی إِلَى رَبِّکِ رَاضِیَةً مَرْضِیَّةً * فَادْخُلِی فِی عِبَادِی * وَادْخُلِی جَنَّتِی».(1) وأكمل مراتبه ما یفوز به الأنبیاء الكاملون، والأولیاء المقرّبون، والشهداء والصدّیقون. فطوبىٰ لهم، ثمّ طوبىٰ لهم.
ولْیُعلمْ أنّ تلك المعرفة السامیة مع شموخ مقامها وعلوّ درجتها لا تعنی اكتناهَ ذاته المقدّسة، فإنّه خاصّ به سبحانه قد استأثره لنفسه «ولا یحیطون به علماً»(2) وإنّما لكلٍّ منهم ما تَسَعه مرتبة وجوده الخاصّ، وتتجلّى له الذات الإلهیّة بقدر ما تستعدّ له مرآته الصافیة.(3)
وهذه المعرفة الحضوریّة إنّما یستطیع إثباتَها مَن لا یحصر العلمَ الحضوریَّ فی عِلم الشیء بنفسه، وأمّا المشّاؤون وأتباعهم فلا سبیل لهم إلى إثباتها، ولهذا أشرنا إلى أنّ هذا التفسیر بعید عن مساق كلماتهم، وغیر موافق لمبانیهم. والحمد لله الذی هدانا لهذا وما كنّا لنهتدی لولا أن هدانا اللّه.
المعرفة الحصولیّة العقلیّة بالواجب تبارك وتعالى إمّا أن تحصل بانعكاس العلم الحضوریّ فی الذهن كقضیّة بدیهیّة متشكلّة من مفاهیم عامّة، وهی رهن لاشتداد العلم الحضوریّ بحیث تستطیع النفس الالتفاتَ إلیه، وهی المعرفة الفطریّة بمعنى آخر؛ وإمّا أن تحصل من طریق البرهنة والاستدلال، وهی التی تتیسّر لكلّ عاقل، وتُطلب بالأبحاث الفلسفیّة.
والبراهین التی تفید هذا العلم الاكتسابیَّ كثیرة، وأمتنها ما یتشكّل من مقدّمات
1. سورة الفجر، الآیة 27ـ30.
2. سورة طه، الآیة 110.
3. راجع: الأسفار: ج1، ص113ـ119.
عقلیّة محضة ولا تحتاج إلى مقدّمات حسّیة وتجریبیّة ونحوها، كالبرهان الذی أقامه الشیخ فی الإشارات، وحاصله أنّ الموجود إمّا أن یكون واجباً فهو المطلوب، وإمّا أن یكون ممكناً فیحتاج إلی علّة ترجّح وجوده، والعلّة إما هو الواجب فیثبت المطلوب إمّا أن یكون ممكناً آخر، فلابدّ من انتهاء سلسلة العلل إلى الواجب دفعاً للدور والتسلسل. ثمّ قال: «تأمَّلْ كیف لم یحتج بیاننا لثبوت الأوّل ووحدانیّته وبراءته عن الصمات إلى تأمُّلٍ لغیر نفس الوجود، ولم یحتج إلى اعتبار من خلقه، وإن كان ذلك دلیلاً علیه، لكن هذا الباب أوثق وأشرف، أی إذا اعتبرنا حال الوجود فشهد به الوجود من حیث هو وجود، وهو یشهد بعد ذلك على سائر ما بعده فی الوجود. وإلى مثل هذا اُشیر فی الكتاب الإلهیّ: «سَنُرِیهِمْ آیَاتِنَا فِی الْآفَاقِ وَفِی أَنْفُسِهِمْ حَتَّى یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»(1) أقول: هذا حكم لقوم. ثمّ یقول: «أَوَلَمْ یَکْفِ بِرَبِّکَ أَنَّهُ عَلَى کُلِّ شَیْءٍ شَهِیدٌ»(2) أقول: هذا حكم للصدّیقین الذین یستشهدون به لا علیه».
و قال المحقّق الطوسىّ فی شرحه: «المتكلّمون یستدلّون بحدوث الأجسام والأعراض على وجود الخالق، وبالنظر إلى أحوال الخلیقة على صفاته واحدةً فواحدة. والحكماء الطبیعیّون أیضاً یستدلّون بوجود الحركة على محرّك، وبامتناع اتّصال المحرّكات لا إلى نهایة على وجود محرّك أوّل غیر متحرّك، ثم یستدلّون من ذلك على وجود مبدء أوّل. وأمّا الإلهیّون فیستدلّون بالنظر فی الوجود وأنّه واجب أو ممكن على إثبات واجب، ثمّ بالنظر فی ما یلزم الوجوب والإمكان على صفاته، ثمّ یستدلّون بصفاته على كیفیّة صدور أفعاله عنه واحداً بعد واحد.
فذكر الشیخ فی ترجیح هذه الطریقة على الطریقة الاُولى أنـّه أوثق وأشرف، وذلك لأنّ أولى البراهین بإعطاء الیقین هو الاستدلال بالعلّة على المعلول، وأمّا
1. سورة فصّلت، الآیة 53.
2. سورة فصّلت، الآیة 53.
عكسه الذی هو الاستدلال بالمعلول على العلّة فربما لا یعطی الیقین، وهو إذا كانت للمطلوب علّة لا یعرف إلاّ بها كما تبیّن فی علم البرهان.
ثمّ جعل المرتبتین المذكورتین فی قوله تعالى « سَنُرِیهِمْ آیَاتِنَا فِی الْآفَاقِ وَفِی أَنْفُسِهِمْ حَتَّى یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ یَکْفِ بِرَبِّکَ أَنَّهُ عَلَى کُلِّ شَیْءٍ شَهِیدٌ» أعنی مرتبة الاستدلال بآیات الآفاق والأنفس على وجود الحقّ، ومرتبة الاستشهاد بالحقّ على كلّ شیء بإزاء الطریقتین. ولمّا كانت طریقة قومه أصدق الوجهین وَسَمهم بالصدّیقین، فإنّ الصدّیق هو ملازم الصدق».(1)
ثمّ إنّ صدر المتألّهین بعد ذكر هذا البرهان قال: «وهذا المسلك أقرب المسالك إلى منهج الصدّیقین، ولیس بذلك كما زُعم، لأنّ هناك (یعنی فی منهج الصدّیقین على ما بیّنه وسیأتی ذكره فی المتن) یكون النظر إلى حقیقة الوجود، وههنا یكون النظر فی مفهوم الوجود ـ إلى أن قال ـ فهذا ما وصفه الشیخ فی الإشارات بأنـّه طریقة الصدّیقین وتبعه المتأخّرون فیه» ثمّ تعرّض لبعض ما اُورد فیه من الشبهات وما قیل فی دفعها، وقال فی آخر كلامه «والحقّ كما سبق أنّ الواجب لا برهان علیه بالذات بل بالعرض، وهناك برهان شبیه باللّمّیّ».(2)
وتثور حول هذه الكلمات تساؤلات كما یلی:
ألف) هل هذا البرهان إنّیّ أو لمّیّ؟
ب) ما هی المیزه الأساسیّة الفارقة بین البرهان المنسوب إلى الإلهیّین وسائر البراهین؟ وهل ترجع تلك المیزة إلى الفرق بین اللّمّیّ والإنّیّ؟
ج) ما هو المراد بقولهم «لا برهان على الواجب بالذات بل بالعرض»؟
د) هل فی الآیة الكریمة إشارة إلى الطریقتین أو إلى طریقة ثالثة؟
1. راجع: آخر النمط الرابع من شرح الإشارات.
2. راجع: الأسفار: ج6، ص26ـ29.
ه) هل للصدّیقین منهج خاصّ لمعرفة الله سبحانه؟ وهل ینطبق ذلك على شیء من تلك البراهین؟
أمّا السؤال الأوّل فالجواب عنه أنّه یصحّ اعتبار هذا البرهان لمیّاً بناءاً على تعمیم العلّیة المعتبرة فی البرهان اللمیّ للعلاقة الملحوظة بین المفاهیم الفلسفیّة واعتبار الإمكان مثلاً علّةً لحاجة الممكن إلى العلّة،(1) كما مرّ بیانه تحت الرقم (8) وإلاّ فهو برهان إنّی یسلك فیه من أحد اللوازم العقلیّة إلى آخر، كما هو رأی سیّدنا الاُستاذ(قدسسره) فی جمیع البراهین المذكورة فی الأبحاث الفلسفیّة.
وأمّا السؤال الثانی فالجواب عنه أنّ المیزة التی نؤكّد علیها هی ما أشرنا إلیه من تركّب هذا البرهان من مقدّمات عقلیّة محضة بخلاف البراهین المنسوبة إلى المتكلّمین والطبیعیّین. مضافاً إلى قلّة مقدّماته بالنسبة إلیها، فإنّ تلك البراهین تثبت أوّلاً وجود محرِّك غیر متحرّك ومحدِث غیر حادث، ثمّ تحتاج فی إثبات وجوب ذلك المحرّك والمحدث إلى مثل ما اُخذ فی هذا البرهان من المقدّمات.
ویمكن اعتبار میزة ثالثة للبرهان الإلهیّ هی أنّه لا یتوقّف على قبول وجود الممكن فی الخارج فضلاً عن معرفة صفاته وأحواله، بل یكفی فیه التردید بین كون الموجود الذی لا شكَّ فی وجوده واجباً أو ممكناً، بخلاف سائر البراهین التی تحتاج إلى معرفة صفات المخلوقات من الحدوث والإمكان وغیرهما بعد قبول وجودها فی الخارج. ولعلّه إلى هذا أشار الشیخ حیث قال: «ولم یحتج إلى اعتبار من خلقه».
لكن یمكن من جهة اُخرى إثبات میزة لتلك البراهین بإزاء هذه المیزة، هی كفایتها لإثبات كون الواجب غیر العالَم، بخلاف هذا البرهان الذی إنّما یثبت موجوداً واجباً بالذات، ثمّ یحتاج فی إثبات كونه غیر العالَم إلى بیان صفات الواجب بالذات وعدم انطباقها على صفات العالَم.
1. راجع: النهج التاسع من منطق شرح الإشارات؛ والأسفار: ج6، ص28.
وربما یظهر من شرح المحقّق الطوسیّ أنّ وجه أشرفیّة البرهان الإلهیّ هو كونه استدلالاً من العلّة على المعلول. ویلاحظ علیه بعد تأویل العلّة إلى ما أشرنا إلیه آنفاً أنّ برهان الحركة والحدوث لیسا من قبیل الاستدلال بالمعلول علی العلّة، بل هما من قبیل البرهان الإنّی المفید للیقین، ولیس للبرهان اللمیّ فضل علیه، بل یمكن أن یقال بأنّ جمیع البراهین اللمّیة تنطوی على برهان إنّی یتضمّن قاعدة عدم انفكاك المعلول عن علّته التامّة ككبرى له، فتأمّل.
وأمّا السؤال الثالث فقد اُجیب عنه بوجوه(1) أحسنها أنّ جمیع البراهین إنّما تُثبت أنّ هناك موجوداً یمتنع عدمه، فالذی یثبت بها أصالةً وبالذات هو هذا العنوان، وأمّا مصداقه العینیّ فإنّما یعلم بها بالعرض. وأمّا قول صدر المتألّهین أنّ هناك برهاناً شبیهاً باللمیّ فقد فسّره الاستاذ(قدسسره) بأنّ البرهان الإنّی المطلق الذی یسلك فیه من أحد اللوازم إلى آخَر شبیهٌ بالبرهان اللمیّ فی كونه مفیداً للیقین، وقد فسّره غیره بغیره.(2) ویحتمل أن یكون مراده أنّ برهان الصدّیقین حسب ما ذكر له من التقریر یفضل على سائر البراهین بأنـّه شبیه بالبرهان اللمیّ،(3) فلیتأمّل.
وأمّا السؤال الرابع فالجواب عنه أنّ الآیة الكریمة بصرف النظر عن ما قیل أو یمكن أن یقال فی تفسیرها من الوجوه لا تدلّ على طریقتین للاستدلال، وإذا كانت لذیلها إشارة إلى نوع آخَرَ من معرفته سبحانه فلتكن هی المعرفة الشهودیّة، خاصّةً بالنظر إلى تفسیر لفظة «شهید» فی الآیة ب «مشهود».
وأمّا السؤال الخامس فالجواب عنه أنّا لم نظفر بدلیل على أنّ للصدّیقین منهجاً خاصّاً لمعرفة الله تعالى، وإنّما نَسب الشیخ برهانَ الإلهیّین إلیهم لما كان یرى أنّه
1. راجع: نفس المصدر: ج6، ذیل الصفحة 29.
2. نفس المصدر.
3. راجع: تعلیقة الاُستاذ(قدسسره) على الأسفار: ج6، ص13؛ وراجع: المبدء والمعاد: ص46.
أوثق وأشرف البراهین، ثمّ أقام صدر المتألّهین برهاناً آخر ورأى أنّه أشرف، فنسب برهانه إلى الصدّیقین. وإذا كانت میزة معرفتهم أنّهم یعرفون الله به لا بغیره انطبقت تلك المعرفة على المعرفة الشهودیّة التی أشرنا إلیها فی التعلیقة السابقة، وهی لیست ممّا یؤدّی إلیه أیُّ برهان، بل هو فضل الله یؤتیه من یشاء. وأمّا الاستعداد للفوز بها فیحصل من الإخلاص فی العبادة وتركیز توجّه القلب إلى ساحة قدسه سبحانه، والإعراض عمّا سواه «إِلَهِی هَبْ لِی كَمَالَ الِانْقِطَاعِ إِلَیْكَ وَ أَنِرْ أَبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِیَاءِ نَظَرِهَا إِلَیْكَ».
لكن یجب تتمیمه ببیان الاستلزام، فإن كان المتمّم هو ما تمسّك به الشیخ من استحالة الدور والتسلسل رجع إلى البرهان الذی نسبه إلى الإلهیّین والصدّیقین، وقد مرّ تقریره آنفاً، وسیأتی بیانه فی المتن فی الفصل التالی، وقد قرّره فی شرح المنظومة(1) بوجهین آخرین: أحدهما على سبیل الخلف (بأخذ لفظة «إمّا» بمعنى التردید فی الفرض) بأن یقال: حقیقة الوجود الصِرفة واحدة لا تتثنّى، فإن كانت واجبة فهو المطلوب، وإن فُرضتْ ممكنةً لزم كونها متعلّقة بالغیر، فیلزم أن یكون وراء هذه الحقیقة الصرفة حقیقة اُخرى تتعلّق هذه الحقیقة بها، مع أنّ الصِرف لا یتثنىّ. وثانیهما على سبیل الاستقامة (بأخذ لفظة «إمّا» بمعنى التقسیم) بأن یقال: الوجود حقیقة ذات مراتب، فإن انتهت المراتب إلى الواجب فهو المطلوب، وإلاّ لزم الدور أو التسلسل. ثمّ وصف الوجه الأوّل بأنـّه أوثق وأشرف وأخصر.
ویلاحظ على الوجه الأوّل أنّ ما ثبت بالأبحاث الفلسفیّة هو أصالة الوجود وكونه ذا مراتب، وأمّا أنّ هناك حقیقةً صرفةً لا تخالطها مهیّةٌ ولیس لها حد
1. راجع: شرح المنظومة: الفریدة الأولى من الإلهیّات.
عدمیٌّ وأنّها غیر قابلة للتكرّر والتكثّر فلیست ببیّنة ولا مبیَّنة فی البرهان. وربما یقال فی تبیین ذلك: إنّ الوجود إمّا أن یكون صِرفاً خالصاً من شوب عدم ومهیّة فهو المطلوب، وإمّا أن یُفرض مختلطاً بالعدم، محدوداً بحدود تنتزع عنها المهیّة فیلزم اختلاط الوجود بغیر الوجود فی حاقّ الأعیان، وهو باطل على القول بأصالة الوجود.
ویلاحظ علیه أن صرافة حقیقة الوجود بمعنى عدم شوبها فی متن الواقع بالعدم لا ینفی كثرة المراتب، فإنّ كلّ مرتبة منه وإن كانت فی غایة الضعف لیس فی متن الواقع إلاّ وجوداً، وإنّما ینتزع الذهن منها مفاهیم عدمیّة، ولا یعنی ذلك تحقّق العدم فی حاقّ الأعیان واختلاطه بحقیقة الوجود. وقد عرفت تصریح الاستاذ(قدسسره) فی الفصل الثانی من المرحلة الاُولى بأنّ تكثّر الوجود أمر بدیهیّ، وقد أخذه مقدّمة اُولى لإثبات التشكیك فی حقیقة الوجود. وأمّا الصرافة بمعنى اللاتناهی المطلق وعدم المحدودیّة بحدود ماهویّة وكونه بحیث لا ینتزع الذهن مفاهیم عدمیّة وما هویّة عنه فهو یختصّ بوجود الواجب تبارك وتعالى، وهو الذی یُطلب بهذا البرهان. والحاصل أنّ التقریر الخلفیّ لا یتمّ إلاّ على قول الصوفیّة،(1) ویؤول إلى المصادرة بالمطلوب.
وأمّا السبیل المستقیم فیمكن تقریره بوجه لا یتوقّف على سبق إبطال التسلسل، وهو أن یقال: الوجود حقیقة ذات مراتب، والمراتب النازلة هی مفتقرة الذات وعین التعلّق والفقر الوجودیّ بما وراءها، فتستلزم مرتبة مستقلّة على الإطلاق، وإلاّ عاد المفتقر غنیّاً، والرابط مستقلّاً. وهذا هو نفس البرهان الذی اُقیم على استحالة التسلسل فی العلل الفاعلیّة ـ على ما مرّ بیانه فی الفصل الخامس من المرحلة الثامنة ـ لا أنّه مبتنٍ علیها، فتبصّر.
1. راجع: تمهید القواعد: ص59.
هذا التقریر للمحقّق السبزواریّ فی تعلیقته على الأسفار،(1) وهو نظیر السبیل الخلفیّ الذی نقلنا عنه آنفاً فی تفسیر التقریر السابق، بتبدیل الصرافة بالإرسال، وقد فسّر الإرسال بالصرافة والبساطة فی جواب الإشكال. وقد عرفت ما فیه من المناقشة. والحاصل أنّه إن اُرید بالحقیقة المرسلة التی هی أصیلة ولا أصیل غیرها انحصار الوجود الحقیقیّ فی الواجب تعالى فهو قول الصوفیّة، ویرد علیه مضافاً إلى منافاته للكثرة الثابتة بالضرورة أنّه مصادرة بالمطلوب، فإنّ المطلوب بالبرهان إثبات وجود صرف غیر قابل للعدم بوجه، وقد اُخذ ثابتاً مفروغاً عنه. وإن اُرید بها ما یعمّ الوجودات الإمكانیّة فالمناقض لكلّ واحد منها هو العدم الخاصّ لا مطلق العدم، ولا یثبت بمناقضة العدم للوجود وجود حقیقة واجبة غیر متّصفة بأیّ مفهوم عدمیّ یحكی عن محدودیّتها.
هذا التقریر یبتنی على اُصول: أحدها أصالة الوجود، وثانیها كونه ذا مراتب، وثالثها كون المعلول مفتقر الذات إلى العلّة وعینَ الربط بها، وقد مرّ إثبات كلّ واحد منها فی محلّه. فبالنظر إلى هذه الاُصول یقرّر البرهان على هذا النمط: الوجود الأصیل إن كان مستغنیاً عن غیره فهو المطلوب، وإن كان غیرَ مستغنٍ بالذات كان معلولاً مفتقراً إلى ما هو مستغنٍ بالذات، لاستحالة تحقّق المفتقر المتعلّق الذی هو عین التعلّق والربط بلا مستقلّ غنیّ تامّ. وقد أشار فی ضمن كلامه إلى قواعد حكمیّة اُخرى لمزید التوضیح والتأكید.(2)
1. راجع: الأسفار: ج3، ذیل الصفحة 16 و 17.
2. راجع: نفس المصدر: ج6، ص14ـ16.
وهذا التقریر هو الذی أشرنا إلیه آنفاً فی توضیح التقریر الأوّل على السبیل المستقیم. وله مزیّة على برهان الشیخ هی عدم احتیاجه إلى سبق إبطال التسلسل، بل هو بنفسه برهان علیه. كما أنّه ناظر إلى حقیقة الوجود العینیّة. بخلاف برهان الشیخ، حیث إنّ المأخوذ فیه هو عنوان الموجود القابل للانطباق على المهیّة، كما أنّ عنوان الممكن المأخوذ فیه هو وصف للمهیّة، فلا یناسب القول بأصالة الوجود. وإلى هذا الوجه أشار حیث قال «وههنا ـ یعنی فی برهان الشیخ ـ یكون النظر فی مفهوم الوجود».(1)
ثمّ قال بعد تقریر البرهان: «واعلم أنّ هذه الحجّة فی غایة المتانة والقوّة، یقرب مأخذها من مأخذ طریقة الإشراقیّین التی تبتنی على قاعدة النور».(2) وهذه الطریقة هی التی بیّنها شیخ الإشراق بقوله «النور المجرّد إذا كان فاقراً فی مهیّته فاحتیاجه لا یكون إلى الجوهر الغاسق المیّت، إذ لا یصلح هو لأن یوجِد أشرفَ وأتمَّ منه لا فی جهة، وأنّى یفید الغاسق النور؟ فإن كان النور المجرّد فاقراً فی تحقّقه فإلى نور قائم. ثمّ لا تذهب الأنوار القائمة المترتّبة سلسلتها إلى غیر النهایة، لما عرفت من البرهان الموجب للنهایة فی المترتّبات المجتمعة، فیجب أن تنتهی الأنوار القائمة والعارضة والبرازخ وهیآتها إلى نور لیس وراءه نور، وهو نور الأنوار».(3)
وقال صدر المتألّهین: «والحاصل أنّ صاحب الإشراقیّین لو كان قصَد بمهیّة النور الذی هو عنده بسیط متفاوت بالكمال والنقص حقیقةَ الوجود بعینها صحّ ما ذهب إلیه، وإن أراد به مفهوماً من المفهومات التی من شأنها الكلّیة والاشتراك بین الكثیرین فلا یمكن تصحیحه».(4)
1. نفس المصدر: ص26ـ27.
2. نفس المصدر: ص16ـ17.
3. راجع: حكمة الإشراق: ص121.
4. راجع: الأسفار: ج6، ص23.
ثمّ إنّه بناءاً على تطبیق النور على حقیقة الوجود یبقی فرق بارز بین البرهانین، وهو احتیاج البرهان الإشراقیّ إلى إبطال التسلسل، دون برهان صدر المتألّهین. ولعلّه لأجل ذلك جعل برهانه قریب المأخذ من ذلك. وهناك وجه آخر للفرق أشار إلیه المحقّق السبزواریّ فی تعلیقته على الأسفار، وهو أنّ قاعدة النور لا تشمل الأجسام والأعراض التی هی عندهم غواسق، بخلاف نور الوجود.(1)
ولْیُعلمْ أنّ برهان صدر المتألّهین یشترك مع برهان الشیخ فی أنّهما إنّما یُثبتان وجود حقیقة واجبة الوجود، ویحتاجان فی إثبات أنّه غیر العالَم إلى بیان آخر، كإثبات بساطة وجود الواجب وصرافته ولا تناهیه على الإطلاق، ممّا لا یوجد فی العالم المادّیّ ولا فی ماوراءه من المجرّدات الفاقرة الذوات. وقد أشار صدر المتألّهین فی ضمن بیانه إلى أنّ الوجود المستغنی بسیط صرف، لكنّ الاُصول السالفة لا تفی بإثباته، فیبقی إثبات ذلك رهنَ ما یأتی من البرهان فی الفصل الرابع. وقد مرّ ما یفید لهذا الباب فی خامس الاُمور التی ذكرناها تحت الرقم (231).
هذا هو نفس البرهان الذی نسبه الشیخ إلى الصدّیقین. وهناك برهان آخر یثبت فیه إمكان العالَم بما یشتمل علیه من المادّیات والمجرّدات من طریق ثبوت المهیّة لها وملازمتها الإمكان أو من طریق آخر،(2) ثمّ ینضمّ إلیه احتیاج الممكن إلى العلّة ولزوم انتهاء سلسلة العلل إلى الواجب بالذات المستغنی عن العلّة. وللأوّل فضل
1. راجع: نفس المصدر: ذیل الصفحة 17.
2. راجع: المطارحات: ص388؛ والمباحث المشرقیة: ج2، ص450.
علیه من جهة عدم احتیاجه إلى معرفة صفات الخلق، وله فضل على الأوّل من جهة عدم احتیاجه إلى إثبات كون الواجب وراء العالَم.
وقد أقام شیخ الإشراق حجّة اُخرى مبنیّة على إثبات إمكان العالم من طریق احتیاجه إلى اجزائه(1) وناقش فیها صدر المتألّهین.(2)
ثمّ إنّ هناك برهاناً ربما یسمّى «برهان الإمكان» أقامه الفارابیّ وقرّره صدر المتألّهین،(3) ولا یحتاج إلى سبق إبطال التسلسل. وحاصله أنّ الممكن سواء كان واحداً أو متعدّداً، مترتباً أو متكافئاً، لا یقتضی وجوب الوجود، فلابدّ فی وجود الممكن المترتّب على وجوبه من موجود واجب بالذات.
ولعلّ صدر المتألّهین استلهمَ برهانه من هذا البرهان بتبدیل الإمكان الماهویّ بالفقر الوجودیّ.
برهان الحركة یبتنی على أربع مقدّمات، هی احتیاج المتحرّك إلى المحرّك، ولزوم انتهاء المحرّك إلی ما لیس بمتحرّك، وتجرّد ما لیس بقابل للحركة، ولزوم انتهاء سلسلة المجرّدات إلى الواجب بالذات.(4) والمقدّمة الأخیرة هی التی تتبیّن بالمقدّمات المأخوذة فی سائر البراهین، كما أشرنا إلیه سابقاً.
وقال صدر المتألّهین بعد تقریره: «وكمال هذه الطریقة بما حقّقناه وأحكمناه من إثبات الحركة الجوهریّة فی جمیع الطبائع الجسمانیّة».(5)
1. راجع: المطارحات: ص386ـ387.
2. راجع: الأسفار: ج6، ص30ـ36.
3. راجع: نفس المصدر: ص36ـ37.
4. راجع: المطارحات: ص388ـ389؛ والأسفار: ج6، ص4244؛ والمبدء والمعاد: ص17ـ18.
5. راجع: الأسفار: ج6، ص44.
إن قلت: المقدّمة الثانیة تنافی ما ذكروا من لزوم كون علّة الحركة متحرّكة، وهو الذی تبنّاه صدر المتألّهین فی أحد البراهین التی أقامها على الحركة الجوهریّة.
قلت: المحرّك الذی یجب أن یكون متحرّكاً هو المحرّك الطبیعیّ أی السبب المباشر لتغیّر الأجسام فی أعراضها، وأمّا الذی یجب انتهاء سلسلة المحرّكات إلیه فهو المحرّك الإلهیّ أی موجد الحركة والمتحرّك، فلا تهافت بین القاعدتین. وربما یفسّر المحرّك الإلهیّ بالعلّة الغائیّة لحركات الأجسام، بناءاً على كون حركات الأفلاك معلولة لشوق نفوسها إلى التشبّه بالمفارقات، وكون الواجب تعالى غایة قصوى لجمیع الموجودات، فتأمّل.
