القسم الأول
7
- الأسباب العامّة للإنحطاط الأخلاقى
- أ ـ هوى النفس
- القرآن وهوى النفس
- توضیح هوى النفس
- النفس والعقل
- هوى النفس یمنع الإیمان
- الجهاد مع أهواء النفس
- ب ـ الدنیا
- العلاقة بین الدنیا والآخرة
- الدنیا المذمومة
- القرآن وذمّ الدنیا
- ج ـ الشیطان
- عمل الشیطان
- الشیطان وهوى النفس
- أ ـ هوى النفس
الأسباب العامّة للإنحطاط الأخلاقى
قلنا انّ ثمة عاملَین لهما دور أساس فی اكتساب القیم الأخلاقیة:
أ ـ الإحاطة العلمیة والمعرفیة بما یجب الإیمان به.
ب ـ دعم الرغبة نحو الأمور التی یجب الإیمان بها.
كما أشرنا الى هذه الحقیقة، وهی أنّنا ـ بعد العلم والمعرفة بالحقائق التی یجب علینا الإیمان بها ـ نشعر ببعض المیول المعارضة التی تحول أحیاناً وفی بعض الموارد دون ایمان الإنسان بها. من هنا یجب علینا السعی الجادُّ لمعرفة هذه المیول المعارضة وإضعافها، ودعم المیول المناسبة والایجابیة لكی نوفّق فی تطبیع نفوسنا مع القیم الأخلاقیة.
وبما أنّ بحثنا الفعلی عامٌّ ولا نعزم على البحث حول القیم الخاصّة وأضدادها، نقوم بطرح اجمالی لموانع الإیمان المستفادة من القرآن الكریم تحت عناوین عامّة، ونشیر الى الآیات ذات العلاقة بكلّ مورد.
یمكن القول: إنّ موانع الإیمان وأسباب الانحطاط قد ذكرت فی القرآن بصورة عامّة تحت ثلاثة عناوین عامّة ورئیسة ومترابطة هی:
1 ـ هوى النفس
2 ـ الدنیا
3 ـ الشیطان
ومن الافضل أن نقول: إنّ علماء الأخلاق قد لخّصوا موانع تكامل الإنسان وأسباب الانحطاط ـ فی ضوء الآیات القرآنیة ـ فی الأسباب الثلاثة المذكورة. والآن نباشر بالبحث والتحلیل لهذه الأسباب وترابطها واستقلالها وعدم استقلالها فیما بینها.
أ ـ هوى النفس
یمكن بصورة عامّة دراسة الأسباب التی تضعّف الإیمان أو تسلبه أو تحول دون تحققه من الأساس تحت عنوان عامّ هو (هوى النفس). إنّ هوى النفس یجتذب قلب الإنسان ولا یُبقی له قلبا سلیماً لكی یكون موضعاً لنفوذ الإیمان.
یطرح هنا هذا السؤال: ماذا یعنی هوى النفس؟
فی الإجابة نقول: هناك نحو من الإبهام فی عنوان هوى النفس، والتعابیر المستعملة فی هذا المجال تسبّب الوقوع فی الخطأ لدى الكثیر.
ولتوضیح السؤال من الافضل أن نقسّمه قسمین، ونجیب علیهما مستقلا:
ـ ما هی النفس أولاً؟
ـ وما هو هوى النفس ثانیاً؟
وقبل توضیحهما من الافضل أن نشیر الى الآیات القرآنیة التی نزلت فی هوى النفس وندرس ـ الى حدّ ـ تطبیقاتها القرآنیة ومصادیقها.
القرآن وهوى النفس
قال تعالى عن بلعم بن باعورا:
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَْرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ.1
لقد كان ذا علم ولكنه ـ على العكس ـ اتّبع هواه بدلیل قوله تعالى عنه فی الآیة السابقة:
وَاتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ الَّذِی آتَیْناهُ آیاتِنا.2
كان السبب فی انحرافه هو اتّباعه هواه وعدم العمل بمقتضى علمه.
وقال تعالى فی آیة اُخرى:
وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.3
وقد جاء فی آیة اُخرى:
فَلا یَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا یُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى.4
وفی آیتین قال تعالى بأنّ اُناساً اتّخذوا من هوى النفس إلهاً لهم، فقال فی إحداهما:
أَ رَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَیْهِ وَكِیلاً.5
وفی الثانیة:
أَ فَرَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْم وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ یَهْدِیهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ.6
وفی بعض الآیات اعتبر اتّباع الهوى معارضاً للإهتداء الى سبیل الله، قال تعالى:
فَاحْكُمْ بَیْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَیُضِلَّكَ عَنْ سَبِیلِ اللهِ.7
فَإِنْ لَمْ یَسْتَجِیبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما یَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَیْرِ هُدىً مِنَ اللهِ.8
وقال فی آیة اُخرى عن بعض المنافقین:
أُولئِكَ الَّذِینَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ.9
حسب مضمون هذه الآیة هناك تلازم بین اتّباع أهواء النفس والطبع على القلب.
وقال تعالى فی آیة اُخرى:
إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الأَْنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى.10
تذكّر هذه الآیة بأنّ ثمّة لوناً من التعارض بین اتّباع هوى النفس وتلقّی الهدایة الإلهیّة. وتذكر آیة اُخرى أنّ شدّة التعارض بین هوى النفس والهدایة التی یعرضها الأنبیاء(علیهم السلام) یبلغ حدّ التكذیب بهم وقتلهم وتقول:
أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِیقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِیقاً تَقْتُلُونَ.11
وقال تعالى فی آیتین اُخریَین:
وَإِنْ یَرَوْا آیَةً یُعْرِضُوا وَیَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْر مُسْتَقِرٌّ.12
وقال فی آیتین اُخریَین:
وَأَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِیَ الْمَأْوى.13
فی هاتین الآیتین لوحظت العلاقة بین خوف الله والنهی عن الهوى والإستقرار فی الجنة، وقال فی آیة اُخرى:
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالأَْرْضُ وَمَنْ فِیهِنَّ.14
إضافةً الى ما سبق هناك آیات استعملت لفظ الشهوات بدلاً عن الهوى، فقد قال تعالى فی آیة:
وَاللهُ یُرِیدُ أَنْ یَتُوبَ عَلَیْكُمْ وَیُرِیدُ الَّذِینَ یَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِیلُوا مَیْلاً عَظِیماً.15
وقال فی آیة اُخرى:
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ یَلْقَوْنَ غَیًّا.16
توضیح هوى النفس
بعد نضد هذه الآیات نقول فی توضیح الإجابة عن السؤالین:
هناك تأكید شدید فی الكتب الأخلاقیة على ضرورة أن یكون الإنسان تابعاً للعقل ویجاهد هوى نفسه، وقلب الإنسان ـ فی الحقیقة ـ میدان للصراع بین النفس والعقل، ویوصف اتّباع النفس بمفهوم قیمیّ سلبی. ومفهوم هوى النفس واضح، ولكن بما أنّ النفس لها مفاهیم مختلفة، وتكون أحیاناً منشأً للخطأ والخلط بین الاصطلاحات یلزم أن نوضّح هذه الاصطلاحات والمفاهیم والاختلاف بینها.
یقول القرآن الكریم فی موضع:
عَلَیْكُمْ أَنْفُسَكُمْ.17
ویقول فی موضع آخر:
یا أَیَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِی إِلى رَبِّكِ راضِیَةً مَرْضِیَّةً.18
ویتحدّث فی آیة اُخرى عن النفس اللوّامة:
وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ.19
وأخیراً یتحدّث فی آیة اُخرى عن النفس الأمّارة:
إِنَّ النَّفْسَ لأََمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّی.20
وقد استعملت النفس فی الاصطلاح الفلسفی بمعنى الروح، وعلى هذا فانّ للنفس استعمالات متنوعةً قرآنیة وفلسفیة تورث الخطأ فی الفهم.
ما هی هذه النفس التی هی مصدر الفساد والشر وینبغی عدم الخضوع لما ترید، وما هو الفرق بینها وبین النفس المطمئنة التی یتوجه إلیها خطاب: ارْجِعِی إِلى رَبِّكِ راضِیَةً مَرْضِیَّةً؟
قال بعض الأعاظم بهذا الشأن: هناك نفسان: نفس طبیعیة واُخرى إنسانیة أو إلهیة، واعتقد بعض آخر أنّ النفس ذات مراتب متعدّدة، واستعمل آخرون تعابیر اُخرى بما یتناسب مع هذا الموضوع، وهذه الآراء المختلفة تحكی عن الإبهام الموجود فی هذه الكلمة.
فی رأینا أنّ المستفاد من موارد استعمال هذه الكلمة فی القرآن هو أنّ كلمة (النفس) لم یقصد منها فی القرآن غیر المعنى اللغوی لها، وهو «الشخص» أو «أنا» باستثناء الموارد التی استعملت للتأكید من قبیل «جاء زید نفسه» مع فارق أنّ هناك خصوصیات تضاف إلیها حسب اختلاف الموارد، فتصیر النفس بلحاظ تلك الخصوصیة ذات قیمة إیجابیّة أو سلبیة.
وقد قال بعض: النفس بمعنى الروح، ولكن فی رأینا لا یمكن حتّى القول بأنّ النفس تعنی الروح لأن كلمة «النفس» قد نسبت الى الله عزّ وجلّ أیضاً، كما جاء فی القرآن الكریم حیث قال تعالى حكایة عن قول النبی عیسى(علیه السلام) مخاطبا الله تعالى:
تَعْلَمُ ما فِی نَفْسِی وَلا أَعْلَمُ ما فِی نَفْسِكَ.21
ففی هذه الآیة اُسند (نفس) الى الله سبحانه فی حین أن الله لیس له روح كما لا جسم له، وأمّا الروح المسند إلیه فی قوله «روحی» فهو مخلوق له مضاف إلیه إضافة تشریف.
