معارف القرآن الكریم / 7
الأخلاق فی القرآن الكریم
الجزء الأول
محاضرات
الأستاذ الشیخ محمدتقی مصباح الیزدی
تدوین وتحقیق:
محمد حسین الإسكندری
نقله الى العربیة:
الشیخ كاظم الصالحی
راجع الترجمة ودقّقها:
الشیخ محمّد عبد المنعم الخاقانی
المقدمة
یَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً.1
وتَبارَكَ الَّذِی نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِیَكُونَ لِلْعالَمِینَ نَذِیراً.2
یَهْدِی بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَیُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَیَهْدِیهِمْ إِلى صِراط مُسْتَقِیم.3
والصلاة والسلام على رسول الله الذی أرسله شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِیراً * وَداعِیاً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِیراً4 وبعثه لیتمّم مكارم الأخلاق فی نفوس المؤمنین، ویزكّیهم ویعلّمهم الكتاب والحكمة ویأمرهم بالمعروف وینهاهم عن المنكر، ویحلّ لهم الطیبات ویحرّم علیهم الخبائث، ویضع عنهم إصرهم والأغلال التی كانت علیهم، وعلى آله الاخیار والائمة الأبرار الذین أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهیراً.
القرآن الكریم هو الهبة الإلهیّة الكبرى التی منّ الله بها على الإنسان بتنزیله على رسول الإسلام(صلى الله علیه وآله وسلم). القرآن نور ینیر القلوب، ودواء یسكن الآلام ویشفی الصدور وهو موعظة ینبّه الإنسان من الغفلة، (وهو الدلیل یدلّ على خیر سبیل).
(من جعله أمامه قاده الى الجنة ومن جعله خلفه ساقه الى النار).
قد بیّن كلّ ما یحتاجه الإنسان وَنَزَّلْنا عَلَیْكَ الْكِتابَ تِبْیاناً لِكُلِّ شَیْء.5
وعن أمیر المؤمنین(علیه السلام): (جعله ریّاً لعطش العلماء وربیعا لقلوب الفقهاء).6
(نور لا تطفأ مصابیحه، وسراج لا یخبو توقّده، وبحر لا یدرك قعره وینابیع العلم وبحوره...وعلما لمن وعى).7
(لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه).8
وعنه(علیه السلام): (ولا تنقضی عجائبه ولا یشبع منه العلماء).9
ما طرق سمعنا من آیات وروایات فی تعریف هذا الكتاب الإلهی والسماوی إنّما ینطق بهذه الحقیقة وهی أن نتدبر فی القرآن الكریم أكثر فأكثر، ونغوص فی أعماقه ونتزوّد من ینابیعه ومعارفه الصافیة والنفیسة قدر المستطاع، وما ورد فیها من تأكید على ما فی تلاوة القرآن واحترامه والاُنس معه من فضیلة كبیرة هو لإدراك معارف القرآن والعمل بآدابه وأحكامه، والخطوة الاُولى لذلك هو التدبر والتأمّل فی القرآن.
القرآن بدوره یدلّ فی موارد كثیرة على أنه أنزل لكی یتدبر الناس فی آیاته ویزدادوا علماً بمختلف التعابیر كـ وَلَعَلَّهُمْ یَتَفَكَّرُونَ ،10 لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ11 ولِیَدَّبَّرُوا آیَاتِهِ12 لیرغّب الناس فی التدبر فی آیاته لكی یقتبسوا من الأنوار الإلهیّة.
القرآن الكریم مجموعة متكاملة من المعارف البشریة والعلوم الإنسانیة، فهو یتحدّث عن التأریخ، والحقوق، والسیاسة، والأخلاق، والتربیة، والعقائد، والأحكام،وعلم الاجتماع و... ویطرح رؤیته الخاصّة فی جمیعها، فعلى العلماء المسلمین اكتشاف الرؤیة القرآنیة فی كلّ واحد من الموضوعات المذكورة، من خلال التأمّل واجراء الدراسة اللازمة وتقدیمها للمجتمع، سیّما جیل الشباب المتعطش فی العصر الحاضر ـ فی ضوء الموجة العارمة التی أوجدتها الثورة الإسلامیة فی العالم ـ لإدراك المعارف الإسلامیة أكثر من ذی قبلُ، ویرغّب فی التعرف على الرؤیة القرآنیة فی المجالات المذكورة وما شاكلها.
