القسم الثانی
3
- آثار معرفة الإنسان بالله تعالى
- تأثیرات المعرفة نفسیا وسلوكیاً
- الرؤیة القرآنیة فی تأثیر المعرفة
- القلوب غیر المتفاعلة
- الاخبات
- الحبّ
- الطریق الى تحقّق الحبّ
آثار معرفة الإنسان بالله تعالى
تأثیرات المعرفة نفسیاً وسلوكیاً
الأفعال التی یقوم بها الإنسان بهدف الإرتباط بالله عز وجل، والحالات التی تطرأ على روحه فی هذا السیاق تنشأ من معرفته بالله تعالى، أی تبعاً للمعرفة الإلهیّة تبدو فی الإنسان حالات وتوجّهات وكیفیات نفسیّة خاصّة، فیقوم بأعمال تقتضیها هذه الحالات الخاصّة، وتوجهاته الى الصفات الإلهیّة وفی دائرة الظروف الخارجیّة الخاصّة.
إنّ المعرفة التی یكتسبها افراد الإنسان عن الله عزّ وجلّ ذات مستویات كثیرة متفاوتة فی عمق المفاهیم وسعتها، أی ذات عرض عریض حتّى یمكن القول: انّ مراتب المعرفة الإلهیّة فی الإنسان تقرب من اللانهایة، فمثلاً: تكون المعرفة التی یكتسبها عموم الناس عن الله بمستوى المعرفة الاجمالیة عن موجود قد خلق العالم، أی إذا لم یكن موجودا أو كان ولم یشأ خلق العالم، فانّ العالم لم یوجد. ولكن فوق هذه المرتبة الاجمالیة توجد مراتب مختلفة وكثیرة جدّاً ذات تأثیر كبیر ودور مهم فی تغییر السلوك والحالات وتصویرها، حتّى تصل الى معرفة الله تعالى بكنه ذاته ولا تتیسّر هذه المعرفة ولا تكون مقدورة لموجود آخر غیره تعالى.
انّ معرفة الإنسان بالله تعالى ذات حالات خاصّة حسب عمق المعرفة وكمالها، ودرجة التوجه لمعرفته والمفاهیم التی تخطر فی ذهنه عن الأسماء والصفات الإلهیّة، وهذه الحالات اختیاریة بلحاظ مقدّماتها، ویمكن ان تكون موضوعا للأمر والنهی الأخلاقی وذات قیمة أخلاقیة، وتكون فی نفسها منشأً لسلوك إنسانی خاص.
ویمكن القول بنحو أدق: إنّ الجذور الفطریّة موجودة فی روح الإنسان، وتتبلور على صورة مشاعر وعواطف وكیفیات نفسیّة، وقسم منها ذو جوانب متعالیة ترتبط بالله تعالى كما یمكن القول: انّ هذه الحالات والمشاعر لها جانب إدراكی بصورة عامّة، أی إنّ حقیقتها إدراكیة ومعلولة للعلم والمعرفة الإنسانیة ومتأثّرة بها كما قال الفلاسفة: إنّ العلم یوجد الشوق، ولو شئنا الدقّة لقلنا: إنّ العلم یمنح الفعلیّة والجهة للاُسس الفطریّة ویحفّز فطرة الإنسان وأبعاده الفطریّة. وعلى هذا الأساس یكون للعلم والمعرفة بالذات الإلهیّة وصفاتها واسمائها تأثیر فاعل فی تحفیز تلك الجذور الفطریّة التی ترتبط بالله تعالى، ویعود الى تلك المعارف تجلّی حالات إلهیة خاصّة فی روح الإنسان، وبالتالی تحدید سلوكه فی دائرة الظروف الخارجیّة.
ان الآیات والروایات تأخذ بعین الإعتبار دور المعرفة فی خلق هذه الحالات أحیاناً وفی موارد كقوله تعالى:
إِنَّما یَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ،1 فالعلماء هذه حالتهم بلحاظ كونهم علماء، أی إنّ علمهم ومعرفتهم تخلقان فی أرواحهم حالة وكیفیة نفسیّة هی الخشیة من الله، كما ورد فی روایة عن الامام الرضا(علیه السلام): (من كان بالله أعرف كان من الله أخوف)،2وعن أمیر المؤمنین(علیه السلام): (أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه)3 بلحاظ انّ كلّ إنسان عرف نفسه فقد عرف ربه وخافه. على أیّة حال فانّ هذا النوع من الآیات والروایات یبین العلاقة الوثیقة بین المعرفة من جهة والحالات النفسیّة من جهة اُخرى، وهی التی تلاحظ هنا.
ویجدر هنا الإلتفات الى هذه الملاحظة، وهی أنّ تأثیر المعرفة فی تجلّی الحالات المذكورة لیس علة تامّة، إذْ من الممكن أن توجد المعرفة بمعنى التصدیق الذهنی والإدراك العقلی الیقینی والقطعی بدون احتمال للمعارض، ولكن لا تأثیر لها فی تحفیز هذه الحالات وبالتالی تنظیم السلوك الإنسانی، أی إن تأثیرها یتوقّف على توفّر الشرائط الاُخرى الى جانب العلم والمعرفة، وعلیه فانّ تأثیر المعرفة یكون بمستوى جزء العلة.
هذه الحالات القلبیة التی تعرف بصورة عامّة كأحاسیس وعواطف وأحیاناً بأسماء اُخرى تُسند الى القلب لانّه مركز المشاعر والعواطف.
وقد قلنا فی البحث المعنىّ بذلك: إنّ القلب هو روح الإنسان من جهة امتلاكها قوة المعرفة الحصولیة والحضوریة وذات مشاعر وعواطف خاصّة، والآن نقول: إنّ المعرفة والإدراك یحفّزان القلب أحیاناً بأن تكون له حالة تتناسب مع تلك المعرفة، ولكنه لا یملك أحیاناً هذا الإستعداد، وتكون حالة الإنسان النفسیّة بنحو لا تبرز فیه تلك الحالة والمشاعر الخاصّة رغم وجود ذلك العلم والمعرفة ذاتها، یطلق على قلب بهذه الحالة (القلب القاسی) وعلى هذا الانحراف الطارئ علیه (القسوة) كما یطلق (الزیغ) على الانحراف فی البعد المعرفی للقلب. إنّ قسوة القلب تسبّب عدم نشوء حالة الخوف والخشیة والشوق وأمثالها فی قلب الإنسان فی الموارد التی تقتضیها. وبوسع أیّ إنسان أن یختبر هذه الحقیقة فی نفسه وفی الآخرین. فانّه حینما یدرك أمراً ما، أو یلتفت الى معنى ما یحسّ فی نفسه بشعور وتأثّر خاصّ تبعاً لذلك، ولكنه فی المرّة الثانیة یكتسب المعرفة والإلتفات ذاتهما، ولكنه لا یجد فی نفسه ذلك الشعور والتأثّر الخاص. أو نلاحظ واعظا یعظ جماعة باسلوب واحد، ولكن ردود الفعل لموعظته لا تكون واحدة لدى الجمیع، فهناك من یتفاعل الى حدّ الاغماء، فی حین لا یتفاعل الآخر فحسب، بل یتعجب من تفاعل الأول واغمائه. إنّ المفهوم واحد وإدراكهما له واحد ولكنهما یختلفان فی التفاعل وردّ الفعل القلبی.
الرؤیة القرآنیة فی تأثیر المعرفة
فی آیات كثیرة یشیر القرآن الكریم الى فئتین من البشر مختلفتین تماماً: فئة قد تفاعلت مع الإدراكات والمعارف التی اكتسبتها، وبالتالی تشعر قلوبها بالخوف والخشیة وحالات مشابهة لذلك، ویطرأ تغییر إیجابی على سلوكها، وفئة قاسیة القلب لا تتفاعل مع شیء نصفها بـ (القسوة)، بهذا الشأن توجد آیات كثیرة نشیر هنا الى آیات كنماذج:
أَ فَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِْسْلامِ فَهُوَ عَلى نُور مِنْ رَبِّهِ فَوَیْلٌ لِلْقاسِیَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِی ضَلال مُبِین * اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِیثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِیَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِینَ یَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِینُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ یَهْدِی بِهِ مَنْ یَشاءُ وَمَنْ یُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هاد.4
فی الآیتین أشار سبحانه وتعالى الى الفئتین بوضوح:
فئة ذات صدور رحبة، وتغمر خشیة الله قلوبها وتلین لذكره، وفئة ذات قلوب قاسیة وصلدة ولا تتفاعل مع ذكر الله.
وآیات من قبیل:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَم مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ یَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَیَّنَ لَهُمُ الشَّیْطانُ ما كانُوا یَعْمَلُونَ.5
والآیة:
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِیَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما یَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَْنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما یَشَّقَّقُ فَیَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما یَهْبِطُ مِنْ خَشْیَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِل عَمّا تَعْمَلُونَ.6
وهكذا: مَنْ خَشِیَ الرَّحْمنَ بِالْغَیْبِ وَجاءَ بِقَلْب مُنِیب.7
الآیات المذكورة والكثیر من الآیات تكشف عن هذه الحقیقة، وهی أنّ قلوب الناس على صورتین: فهی تارة لینة وتتأثّر بالحقائق والمعارف الحقة، وتتصف بحالات مناسبة وقیمة، وتؤدی بالتالی الى تغییر سلوك الإنسان من ممارسة السیئات والخبائث الى فعل الصالحات، وتارة قاسیة لا تعرف اللین والتأثّر ولا تتفاعل مع الحقائق والمعارف حتّى المعجزات، وبالتالی لا تترك أعمالها القبیحة والمذمومة أبداً.