وعلى أیّة حال فانّ النفس حسب خصوصیات التطبیق والمورد تكون (سیئة) تارة و(حسنة) تارة اُخرى، ولكن لیس لها أكثر من معنى فی اللغة، وبلحاظ أنّ المفهوم الإستعمالی للـ (نفس) لیس شیئا غیر معناه اللغوی ینبغی القول : إنّ السبب فی وصف النفس بـ (الحسنة) و(السیئة) فی موارد مختلفة هو أنّ الله تعالى قد أودع فیها نوعین من المیول: میل نحو الخیر والصلاح ومیل نحو الشر والسوء، ولیس المراد أنّ الخیر والشر موجودان فی نفوسنا، بل إنّ المصادیق التی یصدق فیها عنوانا الخیر والشر لها جذور وعروق فی نفوسنا بالفعل، بمعنى انّ فی فطرتنا میولاً نحو أمور ینطبق علیها عنوان الخیر، ومیولاً نحو أمور اُخرى ینطبق علیها عنوان الشر، ولیس فی النفس میل الى (الخیر بما هو خیر) ومیل الى (الشر بما هو شر). إذنْ تتلوّن المیول المودعة فی الإنسان حسب المصادیق الأخلاقیة الخارجیّة، و(نفس) الإنسان تتلوّن بتلوّن هذه (المیول)، وبلحاظ مجموعة من هذه المیول یطلق علیها (نفس أمّارة بالسوء).
سؤال: من الذی یحثّنا على اتّباع میولنا وغرائزنا وشهواتنا؟
الجواب: إن هذه المیول الغریزیة متجذّرة فی وجودنا، قد عُجنت مع فطرتنا وتدفعنا لإشباعها، وذلك ممكن عن طریق جائز ومشروع أو غیر جائز وغیر مشروع، لأنّ المیل الغریزی أعمى لا یمیّز بین الحسن والسیئ، بل إنّه یبغی إشباعه فحسب، وفی الموارد التی تشبع النفس غرائزها عن طریق معاكس وغیر مشروع هی الأمّارة بالسوء.
إضافةً الى المیول المذكورة فی النفس هناك میل للكمال والسعادة تدفع الإنسان للتحرك بهدف الوصول الى الكمال.
لعلّ معنى كلام الله فی القرآن:
فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها22
هو ما قلناه آنفاً وهو انّ فی نفوسنا مجموعةً من المیول التی تجرّنا نحو التقوى أو الفجور، ولكن مصادیق (التقوى) و(الفجور) نعرفها بهَدی من العقل أو الوحی، وحیث إنّ كلیهما من صنع الله تعالى صحّ أن یقال إنّ ما یُعرف بهما من التقوى والفجور قد ألهمه الله سبحانه إیّانا.
أجل، إنّ جمیع هذه المیول أعمَّ من المادیّة والمعنویّة توجد فی فطرة الإنسان، بفارق هو أنّ المیول المادیّة تكون فعلیة عادةً وتنشط تلقائیا: كالمیل الى الأكل والنوم والغریزة الجنسیة و...فی حین تكون المیول الاُخرى بالقوة فی الإنسان وتتفعّل فی ظروف خاصّة، وتتطلب تربیة وارشاداً خاصّاً. وفی موارد استثنائیة یمكن أن تكون هذه المیول فعلیة بالفطرة لدى بعض الناس، وفی عقیدتنا أنّ هذه المیول هی فعلیة لدى المعصومین(علیهم السلام) منذ ولادتهم، على عكس الأشخاص الإعتیادیین فانّهم لیسوا كذلك حیث لم تجد هذه المیول فعلیّتها من البدایة فتكون (النفس) الإنسانیة فی هذه الحالة أمّارة بالسوء، ولكن مع یقظة هذه المیول تكون النفس ذاتها هی التی تلوم الإنسان على أفعاله القبیحة كما قال تعالى فی القرآن الكریم:
وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ.23
وعندما نلبّی رغباتنا المعنویّة ونسلّم لطریق الحق فانّ تلك (النفس) ذاتها تصل الى الكمال والطمأنینة وتخاطب بـ یا أَیَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ.24
وعلى هذا فانّ النفس ذات حقیقة واحدة لكنها ذات مراحل مختلفة، لا أنها ذات حقائق مختلفة إحداها (النفس الأمارة) والاُخرى (النفس اللوامة) والثالثة (النفس المطمئنة). هناك وجود واحد، أی إنّ وجود الإنسان هو الذی یطلق علیه هذه العناوین حسب الظروف المختلفة التی تطرأ علیه، ویقوم بنشاطات متنوعة ویكتسب منافع متكثرة. من هنا قال النبی یوسف(علیه السلام) رغم أنّه طوى مراحل سامیة من الكمال واعتبره الله سبحانه من عباده المخلصین:
إِنَّ النَّفْسَ لأََمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ ما رَحِمَ رَبِّی.25
بناءً على ذلك فلیس الواقع أن لا یكون وجود للنفس الأمارة فی الإنسان فی إحدى المراحل. فالنفس موجودة دوماً وتأمر الإنسان أحیاناً بالسوء وإن كان نبیاً كیوسف(علیه السلام)، كما حكى الله سبحانه عنه قوله:
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِی إِنَّ النَّفْسَ لأََمّارَةٌ بِالسُّوءِ.
إذنْ لیست النفس قوة خاصّةً یمتلكها البعض، بل یتمتع بها جمیع الناس حتّى نهایة العمر. فمادام الإنسان موجوداً فانّ له میولاً وغرائز، ومادامت المیول الغریزیة موجودة فانّ هناك نفسا أمّارة بالسوء أیضاً، لا أنّها تأمره بالسوء صراحة من جهة أنّه سوء، بل إنّ النفس ذات رغبات یكون متعلقها مصادیق للسوء أحیاناً. فمثلاً: النفس التی تدفعنا لتناول الطعام هی التی تُحیی فینا المیل نحو الطعام. هذا المیل الغریزی لیس سیّئا وینبغی إشباعه، الاّ أنّه یشبع تارة عن طریق صحیح وتارة عن طریق خاطئ، وعندما یشبع عن طریق خاطئ یقال: إنّ النفس قد أمرت بالسوء.
النفس والعقل
النفس بمیولها المختلفة ـ كما أسلفنا ـ هی الموضوع للأخلاق والمخاطبة فی التعالیم الأخلاقیة.
من الضروری وجود هذه المیول المختلفة فی النفس، لأنّ الكمال الإنسانی فی الأساس ممكن بوجودها فقط. فمن كان زمامه بید النفس الأمارة فانّ غرائزه هی التی تقوده، ویتّبعها ببصر وسمع موصدَین من دون التفات الى ما وراء الرغبات الغریزیة، مثل هذا الإنسان یبقى فی مستوى النفس الأمارة أبداً، كما قال تعالى:
أَخْلَدَ إِلَى الأَْرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ.26
إنّه لا یبغی شیئا آخر وراء الرغبات الغریزیة، مثل هذا الإنسان لا یستفید حتّى من علم التوحید أیضاً، ویكون متشبّثاً بالأرض ولا یفارق عالم المادة والمحسوسات واللذائذ المادیّة، فهو لا یهتدی أبداً حتّى یخرج من هذه الحالة والمرحلة فیقرّ بوجود الحدود ویعزم على أن یراعیها. وبعد المعرفة یتقبّل الحق وینكر الباطل ویعزم على السیر فی الطریق الصحیح ولا یكون أسیرا طِلقاً للمیول والغرائز. یمنع النفس حینما تأمره بالسوء ویمارس الجهاد الأكبر مع نفسه، أی یعرف موازین الحق والباطل والقیم الصحیحة ویلتزم بها، ویتغلّب على نفسه حینما تأمره على عكس ذلك، أو تمیل وتنجذب الى ما لا ینبغی. لكن الكثیر من الناس لیسوا كذلك حیث لا یتوفقون فی ساحة الجهاد مع النفس وقد ذمهم الله تعالى، حیث قال عن بنی اسرائیل لضعفهم فی هذا الأمر:
أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ.27
إذا جاء النبی بما تهواه أنفسكم لا تعارضونه وتعتبرونه نبیاً جیّداً، ولكن إذا أراد منكم ما لا ترغبون فیه تخالفونه وتستكبرون عن إطاعته. فمنشأ انحرافات الإنسان كلها والذی یمنعه عن طاعته وعبودیته لله هو هوى النفس. والاّ فانّ طاعة الأنبیاء(علیهم السلام) فی ما یتناغم مع میول الإنسان ورغباته لیست ذات أهمیة، بل المهمّ هو الإنتخاب الصحیح فی موارد التعارض، فعلیه أن ینتخب الطریق الصحیح فی المواضع التی تجتذبه الى الجهة المعاكسة، ویدعم المیول الصحیحة ویرجّحها بإرادته، ویكبح جماح نفسه كی یتوفق لإبراز قیمته عن هذا الطریق. وبناءً على هذا فانّ أهواء النفس وإن تعدّدت وتنوّعت ولكلّ واحد منها دور فی صفة من صفات الإنسان الاّ أنه یمكن القول: إنّ الطریق لكسب القیم هو أن نتعرّف على أهواء النفس أولاً، ثمّ نباشر بمصارعتها.