هذا البرهان یبتنی على خمس مقدّمات هی: تجرّد النفس، وحدوثها، وإمكانها، واحتیاجها إلى سبب غیر جسمانیّ، ولزوم انتهاء سلسلة الأسباب المجرّدة إلى الواجب بالذات. والمقدّمة الثانیّة تتبیّن ببرهان یبتنی على امتناع تمایز النفوس قبل الأبدان وامتناع تناسخها بعدها، والمقدّمة الثالثة متفرّعة علیه. وأمّا المقدّمة الأخیرة فیحتاج إثباتها إلى المقدّمات المأخوذة فی سائر البراهین كما فی البرهان السابق. ومع ذلك فقد وصفه صدر المتألّهین بأنـّه شریف جدّاً.(1)
هذا البرهان یبتنی على أربع مقدّمات مترتّبة هی قابلیّة الأجسام للتغیّر، وحدوثها، واحتیاجها إلى علّة غیر جسمانیّة، وبطلان الدور والتسلسل. والمتكلّمون یرون أنّ تغیّر الأعراض كافٍ فی اثبات حدوث الجواهر الجسمانیّة، وأنّ الحدوث یكفی فی
1. راجع: نفس المصدر: ص4447؛ وراجع: المبدء والمعاد: ص18ـ21؛ والمطارحات: ص402403.
إثبات احتیاجها إلى العلّة، وأنّ القدم الزمانیّ والتجرّد ینحصران فی الواجب تعالى فیتوسّلون لإثبات انتهاء الأسباب إلى سبب قدیم ومجرّد بإبطال الدور والتسلسل. لكن استلزام تغیّر الأعراض لحدوث الأجسام غیر بیّن ولا مبیّن كما نبّه علیه الاُستاذ(قدسسره) إلاّ على القول بالحركة الجوهریّة، والحدوث إنّما هو أمارة على الإمكان الذی هو ملاك الحاجة. فینبغی أخذ ذلك مقدّمة اُخرى. والتجرّد كالقدم الزمانیّ لا یلازم وجوب الوجود، فلتؤخذ المقدّمة الأخیرة لإثبات لزوم انتهاء العلل إلی الواجب بالذات، كما مرّ نظیره فی البرهانین الأخیرین.
قد مرّ البحث عنه فی الفصل الثالث من المرحلة الرابعة، وقد أشرنا هناك إلى بعض ما یترتّب علیه من النتائج تحت الرقم (62) وسوف تلاحظ الاستفادة منه فی الفصل التالی لإثبات بساطة وجود الواجب تعالى.
ومجموع ما استدلّ به فی هذا الكتاب لإثبات المسألة أربعة براهین: الأوّل ما أشار إلیه فی كلا الموضعین من تساوق المهیّة مع الإمكان ممّا قد ثبت فی الفصل الأوّل من تلك المرحلة فینتج أن لا مهیّة لغیر الممكن. والبرهان الثانی أیضاً قد مرّ ذكره تفصیلاً، وإنّما أعاده ههنا تمهیداً لذكر إشكال لم یذكر هناك ودفعه. والبرهان الثالث مذكور هناك فقط، وخصّ البرهان الرابع بالذكر ههنا.
هذا هو الإشكال الذی أشرنا إلیه آنفاً، وحاصله أنّه قد ذُكر فی هذا البرهان أنّه لا
یجـوز كون المهیّة المفروضـة للواجب علّةً لوجودها لاستلزامه تقدّمها ـ وهی علّة فاعلة ـ على الوجود المعلول. فیرد علیه النقض بتقدّم القابل فی المهیّة الممكنة، حیث إنّها تقبل الوجود من الفاعل فیلزم تقدّمها حتّى تصحّ نسبة القبول إلیها. فكما أنّ تقدُّم القابل هناك غیرُ ضارٍّ فلیكن تقدُّم الفاعل ههنا كذلك.
وحاصل الجواب أنّ القابل على قسمین: قابل حقیقیّ هو علّة مادّیة للمجموع منه ومن الصورة التی یقبلها، وهو متقدّم بالطبع لكونه جزء العلّة؛ وقابل اعتباریّ یختصّ قبوله بوعاء التحلیل الذهنیّ حیث ینحلّ الموجود إلى مهیّة ووجود. وهذا القبول الاعتباریّ لا یعنی إلاّ وقوع المهیّة موضوعاً للقضیّة المترتّبة على ذلك التحلیل، فلا یستلزم تقدّماً حقیقیّاً لها على الوجود. وأمّا فرض فاعلیّة المهیّة للوجود العینیّ فمعناه تأثیرها الحقیقیّ فیه ویستلزم تقدّمَها بالوجود. فالوجود الذی هو ما فیه التقدّم لو كان نفس الوجود الذی فُرض معلولاً لزم تقدّم الوجود على نفسه، ولو كان وجوداً آخر نُقل الكلام إلیه، وهلّم جرّاً.
واعلم أنّ هذا الإشكال هو للإمام الرازیّ،(1) وزعم صدر المتألّهین وروده فقال «هذه الحجّة غیر تامّة عندنا لأنّها منقوضة بالمهیّة الموجودة...»(2) لكن دفعه سیّدنا الاُستاذ(قدسسره) وأعلن أنّها حجّة تامّة لاغبار علیها.
هذه الحجّة هی التی أقامها شیخ الإشراق،(3) وحاصلها أنّه لو كان للواجب مهیّة لكانت داخلة إمّا فی مقولة الجوهر وإمّا فی إحدى المقولات العَرَضیّة، لانحصار
1. راجع: المباحث المشرقیة: ج1، ص37؛ وراجع: التلویحات: ص34؛ وراجع: الأسفار: ج1، ص98.
2. راجع: نفس المصدر: ج6، ص48.
3. راجع: المطارحات: ص391ـ392؛ وراجع: الأسفار: ج1، ص106ـ108؛ وج6: ص5657.
المهیّات فیها. فلو كانت من مقولة الجوهر كان الجوهر جنساً لها، فاحتاج إلى فصل یقوّمه، والاحتیاج أمارة الإمكان. ومن طریق آخر: لا شكَّ فی احتیاج بعض أنواع الجوهر إلى الفصل، والنوع یشترك مع الجنس فی ما یجوز وما لا یجوز، فما جاز لنوع جاز لجنسه، وكذا ما یمتنع علیه أو یجب له. فجنس الجوهر یتّصف بالصفة الإمكانیّة لاتّصاف بعض أنواعه بها. فلا یجوز أن تكون المهیّة المفروضة للواجب داخلة تحت مقولة الجوهر، وبطریق أولى لا یجوز دخولها تحت المقولات العَرضیّة، لكون الحاجة فیها أبینَ، فینتج أن لا مهیّة له سبحانه.
ویمكن المناقشة فی هذه الحجّة بأنّ حصْر جمیع المهیّات فی المقولات ممنوع، وقد صرّح صدر المتألّهین(1) بأنّ الاندراج فی المقولات یختصّ بالمهیّات المركّبة من الأجناس والفصول، فلا مانع عقلاً من فرض مهیّة بسیطة غیر مركّبة من الجنس والفصل ولا داخلة فی شیء من المقولات. مضافاً إلى ما مرّ من أنّ الجوهر والعرض لیسا مفهومین جنسیّین، بل هما من المعقولات الثانیة، كما اختار شیخ الإشراق نفسُه فی بعض كتبه،(2) فراجع الرقم (111).
قد مرّ بیان أقسام الضرورة فی الفصل الأوّل والفصل الثالث من المرحلة الرابعة. والضرورة الأزلیّة مأخوذة من مادّة قضیّة لا یشترط ثبوت المحمول لموضوعها بشیء حتّى وجود الموضوع الذی یشترط فی الضروریّة الذاتیّة. فإنّ هذا الشرط إنّما یتصوّر فی ما كان الموضوع ذا مهیّة لكن فرضها معدوم، كما أنّ بقاء الوصف إنّما یشترط فی ما یمكن زوال الوصف عنه.
1. نفس المصدر: ج4، ص6.
2. راجع: حكمة الإشراق: ص61 و 71.
بعد الفراغ عن البحث عن وجود الواجب تبارك وتعالى تجیء النوبة إلى البحث عن بساطته ووحدته ونفی أیّ كثرة عنه سبحانه. فإنّ الكثرة قد تفرض مع الوحدة، وهی الكثرة فی ذات الشیء ولازمها التركّب، وقد تفرض دون الوحدة ولازمها تعدّد الذات، وسیأتی البحث عنها فی الفصل التالی.
ثمّ الكثرة الداخلیّة والتركّب فی الذات قد تتصوّر من أجزاء موجودة بالقوّة، وهی الأجزاء المقداریّة ولازمها الجسمیّة، أو من أجزاء موجودة بالفعل، وتلك الأجزاء قد تعتبر فی الوجود الخارجیّ وهی عندهم عبارة عن المادّة والصورة الخارجیّتین، وتختصّ أیضاً بالأجسام. وقد تعتبر فی المهیّة الذهنیّة وهی الأجناس والفصول إذا اُخذت لا بشرط، والموادّ والصور العقلیّة إذا اُخذت بشرط لا. وقد مرّ فی المرحلة الخامسة أنّ الأجناس والفصول عندهم مأخوذة من الموادّ والصور الخارجیّة إذا كان هناك تركیب خارجیّ، وكان صدر المتألّهین ممّن یصرّ على أخذ الجنس من الهیولى الاُولى، وإن كان ذلك قابلاً للمناقشة. وإذا لم یكن الموجود الخارجیّ مركّباً من المادّة والصورة اعتبر العقل له جنساً وفصلاً إذا كان له مشارك فی معنىً ماهویّ، وهو التركیب العقلیّ كما فی الأعراض والمجرّدات. وأمّا إذا فرضنا موجوداً له مهیّة بسیطة غیر مشاركة لمهیّة اُخرى فی معنىً ذاتیّ لم یتصوّر له تركیب ماهویّ فی الذهن أیضاً، لكن للعقل أن یحلّل ذلك الموجود إلى مهیّة ووجود إذا كان ممكن الوجود، ولهذا قالوا: «كلّ ممكن زوج تركیبی» فالبساطة الحقیقیّة التامّة إنّما تختصّ بموجود لا مهیّة له مطلقاً، ویعبّر عنها بالصرافة، ولازمها اللاتناهی المطلق.
هذا البرهان یهدف إلى نفی الأجزاء بالفعل عن الواجب تعالى،(1) سواء فُرضت الأجزاء خارجیّة أو ذهنیّة. ویبتنی على ما مرّ فی الفصل السابق من نفی المهیّة عنه سبحانه. وتقریره أنّ الأجزاء الذهنیّة وهی الأجناس والفصول هی التی تشكّل الحدّ، والحدّ یختصّ بالمهیّة ـ وإن لم یكن العكس ثابتاً لصحّة فرض مهیّة بسیطة غیر مركّبة من جنس وفصل ـ فإذا لم تكن لموجود مّا مهیّةٌ لم تكن له حدّ، فلم تكن له أجزاء ذهنیّة من الأجناس والفصول. ثمّ بالنظر إلى أنّ الموجود الخارجیّ إذا كان مركّباً من مادّة وصورة كان له جنس وفصل لا محالة ـ وإن لم یكن عكسه صادقاً لثبوت الجنس والفصل لبعض البسائط الخارجیّة أیضاً كالأعراض والمجرّدات ـ وقد ثبت أنّ ما لا مهیّة له فلا جنس له ولا فصل، فینتج أنّ ما لا مهیّة له لا جزء خارجیّاً له، فلیس مركّباً من المادّة والصورة الخارجیّتین، كما أنّه لا یكون مركّباً من مادّة وصورة عقلیّتین أیضاً لأنّهما الجنس والفصل مأخوذین بشرط لا.
هذا البرهان(2) أیضاً ینفی الأجزاء الفعلیّة من طریق أنّ للأجزاء تقدُّماً بالطبع على الكلّ، فیحتاج الكلّ إلیها ویتوقّف علیها ویتأخّر عنها، وكلّ هذه أمارات الإمكان.
هذا البرهان(3) كسابقیه یرمی إلى نفی الأجزاء بالفعل، وتقریره أنّ الأجزاء المفروضة
1. راجع: الأسفار: ج6، ص103؛ وراجع: النجاة: ص227ـ228.
2. راجع: المباحث المشرقیة: ج2، ص456؛ و لأسفار: ج6، ص100؛ والمبدء والمعاد: ص41.
3. راجع: الأسفار: ج6، ص102ـ103؛ والمبدء والمعاد: ص4142.
إمّا أن تكون كلّها واجبة الوجود وإمّا أن یكون بعضها أو كلّها ممكن الوجود، والفرض الأوّل یَبطل بعدم حصول التلاحم بین الواجبین المفروضین، لكون النسبة بینهما إمكاناً بالقیاس، ممّا یكشف عن عدم تلازم بینهما مطلقاً، مع أنّ الأجزاء یجب أن تتلاحم وتتلازم فی الكلّ، وإلاّ كانت اُموراً كثیرة مستقلّة لا واحداً مركّبا من الأجزاء. فیرجع الفرض إلى تعدّد الواجب لا تركّبه، وسیأتی الكلام فیه، والفرض الثانی یستلزم توقّف الواجب على الممكن وهو محال، ویستلزم أیضاً دخول المهیّة فی حقیقة الواجب، وقد مرّ بطلانه فی الفصل السابق. مضافاً إلى أنّه یُنقل الكلام حینئذ إلى الممكن الذی یشكّل جزءاً للواجب ویتساءل: هل هو معلول للواجب المتشكّل منه ومن غیره، أو معلول لغیر هذا الواجب، ولا ثالث لهما، لاحتیاج الممكن أیّاً ما كان إلى علّة. فلو فرض معلولاً لهذا الواجب استلزم تقدُّم الشیء على نفسه بمرتبتین، ولو فرض معلولاً لواجب آخر بالمباشرة أو بالتوسیط استلزم كون الواجب معلولاً لغیره، وهو مناقض لوجوب وجوده.
هذا البرهان هو الذی اُقیم على نفی الأجزاء بالقوّة ـ وهی الأجزاء المقداریّة ـ عن الواجب تعالى.(1) وحاصله أن معنى كون موجود ذا أجزاء مقداریّة هو إمكان انقسامه إلى أجزاء بالفعل ولو فی نظر العقل، فتلك الأجزاء إمّا أن تكون على فرض تحقّقها بالفعل ممكنةً وإمّا أن تكون واجبة، وعلى الأوّل یلزم كون الأجزاء المقداریّة مغایرة الحقیقة للكلّ، وهو محال، وعلى الثانییلزم كون الأجزاء الواجبةموجودة بالقوّة، والوجود بالقوّة ینافیوجوبوجودها. ویرد على الفرضینجمیعاً أنّهما یستلزمان إمكان زوال الواجب بانقسامه إلى الأجزاء، وهو یناقض وجوب وجوده. فلیُجعل هذا برهاناً آخر.
1. راجع: الأسفار: ج6، ص101.
وههنا یعالج مسألة البساطة بمعناها الأدقّ، وهو كون الوجود بحیث لا ینتزع عنه مفهوم عدمیّ یحكی عن أی قصور ونقص ومحدودیّة فیه. ویمكن إثبات ذلك بالنظر إلى أنّ المهیةّ إنّما تحكی عن حدود الوجود، فكلّ ذی مهیّة فهو ناقص محدود الوجود من جهة من الجهات، فنفی المهیّة عن الواجب یُنتج نفی أیّ حدّ ونقص عنه، فیثبت صرافة وجوده ولا تناهیه المطلق. وقوله «من السلوب» بیان للموصول فی قوله «ما یتّصف والمراد أنّ من المركّب ما یحصل من تشافع الجهات الوجودیّة والعدمیّة، لا من خصوص الأعدام والسلوب. فاتّصاف موجود بوصف سلبیّ ـ إذا كان راجعاً إلى سلب الكمال ـ هو نوع من التركّب، ویحصل بتحلیل العقل ذلك الموجودَ الناقص إلى حیثیّة وجودیّة واُخرى عدمیّة.
هذا البیان یهدف إلى إثبات أنّ كلّ هوّیة یُسلب عنها كمال وجودیّ فهو مركّب نوعاً من التركیب الدقیق العقلیّ، ثمّ یستنتج منه أنّ كلّ ما هو بسیط الحقیقة فلا یسلب عنه شیء من الكمالات الوجودیّة. فإذا ثبتت بساطة وجود الواجب تعالى على الإطلاق عن طریق نفی المهیّة عنه كما أشرنا إلیه آنفاً یجعل ذلك صغرى لتلك الكبرى الكلّیة، ویستنتج أنّ الواجب لا یكون فاقداً لأیّ كمال وجودیّ.
لكنّ الاُستاذ(قدسسره) عمد إلى إثبات كلّ الكمالات له من طریق أنّ كلّ كمال وجودیّ للممكنات فهو فائض عن عللها، وتنتهی سلسلة العلل إلى الواجب بالذات، فهو واجد لجمیع كمالاتها على وجه أشرف وأعلى، لاستحالة كون معطی الشیء فاقداً له، ثمّ استنتج أنّه بسیط الحقیقة.
لكن غایة ما یثبت بهذا البیان أنّ له تعالى كلَّ الكمالات الحاصلة للممكنات على
وجه أتمّ وأعلى، لا أنّ له كلّ كمال مفروض. وبعبارة اُخرى لا ینافی هذا البرهان فقدَ الواجب لكمال لم تحصل ولن تحصل مرتبة منه للممكنات أیضاً، فتأمّل.
هذا الإشكال إنّما نشأ من قولهم «بسیط الحقیقة كلّ الأشیاء وتمام الأشیاء»(1) فتُوُهّم أنّ لازمه جواز حمله على كلّ الأشیاء وبالعكس، لكن قد ظهر من البیان السابق أنّ معنى ذلك الكلام هو أنّ له كمالاتِ الأشیاء على وجه أتمَّ مما هو موجود فی الأشیاء، ولا یجوز حمل شیء من الأشیاء ولا مجموعها على الله تعالى ولا بالعكس، أمّا مهیّات الأشیاء فواضح، لعدم تطرّق المهیّة والمعانی الماهویّة إلى ذاته سبحانه، وأمّا وجوداتها الخاصّة فلو وقع حمل بینها وبین الواجب لاستلزم اتّحاد الواجب بجهاتها العدمیّة أیضاً. فالحمل فی ذلك العنوان لیس ممّا یتعارف فی المحاورات، بل هو من قبیل حمل الحقیقة والرقیقة، وقد مرّ تحت الرقم (215) أنّ مرجعه إلى حمل «ذی هو» فیكون المعنى أنّ بسیط الحقیقة واجد لجمیع الكمالات الوجودیّة على وجه أشرف وأعلى ممّا یوجد فی الممكنات.
ربما یظهر من بعض كلمات الشیخ وغیره(2) أنّه إذا ثبت أنّ الواجب تعالى هو نفس
1. نفس المصدر: ص110ـ118.
2. راجع: التعلیقات: ص61؛ وراجع: الفصل السابع من المقالة الأولى والفصل الخامس من المقالة الخامسة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص506، و 570؛ وراجع: التلویحات: ص36؛ والقبسات: ص76.
الوجود المتشخّص بذاته وأنّه لا مهیّة له ثبتت وحدته أیضاً، لأنّ الكثرة إنّما تتصوّر فی أفراد مهیّة كلّیة غیر متشخّصة بذاتها، فیتشخّص كلّ فرد منها بعوارض مشخّصه تخصّه، وحیث إنّ الواجب تعالى لیس إلاّ وجوداً بحتاً بسیطاً متشخّصاً بذاته لا بعوارض مشخّصة، فلا یتصوّر تعدّده. ویمكن المناقشة فیه بمنع انحصار الكثرة فی تعدّد أفراد المهیّة، فلأحد أن یفرض واجبین یكون كلّ واحد منهما نفس الوجود المتشخّص بالذات بلا جامع ماهوىّ بینهما، كما نبّه علیه صدر المتألّهین.(1)
هذا البرهان یتشكّل من مقدّمتین: إحداهما وهی الصغرى أنّ الواجب تعالى وجودٌ صِرف، وثانیتهما وهی الكبرى أنّ كلّ ما هو صرف فلا یقبل التكرّر والتكثّر، فینتج أنّ الواجب واحد لا یمكن تعدّده. ولابدّ من توضیح لتینك المقدّمتین، فنقول:
الصِرف ـ وهو الخالص المحض ـ قد یقع نعتاً للمهیّة، ویراد به المهیّة المطلقة، ومعناه أنّ كلّ مهیّة إذا جُرّدتْ عن جمیع العوارض المشخّصة فهی أمر وحدانیّ. وهذه الوحدة هی الوحدة النوعیّة فی الأنواع والوحدة الجنسیّة فی الأجناس، ولا تتّصف بها إلاّ المهیّة المطلقة فی وعاء الذهن بما أنّها مفهوم، لا بما أنّ لها وجوداً ذهنیّاً، فإنّ وجودها الذهنیّ یتكثّر بتكثُّر التصوّرات والأذهان، كما أنّ الكلّی الطبیعیّ، وهی المهیّة المطلقة من قید الإطلاق أیضاً یتكثّر بتكثُّر الأفراد الخارجیّة لصدقها على المهیّة المخلوطة. وبالجملة فهذه الصرافة المفهومیّة لا تمتّ إلى صرافة وجود الواجب بصلة أصلاً، فلا تغفل.
وقد یقع الصِرف نعتاً للوجود، وهذا على ضربین: فقد یراد به قصر النظر على الوجود العینیّ لموجود مّا بلا التفات إلى خصوصیّاته وحدوده ونقائصه ممّا یصیر
1. راجع: الأسفار: ج1، ص129.
منشأً لانتزاع المهیّات وسائر المفاهیم، كما فی توجّه النفس إلىوجودها العینیّ المشهود لها حضوراً من غیر أن تلاحظ خصوصیّاته من العلیّة والمعلولیّة وغیرها ومن غیر أن تلاحظ حدودها التی هی منشأ انتزاع مهیّة النفس. فهذا المعنى من الصرف یتّصف به كلّ وجود عینیّ، ویوصف بأنّه لا یتكرّر بالمعنى الذی مرّ فی الفصل الخامس من المرحلة الاُولى، ویرجع إلى نفی تماثل الوجودین من جمیع الجهات. وهذا المعنى أیضاً غیر مراد ههنا، لأنّ غایة ما یستفاد منه أنّه إذا فرض واجبان كان لكلّ منهما جهة امتیاز تخصّه، وهذا هو الذی یفید للبرهان الآتی، دون هذا البرهان.
وقد یراد بصرافة الوجود كونه بحیث لا یمكن انتزاع مفهوم ماهویّ وعدمیّ منه، ویساوق بساطة الحقیقة واللاتناهی المطلق على ما مرّ ذكره فی آخر الفصل السابق، وهو الذی یفید فی هذا البرهان، وعلیه یحمل كلام شیخ الإشراق حیث قال: «صِرف الوجود الذی لا أتمَّ منه كلّما فرضته فإذا نظرت فهو هو، إذ لا میز فی صِرف الشیء».(1)
وأمّا الكبرى فإن اُرید بكلّیتها ما یشمل صرافة المهیّة وصرافة الوجود بالمعنى الأوّل كان معناها جمعَ حقائقَ مختلفةٍ فی لفظ مشترك، فإنّ إطلاق الصِّرف على المعانی المذكورة أشبهُ بإطلاق المشترك اللفظیّ على معانیه، كما أنّ نفی التكرّر والتكثّر فی كلّ مورد یعطی معنىً خاصّاً بذلك المورد. وإن اُرید بها صرافة الوجود بالمعنى الثانی كانت منحصرة فی مصداق واحد هو ذات الواجب تبارك وتعالى، فالكلیّة إنّما هی باعتبار فرض مصادیق متعدّدة، كما یقال إنّ النسبة بین كلّ واجبین مفروضین هی الإمكان بالقیاس. وكیف كان فالذی یفید فی هذا البرهان هو أنّ الوجود الصرف الذی لا أتمَّ منه والذی یلازم اللاتناهی المطلق واحد بالوحدة الحقّة الحقیقیّة، ولیست قابلة للتكثّر والتكرّر بوجه.(2) وقد تبیّنت هذه المقدّمة فی آخر الفصل السابق.
1. راجع: التلویحات: ص35.
2. راجع: الأسفار: ج1، ص135ـ138؛ وراجع: الرقم (66) من هذه التعلیقة.
لا یقال: لازم هذا البرهان أن لا یتحقّق وجود لأیّ شیء آخَرَ ولو كان مخلوقاً له تعالى، لأنّ فرض أیّ وجود مبائن له یعنی خلوَّ الأوّل عنه، ویستلزم ذلك تناهیه وشوبه بمعنى عدمیّ لأجل فقدانه للوجود الثانی.
فإنّه یقال: الذی ینافی صرافته ولا تناهیه هو أن یفرض وجود مستقلّ فی عرْضه، بأن یفرض واجب آخَرُ، وأمّا فرض وجود رابط فی طوله فلا ینافی صرافته ووجدانه لكلّ كمال وجودیّ، فإنّ الوجود الإمكانیّ هو عین الفقر والربط والتعلّق، ولا استقلال له حتّى یعدّ ثانیاً للواجب تعالى، وهو سبحانه واجد بوجوده البسیط الأحدیّ كلَّ كمال مفروض على وجه أتمّ وأعلى.
قال شیخ الإشراق بعد ما استدلّ للتوحید بما یبتنی على نفی المهیّة عن الواجب تعالى: «وأمّا الذی یطول فی الكتب من البرهان على وحدة واجب الوجود... فإنّما یتقرّر إذا بُیّن أنّ الوجود لا یصحّ أن یكون اعتباریّاً لواجب الوجود ولا زائداً على المهیّة، وإن لم یتبیّن هذا فیقول القائل: یشتركان فی وجوب الوجود وهو اعتباریّ لا وجود له فی الأعیان، فلیس ممّا یحتاج إلى علّة».(1) وقال أیضاً بصدد المناقشة فی برهان آخر: «یقول الخصم: وجوب الوجود لازم اعتباریّ، ولكلّ واحد منهما ذات وحدانیّة ـ إلى أن قال ـ بل إنّما یتأتّى إذا بُیّن أنّ الوجود فی واجب الوجود خاصّةً لیس باعتباریّ وإن وُضع اعتباریّاً فی غیره، وأنّ ماهیّته عین الوجود».(2)
وقد أكّد صدر المتألّهین على أنّ براهین التوحید إنّما تتمّ على القول بأصالة الوجود ونفی المهیّة عن الواجب تعالى، وأنّ هذه الشبهة شدیدة الورود على القول
1. راجع: المطارحات: ص393.
2. نفس المصدر: ص395.
بأصالة المهیّة مطلقاً.(1) وقال المحقّق السبزواریّ فی تعلیقته على الأسفار ما حاصله أنّ الشبهة المذكورة ترد على القول بكون الوجودات حقائقَ متباینةً أیضاً، لتجویزهم انتزاعَ مفهوم واحد عن حقائق متباینةٍ، فلا یمكنهم دفع هذه الشبهة.(2)
لكن یمكن أن یقال بأنّ القول بنفی المهیّة عن الواجب تعالى یكفی لدفع الشبهة وإن قیل باعتباریّة الوجود فی الممكنات، ویبقى جواب السؤال عن هذا التفصیل على ذمّتهم. وكذا یمكن دفعها على القول بتباین ذوات المهیّات فی الموجود مع القول بنفی المهیّة عن الواجب تعالى. وقد مرّ تحت الرقم (28 و 29)، أنّ التشكیك الخاصّی فی الوجود یختصّ بما بین العلل ومعالیلها دون المعالیل الواقعة فی مرتبة واحدة.
