حبّ البقاء والخلود
انّ حبّ البقاء لازم طبیعی لحبّ الذات. وبما انّ حبّ الذات من الغرائز الأصیلة والرغبات المسلّمة فی الإنسان وأنّ كلّ انسان یحبّ نفسه یقینا، فكذا یكون محبّاً لبقائه وخلوده، لانّ حبّ النفس لا یعنی انّه یحبّ الوجود الآنی لنفسه ثمّ لا یشعر بأىّ شعور تجاه مستقبله، بل یعنی انّه یحبّ وجوده فی الازمنة التالیة أیضاً وفی كلّ زمان. انّ الإنسان یرغب بشدة فی أن یدوم وجوده ویخلد. فمن الطبیعی أن یكون أوّل وأقرب الآثار التی تترتّب على حبّ الذات هو حبّ البقاء والرغبة فی الحیاة الخالدة، وكلّ انسان یمتلك فی ذاته هذه الغریزة بالفطرة. انّ العلاقة الوطیدة والتلازم بین هذین الحبّین یبلغ حدّاً بحیث لا یوجد من یقرّ بوجود حبّ الذات فی الإنسان ثمّ ینكر حبّه للبقاء والخلود.
معرفة النفس وحبّ البقاء
ینبغی الالتفات إلى انّ للعلم والمعرفة هنا دوراً أساسیا فی تحدید المصداق وتوجیه حبّ البقاء، بمعنى انّ الإنسان إذا عرف نفسه معرفة صحیحة وأدرك حقیقة الوجود وحقیقة حیاته جیّداً فإنّ هذا الحبّ یجد اتجاهه الصحیح أیضاً، والاّ فسوف یخطىء فی تشخیص المصداق، ویوجّه حبّ البقاء توجیها خاطئا إثر جهله، ویكون بذلك سبباً للمزید من الانحراف الخُلقی.
انّ المعرفة فی مجال حبّ البقاء ذات أهمّیة خاصّة فی الرؤیة الإسلامیة أیضاً. فلو عرف الإنسان انّ له حقیقةً غیر مادیة ولا تنحصر حیاته فی الحیاة الدنیا فإنّ حبّ البقاء والخلود سیجد اتجاهه الطبیعی والفطری، وسیتعلّق حبّ الإنسان بحیاته الأبدیة، وفی المقابل لو اعتقد أنّ وجوده هو هذا الوجود المادی، وتنحصر حیاته فی هذه الحیاة الدنیا ولا توجد حقیقة اُخرى وراء هذا الوجود والحیاة المادیة فستنحرف هذه الغریزة الفطریة وحبّ البقاء فی الإنسان عن نهجها الطبیعی والمسیرة الفطریة الأصیلة، وستتوقف فی هذه المرحلة القصیرة من الوجود المادی والحیاة الدنیویة للانسان، وسیكون هذا الانحراف والجمود منشأ للكثیر من الآثار والأعراض والأعمال والسلوك والعلاقات الخاطئة والقبیحة.
وقد دار البحث فی ما مضى حول حبّ الدنیا ودوره الفعال ـ وفق الرؤیة الإسلامیة ومضمون الروایة القائلة «حبّ الدنیا رأس كلّ خطیئة» ـ فی نشوء الفساد الخُلقی، وهنا نرید القول: انّ الجذور النفسیة لهذه القضیة ترجع إلى حبّ الخلود الذی لم یجد اتجاهه الصحیح نتیجةً للجهل. انّ السبب فی حبّ الإنسان للدنیا هو حبّه للخلود والبقاء الذی یتخذ هذا الاتجاه فی إطار التفسیر المادی لحیاة الإنسان.
انّ الإنسان الذی یطلب بقاء حیاته واستمرارها من جهة، ویرى إنحصار حیاته فی الوجود المادی والحیاة الدنیا من جهة اُخرى یرغب فی استمرار هذه الحیاة المادیة، فی حین لو التفت وتیقّن انّ حقیقة الحیاة لا تتلخّص فی الحیاة الدنیا، بل هی أسمى منها فانّه سوف لا یبدی مثل هذا التعلّق المفرط والمفسد بالحیاة المادیة والدنیویة، ولا یعتبرها مراده الأصیل وهدفه النهائی، وبالتالی لا یرتكب كلّ ذنب وإثم للمحافظة علیها واستمرارها.