الآن وبعد هذه التوضیحات یمكن القول: إنّنا إذا اتّبعنا المیول الغریزیة والجواذب العمیاء التی لا تبغی سوى اشباعها دون تدبر فی عواقب ذلك، وكان هدفنا هو الإلتذاذ الآنی كان ذلك هوى النفس، ولكن إذا تدبرنا وتأملنا فی تأثیراتها على ارواحنا ومصیرنا وارتباطنا بالله تعالى، ثمّ عزمنا ـ وإن كان العزم النهائی هو ما تهواه الغریزة ـ فانّ العمل بهذا العزم لیس اتّباعا للنفس وهواها، إذْ إنّ دافعنا فی هذه الحالة لیس الغریزة فقط، لانّنا قد قمنا بالمحاسبة واخترنا طریقنا بعد التأمّل فی النتیجة ومستقبل الأمر، فلو كانت هناك نتائج سیئة تترتّب علیها لم نقم بذلك العمل. فنحن الآن وإن قمنا ـ فی الحقیقة ـ بذلك الفعل الغریزی ولكن یكون له قیمة أخلاقیة، ویرجع ذلك الى الدافع فی ذلك العمل وهو ـ كما أسلفنا ـ روح القیمة الأخلاقیة (النیة).
وباختصار: إنّ الملاك فی هوى النفس هو اشباع الغریزة العمیاء التی لا تعرف حدوداً، والنقطة التی تقابلها هی الإستجابة لنداء العقل وإنْ كان المورد إشباع الغریزة.
ما هو العقل؟
المراد بالعقل ههنا هو قوة المحاسبة التی تقیس مدى تأثیر هذا العمل المبحوث عنه على مستقبلنا ومصیرنا وآخرتنا، بینما لا تقوم الغریزة بمحاسبة، بل هی قوة جاذبة مبهمة كالجذب والإنجذاب المغناطیسی، وتجرّ الإنسان الى جهة دون النظر الى عواقب العمل ومستقبله، والعقل یقوم بوعی بالمحاسبة والتقییم لهذا العمل: الى أین یوصلنا؟ وما هو تأثیره على مستقبلنا؟ ویتخذ قراراً بما یناسب هذا الوعی والمحاسبة والتقییم، ثمّ یُقدم على عمل تعقبه نتیجة طیبة.
إذنْ ما قیل من أنّ العقل والنفس متصارعان واعتبرا متقابلین هو من أجل تقریب البحث الى الذهن بصورة أكبر وتیسیر استیعابه، والاّ فانّهما لیسا فی عَرض واحد، لأنّ النفس ذات مجموعة من الرغبات والمیول بینما العقل ینیر الدرب. وأخیراً فانّ القوة التی تتخذ القرار هی إحدى مراتب النفس وتنبعث من جوهر النفس وتكون الحاكم بین العقل والمیول. فإمّا ترجّح مقتضى القوى الغریزیة، أو تنتخب ما یؤدی الى السعادة الأبدیة بإرشاد من العقل.
إنّ فعل العقل لیس من سنخ الجذب أساساً، بل إنّه یرشد الى الطریق ولا یخاصم أحدا، إنّه مصباح یضیء وینیر الدرب. وحینما یقولون: العقل یصارع النفس فانّ المقصود فی الحقیقة هو أنّ إحدى مراتب النفس تدخل فی صراع مع المیول والغرائز العمیاء بدافع من طلب الكمال. وبعبارة اُخرى: توجد فی النفس جواذب اُخرى. والذی یُعرض كخصم لیس هو العقل المدرك، بل هو مجموعة من الجواذب التی تتحرك وفق اضاءة العقل وتقییمه وتصدیقه. والاّ فانّ العقل لیس شیئاً فیه الدفع والسوق والتحریك.
إذنْ یكون الصراع بین مقتضیات قوّتین ومرتبتین من النفس، أیّ المیول التی تتزاحم فیما بینها. والحاكم بینها هو جوهر النفس الذی یُصدر القرار.
قلنا فی تبیین نظریتنا فی فلسفة الأخلاق إنّ الارادة تعنی تجلّی جوهر النفس، وتنبع من ذات النفس، وبها ننتخب أحد المیول ونقرّر مصیرنا.
بناءً على هذا، لكی نؤمن بما نعلم به لابدّ من تحریر أنفسنا من قیود هوى النفس، أی نتخذ موقفاً على أساس من الرؤیة الصحیحة وملاحظة المستقبل والمقارنة والتقییم وانتخاب الطریق الافضل.
هوى النفس یمنع الإیمان
ذكرنا أنّه بعد توفّر المعرفة من الممكن أن تحول المیول النفسیّة المنحرفة دون ایماننا، ولوجود هذه الآفات النفسیّة لا نذعن ولا نلتزم عملیاً رغم معرفتنا.
ولعلّ هذا السؤال یُثار لدى بعض الناس: كیف یمكن أن یدرك إنسان أمراً ما، ثمّ لا یرتب علیه أثرا ولا یخضع لِلازمه؟
فی الجواب نقول: إنّه من الواقعیات التی یمكن ملاحظتها بسهولة فی حركات الإنسان وسلوكه، فمثلاً: كثیراً ما یتفق أن یعلم الإنسان فی مناظرة أو حوار مع صدیق بأنّ الحق معه، ورغم ذلك یحس بوجود دافع لردّه، كما أنّ اُناساً كانوا یعلمون ـ فی مستوى أعلى ـ أنّ الأنبیاء والائمة(علیهم السلام) صادقون ولكن حبّ المقام، والكِبر، والعصبیة والأهواء النفسیّة الاُخرى كانت تمنعهم من التصدیق بأقوالهم الحقة واتّباع الحق.
إنّه أمر واقعی مسلّم به، وهو أن یعیش الإنسان صراعاً مع دوافعه الباطنیة وأمراضه النفسیّة ووساوسه الشیطانیة، ومن الممكن أن تمنعه أحیاناً من التفاعل والإلتزام بالحقائق التی یعرفها، وبما أنّ الإنسان بصیر بنفسه فانّه أعرف من غیره بأمراضه، لانّه یرى جهاراً أنّه قد فهم القضیة وتوضّح فی ذهنه وجود نسبة بین الموضوع والمحمول، ولكن قلبه لا یمیل للإذعان بها، یقول القرآن الكریم فی حقه:
الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ28 أو الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ زَیْغٌ.29
والزیغ هو الانحراف عن حالة الاعتدال والسلامة.
الجهاد مع هوى النفس
فی ضوء القضایا المذكورة هل یصحّ الأخذ بهذه النتیجة، وهی أنّ الإیمان إنّما یتیسّر لمن له قلب سلیم عن الآفات، أمّا الذین تلوّثوا بالأهواء والأمراض النفسیّة فلا یمكن أن ینفذ الإیمان فی قلوبهم؟
للإجابة عن السؤال یجب القول: یمكن فسح المجال لنفوذ الإیمان فی القلوب التی تعیش صراعا مع مثل هذه الأمراض والموانع، وذلك عن طریق مكافحة الأمراض النفسیّة ورفع الموانع.
ولكن یطرح هنا سؤال آخر: كیف یمكن مكافحة هذه الأمراض ورفع هذه الموانع؟
من الممكن أن یستخف بعضٌ بمثل هذه الأمراض ویكتفی ـ وفق نظرة ساذجة ـ بالایصاء لمقاومتها. ولكن رأینا فی هذا المجال هو أنّ هذا الایصاء غیر نافع، ولا یمكن أن یكون وصفة ناجعة ومؤثرة للمصاب الذی وقع فی فخّ الدوافع ومخالب أهواء النفس القویة، فیلزم لمعالجة هذا المرض إیجاد عامل تكوینی مؤثر وقویّ فی نفس الإنسان لكی یفلح للصمود أمامه. من الواجب خلق دوافع رحمانیة بوجه الدوافع الشیطانیة وذلك عن طریق الفكر الصحیح، أو بتعبیر أدقَّ: لابدّ من إیقاظ تلك الدوافع وتوعیتها وتفعیلها، لأن الدوافع بصورة عامّة ـ شیطانیة كانت أو رحمانیة ـ من الأمور الفطریّة للإنسان قد اُودعت فی طبیعته، مع هذا الفارق وهو أنّ عدداً منها یتفتّح ویتفعّل بنفسه وبمعونة من الظروف الخارجیّة، وقد یصول ویجول لوحده فی النهایة فی ساحة النفس الإنسانیة، والآن حیث نرید كبح جماحها ونردّها الى موضعها الأول لكی لا تتعدّى حدودها لابدّ من إیجاد قوة اُخرى ودعم دافع آخر الى المستوى الذی یمكنه التغلب علیها. لقد جاء فی المناجاة الشعبانیة:
(إلهی لم یكن لی حول فانتقل به عن معصیتك الا فی وقت ایقظتنی لمحبّتك).
إذنْ حینما تتغلب الأهواء النفسیّة وتجرّنی الى المعصیة یكون العامل الفرید لمنعی من ذلك هو محبّة الله سبحانه التی یجب احیاؤها فی قلب الإنسان.
بناءً على هذا یتمثّل طریق الجهاد مع أهواء النفس فی وجود جواذب اُخرى تواجهها، ثمّ دعمها والتغلب على تلك الأهواء، والاّ فمادامت هذه الأهواء هی الفارس الوحید فی مضمار نفوسنا فلا یمكن فعل شیء، بل سنُغلب ولا یتأتّى لنا الصمود تجاهها.
هذه المیول المدافعة ـ طبعاً ـ موجودة فی أساس فطرتنا، الاّ انّها فی حالة سبات وفاقدة للتأثیر، فیجب تفعیلها وتعبئتها قبال المیول المهاجمة والأهواء النفسیّة.
ویخطر فی الذهن سؤال آخر: أیُّ عامل یكون قادرا على تفعیل وإیقاظ هذه المیول الخاملة؟ نقول فی الإجابة: إنّه الفكر والإدراك حیث قال الحكماء: إنّ الإدراك هو العامل للشوق، لأنّ المیل الخامل ینبعث وتدبّ فیه الحیاة بالإدراك والشعور وعلینا دعمه بهذه الطریقة.