وكیف كان فقد قال صدر المتألّهین فی دفع الشبهة ما هذا لفظه: «وجه الاندفاع أنّ مفهوم واجب الوجود لا یخلو إمّا أن یكون فهمه عن نفس ذات كلّ منهما من دون اعتبار حیثیّة خارجة عنها، أیَّةَ حیثیّةٍ كانت، أو مع اعتبار تلك الحیثیّة، وكلا الشقّین مستحیلان. أمّا الثانی فلما مرّ أنّ كلّ ما لم یكن ذاته مجرّدَ حیثیّة انتزاع الوجود والوجوب والفعلیّة والتمام فهو ممكن فی حدّ ذاته، ناقص فی حریم نفسه. وأمّا الأوّل فلأنّ مصداق حمل مفهوم واحد ومطابق صدقه بالذات ـ وبالجملة ما منه الحكایة بذلك المعنى وبحسبه التعبیر عنه به مع قطع النظر عن أیّة حیثیّة وأیّةِ جهة اُخرى كانت ـ لا یمكن أن یكون حقائقَ مختلفة الذوات، متباینة المعانی، غیرَ مشتركةٍ فی ذاتیّ أصلاً».(3) وقال فی موضع آخر: «لو كان فی الوجود واجبان لذاتیهما كان الوجود الانتزاعیّ مشتركاً بینهما كما هو مسلّم عند الخصم، وكان ما
1. راجع: الأسفار: ج1، ص131؛ وج6: ص5860؛ والمبدء والمعاد: ص53.
2. راجع: الأسفار: ج6، ذیل الصفحة 58 و 59.
3. نفس المصدر: ج1، ص133.
بإزائه من الوجود الحقیقیّ مشتركاً أیضاً بوجه ما، فلابدّ من امتیاز أحدهما عن الآخر بحسب أصل الذات، إذ جهة الاتّفاق بین الشیئین إذا كانت ذاتیّة لابدّ وأن یكون جهة الامتیاز والتعیّن أیضاً ذاتیّاً، فلم یكن ذات كلّ منهما بسیطة، والتركیب ینافی الوجوب كما علم».(1)
حاصله أنّه لو فرض واجبان كان لكلّ منهما ما لیس للآخر من الكمال الوجودیّ، لكنّ الواجب صِرفٌ بسیطٌ لا یفقد أیّ كمال، فلیس إلاّ واحداً. فهذا البرهان یرجع إلى البرهان الأوّل، والفرق بینهما هو الفرق بین البیان المستقیم والخلفیّ.
ونقله عنه فی الأسفار ثمّ قال: «هذا مجملٌ تفصیلُه ما سبق من البیان». والظاهر أنّه إشارة إلى البرهان المذكور قبله: «لو تعدّد الواجب فإمّا أن تتّحد المهیّة فی ذلك المتعدّد أو تختلف، وعلى الأوّل لا یكون حملها على كثیرین لذاتها، وإلاّ لما كانت مهیّتها بواحدة، فیلزم تحقّق الكثیر بدون الواحد. وعلى الثانی یكون وجوب الوجود عارضاً لهما، وكلُّ عارض معلول إمّا لمعروضه فقط أو بمداخلة غیره، والقسمان باطلان: أمّا الأوّل فلاستیجاب كونه علّة نفسه وأمّا الثانی فأفحش».(2) ولا ریب أنّ المراد بالمهیّة ههنا هو «ما به الشیء هو هو» فلا ینافی نفی المهیّة بمعنى «ما یقال فی جواب ما هو» عنه تعالى.
وللشیخ عبارات فی التعلیقات قریبة منها، كقوله «لا یصحّ فی واجب الوجود
1. نفس المصدر: ج6، ص60.
2. راجع: نفس المصدر: ص6263؛ والمقاومات: ص188ـ189.
الاثنینیّة، فإنّه لا ینقسم، لأنّ المعنى الأحدیّ الذات لا ینقسم بذاته، فإن انقسم هذا المعنى ـ وهو وجوب الوجود ـ فإمّا أن یكون واجباً فیه أو ممكناً أن ینقسم، وكلا الوجهین محال فی واجب الوجود، فإنّه غیر واجب فیه أن ینقسم لأنّه بذاته واجب ولا علّة له فی وجوده، فهو أحدیّ الذات، والإمكان منه أبعد».(1) ولعلّ التعبیر بالانقسام بدلاً عن التعدّد والتكثّر ـ كما عبّر به الفارابیّ أیضاً ـ هو لأجل الإشارة إلى حقیقته العینیّة دون مفهوم الواجب.
وقال فی موضع آخر: «فإن تكثَّر واجب الوجود وكان تكثُّره بذاته لم یكن واحد أصلاً ولم تكن كثرة أیضاً، فیبطل أن یوجَد الواحد من واجب الوجود، فإذن لا یتكثّر معنى واجب الوجود. وواجب الوجود شخصه فی ذاته لا یتشخّص بغیر ذاته».(2)
وقال أیضاً: «لا یصحّ فی واجب الوجود أن یتكثّر لا فی معناه ولا فی تشخّصه، والشیء إذا تكثّر فإمّا أن یتكثّر فی معناه، وكلّ معنى فإنّه فی ذاته واحد لا یتكثّر فی حقیقیته، وإمّا فی تشخّصه، فإنّ شخص واجب الوجود أنّه هو، فتشخُّصه و«أنّه هو» واحد، وهو نفس ذاته وحقیقته».(3)
وأحسن كلماته فی هذا الباب هو قوله: «إن كان واجب الوجود اثنین، فكلّ واحد منهما إمّا أن یكون وجوب الوجود وهویّته شیئاً واحداً فیكون كلُّ ماهو واجب الوجود هو بعینه، وإن كان وجوب الوجود غیر هویّته لكنّه یختصّ به ویقارنه، فاختصاصه به إمّا لذاته أو لعلّة، فإن كان لذاته ولأنّه واجب الوجود كان كلّ ما هو واجب الوجود هو بعینه، وإن كان لسبب كان معلولاً».(4)
1. راجع: التعلیقات: ص37.
2. نفس المصدر: ص184.
3. نفس المصدر: ص61.
4. راجع: نفس المصدر: ص184 و 182 و 183؛ وراجع: النمط الرابع من الإشارات؛ والقبسات: ص76ـ77؛ والنجاة: ص229ـ230؛ وراجع: الفصل السابع من المقالة الاُولى، والفصل الخامس من المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء.
هذا الفصل یحاذی ما عقده فی الأسفار بهذا العنوان «فی أنّ واجب الوجود لا شریك له فی الإلهیّة وأنّ إله العالم واحد»(1) وقال فی وجه إفراده بالذكر: «إذ مجرّد وحدة الواجب بالذات لا یوجب فی أوّل النظر كون الإله واحداً». ولعلّ النكتة فی الإتیان بالربوبیّة والربّ ـ بدلاً عن الإلهیّة والإله ـ أنّ الأصل فی معنى الإله هو المعبود، والمراد بهذا الفصل بیان التوحید فی الخلق والتدبیر، فكان الأنسب به مفهوم الربوبیّة.
ثمّ إنّه ذكر بیاناً مبنیّاً على وحدة الواجب فی وجوب الوجود، حاصله أنّه لمّا ثبتت وحدة الواجب بالذات وكون ما سواه ممكناً بالذات ثبت استناد ما سواه إلیه، لاحتیاج الممكنات إلى الواجب بالذات بلا واسطة أو مع الواسطة، فالكلّ من عند اللّه.(2)
وذكر برهاناً آخر مبتنیاً على وحدة العالم ونسبه إلى أرسطو، وحاصله أنّ العالم الجسمانیّ واحد وحدةً شخصیّة متلازمة الأجزاء، وكلّ ما كان كذلك كان له علّة واحدة. وأمّا العقول فهی علل متوسّطة لهذا العالم، وأمّا النفوس فهی صور مدبّرة للأبدان، فجمیع ما سواه یستند إلیه، وهو المطلوب.(3) وقد بسط القول فی إثبات وحدة العالم على ما هو المأثور من المتقدّمین(4) وفیه مواقع للنظر.
ثمّ إنّه حاول تطبیق مفاد الآیة الكریمة «لَوْ کَانَ فِیهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا»(5) على هذا البرهان قائلاً «ولا یبعد أن یراد بالفساد الانتفاء رأساً. ووجه الدلالة أنّ المراد
1. راجع: الأسفار: ج6، ص92.
2. نفس المصدر: ص93ـ94؛ وراجع: المبدء والمعاد: ص55.
3. راجع: الأسفار: ج6، ص94ـ100؛ وراجع: المبدء والمعاد: ص5864.
4. راجع: النجاة: ص136ـ138.
5. سورة الأنبیاء، الآیة 22.
أنّه لو تعدّد الإله (تعالى عن ذلك) لزم أن یكون العالم الجسمانیّ وما ینوط به متعدّداً، واللازم باطل كما مرّ، فالملزوم مثله، كما وضح من قوله «إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلی بَعْضٍ».(1)
وجدیر بالذكر أنّ وحدة العالم قد تُراد بها الوحدة الاتّصالیة، وهی التی تلوح من كلام المعلّم الأوّل، وقد یراد بها أنّ للعالم صورةً طبیعیّةً شخصیّة، وهو الذی یظهر من بعض ما نُقل عنه فی غیر هذا الموضع،(2) وقد یراد بها أنّ له نفساً مدبّرةً تسمّى بالنفس الكلّیة، فیصیر العالم مع تلك النفس أكبر موجود حیّ، ویعبّر العرفاء، عنه بالإنسان الكبیر، كما أنّهم قد یعبّرون به عن كلّ ما سوى اللّه،(3) وقد تراد بها وحدة النظام بالنظر إلى ما لأجزائها من الفعل والتأثیر فی بعضها والانفعال والتأثّر عن بعضها، وهو الذی یظهر من كلام بهمنیار، وقد ركّز علیه الاُستاذ(قدسسره) فی بیانه فی هذا الفصل.
أمّا الوجه الأوّل فقد تصدّى المعلّم الأوّل لإثباته من طریق نفی الخلأ ـ على ما حكی عنه، وأمّا الوجهان المتوسّطان فلم یقم علیهما برهان فی ما نعلم، وما ذُكر لهما من بیان فهو أشبه بالخطابة. وأمّا الوجه الأخیر فمستند إلى التجارب الحسّیة، لكنّه لا یكفی دلیلاً على الوحدة الشخصیّة الحقیقیّة للعالم حتّى تصدق علیه الكبرى القائلة «المعلول الواحد الشخصیّ لا یصدر إلاّ عن علّة واحدة بالشخص»، ولعلّه لأجل ذلك عدل الاُستاذ(قدسسره) عن هذا البرهان إلى ما یأتی بیانه.
وأمّا الآیات الكریمة فالظاهر عدم انطباق مفادها على هذا البرهان، وتفسیر الفساد بالانتفاء وعدم التحقّق رأساً مشكل جدّاً، خاصّةً بالنظر إلى قوله تعالى «فیهما» فتأمّل. ولعلّ ما سیأتی من البیان هو الأوفق بمفادها، فانتظر.
1. راجع: الأسفار: ج6، ص99؛ والآیة هی 91 من سورة «المؤمنون».
2. راجع: الفصل العاشر من الفن الثانی من طبیعیّات الشفاء؛ والأسفار: ج7، ص113؛ والقبسات: ص415.
3. راجع: القبسات: ص340 و 413414 و 425 و 460462؛ وراجع: الأسفار: ج5، ص349.
هذا البیان یتشكّل من ثلاث مقدّمات: هی وحدة نظام العالم الجسمانیّ، ومعلولیّته لنظام عقلیّ، ومعلولیّة ذلك لنظام ربّانیّ، فینتج أنّ هذا العالم مخلوق مدبَّر للواجب تعالى بوساطة العالم العقلیّ، فهو ربّ العالمین. ولك أن تعتبر له مقدّمة رابعة هی أنّ علّة علّة الشیء علّة لذلك الشیء.
أمّا المقدّمة الاُولى فتتبیّن بارتباط أجزاء العالم بعضها ببعض، فإنّ الأجزاء الحالیّة ترتبط بالأجزاء التی سوف تحدث من حیث إنّها تشكّل موادّها وتهیّىء الأرضیّة لحدوثها، كما أنّها حدثتْ من الأجزاء السابقة. والأجزاء المتزامنة یرتبط بعضها ببعض بأنواع من التأثیر والتأثّر والفعل والانفعال ممّا یؤدّی إلى نموّ بعضها وذبول بعضها الآخر إلى غیر ذلك. فماء البحر مثلاً یتسخّن بضوء الشمس فیتبخّر ویصعد إلى الجوّ سحاباً، ثمّ یتبدّل بتأثیر العوامل الجوّیّة إلى المطر فینزل على سطح الأرض فینمو به النبات، فیأكله الحیوان، كما أنّ الإنسان یتغذّى به وبلحم الحیوان. فلكلّ جزء من أجزاء العالم ارتباط عرْضیٌّ بالأجزاء المتزامنة وارتباط طولیٌّ زماناً بالأجزاء السابقة واللاحقة، ممّا یجعل الكلَّ منتظماً بنظام واحد شامل، فیحتاج بعضها إلى بعض فی حدوثه وبقائه ونشوئه وتحوّله.
أمّا المقدّمة الثانیة فتنحلّ إلى اُمور: أحدها وجود العالم العقلیّ، وهو الذی اُشیر إلیه فی ما مضى وسیأتی تفصیل القول فیه. وثانیها علّیته للعالم الجسمانیّ، ویعلم من وقوعه فی مرتبة علیا من مراتب الوجود بالنسبة إلى العالم الجسمانیّ واشتماله على كمالات هذا العالم بنحو أتمّ. وثالثها وحدته، ویعلم من وحدة النظام الناشیء منه، فإنّ مثل هذا النظام الواحد الجاری فی العالم الجسمانیّ لا یمكن أن یصدر عن فواعل متعدّدة، لأنّ فرض علل كثیرة لها یعنی أنّ كلّ واحد منها یستقلّ بإیجاد
قسم من هذا العالم وتدبیره بلا حاجة إلى أمر آخر، ممّا یؤدّی إلى انعزال أجزاء العالم بعضها عن بعض، وقد تبیّن خلافه.
وأمّا المقدّمة الثالثة فتنحلّ أیضاً إلى ثلاثة اُمور: أحدها وجود الواجب تعالى، وثانیها وحدته، وقد تبیّنا فی سالف الفصول. وثالثها علّیته للعالم العقلیّ، ویتبیّن بمثل ما تبیّن به علّیة العالم العقلیّ للعالم الجسمانیّ. وأمّا اعتبار النظام فی العالم العقلیّ وفی علم الواجب تبارك وتعالى فبالنظر إلى اشتمال المرتبة العالیة من الوجود على كمالات ما دونها بوجه أتمّ وأعلى، وأصل الاصطلاح للمشّائین حیث اعتبروا وجود الصور فی العالم العقلیّ وفی علم البارئ سبحانه، فافهم.
فبهذه المقدّمات یتبیّن أنّ الواجب بالذات الواحدَ فی وجوب وجوده علّةٌ للعالم العقلیّ الذی هو علّة للعالم الجسمانیّ، فتنضمّ إلیه المقدّمة الأخیرة، فیستنتج أنّه علّة لما سواه بلا واسطة أو مع الواسطة، ویثبت وحدته فی الربوبیّة.
ویمكن الاستغناء عن المقدّمة الثانیة بأن یقال: للعالم الجسمانیّ نظام واحد، ومثل هذا النظام لا یمكن أن یستند إلاّ إلى علّة مفیضة واحدة، استناداً مباشراً أو غیرَ مباشر، ولیست إلاّ الواجب بالذات. وهذا البیان یتّفق مع القول بالعقول العرْضیّة أیضاً.
بل یمكن أن یقال: إنّ هذا البیان لا یحتاج إلى سبق إثبات وحدة الواجب فی وجوب وجوده أیضاً، لأنّ المطلوب هو وحدة الربّ لهذا العالم، وهو یتمّ بهذا البیان ولو فرض وجود واجب آخر غیر فاعل لشیء أصلاً. ثمّ تنضمّ إلیه مقدّمة اُخرى هی أنّ الواجب بالذات واجب من جمیع الجهات. فیبطل فرض واجب یمكنه إیجاد العالم وقد عطّل فعله، فتثبت وحدة الواجب فی وجوب وجوده أیضاً.
ولعلّ مفاد الآیة السابقة الذكر أشدُّ انطباقاً على هذا البیان، وتقریره أنّ قوام هذا العالم هو بارتباط أجزائه بعضها ببعض، وفرض علل متعدّدة وأرباب متفرّقین له
یستلزم انعزال أجزائه بعضها عن بعض، لقیام كلّ جزء منه حینئذ بعلّته بلا واسطة أو بوساطة معلولاتها، فینعزل عن غیرها وعن معلولات غیرها، وهو یؤدّی إلى فساد هذا النظام.
هذا بیان آخر لإثبات التوحید فی الربوبیّة، ویبتنی على ثلاث مقدّمات: هی أنّ تعدُّد الآلهة یقتضی تمیّز كلّ واحد منها بكمال وجودیّ خاصّ به، وأنّ اختصاص كلّ منها بخاصّة وجودیّة یؤدّی إلى اختلاف فی أفعالها لضرورة المسانخة بین العلّة والمعلول، وأنّ ذلك یوجب عدم تلاؤم أجزاء العالم بل تدافعَها وفسادَها.
ویلاحظ علیه أنّه إن اُرید بتمیّز كلّ واحد من الآلهة المفروضین بكمال وجودیّ خاصّ ما یوجب اختلاف سنخ الكمال فیها فالمقدّمة الاُولى ممنوعة، لأنّه یكفی فی حصول التمیّز اختلافُها فی التشخّص من غیر اختلاف فی السنخ والنوع، وإن اُرید به ما یشمل اختلاف الأشخاص مع وحدة نوع الكمال فالمقدّمة الثانیة ممنوعة، لجواز أن یكونوا جمیعاً من سنخ واحد، فلا تتدافع أفعالها.
ویمكن الدفاع عنه بأنّ الكلام فی تعدّد موجودَین مجرّدَین، وقد مرّ فی آخر المرحلة الخامسة أنّ كلَّ مجرّد ینحصر فی فرد واحد، ففرض تعدّد الآلهة إنّما یتمشَّى مع فرض الاختلاف النوعی بینها لكن قد عرفت المناقشة فیه تحت الرقم (108) ولو كان ذلك أصلاً محقّقاً لكان الأولى الاستنادَ إلیه رأساً فی إثبات التوحید، فتأمّل.
وتمكن المناقشة فی المقدّمة الثالثة أیضاً بأنّ التدافع إنّما یتصوّر فی ما إذا قام الجمیع بتدبیر شیء واحد، وأمّا إذا استقلّ كلُّ منها بتدبیر جزء خاصّ من العالم فلا یحصل تدافع. نعم، هذا الفرض لا یلائم ارتباط أجزاء العالم وتلازمها، فلتُؤخذ المقدّمة الاُولى من مقدّمات البرهان السابق كمقدّمة رابعة فی هذه الحجّة.
حاصل هذا الإشكال أنّ التدافع فی التدبیر إنّما یلزم إذا لم یتوافقوا على مخطّط واحد، لكنّ الحكمة تقتضی التوافق على ما یصلح لبقاء العالم، فما المانع من أن تكون هناك آلهة متوافقون على النظام الجاری فی العالم بقیام كلّ واحد منهم بتدبیر جزء منه؟
وقد یجاب عنه بأنّ هذا لا یلائم وجوبهم بالذات، لأنّ الواجب بالذات واجب من جمیع الجهات، فلا یصحّ فرض تعطیل بعض أفعاله لأجل الآخرین.
وللمستشكل أن یقول: لا نفرض وجوب الأرباب بالذات، بل نفرض أنّهم مخلوقون للواجب بالذات، لكن یخلق كلُّ واحد منهم جزءاً من العالم ویقوم بتدبیره، إلاّ أنّه تتلاءم تلك الأفعال بحیث یحصل منها هذا النظام. وخلقهم على هذا النمط هو مقتضى حكمة الواجب بالذات.
لكن مآل ذلك إلى أنّهم لا یكونون أرباباً مستقلّین فی أفعالهم، وإنّما هم وسائط فی الإیجاد ومدبّرون للعالم من قِبل الواجب بالذات وعلى ما أعطاهم من العلم والقدرة لذلك، وتسمیتهم بالربّ لیس یعنی ما یوجب إشراكهم فی ربوبیّة الواجب، لعدم استقلالهم فی أفعالهم، بل هم المدبّرون بإذنه. ولا سبیل إلى نفی مثل هؤلاء المدبّرین، بل هناك ما یدلّ على وجودهم من النصوص الدینیّة، مثل ما یدلّ على وجود ملائكة موكّلین بالتصویر والتدبیر وتقسیم الأرزاق وتوفّی النفوس إلى غیر ذلك. والذی یوجب الشرك هو القول باستقلالهم فی هذه الأفعال وعدمِ استنادهم إلى إذن الله تكویناً كما یقول المشركون، سبحانه وتعالى عمّا یصفون.
وأمّا ما أجاب به الاُستاذ(قدسسره) فحاصله أنّ وجود هؤلاء الأرباب المفروضین إمّا أن یكون مجرّداً تامّاً فیلزم أن یكون علمهم حضوریّاً وفاعلیّتهم بالرضا ونحوه لا بالقصد والتروّی، فلا یصحّ فرض تشاورهم وتوافقهم على عمل، ولا الكفّ عمّا
یقتضیه كمالُهم وعلمُهم لأجل التوافق مع الآخرین؛ وإمّا أن یكون وجودهم متعلّقاً بالمادّة ویكون علمهم حصولیّاً فمثل هذا العلم لابدّ وأن ینتهی إلى الموجودات الخارجیّة مباشرةً أو مع الواسطة، ویكون حصوله تابعاً لوجود المعلوم متأخّراً عنه، لا سابقاً علیه مؤثّراً فیه.
هذا الفصل أیضاً یحاذی ما ذكره صدر المتألّهین، وقد أضاف الاُستاذ(قدسسره) قید «من حیث المصداق» فی عنوان الفصل، لأنّ بعض المفاهیم وإن كان مشتركاً بین الواجب والممكنات كالحیاة والعلم والقدرة وغیرها إلاّ أنّ الممكنات تختلف عنه من حیث المصداق، فهذه الصفات مثلاً زائدة على ذوات الممكنات بخلافها فی الواجب كما سیأتی البحث عنه، مضافاً إلى أنّ ما للواجب من حقیقة هذه المفاهیم وأشباهها من المفاهیم الوجودیّة هو المرتبة الغیر المتناهیة فی الشدّة والتی لا یخالطها نقص ولا عدم بخلاف الممكنات. فهذا الفصل كأنّه تفصیل لما اُجمل فی قوله تعالى «لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ»(1) وإن كان العنوان لا یخلو عن إبهام.
وجدیر بالذكر أنّ صدر المتألّهین أكّد فی هذا الفصل على نفی أیّ مناسبة بین الواجب والممكنات كالحلول والاتّحاد ونسبة النفس إلى البدن ونحوها ممّا وقع فی بعض كلمات الصوفیّة.(2)
1. سورة الشورى، الآیة 11.
2. راجع: الأسفار: ج6، ص107ـ109؛ والمبدء والمعاد: ص6466.
تنقسم المفاهیم إلی ثبوتیّة وسلبیّة، والمفاهیم الثبوتیّة قد تكون حاكیةً عن الوجودات المكتنفة بالأعدام من حیث إنّها مكتنفة بها بحیث اذا جُرّدتْ عن جهات النقص تبدّلتْ إلى مفاهیم اُخرى كمفهوم الجسم وما یشابهه من المفاهیم الماهویّة، وكمفهوم القوّة والاستعداد وما یضاهیه من المعقولات الثانیة. ومثل هذه الصفات والمفاهیم لا تتّصف به ذاته المتعالیة، لاستلزامها النقص والمحدودیّة فیه سبحانه. وقد تكون حاكیة عن الجهات الوجودیّة مطلقاً سواءً كانت مكتنفة بالأعدام أو لم تكن، فإنّها وإن انتزعتْ لأوّل مرّة عن الوجودات الفاقرة إلاّ أنّه یصحّ تجریدها من الجهات الماهویّة والعدمیّة من غیر أن تتبدّل إلى مفاهیم اُخرى. وهذه المفاهیم هی التی تشكّل الصفات الثبوتیّة للواجب تعالى كالعلم والقدرة والحیاة، بل الجمال والحبّ والبهجة وغیرها،(1) وقد مرّ فی الفصل السابق أنّ مصداق هذه المفاهیم فی الواجب یختلف عن المصادیق الممكنة.
وأمّا المفهوم السلبیّ فقد یكون سلباً محضاً كمفهوم العدم المطلق، ولا سبیل له إلى ساحة قدسه، وقد یكون سلباً إضافیّاً فالمضاف إلیه السلبُ قد یكون أمراً وجودیّاً مشترطاً بحدود عدمیّة كالجسم والمكان والزمان فیتّصف الواجب تعالى بسلوبها، لرجوع ذلك إلى سلب الحدود العدمیّة، فیؤول إلى الإثبات. وقد یكون المضاف إلیه السلبُ أمراً وجودیّاً غیر مشترط بحدود عدمیّة كسلب العلم (=
1. راجع: المبدأ والمعاد: ص148ـ160؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج2، ص494.
الجهل) وسلب القدرة (= العجز) فلا یتّصف الواجب تعالى بمثل هذه السلوب، لاستلزامه سلب كمال وجودیّ عنه وقد تحقّق بطلانه، ولإدّائه إلى التناقض، لاتّصافه بمقابلاتها.
ذكر صدر المتألّهین أنّ الصفات الثبوتیّة تنقسم إلى حقیقیّة كالعلم والحیاة، وإضافیّة كالخالقیّة والرازقیّة والتقدّم والعلّیة.(1) وظاهر كلامه خاصّةً بالنظر إلى ما مثّل به للصفات الإضافیّة أنّ المراد بها هی المفاهیم المنتزعة عن مقایسة الذات إلى شیء آخر ـ وینحصر ذلك الشیء فی أفعاله ومخلوقاته ـ فتنطبق على الصفات الفعلیّة. وأمّا جعل العالمیّة والقادریّة إضافیّة وجعل الخالق والرازق حقیقیّة ذات إضافة فیمكن توجیهه بأنّ المراد بالعالمیّة والقادریّة نفس الإضافة، وبالخالق والرازق هو المضاف. لكن لا أرى فائدة فی هذا التقسیم، فلیتأمّل.
المراد أنّ خصوصیّات أفعالنا الكمالیّةَ مستندةٌ إلى صفاتنا التی هی غیر ذواتنا، وهذه الخصوصیّات الكمالیّة موجودة فی أفعال الواجب تعالى بنحو أتمَّ، من غیر وجود صفات له، بل یكون ذاته بحیث تصدر عنها الأفعال الحكیمة من غیر حاجة إلى صفات توجبها، فالذات نائبة عن الصفات.
1. راجع: الأسفار: ج6، ص118ـ119.