الأخلاق وحبّ البقاء
كما ذكرنا فی موارد اُخرى انّ أصل هذه الغریزة ـ كأیّة غریزة اُخرى لیست حسنة ولا سیئة من الناحیة الأخلاقیة، لانّ هذه الغرائز من اللوازم الجبریة والتكوینیة للوجود الإنسانی، ومن هنا فهی لا تخضع للتقییم ولا تدخل نطاق الأخلاق، حیث قلنا انّ الأمور التی تدخل هذا النطاق هی التی تجد إرادة الإنسان واختیاره إلیها سبیلا.
انّ حبّ البقاء الذی یتناوله بحثنا حبّ فطری وتكوینی أُودع فی ذات الإنسان وطبیعته ولا اختیار للانسان بشأنه. وما یخضع لاختیار الإنسان بشأن هذا الحبّ هو توجیهه وتحدید مصداقه وآثاره وأعراضه وطریقة التعامل التی یتخذها إثر ذلك، ولمیزة كونه أمراً إرادیا فانّه یدخل نطاق الأخلاق ویتصف بقیمة إیجابیّة أو سلبیّة.
القرآن وحبّ البقاء
تدل آیات قرآنیة على وجود هذا الحبّ الفطری فی ذات الإنسان، وبعبارة أوضح انّها تقرّ بوجود هذا الحبّ كأمر واقعی فی الإنسان، ویستخدمه كعامل ودافع فی سبیل تربیة الإنسان وترشیده وتكامله.
وعلى هذا، فإنّ حبّ البقاء فی الإنسان بلحاظ دوره التربوی لیس أمراً مرفوضاً فی الرؤیة الإسلامیة. ولذا لیس فقط لا تشجبه وإنّما تؤید أصل وجوده فیه وتستغلّه فی سبیل التربیة الصحیحة من خلال تقدیم المعرفة الدقیقة عن الإنسان وحیاته.
من اللازم أن نشیر هنا إلى بعض الآیات ذات العلاقة بهذا البحث:
النموذج الأول من هذه الآیات هو الآیتان اللتان ذكرناهما فی قصة آدم(علیه السلام)ووسوسة الشیطان له، فانّها تمّت عبر طریقین: الأول حبّ الاقتدار والسلطان، والثانی حبّ الخلود.
قال تعالى فی إحدى الآیتین:
فَوَسْوَسَ إِلَیْهِ الشَّیْطَانُ قَالَ یَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْك لاَ یَبْلَى1.
وقال فی الآیة الثانیة:
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّیْطَانُ لِیُبْدِىَ لَهُمَا مَا وُورِىَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَیْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِینَ2.
تبیّن الآیتان انّ الشیطان كان یعرف آدم(علیه السلام) جیّداً، ویعلم بوجود حبّ الخلود فی ذاته وبإمكان استغلاله كطاقة محرّكة إلى كلّ جهة.
من هنا سعى لخداعه عن طریق هذا الحبّ. فبما انّ آدم(علیه السلام) كان ذا حبّ فطری للخلود قام ابلیس باستغلال هذه الحالة وأغراه بأنّ الخلود الذی تنشده یحصل بالأكل من هذه الشجرة.
أی انّ الشیطان سعى من خلال تقدیم معلومات خاطئة أن یوجّه هذا الحبّ الفطری ـ الفاقد للاتجاه ـ باتجاه مراده. وقد قلنا سابقاً: انّ المعرفة الصحیحة أو غیر الصحیحة یمكن أن تؤثّر فی توجیه هذا الحبّ توجیها صحیحا أو غیر صحیح، وتقدیم مصداق مناسب أو غیر مناسب لهذا الحبّ.