من الضروری أن نذكر هنا: إضافةً الى التدبر فی الاصول المذكورة ـ التوحید، والنبوة والمعاد ـ هناك أمر آخر ینبغی الإهتمام به لكی یُحیی فینا الدافع العملی المتناسب مع هذه الأفكار والمنسجم مع هذه الاصول.
إنّ التأمّل فی الاصول أوصلنا الى هذه النتیجة وهی أنّنا عرفنا وجود الله، ویوم القیامة، وأن نبی الإسلام(صلى الله علیه وآله وسلم) على حق، والقرآن كتاب الله، الاّ أنّ مجرّد إدراك هذه الحقائق لا یكفی لوحده لخلق الشوق فینا لطاعة الله والإیمان والإلتزام العملی، فلابدّ ان نسعى وراء أمر ینسجم مع الشوق ویكون من سنخه، ویمكن أن یكون مؤثرا فی تنشیطه وانبعاثه.
لتوضیح هذا الكلام نقول: إنّ الأصل فی انبعاث الإنسان لإنجاز أعماله كافة هو الخوف والرجاء: الخوف من الابتلاء بالشرور، والرجاء فی نیل الخیرات. إنّ هدف بنی الإنسان ـ طبعا ـ وضالّتهم التی یسعَون من أجلها واعتقادهم بالنسبة للخیرات والشرور لیس على سیاق واحد، فبعض یقصد النعم الدنیویّة، والآخر یقصد الخیرات ونعم الجنة، وبعض آخر یعرفون نعماً وخیرات هی الأسمى كرضوان الله وجواره والقرب منه، ویسعَون للوصول الى ذلك، ولكن لا اختلاف بین اصحاب هذه الأهداف المختلفة فی أنّ العامل الوحید فی سعیهم للوصول الى كلّ واحد من الأهداف الثلاثة هو الخوف والرجاء.
بناءً على ذلك ینبغی للإنبعاث نحو العمل والسعی والتحرك أن نعالج ما یبعث فینا الخوف والرجاء، أی نتدبر فی ما یحدث لو آمنّا، وما یحدث لو لم نؤمن؟
إذنْ فی مجال العمل الاختیاری ـ ومنه الإیمان ـ لو تدبرنا بصورة صحیحة، وأدركنا ما فی ذلك العمل من مصلحة لنا هاج فینا الشوق لتحصیله، كما أنّنا لو أدركنا الآثار المرّة والنتائج الوخیمة التی تترتب على ذلك العمل انبعث فینا الخوف من نتائجه ودفعنا للإحتراز منه وإنّ السر فی وجود هذا الكمّ من الوعد والوعید فی الآیات القرآنیة هو لهذه الملاحظة التی ذكرناها تماماً، وصدوره قائم على مبادئ علم النفس القرآنی، حیث نلاحظ فی كلّ صفحة وعداً أو وعیداً وانذاراً أو تبشیراً، تصریحاً أو تلمیحاً. إنّ سبب وجوده مثل هذه الآیات هو إثارة دافع الخیر فینا والإهتمام بآثار أعمال الخیر وإحیاء الشوق فینا لممارستها والاحتراز من أعمال الشریرة للخوف من الآثار الوخیمة المترتبة علیها.
بناءً على هذا، بعد العلم والإعتقاد ینبغی أن نتأمّل فی آثار الإیمان لكی یصیر الإلتفات إلیها دافعاً قویّاً لنا نحو تحقیق الإیمان الاختیاری، وهكذا نتأمّل فی الآثار المذمومة للكفر لكی تمنعنا منه، من هنا یؤكّد القرآن الكریم بشدّة على أن نتأمّل كثیراً بهذا الشأن.
ب ـ الدنیا
یتضمن القرآن الكریم بحوثاً عدیدة ومتنوعة حول الدنیا، بحیث یرتبط كلّ بحث منها بقسم خاصّ من أقسام المعارف المختلفة. لقد قمنا سابقاً ببیان أقسام منها من جملتها: المقارنة بین الدنیا والآخرة، وبیان حقیقة الدنیا وهی كونها مقدمة وجسراً للآخرة، وكون النعم فی الدنیا لاختبار الإنسان وأبحاث مماثلة. كما توجد بحوث اُخرى تدور حول الدنیا والآخرة یرتبط جلُّها بالسنن الإلهیّة من قبیل البحث حول ماهیّة العلاقة بین الدنیا والآخرة، وهل یمكن الجمع بینهما؟ وبعبارة اُخرى: هل یمكن لإنسان أن یحظى بسعادة الدنیا وسعادة الآخرة معاً؟
وفی المقابل: هل یمكن أن یكون الإنسان شقیاً فی الدنیا والآخرة معاً؟ أو إنّ النعم والنقم والسعادة والشقاوة الدنیویّة والاُخرویة لا تجتمعان، فمن كان متنعِّماً فی الدنیا كان محروماً فی الآخرة، ومن كان محروماً فی الدنیا تمتع بالنعم والراحة فی الآخرة؟
العلاقة بین الدنیا والآخرة
إجابتنا عن السؤال المذكور هی أنّ نعم الدنیا ونعم الآخرة، وهكذا النقم فیهما لیست حسب الاصطلاح (مانعة جمع) ولا (مانعة خلو) فمن الممكن أن یكون الإنسان سعیداً فی الدنیا والآخرة، كما یمكن أن یكون محروما وغیر سعید فی الدارین. والعدید من آیات القرآن الكریم یشهد لهذه الدعوى ویدلّ على عدم التلازم بین نعم الدنیا ونعم الآخرة، وهكذا بین وجود أحد النعمتین مع عدم النعمة الاُخرى، وبعبارة اُخرى لا یوجد تلازم أو تناف بین هاتین النعمتین، بل إنّ التمتع بالنعم الدنیویّة والاُخرویة أو الحرمان منهما أو التمتع بإحداهما والحرمان من الاُخرى له علله وعوامله وملاكاته الخاصّة، فالقرآن یذكر أمثال النبیّ سلیمان(علیه السلام)الذی حظی بالدنیا والآخرة، وقال عن النبیّ ابراهیم(علیه السلام):
وَآتَیْناهُ فِی الدُّنْیا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِی الآْخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِینَ.30
كما قال عن بعض المؤمنین:
فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْیا وَحُسْنَ ثَوابِ الآْخِرَةِ.31
وقال فی آیة اُخرى عن النبیّ ابراهیم(علیه السلام) أیضاً:
وَلَقَدِ اصْطَفَیْناهُ فِی الدُّنْیا وَإِنَّهُ فِی الآْخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِینَ.32
فنستنتج من هذه الآیات أنّ بوسع الإنسان أن یحظى بنعم الدنیا، ویكون سعیداً فی الآخرة أیضاً، كما یمكن استنتاج هذه الحقیقة من آیات اُخرى، وهی أن یخسر الإنسان الدنیا والآخرة، ویُحرم من النعم واللذائذ فیهما. ففی آیة أشار الله تعالى فی إحدى الفئات الإنسانیة الاربعة التی تحدّثت عنها سورة (الحج) الى اُناس متزلزلین ومذبذَبین، یقدِّمون قدماً ویؤخرون اُخرى دوماً، یسیرون على هامش الدین بانتظار فرصة سانحة، فیتقدّمون إذا تحسنت أوضاع الدین والمتدینین ویتراجعون بسرعة فی حالة العكس، قال تعالى:
خَسِرَ الدُّنْیا وَالآْخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِینُ.33
وجاء فی آیة اُخرى أیضاً:
لَهُمْ فِی الدُّنْیا خِزْیٌ وَلَهُمْ فِی الآْخِرَةِ عَذابٌ عَظِیمٌ.34
أی إنّ الذین یصدّون الناس عن ذكر الله فی المساجد، ویسعَون فی خرابها سوف ینالهم الخزی فی الدنیا والعذاب العظیم فی الآخرة، جاء فی آیة اُخرى:
لَهُمْ عَذابٌ فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَلَعَذابُ الآْخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واق.35
وفی القرآن الكریم تعبیرات مماثلة كثیرة نستنتج من مجموعها: لیس دائماً إذا كان الإنسان شقیاً فی الدنیا أن یكون سعیداً فی الآخرة، فقد یكون أكثر شقاء.
وهكذا قد یكون الإنسان متنعّماً فی الدارین، وقد یتمتع بالدنیا ولكن لا نصیب له فی الآخرة، فالله تعالى یفسح المجال لبعض الكفار لیتمتعوا بالمزید من النعم فی الدنیا لكی یزید فی عذابهم فی الآخرة، ویطلق على ذلك (الإملاء) و(الإستدراج) حسب المصطلح القرآنی، حیث نقرأ فی آیة:
وَلا یَحْسَبَنَّ الَّذِینَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِی لَهُمْ خَیْرٌ لأَِنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِی لَهُمْ لِیَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِینٌ.36
هؤلاء لهم نعمة موفورة فی الدنیا ولكنهم محرومون فی الآخرة. وعكس ذلك ممكن أیضاً وذلك بأن یبتلى المؤمنون فی الدنیا بالجبارین و...ولكنهم یكونون سعداء فی الآخرة تحت ظل الرحمن ورحمته ورعایته.