هذا التأثّر الذی یطرأ على القلب یطلق علیه فی الفارسیة (دلشكستگى) وفی العربیة (الخشوع) والتشبیهات القرآنیة فی هذا المجال وخاصّةً فی بنی اسرائیل ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِیَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً تشیر الى أنّ القلب له حالة صلدة فیتصدّع إثر ضربة عامل، ولكنه یتصلّب تارة بحیث لا یتأثّر بأیّ عامل.
حینما ندرس حالاتنا نلاحظ أنّ القلب یتأثّر فی حالات مختلفة، وذلك بتأثیر بعض العوامل كالشعور بالحرمان والغمّ والحزن فیخشع القلب قهراً، وبحكم الترابط الموجود بین الروح والجسم تطرأ علینا حالة عصبیة خاصّة، ثمّ تذرف العیون وتتساقط الدموع.
انّها الفطرة وتركیب القلب الذی جعله الله تعالى بهذا النحو حتّى یتّصف بمثل هذه الحالات تأثّراً بمثل هذه العوامل، فلا یمكن القول أنّها فی ذاتها حسنة أو سیئة، بل لابدّ من ملاحظة ماهیة عامل الخشوع هذا. فاذا كان العامل هو التعلّق بالأمور المادیّة الدنیویّة فانّه غیر مرغوب فیه، كالطفل الذی یبكی حینما یفقد لعبته ویعتبر الكبار ذلك أمراً مذموما. ولكن إذا كان العامل بسبب الحرمان من أمور قیمة فی العقیدة والرؤیة الدینیة والإسلامیة فانّه یكون قیّما أیضاً، كالشعور بالحرمان من الأمور المعنویّة، أو السعادة الأبدیة أو من هدایة النبی والائمة(علیهم السلام) أو عدم التوفیق لفعل الخیر وإن كان لعجز ولم یترتب علیه عقاب ومؤاخذة، كما قال تعالى:
وَلا عَلَى الَّذِینَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَیْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْیُنُهُمْ تَفِیضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ یَجِدُوا ما یُنْفِقُونَ.8
تتحدّث هذه الآیة عن الجهاد، إذْ عند وقوع معركة ما كان الموسرون یمتطون خیولهم ومراكبهم ویتوجهون الى ساحة الحرب، أمّا الذین لم یملكوها كان علیهم أن یستخدموا المراكب الزائدة التی یقدِّمها الآخرون للحكومة الإسلامیة ویتوجهوا الى ساحة القتال.
من الطبیعی أنّ هذه الإمكانات كانت محدودة، والحكومة الإسلامیة لم تكن لدى تأسیسها قویّة وذات تجهیزات كافیة، ولذا كان البعض مستعدّین للمشاركة فی الجهاد الاّ أنّهم لم یجدوا مركبا، والحكومة الإسلامیة بهذه التحدیدات لم تكن قادرة على تزویدهم بها، ونظراً لبعد المسافة لم یكن المشی مقدوراً لهؤلاء فكانوا یتألّمون، والقرآن الكریم یقول من جهته أن لا حرج علیهم. إنّ القرآن لا یذمّ حالة الرقّة فی قلوبهم الناشئة من همّ العجز عن المشاركة فی ساحة الجهاد، بل یعتبر ذلك آیة صدقهم وعلامة عزمهم على الجهاد والتضحیة ویبرئهم من الذنب ویثنی علیهم بكلماته. إذنْ لا ذمّ على هذه الرقة فی القلب فحسب، بل إنّها ممدوحة أیضاً.
والى جانب هذا الشعور بالحرمان هناك عامل للرقّة فی القلب، فالشوق یسبّب أحیاناً رقّة فی القلب وتساقط الدموع، فعندما ینال الإنسان فجأة نعمة محبّذة لدیه وغیر متوقّعة فانّه یتأثّر بشدّة، حتّى انه یشعر بحالة البكاء، یطلق على هذا النوع من البكاء: بكاء الشوق ویناظر بكاء الغمّ والحزن. هذا النوع من البكاء ورقة القلب هو كالنوع السابق الذی وصفناه بانّه أمر فطری وطبیعی، وقد خلق الله سبحانه قلب الإنسان بنحو یتأثّر فی مثل هذه الحالات. إذنْ لا یمكن الحكم بحسنه أو سوئه الاّ مع ملاحظة العامل المسبّب لحالة الشوق هذه. فانْ كان عبارة عن النعم المادیّة والدنیویّة فلا قیمة له فی منظار الدین الإسلامی حتّى یقصده الإنسان ویتأثّر الى حدّ البكاء علیه. ولكن إذا كان الأمر القیّم فی الرؤیة الإسلامیة سبباً لذَرف دموع الشوق فی عینیه، فانّ مثل هذه الحالة تكون قیّمة أیضاً. وبناءً على هذا فانّ قیمة حالة الخشوع ورقّة القلب تتوقف على قیمة السبب فی حدوثها وهو غیر متوقّع. القرآن یثنی فی بعض الآیات على هذا النوع من البكاء الحاصل بفعل عوامل قیّمة، كما یقول فی مورد:
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ قالُوا إِنّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّیسِینَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا یَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْیُنَهُمْ تَفِیضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ یَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِینَ.9
حیث كان الذین یعبدون الله تعالى ولهم قلوب رحیمة تنقلب أحوالهم عند سماع آیات الله سبحانه بعد نزولها على رسوله(صلى الله علیه وآله وسلم) حتّى انّهم كانوا یبكون وتتساقط دموعهم، والله سبحانه یثنی علیهم هذه الحالة وبتعابیر مختلفة وردت فی هاتین الآیتین والآیات الأخرى. إذنْ هذا النوع من بكاء الشوق عند نیل الأمور المعنویّة أمر مرغوب فی منظار القرآن الكریم.
على هذا فانّ قیمة البكاء والضحك بفعل عوامل الشوق والحزن والفرح والغمّ تتوقف تماماً على قیمة عاملها النفسیّ والخارجی، فاذا كان ذا قیمة إیجابیّة فانّ هذه تكون قیّمة أیضاً، وإن كان ذا قیمة سلبیّة كانت بلا قیمة أیضاً.
یمكن القول بمضمون آخر: انّ هذه الحالات فی نفسها مع الغضّ عن العوامل تكون ذات بعد إیجابی، فانّ القلب الذی یرقّ بأیّ سبب كان قیاساً الى القلب القاسی والبعید عن اللین والتعاطف له درجة من القیمة، وإن كانت رقّة القلب معلولة للتعلّق بالدنیا، لانّه یدلّ على أنّ القلب حساس، ولم تمُتْ فیه جذور الشعور والعطف. وبعبارة اُخرى یمكن تقسیم القلوب الى ثلاث مجموعات:
1 ـ القلوب القاسیة والفاقدة للشعور والعطف، وتكون مذمومة ولا قیمة لها أبداً.
2 ـ القلوب الحساسة واللینة والمتعاطفة، وتكون ذات قیمة قیاسا الى الاُولى، وتنقسم بدورها الى مجموعتین:
أ ـ القلوب التی تتعاطف مع العوامل المادیّة والأهواء الدنیویّة وتشعر بالرقّة وهذه حیثیّة سلبیّة.
ب ـ القلوب المتعاطفة أساساً مع الجوانب المعنویّة والقیم السامیة والإلهیّة وتنتابها الرقّة، وتكون قیمتها هی الأعلى.
القلوب غیر المتفاعلة
إنّ القلوب القاسیة فاقدة لسلامتها أساساً، حتّى أنّها أحطّ من قلوب الاطفال التی تتصدّع عند فقدان اللُعب. القلب القاسی كالشجرة التی تعفّنت جذورها وانعدمت فیها قابلیّة النموّ تماماً، فاذا كانت الشجرة وجذورها سالمة فانّها وإن تساقطت أوراقها وفقدت خضرتها وورودها ونضارتها فی الشتاء، الاّ انّها نظراً لسلامة جذورها قابلة للإخضرار والتورّد والتورّق عند توفّر الظروف والاجواء وحلول الربیع وهطول الأمطار. ولكن إذا تعفنت جذورها وفقدت قابلیتها تماماً فانّها تكون خشبة یابسة،10 ولا تنمو فی أیّ ظرف أبداً. مثل هذه الحالة یطلق علیها القرآن الكریم القسوة ویذمها بشدّة. القلب القاسی الذی كان من المفروض أن یلین ویتعاطف مع الله وما یرتبط به، وتغشاه حالة الغمّ والحزن أو السرور والشوق یصبح غیر مكترث ولا یشعر بالألم والإدراك، وبناءً على هذا فانّ العلم والمعرفة لا تكونان علة تامّة لطروء الحالات المناسبة فی القلب والسلوك المناسب فی الجوارح، بل یلزم توفّر الظروف والأجواء الاُخرى كما تمّ توضیحها تفصیلا. إذنْ لا یكون الشرط كافیاً بل یلزم توفّره، إذْ بدونه لا تتحقّق الحالات الروحیة الایجابیة وإصلاح الأعمال والسلوك، ویكون تأثیره فی القلوب المستعدّة قطعیاً ومشهوداً، فمثلاً: إذا أدرك الإنسان عظمة الله وغناه، وأدرك انّ ذاته تملك كلّ الكمالات ولا تفقد كمالاً، وفی المقابل یفقد كلّ موجود سواه جمیع الكمالات، ولا یملك شیئا من ذاته، مثل هذا التصور الذی یمتلكه ـ حسب سعته الذهنیّة وقابلیته الوجودیة ـ عن العظمة الإلهیّة یخلق حالة نفسیّة خاصّة فیه هی (الاخبات)، ولتوضیح هذا القول یلزم بیان كیفیة إدراك العظمة الإلهیّة وآثارها بتفصیل أكبر.