فیمكن الإستنباط جیّداً من هاتین الآیتین انّ مثل هذا الحبّ مودع فی ذات آدم(علیه السلام) وذریته منذ بدء الخلیقة، وسیكون حبّ الخلود فی الإنسان حبّاً فطریاً ونوعیاً. وفی الكثیر من الآیات القرآنیة الاُخرى التی ترغّب الإنسان فی انتخاب طریق الآخرة والسعی لجذبه نحوه، وتحریره من حبّ الدنیا تتخذ عدة اجراءات لتحقیق هذا الهدف، من جملتها المقارنة بین الدنیا والآخرة ثمّ الحكم بأنّ الآخرة أكثر دواماً وأبقى لیقوم الإنسان بانتخاب الآخرة من بینهما ولا ینجذب للدنیا فوق الحدّ المطلوب.
انّ استخدام هذا الطریق فی ذاته دلیل على انّ البقاء والخلود ضالّة الإنسان ومراده الفطری، ویرید الله الحكیم ـ وهو رب الإنسان الذی أودع فی ذاته هذا الحبّ ویحیط به علما بنحو كامل ـ بتعریف هذه الضالة والإشارة إلیها توجیهَ هذا الحبّ نحو اتجاهه الفطری الصحیح ویخاطب الإنسان:
یا من تبحث عن ما هو خالد وأكثر دواماً وأبقى، علیك الاهتمام بالآخرة.
لو لم یكن هذا الحبّ موجوداً فی الإنسان وكان غیر مبال بالبقاء والخلود لانعدم جدوى هذا البیان والمقارنة ولم یحرّك احساسه ویلفت نظره. والحاصل أنّ القرآن یقرّ بوجود هذا الحبّ الفطری فی الإنسان، وقد أعدّ هذا الكتاب السماوی ونظم برامجه التربویة على أساس وجود هذا الحبّ والاقرار بهذا الواقع.
ولكی یجذب القرآن الإنسان نحوالله والآخرة یقول فی آیة: إِنَّمَا عِنْدَ اللهِ هُوَ خَیْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِنْدَكُمْ یَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاق3.
فمثل هذا الخطاب ینفع من یحبّ البقاء فطریا فیوجّه حبَّه نحو الآخرة، وبما انّ الإنسان یبحث فطریا عما هو أكثر دواماً وأبقى فإنّ الله یُریه بعبارة (ما عند الله باق) مصداقَ ذلك الشیء لكی یجذب رغبته الباطنیة وحبّه الفطری نحوه.
ونظیر الآیة المذكورة تقول آیة أخرى:
وَمَا عِنْدَ اللهِ خَیْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ4.
انّ الإنسان ـ كما قلنا ـ وإنْ كان یأنس ـ منذ البدایة ـ بالمحسوسات واللذائذ الحسیة الدنیویة والمادیة ویفضّلها الاّ انّ الله سُبحانه بإثارة العقل والفكر الإنسانی یلفت نظره إلى لذائذ أفضل وأكثر دواماً ویقول للناس:
إن جعلتم فطرتكم وعقولكم حاكمة فانّها تأمركم بطلب أمور هی أفضل وأكثر دواماً وتوضح لكم انّ ما عند الله هو الأكثر دواماً.
وهكذا تذكر آیة اُخرى هذا التعبیر بقیود أخرى:
وَمَا عِنْدَ اللهِ خَیْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِینَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ یَتَوَكَّلُونَ)5، وذیل الآیة (لِلَّذِینَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ یَتَوَكَّلُونَ یبیّن شروط تحصیل (ما عند الله) ویرید القول: ما عند الله خیر وأبقى ولكنّ تحصیله مقیّد بشرطین: الایمان أولاً، والعمل الصالح ثانیاً.