ولحسن الحظ فقد أنجزت خطوات كبیرة بهذا الشأن، وتحققت إنجازات أساسیة فی كشف وتبیان وطباعة ونشر معارف القرآن، وإن قام علماء ومفسّرو العصور السالفة بكتابة تفاسیر متعدّدة وتفصیلیة فی الغالب بأسالیب مختلفة، وقاموا بدراسة الآیات القرآنیة من زوایا مختلفة، فی حین تعتبر الدراسة التفصیلیة لمعارف القرآن فی المجالات المذكورة وخاصّةً مبادئ العقیدة والأخلاق وملاحظة أبعادها ومسائلها المتنوعة ابتكاراً وانجازاً حدیثاً.
فی هذا الباب ینبغی أن نشیر الى المفكّر البارع والأستاذ الفذّ آیة الله الشیخ مصباح الیزدی(حفظه الله) الذی حقق بأُنسه الكبیر مع القرآن الكریم، ونور قلبه ومساعیه الكثیرة فی التحقیق إبداعات وإنجازات نافعة حقاً فی معارف القرآن، وقد تمّ لحدّ الآن نشر أقسام كثیرة منها.
لقد قام سماحته بالتحقیق فی معارف القرآن متّبعاً طریقاً وبرنامجاً ونظاماً خاصّاً، وعرض حصیلته بدقة كدروس منذ عام 1974م فی دورات تعلیمیة وتحقیقیة فی (مؤسسة فی طریق الحق) بقم المقدسة وأبدى ملاحظاته الخاصّة وذلك فی فترات ومجموعات مختلفة. وقد تمّ نشر أقسام منها بعد تكمیلها وتنقیحها وإعدادها.
ومن الأقسام المهمة لـ (معارف القرآن) هو قسم الاخلاق. والأخلاق فی القرآن الكریم ذو أهمیة بالغة، وطبق الآیات والروایات تعتبر تزكیة النفس ـ وهی المحور الأساس فیهاـ من أهمّ الأهداف فی تنزیل القرآن وبعثة رسول الإسلام(صلى الله علیه وآله وسلم).
للأخلاق علاقة وطیدة مع الملكات النفسیّة، التزكیة وتهذیب النفس، الأعمال والسلوك الفردی والعلاقات الاجتماعیة للإنسان. وتقوم بتنظیم علاقة الإنسان مع ربه، وهكذا العلاقات بین أبناء المجتمع، وتنطلق بالفرد والمجتمع الى الفلاح والكمال، وبكلمة واحدة: إن لها الدورَ الأساس والشامل فی حیاة ومصیر الفرد والمجتمع الإنسانی.
من بین الموضوعات القرآنیة المختلفة خصّص سماحته قسطاً من اهتماماته التحقیقیة وجهده العلمی لدراسة موضوع الأخلاق فی القرآن الكریم، وله فی هذا القسم نكات وآراء وإبداعات قیّمة حقاً، وقد قام بتدریس حصیلة هذا التحقیق والجهد فی دورات تعلیمیة وتحقیقیة أقامتها مؤسسة (فی طریق الحق) فی الفترة 1984 ـ 1986 م ولا تزال كراساتها وأشرطتها موجودة.
ونظراً لعزمه على طباعتها ونشرها أوكل إلیَّ شرف القیام بتكمیلها وتنقیحها وإعدادها. وقد سعیت بقدراتی الضعیفة ولقلة الفراغ والانشغال الفكری أن لا أقصر فی ذلك ما أمكن، ومع ذلك فقد أنجزت المهمة ببطء وتأخیر.
فی بحث (الأخلاق فی القرآن) یكون لعوامل مختلفة دور فی صدور أفعال الإنسان الاختیاریة التی تمثّل المحور والموضوع الأساس فیه، أی إن بعض أفعال الإنسان ذات منشأ غریزی، فیما یترتب البعض الآخر من سلوكه على الانفعالات الروحیة كالوحشة والاضطراب وغیره، وفی الكثیر من الموارد تكون میول الإنسان ورغباته الفطریّة والخاصّة منشأً لتحقّق أعمال وسلوك خاص، وبالتالی فانّ سلوك الإنسان ینشأ فی بعض الموارد بتأثیر من عوامل حسیة وعاطفیة أعمّ من الأحاسیس والعواطف الایجابیة من قبیل الاُنس والحبّ، ومن المشاعر والعواطف السلبیة كالحقد والنفور، ویمكن تقسیمها حسب عواملها المختلفة الى أربع مجموعات مختلفة.