وهذا القول أقرب الأقوال إلى قول الحكماء وربما یتمسّك لتأییده بكلام مولانا أمیرالمؤمنین(علیهالسلام) «وكمال توحیده نفی الصفات عنه» وقد تصدّى صدر المتألّهین لتفسیر هذا الكلام بما ینطبق على القول الحقّ.(1)
ویرد علیه أیضاً أنّ نفی أحد المتقابلین هو فی قوّة إثبات الآخر إذا لم یكن واسطة بینهما، فلا معنى لنفی الجهل والعجز مع عدم إثبات العلم والقدرة، ویؤدّی ذلك إلى التناقض. مضافاً إلى أنّ هذه المفاهیم العدمیّة إنّما تحصل من إضافة العدم إلى ملكاتها، فما لم تتصوّر تلك الملكات لم تنتزع هذه المفاهیم، وما لم تثبت تلك الملكات للموضوع لم یصحّ سلب أعدامها عنه.
الصفات الفعلیّة هی المفاهیم التی تنتزع من إضافة الذات إلى أفعالها. وتلك المفاهیم تكون ذات طرفین: یقع أحدهما على الواجب، والآخر على مخلوقاته، كالخالق والرازق وغیرهما، فلا تحكی عن حقائقَ عینیّةٍ زائدةٍ على الوجود الوجوبیّ وما هو طرف له من الوجودات الإمكانیّة، ولا تعنی إلاّ انتساب وجود المعلول إلى وجود العلّة باعتبار خاصّ. فإذا لاحظْنا وجوداً إمكانیّاً غیر مسبوق بمادّة ولا مثالٍ سابقٍ انتزعنا مفهوم الإبداع، وإذا لاحظْنا وجوداً إمكانیّاً یحتاج إلیه موجود آخرُ فی بقائه واستكماله انتزعنا مفهوم الرزق، وهكذا. ولیس فی حاق
1. نفس المصدر: ص136ـ145.
الأعیان إلاّ وجود الواجب ووجود مخلوقاته، وقد مرّ مراراً أنّ الإضافة لیست من الحقائق العینیّة، فتذكّر.
ولیست هذه الصفات الإضافیّة عین ذات الواجب، ولا عین ذوات المخلوقات، ولا منتزعةً عن أحد الطرفین بعینه، لتوقّف انتزاعها على لحاظ الطرفین.
وإذا كان المخلوق حادثاً زمانیّاً ومحدوداً بقیود وضعیّة وغیرها كان لهذه المفاهیم اعتباران: اعتبارُ انتسابها إلى الواجب، فلا تتّصف من هذه الحیثیّة بالحدوث وغیره من الصفات الإمكانیّة، واعتبارُ انتسابها إلى الحوادث المحدودة، فتتّصف من هذه الحیثیّة بالحدوث والحدود. لكنّ الإضافة بما أنّها أمر قائم بالطرفین كانت تابعة لأخسّهما.
فإذا قیل: خلق الله هذا الحادث فی هذا الزمان، فلیس معناه أنّ الخلق من حیث تعلّقه بالواجب تعالى واقع فی وعاء الزمان بحیث یحتاج إلى تصوّر زمان فی الصقع الربوبیّ، بل إنّما زمانیّته تكون باعتبار تعلّقه بالمخلوق الحادث. وبعبارة اُخرى: لا یكون الفعل والإیجاد بالمعنى المصدریّ المنسوب إلى الفاعل واقعاً فی ظرف الزمان والمكان مثلاً، بل الذی یقع فی مثل هذه الظروف هو حاصل الفعل وبمعنى اسم المصدر ومن حیث الانتساب إلیه، وهو نفس الوجود الإمكانیّ. وبهذا یفسّر ما یدلّ على قیودٍ لفعل الواجب تعالى، فتبصّر.
هذه المسألة هی من أغمض المسائل الحكمیّة. وقد بذل كبار الفلاسفة والمتكلّمین جهوداً وافرةً لتبیینها، وعقدوا مسائلَ كثیرةً فی باب العلم تمهیداً لحلّها، كالعقل
الإجمالیّ، والعلم الكلّی الحاصل من الأسباب قبل تحقّق مسبّباتها، وغیرهما ممّا ركّز علیه الشیخ فی كتبه، ویكفیك نموذجاً جلیّاً لهذه الجهود ما ترى فی كتاب التعلیقات، حیث عالج هذه المسألة مرّةً بعد اُخرى، ممّا یشكّل قسماً كبیراً من هذا الكتاب.(1) ولهم أقوال عدیدة، ومباحثات طویلة، ومناقشات عنیفة، تعرّض لبعضها صدر المتألّهین،(2) وتصدّى للمحاكمة بینها، وقد مهّد نفسه مقدّمات(3) لتوضیح ما اختاره من العلم الإجمالیّ فی عین الكشف التفصیلیّ، ممّا یُعدّ أروعَ منتوجٍ للتفكیر الفلسفیّ، وأبدعَ منسوجٍ للعقل البشریّ، وإن كانت حقیقة المقصود أرفعَ ممّا یحلّق إلیه طائر الذهن الإنسانیّ، «وَلاَ یُحِیطُونَ بِشَیْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ».
قال صدر المتألّهین: «أكثر الأقوام ذاهلون عمّا حقّقناه من أن لا حضور لهذه المادّیات والظلمات عند أحد، ولا انكشاف لها عند مبادئها إلاّ بوسیلة أنوار علمیّة متّصلة بها هی بالحقیقة تمام ماهیّاتها الموجودة بها».(4)
وقال المحقّق السبزواریّ فی تعلیقته على الأسفار: «وإن سألت عن الحقّ فأقول: عدم كون هذه المادّیات والظلمات أنواراً علمیّة إنّما هی بالنسبة إلینا، وأمّا بالنسبة إلى المبادئ العالیة ـ وخصوصاً بالنسبة إلى مبدء المبادئ ـ فهی علوم حضوریّة فعلیّة ومعلومات بالذات، وإن لم تكن هذه المرتبة من العلم فی مرتبة العلم العنائیّ الذاتیّ. فحصولها للمادّة ینافی العلم فینا، إذ لسنا محیطین فلسنا مدركین نالین لها،
1. راجع: التعلیقات: ص13ـ15 و 24ـ29 و 48 و 60 و 6566 و 78 و 81 و 97 و 102 و 103 و 116 و 118 و 119ـ126 و 149 و 152ـ156 و 158ـ159 و 191ـ193.
2. راجع: الأسفار: ج6، ص169ـ289.
3. راجع: نفس المصدر: ص149ـ168؛ والمبدء والمعاد: ص76ـ123.
4. راجع: الأسفار: ج6، ص164.
وأمّا بالنسبة إلى المحیط بالمادّة وما فیها فحضورها للمادّة حضور له، إذ لم یشذّ المادّة عن حیطته، بل حضورها له بنحو أشدَّ، لأنّ لها حضوراً للفاعل بالوجوب، لأنّ نسبة المعلول إلى فاعله بالوجوب ـ إلخ ـ ».(1)
وقد مرّ ما یتعلّق بهذا الموضوع تحت الرقم (353 و 385).
وهذه العلوم على مراتبها متوسّطةٌ بین العلم الذاتیّ الذی هو عین ذاته المقدّسة والعلم الذی هو عین ذوات المادّیات، كما ذهب إلیه المحقّق السبزواریّ وسبقه إلیه شیخ الإشراق وقد مرّ تأییده. وتُسمَّى علوماً فعلیّة باصطلاحین: أحدهما بمعنى كونها عللاً لوجود ما دونها، وثانیهما بمعنى كونها فی مقام الفعل دون مقام الذات، كما أنّ العلم فی مرتبة الحوادث یُسمَّى علماً فعلیّاً بالمعنى الثانی فقط.
ولْیُعلْم أنّ كون المجرّدات علوماً للواجب كما ربما یظهر من بعض النصوص كقوله تعالى «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَیْبِ ... وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ یَابِسٍ إِلاَّ فِی کِتَابٍ مُبِینٍ»،(2) وقوله تعالى: «قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّی فِی کِتَابٍ لاَ یَضِلُّ رَبِّی وَلاَ یَنْسَى»(3) وكذا كون الحوادث علوماً للواجب كما ربما یؤیّده ما یدلّ على العلوم الحادثة له سبحانه، كقوله: «لِیَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ»،(4) وقوله «وَلَنَبْلُوَنَّکُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِینَ مِنْکُمْ وَ الصَّابِرِینَ»،(5) وقوله: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْکُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِیکُمْ ضَعْفاً»(6) إلى غیر
1. راجع: نفس المصدر: ذیل الصفحة 165.
2. سورة الأنعام، الآیة 59.
3. سورة طه، الآیة 52.
4. سورة الجنّ، الآیة 28.
5. سورة محمّد (ص)، الآیة 31.
6. سورة الأنفال، الآیة 66.
ذلك، أقول: كون هذه كلّها علوماً للواجب لا یعنی أنّها تزید فی علمه شیئاً، تعالى عن ذلك علوّاً كبیراً، بل إنّما هی أظلال لعلمه الذاتیّ، واتّصافه بها إنّما هو من قبیل اتّصافه بالصفات الفعلیّة التی مرّ شرحها تحت الرقم: (430).
الظاهر أنّ السمیع والبصیر بمفهومیهما لیسا من الصفات الذاتیّة، فإنّ مفهوم السمع غیر مفهوم العلم بالمسموع ممّا یصدق قبل وجود المسموع، وكذا الإبصار، فهما من الصفات الفعلیّة التی تنتزع عند وجود صوت یُسمع ولون یُبصَر، كقوله تعالى: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِی تُجَادِلُکَ فِی زَوْجِهَا وَتَشْتَکِی إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ یَسْمَعُ تَحَاوُرَکُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِیعٌ بَصِیرٌ»(1) وقوله تعالى: «إِنَّنِی مَعَکُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى»(2) إلى غیر ذلك. ولیس فی النصوص ما یدلّ على كونهما من الصفات الذاتیّة، ولو وجد ما ظاهره ذلك أمكن إرجاعه إلى العلم، بل كان الأولى إرجاعه إلى القدرة، كما أنّ ما یدلّ على كونه تعالى خالقاً قبل أن یَخلق یفسَّر بقدرته على الخلق. على أنّ إرجاعهما إلى العلم أو القدرة لا یعنی إثبات صفتین اُخریین فی مقام الذات، بل معناه أنّ العلم یسمّى سمعاً باعتبار تعلّقه بنوع خاصّ من المعلومات، وإبصاراً باعتبار تعلّقه بنوع آخر، أو یعتبر من حیث قدرته على خلق المسموعات والمبصرات حاضرةً عنده معلومةً له سمیعاً بصیراً بمعنى القادر على السمع والإبصار.
بل ینبغی أن یعتبر هذا نقطةَ قوّةٍ فی قوله، فراجع الرقم (353 و 385 و 432).
1. الآیة الأولى من سورة المجادلة.
2. سورة طه، الآیة 46.
قال صدر المتألّهین: «وأمّا ما نقل عن هؤلاء الأعلام من الصوفیّة فیرد على ظاهره ما یرد على مذهب المعتزلة، فإنّ ثبوت المعدوم مجرّداً عن الوجود أمر واضح الفساد، سواء نُسب إلى الأعیان أو إلى الأذهان ـ إلى أن قال ـ مع أنّ ظواهر أقوالهم بحسب النظر الجلیل لیست فی السخافة والبطلان ونُبوّ العقل عنها بأقلَّ من كلام المعتزلة فیهما».(1) لكنّه قام بتأویل كلامهم إلى ما ینطبق على مذهبه.(2)
أصل هذا الاصطلاح هو لأتباع المشّائین، حیث اعتبروا فاعلیّة الواجب تعالى بالعنایة، یَعنونَ أنّ نفس علمه كافٍ فی صدور أفعاله عنه بلا حاجة إلى قصد وداع زائدین على ذاته. لكنّهم لمّا كانوا یعتبرون علمه بما سواه حصولیّاً، وكان هذا المذهب فی علمه غیرَ مرضیّ عند الإشراقیّین أنكر صاحب الإشراق العنایة بهذا المعنى، وقال: «وأمّا العنایة فلا حاصل لها، وأمّا النظام فلزم من عجیب الترتیب والنسب اللازمة عن المفارقات وأضوائها المنعكسة كما مضى. وهذه العنایة ممّا كانوا یُبطلون بها قواعد أصحاب الحقائق النوریّة ذوات الطلسمات، وهی فی نفسها غیر صحیحة».(3)
وقال صدر المتألّهین: «وأمّا العنایة فقد أنكرها أتباع الإشراقیّین، وأثبتها أتباع
1. راجع: الأسفار: ج6، ص182ـ183.
2. نفس المصدر: ص280ـ289.
3. راجع: حكمة الإشراق: ص153.
المشّائین كالشیخ الرئیس ومن یحذوحذوه، لكنّها عندهم صور زائدة على ذاته على وجه العروض، وقد علمت ما فیه».
ثمّ قام بتفسیر لها بحیث ینطبق على مذهبه فی علم الواجب تعالى، فقال: «والحقّ أنّها عِلمُه بالأشیاء فی مرتبة ذاته علماً مقدّساً عن شوب الإمكان والتركیب، فهی عبارة عن وجوده بحیث تنكشف له الموجودات الواقعة فی عالم الإمكان على نظام أتمَّ، مؤدّیاً إلى وجودها فی الخارج مطابقاً له، أتمَّ تأدیةٍ لا على وجه القصد والرویّة. وهی علم بسیط واجب لذاته، قائم بذاته، خلاّق للعلوم التفصیلیّة العقلیّة والنفسیّة، على أنّها عنه لا على أنّها فیه».(1) وستأتی تتمة الكلام فی الفصل السادس عشر.
كأنّ الأصل فی معنى القضاء هو الإتمام، قال تعالى حكایة عن قول موسى لشعیب(علیهماالسلام) «أَیَّمَا الْأَجَلَیْنِ قَضَیْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَیَّ»،(2) ثمّ اعتبُر إتمامُ القاضی للمشاجرة وفیصلتُه للمخاصمة قضاءاً. والقضاء الالهیّ هو إتمام مراحل تحقّق الفعل. قال سبحانه: «إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا یَقُولُ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ».(3) وهذا الإتمام قد یكون باعتبار الوجود العینّی، فیسمّى قضاءاً عینیاً،(4) وینطبق على مرحلة الإیجاب التی یعتبرها العقل قبل تحقّق الوجود الإمكانیّ، حیث یَعتبر الممكنَ محتاجاً إلى العّلة، فتوجبه، فتجب، فتوجده، فتوجَد. وینطبق الإیجادُ على قوله «كن» ووجودُه على قوله: «فیكون». وقد یكون باعتبار الوجود العلمیّ، فینطبق
1. راجع: الأسفار: ج6، ص291؛ والمبدء والمعاد: ص124.
2. سورة القصص، الآیة 28.
3. سورة آل عمران، الآیة 47.
4. راجع: القبسات: ص420421؛ والأسفار: ج2، ص50.
على علم الواجب تعالى بوقوع الشیء على ما هو علیه فی ظرف وجوده، وقوعاً واجباً بإیجاب علّته التامّة. وقد مرّ أنّ لعلمه سبحانه مراتبَ منها ما ینطبق على الوسائط النوریّة التی یُسمَّى بعضها بالكتاب المبین والكتاب المكنون وأمّ الكتاب واللوح المحفوظ. فثبوت الحوادث فی ذلك الوعاء الرفیع ثبوتاً علمیّاً مطابقاً لما یوجد فی الخارج یصحّ اعتباره قضاءاً علمیّاً إلهیّاً سابقاً على الأشیاء.(1)
فالقضاء بهذا المعنى ینتزع عن مقام الفعل، أی مقام وجود المفارقات، كما أنّ القضاء بالمعنى العینیّ أیضاً ینتزع عن مقام الفعل، أی مقام وجود الكائنات. وأمّا إرجاع القضاء إلى العلم الذاتیّ فإنّه وإن كان فی حدّ نفسه معنى صحیحاً إلاّ أنّه لا ینطبق على ما ورد فی الكتاب والسنّة، فلا موجب له فضلاً عن القول بحصر القضاء فیه،(2) فتدبّر.
وجدیر بالذكر أنّه نسب القضاء إلیه سبحانه فی كتابه العزیز بوجوه اُخرى لا صلةَ لها بهذا المبحث كالقضاء بین العباد یوم القیامة، كما فی قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّکَ یَقْضِی بَیْنَهُمْ یَوْمَ الْقِیَامَةِ فِیمَا کَانُوا فِیهِ یَخْتَلِفُونَ»(3) وكالقضاء التشریعىّ والحكم الإلزامیّ المؤكّد، كما فی قوله تعالى: «وَقَضَى رَبُّکَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِیَّاهُ وَبِالْوَالِدَیْنِ إِحْسَاناً».(4) وقد یُضمَّن معنى الوحی ونحوه، كما فی قوله تعالى: «وَقَضَیْنَا إِلَى بَنِی إِسْرَائِیلَ فِی الْکِتَابِ»،(5) إلى غیر ذلك.
1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة العاشرة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: الفصل الخامس عشر من الفنّ الثالث من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: النمط السابع من الإشارات؛ وراجع: المبدء والمعاد: لصدر المتألّهین، ص125.
2. راجع: الأسفار: ج6، ص292.
3. سورة یونس، الآیة 93.
4. سورة الإسراء، الآیة 23.
5. سورة الإسراء، الآیة 4.
یعنی ضعف كلّ من القولین لأجل حصره القضاء فی أحد قسمیه. وقد عرفت أنّ القول المشهور هو الأوفق بظواهر الكتاب والسنّة.
القدر ـ بإسكان الدال وفتحها ـ هو مبلغ الشیء وحدُّه، ویستعملان كمصدرین بمعنى قیاس الحدّ وتعیینه، كالتقدیر. فالقدر أیضاً على نوعین: قدر عینیّ هو تحدُّد الشیء بحدود خاصّة لأجل ما یوجبها من العلل والأسباب، وقدر علمیّ هو تحدّده فی ظرف العلم، ولهذا یعتبر سابقاً على وجوده.
وأمّا الفرق بین القضاء والقدر فقد قال السیّد الداماد بشأنه: «القضاء نسبة فاعلیّة البارئ الحقّ سبحانه على حسب علمه وعنایته إلى الإنسان الكبیر فی مرتبة شخصیّته الوحدانیّة الجُملیّة، والقدر نسبة فاعلیّته سبحانه إلى هذا الإنسان الكبیر فی مرتبة تشریح أعضائه وأجزائه، وتفصیل أخلاطه وأركانه وأرواحه وقواه، بحسب تأدیة الأسباب المترتّبة المتأدّیة إلى خصوصیّات تفاصیلها».(1)
وقال صدر المتألّهین بعد تفسیر القضاء بصورة علم الله تعالى القدیمة بالذات: «وأمّا القدر فهو عبارة عن وجود صور الموجودات فی العالم النفسیّ السماویّ على الوجه الجزئیّ، مطابقةً لما فی موادّها الخارجیّة الشخصیّة، مستندةً إلى أسبابها وعللها، واجبةً بها، لازمةً لأوقاتها المعیّنة وأمكنتها المخصوصة، ویشملها القضاء شمولَ العنایة للقضاء».(2)
ویظهر من كلام سیّدنا الاُستاذ(قدسسره) أنّ القضاء هو العلم بالنسبة الوجوبیة للشیء
1. راجع: القبسات: ص418 و 416 و 421423.
2. راجع: الأسفار: ج6، ص292ـ293.
إلى فاعله التامّ، والقدر هو العلم بنسبته الإمكانیّة إلى السبب الناقص، وقد صرّح به فی موارد اُخرى. ویتفرّع علیه أنّ القضاء لا یتغیّر بخلاف القدر، كما هو مقتضى نسبة القضاء إلى اللوح المحفوظ، ونسبة القدر إلى لوح المحو والإثبات. ولا ریب أنّ التغیّر إنّما یتصوّر فی المادّیات، وهذا یوجب اختصاص القدر بها، بخلاف القضاء حیث عمّموه إلى المجرّدات أیضاً. وجدیر بالذكر أنّ القضاء والقدر قد یستعملان كمترادفین، ویعتبران نوعین: حتمیّ، وغیر حتمیّ. فما ورد من إمكان التغیّر فی القضاء الإلهیّ یحمل على هذا المعنى.
كثیراً ما ینقدح سؤال بشأن القضاء والقدر، هو أنّه ما هو السرّ فی طرح هذه المسألة والتأكید على ثبوتهما ولزوم الاعتقاد بهما مع ما تثور حولها من شبهات؟ ومن جهة اُخرىفقد ورد النهی عن الخوض فیهامن أئمّةالدین(علیهمالسلام) ووصفوهاببحرعمیق لا یأمن من ولجه، وطریق وَعِرٍ لا یسلم من سلكه، وسرّ الله الذی لا ینبغی تكلّف كشفه!
والجواب أنّ معرفة التوحید الأفعالیّ هی من أشرف المعارف وأنفعها وأعزّها، ولفهمه الصحیح والاعتقاد به تأثیر بالغ فی كمال الإیمان وقیمة العمل ممّا یؤدّی إلى رقیّ الروح والوصول إلى السعادة المنشودة. والمعارف التی اُشیر إلیها فی الكتاب والسنّة من إناطة جمیع الحوادث وحتّى الأفعال الاختیاریّة بإذن الله تعالى ومشیّته وإرادته وقدره وقضائه هی فی الواقع تعالیم متدرّجة للهدایة إلى التوحید الأفعالیّ، وفوقه التوحید الصفاتیّ والذاتیّ بالمعنى الدقیق الذی لا یتیسّر نیله لكلّ أحد. وأمّا النهی عن خوض هذه اللجج فإنّما هو لرعایة الضعفاء لئلاّ یقعوا فی ورطات الجبر والاستخذاء والكسل واللامبالاة، بل الكفر والإلحاد ممّا هو قرّة عیون شیاطین الإنس والجنّ، أعاذنا الله تعالى.
قد مرّ فی خاتمة المرحلة التاسعة أنّ القوّة أعمَّ مورداً من القدرة، فالقوّة تُستعمل فی مورد الفعل وفی مورد الانفعال معاً بخلاف القدرة فإنّها تختصّ بالفعل. ثمّ القوّة الفعلیّة أعمُّ مورداً من القدرة أیضاً لشمولها للقوى الطبیعیّة وغیرها بخلاف القدرة حیث تختصّ بمبدئیّة الفاعل الحیّ، ویشترط فیها كون الفاعل عالماً بفعله علماً مؤثّراً فی صدور فعله عنه. ولمّا كان فعل كلّ نوع من الفواعل إنّما یمتاز بأنّه كمال مسانخ لذلك النوع فالفاعل العلمیّ إنّما یفعل فعله إذا علم بما هو كمال وخیر له بما أنّه فاعل لذلك الفعل فیختاره. ومثل هذه المبدئیّة للفعل یسمّى قدرة.
ثمّ إنّ للقدرة مصادیقَ مختلفةً حسب اختلاف مراتب الفواعل فی الوجود، فإذا كانت لبعض مصادیقها لوازمُ وتوابعُ تلحق الفاعلَ لأجل ما تقتضیه نوعیّتُه فلیس یعنی ذلك وجوبَ مثل هذه اللواحق فی جمیع المصادیق. فإنّ لذوی النفوس المتعلّقة بالمادّة خصائصَ لا توجد فی غیرها من الفواعل ذوی القدرة، لأنّ تلك الخصائص إنّما تلزم لضعف مرتبة وجودها، ولیست من شأن ما هو أقوى وجوداً منها. وذلك كما فی الإنسان مثلاً، حیث یتوقّف فعله الاختیاریّ على التصوّر والتصدیق والشوق والإرادة. فهذه المبادئ إنّما تتحقّق فیه لأجل كونه ذا نفس متعلّقة بالمادّة، وأمّا المجرّد التامّ فعلمه حضوریّ ولیس من قبیل التصوّر والتصدیق، كما أنّه منزّه عن الكیف النفسانیّ والشوق إلى ما یفقده.
والحاصل أنّ حقیقة القدرة هی المبدئیّة للفعل الملازمة للعلم والاختیار، وهی متحقّقة فی الواجب تعالى على ما یلیق بساحة قدسه، فعلمه لیس أمراً زائداً على ذاته كما سبق تحقیقه، كما أنّ اختیاره لیس بحدوث إرادة فی ذاته سبحانه.
وههنا تلتقی مسألة القدرة ومسألة الإرادة، وتُثار تساؤلات حول إرادة الواجب واختیاره، مثل أنّه إذا لم یكن اختیاره بحدوث الإرادة فی ذاته فما هی حقیقة اختیاره؟ وهل له إرادة غیر الكیفیّة العارضة للذات؟ وعلى فرض الثبوت فهل هی عین ذاته أو أمر خارج عن الذات؟
وقد اختلفت كلمات المتكلّمین والفلاسفة فی الإجابة على هذه الأسئلة،(1) كقول الأشاعرة بالإرادة القدیمة الملازمة للذات، وقول المعتزلة بحدوث الإرادة له وتجدّدها، وقول الفلاسفة برجوع إرادته الذاتیّة إلى العلم بالنظام الأصلح، إلی غیر ذلك ممّا أدّى إلى مشاجرات عنیفة، واتّهامات قاسیة. فالمتكلّمون اتّهموا الفلاسفة بإنكار اختیار الواجب وإیجابه فی أفعاله سبحانه،(2) والفلاسفة اتّهموهم بالتجسیم والتشبیه ونسبة صفات الممكنات والمادّیات إلیه تعالى. فلْنلبث فی هذا الموقف یسیراً، لعلّنا نجد فی ما آنسْنا من الحقّ تیسیراً، ونحصل فی المسألة على ما هو أحسن تفسیراً، ولْنُشِرْ كمقدمّة للكلام إلى نُقاوة ما ذكرنا تحت الرقم (181) فی تفسیر الإرادة والاختیار:
أمّا الإرادة فقد تستعمل بمعنى الحبّ، وقد تستعمل بمعنى إجماع العزم المسبوق بالعلم والشوق، وهی التی یعبَّر عنها بالقصد، ویختصّ بالفاعل بالقصد الذی مرّ توضیحه فی الفصل السابع من المرحلة الثامنة. وقد تستعمل بمعنى طلب الفعل من الغیر، وتسمّى بالإرادة التشریعیّة. ولعلّ نكتة الاشتراك بین هذه المعانی هی وجود الحبّ فی جمیع الموارد، وإن لم یكن الاشتراك معنویّاً.
ثمّ الإرادة بالمعنى الأوّل هی حقیقة وجودیّة تشترك بین الواجب والممكنات
1. راجع: نفس المصدر: ص307ـ368 و 379413؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج2، ص485-493؛ والقبسات: ص311ـ313.
2. راجع: القبسات: ص444-447؛ وراجع: التعلیقات: ص5054 و 6162 و 71ـ72.
على اختلاف مراتبها كالعلم والقدرة وغیرهما، ویكون ما یوجد منها فی ذوی النفوس ذا مهیّة من قبیل الكیف النفسانیّ، بل یصحّ اعتبار بعض مصادیقه جوهراً، فإنّ حبّ النفس كالعلم بالنفس هو عین ذاتها، كما أنّ حبّ المفارقات هو عین جواهرها، وحبّ الواجب تعالى لذاته المستتبع لحبّ آثاره من حیث خیریّتها هو عین ذاته المقدّسة. وأمّا بالمعنى الثانی فالمشهور أنّها من أنواع الكیف النفسانىّ، لكن لا یبعد كونها فعلاً نفسانیّاً، فیكون قیامها بالنفس قیاماً صدوریّاً، وفاعلیّة النفس لها بالتجلّی. وأمّا بالمعنى الثالث فهو خارج عن محلّ البحث.