الخلاصة انّ الآیات الثلاث ذات مضمون واحد وتحكم بأنّ (ما عند الله) هو الأفضل مع فارق هو انّ الآیة الاُولى بیّنت هذه الحقیقة فقط، والآیة الثانیة ذكرت شرط إدراك هذه الحقیقة إلى جانب ذلك. وبعبارة (افلا تعقلون) ترید القول: وإنْ كان (ما عند الله) أفضل وأكثر دواماً الاّ انّ هذه الحقیقة یمكن تحصیلها بتفعیل العقل والارتقاء من عرصة الاحساس إلى ساحة التعقّل والتفكیر، وذلك لانّ الحس عاجز عن إدراك ذلك، وما دام الإنسان مستغرقاً فی الحس والإدراك الحسی واللذائذ المحسوسة فانّه عاجز عن إدراك حقیقة العبارة المذكورة.
والآیة الثالثة تبیّن شرطی الوصول إلى ما ذُكر، وهما الایمان والعمل الصالح، فإنّ (ما عند الله) وإنْ كان أفضل وأبقى الاّ انّه لیس بوسع أیّ انسان تحصیله حتّى یوفّر شرطیه المذكورَین.
وقد جاء فی آیة أخرى:
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَیَاةَ الدُّنْیَا وَالاْخِرَةُ خَیْرٌ وَأَبْقَى6.
انّ الجنس البشری یفضّل ـ قبل أن تصله تعالیم الانبیاء(علیهم السلام) ـ الحیاة الدنیا، ولا یلتفت أساساً إلى الحیاة الآخرة، وإنْ التفت فإنّ هذا الالتفات لیس بحیث یجذبه ویرغّبه إلیها.
انّ أُنس الإنسان بالحیاة الدنیا من البدایة واللذة الحسیة التی یشعر بها ـ بدون مقدمة ـ من هذه الحیاة یدفعانه لتفضیل وانتخاب الحیاة الدنیا، والله سُبحانه یعلّمه بتعبیرات مشابهة لما جاء فی الآیة المذكورة انّ الحیاة الآخرة هی الأكثر خیراً ودواماً، وذلك لكی یرشده إلى الطریق الصحیح ویوجّه حبّه للبقاء نحو الجهة الصحیحة، وذلك بتقدیم معرفة صحیحة، وقد قلنا انّ لها تأثیراً بالغاً فی توجیه الغرائز كافة ومنها حبّ البقاء.
نركّز هنا على لفظ (أبقى) ولكی یصرف القرآن الناس عن حبّ الدنیا ویجذبهم إلى الآخرة یُفهم الإنسان بهذا اللفظ بأنّ الآخرة أبقى، ونعلم جمیعا انّ هذا التعلیم والإفهام یكون مؤثّرا ویلعب دوره فی هدایة الإنسان حینما یكون الشیء الأبقى والأكثر دواماً ضالّة الإنسان ویكون جذابا لدیه، ویعمل على تحریكه حینما یتوفّر فیه هذا الحبّ بنحو طبیعی والصعود عن عالم الحس نحو عالم العقل والفكر.
یقول فی آیة أخرى:
وَلاَ تَمُدَّنَّ عَیْنَیْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَیَاةِ الدُّنیَا لِنَفْتِنَهُمْ فِیهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَیْرٌ وَأَبْقَى7.
قبل أن یمتلك الإنسان معرفة وافیة عن الذات الإلهیة المقدسة فلا أصالة لحبّه لله، بل یكون له جذور فی حبّ آخر، بمعنى انّه یحبّ الله سُبحانه لأنّه الوسیلة لتأمین متطلَّباته الأخرى.
لو بلغ الإنسان فی معرفته مستوى یرى الله عزّوجلّ مراداً ومحبوباً بالأصالة، فی هذه الحالة یفضّل حبّ الله لدى مقارنته مع سائر الأمور المحبوبة والمرادة لأنّه أكمل وأبقى.
حینما یحبّ الإنسان شیئاً فانّه یودّ بقاء محبوبه لكی یلتذ بنحو أكبر برؤیته والأُنس معه والإرتباط به، ولا یدوم الحبّ لأشیاءَ آنیّة الوجود، والذی یوجد فی زمان و یفنى فی زمان آخر.