إنّنا حینما ننسب مفهوم العظمة الى الله تعالى فلیس من المقدور إدراك هذه الحقیقة دفعة واحدة، بل یلزم ملاحظة ودراسة مفهوم العظمة فی المادیات، ثمّ تجریدها ـ قدر الإمكان ـ من حیثیاتها المادیّة، ثمّ إطلاقها على الله سبحانه بعد تنزیهه. هذه العملیة لا تكون متماثلة بین جمیع الناس، بل تتوقف على درجة المعرفة وعمق الإدراكات، فمثلاً: الذین فهموا العظمة فقط فی الجبال والسهول أو البحار والقفار من حوالیهم، وتتبادر لهم من العظمة أشیاء من هذا القبیل وإنْ قالوا بألسنتهم انّ عظمة الله لیست من سنخ المادیات، ولكن الموجود فی أعماق أذهانهم هو المصداق المنتزع من هذه الموجودات المادیّة والمشاهد فیها، الاّ أنّ ذهن الإنسان كلما أدرك مصادیق أكبر وأعمق من العظمة، واستطاع تجریدها من الخصائص المادیّة بصورة أكبر كان بإمكانه نسبة معنى أقرب صحة منها الى الله تعالى، ولكی یدرك مصادیق أجلى من العظمة فمن الضروری ـ كمقدمة ذهنیّة ـ ملاحظة العظمة فی المزید من الموجودات المادیّة، فمثلاً: انّ علماء الفلك بمشاهدتهم السماوات الواسعة یدركون مفهوماً أوسع للعظمة، وكأنه یلزم علیهم أیضاً تجرید مفهومها من الجوانب المادیّة، الاّ أنّ أذهانهم ذات قابلیة أكبر لتصوّر مصادیق أجلى وأسمى للعظمة.
ورد فی روایة انّ رسول الله(صلى الله علیه وآله وسلم) سئل عن معرفة الله، وفی الإجابة شرع(صلى الله علیه وآله وسلم)ببیان عظمة الكون، وكأنه أراد أن یُلفت ذهنه الى عظمة الخالق بهذا الأسلوب، ممّا یدلّ على أنّ علینا لإدراك عظمة الله أن نفهم عظمة مخلوقاته، لكی نكون أهلاً لإدراك عظمته عز وجل، فانّ أذهاننا عاجزة عن تصور هذا الفهم بصورة دقیقة ومباشرة من دون مقدمة. ولذا قال(صلى الله علیه وآله وسلم) للسائل: إن هذه الأرض بمن فیها ومن علیها عند التی تحتها كحلقة ملقاة فی فلاة قی، وهاتان ومن فیهما ومن علیهما عند التی تحتهما كحلقة فی فلاة قی، والثالثة حتى انتهى إلى السابعة ثم تلا هذه الآیة: خَلَقَ سَبْعَ سَماوات وَمِنَ الأَْرْضِ مِثْلَهُنَّ11 والسبع ومن فیهن ومن علیهن على ظهر الدیك كحلقة فی فلاة قی، والدیك له جناح بالمشرق وجناح بالمغرب ورجلاه فی التخوم، والسبع والدیك بمن فیه ومن علیه على الصخرة كحلقة فی فلاة قی، والسبع والدیك والصخرة بمن فیها ومن علیها على ظهر الحوت كحلقة فی فلاة قی، والسبع والدیك والصخرة والحوت عند البحر المظلم كحلقة فی فلاة قی، والسبع والدیك والصخرة والحوت والبحر المظلم عند الهواء كحلقة فی فلاة قی، والسبع والدیك والصخرة والحوت والبحر المظلم والهواء عند الثرى كحلقة فی فلاة قی ثم تلا هذه الآیة: لَهُ ما فِی السَّماواتِ وَما فِی الأَْرْضِ وَما بَیْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى12 ثم انقطع الخبر والسبع والدیك والصخرة والحوت والبحر المظلم والهواء والثرى بمن فیه ومن علیه عند السماء الاُولى كحلقة فی فلاة قی، وهذا والسماء الدنیا ومن فیها ومنعلیها عند التی فوقها كحلقة فی فلاة قی، وهذا وهاتان السماوان عند الثالثة كحلقة فی فلاة قی، وهذا وهذه الثلاث عند الرابعة بمن فیهن ومن علیهن كحلقة فی فلاة قی حتى انتهى إلى السابعة، وهذه السبع ومن فیهن ومن علیهن عند البحر المكفوف عن أهل الأرض كحلقة فی فلاة قی، والسبع والبحر المكفوف عند جبال البرد كحلقة فی فلاة قی، ثم تلا هذه الآیة: وَیُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبال فِیها مِنْ بَرَد13وهذه السبع والبحر المكفوف وجبال البرد عند حجب النور كحلقة فی فلاة قی، وهو سبعون ألف حجاب یذهب نورها بالأبصار، وهذا والسبع والبحر المكفوف وجبال البرد والهواء والحجب عند الهواء الذی تحار فیه القلوب كحلقة فی فلاة قی، والسبع والبحر المكفوف وجبال البرد والهواء والحجب فی الكرسی كحلقة فی فلاة قی، ثم تلا هذه الآیة: وَسِعَ كُرْسِیُّهُ السَّماواتِ وَالأَْرْضَ وَلا یَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِیُّ الْعَظِیمُ14 وهذه السبع والبحر المكفوف وجبال البرد والهواء والحجب والكرسی عند العرش كحلقة فی فلاة قی ثم تلا هذه الآیة: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى15 ما تحمله الأملاك إلا بقول لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله [العلی العظیم].16 إنّ الكون الذی تبصره بكلّ ما فیه من سماوات ونجوم هو كحلقة فی فلاة بالنسبة الى السماء الثانیة، أی إنّه صغیر الى هذا الحدّ، وهكذا السماء الثانیة بالنسبة الى السماء الثالثة، والثالثة بالنسبة للرابعة و... كلّ سماء قیاساً الى السماء التی فوقها هی بهذه النسبة، أی كحلقة فی فلاة واسعة. كما أنّ جمیع السماوات والأرض قیاساً الى الكرسی، والكرسی الى العرش هو بهذه النسبة. إنّ النبی(صلى الله علیه وآله وسلم)أراد فی الواقع بهذا التوضیح والمقدمة أن یهیّئ ذهن السامع لإدراك عظمة المخلوقات، وتتوفّر أرضیة الإجابة عن سؤاله وإبداء الرأی عن عظمة الخالق. لأنّ الإنسان بعد إدراكه لعظمة المخلوقات قدر الإمكان یتمكن من إدراك عظمة خالقها بإرادة واحدة، انّها موجودات كالعالم، والسّماوات العظیمة، والمجرات، والبحار الواسعة، والنجوم، والكواكب، و... وبملاحظة هذه الموجودات یقرّ الإنسان ـ فی الوقت الذی یقترب بذهنه العجیب من إدراك العظمة الإلهیّة الى حدّ ما ـ بعجزه عن معرفة الله تعالى.
هذا المثال یعلّمنا بأنّ علینا اكتساب القابلیة الذهنیّة لإدراك اسماء الله تعالى وصفاته وللمعرفة الإلهیّة بصورة عامّة. هذه القابلیة نكتسبها من المصادیق الممكنة والموجودات المادیّة، وبتوسعة المفاهیم المتلقاة، وتجریدها عن الخصائص المادیّة ننسبها الى من هو فوق الطبیعة. إنها طریقة عامّة ینبغی سلوكها فی إدراك العلم والقدرة والحیاة، وجمیع المفاهیم التی ننسبها الى الله تعالى.
الإخبات
الآن لو أدرك الإنسان بالأسلوب المذكور عظمة الله عزّ وجلّ حسب اُفقه الذهنی، والتفت الى هذا المعنى المدرَك، خاصّةً إذا تیقّظ إدراكه الفطری بهذا التفكیر وخلص علمه الحضوری، وتجلّت له العظمة الإلهیّة فسوف تنشأ لدیه حالة خاصّة یشیر إلیها لفظ (الاخبات) كما هو المحتمل فی الآیات والروایات.
مرّة اُخرى ولتوضیح أكبر نفترض شخصا ذا عظمة كبیرة ویحظى باحترامنا الشدید، ولماذا نذهب بعیداً لنلاحظ شخصیة الامام الخمینی(رحمه الله) العظیمة فی عصرنا، وهو الإنسان المتألّق الذی هزّ العالم بإرادته وقدرته الروحیة وجذب أنظار الدول العظمى الیه، وكان تأثیره فاعلا على القوى الكبرى ویراقب العالم ما سیتفوه به، ویقیس درجة تأثیر كلامه على العالم، ویمكن القول بحق: كان شخص الامام فی عصرنا اُنموذج العظمة بین بنی الإنسان، الآن لو أدرك شخص هذا المعنى جیّداً، وفهم عظمة هذه الشخصیة بصورة صحیحة، والتفت الى أنّ من أراد الوصول إلیه كم هو بحاجة الى المقدّمات، إنّه الشخصیة التی یتمنّى الملایین من البشر فی العالم القاء نظرة علیها، أجل، كان من یدرك مقامه(رحمه الله) یشعر بحالة من الخشوع الباطنی حینما یقف أمام هذه الشخصیة العظیمة، وتبدو آثار هذه الحالة فی جسمه واعضائه وجوارحه، ینصرف توجهه من أیّ شیء آخر ویتمركز فیه، وهذا أمر فطری فی الإنسان ویعم الجمیع، إذ انّهم حینما یلتفتون الى عظمة موجود ما یشعرون بالخضوع والتواضع فی أنفسهم تجاه عظمته. والغافلون طبعاً مستثنون فی كلّ مكان، إذْ انّهم لا یدركون شیئا، ولا یشعرون بخضوع وتواضع فی قلوبهم.