ومن جهة اُخرى یمكن تقسیم السلوك الاختیاری للإنسان وفق لحاظ آخر، أی یمكن تبویبه بلحاظ كونه ذا جهات مختلفة وارتباطه بموجودات مختلفة.
فی تبویب قسم (معرفة الأخلاق) من معارف القرآن اختار سماحته التقسیم الثانی إطاراً ومنهجاً للبحث، وقام بتقسیم السلوك الاختیاری للإنسان حسب الهدف من ممارسته ومتعلقه الى ثلاث مجموعات عامّة:
المجموعة الاُولى: الأعمال التی ینجزها الإنسان حسب ارتباطه بالله سبحانه كالتوجه الى الله، والرجاء من الله، والإیمان بالله، والخوف والخشوع بین یدی الله و... وتكون منشأً لعبادة الله.
المجموعة الثانیة: السلوك الذی یرتبط فی الأصل بالإنسان نفسه وإن ارتبط بالآخرین عرَضاً وبنحو ثانوی، أو لوحظ فیه الإرتباط مع الله سبحانه.
المجموعة الثالثة: الأعمال التی ینجزها الإنسان بحكم ارتباطه بالآخرین والعلاقات التی یقیمها معهم.
وعلى أساس هذا التقسیم استعرضوا الأخلاق فی القرآن فی ثلاثة أقسام عامّة وتحت ثلاثة عناوین عامّة:
1 ـ الأخلاق الإلهیّة.
2 ـ الأخلاق الفردیة.
3 ـ الأخلاق الاجتماعیة.
ولدینا مجموعة من الموضوعات والمفاهیم العامّة التی تمثّل فی الواقع فلسفة الأخلاق من وجهة نظر القرآن، فنتطرق قبل الخوض فی البحث حول الأخلاق الإلهیّة والأخلاق الفردیة والأخلاق الاجتماعیة الى دراسة وتحقیق هذه المسائل والقضایا من قبیل: المبادئ الموضوعة فی علم الأخلاق، خصائص المفاهیم الأخلاقیة، المفاهیم الأخلاقیة العامّة فی القرآن، فرق النظام الأخلاقی فی الإسلام مع النُّظم الأخرى، أساس القیمة الأخلاقیة فی الإسلام، وقضایا كثیرة اُخرى من هذا القبیل.
وكتاب (الأخلاق فی القرآن الكریم) الذی ینشر فی أجزاء ثلاثة یقسّم وفق الاُطروحة العامّة والتقسیم المذكور فی ضوء القضایا المذكورة كمقدمة الى اربعة أقسام عامّة:
القسم الأول: مفاهیم عامّة;
القسم الثانی: الأخلاق الإلهیّة;
القسم الثالث: الأخلاق الفردیة;
القسم الرابع: الأخلاق الاجتماعیة.
ینشر القسم الأول والثانی فی الجزء الأول من الكتاب، والقسم الثالث فی الجزء الثانی والقسم الرابع فی الجزء الثالث منه.
نسأل الله تعالى مزیداً من تأثیر الأخلاق القرآنیة فی المجتمع سیّما جیل الشباب، آملین أن یتقبل أعمالنا بفضله وكرمه، ولا یؤاخذنا على كلّ تقصیر وقصور، ویوفقنا برعایته لإكمال هذا المشروع.
30 / 1 / 1376 هـ .ش
محمد حسین الإسكندری
1 الكهف: 1 و2.
2 الفرقان: 1.
3 المائدة: 16.
4 الاحزاب: 45 و46.
5 النحل: 89.
6 نهج البلاغة: الخطبة 193.
7 نفس المصدر السابق.
8 اصول الكافی: 2: 598.
9 تفسیر العیاشی.
10 النحل: 44.
11 یوسف : 2.
12 ص: 29.