انّ حبّ الإنسان ـ لو كان عن وعی وانتباه ـ ینبغی أن یتعلّق بشیء دائم، والقرآن یرید القول بعبارة والله خیر وأبقى: انّ الدائم المطلق هو الله سُبحانه، ولفظ (أبقى) یلفتنا إلى هذه الحقیقة وهی أنّ البقاء مراد فطری للانسان، ویمكن القول: انّ فی احتجاج النبی ابراهیم(علیه السلام) مع عبدة القمر والنجوم والشمس الذی أكّد فیه على قوله لا أحبّ الآفلین8 إشارة إلى هذه الحقیقة.
ومن الشواهد القرآنیة الاُخرى على انّ الإنسان یبحث عن الخلود هو ما عبّر الله عزّوجلّ فی هذا الكتاب السماوی المقدس عن یوم القیامة بـ (یوم الخلود) حیث قال فی موضع:
ادْخُلُوهَا بِسَلاَم ذَلِكَ یَوْمُ الْخُلُودِ9.
هذه التسمیة التی تمّت بهدف إلفات نظر الناس وحبّهم نحو عالم الاخرة شاهد على وجود هذه الغریزة الفطریة فی الإنسان والاقرار الإلهی به فی القرآن.
وفی مواضع اُخرى ولكی یرغّب الناس فی ممارسة الأعمال الصالحة یستفید من هذا الوصف أیضاً ویعبّر عن الأعمال الصالحة والحسنة بـ (الباقیات) كقوله:
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِینَةُ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَالْبَاقِیَاتُ الصَّالِحَاتُ خَیْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَیْرٌ أَمَل10.
هذه التسمیة تنبىء عن انجذاب الإنسان للبقاء والدوام فطریا وإنْ أكد ذلك بعبارة (خیر عند ربك) الحاكیة عن غریزة فطریة أخرى، مما یعنی انّ للبقاء والدوام جاذبیة فی الإنسان، كما انّ كونه مراداً لله جاذبیة اُخرى للانسان، هاتان النزعتان ترغّبان الإنسان وتحرّكانه نحو القیام بالأعمال الصالحة، وقد استُغلّتا فی الآیتین المذكورتین كمیدانین أو كعاملین تربویَّین.
الشاهد القرآنی الآخر على وجود حبّ البقاء واقرار القرآن به هو القصة التی ذكرها الله سُبحانه فی سورة الكهف، وهی قصة الرفیقین اللذین كان أحدهما مؤمنا موحّداً ومعتقداً بالله والآخرة، والآخر مشركا منجذبا للحیاة الدنیا قال تعالى:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مثلاً رَجُلَیْنِ جَعَلْنَا لاَِحَدِهِمَا جَنَّتَیْنِ مِنْ أَعْنَاب وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْل وَجَعَلْنَا بَیْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَیْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَیْئاً وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ یُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِیدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّی لاََجِدَنَّ خَیْراً مِنْهَا مُنقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ یُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِی خَلَقَكَ مِنْ تُرَاب ثُمَّ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا * لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّی وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّی أَحَداً * وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَداً * فَعَسَى رَبِّی أَنْ یُؤْتِیَنِی خَیْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَیُرْسِلَ عَلَیْهَا حُسْبَاناً مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِیداً زَلَقاً * أَوْ یُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِیعَ لَهُ طَلَب11.
ما یلفت الإنسان فی هذه القصة فی نطاق حبّ البقاء والخلود هو انّ كلا الصدّیقین ـ المؤمن والموحّد وهكذا المشرك وغیر المؤمن بالله والقیامة ـ قد استندا إلى البقاء والدوام والخلود، فقد قال صاحب البستان المشرك والمنكر للقیامة: لا اظنّ أن یزول هذا البستان وهذه النِعم أبداً، فأرشده رفیقه المؤمن بأنّ هذه لیست أهلاً للبقاء وهی عرضة لمئات الأخطار والآفات والفناء والعدم، فمن الممكن أن تجفّ الأشجار وینضب ماء البستان وتصاب الثمار بالآفات و... وعلى هذا فإنّ الآیة الكریمة تلوّح بأنّ الشخصین یحبّان البقاء فطریاً، ویطلبان شیئاً باقیا ودائما ویبحثان عن الخلود ولا یرغبان فی ما هو غیر دائم وغیر باق .