الآن لو استطعنا إدراك العظمة الإلهیّة التی تبدو ـ قیاساً إلیها ـ عظمة أكبر من عظمته(رحمه الله) بملیارات المرات كقطرة الى محیط كبیر، فسوف نشعر بمقدار ما لنا من إلتفات ومعرفة بحالة الخضوع والتواضع فی أنفسنا، وكلما كانت معرفتنا أكمل كان الاحساس أكثر حیویة وعمقا. إذنْ ما نسمعه من حالات امیر المؤمنین(علیه السلام) أو سائر المعصومین(علیهم السلام) فی عبادة الله ممّا لا یكون قابلاً للتصور لدینا: حالات من قبیل ارتعاش الجسم، وشحوبة الوجه وحالات اُخرى من هذا القبیل، ینبغی أن لا یثیر سماع ذلك الدهشة وعدم التصدیق فینا. إنّها حالات خاصّة تطرأ على الإنسان عندما یدرك العظمة بعمق، وإنْ لم یتوجه الى النعم أو العذاب الإلهی، ولا یفكّر أبداً بكیفیة تعامل الله تعالى ایّاه. انّ إدراك العظمة هذا یكفی لحدوث هذه الحالات ومنها حالة الخضوع فی نفس الإنسان، وتبعاً لها تشتد الرغبة فی عبادته والسلوك المتواضع فی نفسه، وتصدر منه أفعال وسلوك عبادی یظهرهما الركوع والسجود لله العظیم على الأرض فی اعضائه. انّ هذا میل طبیعی فی الإنسان، ویعود احتمالا الى جذور وأساس المیل الى العبادة الذی یعتبر من المیول الفطریّة الأصیلة فی الإنسان.
أجل، یمیل الإنسان فی فطرته الى الخضوع بین یدی عظمة لا تنتهی، وعندما یدرك انّ وجوده أیضاً منه، وهو مالك الوجود كله فانّه یودّ أن یبدی مملوكیته وعبودیته بنحو ما، إنّنا نطلق (العبادة) على تلك الأمور التی تظهر حالة الخضوع الروحی والمملوكیة لدى الإنسان.
بناءً على هذا فانّ من آثار المعرفة نشوء هذا الشعور والمیل والأعمال فی الإنسان: الشعور بالتواضع والحقارة فی نفسه، المیل الى الأعمال الناشئة من هذا الشعور، ومجموعة أعمال وممارسات اسمها العبادة. على أیّة حال فانّ مثل هذا المیل یوجد فی الإنسان عند إدراك العظمة، سواءً رجع ذلك الى المیل للعبادة، أو لعبادة الله میلا ذاتیا مستقلا عنه، وكما قلنا سابقا إنّه (الاخبات).
لتوضیح كلمة (الاخبات) لا یوجد لها تفسیر واضح سوى ما ذكره بعض العرفاء فی حالات الإنسان، والمستفاد من اللغة هو أن (الاخبات) تقریبا هو الشعور بالخضوع بین یدی الله تعالى.
لقد استعمل لفظ (الاخبات) فی ثلاثة موارد فی القرآن الكریم:
المورد الأول هو الآیتان:
فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِینَ * الَّذِینَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصّابِرِینَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِیمِی الصَّلاةِ وَمِمّا رَزَقْناهُمْ یُنْفِقُونَ.17
یلاحظ فی هاتین الآیتین ثلاث جمل:
الجملة الاُولى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وترتبط بالمعرفة، أی اعلموا انّ معبودكم واحد ثمّ قال فی الجملة الثانیة: فَلَهُ أَسْلِمُوا وهی متفرعة ومترتبة على الجملة الاُولى، أی إذا كان معبودكم الواقعی هو الله الواحد إذنْ أسلموا له، لأنّ اللازم لألوهیّة الله عزّ وجلّ هو أن یكون العبد منقاداً بین یدیه، عبد لا یملك شیئا من نفسه، والله هو المالك المطلق والحقیقی له ومتعلقاته، وحقیقة الإسلام هی التسلیم والانقیاد. وقال فی الجملة الثالثة: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِینَ فمن الضروری لكی یسلّم الإنسان نفسه لله عزّوجلّ أن یترك أنانیته أمام الله، وهذا هو الذی یوجد حالة (الاخبات) فی الإنسان وتكون اختیاریة بلحاظ مقدّماتها، أی إنّ بوسع الإنسان الى حدّ ما أن یكون له دور فی خلق هذه الحالة من خلال كسب المعرفة بوحدانیة الله وعظمته والتوجه الیه. ونظراً الى أنّ هذه الحالة تمهّد لتسلیم الإنسان وانقیاده لله عز وجل، فمن الجدیر أن یُبشّر صاحبها بالنسبة للنتائج والثمار الثمینة التی سوف ینالها.
بناءً على هذا یتوضّح مفهوم الجملة الثالثة فی ضوء ما ذكر، وهو أنّ البشارة خاصّة بالذین ینشأ خضوعهم لله من شعورهم وإدراكهم للعظمة الإلهیّة بنحو یكون توجههم إلیه كاملا، ویحفظ حواسهم من التشتت ویمنع إلتفاتهم الى الموجودات المحیطة ویركّزه فی عظمة الله، ولازم ذلك ظهور الخضوع والتذلّل الخاصّ فی الروح الإنسانیة.
والآیة الثانیة أشارت بصورة ظریفة الى الأبعاد المختلفة لهذه الحالة وعلاماتها وآثارها، وفی الحقیقة انّها بمنزلة نعت المخبتین، أی إنّ (المخبتین) هم الذین تقشعرّ قلوبهم بالخوف والفزع عند ذكر الله، ولهم استقامة عند المصائب، ویقیمون الصلاة وینفقون على الآخرین ویمكن القول: انّ هذه كلها آثار وعلائم نفسیّة وسلوكیّة لمن نال هذه النعمة الكبیرة، وهی حالة (الاخبات) إثر اكتساب المعرفة والتوجه النافذ.
كان العلامة الطباطبائی(رحمه الله) ینقل عن استاذه المرحوم السید القاضی(رحمه الله) قوله: لإدراك مفهوم (الاخبات) دركاً صحیحاً علینا ان نلاحظ أصله، فانّ هذه الكلمة مأخوذة فی أصلها من (أخبت البعیر) ویعنی أنّ البعیر حینما یشعر بحِكّة فی بدنه لوجود برغوث، أو أیّ عامل آخر یسلّم نفسه تماماً عندما یُحك جسمه ویُدلك موضع الحِكّة ویقف هادئا حتّى عیناه دون حراك، هذه الحالة الانقیادیة التی تطرأ على البعیر تدعى (الاخبات).
لعل لفظ (الخشیة) بمفهومها الوسیع یشمل مثل هذه الحالة ونظائرها، لأنّ الخشیة تختلف عن الخوف قلیلا، فقد قال بعض العظماء: هی الحالة التی تطرأ على الإنسان حینما یدرك العظمة الإلهیّة وحقارة نفسه، وتختلف عن الخوف من العذاب والعقاب.
المورد الثانی: الآیة الكریمة:
وَلِیَعْلَمَ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَیُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِینَ آمَنُوا إِلى صِراط مُسْتَقِیم.18
أی لیعلم أولوا العلم انّ هذا القرآن حق ومن لدن الله سبحانه، وعندما یحصل هذا العلم لدیهم فانّهم یؤمنون، وبایمانهم تحدث فی قلوبهم حالة (الاخبات). الفاء فی (فَیُؤْمِنُوا بِهِ) و(فَتُخْبِتَ لَهُ) هی فاء التفریع فی علم النحو، وتبیّن هذا المعنى وهو أنّ الإیمان والاخبات من آثار العلم بحقانیّة القرآن الكریم التی ذكرتها العبارة السابقة.
المورد الثالث: الآیة الكریمة:
إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِیها خالِدُونَ.19
الحب
ما ذكرناه كان یدور حول ایجاد معرفة العظمة الإلهیّة حالة (الاخبات) فی القلب، والآن نقول: قد تكون المعرفة بموضوع آخر، فتنشأ بحسبها حالة اُخرى فی القلب، كما إذا التفت الإنسان الى أنّ الله سبحانه یتصف بالصفات الكمالیة كلها، وإنّه المنشأ لكلّ جمال وحسن وفیه كلّ محبوب، لو التفت الى هذا المعنى تولّد الحبّ فی قلبه، والحبّ فی الحقیقة حالة تحدث فی قلب موجود ذی شعور حیال ما ینسجم مع وجوده ویناسب میوله ورغباته، ویمكن القول: إنّه قوة جذب إدراكیة كالجواذب غیر الإدراكیة. أی كما أنّ هناك قوة الجذب والإنجذاب بین الموجودات المادیّة الفاقدة للشعور، حیث یجذب المغناطیسُ الحدیدَ بهذه الخصوصیة وهی أنّ الجذب والإنجذاب أمر طبیعی بینهما ولا شعوری، هناك جذب وانجذاب واع وقوة جذب شعوریة وواضحة بین الموجودات ذات الشعور، فالقلب ینجذب الى جهة، وهناك موجود یجذب القلب نحوه، ویطلق على هذا اسم (الحبّ). إنّ الملاك فی هذا الجذب والإنجذاب هو الانسجام بین ذلك الموجود وبین المحبّ، وحبّ الإنسان یتعلّق بشیء قد أدرك انسجام كماله مع وجود نفسه.