إذنْ لا تعارض ولا تنافی ولا تلازم ولا ترابط بین نعم الدنیا والآخرة والنقم فیهما، بل إنّ اجتماعهما وافتراقهما معلولان لعللهما، حیث یتّبع كلّ واحد قانوناً خاصّا وتحكمه السنّة الإلهیّة. تلك السنن التی جعلها الله سبحانه لتدبیر شؤون البشریة، وتكون نعم الدنیا والابتلاء فیها للاختبار كما قال سبحانه:
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَیْرِ فِتْنَةً وَإِلَیْنا تُرْجَعُونَ.37
الدنیا المذمومة
إنّ ما له ارتباط أوثق مع البحوث الأخلاقیة ویعتبر موضوعاً من موضوعاتها هو أنّ الدنیا فی الكثیر من الآیات والروایات، وتبعاً لها فی الكثیر من كتب الأخلاق، تُطرح كرمز لما یتعارض مع القیمة. وقد وردت فی أغلب كتب الأخلاق مقالات جدیرة بالإهتمام فی ذمّ الدنیا، وكتاب نهج البلاغة مشحون بذمّ الدنیا من أوله الى آخره، والآیات القرآنیة هی الاُخرى تنعت الدنیا بعناوین مذمومة ومرفوضة كما فی الآیة:
وَمَا الْحَیاةُ الدُّنْیا إِلاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ.38
والآیة: وَمَا الْحَیاةُ الدُّنْیا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ39
وبالنظر الى إمكان انطباع مفاهیم خاطئة عن الدنیا المذمومة فی الأذهان نقوم بضبط الإجابة عن بعض الأسئلة بهذا الشأن من قبیل: ما معنى الدنیا؟ ما الوجه فی ذمّ الدنیا الوارد فی الآیات والروایات وكتب الأخلاق؟ وأخیراً هل الدنیا عامل مستقل فی انحطاط الإنسان إزاء هوى النفس أم لا استقلال لها تعبیراً عن الحقل الذی یلعب فیه هوى النفس؟
للإجابة عن الأسئلة نقول: (الدنیا) مؤنث لفظ (أدنى) ومع ذلك فانّ القرآن الكریم قد استعملها كصفة محذوفة الموصوف كالآیة:
تُرِیدُونَ عَرَضَ الدُّنْیا وَاللهُ یُرِیدُ الآْخِرَةَ.40
فی هذه الآیة استعملت (الدنیا) مطلقة، وبدون ذكر للموصوف قبال لفظ (الآخرة) المطلقة أیضاً. وقد كثر استعمال اللفظ المذكور فی الآیات القرآنیة، وسؤالنا هو:
هل الدنیا فی هذه الموارد ذات جانب وصفی أیضاً، أم هی اسم جنس أو علَم قد انسلخت عن مفهومها الوصفی؟
نقول فی الإجابة: الدنیا صفة تفضیلیة دوماً كما نقلنا عن اللغة وتعتبر صفة لموصوف، فینبغی أولاً التعرف على موصوفها، وهذه من الخصوصیات التی قد توجد فی اللغات الأخرى، الاّ انّها شائعة ومألوفة فی اللغة العربیة، وكثیراً ما یحدث أن یُهمل الموصوف تدریجیّاً وتحلّ الصفة محلَّه، نظیر لفظ (الحسنة) و(السیئة) إذ أنهما صفتان فی الاصل، ولكلّ صفة موصوف لكنهما تستعملان حالیاً بدون ذكر للموصوف، كالآیة:
ادْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ السَّیِّئَةَ.41
وكالآیة:
وَلا تَسْتَوِی الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّیِّئَةُ.42
فصفة (السیئة) فی الآیتین وصفة (الحسنة) فی الآیة الثانیة ذُكرتا بدون ذكر للموصوف. وفی الحقیقة إنّ الصفتین كانتا ذات موصوفین فی الاصل، ولكن نظراً لشیوعهما وكثرتهما فی التحاور اُهمل موصوفاهما تدریجیّاً حتّى صارا نسیاً منسیّاً.
ویمكن أن یقال: إنّ الموصوف المحذوف هو (الخصلة) أی (الخصلة الحسنة) و(الخصلة السیئة) فأُهمل تدریجیّاً، وحلّت الصفتان المبحوث عنهما محل الموصوف المذكور. ومثل هذه الكلمات التی یوجد فیها تاء التأنیث كاللفظین هذین قد تعتبر تاؤها تاء الوحدة وعلى هذا یجب أن یكون لها موصوف قد لوحظ فیه الوحدة.
وأمّا لفظ (الدنیا) وهو محور البحث فهو صفة حُذف موصوفها أیضاً، ویستعمل عادةً بمعنى (أقرب) قبال (الآخرة) التی هی أبعد بالنسبة إلینا، والدنیا أقرب إلینا من الناحیة الزمانیة. وقد جاء فی القرآن الكریم (السَّماءَ الدُّنْیا)43 مع ذكر الموصوف، والظاهر أنها بمعنى السماء الأقرب إلینا، وقد لوحظ فیه القرب المكانی ویبدو أنها استعملت قبال الآخرة بهذا المعنى أیضاً وقد لوحظ فیها القرب الزمانی.
قال بعض العلماء: إنّ الدنیا ـ فی الأصل ـ تعنی الدناءة والحقارة، واستعمالها قبال الآخرة هو لهذا التناسب، وهو أنّ هذه النشأة لیس لها قیمة تُذكر بالنسبة الى النشأة الآخرة، ولا یصلح أن تُجعل ثمناً للآخرة ینال إزاء فقْد الآخرة فی معاملة بیع.
فی رأینا انّه قول غیر صائب، لأن (الدنیا) وإن كانت أدون قیاسا الى الآخرة، ولكن فی استعمال هذا اللفظ لم تُلحظ هذه الحیثیة بدلیل أنّ لفظ (الآخرة) قد وُضع فی النقطة المقابلة لها تماماً، فی حین أنّ (الدنیا) لو استعملت بمعنى (الأدون) لكان فمن المناسب أن یقابل بـ (العلیا) و(الأشرف) وما شاكل من ألفاظ تتضمن معنى القیمة الأشرف والأعلى، فی حین لم یحدث ذلك. وأما السؤال عن ماهیة الموصوف للفظ (الدنیا) فیمكن الإجابة عنه من خلال الفحص عن موارد استعمالها.
ففی آیات كثیرة استعمل لفظ (الدنیا) بنحو توصیفی للحیاة (الحیاة الدنیا)، وفی قبالها استعمل لفظ (الآخرة) كوصف آخر لها أیضاً (الحیاة الآخرة) ووُصف بها أحیاناً لفظ (دار) كـ (الدار الآخرة) أو كـ (دار الآخرة).
وبناءً على هذا یمكن أن یقال: إنّ لفظ (الدنیا) الذی استعمل مقابل لفظ (الآخرة) سواءً ذُكر موصوفه بالنحو المذكور أم ورد مطلقاً بدون ذكر موصوفه ـ وقد كثر استعمالهما فی القرآن الكریم ـ یكون فی جمیع هذه الموارد والإستعمالات بمعنى الحیاة الأقرب.
وهاهنا ینبغی الإشارة الى أنّ المفهوم من هذا اللفظ والجاری على الألسن فی هذا العصر هو استعمال الدنیا بمعنى العالَم حیث یقال: دنیا الحیوانات، ودنیا الإنسان، ودنیا الشرق، ودنیا الغرب وأمثالها. إنّه مفهوم حدیث نشأ من التحاور العرفی، فی حین لم یستعمل بهذا المفهوم فی الروایات والقرآن الكریم، حیث لم یستعمل لفظ (الدنیا) فیهما كاسم للسماء والأرض والنجوم أبداً، وكما قلنا استعمل كوصف لـ (الحیاة) و(الدار) أو كصفة بدون ذكرللموصوف، والمقصود فی جمیعها هو الحیاة الأقرب.
وفی ضوء هذه التوضیحات یمكن القول: إنّ (الدنیا) و(الآخرة) وصفان لحیاة موجود حیّ یمكن أن یكون ذا نوعین من الحیاة. إحداهما حیاة فعلیة وقریبة منه والاُخرى هی حیاته المستقبلیة الأبعد، وأطلق القرآن على الاُولى (الحیاة الدنیا) وعلى الثانیة (الحیاة الآخرة).
إنّ المصداق البارز لهذا الموجود (ذی الحیاتین) هو الإنسان، وإضافةً إلیه یستفاد من القرآن انّ (الجنّ) كذلك ذو حیاتین (دنیویّة) و(اُخرویة)، وعن سائر الحیوانات ـ إنْ ثبت حشرها ـ یمكن القول أنّها تحظى بالحیاتین أیضاً.
الآن وبعد توضیح لفظ (الدنیا) یطرح هذا السؤال: هل الحیاة (الدنیا) شیء مذموم ویجب اعتبارها رمزاً لما یعارض القیمة؟
نقول فی الجواب: إنّ الإنسان الذی یعیش فی هذا العالم لیس فیه حیثیة مضادة للقیمة ولیس فیه قیمة سلبیة فحسب، بل یجب القول: إنّ له قیمة إیجابیّة أیضاً، إذ لولا الحیاة الدنیا للإنسان لم توجد له حیاة اُخرویة. إنّنا نشیّد الحیاة الآخرة ونصوّرها بصورة جمیلة وسعیدة أو بصورة مشوّهة وشقیّة من خلال أعمالنا وسلوكنا الاختیاری، وكما ورد فی الروایات: (الدنیا مزرعة الآخرة)، فتجب الزراعة هنا لیتمّ الحصاد هناك.
وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ.44
فلولا الدنیا لم یدخل الجنة أحد. إنّ نعم الجنة تمثّل الجزاء لأعمال الدنیا، والكرامات والمقامات الاُخرویة هی الثمرة لمساعی الإنسان وأعماله فی الدنیا. إذنْ للدنیا قیمة عالیة جداً، حیث یمكن بأمدها القصیر تحقیق سعادة لا نهایة لها ولذة لا تزول فی الآخرة.