انّ الفارق الوحید بین الرفیقین فی هذه القصة هو تعیین الشیء الباقی والدائم وتمییزه عن الشیء الفانی وغیر الدائم. لقد دار الحوار والنقاش بینهما حول تحدید المصداق، فقد ظنّ أحدهما انّ هذا البستان الموجود فی الدنیا سوف یبقى ولن یزول، واعتقد الآخر انّه غیر باق ویجب البحث عن النعمة الباقیة فی محلّ آخر.
وأخیراً فإنّ الآیات المتعلّقة بهذه القصة القرآنیة فی سورة الكهف تنتهی بهذه الآیة:
هُنَالِكَ الْوَلاَیَةُ للهِِ الْحَقِّ هُوَ خَیْرٌ ثَوَاباً وَخَیْرٌ عُقْب12.
خلاصة ما ذكرنا هی انّ الإنسان یحبّ الخلود، وقد أُودع ذلك فی الذات الإنسانیة على أساس حكمة الخلق الإلهیة. والقرآن یقرّر ذلك، ولا یقتصر الأمر على انّه لیست له نظرة سلبیّة فحسبُ، بل سنّ الكثیر من تعالیمه على أساس هذا الحبّ بأنّ علیكم ـ نظراً لوجود حبّ الخلود فیكم ـ الاهتمام بالآخرة وبالله عزّوجلّ وبما عند الله.
وفی مقابل ما استفدناه إلى هنا من الآیات توجد آیات اُخرى قد یبدو انّها تُعارض ما ذكرنا، وخلافا للآیات السابقة وتعتبر هذا الحبّ أمراً غیر قابل للتحقّق والإشباع.
قال تعالى فی إحدى الآیات القرآنیة:
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَر مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِیْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ13.
كُلُّ نَفْس ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَیْرِ فِتْنَةً وَإِلَیْنَا تُرْجَعُونَ14.
انّ ظاهر هاتین الآیتین هو أن الإنسان لا یمكن أن یكون خالداً وأنّ الجمیع یموتون إِنَّكَ مَیِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَیِّتُونَ15.
وعلیه فإنّ خلود الإنسان أمر غیر ممكن فلا ینبغی أن یبحث ـ دون جدوى ـ عن أمر ممتنع، وإنْ كان الإنسان یتمنّاه!
وفی الردّ على التعارض المتراءى بین هذه الآیة والآیات السابقة نقول: انّ هذه الآیة لا تنفی خلود الإنسان بنحو عامّ ومطلق، بل تعتبر حیاته المادیة والدنیویة فانیة وغیر باقیة. وسیاق الآیة بذاته یدل على هذا المعنى، ولاسیّما الآیة الثانیة حیث إنّها بعد الحكم بالموت وعدم الخلود على الجمیع تنبىء بانّكم سوف ترجعون إلینا بعد الموت، مما یدل على وجود الإنسان وحیاته بعد الموت ورجوعه إلى الله تعالى.
إضافةً إلى ذلك العدد الكبیر من الآیات التی تتحدّث عن خلود الإنسان فی الجنة أو النار بعبارة (خالدین فیها أبداً)، بل فی إطلاق (یوم الخلود) على یوم القیامة فی القرآن ككفایة للردّ على مثل هذا الوهم.
توجیه حبّ البقاء
انّ حبّ البقاء كالغرائز الفطریة الاُخرى فی الإنسان لیس له فی أصل الخلقة شكل محدّد وغیر قابل للتغییر، ولا یشیر إلى مصداق خاصّ. بل انّه نظیر الرغبات والغرائز الأصیلة فی الإنسان بمثابة المادة الخام التی یمكن صبّها فی قوالب مختلفة واستخدامها فی مختلف أبعاد الحیاة. ولذا قد یكون نافعا فی حیاة الإنسان وقد یكون ضاراً، وذلك حسب تشكّله والجهة التی ینساق إلیها.