وأمّا الاختیار فقد یستعمل مرادفاً للإرادة بالمعنى الثانی، وقد یستعمل بمعنى أخصَّ وهو انتخاب أحد أمرین مطلوبین فی حدّ أنفسهما على الآخر، ویختصّ بما إذا كان للفاعل مطلوبان أو مطلوبات متزاحمة، كما فی الإنسان الذی یتردّد أمره بین إشباع نفسه وإشباع ولده، وبین إرضاء نفسه بمعصیة ربّه وإرضاء ربّه بمخالفة هواه. وقد یستعمل فی مقابل الإكراه، فیختصّ بما إذا كان انتخاب الفاعل للفعل من قِبل نفسه من دون إكراه وتهدید من الغیر. وقد یستعمل فی مقابل الاضطرار الذی ربما یتّفق للإنسان مثلاً حینما ینحصر حفظ نفسه فی طریق غیر مرضیّ كأكل المیتة لإبقاء الحیاة. وقد یستعمل فی مقابل الإجبار الذی یحصل من ضغط العامل الخارجیّ بحیث لا یُبقی له مجالاً للانتخاب مطلقاً. وهذا المعنى یتحقّق فی الفاعل بالقصد وبالعنایة وبالرضا وبالتجلّی، لأنّ أفعال هذه الفواعل إنّما تتعیّن من قِبل أنفسهم وتنتشیء من حبّهم ورضاهم أو قصدهم وعنایتهم، لا من تحمیل وإجبار من الغیر. وبعد اتّضاح هذه المقدّمة نقول:
لا ریب فی ثبوت الاختیار للواجب تعالى بالمعنى الأخیر، سواء قلنا بأنّ فاعلیّته هی بالتجلّی أو بالرضا أو بالعنایة. وحتّى لو صحّ القول بكون فاعلیّته بالقصد كان معناه ثبوت الاختیار له. لكنّ الحقّ أنّه فاعل بالتجلّی، وهو الذی یكون فعله عن
حبّه لذاته وعلمه التفصیلیّ فی مقام ذاته ویكون فعله قائماً به كربط محض لا استقلال له مطلقاً. والحاصل أنّه لا یفرض هناك ما یورد ضغطاً على الواجب لیقوم بالفعل، حتّى أنّه لیس فی ذاته تعدّد جهات وحیثیّات وقوى متزاحمة فی التأثیر. فهذا أتمُّ مراتب الاختیار وأكملها وأشرفها، ویلیه اختیار المفارقات المحضة، ثمّ اختیار النفوس، وهو أضعف مراتب الاختیار.
ثمّ ما كان من أفعال ذوی النفوس من قبیل التجلّی أو شبیهاً به كالإرادة كان أتمَّها فی الاختیاریّة ـ بالعكس ممّا ربما یتوهّم أنّ الإرادة إذا لم تكن مسبوقة بإرادة اُخرى كانت جبریّة ـ ویلیه ما كان من قبیل الفعل بالرضا كالتصوّرات الذهنیّة، ویلیه ما كان بالقصد كأفعال الجوارح، وهی أضعفها فی الاختیاریّة، لتوقّفها على اُمور غیر اختیاریّة كثیرة.
وأمّا الاختیار فی مقابل الإكراه والاضطرار ونحوهما فهو أیضاً صادق فی الواجب تعالى لاستحالة انفعاله من غیره إطلاقاً. وأمّا الاختیار بالمعنى الأوّل فیتّضح بتوضیح معنى إرادته سبحانه.
أمّا إرادة الواجب سبحانه فإن اُرید بها المعنى الأوّل المرادف للحبّ فهی ثابتة فی ذاته تعالى كسائر الصفات الذاتیّة بلا تعدّد جهة وحیثیّة، وقد صرّح بذلك أساطین الحكمة. قال الشیخ: «فالواجب الوجود الذی هو فی غایة الكمال والجمال والبهاء الذی یعقل ذاته بتلك الغایة والبهاء والجمال وبتمام التعقّل وبتعقّل العاقل والمعقول على أنّهما واحد بالحقیقة یكون ذاته لذاته أعظمَ عاشق ومعشوق، وأعظمَ لاذّ وملتذّ».(1) وقال أیضاً: «بل هو عالم بكیفیّة نظام الخیر فی الوجود وأنّه عنه، وعالم بأنّ هذه العالمیّة یَفیض عنها الوجود على الترتیب الذی یعقله خیراً ونظاماً، وعاشق ذاته التی هی مبدء كلّ نظام خیر من حیث هو كذلك، فیصیر نظام
1. راجع: أواخر المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء؛ والنجاة: ص245.
الخیر معشوقاً له بالعرض، لكنّه لا یتحرّك إلى ذلك عن شوق، فإنّه لا ینفعل منه البتّة، ولا یشتاق شیئاً ولا یطلبه. فهذه إرادته الخالیة عن نقص یجلبه شوق وإزعاج، قصداً إلى غرض».(1)
وقال صدر المتألّهین: «الإرادة والمحبّة معنى واحد كالعلم، وهی فی الواجب تعالى عین ذاته، وهی بعینها عین الداعی، وفی غیره ربما تكون صفة زائدة علیه وتكون غیرَ القدرة وغیرَ الداعی كما فی الإنسان ـ إلى أن قال ـ فهذه الثلاثة ـ أعنی القدرة والإرادة والداعی ـ متعدّدة فی الإنسان بالقیاس إلى بعض أفعاله، متّحدة فی حقّ البارئ سبحانه، وكلّها فیه عین الذات الأحدیّة، وفی الإنسان صفات زائدة علیه».(2)
وأمّا الإرادة بمعنى إجماع العزم فإن قیل بأنّها كیفیّة فلا یمكن فرضها فی ذات الواجب تبارك وتعالى، لما یترتّب علیه من توالی فاسدة جدّاً، كتركّب الذات وكونه ذا مهیّة، والتغیّر فی ذاته المستلزم لكونها مادّیّة ذات قوى واستعدادات، إلى غیر ذلك. وإن قیل بأنها فعل صادر من النفس فهی فی الحقیقة خارجة عن ذات الفاعل، فاتصافه سبحانه بها یكون من قبیل اتّصافه بالصفات الفعلیّة. وعلى هذا المعنى یحمل ما ورد من استناد الإرادة إلیه كأمر حادث، كقوله تعالى: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ».(3)
والحاصل أنّ إسناد الإرادة إلى الواجب یكون على وجهین: أحدهما كصفة ذاتیّة أزلیّة، وهی حبّه الذاتیّ لذاته ولآثاره من حیث خیریّتها. ثانیهما كصفة فعلیّة حادثة، وهی معنى منتزع عن مقام الفعل، بالنظر إلى أنّ صدوره لیس جبریّاً عن كره، بل له منشأ فی ذاته تعالى هو حبّه للخیر وعلمه بوجه خیریّته.
1. راجع: الفصل السابع من المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء.
2. راجع: الأسفار: ج6، ص341؛ وراجع: القبسات: ص322ـ323.
3. سورة یس، الآیة 82.
وقد تبیّن بذلك أوّلا أنّ الإرادة التی ینفیها الحكماء عن الواجب تعالى هی الكیفیّة الحادثة الحالّة فی ذاته. والمشهور عندهم إرجاع الإرادة الذاتیّة إلى العلم بالأصلح، وقد صرّح الشیخ بوحدتهما مفهوماً فی مورد الواجب تعالى، حیث قال: «لیست الإرادة مغایرة الذات لعلمه، ولا مغایرة المفهوم لعلمه».(1) ولهذا ناقش فیه سیّدنا الاُستاذ(قدسسره) بأنّه أشبه بالتسمیة، والأولى إرجاعها إلى الحبّ، فإنّه أوفق باللغة والعرف، وهو مقتضى كلامه فی مواضع اُخرى.(2) وأمّا إسناد المتكلّمین القولَ بكون الواجب فاعلاً موجَباً إلى الفلاسفة فهو لأجل زعمهم إنحصارَ الاختیار فی الفاعل بالقصد الذی یكون قصده وإرادته زائداً على ذاته، وقد عرفت أنّ أعلى مراتب الاختیار هو للفاعل بالتجلیّ ثم بالرضا ثمّ بالعنایة.
وثانیا أنّ استعمال الإرادة فی مورد الواجب تبارك وتعالى كصفة فعلیّة منتزعةٍ عن مقام الفعل استعمالٌ حقیقیٌّ على حدّ ما للخالق والرازق وغیرهما من الحقیقة. وأمّا إسناد الغضب والأسف ونحوهما إلیه سبحانه فله شأن آخر، وفرض مجازیّة هذه الاستعمالات لا یوجب كون جمیع الصفات الفعلیّة مجازیّة. اللّهمّ إلاّ أن یقال: نفس استعمال هذه اللفظة الموضوعة لكیف نفسانیّ فی معنى انتزاعیّ یكون مجازیّاً، لكن لأحدٍ منعُ هذا الوضع الانحصاریّ، فلیتأمّل.
وثالثا أنّ استعمال الإرادة كصفة فعلیّة لا تنفی صحّة استعمالها كصفة ذاتیّة، ووزان ذلك وزان استعمال الخالق كصفة فعلیّة واستعماله بمعنى مبدء الخلق الراجع إلى القدرة الذاتیّة، بل وزان العلم المستعمل على وجهین، كما مرّ تحت الرقم (433).
1. راجع: الفصل السابع من المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء.
2. راجع: التعلیقـات: ص157ـ160؛ وراجع: الأسفـار: ج6، ص341 و 351 و 415؛ وراجع: المبـدء والمعـاد، ص135.
الغرض الأصلیّ من هذا الفصل هو تبیین نسبة أفعال الإنسان الاختیاریّة إلى الواجب تبارك وتعالى، وكیفیّة تعلّق إرادته بها، وحلّ مسألة الجبر والتفویض والأمر بین الأمرین.
ولهذه المسألة أبعاد متعدّدة كالجبر الطبیعیّ والجبر الاجتماعیّ والجبر الفلسفی(1) والجبر الإلهیّ. ثمّ الجبر الإلهیّ یتصوّر على وجهین: أحدهما من جهة علمه تعالى، حیث یُتوهَّم أنّ اختیار الإنسان فی فعله ینافی سبق علمه تعالى بما یصدر عنه، لأنّ مقتضى الاختیار كون تعیّن الفعل أو الترك مستنداً إلى إرادة الفاعل، فیلزم أن یكون الفعل بصرف النظر عن إرادته متساوی الطرفین، مع أنّ علمه تعالى قد عیّنه سابقاً، ویمتنع وقوع الفعل على خلافه، لاستلزام ذلك كون علمه تعالى جهلاً!(2) وقد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (239) وستأتی الإشارة إلیه فی آخِر هذا الفصل.
وثانیهما من جهة إرادته تعالى، حیث یُتوهَّم أنّه إذا صحّ شمول إرادته لأفعالنا لزم كونها جبریّة، وإلاّ جاز تخلّف المراد عن إرادته تعالى، وهو محال، لاستلزامه سلب قدرته على إنفاذ إرادته. ولهذا التزم الأشاعرة بالجبر ـ على ما حكی عنهم ـ وذهب المعتزلة إلى خروج أفعالنا الاختیاریّة عن نطاق إرادته سبحانه والتزموا بالتفویض، وهو ینافی التوحید الأفعالیّ. وذهب أصحابنا الإمامیّة تبعاً لأئمّتهم(علیهمالسلام) إلى الأمر بین الأمرین، لكن اختلفت كلماتهم فی تبیین ذلك.
وكان الفلاسفة قبل صدر المتألّهین یبیّنون ذلك على أساس أنّ الفعل معلول
1. راجع: فی ما یتعلّق بالجبر الفلسفیّ الفصل الخامس من المرحلة الرابعة، والفصل الثالث من المرحلة الثامنة.
2. راجع: الأسفار: ج2، ص135ـ136؛ وج6: ص384ـ385.
للإنسان، والإنسان معلول لله تبارك وتعالى، ومعلول المعلول معلول لعلّته، ففعل الإنسان معلول وفعل لله تعالى أیضاً. وبعبارة اُخرى: إرادته تعالى تعلّقت بوجود الإنسان بشؤونه كلّها، ومن تلك الشؤون إرادته واختیاره. وإرادة الإنسان تتعلّق بفعله، ففعله متعلّق لإرادة الله سبحانه بوساطة إرادته التی هی من شؤون وجوده. وحیث كانت إحدى الإرادتین فی طول الاُخرى لم یمتنع استناد الفعل إلیهما، بخلاف ما لو كانتا مجتمعتین فی عرض واحد، حیث كان یلزم اجتماع علّتین على معلول واحد شخصیّ.
لكن كان لهذا البیان قصور من جهة أنّ اُصولهم ما كانت تفی بإیضاح علاقة العلّیة بحیث یتبیّن عدم استقلال الإنسان فی وجوده وفی إرادته، ولهذا كان له میل إلى مذهب المعتزلة. إلى أن قام صدر المتألّهین بإیضاح تلك العلاقة، وأنّ المعلول ربط محض بعلّته المفیضة لا استقلال له دونها بوجه من الوجوه. فعلى ضوء ذلك وجدت المسألة تبییناً فلسفیّاً متقناً ناضجاً وافیاً، وهو من أروع ثمرات الفلسفة الإسلامیّة التی یَنَعَتْ بفضل مساعی هذا الحكیم المتألّه العظیم. وقد أوصى بالتأمّل فی أفعال النفس للاستعانة بها على فهم هذا المطلب الشریف.(1)
وجدیر بالذكر أنّ نطاق القدرة أوسع من نطاق الإرادة، لأنّ مفهوم القدرة یشمل كلَّ ما أمكن وجوده، لكنّ الإرادة تختصّ بما یوجد فقط بما أنّه خیر حقیقیّ أو مظنون. وأفعال الإنسان الاختیاریّة وإن لم یكن جمیعها خیراتٍ حقیقیّة، إلاّ أنّها من حیث استنادها إلى إرادة الله تعالى توصف بالخیریّة، لأنّها تابعة لوجود الفاعل المختار الذی هو خیر فی مجموع النظام الأحسن، وسیتضّح ذلك فی الفصل الثامن عشر.
1. راجع: نفس المصدر: ج6، ص369ـ379 .
نفس كون الإنسان موضوعاً لأعراضه لا یصحّح فاعلیّته لها فضلاً عن استنادها إلى إرادته واختیاره. والمراد أنّ أفعال الإنسان المباشرة قائمةٌ به كقیام العرض بموضوعة، فلا محالة تستند إلیه استنادَ أفعالِ كلّ نوع إلى صورته النوعیّة بالنظر إلى ما مرّ من أنّ الأعراض معلولة لصور موضوعاتها النوعیّة، فافهم.
هذا الإشكال یضاهی الإشكال على تعلّق القضاء الإلهیّ بالشرور، بل هو هو نفسه، فیدفع بمثل ما یوجّه به دخول الشرور فی القضاء الإلهیّ على ما سیأتی بیانه فی الفصل الثامن عشر، وذلك بوجهین: أحدهما أنّ الشرور مقصودة بالتبع لملازمتها للخیرات المقصودة بالأصالة. وأنّما تقصد بالتبع لغلبة جهات الخیر علیها، ولو لم تقصد كذلك لزم ترك تلك الخیرات الغالبة. وثانیهما أنّ الشرّ أمر عدمیّ، وحیث لا سبیل للعدم إلى دار الوجود فالشرور ترجع إلى جهات النقص فی الموجودات. والذی یصدر من الواجب تعالى وتتعلّق به إرادته بالذات هو نظام الوجود الإمكانیّ بما یشتمل على الموجودات الناقصة، وذلك النظام هو أحسن نظام ممكن على ما یأتی بیانه فی الفصل السابع عشر فجهات النقص هی مقصودة بالعرض.
حاصلهأنّه على القول بكون الإرادة مرجّحةً للفعلبجعله أولویَّ الحصول دون ضروریّة مع بقاء إمكان عدمه یبقى السؤال عن علّة وقوعه مع جواز العدم، فوجود مثل هذا المرجّح لا یغنیه عن العلّة المعیّنة الموجبة بحیث ینقطع السؤال عن علّة الوقوع.(1)
1. راجع: القبسات: ص314.
وحیث كانت الحاجة إلى المرجّح لأجل تعیین أحد الطرفین المتساویین فی حدّ أنفسهما تعییناً حتمیّاً ضروریّاً یمتنع معه الطرف الآخر فلو فُرضت الإرادةُ غیرَ معیّنةٍ للفعل ذاك التعیینَ لكان وقوع الفعل صدفةً من غیر حاجة إلى المرجّح. وهذا هو الذی أشار إلیه بقوله: «وأیضاً الترجیح بالإرادة...» فالوجه الثانی مترتّب على الأوّل، فافهم.
الحیاة على ما یتحصّل من التأمّل فی مواردها معنىً یلازم العلم والقدرة،(1) ولهذا ربما یُظْنّ أنّ الحیاة هی مجموع العلم والقدرة أو معنى ینتزع منهما، ولیس كذلك لجواز الانفكاك بینها وبین كلّ واحد من العلم والقدرة فی الذهن بل فی الخارج أیضاً فی الجملة. قال صدر المتألّهین: «واعلم أنّ حیاة كلّ حیّ إنّما هی نحو وجوده، إذ الحیاة هی كون الشیء بحیث یصدر عنه الأفعال الصادرة عن الأحیاء من آثار العلم والقدرة. لكن من الأشیاء الحیّة ما یجب فیه أن یسبق هذا الكونَ كونٌ آخرُ، ومنها ما لیس یجب فیه أن یسبقه كون آخرُ. فالقسم الأوّل كالأجسام الحیّة، فإنّ كونها ذاتَ حیاةٍ إنّما یطرأ علیها بعد كونٍ آخرَ له یسبق هذا الكونَ الحیوانیَّ... وأمّا القسم الثانی فهو فی ما یخرج عن الأجسام، فإنّ ما لیس بجسم لا یمتنع فیه أن یكون وجوده بعینه هو كونه بالصفة المذكورة... وواجب الوجود أولى بأن یكون حیاته عینَ وجوده، لكونه بسیط الحقیقة».(2)
1. راجع: الأسفار: ج6، ص413؛ وراجع: حكمة الإشراق: ص117؛ والتعلیقات: ص117.
2. راجع: الأسفار: ج6، ص418.
التكلّم عبارة عن إلقاء لفظ دالّ على معنىً بالدلالة الوضعیّة الاعتباریّة لإعلام المخاطب بما فی ضمیر المتكلّم، وذلك اللفظ یسمّى كلاماً. فقوام هذا المعنى هو بالوضع والاعتبار. وربما یتوسّع فیه فیستعمل فی مطلق الإعلام ولو كان بغیر اللفظ وبغیر الدلالة الوضعیّة والاعتباریّة. وقد اُطلقت «الكلمة» فی القرآن الكریم(1) على المسیح بن مریم(علیهالسلام) ولعلّ النكتة فیه أنّ خلقه الخارق للعادة من أحسن وجوه إعلام الخلائق بصفات الخالق. والظاهر أنّ المراد بالكلمات فی قوله تعالى: «قُلْ لَوْ کَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِکَلِمَاتِ رَبِّی لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ کَلِمَاتُ رَبِّی»(2) أیضاً الكلمات التكوینیّة المعربةُ عن صفات مكوّنها. وأمّا توسعة مفهوم الكلام بحیث یشمل صفات الله الذاتیّة، واعتبارهُ متكلّماً فی مقام ذاته واعتبار الكلام صفة ذاتیّة له، فهو خروج عن عرف المحاورة، ولیس له شاهد من الكتاب والسنّة كما نبّه علیه الاُستاذ(قدسسره).
بل یرجع ذلك التحلیل إلى اعتبار الصفات كلّها كلاماً والذات متكلّماً.
قد مرّ تحت الرقم (434) أنّ الظاهر أنّهما من الصفات الفعلیّة، وأن لا دلیل على
1. سورة آل عمران، الآیة 39 و 45؛ وراجع: سورة النساء، الآیة 131.
2. سورة الكهف، الآیة 109؛ وراجع: سورة لقمان، الآیة 27.
اعتبارهما من الصفات الذاتیّة إلاّ ما اشتهر فی ألسنة المتكلّمین وتبعهم على ذلك بعض الفلاسفة. نعم، حكی عن صاحب الإشراق أنّ علمه راجع إلى بصره، لا أنّ بصره یرجع إلى علمه.(1) وهو مبتنٍ على ما ذهب إلیه من كون علمه التفصیلیّ عین وجود الأشیاء، وتفسیر الإبصار بالشهود، فتبصّر.
حاصل ما ذكر فی تحلیل معنى العنایة أنّها اهتمام الفاعل بفعله حتّى یتحقّق على وجه الخیر أو على أحسن وجوهه إذا كانت هناك وجوه من الخیر. لكن عنایة الإنسان وذوی النفوس بأفعالهم إنّما تكون لأجل ما یتوخَّون من منافعَ تعود إلیهم، وذلك لفقدانهم تلك المنافع والكمالات، وأمّا المجرّد التامّ فحیث إنّه واجد فی ذاته لكلّ كمال ممكن الحصول له فلا یتوخَّى منفعة من فعله. ولهذا ذهب بعض المتكلّمین كالأشاعرة إلى إنكار الغایة فی فعله تعالى، وذهب بعض آخر كالمعتزلة إلى أنّ غایته وصول الخلق إلى منافعهم ومصالحهم. وقد مرّ فی الفصل الحادی عشر من المرحلة الثامنة أنّ غایة المجرّدات هی فی الحقیقة نفس ذواتها، وأنّ منافع ما دونها مقصودة لها بالتبع.
فقوام العنایة یكون بالفاعلیّة، وعلم الفاعل، وحبّه للفعل التابع لحبّ ذاته.(2) وهذه الاُمور ثابتة فی الواجب تعالى فتثبت عنایته سبحانه بخلقه. فإذا أخذنا هذه الإضافة إلى وجود الممكنات بعین الاعتبار كانت العنایة من الصفات الإضافیّة الفعلیّة. لكن
1. راجع: الأسفار: ج6، ص423.
2. راجع: نفس المصدر: ج7، ص57؛ وراجع: الرقم (437) من هذه التعلیقة.
یمكن إرجاعها إلى العلم بالأصلح أو إلى الحبّ الذاتیّ، فتعود صفةً ذاتیّة، نظیر ما مرّ فی الإرادة،(1) ومثله یجری فی الحكمة.
قال الشیخ فی التعلیقات: «العنایة هی أنّ الأوّل خیر، عاقل لذاته، عاشق لذاته، مبدء لغیره. فهو مطلوب ذاته، وكلُّ ما یصدر عنه یكون المطلوب فیه الخیرَ الذی هو ذاته. وكلُّ هذه الصفات ما لم تعتبرْ فیها هذه الاعتبارات واحدة. وكلّ من یعتنی بشیء فهو یطلب الخیر له. فالأوّل إذا كان عاشقاً لذاته لأنّه خیر، وذاته المعشوق مبدء الموجودات فإنّها تصدر عنه منتظمةً على أحسن نظام».
وقال أیضاً: «العنایة صدور الخیر عنه لذاته، لا لغرض خارج عنه فتكونَ له إرادةٌ متجدّدة. فذاته عنایة. وإذا كان ذاته عنایتَه، وذاته مبدء الموجودات، فعنایته بها تابعة لعنایته بذاته. وأیضاً إذا كان مطلوبه الخیرَ، والخیر ذاته وهو عنایته، وهو مبدء لما سواه، فعلمه بذاته أنّه خیر، مبدء لهذه الأشیاء وعنایة له بها. ولو لم یكن عاقلاً لذاته، وعاقلاً لأنّ ذاته مبدء لما سواه لَما كان یصدر عن ذاته التدبیر والنظام. وكذلك لو لم یكن عاشقاً لذاته لكان ما یصدر عنه غیرَ منتظم، لأنّه یكون كارهاً له غیر مرید له. ولیست الإرادة إلاّ أنّ الموجودات غیر منافیة لذاته. ولمّا كان عاشقاً لذاته، وكانت الأشیاء صادرة عن ذاتٍ هذه صفتها ـ أی معشوقة ـ فإنّه یلزم أن یكون ما یصدر عنه معنیّاً به، لأنّه عاشق ذاته، ومرید الخیر له».(2)
ولك أن تقول: عدم عنایة الفاعل بفعله حتّى یتحقّق على أحسن الوجوه إمّا أن یكون لأجل جهله بوجه الخیر، أو لأجل عجزه عن تحقیقه، أو لأجل عدم حبّه لكماله وعدم إرادته له، أو لأجل بخله وإمساكه واستئثار ذلك الكمال لنفسه. فكل
1. راجع: الرقم (442).
2. راجع: التعلیقات: ص157؛ والتحصیل: ص578579؛ والقبسات: ص333ـ342؛ والمباحث المشرقیة: ج2، ص492؛ وراجع: النمط السادس والنمط السابع من شرح الإشارات.
هذه النقائص مسلوبة عنه سبحانه، ومقابلاتها ثابتة له تعالى، فیثبت من طریق اللمّ كون العالَم على أحسن ما یمكن. قال تعالى: «الَّذِی أَحْسَنَ کُلَّ شَیْءٍ خَلَقَهُ»،(1) وقال: «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِی أَتْقَنَ کُلَّ شَیْءٍ».(2)
وقد بیّن صدر المتألّهین إتقان نظام العالم ببیان إجمالیّ، ثمّ تصدّى لتفصیل ذلك من طریق اللمّ والإنّ معاً، ثمّ أخذ فی بیان آثار حكمته وعنایته تعالى فی خلق العالم فی عدّة فصول.(3)
إشارة إلى البیان الانّی لحسن نظام العالم وإتقانه وإحكامه، ولا تزال معرفة الإنسان تزداد بجودة الخلق، وحسن النظام، وإتقان الصنع، وكمال التدبیر، ودقائق الحكمة على ضوء تقدّم العلوم التجریبیّة، ممّا لا یُبقی ریباً للناظر السلیم، فی أنّ هذا النظام القویم، صادر من خالق قادر حكیم، وربّ جواد كریم، ومدبّرٍ ناظم علیم: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَیَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِیزُ الْعَلِیمُ».(4)
عندما تُطْرَحُ مسألة النظام الأحسن وعنایة البارئ وحكمته تعالى یثار سؤال، هو أنّه
1. سورة السجدة، الآیة 7.
2. سورة النمل، الآیة 88.
3. راجع: الأسفار: ج7، ص91ـ93 و 106ـ148؛ وراجع: المبدء والمعاد: ص193ـ222؛ والقبسات: ص425-428؛ والتلویحات: ص76ـ78.
4. سورة الزخرف، الآیة 9.
إذا كان له سبحانه عنایة بخلقه وكان لازمها أن یتحقّق العالم على أحسن ما یمكن وأحكمه، فلِمَ یوجد فی العالم ما یشاهَد من الشرور الكثیرة، أعمَّ ممّا یحصل من ناحیة العوامل الطبیعیّة كالزلازل والأمراض وسائر البلایا، أو من ناحیة الأناسیّ من أنواع الظلم والمعاصی وإهلاك الحرث والنسل؟ ألم یكن من الأحسن أن یكون العالم نزیهاً عن تلك الشرور والمصائب؟
وقد ذهبت الثنویّة إلى أنّ هناك مبدأین: أحدهما للخیرات، وثانیهما للشرور، ولا یزالان یتنازعان إلى أن ینتهی الأمر بغلبة مبدء الخیر. وذهب بعض الناس إلى القول بالإرادة الجزافیّة وإنكار العنایة الإلهیّة، وذهب الملحدون إلى إنكار الخالق الحكیم وجعلوا الشرور أماراتٍ على نفی الحكمة. سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا یصفون.