الآن وقد توصّلنا الى هذه النتیجة، وثبتت لدینا قیمة الحیاة الدنیا یطرح هذا السؤال: إذنْ لماذا هذا الكمّ الهائل من الذمّ والوصف السیّئ ـ فی الآیات والروایات ـ للدنیا، وما الهدف من وراء ذلك؟ لماذا تطلق التعبیرات الموهنة للدنیا فی القرآن الكریم كقوله تعالى عن المشركین والكفار:
وَغَرَّتْهُمُ الْحَیاةُ الدُّنْیا45 أو قوله: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَیاةُ الدُّنْیا46
وأمثالهما
للإجابة عن هذا السؤال یجب القول فی ضوء مضمون الآیات: لا عیب فی الحیاة الدنیا باعتبارها موجوداً عینیاً ومن جملة مخلوقات الله الحكیم، وعلى أساس قاعدة كلیة یمكن استخراجها من الآیة:
الَّذِی أَحْسَنَ كُلَّ شَیْء خَلَقَهُ.47
وهی أنّ نظام الحیاة الدنیا أفضل نظام ویحظى بإتقان وجمال تامّین. بناءً على هذا یجب البحث عن سرّ ذمّ الدنیا فی ناحیة اُخرى، وبشیء من التأمّل فی الآیات والروایات نصل الى هذه النتیجة، وهی انّ منشأ العیب والشناعة یكمن فی كیفیة ارتباط الإنسان وتعامله مع الدنیا، لأنّ تعامله مع الدنیا هو الذی یجعلها نافعة أو ضارّة، قیّمة أو غیر قیّمة وحسنة أو سیئة. وبغضّ النظر عن التعامل والسلوك فی حیاة الإنسان ومستقبله ما هو عیب الدنیا حتّى یوجب ذمَّها وتعییر المتعاطی لها؟ نعم، نتیجةً للتزاحم یحدث بعض الشرور والنقائص شئنا أم أبینا، وتستلزم تضییقات فی حیاة الإنسان، لكن هذه الشرور والنقائص لا یمكن مقایستها بخیراتها وكمالاتها الغالبة والحاكمة.
هنا یطرح سؤال آخر: ما المقصود من علاقة الإنسان بالدنیا التی تكون سبباً لسوئها، وتجعلها مضادة للقیمة وضارة بالنسبة لمستقبله؟ أیُّ سلوك وتعامل مع الدنیا یعقبه هذا الضرر؟
جوابنا عن هذا السؤال هو أنّ المقصود من هذه العلاقة والتعامل الإنسانی غیر المناسب مع الدنیا لیس القیام بأعمال نظیر الأكل والشرب وما شاكل، إذ أنّها ضروریة لحیاة الإنسان، ولها دور أساس فی تحقیق سعادتنا الاُخرویة ومستقبلنا. وهكذا لیس المقصود منها علاقة الإنسان الطبیعیة مع الدنیا، والفعل وردود الفعل التی تقتضیها القوانین القاهرة والتكوینیة والطبیعیة بین جسم الإنسان والظواهر الموجودة فی الطبیعة كـ : الغازات، والفیتامینات، والمأكولات، والمشروبات، والنور، والحرارة والجاذبیة وغیرها، بل المقصود هو علاقتنا القلبیة والروحیة مع الدنیا، والتی یجب أن تخضع لنظام معیّن وتنحو نحواً خاصّاً وتتكیّف بكیفیة خاصّةً. إنّ نِعم الدنیا بل زینتها وجمالها قد خلقها الله للإنسان، بل ورغّبه فی الإنتفاع بها حیث یقول:
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّیِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ.48
أو یقول:
كُلُوا مِنْ طَیِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ.49
إذنْ لا إشكال أبداً فی التمتع بنعم الله فی الدنیا، بل الكلام فی المنظار الذی ینبغی أن ینظر الإنسان به الى نعم الدنیا.
فبعض ینظرون إلیها بمنظار مادی، ویظنون أن لا حیاة غیر الحیاة الدنیا التی نموت فیها ونحیى، وهذا الظنّ باطل، والنظر الى الدنیا بهذا المنظار خطأ یستتبع أخطاء اُخرى كثیرة فی أعمال الإنسان وسلوكه.
بناءً على هذا من الضروری فی الخطوة الاُولى أن نصحّح نظرتنا الى الدنیا، وندرك أنّ حیاة الإنسان لا تنحصر فی الحیاة الدنیا، بل له حیاة خالدة وراءها، وأن نكتشف فی الخطوة الثانیة العلاقة الواقعیة بین الدنیا والآخرة، وذلك بأن نقارن بینهما ونقیّم كلاً منهما من خلال هذه المقارنة، لكی ندرك أنّ علاقة الدنیا مع الآخرة هی علاقة الطریق والهدف، أو الوسیلة والغایة، لكی لا تترتب آثار سیئة على نظرتنا وأعمالنا الناشئة عنها فی النهایة.
یقول الامام علی(علیه السلام) عن الدنیا بعبارة قصیرة وغزیرة المعنى:
(من أبصر عنها بصّرتْه ومن أبصر إلیها أعمتْه).50
وتعنی أنّ رؤیة الإنسان للدنیا یجب أن تكون صحیحة، فلو نظرنا الى (الدنیا) نظر إعجاب وافتتان بزینتها واتّخذناها هدفا أساسیا ونهائیا، فی هذه الحالة حیث لا حقیقة واقعیة لهذا الأمر ستكون رؤیتنا ذاتها خاطئة ومنشأً لاخطائنا السلوكیة، لأنّنا قد اتّخذنا الوسیلة هدفاً والطریق مقصداً. إنّ حال صاحب هذه الرؤیة حال من یوفّر مستلزمات السفر الى بلدة لأداء عمل ضروری جدّاً، ثمّ یتحرك ولكنه ینجذب فی الطریق الى منطقة خضراء ومشهد جمیل حتّى ینسى هدفه الأساس، وهو سفره الى تلك البلدة والقیام بالعمل الضروری والحیوی. إنّه یقیم فی تلك المنطقة مادام مستغرقاً فی ذلك المنظر ومركّزاً نظره إلیه ولا یمكنه التحرك، وإنّما یقدر على التحرك نحو الهدف الأساس حینما یؤوب الى نفسه، ویتذكر هدفه الأساس وعمله الضروری، ویلتفت الى أنّه لم یقصد المكث فی الطریق، بل كان عازما على المرور بتلك المنطقة والوصول الى الهدف.
وكما أشرنا فی الماضی لا یعنی هذا الكلام ـ طبعا ـ إهمال الطریق وعدم الإلتفات إلیه أبداً، والنظر الى الأرض والتحرك بعین موصدة، إذ صحیح أنّ الطریق لیس هدفا ویجب المرور منه بالسرعة الممكنة والتعجیل فی الوصول الى الهدف الأساس، ولكن إذا لم نتأمّل فیه ولم نحمل معنا الوسائل والأدوات والزاد الضروری للمرور فیه فقد نواجه أخطاراً جمّة، من قبیل خطر الانقلاب، والسقوط، والحیوانات المفترسة، والجوع والعطش، والانحراف یمیناً أو شمالاً والاصطدام وما شاكل ذلك. وعلیه یجب علینا الإلتفات إلیه بدقة، ولكن بلحاظه طریقاً للمرور ووسیلة للوصول الى المقصد لا أكثر.
انّ نقطة الانحراف الأساسیة إذنْ والتی تنشأ منها كلّ العیوب هی الافراط فی اهتمام الإنسان بالدنیا، وتعلّق قلبه بها وابتغاؤها بصورة مستقلة ولأجلها بالذات. هذه الرؤیة والتعلّق ناشئ عن جهل الإنسان وقلة بصیرته، لانّه لو عرف أنّ الدنیا لیست دار بقاء، بل إنّ ماهیتها الانقضاء وإنّنا فی حال تحرك دائب فیها، ولا نتوقف حتّى لحظة واحدة لا فی النوم ولا فی الیقظة، ولیس فی وسعنا فی كلّ فصل من فصول السنة المكث أكثر من ثلاثة أشهر من أعمارنا فیه، وما أن نلتفت الى أنفسنا حتّى نجد أن سنین وفصولا وأیاماً قد انقضت. أجل إنّها حالة التغیُّر والتحول والتحرك بكلّ ما تحویه من معنى نحو عالم یسوده الثبات والأبدیة، نحو الاستقرار والحیاة الخالدة والبقاء، دار لا دار وراءها لكی تقصد.
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى.51
لو كانت للإنسان مثل هذه الرؤیة لم یتعلّق قلبه بالدنیا أكثر من المستوى المطلوب.
والآن حیث طرحت الرؤیة الصحیحة حول الدنیا، أی اعتبرت الدنیا ممرّاً لا مقصداً أساسیا وهدفا نهائیا، فمن الضروری أن یكون موقفنا العملی منها بهذا النحو، أی یجب إعداد ما یُحتاج إلیه للوصول الى الكمال من الطعام والملبس والمسكن وغیرها، لأن عدم توفّر هذه الأمور الضروریة یعنی هلاك الإنسان نتیجةً للعطش أو الجوع أو البرد والحر أو الحیوان المفترس، ولا یبقى حیاً لكی یواصل تكامله الروحی، بل یكون كالثمرة التی تسقط من الشجرة قبل أوانها. إنّه یهلك فی الطریق قبل الوصول الى الكمال الإنسانی وفعلیة القابلیات والقوى.