والحبّ ذو درجات، فالحبّ الظاهری والدرجات الإعتیادیة تنشأ من كون البعد الحسی والمرئی والصورة الظاهریة للمحبوب بنحو إذا أدركه المحبّ فانّه یرى ذلك الظاهر المحسوس منسجما مع رغبته ومتلائما مع میوله ومتطابقا مع طبعه، ویكون مركزا لتوجهه وحبّه وتمركز حواسه. وبلحاظ هذا التلاؤم قیل: انّ ذلك الشیء ذو جمال وجذابیة ناشئة من جماله حیث انّه یستقطب القلب نحوه، وله جذابیة تجذب حواس الإنسان وعواطفه نحوه.
وللحبّ درجات فوق الدرجات الإعتیادیة المذكورة، وذلك لوجود نوع آخر من الكمالات غیر المحسوسة والمرئیة، حینما یدركها الإنسان بطرق إدراكیة مناسبة سوف تكون مركزا لتوجّهه وحبّه، ویتمركز توجّه الإنسان علیها، ویشعر بحبّ یغمر قلبه تجاهها، فمثلاً: ینجذب الإنسان قلبیا الى أصحاب الصفات الروحیة العالیة من قبیل: الشجاعة، والسخاء، والعفو، والإیثار، والدرجات العلمیة العالیة والصفات المحبوبة الاُخرى التی یجد الإنسان بصورة فطریة نوعا من الإنجذاب والإرتباط أو المعرفة والإتحاد معها فی قلبه، رغم أنّها صفات غیر محسوسة وغیر مرئیة. وعلى هذا فانّ هذا نوع من الحبّ تجاه جمال معنوی غیر محسوس، ولكنه مُدرك من قبل الإنسان.
إذنْ المراد من الجمال هنا هو تلك الصفة المحبوبة لدى الإنسان، وبإدراكها یشعر بالإرتیاح فی وجدانه ویصبح مسروراً وفرحاً. من الطبیعی أنّ كلّ جمال لابدّ أن ینسجم مع رغبات مدرِكه ویستدعی السرور والإرتیاح والفرح فیه، وواضح انّ هذا الأمر سیكون نسبیا لأنّ هذه الحقیقة ممكنة تماماً، وهی أن یحبّ الإنسان شیئا ویراه جمیلا، فی حین لا یحبّه إنسان آخر ویراه غیر جمیل وغیر مرغوب فیه، فمثلاً: فی عالم الطبیعة ألوان هی جمیلة لدى بعض الأشخاص وغیر جمیلة لدى بعض آخر وغیر مرغوبة، حتّى أنّ بعض الحیوانات ینجذب إلیها فی حین یفرّ البعض الآخر منها. وهكذا یلتذّ شخص بسماع نغمة أو موسیقى بعیدا عن جوانبها المعنویّة والقیمیة وینجذب إلیها تماماً، بینما یتضجر وینفر منها شخص آخر. ما ذكرناه عن المرئیات والمسموعات الموجودة فی الطبیعة یصدق تماماً فی الأمور المعنویّة وغیر المحسوسة أیضاً، ففی الأبعاد المعنویّة هناك أمور یحبّها بنو الإنسان، ویمكن أن لا یدركها موجود آخر ولا یحبّها. وأخیراً نصل الى هذه النتیجة وهی أنّ الموجود الجذّاب والمحبوب ـ فی الحالات كلها ـ یجب أن یكون متناسبا مع الشخص المنجذِب له قلبیا ویكون محبوبا لدیه، سواءً أحبّه الآخرون أم لا.
فی هذا السیاق توجد بحوث فی (علم الجمال) أو (معرفة الجمال) یُتساءل فیها: هل الجمال أمر نسبی ومشروط أم حقیقی ومطلق؟ ولا نخوض فی هذا البحث هنا ویمكن القول اجمالا: یختلف التفات الأشخاص ومیولهم تجاه هذه الأمور المادیّة أو المعنویّة، وإن كان هذا الكلام لا یعنی أنّ القیمة الواقعیة للأمور المعنویّة نسبیة وغیر مطلقة. فالجمال المعنوی لیس نسبیا بل هو كمال واقعی وحقیقی، أدركناه أم لم ندركه، شئنا ذلك أم أبینا وله قیمته الواقعیة فی نظام الخلق، قد ندرك قیمته قلیلا أو كثیراً ونمیل الیه، أحیاناً وقد لا ندركه برهة من الزمن ولا نلتفت إلیه ولكن بعد التعرف علیه یتوضّح لنا أنّنا قد أخطأنا وندرك كماله ونحبّه، ویبدأ الجمال من الكمالات الشائعة حتّى نصل الى مبدأ الوجود، وهو الأكمل والمصدر لكمالات الموجودات كافة. من الواضح انّ إدراك حقیقة الوجود بالقوى الحسیة والذهنیّة أمر غیر ممكن، بل بالإدراك الحضوری فقط یكون بوسع كلّ إنسان أن یدرك هذه الحقیقة حسب سعته الوجودیة، ثمّ یدنو من إدراك جمال الوجود المطلق قدر معرفته.
فی نظر الفلسفة ترجع الكمالات كلها الى الوجود، وتتناسب مراتب الكمال مع اختلاف مراتب الوجود، الاّ أنّ تأثیر مراتب الوجود فی تحقّق الحبّ تتوقف على معرفتها.
فلو أدرك شخص حقیقة الوجود فانّه سوف یحبّ كلّ موجود بلحاظ وجوده ودرجته، ولعلّ من الممكن القول انّ الآیة الكریمة الَّذِی أَحْسَنَ كُلَّ شَیْء خَلَقَهُ 20تشیر الى هذه الحقیقة وهی أنّ الخلق یتقارن مع الحسن. فكلّ موجود جمیل قدر ما یحظى به من الخلق الإلهی والوجود، وكلّ موجود إذا كان أكمل ویحظى بوجود أكبر فانّه یبدو أكثر جمالا فی الرؤیة العرفانیّة والشهودیّة للعارف، وأشدّ محبوبیّة.
الآن لو لاحظنا هذه المراتب فسوف نرى أنّ أدنى مراتب الوجود وهی الأعراض المحسوسة والخطوط والألوان والشكل الظاهری لوجه الإنسان كم هی جذابة وتستقطب القلوب نحوها، بل تجعل أشخاصا فی وَلَه وانشداد إلیها، فعندما تكون أدنى المراتب بهذه الحال أمكن الحدس كم ستكون المراتب الأعلى جذابة، وذلك ـ طبعاً ـ للموجود الذی یدركها إدراكاً صحیحاً، حتّى نصل الى أعلى موجود یتصف بوجود لا نهائی، والموجودات الاُخرى تكون منجذبة إلیه بنسبة إدراكها له ومعرفتها به. السبب فی أنّنا لا نحس كثیراً بهذه المعانی هو ضعف إدراكنا ـ الاّ أنّ انبیاء الله(علیهم السلام) وأولیاءه الذین كانت لهم معرفة أعلى وأكمل بالذات الإلهیّة كان حبّهم وانجذابهم أشدّ بالنسبة ذاتها، وبناءً على هذا كلما ازداد الإنسان معرفة بالأسماء وصفات الجلال والجمال والكمال الإلهی، وكان أشدّ التفاتاً كان فی قلبه حبّ لله أكبر.
لقد تحدّث القرآن الكریم فی الكثیر من الآیات عن حبّ الإنسان لله وأثنى علیه، ونشیر الى عدة آیات كنماذج:
یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا مَنْ یَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِینِهِ فَسَوْفَ یَأْتِی اللهُ بِقَوْم یُحِبُّهُمْ وَیُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِینَ أَعِزَّة عَلَى الْكافِرِینَ یُجاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللهِ وَلا یَخافُونَ لَوْمَةَ لائِم ذلِكَ فَضْلُ اللهِ یُؤْتِیهِ مَنْ یَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِیمٌ.21
انّ الله وهو الأكمل والأحبّ من كلّ شیء ویعرف وجوده وكماله بأفضل وجه، یتّصف بالحبّ الأكمل لذاته، والموجودات التی لها درجات من الكمال بحكم ارتباطها بالله تكون محبوبة لدیه حسب كمالها، والذین تقصدهم الآیة المذكورة هم الذین یحبّون الله ویحبّهم الله، إذنْ هذا حبّ متبادل ویبدأ من الله عز وجل.
قد یقال: إذا كان لكلّ موجود ـ كما ذكرنا ـ حُسن یتناسب مع وجوده، فكلّ موجود إذنْ محبوب عند الله، ولازم ذلك هو أنّ الأشرار والأشقیاء محبوبون عند الله أیضاً، مع أنّنا نعلم بأنّ علیهم غضب الله وعذابه.