انّ حبّ البقاء لابدّ أن تتمّ هدایته نحو الجهة الصحیحة لكی یكون له الأثر المطلوب فی حیاة الإنسان، ویقوم بدوره النافع فی بناء الحیاة الإنسانیة الخالدة قبل أن یكون ضاراً ومثیراً للمشكلات.
یودّ الإنسان أن یبقى، لكنّ السؤال هو: هل یتعلّق هذا البقاء المنشود بهذه الحیاة الدنیویة، أم للانسان حیاة اُخرى یكون البقاء وصفاً لها؟ لیس من السهل تقدیم الإجابة الصحیحة على مثل هذا السؤال، حیث انّه لا یرتبط بمجال محسوس ومادی محض، بل لابدّ من الإستعانة بالعقل ومصادرالمعرفة باللامحسوسات.
فالذین یستخدمون عقولهم بدقة ویحصلون على معرفة صحیحة عن النفس الإنسانیة ویتوصلون بصورة مستقلة أو مستعینین بالروایات والآیات إلى انّ حقیقة الإنسان لا تنعدم وستعود یوماً ما وستكون لها حیاة أبدیة، بإمكانهم استثمار هذه الغریزة جیّداً فی طریق تكاملهم، ویجدون دافعاً قویاً لممارسة الأفعال الإیجابیة والبنّاءة والمحبّذة خُلقیّاً فی نطاق الرؤیة الإسلامیة.
ولكنْ إذا أهمل الإنسان استخدام عقله ومعرفة حقیقته ولم یشرق قلبه بنور المعرفة ولم یؤمن بالآخرة فمن الطبیعی أن ینحصر ما یعرفه باسم الحیاة فی هذه الحیاة الدنیویة وبالتالی یتمنّى بقاء هذه الحیاة ودوامها.
انّ رؤیة الإنسان إذا تحدّدت هكذا فإنّ حبّ البقاء والخلود فی ضوئها سوف یتجلّى فی حبّ الدنیا بصورته الخاصّة، ثمّ طلب الدنیا، وبالتالی عبادة الدنیا، سواء أكان منكرا للقیامة وجاحداً للآخرة وكان من المنكرین كما هو التعبیر القرآنی:
وَقَالُوا مَا هِیَ إِلاَّ حَیَاتُنَا الدُّنْیَا نَمُوتُ وَنَحْیَا وَمَا یُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إِنْ هُمْ إِلاَّ یَظُنُّونَ16.
أم كان فی شك وتردّد فیها كما قال تعالى فی آیات أخرى:
بَلْ هُمْ فِی شَكّ یَلْعَبُونَ17.
أو: بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِی الاْخِرَةِ بَلْ هُمْ فِی شَكّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ18.
أو ینقل عن بعض آخر قولهم:
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً19.
على أىّ حال، فإنّ الذین لا یؤمنون بالآخرة سواء اعتقدوا بعدمها وانكروا وجودها أم لم یكن لهم اعتقاد وكانوا على شك وتردّد بشأنها فإنّ من الطبیعی أن یكون اهتمام أمثال هؤلاء مركّزا على الحیاة الدنیا وحدها. وسیتجلّى حبّهم الفطری للبقاء ویجد مصداقه فی بقاء الحیاة المادیة. وبما انّ نطاق الحیاة المادیة الزائلة لا یمكن أن یتّسع لتلبیة وإشباع حبّ الخلود فانّه یسبّب وقوع الفساد والكوارث أحیاناً حیث یمكن تفسیر الكثیر من الحوادث التأریخیة المرّة والجرائم الاجتماعیة الفظیعة على هذا الأساس.
یحكی القرآن الكریم عن أهل الكتاب قولهم بانّهم یودّون لو یعیشون ألف عام حیث یقول :
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ على حَیَاة وَمِنْ الَّذِینَ أَشْرَكُوا یَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ یُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة20.