من الطبیعی ـ كما أشرنا سابقاً ـ أنّ الماء والطعام لیسا هدفا أساسیا، بل هما مقدمة للوصول الى الهدف الاصلی. فاذا اعتبر شخص هذا الطعام والملبس والمسكن والسیارة والمال والثروة والرئاسة هدفا أساسیا واهتمَّ بها متجاوزاً الحدّ المعقول لها كان تعامله هذا خاطئاً ویصدّه عن بلوغ الكمال الإنسانی والهدف الأساس من خلق الإنسان. فمن ینوی ركوب سیارة للأجرة لكی یصل الى مقصده لا یفرق لدیه اللون وطراز السیارة وسائقها، فاذا اشغل ذهنه عند ركوبها بأفكار اُخرى بدلاً عن الوصول الى الهدف وأخذ یفكّر بطراز السیارة وكراسیها ولونها وأمورها الترفیّة فانّه سیكون غافلاً عن هدفه، لأن هذه الأمور لا علاقة لها مع مقصده. نعم، إنّ المقصد الأساس یستدعی أحیاناً رعایة بعض هذه الأمور، فمثلاً: للسفر من بلد الى آخر ینبغی أن یختار سیارة سلیمة وسریعة كی لا تؤخره فی الطریق وتصل بسرعة الى المقصد، فانّ هذه الأمور لا تمنع من الوصول الى المقصد، ولا یتعارض رعایتها مع الإهتمام بالمقصد.
فمثلاً: إذا انصرف الإنسان عن مأكولات نافعة لجسمه وضروریة لأنّها لم تكن لذیذة جدّاً، وتناول مأكولات غیر نافعة ولكنها لذیذة، فمن الطبیعی أن تناوُل الطعام لدیه قد أصبح هدفاً لا وسیلة، لانّه لو كان وسیلة لراعى فی انتخاب الطعام الكمیة والكیفیة الأكبر فائدةً لسلامته وصحته اللتین ستكونان مقدمة لعبادة الله وتكامل الإنسان معنویا. فمن كان فی انتخاب الطعام تابعاً للذّة الأكبر فقد انتخب الوسیلة بدلاً عن الهدف، لأنّ ما یلاحظ فی الوسیلة هو تأثیرها فی الوصول الى الهدف الأساس، بأن تعطی الإنسان الطاقة التی تمكّنه من العمل والسعی أعمَّ من كونها أطیب أو لا. واللطف الإلهی ـ طبعا ـ قائم على أن تكون الأطعمة الأكبر فائدة هی الأطیب. وتجتذب رغبة الإنسان بصورة أشدّ وتجذبه لتناولها، ولكن من الناحیة الأخلاقیة لا ینبغی للإنسان أن یجعلها هدفاً، ویتعلّق قلبه بالدنیا فوق المستوى المطلوب، فهذه الحالة تكون منشأً للخطر والخسران.
ممّا ذكر استنتجنا أنّ الحیاة فی الدنیا لا إشكال فیها، ولكن الإخلاد إلیها یكون ضاراً وخطیراً، فقد ورد فی نهج البلاغة أنّ شخصا ذمّ الدنیا فی محضر الامام علی(علیه السلام) فعارضه بشدّة قائلا: «أیها الذامُّ للدنیا، المغتر بغرورها، المخدوع بأباطیلها، أتغتر بالدنیا ثمّ تذمُّها؟ ـ الى أن قال ـ إنّ الدنیا دار صدق لمن صدقها، ودار عافیة لمن فهم عنها، ودار غنىً لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها، مسجد أحبّاء الله، ومصلّى ملائكة الله، ومهبط وحی الله، ومتجر أولیاء الله...»52
نعم، إنّ الحیاة الدنیا غیر مذمومة بل إنّ العلاقه الخاصّة بین الإنسان والدنیا هی المذمومة، إنّ إساءة استغلال الإنسان للدنیا وانخداعه واغتراره بها وغفلته عن الآخرة وانشغاله بالدنیا ونسیان الله هو المذموم، وأنّ تعاملنا مع الدنیا هو الذی قد یكون صحیحاً أو خاطئا، ولكن بما أنّ المتعلَّق والموضوع لتعامل الإنسان هو الدنیا فانّها تكون أحیاناً موضعا للذمّ والنهی تبعاً لتعامل الإنسان، فالذمّ یتوجه أولاً وبالذات الى سلوك الإنسان الاختیاری الذی یكون موضوعا للأخلاق ومتعلقا للقیمة الأخلاقیة أو ضدها. إنّ الدنیا بدون السلوك الإنسانی من الأمور العینیة التی لا یمكن ان تكون موضوعا للأخلاق والقیمة الایجابیة أو السلبیة.
القرآن وذمّ الدنیا
الآن وقد توضّح السبب فی ذمّ الدنیا یُطرح سؤال آخر: هل یؤید القرآن الكریم ما قدّمناه من تحلیل عن السبب فی ذمّ الدنیا؟
نقول فی الإجابة: نعم، فانّ فی القرآن الكریم آیات كثیرةً تشیر الى هذه الحقیقة بوضوح، وتبیِّن منشأ السوء فی الدنیا كالآیة:
إِنَّ الَّذِینَ لا یَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَیاةِ الدُّنْیا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِینَ هُمْ عَنْ آیاتِنا غافِلُونَ * أُولئِكَ مَأْواهُمُ النّارُ بِما كانُوا یَكْسِبُونَ.53
الآیة لم تذمّ الذین یعیشون فی الدنیا، یأكلون ویشربون ویتمتعون، بل الذین تعلقت قلوبهم بالدنیا واطمأنوا بها، واختاروها بدلاً عن الآخرة وتشبّثوا بها، فلا یرغبون فی شیء آخر ولا یشعرون بنقص الى جانبها، وطبق الآیة: مِنْكُمْ مَنْ یُرِیدُ الدُّنْیا وَمِنْكُمْ مَنْ یُرِیدُ الآْخِرَةَ.54
إنّ أساس صلاح الإنسان وفساده یكمن فی كلمة (یرید) هذه. والمقصود من الآیة: تُرِیدُونَ عَرَضَ الدُّنْیا وَاللهُ یُرِیدُ الآْخِرَةَ.55 هو أنّ ارادتكم تتعلّق أساساً بالدنیا، والاّ فانّ الارادة التابعة للدنیا لیس فیها إشكال ولا تتعارض مع إرادة الآخرة فحسب، بل هی أمر مطلوب وضروری أیضاً وبدونها لا یمكن الوصول الى الهدف الاُخروی.
جوهر الكلام هو أن نلاحظ بماذا یتعلّق دافع الإنسان وإرادته فی الأساس، فاذا كانت إرادته متعلقة بالآخرة واهتمّت بالدنیا بغیة الوصول الى الآخرة كان ذلك أمراً طبیعیا وقیّما وضروریا، ولكن إذا كان یرید الدنیا لذاتها دون اكتراث بوجود الآخرة وعدمها فانّ مثل هذه الدنیا لم تتبوّء موضعها المراد لها ویتوجه اللوم إلیها، لأنّ طلب الدنیا بهذا النحو یكون أساساً لفساد الإنسان، ومن هذا اللون من الإعتبار للدنیا ینشأ الكفر والنفاق والعصیان والفسوق والفجور وأمثالها.
الآن وقد توضّح أین یكمن المنشأ لذمّ الدنیا والعیب فیها، نقدِّم جوابنا الحاسم على السؤال: هل الدنیا تمثّل حقیقة اُخرى غیر هوى النفس وتعتبر مانعاً مستقلا بالنسبة له، أم إنها تعبیر آخر عن هوى النفس؟ وهو أنّ الدنیا وهوى النفس حقیقتان مترابطتان تماماً، أی الدنیا هی الموضوع لهوى النفس، إذنْ هما لیسا عاملین مستقلین، بل نطلق (هوى النفس) على رغبات الإنسان ومیوله التی تتعلّق بالدنیا كمطلوب رئیس بلحاظ كونها رغبة فی نفس الإنسان، فی حین نطلق (الدنیا) على الموضوع والمتعلَّق للرغبات الإنسانیة التی تُقصد مجرّدةً عن الآخرة. فالدنیا المذمومة هی التی تصدّ الإنسان عن الآخرة. إذنْ (النفس) و(الدنیا) مترابطتان، والدنیا هی (الموضوع) و(المتعلق) لـ (هوى النفس).