ینبغی الإلتفات الى أنّ هذه القضیة دقیقة وتصعب الإجابة عنها، وتحتاج الى بحث فلسفی لا یطیقه هذا المقال، لكننا نشیر هنا الى الجواب اجمالا: انّ الأشقیاء قد أعدّوا بأنفسهم أسباب الشقاء بسوء اختیارهم، وبدّلوا النعم والكمالات التی منّ الله عزّ وجلّ بها علیهم الى نقمة، أی انهم استخدموها فی طریق یؤدی الى نقصهم الوجودی، وأبطلوا قابلیتهم لإدراك الرحمة الإلهیّة اللانهائیّة، وبعبارة فلسفیة اكتسبوا لأنفسهم أعداما ونقائص، ومثل هؤلاء بنقائصهم المكتسبة وبسبب هذه الجوانب العدمیة التی أوجدوها بأنفسهم لا تتعلّق محبّة الله بهم. قد أصبح هؤلاء فی الواقع مبغوضین بفعل نقائصهم المكتسبة والاختیاریة الناشئة بسببهم، ولم یكن ذلك فی أصل الوجود الإلهی الذی أفاضه علیهم مبدأ الخلق. على هذا یمكن القول انّ الأشقیاء مع قطع النظر عن شقائهم الذی أوجدوه، ومع ملاحظة كونهم مخلوقین فی نظام الخلق، ومع الإلتفات الى مراتبهم وحیثیاتهم الوجودیة فانّهم محبوبون عند الله عز وجل، وهذا الحبّ هو السبب لارسال الله سبحانه الأنبیاء إلیهم كی تتهیّأ أسباب تكاملهم بهدایتهم وارشادهم، وهذه هی آثار حبّ الله ایّاهم، الاّ أنّ هؤلاء حینما وضعوا أنفسهم ـ بسوء اختیارهم ـ فی طریق ینتهی بالأعدام والنقائص قد أصبحوا بهذا اللحاظ مبغوضین عند الله. فی هذا السیاق یمكن ملاحظة لحن الحبّ الإلهی حینما قال لموسى(علیه السلام):
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكّى * وَأَهْدِیَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى * فَأَراهُ الآْیَةَ الْكُبْرى.22
فانّ فرعون وإن كان مفسدا وطاغیا، الاّ أنه حظی برعایة الله وحبّه حیث وفّر له وسیلة الكمال، وأرسل إلیه رسوله العظیم موسى(علیه السلام) لهدایته وتزكیته، وإن لم یستفد فرعون بسوء اختیاره من هذه النعم الإلهیّة العظیمة.
فَكَذَّبَ وَعَصى * ثُمَّ أَدْبَرَ یَسْعى * فَحَشَرَ فَنادى * فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَْعْلى.23
وقد أدت أعماله غیر المناسبة وعصیانه واستعلاؤه وعدم تفاعله مع الهدایة الإلهیّة وعدم الإنتفاع بحبّ الله الى أن یغضب الله سبحانه علیه:
فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الآْخِرَةِ وَالأُْولى * إِنَّ فِی ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ یَخْشى.24
هذه الآیات وآیات كثیرة اُخرى تشیر بوضوح الى الحقیقة المذكورة، وهی أنّ الله رحمن بالمؤمن والكافر ورحیم أیضاً بالمؤمنین، أمّا الكفار الذین یغضب علیهم ویعذبهم فلسوء اختیارهم، إذنْ یمكن القول: كلّ شیء یحظى من الكمال والحبّ ما یتناسب مع كونه مخلوقاً لله ویرتبط به وینال فیضاً من الوجود الإلهی الذی هو المنشأ لوجوده ویناله من خلال خلقه، غایته أنّ الموجود المختار فی بقائه قد یفرّط ـ بانتخابه النهج الخاطئ فی الحیاة وسلوكه غیر المناسب ـ بالقابلیات الكثیرة التی امتلكها لكسب فیض أكبر وأسمى، ویتحول الى موجود ناقص ویصبح مبغوضا بسبب هذه النقائص التی أوجدها قال تعالى فی آیة اُخرى:
وَمِنَ النّاسِ مَنْ یَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً یُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِینَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِِ.25
لقد جعل المشركون آلهتهم شركاء لله، وأبدَوا لهم حبّهم، والمفروض هو أن یكون ذلك لله، وهذه علامة الشرك، أمّا المؤمنون فانّهم یكنّون أشدّ الحبّ لله ولا یحبّون شیئا كحبّه. ومن هذه العبارة یمكن إدراك انّ علامة الإیمان هی أن یكون الله أحبّ للإنسان من أیّ شیء آخر، وهذا هو الحدّ الأدنى وحدّ النصاب لحبّه، وهو المطلوب لأدنى مراتب الإیمان، ویمكن أن یتكامل حتّى لا یكون الإنسان محبّاً لشیء أصالة الاّ ذاته المقدسة، ویحبّ كلّ شیء آخر تبعاً، أی بنسبة ارتباطه بالله وحبّه تعالى له.
هناك آیة اُخرى تشیر أیضاً الى حدّ النصاب هذا والحقیقة هذه، وهی أنّ كلّ شیء لا یكون محبوبا لدى المؤمن أكثر من حبّه لله وتقول:
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِیرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَیْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهاد فِی سَبِیلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى یَأْتِیَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْفاسِقِینَ.26
أی إن كانت صفة أرواحكم هی أن تكون أمور الدنیا أحبّ إلیكم من الله، وتختارونها وتفضّلونها على الله عند مفترق طریقین إذنْ انكم فاسقون فانتظروا الأمر الإلهی، فانّ الله لا یهدی القوم الفاسقین.
انّ عبارة فَتَرَبَّصُوا حَتّى یَأْتِیَ اللهُ بِأَمْرِهِ فی الآیة المذكورة تهدید وتشیر الى أنّ موقع أمثال هؤلاء على خطر عظیم. إذنْ إذا كان المؤمن محبّاً لشیء آخر أیضاً فانّ هذا الحبّ لا یكون بنحو یتعارض مع حبّ الله دائماً. ولا یصدّه عن طاعة الأوامر الإلهیّة والتحرك فی طریق الحق، بل عند مفترق طریقین یجرّه الدافع الإلهی نحو الطریق الصحیح دائماً، حتّى یبلغ تدریجیّاً درجة لا یحبّ فیها شیئا بصورة مستقلة حتّى النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) والامام(علیه السلام).
كان ثمة أولیاء الله ولعلهم موجودون حتّى فی هذا العصر لا یحبّون شیئا أصالة، لانّهم لا یرَون ـ أساساً ـ كمالاً مستقلا الاّ لله، فكلّ إنسان لا یملك شیئا من نفسه، والموجود هو كمالاته وتجلیّات من جماله. ویرَون انّ وجود الشیء شعاع من الوجود الإلهی، وكمال كلّ شیء شعاع من الكمال الإلهی، ولأنّ حبّهم لله فانّهم یحبّون آثاره الوجودیّة تبعاً حسب درجة قربها أو بعدها عن الله.
وعن الحبّ تقول آیتان اخریان:
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْكُمُ اللهُ وَیَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ * قُلْ أَطِیعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا یُحِبُّ الْكافِرِینَ.27
لقد اشترطت هاتان الآیتان أمراً لابدّ من توفّره فی الجمیع، وهی: انّكم إنْ كنتم تحبّون الله فاتّبعونی. نعلم أنّها فی مقام بیان وجوب اتّباع النبی الكریم، وعبارة إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ هی كعبارة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ فی الكثیر من الآیات التی تقول: افعلوا كذا إنْ كنتم مؤمنین بالله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْیَوْمِ الآْخِرِ) إذنْ تكون ضرورة حبّ الله أمراً مفروغا عنه، ولكن تذكرها على نحو الشرط لكی تنبّه الناس على مستلزمات هذا الحبّ.
وعلیه لا ینبغی أن نتمسك بمفهومها ونقول: لا ضرورة للحبّ والاتّباع، نعم إنْ كنتم تحبّون فمن الضروری أن تتّبعوا، وإن لم تحبّوا فلا یلزم الاتّباع، بل إنّ اتّباع النبی أمر حتمی وضرورة شرطه (حبّ الله) مفروغ عنها، علیكم أن تحبّوا الله كما تدّعون وحبّ الله یقتضی أن تتّبعونی، وبالتالی فانّ اتّباعی أمر واجب. إذنْ اتّبعونی لكی یحبّكم الله أیضاً. وتستفاد من لحن الآیة القائلة فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْكُمُ اللهُ أی تجعل حبّ الله لعباده فرع طاعتهم واتّباعهم للنبی(صلى الله علیه وآله وسلم) ملاحظة اُخرى لها جذور نفسیّة عریقة هی أنّ الإنسان حینما یحبّ موجوداً ذا شعور یرغب بشدّة أن یبادله الحبّ. هذه الحقیقة لازم لا ینفكّ عن حبّ موجود ذی شعور. والآیة موضوع البحث ترید القول: إنْ كنتم تحبّون الله ویجب أن تحبّوه فانّكم تودّون فی المقابل أن یحبّكم الله أیضاً، وتریدون طبعاً ان تعملوا ما یستتبع حبّ الله، وانّی اُریكم الطریق المؤدّی الى ذلك وهو أن تتّبعونی لكی یحبّكم الله أیضاً.