وقد نهض الفلاسفة الموحّدون بالإجابة على ذلك السؤال ودفع ما یتعلّق به من الشبهات ممّا أدّى إلى جوابین: أحدهما أنّ الشرور من لوازم عالم الطبیعة، فهی مقصودة بالتبع لا بالأصالة. وثانیهما أنّ الشرّ بالذات هو العدم، وشرور هذا العالم ترجع إلى جهاتٍ عدمیّةٍ، فتكون مقصودةً بالعرض لا بالذات.
فالغرض من عقد هذا الفصل هو توضیح هذین الجوابین، وذلك بتحلیل مفهومَی الخیر والشرّ، وإثبات أنّ الشرور اُمور عدمیّة، وأنّها تختصّ بعالم المادّیات، حتّى تتمهّد الأرضیّة لبیان ذینك الجوابین. وله فوائد اُخرى تتعلّق بمبحث الغایات وغیره. وبهذا یظهر سرُّ ما أولت الفلاسفة من عنایة بهذا المبحث، فإنّ به یتبیّن بطلان مذهب الثنویّة، وتتحَّقق حكمة البارئ تعالى وعنایته بخلقه، وكون العالم على أحسن ما یمكن من النظام، وبه یجاب عن شبهات الملحدین فی أسمائه وصفاته، والمنكرین لعدله وحسن قضائه وتمام تدبیره وكمال ربوبیّته.
لا ریب أنّ الخیر والشرّ متقابلان، فلا یكون شیء واحد من جهة واحدة خیراً وشرّاً معاً. فإن اعتُبرا وجودیَّینِ كانا من قبیل المتضادَّینِ ـ لوضوح عدم كونهما متضایفین ـ وإلاّ كان أحدهما عدمیّاً لا محالة. فهل هناك ما یدلّ على تعیین أحد الفرضین؟
یمكن أن یُتوهّم أنّهما أمران وجودیّان متضادّان، لاتّصاف بعض الأعیان الخارجیّة بالخیر وبعضها الآخر بالشرّ كاتّصاف الأفعال الاختیاریّة والملكات النفسانیّة بهما أیضاً. لكن بالنظر إلى أنّ الأوصاف أعمُّ ممّا بالذات وما بالعرض، وما بالأصالة وما بالتبع، ینبغی أن یُجتهد فی تحلیل معناهما والتعرّف على حقیقتهما.
وممّن لم یألُ جهداً فی هذا المضمار الشیخ الرئیس، حیث قام بفحص بالغ لمواردهما، وتحلیل عمیق لمفهومهما، وبیان جامع لحقیقتهما، ولولا مخافة التطویل لنقلنا عباراته بألفاظها، فسوف نكتفی بذكر محصَّل بیاناته:
الف) الشرّ قد یستعمل فی النقص كالجهل والضعف والعمى وغیرها من الاُمور العدمیّة. وواضح أنّه لیس لهذه الاُمور جهة وجودیّة یصحّ أن تنسب الشرّیّة إلیها حتّى یُتوهَّم أنّ الجهة العدمیّة تابعة غیر متّصفة بالشرّ بالأصالة. فلا ریب أنّ الشرّ فی هذه الموارد هو نفس الجهة العدمیّة. وقد یستعمل الشر فی الاُمور الوجودیّة المتعلّقة بالأعدام كالآلام والغموم، فإنّها وإن كانت إدراكاتٍ وجودیّةً إلاّ أنّها تتعلّق باُمور عدمیّة كفقد السلامة والمطلوبات. والإدراك بما أنّه إدراك لیس شرّاً، فالشرّ ناشیء عن متعلّقه وهو الفقد والعدم. وقد یستعمل فی مجمع الأمرین، كمن یتألّم بفقدان اتّصال عضو بحرارة ممزّقة، فیكون قد اجتمع هناك إدراكان: الألم، وإدراك الحرارة. أمّا الألم فقد اتّضح أمره، وأمّا إدراك الحرارة فلیس شرّاً بما أنّه إدراك، ولا الحرارة تكون شرّاً بما أنّها حرارة، بل بالقیاس إلى العضو المتأذّی بها. فههنا توجد جهات متعدّدة، لكنّ الشرّ یعود إلى الجهة العدمیّة فقط. ففی هذین القسمین أیضاً یكون الشرّ من النقص والعدم؛
ب) قد یتّصف الشیء بالشرّ من أوّل وجوده كتشوّه الخلق، وقد یطرأ علیه بعد ما وُجد خیراً. والأوّل حاصل من أسباب خارجة أوجبتْ فَقْدَ استعداد المادّة لما هو أكمل. فهذا الشرّ هو ناشیء عن نقص استعداد المادّة. وأمّا القسم الثانی فقد یكون لأجل مانع عن وصول الشیء إلى كماله، كمنع السُحُب المتراكمة وأظلال الجبال الشاهقة عن یَنْع الثمار، وقد یكون لأجل عامل مضادّ مفسد، كالدیدان التی تفسد الثمار. وكلاهما یرجعان إلى النقص والعدم؛
ج) الكمالات تنقسم إلى كمالات أوّلیّة بها تتحصّل نوعیّة النوع، وكمالات ثانویّة تقتضیها نوعیّة النوع وتوجد فی أكثر الأفراد، وهی قریبة من الاُولى، وكمالات اُخرى توجد فی أفراد قلیلین بعد حصول استعدادت خاصّة لها. أمّا فقد الكمالات الاُولى والثانیة فلا ریب فی شرّیّته. وأمّا ما یحصل فی بعض الأفراد فلا یعتبر فقده شرّاً بالنسبة إلى النوع كالجهل بالفلسفة والهندسة بالنسبة إلى نوع الإنسان، وإن كان شرّاً باعتبار آخر؛
د)قد یطلق الشرّ (بمعناه القیمیّ) على الأفعال المذمومة كالظلم والزنا، وهذه الشرّیّة تكون بالقیاس إلى من یفقد كماله بوصول ذلك الفعل إلیه كما فی الظلم، أو بالقیاس إلى المجتمع الذی یفقد كمالاً یجب له فی السیاسة المدنیّة كما فی الزنا، وكلاهما شرّ للنفس الناطقة التی كمالها فی كسر الشهوة والغضب. وقد یطلق الشرّ (بهذا المعنى القیمیّ) على الملكات الرذیلة باعتبار ما یلزمها من فَقْد النفس كمالاتٍ تجب لها؛
ه) لا یوجد فعل یتّصف بالشرّ من حیث وجوده وصدوره عن الفاعل بما أنّه فعله، بل بالقیاس إلى السبب القابل، أو إلى فاعل آخر یُمنع من فعله الأولى. فالشرور كلّها ترجع إلى فقد الكمال لقصور المادّة، أو لتأثیر فاعل یزیل استعدادها، أو یُفسد الكمال الحادث فیها، أو یَمنع من تأثیر فاعل آخر. وموطن هذه كلّها هو عالم المادّة الذی هو محلّ الحوادث والتزاحمات؛
و) الاُمور العدمیّة لیست من فعل فاعل، فلا تستند إلى المبادئ العالیة أیضاً إلاّ بالعرض، وأمّا الاُمور الوجودیّة التی قد تتّصف بالشرور فلها جهتان أو جهات، وإنّما تكون شرّیتها بالقیاس إلى قابل یفقد استعداداً لكمال جدید، أو لبقاء كماله الموجود، أو تكون بالقیاس إلى فاعل آخَر یُمنع من فعله الخیر. فهذه الاُمور الوجودیّة وإن كانت مستندةً إلى فواعلها وتنتهی إلى المبادئ العالیة حقیقةً لكن جهات خیرها أكثر وأغلب، فهی بما لها من الخیرات مقصودةٌ بالقصد الأوّلیّ، وبما یلزمها من النقائص والشرور مقصودةٌ بالقصد الثانی. وذلك لأنّ التضادّ فی التأثیر والتزاحم فی الحصول على الكمالات من لوازم عالم المادّة التی لا تنفكّ عنها، ولولا ذلك لم تحصل فیها كمالات جدیدة كثیرة. فالأمر یدور بین وجود هذا العالم بما فیه الخیر الكثیر والشرّ القلیل، وعدمه المستلزم لعدم الخیر الكثیر. لكن لیس من الحكمة الإلهیّة أن یترك الخیرات الفائقة الدائمة والأكثریّة لأجل شرور غیر دائمة ونادرة؛(1)
ز) إذا كان الشرّ هو عدم وجود أو عدم كمال وجود (ولا محالة یرجع إلى عدم الوجود، لأنّ الكمال أیضاً وجود) فالخیر یقابله، فهو إمّا وجود وإمّا كمال وجود. وكلّما كان الوجود أكملَ كان خیریته أفضلَ، فالوجود المجرّد أشدُّ خیریّةً من الموجود المادّیّ، والواجب الوجود هو الخیر المحض. أمّا اتّصاف العدم بالخیریّة أحیاناً فإنّما هو لأجل استتباعه وجوداً، فهو خیر بالعرض، كما أنّ اتّصاف الوجود بالشرّ كان لأجل استتباعه عدماً، وكان شرّاً بالعرض. وقد یقع الخیر وصفاً لموجود بما أنّه مفید الكمال لشیء آخر، فالواجب الوجود یكون خیراً من هذه الجهة أیضاً، لأنّه یفید كلَّ وجود وكلَّ كمال وجودیّ.(2)
1. راجع: الفصل السادس من المقالة التاسعة من إلهیّات الشفاء؛ والنجاة: ص284ـ291؛ والمباحث المشرقیة: ج2، ص519532؛ والأسفار: ج7، ص5862.
2. راجـع: الفصل السادس من المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء؛ والنجـاة: ص229؛ والقبسـات: ص428 436؛ والتعلیقات: ص103.
ثمّ إنّ الشیخ عرّف الخیر بأنّه ما یتشوّقه كلُّ شیء.(1) والتشوّق إنّما یكون إلى الوجود وكمال الوجود، ولا یحصل شوق إلى عدم إلاّ باعتبار ما یلازمه أو یستتبعه من الوجود وكماله. وتبعه على ذلك صدر المتألّهین وغیره.(2) لكن حیث كان معنى التشوّق مستلزماً لفقد المتشوَّق إلیه ممّا لا یوجد إلاّ فی ذوی النفوس المتعلّقة بالموادّ، بدّله الاُستاذ(قدسسره) بالطلب والإرادة والحبّ. ومع ذلك فإنّه یثور ههنا سؤالان:
أحدهما أنّه هل یجب فی كلّ خیر أن یكون مطلوباً لكلّ طالب ومرید؟
وثانیهما أنّه هل یراد بالطلب والحبّ حقیقةُ معناهما ممّا لا یوجد إلاّ فی ذوی الشعور، أو یراد بهما أعمُّ من ذلك؟
أمّا السؤال الأوّل فیمكن الإجابة علیه بأنّ خیر كلّ شیء هو ما یحبّه ویكون مطلوباً له، لوضوح أنّ كمال كلّ نوع إنّما یكون مطلوباً لذلك النوع، فالكمال الخاصّ بالفرس مثلاً لیس مطلوباً لنوع آخر من الحیوان. فالمراد بتلك العبارة أنّ الوجود على اختلاف أنحائه یكون مطلوباً لكلّ طالب، لكن كلّ موجود إنّما یحبّ وجوده وكمال وجوده نفسه. ویمكن أن یكون المراد أنّ الخیر المطلق وهو الله تعالى یتشوّقه كلُّ شیء، فافهم.
وأمّا السؤال الثانی فالظاهر لزوم تأویل الحبّ والطلب إلى معنى أعمَّ كالاقتضاء مثلاً، لوضوح عدم اختصاص الخیر بذوی الشعور. ولعلّ النكتة فی التركیز على مطلوبیّة الخیر هی الإشارة إلى أصل معناه اللغویّ والعرفیّ.
توضیح ذلك أنّ الخیر والشرّ لیسا من المفاهیم الماهویّة، وإنّما هما مفهومان منتزعان عن قیاس الأشیاء بعضها ببعض. وأوّل ما یحصل فیه المقایسة للإنسان هو خیر نفسه، فما یجد فی نفسه میلاً وشوقاً حبّاً له یسمّیه خیراً، وما یجد فی نفسه
1. راجع: نفس المصدرین السابقین؛ وراجع: التعلیقات: ص72 و 77.
2. راجع: الأسفار: ج7، ص58؛ والقبسات: ص428.
كراهة ونفرة وبغضاً له یسمّیه شرّاً. فإذا أخذنا فی تحلیل هذین المعنیین نجد أنّ حقیقتهما ترجعان إلى الملاءمة والمنافرة للنفس، وإذا أمعنّا فی التحلیل وصلْنا إلى الكمال والنقص، فإنّ الملائم هو الكمال، والمنافر هو النقص. وبتدقیق أكثر نستنبط أنّ الخیر هو الوجود والشرّ هو العدم، لأنّ الكمال لا یكون إلاّ وجودیّاً، والنقص لا یكـون إلاّ عدمیّاً. فهـذان المعنیان المستنبطـان ـ وإن لم یسـاعِد علیهما العرف كلَّ المساعدة ـ قابلان للصدق على غیر ذوی الشعور أیضاً. نعم، لـو ثبت سریان العلم والحبّ والإرادة والطلب فی جمیع الموجودات لأمكن التركیز على الحبّ بمعناه الحقیقیّ فی تفسیر الخیر، فتفطّن.
قد تحصّل من التحلیل الذی قام به الشیخ أنّ الشرّ قسمان: أحدهما عدمیٌّ كالجهل والعمى، وثانیهما وجودیّ یلازم أو یستتبع عدماً. وهذا القسم الأخیر إنّما یكون شرّاً بالقیاس إلى شیء آخر من جهة ما یوجب فقداً ونقصاً له. فیمكن أن یتوهّم أنّ تقابل الشرّ والخیر لیس فی جمیع الموارد على نهج واحد، فالقسم الأوّل من الشرّ یتقابل مع الخیر تقابُلَ العدم والملكة، أمّا القسم الثانی منه فیتقابل معه تقابُلَ الضدّین، لأنّهما وجودیّان، وعلى هذا فلا یصحّ أن یقال مطلقاً إنّ الشرّ عدم ذات أو عدم كمال ذات، وأن لا ذات للشرّ، بل یجب أن یعتبر لقسم من الشرور ذات.
وربما یقال فی دفع هذا التوهّم أنّ هذا القسم من الشرّ أمر إضافیٌّ ومعنى نسبیٍّ والإضافة هی من الاُمور الاعتباریّة، ولا ذات لها كما لا یتعلّق بها جعل وإیجاد.
ویلاحظ علیه أنّ هذه الإضافة لا تختصّ بالشرور، فمن الخیرات أیضاً ما هو إضافیّ، بل یمكن أن یقال إنّ الخیر والشرّ مطلقاً من المفاهیم ذات الإضافة، فإنّ الكمال إنّما یكون خیراً لما یجده، والنقص إنّما یكون شرّاً للموضوع الذی یتّصف
به، ولا یتعلّق بشیء من هذه المعانی الإضافیّة والرابطیّة جعلٌ، وإنّما یتعلّق الجعل بمنشأ الانتزاع وطرفَیْ الإضافة.
والجواب الحاسم هو بالفرق بین المعنى العرفیّ والمعنى الفلسفیّ، فإذا اعتبرنا الشرّ بمعناه العرفیّ كان له قسمان، وكان تَقابلُ أحد قسمیه مع الخیر من قبیل تقابل الضدّین، كما مرّ فی التقابل بین الألم واللذّة تحت الرقم (189). لكن بالنظر الدقیق الفلسفیّ یعتبر اتّصاف الوجود بالشرّ إتّصافاً بالعرض، وذلك بتحلیل الموجود إلى حیثیّتین أو أكثر، وإرجاع الشرّ إلى الحیثیّة العدمیّة، كما مرّ فی كلام الشیخ.
وبعبارة اُخرى: إذا ركّزنا فی معنى الخیر والشرّ على مفهومَیْ المطلوب والمنفور كان بعض الموجودات متّصفاً بالشرّ اتّصافاً حقیقیّاً، كالآلام والغموم، وهذا ما یتوافق مع عرف المحاورة. أمّا إذا أمعنّا فی التحلیل وتعقّبنا منشأ هذا الاتّصاف وجدنا أنّه فی كلّ هذه الموارد هو النقص وعدم الكمال. وبهذا الاعتبار یقال: إنّ الشرّ بالذات هو العدم، وأن لا ذات للشرّ. وهذا نظیر ما مرّ تحت الرقم: (10) أنّ اتّصاف المهیّة والكلّی الطبیعیّ بالوجود یكون بالعرض والمجاز من وجهة النظر الفلسفیّة، وإن لم یساعد علیه العرف، بل اعتبر بهذا النظر سفسطة.
هذا الدلیل هو الذی أقامه قطب الدین الشیرازیّ فی شرح حكمة الإشراق،(1) وتبعه صدر المتألّهین.(2) وهو فی الحقیقة یهدف إلى ما أشرنا إلیه آنفاً من أنّ الشرّ بالذات من وجهة النظر الفلسفیّة هو العدم بعد قبول أنّ الشرّ مطلقاً لا ینفكّ عن العدم، فلیس مصادرةً بالمطلوب.
1. راجع: شرح حكمة الإشراق: المقالة الخامسة، ص520 (من الطبعة القدیمة).
2. راجع: الأسفار: ج7، ص59.
وحاصله أنّ الشرّ لو كان أمراً وجودیّاً لكان الشرُّ غیرَ شرّ، والتالی باطل فالمقدّم مثله. وبیان الملازمة أنّ الشرَّ لو كان أمراً وجودیّاً لكان إمّا شرّاً لنفسه أو شرّاً لغیره. والأوّل محال، لأنّ معنى كون الشیء شرّاً لنفسه هو اقتضاؤه لعدم ذاته أو لعدم كمالاته، لما مرّ أنّ الموجود الشرّ إنّما یكون شرّاً لاقتضائه عدماً مّا، ولو اقتضى شیء عدمَ ذاته لما وجد، ولو اقتضى عدم شیء من كمالاته لكان الشرّ ذلك العدم لا هو. مضافاً إلى أنّ مثل هذا الاقتضاء غیر معقول، لوضوح أنّ الأشیاء إنّما تقتضی كمالاتها لا عدم تلك الكمالات، والعنایة الإلهیّة تقتضی إیصال كلّ شیء إلى كماله. وأمّا الثانی وهو كون الأمر الوجودیّ شرّاً لغیره فإنّما یتصوّر بإفساده أو إفضاء نقص إلیه، فیعود الشرّ بالذات إلى ذلك الفساد والنقص العدمیّین، وقد فرض أنّ الشرّ بالذات هو الوجود.
هذا الإشكال هو الذی ذكره المحقّق الدوانیّ فی حاشیة التجرید، وحاصله أنّ الألم الذی یحصل عند قطع العضو مثلاً أمر وجودیّ، وهو شرٌّ حقیقةً وبلا تجوّز، وإذا اعتبر الانفصال الذی یرجع إلى العدم شرّاً فهو شرٌّ آخر. ثمّ قال: والتحقیق أنّهم إن أرادوا أنّ منشأ الشرّیّة هو العدم، فلا یرد النقض علیهم. وإن أرادوا أنّ الشرّ بالذات هو العدم، وما عداه إنّما یوصف به بالعرض، حتّى لا یكون بالحقیقة إلاّ شرّیّةٌ واحدةٌ هی صفة العدم بالذات، وتنسب إلى غیره بالتوسّط كما هو شأن الاتّصاف بالعرض، فهو وارد. فافهم.
وقد تعرّض صدر المتألّهین لهذا الإشكال فی موضعین من الأسفار(1) ـ كما أنّه قد تقدّمت الإشارة إلیه فی هذا الكتاب أیضاً فی الفصل الخامس عشر من المرحلة
1. راجع: الأسفار: ج4، ص126؛ وج7: ص6267.
السادسة ـ ودفَعه بعد اختیار ثانی الشقّین بما حاصله أنّ الألم هو إدراك الانفصال أو زوال السلامة أو غیرهما من الاُمور العدمیّة إدراكاً حضوریّاً، والإدراك عین المدرَك بالذات. فهو عین ذلك الأمر العدمیّ.
ویلاحظ علیه أوّلاً أنّ العدم بما أنّه عدم لیس له حضور عند النفس، ولا یتعلّق به إدراك حضوریّ، وثانیاً أنّ الألم غیر إدراك الانفصال أو أیّ أمر عدمیّ آخر. وقد مرّ أنّ اللذّة والألم لیسا عین العلم والإدراك وإن كانا من الكیفیّات الإدراكیّة، فراجع الرقم (188 ـ 189).
ثمّ إنّ المحقّق السبزواریّ بعد المناقشة فی كلام صدر المتألّهین ذكر وجهاً آخر لدفع الإشكال، وهو أنّ الألم أمر وجودیّ، لكنّه من هذه الجهة لیس شرّاً، وإنّما شرّیته ناشیءة عن عدم ملاءمته للنفس، وهو أمر عدمیٌ.(1)
والأشبه ما نبّهنا علیه تحت الرقم (455) أنّ الشرّ بمعناه العرفیّ یعمّ بعضَ الاُمور الوجودیّة كالآلام والغموم والجهل المركّب والملكات الرذیلة، وعلیه فلا مناص عن قبول الشقّ الأوّل من الشقّین اللذین ذكرهما المحقّق الدوانیّ، ویكون أحد مصادیقه الألَمَ الذی هو أمر وجودیٌّ بلا ریب، سواء كان من قبیل الإدراك أو نوعاً آخر من الكیف النفسانیّ. وأمّا معناه التحلیلیّ الفلسفیّ فینحصر فی الأمر العدمیّ، ویكون اتّصاف بعض الوجودات به اتّصافاً بالعرض، نظیر اتّصاف المهیّة بالوجود.
والحاصل أنّ الألم أمر وجودیٌّ بلا شبهة، وشرٌّ حقیقیٌ بالنظر الجلیل العرفیّ، وإنّما یكون منشأه زوالَ الراحة الذی هو نقص لكمال النفس فی مرتبتها النازلة. لكن بالنظر الدقیق الفلسفیّ یكون الألم شرّاً بالعرض، وأمّا الشرّ بالذات فهو تلك الجهة العدمیّة. فالمراد بلفظة «بالذات» فی قولهم «العدم شرّ بالذات» هو أنّ الجهة العدمیّة هی التی تتّصف أوّلاً وفی الرتبة المتقدّمة بالشرّ فی النظر التحلیلىّ العقلىّ الدقیق،
1. راجع: نفس المصدر: ج7، ذیل الصفحة 6267.
حیث تتمیّز جهته الوجودیّة عن جهته العدمیّة. وأمّا ما یقال «الألم شرٌّ بالذات» فهو فی مقابل اتّصاف بعض اللّذات بالشرّ من حیث استتباعها لألم أشدَّ، فتفطّن.
قد تحقّق أنّ الشرّ أیّاً ما كان لا ینفكّ عن جهة عدمیّة، سواء كان الأمر المتّصف بالشرّ ذا جهة واحدة هی بعینها العدمیّة كالجهل، أو كان ذا جهات وكان شرّیته راجعة إلى جهته العدمیّة، وسواء اعتبرنا نفس الجهة العدمیّة شرّاً بالذات (كما فی النظر التحلیلیّ الدقیق) أو اعتبرنا الجهة العدمیّة حیثیّةً تعلیلیّةً خارجةً عن ذات الشرّ (كما فی النظر الجلیل) وسواء كان العدم عدماً لكمال أوّل به قوام شیئیّة الشیء ویعبّر عنه بعدم الذات، أو كان عدماً لكمال ثانٍ یعبرّ عنه بعدم كمال الذات. فكلّما فرض شرٌّ كان لا محالة هناك أمر عدمّی. وهذا الأمر العدمیّ یكون عدماً لملكة هی خیر بالذات، ولابدّ من فرض موضوع یصحّ اتّصافه بهذه الملكة وبعدمها. والموضوع الخارجیّ الذی یعتبر له كمال أوّل أو كمال ثانٍ جائز الزوال لا یكون إلاّ من المادّیات، لأنّ المجرّدات ثابتة بذواتها وكمالاتها، ولا یصحّ فرض كمال جائز الزوال لها. فینتج أنّ الشرّ خاصّ بعالم المادّیات، حیث یوجد فیه تزاحم الفواعل فی التأثیر ممّا یتأدَّى إلى منع بعضها عن التأثیر فی إعداد شیء آخر لصورة جدیدة أو لكمال جدید، أو إلى فساد صورة وزوال كمال ثانٍ بعد تحقُّقهما.
وأمّا الأعدام والنقائص اللازمة للمهیّات حتّى المجرّدات فلیست ممّا یمكن تبدّلها إلى وجود حتّى تُعتبر أعداماً لملكات، ویُعتبر للموضوع شأنیّة الاتّصاف بها وبأعدامها. فلا تكون إلاّ أعداماً نسبیّة تنتزع من بعض مراتب الوجود بمقایستها إلى ما هو أتمُّ منها. ومثل هذه الأعدام لا تُعدّ شروراً، لأنّه لیس لموضوعاتها اقتضاء لمقابلاتها. فلیس للصادر الثانی مثلاً اقتضاء للوصول إلى مرتبة الصادر الأوّل حتّى
یعتبر نقص وجوده شرّاً له، كما أنّه لا یكون شرّاً لغیره أیضاً. نعم، للخیر مراتب، والخیر المحض الذی لا یتصوّر له جهة عدمیّة إطلاقاً هو الله تبارك وتعالى.(1)
بل یمكن أن یقال: إنّ الشرّ هو عدم لملكة یقتضیها شخص الموضوع لا نوعه فضلاً عن جنسه. فحرمان أنواع الحیوان من النفس الناطقة وكمالاتها لا یعدّ شرّاً لها، بل حرمان بعض أفراد الإنسان عن الكمال الذی یناله الأولیاء المقرّبون لا یعدّ شرّاً لهم إذا لم یكن لهم استعداد للوصول إلیه. وإنّما الشرّ هو حرمان كلّ فرد عمّا لشخصه استعداد خاصّ للوصول إلیه، واقتضاء لنیله، وشوق إلى تحصیله.
إلى هنا انتهى البحث عن حقیقة الخیر والشرّ والفحص عن مواردهما، وبذلك تهیّأت الأرضیّة للإجابة على السؤال عن سبب دخول الشرور فی القضاء الإلهیّ. والجواب المشهور هو المأثور عن المعلّم الأوّل، وهو أنّ الشرور الموجودة فی العالم المادّی لازمة للطبائع المادّیة بما لها من التضادّ والتزاحم، فلا سبیل إلى دفعها إلاّ بترك إیجاد هذا العالم، وفی ذلك منع لخیراته الغالبة على شروره، وهو خلاف حكمته وجوده سبحانه. مضافاً إلى أنّ كثیراً من هذه الشرور مقدّمة لحصول خیرات وكمالات جدیدة، فبموت بعض الأفراد تستعدّ المادّة لحیاة آخرین، وبإحساس الألم یندفع المتألّم إلى معالجة الأمراض والآفات وإبقاء حیاته، إلى غیر ذلك من المصالح التی تترتّب على الشرور.(2)
وهذا الجواب یتّفق مع القول بوجودیّة الشرور أیضاً، ویبتنی على أنّ شرور هذا
1. راجع: القبسات: ص428433.