ج ـ الشیطان
هناك موضوعات كثیرة جدیرة بالملاحظة حول الشیطان، وحقیقة الشیطان، وكیفیة خلق الشیطان، وأعمال الشیطان وما شاكل، وقد بحثنا قسما منها سابقا، والمناسب طرحه وبحثه هنا منسجماً مع علم الأخلاق هو أنّ آیات قرآنیة كثیرة اعتبرت اتّباع الشیطان «رمزاً» لما ینافی الاخلاق، حتّى أنّ بعض الآیات تقول: هناك طریقان أمام الإنسان: أحدهما طریق الله، والآخر طریق الشیطان. وتضع عبادة الشیطان مقابل عبادة الله تعالى كالآیة:
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَیْكُمْ یا بَنِی آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّیْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِینٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِی هذا صِراطٌ مُسْتَقِیمٌ.56
هنا یُسأل: من هو الشیطان؟
هل هو الدنیا أو هوى النفس أو هو شیء مستقل عنهما؟
ظن البعض أنّ الشیطان لیس سوى «النفس الأمّارة» ولكن توضَّح ممّا سبق أنّ القرآن یعتبر الشیطان وإبلیس موجوداً مستقلا، من جنس الجن، فهو مخلوق من النار ومستقل عن الإنسان. إذنْ لا یكون الشیطان فی القرآن الكریم بمعنى هوى النفس، أو النفس الأمّارة أو القوة الوهمیة أو قوة اُخرى من قوى النفس، بل هو موجود مستقل. وقد یطلق لفظ الشیطان على الإنسان الشریر أیضاً، وقد یطلق لغةً على الموجود الشریر كهوى النفس أیضاً، ولكن فی المواضع التی یراد منه ابلیس وجنوده، فلیس المراد منه هوى النفس أو النفس الأمارة وما شاكل قطعاً، كالآیة:
یا بَنِی آدَمَ لا یَفْتِنَنَّكُمُ الشَّیْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَیْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ.57
عمل الشیطان
یصنف القرآن الكریم أعمال الشیطان تحت عدة عناوین، ومن الضروری اطّلاع الإنسان علیها. ویمكن القول أنّ أصل الأعمال الشیطانیة هو الوسوسة، وهو ما اُشیر إلیه فی مواضع من الآیات القرآنیة، كالآیة:
فَوَسْوَسَ إِلَیْهِ الشَّیْطانُ قالَ یا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْك لا یَبْلى.58
وآیات سورة الناس:
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ * مَلِكِ النّاسِ * إِلهِ النّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنّاسِ * الَّذِی یُوَسْوِسُ فِی صُدُورِ النّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ.59
والسؤال المطروح فی هذا المجال هو: كیف یقوم الشیطان بالوسوسة فی قلب الإنسان، وصدره حسب التعبیر القرآنی؟
جوابنا على السؤال: هناك عدة عوامل یؤكّد علیها القرآن فی هذا المجال:
أ ـ تزیین الأعمال القبیحة: فالشیطان یزیّن الأعمال فی نظر الإنسان ویوسوس له عن هذا الطریق، ویكون سبباً لعدم ترك ذلك الفعل القبیح فحسب بل التمادی فی مزاولته، لأن تزیین الشیطان یقوّی الدافع لممارسة ذلك العمل. وقد أشارت آیات عدیدة الى (تزیین الشیطان) كالآیة:
تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَم مِنْ قَبْلِكَ فَزَیَّنَ لَهُمُ الشَّیْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِیُّهُمُ الْیَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ.60
والآیة: وَزَیَّنَ لَهُمُ الشَّیْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِیلِ فَهُمْ لا یَهْتَدُونَ.61
والآیة 38 من سورة العنكبوت التی تشابه هذه الآیة بفارق ورود وَكانُوا مُسْتَبْصِرِینَ بدلاً عن فَهُمْ لا یَهْتَدُونَ.
ب ـ تقدیم الوعود الكاذبة للإنسان بقوله له: إن فعلت هذا العمل كان لك كذا وكذا، وقد تحدّثت بعض الآیات عن مثل هذا الوعد، كالآیة:
یَعِدُهُمْ وَیُمَنِّیهِمْ وَما یَعِدُهُمُ الشَّیْطانُ إِلاّ غُرُوراً.62
والآیة 64 من سورة الإسراء هی الاُخرى تحدّثت عن وعود الشیطان الكاذبة للإنسان.
ج ـ تخویف الإنسان تجاه مستقبله بهدف صدّه عن ممارسة أعمال الخیر، قال تعالى فی القرآن الكریم:
الشَّیْطانُ یَعِدُكُمُ الْفَقْرَ.63
وبهذه الطریقة یصدّكم عن ممارسة الأعمال الاجتماعیة والأخلاقیة النافعة (الإنفاق).
الشیطان وهوى النفس
بعد اتضاح ماهیة الشیطان وطریقة عمله یُطرح سؤال آخر بشأنه: هل یعمل الشیطان مستقلا عن النفس وهواها ویحرف الإنسان ویمنعه من عمل الخیر، أم یعمل من خلال ذلك الطریق ذاته؟
الجواب: من خلال البحث فی الآیات ذات العلاقه یمكن أن نستنتج بأنّ الشیطان ینفذ فی الإنسان عن طریق أهواء النفس ویؤید عمله وسعیه أو یغیّره.
یزین له الأعمال القبیحة ویسنده لارتكابها، وفی المقابل یثیر فیه الخوف ویصدّه عن ممارسة أعمال الخیر ویغیّر مسیرته، فمثلاً: فی جمع الأموال التی یریدها الإنسان بنفسه ویحرص علیها یقوم الشیطان بتأییده ودعمه بالتزیین والخداع.
وقد جاء فی الآیات القرآنیة أنّ الشیطان یخاطب الذین انخدعوا به ویلعنونه یوم القیامة: لا تلعنونی كثیراً فانّی لم أكن مهیمناً علیكم، بل وعدتكم وأخلفتكم موعدی، ومع ذلك كنتم تتّبعوننی:
وَقالَ الشَّیْطانُ لَمّا قُضِیَ الأَْمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِی عَلَیْكُمْ مِنْ سُلْطان إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِی فَلا تَلُومُونِی وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ.64
إذنْ عندما یؤید الشیطان هوى النفس یكون له دور المُعین والمعدّ، فلولا هوى النفس لعَجز الشیطان عن إیجادها فینا، ونظراً لوجودها فینا عندما تحدث رغبة فی نفوسنا یقوم الشیطان بتزیینها وتأییدها لكی یتضاعف انشدادنا إلیها. وحصیلة فعل الشیطان هو الغفلة عن الله عزّ وجلّ والابتعاد عن ذكره والإنجذاب الى الدنیا والإهتمام المفرط بالمادیات.
والإنسان عندما ینجذب الى المادیات واللذائذ الدنیویّة بفعل الوساوس الشیطانیة یغفل عن الله ولا یبقى مجال فی قلبه لذكره تعالى، وقد جاء فی القرآن الكریم بهذا الشأن:
ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُل مِنْ قَلْبَیْنِ فِی جَوْفِهِ.65
فالذین یتّبعون الشیطان ویضعون غلّ العبودیة والرقّیة له فی اعناقهم یتسلّط الشیطان علیهم تدریجیّاً، والسبب فی ذلك هو سوء اختیارهم، كما قال تعالى بهذا الشأن:
إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِینَ یَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِینَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ.66
كما قال: إِنّا جَعَلْنَا الشَّیاطِینَ أَوْلِیاءَ لِلَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ.67
أی إنّهم لا یؤمنون باختیارهم، وبذلك یمهّدون لتسلّط الشیطان علیهم كما قال سبحانه فی آیة اُخرى:
وَمَنْ یَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَیِّضْ لَهُ شَیْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِینٌ.68
وعلیه فانّ الإنسان یغفل فی البدایة عن الله عز وجل، ثمّ یكون الشیطان قرینه وصاحبه فی الطریق، یضع زمامه فی رقبته ویقوده الى الجهة التی یهواها. إذنْ إنّ سوء اختیار الإنسان هو السبب لحدوث هذه الأوضاع والأحوال المؤلمة.
بناءً على هذا نستنتج أنّ الشیطان وإن كان موجوداً مستقلا عن هوى النفس، ولكن لیس بوسعه أن یعمل ضد الإنسان مستقلا عنه، بل یؤید الهوى والرغبات النفسیّة فیه، أی له استقلال وجودی بالنسبة لهوى النفس، لا استقلال عملی.
فی ختام هذا الفصل وفی ضوء ما قلنا فی هذا المجال یمكن الوصول الى هذه النتیجة الكلیة: إنّ ما یمنعنا من الوصول الى القیم الأخلاقیة هو (هوى النفس) كعنوان عامّ موضوعه ومتعلقه هو الحیاة الدنیا، ویقوم الشیطان بتأییده وتزیینه.
* * *
1 الأعراف: 176.
2 الأعراف: 175.
3 الكهف: 28.
4 طه: 16.
5 الفرقان: 43.
6 الجاثیة: 23.
7 ص: 26.
8 القصص: 50.
9 محمد: 16.
10 النجم: 23.
11 المائدة: 70.
12 القمر: 2 و3.
13 النازعات: 40 و41.
14 المؤمنون: 71.
15 النساء: 27.
16 مریم: 59.
17 المائدة: 105.
18 الفجر: 27 و28.
19 القیامة: 2.
20 یوسف: 53.
21 المائدة: 116.
22 الشمس: 8.
23 القیامة: 2.
24 الفجر: 27.
25 یوسف: 53.
26 الأعراف: 176.
27 البقرة: 87.
28 المائدة: 52.
29 آل عمران: 7.
30 النحل: 122.
31 آل عمران: 148.
32 البقرة: 130.
33 الحج: 11.
34 البقرة: 114.
35 الرعد: 34.
36 آل عمران: 178.
37 الأنبیاء: 35.
38 الانعام: 32.
39 الحدید: 20.
40 الانفال: 67.
41 المؤمنون: 96.
42 فصلت: 34.
43 ملك: 5.
44 آل عمران: 185.
45 الانعام: 70 و130.
46 لقمان: 33.
47 طه: 50.
48 الأعراف: 32.
49 طه: 81.
50 نهج البلاغة: الخطبة 81: «ما أصف من دار أوّلها عناء وآخرها فناء، فی حلالها حساب وفی حرامها عقاب، من استغنى فیها فتن ومن افتقر فیها حزن ومن ساعاها فاتته ومن فقد عنها واتته ومن أبصر عنها بصرته ومن ابصر إلیها أعمته.»
51 النجم: 42.
52 نهج البلاغة: تحقیق صبحی الصالح، الصفحة 492.
53 یونس: 7 و8.
54 آل عمران: 151.
55 الانفال: 67.
56 یس: 60 و61.
57 الأعراف: 27.
58 طه: 120.
59 الناس: 1 ـ 6.
60 النحل: 63.
61 النمل: 24.
62 النساء: 120.
63 البقرة: 268.
64 ابراهیم: 22.
65 الاحزاب: 33.
66 النحل: 100.
67 الأعراف: 27.
68 الزخرف: 36.