بناءً على هذا یمكن القول: لقد تمّ بیان رابطتین فی هاتین الآیتین:
1 ـ رابطة حبّ الإنسان لله مع اتّباعه للنبی(صلى الله علیه وآله وسلم) وقد أكدته عبارة إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِی وخلاصتها إنّ حبّ الإنسان لله لیس مجرّد ادعاء، بل له أثر سلوكی، ودرجة طاعة الإنسان وانقیاده تبیّن درجة حبّه لله، كما أنّ كلّ حبّ یحفّز فی المحِبّ سلوكا خاصّا تجاه محبوبه.
2 ـ رابطة اتّباع وطاعة الإنسان لله والرسول مع حبّ الله ایّاه، وقد تأكّد ذلك فی الآیة الاُولى والثانیة نفیا واثباتا:
ففی الآیة الاُولى قال تعالى: فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْكُمُ اللهُ أی اتّبعونی حتّى یحبّكم الله، وقال فی الثانیة فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا یُحِبُّ الْكافِرِینَ. أی إذا تركتم الله والرسول ولم تطیعوهما فانّكم كافرون والله لا یحبّ الكافرین. وخلاصته هی: إنْ لم تتّبعوا فانّ الله لا یحبّكم.
الطاعة والاتباع فی الواقع حلقة الوصل بین حبّ الإنسان لله وحبّ الله للإنسان المعلول لحبّ الإنسان لله والسبب لحبّ الله للإنسان.
إذنْ انّ وجود حبّ الله وعدمه یحكی ـ إِنّیاً ولِمِّیا ـ عن وجود وعدم هذین الحبّین فی الإنسان تجاه الله، وفی الله سبحانه تجاه الإنسان.
ما ذكر آیات نزلت لِتصرّح عن حبّ الله فی القرآن الكریم، وهناك آیات قرآنیة اُخرى تدلّ تلمیحاً على هذه الحقیقة ولا نتطرّق إلیها هنا.
إذنْ لا مجال للشك فی:
أولاً: انّ حبّ الإنسان لله أمر ممكن، على عكس ظن الذین یعتقدون بأن الحبّ لا یتعلّق بالله أساساً، وكم هو الفرق بین القائلین بأن الحبّ لا یتعلّق بالله، وبین القائلین بأن الحبّ ـ أساساً ـ لا یتعلّق بغیر الله. تقول الفئة الاُولى: إنّ الحبّ یتعلّق بموجود قابل للرؤیة وتكون آثاره مشهودة ویبعث على اللذة، وبما أنّ الله لا یُرى فانّه لا یكون موضوعا للحبّ، ولكن تبیّن بالتوضیحات التی قدّمناها: كما یستفاد من الآیات القرآنیة بنحو كامل أنّ الحبّ لا ینحصر فی الأمور المحسوسة، بل إنّ الله وهو غیر محسوس وغیر مرئی حینما یرى الإنسان اسماءه وصفاته وكماله وجماله بعین البصیرة ویشهدها، فانّه یكون موضعا لحبّ الإنسان بنحو أعمق.
ثانیاً: انّ حبّ الإنسان لله أمر مطلوب جدّاً ووجوده أمر لازم.
ثالثاً: انّ حدّ النّصاب لحبّ الإنسان لله عزّ وجلّ هو أن یكون أشدّ وأكبر من حبّه لأیّ موجود آخر غیره.
رابعاً: انّ تكامل حبّ الإنسان لله یكمن فی أن یتجرّد قلبه تدریجیّاً من أیّ شیء آخر غیره، ویتعلّق حبّه الأصیل بالله فقط، وهذه الحقیقة تتوقف على اكتساب المزید من المعرفة الإلهیّة، أی كلما ترقّى الإنسان فی توحیده اشتدّ حبّه لله أیضاً، وكان أشدّ انحصاراً ویواصل ارتقاءه حتّى لا یكون أیّ شیء محبوباً لدیه أصالة.
الطریق الى تحقّق الحب
بعد اتضاح فضیلة حبّ الله، ونظراً الى أنّ وظیفة علم الأخلاق هی اضاءة الطریق لتحصیل خلُق ما بعد اثبات فضیلته، یُطرح هذا السؤال: ما السبیل الى حبّ الله، وماذا نصنع حتّى نحبّ الله؟
فی الإجابة یمكن القول: إنّنا نحبّ موجوداً مّا حینما نجد فیه كمالاً، ویكون ذلك سبباً لأن نركّز التفاتنا نحو ذلك الكمال، ونفكّر فیه أكثر فأكثر، لأن مجرّد إدراك الكمال والتصدیق به بلا تمركز والتفات لا یتحقّق الحبّ. ولا یوجد سبیل آخر لتحقّق حبّ الله. من البدیهی أن لا تتیسّر معرفة الله العمیقة وإدراك كمالاته اللانهائیة للجمیع، لأنّ البراهین العقلیّة والفلسفیّة ونصوص الآیات والروایات تتطلّب مستوى عالیاً من القابلیّة والقدرة الذهنیّة لكی یدرك الإنسان بها الكمالات الإلهیّة، وهذه القابلیّة لا تتیسّر للجمیع، ولكن هناك ـ لحسن الحظ ـ طریقاً أقصر وأسهل ویتیسّر سلوكه للجمیع، وهو أن نتأمّل فی النعم الإلهیّة الكثیرة والقیّمة علینا، وهو من الطرق الواضحة لتحقّق الحبّ. كما انّ من المسلّم به بصورة عامّة أنّنا نزداد حبّاً لمن له احسان ولطف أكبر بحقّنا، وقام بتلبیة أكبر عدد من الحوائج وذلك فی حالة توجّهنا الیه.
لو قمنا بدراسة الخدمات التی أسدیت الینا من قبل الآخرین، وأبدینا حبّنا الشدید إلیهم أحیاناً، كم وما هی نسبة الحوائج التی قامت برفعها قیاساً الى مجموع حوائجنا فی الحیاة، ونقیسها الى النعم العظیمة التی لا تُحصى وقد أعطانا ایّاها ولی النعمة والخالق القدیر والرحیم، أمكن أن ندرك عن هذا الطریق عظمة النعم الإلهیّة وتأثیرها فی قضاء الحوائج الكثیرة والحیاتیة وفی تكاملنا ومعرفتنا هذه، والتفاتنا الى هذه النعم یزید من شدّة حبّنا لولی نعمتنا، ویوجه عواطفنا نحو الألطاف الإلهیّة ورحمته ورعایته بحقنا، وهذا طریق سهل لتحقّق حبّ الله وهو متیسّر للجمیع، وقد ورد فی حدیث قدسیّ بأن الله خاطب النبی موسى(علیه السلام): أحببنی وحبّبنی إلى خلقی، قال موسى: یا رب إنك لتعلم أنه لیس أحد أحب إلیّ منك، فكیف لی بقلوب العباد؟ فأوحى الله إلیه: فذكرهم نعمتی وآلائی، فإنهم لا یذكرون منی إلا خیرا، فقال موسى: یا رب رضیت بما قضیت، تمیت الكبیر، وتبقی الأولاد الصغار، فأوحى الله إلیه: أما ترضى بی رازقا وكفیلا؟ فقال: بلى یا رب نعم الوكیل ونعم الكفیل.28
مع ملاحظة هذا التحلیل للحبّ الذی قلنا إنّه ینشأ إثر إدراك كمال المحبوب نذكّر بهذه الحقیقة، وهی أنّ الله تعالى لا یتّصف بما یثیر نفور الإنسان واشمئزازه، لأنّهما ردّ فعل نفسانی فی الإنسان حینما یدرك النقص ومرفوضیة الشیء المدرَك، وتعود كلها الى حیثیات عدمیة، فی حین انّ الله تعالى ذو وجود وكمال غیر متناه، تنزّهت ذاته من أیّ عیب ونقص.
إذنْ إذا عرف الإنسان الله تعالى جیّداً وبصورة صحیحة فمن المستحیل أن لا یكنّ له الحبّ، ولكن نواجه عملیاً أشخاصا لیس فی قلوبهم حبّ الله ویصرفون وجوههم عنه بنفور خاص. السؤال هو: إذا لم یكن لهذه الحالات فی هؤلاء الأشخاص منشأ فی الذات الإلهیّة فما هی إذنْ عللها وعواملها؟ بعبارة اُخرى إنّنا كما یجب أن نعرف الطریق لنشوء حبّ الله عزّ وجلّ وكیفیّة اشتداده لكی نبادر لایجاد حبّه وتقویته فی قلوبنا، فانّ من الضروری أن نعرف العوامل التی توجب ضعف الحبّ الإلهیّ ونحترز منها، وبهذا اللحاظ نبحث عن علل وعوامل ضعف الحبّ.
فی الإجابة یمكن القول: فی الدرجة الاُولى یكون أیّ لون من الحبّ الإستقلالی لغیر الله عزّ وجلّ مزاحماً لحبّ الله ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُل مِنْ قَلْبَیْنِ فِی جَوْفِهِ،29 فلو أراد شخص أن یكون قلبه موضعاً لحبّ الله فقط، ولا یتعارض حبّ غیره فی قلبه مع حبّ الله فعلیه أن یدرك هذه الحقیقة، وهی أنّ أیّ موجود غیر الله لیس له أیّ نحو من الإستقلال فی نفسه؟ وكلّ كمال وجمال منه فی الواقع أینما كان، وقد أودع فی الأشیاء الاُخرى كعاریة.