2. راجع: السادس من تاسعة من إلهیّات الشفاء؛ والتلویحات: ص78ـ95؛ والمطارحات: ص466473؛ والقبسات: ص433435 و 448449؛ والأسفار: ج7، ص68ـ77.
العالم أقلُّ من خیراته. وقد عمد إلى إثبات هذه المقدّمة من طریق اللمّ بالاستناد إلى ما ثبت من عنایته تعالى. فیكون حاصل الجواب على القول بوجودیّة بعض الشرور أنّها مقصودة بالتبع وبالقصد الثانی. وأمّا على القول بعدمیّة جمیع الشرور فیكون الجواب أنّها مقصودة بالعَرض، لعدم ذات لها حتّى یتعلّق بها قصد حقیقی، سواء كان بالأصالة أو بالتبع.
وربما یستشكل على الجواب الأوّل بمنع غلبة الخیرات فی العالم الإنسانیّ، فإنّ أكثر أفراد هذا النوع لا ینالون جمیع الكمالات الإنسانیّة، خاصّةً بالنظر إلى قلّة المؤمنین بالنسبة إلى الكفّار والمشركین فی جمیع الأعصار، وبالأخصّ بالنظر إلى ما یلزم الكفر والعصیان من العذاب الخالد والشقاء الدائم.
وقد اُجیب عنه بأنّ قلّة الكاملین فی ما مضى لیس دلیلاً على قلّتهم فی ما سیأتی، فعنایته سبحانه تقتضی بقاء العالم بحیث یغلب فیه الخیر على الشرّ، والكامل على الناقص. وأمّا خلود الكفّار فی العذاب فقد أوّله بعضهم إلى طول المدّة، وذهب إلى أنّ الأمر ینتهی بأخرةٍ إلى نجاة الجمیع.(1)
لكن یمكن أن یجاب عنه بما یرفع الاستبعاد ولا یستلزم مخالفة نصوص الكتاب والسّنة. وهو أنّ غلبة الخیرات لا ینحصر فرضها فی أكثریّة الكاملین من حیث العدد، بل یتحقّق غلبة الخیرات بأخذ الكیفیّة وشدّة الخیریّة ومراتبها أیضاً بعین الاعتبار، فیمكن أن یكون الكاملون أقلَّ عدداً من الناقصین، لكن تكون مراتب كمالهم راجحة على شرور الهالكین.(2) بل لا یبعد أن تكون كمالات المعصومین(علیهمالسلام) راجحة على نقائص جمیع الأوّلین والآخرین، وهم المقصودون بالخلق بالأصالة.
1. نفس المصدر: ص79ـ81 و 88ـ90.
2. راجع: القبسات: ص437.
المشهور بین الحكماء أنّ ما سوى الله تعالى ینقسم انقساماً أوّلیّاً إلى عالمین اثنین: أحدهما عالم المادّیات، وهو عالم الأجسام بموادّها وصورها وأعراضها والنفوس المتعلّقة بها، وثانیهما عالم المفارقات، وهو عالم العقول المجرّدة عن المادّة، والمنزّهة عن آثارها وخواصّها كالزمان والمكان وغیرهما. وأنّ نظام العالم المادّیّ تابع لنظام العالم العقلیّ، كما أنّه بدوره ظلٌّ للنظام الربّانیّ فی علمه سبحانه. أمّا العالم المادّیّ فهو مشهود بالحسّ، ویثبت وجوده العینیّ بمعونة من العقل كما مرّت الإشارة إلیه تحت الرقم (390) وأمّا العالم العقلیّ فیثبت بالبرهان، وقد أقاموا براهین(1) لإثباته مما سبقت الإشارة إلی بعضها تحت الرقم (364).
وقد أثبت شیخ الإشراق عالَماً متوسّطاً بینهما سمّاه «عالم الأشباح المجرّدة» و«الصور المعلّقة» واستدلّ لإثباته بضرب من البرهان، وذهب إلى أنّ الإدراكات الجزئیّة تحصل بمشاهدة تلك الصور، وأنّها هی التی تظهر فی المرایا. وكان یرى أنّ حشر المتوسّطین إلى ذلك العالم. لكن كانت عمدة مستنده هی المكاشفات. وقد جعل عالم النفوس عالَماً برأسه، فتصیر العوالم عنده أربعة: أحدها عالم المفارقات المحضة التی یسمّیها بالأنوار القاهرة، وثانیها عالم النفوس التی یسمّیها بالأنوار المدبّرة والأنوار الإسفهبدیّة، وثالثها عالم الأشباح المجرّدة أو الصور أو المُثل المعلّقة (وهی غیر المُثل الأفلاطونیّة والعقول العرْضیّة) ورابعها عالم الأجسام التی یسمّیها بالبرازخ، ویصفها بالظلمات والغواسق والصیاصی. أمّا عالم الأشباح
1. راجع: الأسفار: ج7، ص262ـ276؛ وراجع: القبسات: ص380ـ387.
فیتشكّل من صور نوریّة للسعداء، وصور ظلمانیّة للأشقیاء، وینسب الجنّ والشیاطین إلى هذا العالم، كما أنّه ینسب الملائكة إلى عالم الأنوار القاهرة.(1)
وفی كلامه مواقع للنظر والمنع، كالقول بأنّ الإدراكات الجزئیّة تتعلّق بعالم الأشباح، وأنّ الصور المعلّقة هی التی تظهر فی المرایا، وأن الجنّ من عالم الأشباح، إلى غیر ذلك. ومن جانب آخر: فربما یتأیّد وجود عالم الأشباح بالأدلّة النقلیّة، خاصَّةً بالنظر إلى ورود تعابیر الأشباح والأظلال فی الروایات الشریفة. ویمكن تطبیق ما ورد فی عالم البرزخ علیه.
وقد ناقش صدر المتألّهین فی قسم من كلماته فی مواضع من كتبه، لكّنه سلّم عالم الأشباح المجرّدة، وجعل للنفس مراتب بإزاء العوالم الكلّیة، وهی مرتبتها العقلیّة بإزاء العالم العقلیّ، ومرتبتها المثالیّة التی ینسب إلیها الإدراكات الجزئیّة ویسمّیها «المثالَ الأصغر» بإزاء المثال الأعظم (عالم الأشباح المجرّدة)، ومرتبتها النازلة المتعلّقة بالبدن. وبهذا الشكل لا یعتبر عالم النفوس عالَماً برأسه، فتكون العوالم عنده ثلاثة، وهو الذی ارتضاه سیّدنا الاُستاذ(قدسسره) وركّز علیه فی مواضع من هذا الكتاب، واستدلّ علیه بما مرّ فی الفصل السابع عشر، وحاصله أنّ الموجود الإمكانیّ إمّا أن یوجد فیه القوّة والاستعداد والتغیّر والتحوّل، وهو الموجود المادّى، أو لا توجد فیه هذه الاُمور، وهو الموجود المجرّد. ثمّ المجرّد إمّا أن توجد فیه آثار المادّة وهو الموجود المثالیّ أو البرزخیّ، وإمّا أن لا یوجد فیه شیء من آثار المادّة، وهو المجرّد العقلیّ.
لكن مقتضى هذا التقسیم أن تُعدّ النفس فی بدء وجودها من عالم نازل، ثمّ بعد استكمالها ترتقی إلى أعلى، أو تُعتبر لها نشآت مختلفة. وهو خلاف ظاهر التقسیم. فالأولى جعلها نوعاً برأسه، ممّا لا یستلزم صیرورتها عقلاً من العقول بعدما كانت
1. راجع: حكمة الإشراق: ص138ـ148 و 229ـ236.
صورةً من الأشباح، بل لها جوهرها الخاص بها، القابل للاشتداد والتضعّف وللصعود والسقوط، وللعروج والنزول، من غیر أن ینقلب جوهرها ویتبدّلَ عالَمها. مضافاً إلى أنّ التقسیم الثانی هو تقسیم ثانویّ فی طول التقسیم الأوّل، فلْتجزْ تقسیمات اُخرى وإن لم نعلم بتفصیلها، ولیجزْ وجود عوالم اُخرى وإن لم یكن لعقولنا سبیل إلى معرفتها. وكیف كان فلا نرى موجباً لحصر العوالم فی الثلاث، فلیتأمّل.
بعد الفراغ عن إثبات العوالم تجیء النوبة إلى تبیین ارتباطها ببعض. فذكر الاُستاذ(قدسسره) أوّلاً أنّ بینها تقدُّماً وتأخّراً، وثانیاً أنّ بینها علاقةَ العلّیة، وثالثاً أنّها متطابقة باشتمال كلّ عالم أعلى على كمالات ما دونه، ورابعاً أنّها جمیعاً آیات للواجب تعالى.
أمّا الأوّل فیمكن أن یراد بتقدّم بعضها على بعض تقدُّمه بالشرف، لكن مراده هو التقدّم فی المرتبة الوجودیّة، خاصّة بالنظر إلى ما ركّز علیه كمقدّمة لهذه المطالب من كون الوجود حقیقةً واحدةً ذات مراتبَ مشكّكة. وأمّا الثانی فقد حاول تبیینَه بتوقُّف بعضها على بعض، وسبق المتوقَّف علیه. لكنّ التوقُّف غیر بیّن ولا مبیّن، والسبق أعمُّ من السبق بالعلّیّة. ولعلّه عوّل على النتیجة الاُولى بضمیمة تلك المقدّمة فی كون اللاحق متوقّفاً على السابق. ویلاحظ علیه أنّ التشكیك فی الوجود على نحوین: التشكیك العامّیّ كما فی لونین مختلفین بالشدّة والضعف مثلاً، والتشكیك الخاصّی الذی یوجد بین المعلول وعلّته المفیضة، والأوّل لا یثبت ما هو بصدده من العلّیّة الإیجادیّة، وثبوت الثانی ههنا رهن للبرهان. فمن المحتمل أن یكون العالم المثالیّ والعالم المادّىُّ صادرین معاً عن العالم العقلیّ ولیس هناك ما یثبت أنّ كلَّ مجرّد فهو واقع فی سلسلة العلل للمادّیات، كما أنّ الصور الذهنیّة والكیفیّات النفسانیّة لا توجد شیئاً من الجواهر المادّیة وأعراضها فی عالم الأعیان.
مضافاً إلى صعوبة تبیین صدور النفس بناءاً على وساطة عالم المثال، بالنظر إلى مراتبها المختلفة فی عین وحدتها، فلیتأمّل. وأمّا الثالث فهو فرع ثبوت العلّیة بین الجمیع، وأمّا الرابع فواضح لضرورة كون الجمیع معلولاً له سبحانه.
لم نجد خلافاً من الحكماء فی أنّ للعالم العقلیّ وساطةً فی إیجاد ما دونه. وأمّا نفس العالم العقلیّ ففی كثرته طولاً وعرضاً خلاف،(1) وأشهر الأقوال هو قول أتباع المشّائین بالعقول العشرة المترتّبة بعضها على بعض، ووساطة كلّ منها فی إیجاد مادونه. كما أنّ الأوّل منها واسطة فی إیجاد الفلك الأقصى والنفس المتعلّقة بها ـ على زعمهم ـ أیضاً، وأنّ الثانی منها واسطة فی إیجاد فلك البروج ونفسه، وهكذا إلى أن ینتهی إلى العقل العاشر الذی هو الفاعل المباشر لعالم العناصر. فعلى هذا القول لا یصدر فی المرتبة الأولى إلاّ العقل الأوّل، لكن فی كلّ واحدة من المراتب التالیة تصدر ثلاثة اُمور: عقل ونفس وجرم فلك، وأمّا العقل العاشر فیصدر عنه هیولى العناصر والصورة الجسمیّة المنطبعة فیها اللازمة لها، ثمّ جمیع الصور الجوهریّة وأعراضها حسب الاستعدادات الحاصلة من تأثیر الأوضاع الفلكیّة وحركاتها.
وأمّا الإشراقیّون فقد ذهبوا إلى أنّ فی المرتبة الأخیرة من مراتب العالم العقلیّ صدرت عقول كثیرة بعدد الأنواع الموجودة فی هذا العالم، وهی المُثُل الأفلاطونیّة، وسیأتی الكلام فی كلّ من القولین.
1. راجع: القبسات: ص387ـ389.
ومن المتّفَق علیه بین الكلّ أنّ الصادر الأوّل هو أشرف العقول وأكمل جمیع المخلوقات والواسطة لصدور ما دونه، وربما یتأیّد ببعض الروایات الواردة بشأن أوّل ما خلق الله تعالى. وقد استدلّوا على ذلك بقاعدة «الواحد» التی مرّ الكلام فیها تحت الرقم (243) وقد أشرنا هناك إلى أنّه یمكن إثبات هذا المطلب من طریق آخر غیر تلك القاعدة، وهو یبتنی على أصالة الوجود، وكونه ذا مراتب طولیّة، وأنّ الوجود كلّما كان أقوى كان أبسط وأقرب إلى التأحّد، فلابدّ أن یكون أعلى المراتب الإمكانیّة وأقربها إلى الذات الأحدیّة أبسطَها وأشملَها للكمالات الإمكانیّة، ولا یمكن فرض ثان له فی تلك المرتبة.
الذی یثبت بقاعدة «الواحد» هو الوحدة النوعیّة للصادر الأوّل ـ بناءاً على اختصاص القاعدة بالواحد النوعیّ ـ فیبقى السؤال عن الدلیل على وحدته الشخصیّة. ولأجل الإجابة علیه استندوا إلى قاعدة اُخرى هی «انحصار كلّ مجرّد تامّ فی شخص واحد» وقد مرّ الكلام علیها تحت الرقم (108). وأمّا الوجه الذی أشرنا إلیه آنفاً فهو یثبت الوحدة الشخصیّة أیضاً، فتدبّر.
بناءاً على تعمیم قاعدة «الواحد» لغیر الواجب ـ خلافاً لصدر المتألّهین فی بعض كلماته ـ یلزم أن تكون هناك سلسلة واحدة من العلل ولا یصدر عن شیء منها إلاّ معلول واحد یكون بدوره علّة لما دونه، فیثور السؤال عن كیفیّة حصول الكثرة العرْضیّة، وعن إمكان صدور جرم الفلك ونفسه عن كلّ من العقول التسعة مع صدور عقل منه، وكیفیّة حصول الكثرات فی عالم العناصر وصدورها عن العقل
العـاشر ـ حسب ما زعموا ـ وكذا عن كیفیّة صدور العقول العرْضیّة الكثیرة على رأی الإشراقیّین.
وقد احتالوا للإجابة علیه(1) بأنّ العقل الأوّل وإن كان واحداً شخصیّاً إلاّ أنّه تلزمه جهات متعدّدة هی علمه بمهیّته الممكنة، وبوجوده الواجب بالغیر، وبعلّته الموجبة له، وهو الواجب تبارك وتعالى. فعلمه بالواجب الذی هو أشرف جهاته صار علّةً لصدور العقل الثانی، وعلمه بوجوده الواجب بالغیر صار علّة لصدور نفس الفلك الأقصى، وعلمه بإمكان وجوده هو علّة لصدور جرم ذلك الفلك، وهكذا إلى العقل التاسع. وأمّا العقل العاشر فالذی یصدر عنه بلا مشاركة من غیره هو جرم عالم العناصر، وأمّا ما یحدث فیه من الصور والأعراض فبمشاركة من التأثیرات الفلكیّة ممّا یؤدّی إلى استعدادات للمادّة لصور وأعراض حادثة. فلا تكون هذه الكثرة صادرة عن فاعل واحد بما أنّه واحد، فلا تنتقض قاعدة «الواحد» بها.
والذی دعاهم إلى هذه التكلّفات هو ما تسلّموه كأصل موضوع من الأفلاك التسعة ذوی النفوس، فالتزموا بوجود عقول تسعة لصدورها، وبوجود عقل عاشر لصدور عالم العناصر الذی هو فی جوف تلك الأفلاك. وقد اتّضح بفضل تقدُّم العلوم الطبیعیّة بطلان ذلك الأصل وفساده من أصله، فانهار البناء بعد انهدام الأساس على عروشه فضلاً عن نقوشه. مضافاً إلی ما كان یتوجّه إلیهم من أسئلة لم تكن تجدُ أجوبةً صحیحةً عندهم كما یلی:
الف) هل تلك الجهات الثلاثة المفروضة فی العقول كثرة حقیقیّة أو اعتباریّة؟ فإن اختیر الشقّ الأوّل لزم صدور الكثیر عن الواحد فی المرتبة الأولى، وإن اختیر الشقّ الثانی لزم ذلك فی المرتبة الثانیة؛
1. راجع: الفصل الرابع والفصل الخامس من المقالة التاسعة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: النجاة: ص273ـ278؛ والمباحث المشرقیة: ج2، ص501515؛ والأسفار: ج7، ص192ـ281.
ب) ما هی العلاقة الذاتیّة بین كلّ واحد من تلك العلوم وبین ما یصدر عنها بحیث یتعیّن بها صدور كلّ واحد من المعالیل الثلاثة عن جهة خاصّة بالضرورة؟ مع أنّ الذی یعتبر فی الفاعل العلمیّ هو علمه بمعلوله لا غیر؛
ج) لِمَ لم یصدر عن العقل الثانی أكثر من ثلاثة أشیاءَ بالرغم من زیادة جهة فیه، وهی علمه بالعقل الأوّل أیضاً؟ وهكذا فی سائر العقول حیث یزداد جهاتها كثرةً؛
د) ما هو المانع عن صدور عقل آخر وفلك آخر مع نفسِه عن العقل العاشر؟ إلى غیر ذلك وكیف كان فقد طوى سیّدنا الاُستاذ(قدسسره) عن هذه الفرضیّة كشحاً، ومرّ بها كریماً. وركّز على أنّ الوجود كلّما تنزّل ازدادت جهة الكثرة فیه، فیجب أن تتنزّل مراتبه إلى حیث تتكافأ تلك الجهات مع ما فی العالم الذی یلی عالم العقول من الكثرة، وهو عالم المثال حسب رأیه.
لفظة «المُثل» فی كتب الفلسفة مقرونة ب «أفلاطون» بحیث صارت الكلمتان تتداعیان فی الذهن كالحاتم والسخاء... ولا شكَّ أنّ القول بالمُثل یشكّل رُكناً من أركان فلسفة أفلاطون، بل لیس من الجزاف أن یقال: إنّه رُكنها الركین وعمادها القویم، لأنّه علیه یبتنی كثیر من نظریّاته فی باب المعرفة، ونظام الوجود، والأخلاق وغیرها. وبالرغم من اشتهار هذا القول لیس لدینا ما یوضح كلَّ جوانبه، ویُحدّد صِلاتِه بسائر المسائل. وقد اختلفت كلمات الناقلین والشارحین بحیث یصعب الجمع بینها والاستیقان بمراد أفلاطون بالضبط.
والمتیقَّن أنّه كان قائلاً بوجود اُمور مجرّدة تامّة لها علّیة لما فی هذا العالم المادّی. لكن حول ذلك نقاط مبهمة كثیرة لم تتوضّح للمحقّقین الجُدُد من
الغربیین أیضاً، فلا تزال موضعَ نقاش وجدال بینهم، لا فی قبولها أوردَها فحسب، بل فی تعیین ما كان یعتقد أفلاطون بشأنها. وإلیك نماذج من الأسئلة التی تتعلّق بهذه النقاط:
1. هل لجمیع ما ینتسب إلى هذا العالم مثال عقلیّ، سواء كان من الطبیعیّات أو الریاضیّات أو غیرها، أو هی مختصّة بالطبیعیّات؟ ثمّ هل هی لجمیع الطبیعیّات أو لكلّ الأنواع الجوهریّة منها، أو للأنواع الشریفة خاصّةً، فلا یوجد للأشیاء الخسیسة والخبیثة مثال عقلىٌّ ـ كما عن بعض محاوراته ـ ؟
2. هل للأخلاق والجمال أیضاً مُثل عقلیّةٌ أو لا؟ وعلى الإثبات فهل للأخلاق الرذیلة أیضاً مثال أو مُثُل أو لا؟
3. هل المُثل جواهرُ عینیّةٌ قائمة بذواتها أو هی صور عقلیّة قائمة بذات البارئ سبحانه ـ كما ربما یظهر من الفارابیّ حیث حاول الجمع بین رأی أفلاطون ورأی تلمیذه أرسطو فی هذا الباب ـ ؟
4. هل تحصل المعرفة العقلیّة والعلم بالمفاهیم الكلیّة دائماً بمشاهدة المُثل أو تذكّرها أو یختصّ ذلك ببعض العلوم؟ وعلى الأخیر فكیف یحصل العلم بسائر المفاهیم الماهویّة والمعقولات الثانیّة والمفاهیم الاعتباریّة؟
5. هل كان أفلاطون نفسه یبرهن على وجود المُثل أو كان یكتفی بالشهود والتجربة الذاتیّة أو بالاعتماد على شهود الآخرین أو آرائهم؟
6. ما هی النسبة بین المُثل أنفسها؟ هل هی جمیعاً فی عرْض واحد بلا تفاضل بینها أو هی على طبقات متفاوتة ودرجات متفاضلة؟ وإذا كان بینها تفاضل فهل یعنی ذلك نوعاً من العلیّة بینها أو لا؟
7. ما هی النسبة بین المُثل والطبائع الكلیّة وأفرادها المادیّة؟ هل المُثل هی الطبائع أو أفراد مجرّدة منها أو لا هذا ولا ذاك وإنّما هی علل فاعلیّة للأفراد؟
ولعلّك تحصل على أجوبة لهذه الأسئلة فی ما نقل عنه فی مطاوی كتب القوم(1) وخاصّةً فی كتب شیخ الإشراق، لكنّها غیر مفیدة للیقین، مضافاً إلى ما یتراءى بینها من تعارضات.
وكیف كان، فكلام الاُستاذ(قدسسره) ههنا مبنیٌّ على اعتبار المُثل كأفراد مجرّدة من المهیّات النوعیّة الجوهریّة التی توجد لها أفراد مادّیة فی هذا العالم، وإن لم نجد تصریحاً بفردیّتها لتلك المهیّات فی مصدر معتبر، وإنّما حمل صدر المتألّهین كلامهم علیه لئلاّ یرد علیه بعض الإشكالات.(2)
هذا الدلیل هو الذی أقامه شیخ الإشراق فی المطارحات،(3) ونقله عنه فی الأسفار،(4) وحاصله أنّ القوى النباتیّة أعراض ثابتة فی النباتات، فلابدّ من حامل ثابت لها، وهو إمّا الروح البخاریّ أو نفس الأعضاء أو النفس المدبّرة المتعلّقة بها أو العقل المفارق. أمّا الروح البخاریّ والأعضاء فهی دائمة التحلّل والتبدّل فلا تصلح لحفظ تلك القوى، وأمّا النفس فلیست موجودة للنبات، وإلاّ لكانت ضائعة متعطّلة ممنوعة من الكمال أبداً، وهو محال. فلابدّ أن تكون أفعالها العجیبة التی تؤدّی إلى حصول الهیئات الحسنة والتخاطیط الرائعة صادرةً عن عقل مفارق حافظ لقواها ومدبّر لأفاعیلها.
1. راجع: الفصل الثانی والفصل الثالث من المقالة السابعة من إلهیّات الشفاء؛ والمطارحات: ص453-464؛ وحكمة الإشراق: ص138ـ147 و 155ـ167؛ والمباحث المشرقیة: ج1، ص110ـ113؛ والأسفار: ج2، ص46ـ81؛ وج5: ص504506؛ وج7: ص169ـ171.
2. نفس المصدر: ج2، ص62.
3. راجع: المطارحات: ص455459.
4. راجع: الأسفار: ج2، ص5355.
ویلاحظ علیه أوّلاً أنّه لو تمّ لدلّ على ثبوت المُثُل للنباتات فقط، أمّا الجماد فلیست له تلك القوى المختلفة الثابتة، وأمّا الحیوان فله نفس مدبّرة تغنیه عن تدبیر المفارق مباشرةً، وثانیاً أنّ هذا البیان مبتنٍ على إنكار الصور الجوهریّة المنطبعة فی المادّة، فلیس بمقنع لأتباع المشّائین، ولهم أن یقولوا بأنّ حامل القوى هو تلك الصورة النوعیّة، وأمّا تدبیرها الحكیم فمستند إلى العقل الفعّال، كما جاء فی المتن.
هذا الدلیل هو الذی أقامه فی حكمة الإشراق(1) وضمّ إلیه صدر المتألّهین(2) بعض ما ذكره فی المطارحات، وحاصله أنّ الأنواع الطبیعیّة باقیة منحفظة بأفرادها، ولیس وجود الأفراد واحداً بعد واحد بمجرّد الاتّفاق، فهناك تدبیرٌ واعٍ لحفظها وإبقائها، ولایكون ذلك إلاّ من قِبل عقل مفارق حافظ للنوع بتعاقب الأفراد وتكاثرها، خاصّةً بالنظر إلى ما فی صُنع كلّ فرد منها من الحِكم والأسرار العجیبة التی لا یمكن إسنادها إلى مزاج أو قوّة عمیاء.
ویلاحظ علیه أنّ بقاء النوع معلول لأفاعیل الأفراد كأنواع التناسل والتولید، وتلك الأفاعیل هی من خواصّ صُورَها النوعیّة. وأمّا هذا النظام الحكیم الجاری فیها فهو مستند إلى العقل الفعّال، وهذا البیان لا یُثبت وجود مدبّر خاصّ بكلّ نوع.
هذا الدلیل هو الذی أشار إلیه فی حكمة الإشراق بقوله «إمکان الأشرف یقتضی
1. راجع: حكمة الإشراق: ص143ـ144.
2. راجع: الأسفار: ج2، ص5657.
وجود هذه الأنواع النوریّة المجرّدة»(1) وقد ناقش فیه الاُستاذ(قدسسره) بما حاصله أنّه إمّا أن یشترط فی مجرى القاعدة كون الأشرف والأخسّ من نوع واحد(2) وإمّا أن لا یشترط ذلك، فعلى الاشتراط لا نسلّم صحّة القاعدة لقصور برهانها عن إثبات هذا الشرط ـ على ما سیأتی ذكره ـ فإنّ مقتضى ذلك البرهان هو لزوم وجود الممكن الأشرف فی مرتبة متقدّمة على وجود الأخسّ ممّا یرجع إلى علّیته له، لا لزوم صدق مهیّة الأخسّ على الأشرف أیضاً بحیث یصیران من نوع واحد. وأمّا بناءاً على عدم الاشتراط فلا تثبت بها المُثُل بمعنى الأفراد المجرّدة من الأنواع بحیث تندرج تلك الأفراد فی مهیّاتها، وإنّما یثبت بها وجود موجود أشرفَ واجدٍ لكمالات الأخسّ بنحو أتمَّ، وإن لم یندرج فی مهیّة الأخسّ، وهذا هو العقل الفعّال المشتمل على جمیع كمالات مادونه.
وهذا المناقشة مبنیّة على تفسیر المُثُل بالأفراد المجرّدة من المهیّات التی لها أفراد مادّیة أیضاً، كما أشرنا إلیه تحت الرقم (465) وهو الذی التزم به صدر المتألّهین ونسبه إلى صریح كلماتهم، خلافاً لشیخ الإشراق حیث حمل كلامهم على مجرّد المناسبة والعلّیة لا المماثلة النوعیّة.(3) وهذا هو مقتضى كلامه ههنا أیضاً حیث عبّر ب «الأنواع المجرّدة» دون «الأفراد المجرّدة من الأنواع». وقد أشرنا إلى أنّا لم نظفر بدلالة صریحة بل ظاهرة ممّا نقل عن أفلاطون على التفسیر الذی قدّمه صدر المتألّهین للمُثل، ولعلّ تفسیر شیخ الإشراق هو الأقرب.
وكیف كان، فلقائل أن یقول: یمكن أن یثبت بقاعدة إمكان الأشرف والأخسّ وجود عقول عرْضیّة متوسّطة بین العقل الفعّال ـ حسب ما یراه المشّاؤون ـ والعالَم
1. راجع: حكمة الإشراق: ص143؛ والأسفار: ج2، ص58.
2. راجع: نفس المصدر: ج7، ص247.
3. نفس المصدر: ج2، ص60.
المادّیّ، من غیر أن تُعتبر أفراداً مجرّدةً للأنواع المادّیة، سواء كانت هی التی سمّاها أفلاطون بالمُثل أو غیرها.
تقریر ذلك أنّ العقل یجوّز أن تكون هناك موجوداتٌ مجرّدة بحیث یكون كلّ واحد منها واجداً لكمالات نوع واحد من المادّیات بنحو أتمَّ ـ لا لكمالات جمیع الأنواع المادّیة كالعقل الفعّال المفروض ـ بحیث یصلح أن یكون علّة لما بحذائه من النوع المادّی، فبمقتضى تلك القاعدة یجب أن یكون هذا الأشرف موجوداً فی مرتبة متقدّمة على النوع المادّی وعلّةً مباشرةً له.
وعلى هذا یمكن أن یكون نظام العالم العقلیّ بهذا الشكل: یكون فی المرتبة الأولى موجود بسیط واجد لجمیع الكمالات الإمكانیّة، وهو العقل الأوّل، ویلیه عدد من العقول فی مرتبة واحدة، لكلّ منها قسم من الكمالات الموجودة فی العقل الأوّل، وهكذا تتنزّل مرتبة العقول إلى أن توجَد عقول یكون كلّ واحد منها واجداً لكمالات نوع واحد من المركّبات والموالید فی هذا العالم كالإنسان وسائر أنواع الحیوان والنبات، ثمّ یصدر عن كلّ واحد منها عقول اُخرى یكون كلّ واحدٍ منها واجداً لنوع خاصّ من كمالات هذه الأنواع، وعلّةً لنوع بسیط من الأنواع المادّیة كالعناصر مثلاً. وفی هذا النظام یكون كلّ عقلٍ واقعٍ فی مرتبة علیا مهیمناً على العقول الجزئیّة الصادرة عنه وتكون للعقول المتكافئة أیضاً مراتب شتّى. ولعلّه أوفق بما ورد فی لسان الشرع من طبقات الملائكة(علیهمالسلام)، كما أنّ منهم من هو فی مرتبةٍ أدونَ من مراتب العقول، وهم الموكَّلون بعالم البرزخ والحوادث المادّیة، كما ورد فی الروایات الشریفة، والله العالم.
قد لاحظْنا أنّ أحسن ما یتمسّك به لإثبات العقول العرْضیّة هو قاعدة إمكان الأشرف،
ولم یبحث عنها فی هذا الكتاب حتّى الآن، ولهذا فقد تصدّى لبیانها والاستدلال علیها. وأوّل من استعملها هو المعلّم الأوّل فی كتاب السماء والعالم حیث نقل عنه أنّه قال: «یجب أن یعتقد فی العلویّات ما هو أكرم» وتبعه فلوطین الإسكندرانیّ فی «اُثولوجیا» ثمّ الشیخ الرئیس فی مواضع من الشفاء والتعلیقات، وقد اعتنى بشأنها شیخ الإشراق فی التلویحات والمطارحات وحكمة الإشراق(1) وتبعه الشهرزوریّ فی «الشجرة الإلهیّة» ثمّ أمعن السیّد الداماد(2) وصدر المتألّهین(3) فی تحقیقها ودفع ما استشكل علیها.
هذه الحجّة هی التی أقامها شیخ الإشراق وقرّرها قطب الدین الشیرازیّ فی شرح حكمة الإشراق والسیّد الداماد فی القبسات وصدر المتألّهین فی الأسفار، حاصلها أنّه لو لم یوجد الأشرف قبل الأخسّ ـ بأن لا یوجَد العقل الأوّل قبل الثانی مثلاً ـ فإمّا أن یصدر معه أو بعده أو لا یصدر أصلاً. والأوّل یستلزم صدور الكثیر عن الواحد، والثانی یستلزم علّیّة الأخسّ للأشرف، والثالث یستلزم حاجة الأشرف إلى علّةٍ أشرفَ من الواجب تعالى وهو محال، أو امتناع وجوده والمفروض أنّه ممكن.
وهذه الحجّة مبتنیة على قاعدة امتناع صدور الكثیر عن الواحد وقد مرّ الكلام فیها. ثمّ إنّ المحقّق الدوانیّ أورد إشكالاً علیها فی شرح الهیاكل، وقد وصفه السیّد الداماد بالشك المعضل، وصدر المتألّهین بالشكّ العویص، وتصدّیاً لدفعه،(4) ولا نطیل ببیانه والمناقشة فیه، كما أنّ السیّد أقام برهانین آخرین علیها.(5)
1. راجع: التلویحات: ص3142؛ والمطارحات: ص434435؛ وحكمة الإشراق، ص154.
2. راجع: القبسات: ص372ـ380.
3. راجع: الأسفار: ج7، ص244ـ257.
4. راجع: القبسات: ص374ـ377؛ والأسفار: ج7، ص249ـ253.
5. راجع: القبسات: ص377ـ378.
حاصل هذا الدلیل أنّ العلّیة علاقة ذاتیّة بین الوجود الرابط والوجود الذی هو مستقلّ بالنسبة الیه، ویرجع ذلك إلى التشكیك الخاصّی فی مراتب الوجود، فلو وُجد الأخسّ ولمّا یوجد الأشرف بعدُ كان وجوده بلا علّة مباشرة، ویعنی ذلك استقلاله عنها.
ویمكن أن یناقش فیه بأنّ الأخسّ فی الفرض المذكور لا یصیر مستقّلاً مطلقاً، فإنّه رابط بالنسبة إلى الواجب تعالى، ولزوم الواسطة بینهما ممنوع.
لكن یمكن الدفاع عنه بأنّ علاقة العلّیة بین شیئین إمّا واجبة وإمّا ممتنعة ولا ثالث لهما، لأنّ فرض إمكانها الخاصّ ینافی ذاتیّتها، فإمكانها مساوق لوجوبها، فلو أمكن علّیة شیء للأخسّ المفروض كان ذلك واجباً. وقد مرّ نظیر الكلام فی خامس الاُمور التی ذكرناها تحت الرقم (231). وبهذا البیان یثبت تسلسل مراتب الوجود وامتناع الطفرة بینها.
وبالنظر إلى ذلك یبدو إشكال، هو أنّ مراتب الوجود تُشكّل سلسلةً ممتدّةً تتمثّل فی الذهن كخطّ مستقیم، فكلّما أخذنا مرتبتین منها أمكن فرض مرتبة متوسّطة بینهما وهكذا إلى غیر النهایة، فیلزم أن تكون مراتب الوجود غیر متناهیّة وهی محصورة بین حاصرین: مرتبة وجود الواجب وأیّ مرتبة أخذناها بعین الاعتبار إلى أدنى مراتب الوجود.
قال صدر المتألّهین: «وهذا الإشكال ممّا عرضته على كثیر من فضلاء العصر، وما قدر أحد على حلّه»(1) ثمّ ذكر فی دفعه ما استفاده من التأمّل فی حقیقة النفس ومراتبها ودرجاتها، حاصله أنّ تلك المراتب غیر منفصلة بعضها عن بعض، إلاّ فی مقاطع محدّدة تتعیّن بظهور آثار خاصّة. وبعبارة اُخرى: هی كالأجزاء المفروضة لامتداد واحد، حیث لا تستلزم اجتماع اُمور غیر متناهیة بالفعل بین حدّین.
1. راجع: الأسفار: ج7، ص255.
وجدیر بالذكر أنّه أسّس قاعدة اُخرى سمّاها «إمكان الأخسّ» وأثبت بها الحیاة المثالیّة والإدراكات الخیالیّة فی عالم البرزخ والصور الجوهریّة فی عالم المادّة.(1)
وهو نظیر اصطلاح المتشرّعة حیث یسمّون العالم المتوسّط بین الدنیا والآخرة برزخاً، وكأنّه مأخوذ من قوله تعالى: «وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى یَوْمِ یُبْعَثُونَ»(2) بل یمكن أن یقال إنّه هو بعینه، وإنّما الفرق بینهما من حیث قوس النزول والصعود. وهذا العالم هو الذی یسمّیه شیخ الإشراق «عالم الأشباح المجرّدة» و«المُثُل المعلّقة» وهو غیر عالم البرازخ ـ حسب اصطلاحه ـ فإنّ المراد به هو عالم الأجسام المادّیة، كما مرّ تحت الرقم (460).
والمعوّل فی إثبات هذا العالم على المكاشفات التی یؤیّدها بعض الأدلّة النقلیّة. ولو ثبت إمكان علّیة الصور المثالیّة للاُمور المادّیة ـ كما هو رأی سیّدنا الاُستاذ ـ لَجَرَت فیها قاعدة إمكان الأشرف أیضاً، لكن إثبات ذلك مشكل كما أشرنا إلیه تحت الرقم (461) ولعلّه لهذا لم یستدلّ بها شیخ الإشراق وصدر المتألّهین لإثبات هذا العالم.
ولقائل أن یقول: یمكن إجراء القاعدة فی الصور المعلّقة من جهة أنّها أشرف من صورنا الذهنیّة الخیالیّة، حیث إنّها أعراض قائمة بالنفس وهی جواهر قائمة بذواتها، لكن غایة ما یثبت بها علّیتها للصور الإدراكیّة الجزئیّة لا لجمیع ما فی هذا العالم من الجواهر والأعراض، كما یمكن أن یستدلّ بقاعدة إمكان الاخسّ، فلیتأمّل.
1. نفس المصدر: ص257ـ258.
2. سورة المؤمنون، الآیة 100.
قد مضى فی الفصل السابق أنّ مراتب العقول تتنزّل إلى عقل تُوجَد فیه جهات من الكثرة تتكافأ مع ما فی العالم الذی یلیه من الكثرة، وهو عالم المثال. فجهات الكثرة وإن لم تكن متمایزة فی وجود العقل إلاّ أنّه یوجَد بحذاء كلّ منها جوهر مثالیّ هو ظلّ ومعلول لتلك الجهة. ثمّ إنّ هذه الجواهر المثالیّة تتمثّل بعضها لبعض على هیئات مختلفة تتحقّق بها جهات اُخرى من الكثرة بحیث تصلح لصدور كثرات متكاثرة عنها فی العالم المادّی. وتلك الجهات المتعدّدة فی الجواهر المثالیّة لا تنافی وحدة الجوهر فی كلّ واحد منها. وقد مثّل لذلك مثالاً للتقریب إلى الأذهان، وهو أن یتصوّر عدّةٌ من الأفراد شخصاً واحداً فی ذهنه بأن یتمثّل ذلك الشخص فی كلّ ذهن على هیئة خاصّة غیر ما فی ذهن الآخر من الهیئة. فالهیئات مختلفة والشخص واحد، فتأمّل.
ثمّ انتقل إلى ما ذكره صدر المتألّهین من تقسیم المثال إلى مثالٍ أصغرَ هو مرتبة من مراتب النفس، ومثالٍ أعظمَ هو ذلك العالم المستقلّ عن الأذهان، وأشار إلى ما استدلّ به للمثال الأصغر من تحقّق صور قبیحة وجزافیّة لا یصحّ استنادها إلى ذلك العالم، وقد مرّت الإشارة إلیه تحت الرقم (355).
الذی تبیّن لنا من الأبحاث السابقة هو الوحدة الاتّصالیّة بین الجواهر المادّیة ووحدة النظام الجاری فی هذا العالم. وأمّا كون العالم المادّیّ برمّته شخصاً واحداً ذا حركة واحدة شخصیّة فقد مرّ الكلام فیه تحت الرقم (295 و 313 و 317).
كون المجرّد غایة للمادّی یتصوّر على وجوه: أحدها أن یكون المجرّد غایةً بالذات لحركة المادّی، وثانیها أن یكون غایةً لها بالعرض، وثالثها أن یكون علّةً غائیّةً لها. أمّا غایة الحركة بالذات فقد مرّ تحت الرقم (303) أنّها هی الطَرف العدمیّ الذی تنتهی إلیه الحركة المتناهیة كالنقطة من الخطّ، وأمّا العلّة الغائیّة فقد مرّ تحت الرقم (258ـ262) أنّها تختصّ بذوی الشعور، فیبقى أن یكون المجرّد غایةً بالعرض للحركات الطبیعیّة، وعلّةً غائیّةً لبعض الحركات الإرادیّة، فافهم.
وههنا یشیر إلى مسألة ربط الحادث بالقدیم والمتغیّر بالثابت، التی كانت تُبیَّن على أساس حركات الأفلاك مع ثبات ذواتها، والتی وَجدتْ حلّاً وافیاً على ضوء الحركة الجوهریّة التی أثبتها صدر المتألّهین، حیث تبیّن أنّ وجود الجوهر الجسمانیّ هو عین التغیّر والحركة والسیلان، فإفاضة هذا الوجود یعنی إیجاد الحركة لا إیجاد شیء وجَعْله متحرّكاً جعلاً تركیبیّاً، ولا یلزم أن یكون الموجِد متغیّراً ومتحرّكاً، لأنّ الموجِد هو الفاعل الإلهیّ لا الفاعل الطبیعیّ، وبعبارة اُخرى: تتنزّل مراتب الوجود إلى أضعف مراتبها التی لیس لها وجود جمعیٌّ، وإنّما تحصل شیئاً فشیئاً بحیث ینتزع عنه الزمان والحركة، ولا یقتضی ذلك سریان الزمان والحركة إلى الفاعل. فالنسبة الإیجادیّة لا تقع فی ظرف الزمان، ولا تكون مسبوقة بعدم زمانیّ، بل المنتسب وطرف الإضافة هو عین التجدّد والتغیّر والسیلان، وینتزع مفهوم الحركة والزمان من نحو وجوده.(1)
1. راجع: الأسفار: ج3، ص133ـ141.
قد تحصّل من الأبحاث الماضیة فی المرحلة العاشرة أنّ الحدوث على أربعة أقسام: الحدوث الذاتیّ لكلّ ذی مهیّة، والحدوث الفقریّ لكلّ وجود امكانیّ، والحدوث الدهریّ لكلّ ما ینسب إلى وعاء الدهر، والحدوث الزمانیّ الذی لا یتّصف به إلاّ الزمانیّات. ثمّ إنّه لا ریب فی الحدوث الذاتیّ لجمیع ما سوى الله تعالى، ومثله الحدوث الفقریّ أو الحدوث بالحقّ على القول بأصالة الوجود، وكذا الحدوث الدهریّ على ما قال به السیّد الداماد.
وأمّا الحدوث الزمانیّ فهو معركة الآراء بین الفلاسفة والمتكلّمین: فالمشهور بین المتكلّمین أنّ القِدم بجمیع معانیه خاصّ بالواجب تعالى، وأنّ ما سواه حادث ذاتاً وزماناً. وقد أنكروا وجود المجرّد التامّ المتعالی عن وعاء الزمان والمكان فی المخلوقات، وذهبوا إلى أنّ العالم (= العالم الجسمانیّ) حادث زماناً بمعنى أنّه مسبوق بعدم زمانیّ، وقد مرّ الكلام فیه فی الفصل السادس من المرحلة الرابعة والفصل الثالث من المرحلة الثامنة، وأشار إلیه أیضاً فی خاتمة المرحلة التاسعة، وسیتعرّض له فی آخر هذا الفصل.
وأمّا الفلاسفة فهم قائلون بوجود المجرّدات المتعالیة عن الزمان والمكان، وواضح أنّه لا معنى لاتّصافها بالحدوث الزمانیّ. وأمّا اتّصافها بالقدم الزمانیّ فیصحّ بمعنى سلبیّ أی سلب الحدوث الزمانیّ والزمان عنها لا بمعنى وجود زمان أزلیّ لها. وأمّا عالم الأجسام فالمشهور بینهم أنّ الأفلاك مع نفوسها قدیمة زماناً بمعنى ثبوت زمان أزلیّ لها حاصلٍ بحركتها الأزلیّة، وكذا جرم عالم العناصر بمادّته وصورته الجسمیّة، وإنّما یتّصف بالحدوث الزمانیّ أشخاص الجواهر النوعیّة وأعراضها.
وأمّا صدر المتألّهین فقد أثبت بفضل الحركة الجوهریّة أن لا شیء ثابتاً فی عالم الأجسام، فالأجرام الفلكیّة أیضاً لیس لها وجود ثابت، بل وجودها نفس الحدوث والتّجدد.(1) لكن لا یعنی ذلك انتهاء وجودها من جهة البدء إلى مبدء آنیّ، كما أنّ سلسلة الحوادث كذلك.
ثمّ إنّ السیّد الداماد بذل غایة مجهوده لإثبات الحدوث الدهریّ الانفكاكیّ لجملة ما سوى الله تعالى ثمّ نهض بإثبات تناهی الزمان ومقدار الحركة وعدد الحوادث، وأجرى فیها براهین التسلسل لاجتماعها جمیعاً فی وعاء الدهر.(2) وهذه المسألة تشكّل المحور الرئیسیّ لأبحاثه فی كتاب القبسات، وقد صرّح فی مقدّمته أنّ إثبات حدوث العالم هو الغرض من تدوینه.
وأمّا الاُستاذ(قدسسره) فقد حاول إثبات الحدوث الزمانیّ لعالم الأجسام من طریق آخر، وهو أنّ هذا العالم ـ كما مرّ فی الفصل السابق وفی المرحلة التاسعة ـ حركةٌ جوهریّة ممتدّة، ولا ریب أنّ كلّ قطعة منها حادثةٌ حدوثاً زمانیّاً، فالمجموع أیضاً كذلك، لأنّه لیس شیئاً وراء الأجزاء والقطعات. وذلك كما أن مجموع المجرّدات لیس شیئاً وراء أشخاصها، وبثبوت الحدوث الذاتیّ أو الفقریّ أو الدهریّ لكلّ واحد منها یثبت ذلك للمجموع.
ویلاحظ علیه ـ مضافاً إلى ما مرّ من الإشكال فی وحدة الحركة ـ أنّ حدوث كلّ جزء من الحركة لا یكفی دلیلاً على حدوث الكلّ كواحد ممتدّ، لأنّ كل جزء منها إنّما یتّصف بالحدوث الزمانی لسبق عدم زمانیّ علیه ینتزع منجزءآخر منها، لكن لا یجری ذلك فی الكلّ لعدم شیء سابق علیه سبقاً زمانیّاً. ولا یقاس هذا بالحدوث الذاتّی أو الفقریّ أو الدهرىّ، لأنّ ملاك تلك الأنواع من الحدوث موجود فی المجموع.
1. نفس المصدر: ج5، ص194ـ248؛ وج7: ص282ـ331.
2. راجع: القبسات: ص226ـ228.
والحاصل أنّ إسراء حكم الأجزاء أو الأفراد إلى المجموع إنّما یصحّ فی ما إذا لم تتصوّر للمجموع خاصّةٌ لا توجد فی الأجزاء والأفراد كما فی حدوث الكلّ حدوثاً ذاتیّاً أو فقریّاً أو دهریّاً، بخلاف الحدوث الزمانیّ فی الحوادث المتسلسلة، لصحّة اتّصاف كلّ واحدة منها بالمسبوقیّة بعدم زمانیّ، بخلاف المجموع. على أنّ اتّصاف الجزء الأوّل أو الحادثة الاُولى بذلك أیضاً ممنوع، فلا یصدق أنّ كلّ واحدة من قطعات الحركة مسبوقة بعدم زمانیّ. إلاّ أن یفسّر الحادث الزمانیّ بما له مبدء آنیٌ. ومع ذلك فتمكن المناقشة فیه أیضاً بمنع وجود المبدء الآنیّ لكلّ ما مضى، فلو فُرضت الحركة الجوهریّة غیر متناهیة زماناً من حیث البدء والختم لم یصحّ الاستدلال على إبطاله بوجود مبدء آنیّ لها من طریق وجود المبدء الآنیّ لكلّ قطعة من قطعاتها. على أنّه بناءاً على وحدة الحركة لا وجود للقطعات بالفعل حتّى یثبت لها حكم ویُسرى إلى الكلّ، فافهم.
فلو جرتْ براهین التسلسل فی الحوادث المتسلسلة ـ كما هو رأی السیّد الداماد ـ ثبت المبدء الآنیّ للعالم الجسمانیّ من حیث البدء والختم، لكن فی جریانها نظر كما نبّهنا علیه تحت الرقم (244) فتبقى المسألة مشكوكاً فیها من وجهة النظر الفلسفیّة، وإن شیءت فَسَمِّها «جدلیّة الطرفین» كما حكی عن المعلّم الأوّل والشیخ الرئیس، وإن كان كلامهما ناظراً إلی جهة اُخرى، كما نبّه علیها فی القبسات.(1) والله العالم.
إنّ ممّا تُمُسّك به لإثبات قِدم العالم ونفی المبدء الزمانیّ عنه هو إطلاق فاعلیّته
1. نفس المصدر: ص2 و 25ـ36.
تعالى وسرمدیّة فیضه ودوام جوده. قال صدر المتألّهین حكایة عنهم: «إنّ الواجب الوجود واحد من جمیع الوجوه، غیر متغیّر ولا متبدّل، وإنّه متشابه الأحوال والأفعال، فإن لم یوجد عنه شیء أصلاً بل كانت الأحوال كلّها على ما كانت علیه وجب استمرار العدم كما كان، وإن تجدّد حال من الأحوال المذكورة موجبةٌ لوجود العالم فهو محال، لأنّه لیس فی العدم الصریح حال یكون الأولى فیه أن یكون العالم موجوداً، أو بالبارئ أن یكون موجِداً، أو یكون فیه حال آخرُ تقتضی وجوبه، لتشابه الحال».
ثمّ قال: «وهذه المقدّمات كلّها صادقة حقّة اضطراریّة، لكن مع ذلك لا یلزم منها قِدم العالم، فإنّك قد علمت أنّ المهیّة المتجدّدة الوجود ثباتها عین التجدّد...».(1)
وقال فی موضوع آخر: «فالفیض من عند الله باقٍ دائمٌ، والعالم متبدّل زائل فی كلّ حین، وانّما بقاؤه بتوارد الأمثال، كبقاء الأنفاس فی مدّة حیاة كلّ واحد من الناس، والخلق فی لبس وذهول عن تشابه الأمثال، وبقائها على وجه الاتّصال».(2)
والحاصل أنّه سلّم أنّ مقتضى وجوب الوجود من جمیع الجهات ودوام فیضه سبحانه عدمُ تناهی سلسلة الحوادث من حیث البدء، لكنّ الاُستاذ(قدسسره) منعَ إمكان القابل، واستند إلى الحجّة التی أقامها على حدوث العالم زماناً فی الفصل السابق. فكما أنّ أبعاد العالَم المكانیّةَ متناهیّةٌ عندهم، وتناهیها لا ینافی سعة جوده سبحانه، كذلك تناهی بُعده الزمانیّ هو مقتضى البرهان، ولا ینافی دوام فیضه سبحانه.(3) أمّا العوالم التی فوق عالم الطبیعة فلا سبیل لهذه المحدودیّات إلیها، وإنّما محدودیّتها هی من حیث شدّة الوجود، وهی مقتضى إمكانها الذاتیّ وفقرها الوجودیّ، فمهما
1. راجع: الأسفار: ج7، ص299ـ300.
2. نفس المصدر: ص328.
3. راجع: القبسات: ص32.
بلغ كمال وجودها من الشرف والكرامة والقوّة والشدّة كانت رابطة محضة لا استقلال لها دون الواجب تعالى، ولا یمكن فرض واسطة بین المرتبة الوجوبیّة الغنیّة ومراتبها الإمكانیّة الفقیرة، فهو تعالى فوق ما لا یتناهى بما لا یتناهى. وأمّا محدودیة عالم الأجسام من حیث الزمان أو من حیث المكان فإنّما هی من قِبل ذاته، لقیام الحجّة على استحالة لا تناهیه، ولیست من إمساك الواجب تعالى عن توسعتها والإفاضة علیها.
لكن قد عرفت قصور البراهین عن إثبات تناهی الأبعاد وتناهی الزمان، فنذر المسألتین فی بقعة الإمكان، حتّى یذودنا عنهما قائم البرهان، والله المستعان.
حُكی عن بعض فلاسفة یونان وغیرهم القول بأنّ حوادث العالم تتكّرر بعد حقب من القرون، وذلك بحصول وضع للأفلاك مشابه لما كانت علیه فی الدورة السابقة، وهكذا تتكّرر الأدوار. وردّ علیه بأنّه لا دلیل علیه. لكن من المعلوم أنّ عدم الدلیل لا یكفی دلیلاً على العدم.
هذا فی الواقع إجابة لمطالبة الدلیل، وحاصله أنّ العلّة الفاعلیّة لوجود الحوادث هو العقل المفارق الدائم، ومقتضى دوام وجوده دوام أنواع معلولاته، وأمّا اشخاصها فهی منوطة بحصول شروط ومعدّات من الأوضاع الفلكیّة المتغیّرة، وبتكرّر تلك الأوضاع تتمّ العلّة لوجود أمثالها.
وحاصل الجواب هو منع انحصار الشروط والمعدّات فی الأوضاع المفروضة، ومنع تكرّر الأوضاع بعینها. مضافاً إلى بطلان فرضیّة الأفلاك، التی اعتبرتْ كأصل موضوع.
* * *
هذا آخر ما قدّر الله تعالى كتابته بأناملی الخاطئة حول كتاب نهایة الحكمة. فإن اهتدیتُ فبما هدانی ربّی، وإن ضللتُ فإنّما هو من قصوری وجهلی.
والحمد لله أوّلاً وآخراً، وصلّى الله على سیّدنا محمّد وآله الطاهرین، لا سیّما الحجّة ابن الحسن العكسریّ،(عجلاللهتعالیفرجهالشریف)، وجعلنا من أعوانه وأنصاره.
اللّهمّ إنّ هذا هدیّتی إلى سیّدی واُستاذی السیّد محمّد حسین الطباطبائیّ، صلواتك ورحمتك وبركاتك ورضوانك علیه. فتقبّل منّی بأحسن قبول، وزد فیها ما ینبغی لكرمك وجودك، إنّك جواد كریم وذو فضل عظیم.
إلهی منك ما یلیق بكرمك، ومنّی ما یلیق بلؤمی، فعاملْنی بفضلك، وشفّعْ فیّ أولیاءك الذین جعلتَهم ذخراً لعبادك العاصین.
«فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِیِّی فِی الدُّنْیَا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِی مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِی بِالصَّالِحِینَ».