ولیس من الیسیر اكتساب مثل هذه المعرفة، بل نحتاج الى جهود كبیرة وتدبر واستدلالات وتمارین عملیة وتهذیب للأخلاق حتّى نصل فی ضوئها تدریجیاً الى مرحلة تتوفّر فینا القدرة على مثل هذا الإدراك والمعرفة ثمّ ندرك هذه الحقیقة. لذا یُبتلى بنو الإنسان ـ حتّى الذین لهم درجات عالیة من الإیمان ـ بحبّ غیر الله، الاّ أولیاء الله المقربین الذین أذهب الله عن قلوبهم حبّ الأغیار، فلا یحبّون غیر الله تعالى كما ورد فی مناجاة المعصومین: (أنت الذی أزلت الاغیار عن قلوب احبّائك حتّى لم یحبّوا سواك).30
فی الدرجة الثانیة یمكن أن یكون الحبّ الشدید لغیر الله مانعاً لحبّ الله وسبباً للإعراض عن العمل بالواجبات الإلهیّة. على هذا الأساس وُضع نصاب لحبّ الله، ومن الضروری أن یكون حبّ الإنسان لله غالباً على حبّه للاشیاء الاُخرى كحدّ أدنى.
قال تعالى: وَالَّذِینَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِِ.31
انّ حبّ المخلوق یجب أن لا یصدّه عن العمل بمقتضى حبّ الخالق أبداً (لا طاعة لمخلوق فی معصیة الخالق)،32 بناءً على هذا إذا كان لله أمر الزامی بعمل ما وكان حبّ الآخرین مانعاً ومزاحما لامتثاله، كما فی الصلاة التی أوجبها الله على المكلف فیقوم صدیق محبوب بمنعه من ادائها، فی هذه الحالة یقتضی ایمان الإنسان وجود درجة من الحبّ فی قلبه تمنحه القدرة على اتخاذ القرار اللازم لأداء الواجبات وترك المحرمات، ویعجز حبّ غیر الله من صدّه عن العمل بوظائفه. وفی درجة أعلى یمكن أن یبلغها المكلف تدریجیّاً یهیمن حبّ الله على قلبه بنحو لا تقوى حالات الحبّ الاُخرى من صدّه حتّى عن العمل بالمستحبّات وترك المكروهات.
على هذا یمكن القول: إنّ المانع من وجود أو تزاید أو تكامل حبّ الله هو ما فی قلب الإنسان من تعلّقات بغیر الله ویشمل جمیع مخلوقاته، هذه التعلقات إذا كانت بمستوى تزاحم فیه ترتّب آثار حبّ الله فانّ المسلّم به أن تكون مرفوضة، ولكن إذا لم تكن بهذا المستوى فانّها لا تسبّب ضرراً فادحاً على المؤمنین فی مستوى اعتیادی ومتوسط. الاّ انّها تكون بمثابة الشرك بالنسبة للأولیاء المقربین. انّ ولی الله الذی سلّم قلبه الى الله فقط لا یحبّ غیره حبّاً مستقلا أبداً.
المحصلة النهائیة التی ننالها من هذه المباحث هی أنّ ذات الله لیس فیها ما یثیر عداء الإنسان واشمئزازه لتنزّهه من كلّ نقص وعیب، فالذین لم یعرفوا الله جیّداً بعدُ فلم یستقر حبّ الله بصورة متجذّرة فی قلوبهم وسلّموها الى الآخرین یشعرون حینما یجدون أنفسهم على مفترق طریقین بحكم هذه الحالة بأن حبّ الله یصدّهم عن محبوبهم الدنیوی، ومن أجل هذا العامل الخارجی أی الحبّ الشدید الذی یكنّونه لغیر الله یشعرون عرَضاً بحالة الإشمئزاز والعداء لله فی قلوبهم. انّ حبّ غیر الله ذو آثار تتعارض فی موارد مع مقتضى الحبّ الإلهی ولا یمكن الجمع بینهما، ولو كان حبّ غیر الله أشدّ فی هذه الموارد فانّه یقوم بتضعیف حبّ الله ویمحو آثاره.
بناءً على هذا یمكن أن یشعر أشخاص بالعداء والإشمئزاز تجاه الله، ولكن لیس بلحاظ وجود عامل لهذا العداء فی ذات الله عز وجل، بل بلحاظ عامل نفسیّ فی الإنسان الذی تعلّق قلبه بغیر الله، قال تعالى بهذا الشأن:
وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالآْخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِینَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ یَسْتَبْشِرُونَ.33
الذین لا یؤمنون بالآخرة ولا یعتقدون بوجود شیء وراء الدنیا تنحصر تعلقاتهم فی الأمور الدنیویّة والمادیّة، ویشمئزّون من كلّ ما یتعارض مع هذه التعلّقات. فمثلاً: إذا واجه الغارقون فی اللهو واللعب ولذائذ الحیاة مانعاً فی مجالس أنسهم، وكان اهتمامهم منصرفاً الى لذائذ مترتبة على عدة أعمال، ثمّ صدّهم عامل ما عن دوامها وأخلّ فی حیاتهم، كما إذا ذكّرهم شخص بالله والقیامة وعذاب الله ومنعهم من تلك الأعمال، فمن الطبیعی أن یشعروا حیاله بردّ فعل نفسیّ وحالة من النفور والإشمئزاز.
حتّى ذَوو الإیمان الضعیف یواجهون أحیاناً أحداثاً مرّة قد تهدّد ایمانهم، تصوّروا أُمّاً یموت ولدها المحبوب الشاب الوسیم الذی تعبت من أجله برهة من الزمان، فی وقت ینبغی أن تأنس به ویكون عوناً لها فی حلّ مشكلات الحیاة، فاذا كان ایمانها ضعیفا فانّها قد تشعر بالعداء لله تعالى فی قلبها، لأنّها لا تحظى بایمان ومعرفة كافیة لإدراك أنّ أفعال الله كلها تكون على أساس المصلحة، ویقوم هذا الشعور أحیاناً بسلب ایمانها تدریجیّاً. وقد ورد فی بعض الروایات34 انّ بعض المؤمنین یفقدون ایمانهم ساعة الاحتضار، ویمكن القول إنّ السبب فی ذلك هو أنّهم ذَوو مجموعة من التعلّقات والآمال فی الدنیا، فیشعرون عند الموت بأنّ الله یفصلهم عن محبوبهم ولذا یشعرون بالبغض والعداء له، وبُغض الله یعادل الكفر، ولعل من الممكن استفادة هذه الحقیقة بصورة واضحة من بعض الآیات حیث یقول تعالى:
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الآْخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِینَ * وَلَنْ یَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَیْدِیهِمْ وَاللهُ عَلِیمٌ بِالظّالِمِینَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلى حَیاة وَمِنَ الَّذِینَ أَشْرَكُوا یَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ یُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ یُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِیرٌ بِما یَعْمَلُونَ * قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِیلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِینَ * مَنْ كانَ عَدُوًّا للهِِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِیلَ وَمِیكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِینَ.35
من هذه الآیات یمكن بوضوح استخراج العلاقة الواضحة بین حبّ الله وتمنّی الموت من جهة، وبین الإستیحاش من الموت والعداء مع الله من جهة اُخرى. انّهم یستوحشون من الموت ولا یودّونه أبداً لحرصهم على الحیاة، ویتمنَّون الحیاة ألف سنة وأكثر، وهؤلاء بهذه الخصلة یعادون الله وانبیاءه وملائكته.
على أیّة حال علینا الحذر من التعلق الشدید بالمخلوقات الى مستوى یضعف فی قلوبنا حبّ الله ویسلب الإیمان منّا تدریجیّاً. وكم هو جمیل أن ینتخب الإنسان أصدقاءه من بین الصالحین والمهذّبین حتّى لا تتوفّر فیه أرضیة مثل هذا التعارض، لأن أمثال هؤلاء الأشخاص لا یطلبون ارتكاب المعصیة من أحد أبداً، ولا یرتضون أداء فعل یتعارض مع مشیئة الله، أمّا حبّ الذین لا یمتلكون إیماناً وصلاحاً كافیاً فقد یترتب علیه مثل هذه الأخطار، وأخیراً یلزم فی درجة أعلى الحدّ من التعلّق بأیّ شیء آخر غیر الله، ثمّ نتقدّم الى الامام حتّى لا یبقى فی قلوبنا تعلّق الاّ بالله وما یرتبط به لأجل ذلك الإرتباط.
* * *
1 فاطر: 28.
2 بحار الأنوار: ج 70، ص 393، ح 64.
3 غرر الحكم: ص 232، الروایة 4644.
4 الزمر: 22 و23.
5 الانعام: 42 و43.
6 البقرة: 74.
7 ق: 33.
8 التوبة: 92.
9 المائدة: 82 و83.
10 (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) المنافقون: 4.
11 الطلاق: 12.
12 طه: 6.
13 النور: 43.
14 البقرة: 255.
15 طه: 5.
16 بحار الأنوار: ج 60، ص 83، الروایة 10.
17 الحج: 34 و35.
18 الحج: 54.
19 هود: 23.
20 السجدة: 7.
21 المائدة: 54.
22 النازعات: 17 ـ 20.
23 النازعات: 21 ـ 24.
24 النازعات: 25 و26.
25 البقرة: 165.
26 التوبة: 24.
27 آل عمران: 31 و32.
28 بحار الأنوار: ج 13، ص 351 و352، روایة 43.
29 الاحزاب: 4.
30 دعاء الامام الحسین(علیه السلام) یوم عرفة.
31 البقرة: 165.
32 بحار الأنوار: ج 10، ص 224، الروایة 1.
33 الزمر: 45.
34 بحار الأنوار: ج 69، كتاب الإیمان والكفر، الباب 34.
35 البقرة: 94 ـ 98.