لقد كانوا یودّون لو یعیشون ألف عام فی الدنیا. انّ هذا الحبّ لاستمرار الحیاة فی الدنیا ینشأ من حبّ الإنسان الفطری للبقاء والخلود ولیس ذلك أمراً سیئاً فی حدّ ذاته، بل انّه حبّ فطری قد أودعته ید الخلق فی ذات الإنسان ـ شاء أم أبى ـ وسیكون خارجا عن نطاق إرادته وعن موطن القیم الأخلاقیة.
ولكنْ نظراً إلى اقتران هذا الحبّ الفطری برؤیة خاطئة ـ كما عند المشركین وطائفة من بنی اسرائیل ـ وهی ظنّهم انّ الحیاة الإنسانیة تنحصر فی هذه الحیاة الدنیویة، وفی مثل هذا الجوّ الفكری والمعرفی یتجلّى ذلك الحبّ الفطری بهذا الشكل المنحرف وتكون له قیمة سلبیّة. فهذا الانحراف وهو الانجذاب الشدید للدنیا والحرص على الحیاة المادیة والخوف والوحشة من الموت یكون ولیداً لحبّ البقاء الذی اتخذ صورة خاصّةً فی ظلّ هذه الرؤیة الضیقة والإنكار لعالم الآخرة، فأوجد فی الإنسان مثل هذه المؤشرات والآثار الظاهریة والأعراض النفسیة.
الخوف من الموت ومكافحته
من القضایا المطروحة فی كلّ بقعة من عالم الیوم وتهتم بها الفلسفات والمذاهب والعقائد والمدارس الفكریة والاجتماعیة المختلفة هی قضیة الخوف من الموت.
انّ الخوف من الموت ظاهرة نفسیة رهیبة وتوجب القلق والاضطراب والألم فی بنی الإنسان، ولو رام الإنسان المعیشة المریحة والمطمئنة والسارّة فعلیه أن یطرد الخوف والقلق من الموت عن روحه ونفسه لكی یتحرر من هذا الاضطراب الذی یعكّر علیه صفو الحیاة.
لو كان بالإمكان أن نمحو الموت من قاموس الحیاة الإنسانیة فسوف لا یبقى مجال للخوف من الموت تلقائیا، ولكنْ بما انّ الموت یُقبل على الإنسان یقینا وحتما ـ شاء أم أبى ـ وقد خط المصیر المحتوم للانسان فی قانون كلّ نفس ذائقة الموت فإنّ الخوف والقلق منه یوجد فی روح الإنسان، وتبدو آثاره وأعراضه حتّى أنّه یمكن القول انّ منشأ الامراض النفسیة لدى الكثیرین هو هذه الحالة والظاهرة النفسانیة، وهی السبب فی سوق الكثیرین نحو البطالة فی الحیاة أو الانتحار أو تعاطی المخدّرات و المُسكرات.
وقد حظیت هذه الظاهرة النفسیة بدرجة كبیرة من الأهمیة حیث أشغلت بال الكثیر من علماء النفس، وبات هذا التساؤل یطرح نفسه أمامهم بنحو جدّی: كیف یمكن طرد الخوف من الموت فی روح الإنسان فیعیش براحة ورغد؟ انّهم لم یتوصّلوا إلى أیّة نتیجة وعجزوا عن إعداد طریقة للحل سوى أن یقنعوا الإنسان بالتسلیم للموت كأمر واقعی حتمی لا یُنكر، لقد توصّلوا بمنتهى العجز إلى ضرورة إعداد الناس تدریجیّاً للاذعان للموت كأىّ أمر واقعی فی الحیاة، وتلقّیه بلا وجل لانّه یطال كلّ انسان شاء أم أبى.
وقد أكد علماء النفس على هذا المبدأ التربوی وهو ضرورة تربیة الطفل من البدایة على أساس إدراك الأمور الواقعیة والتسلیم لها كما هی علیه، وهی أمور لا یمكن تحویرها و تغییرها. ولبعض المربین وعلماء النفس عبارة شهیرة وهی:
(إقبلْ نفسك كما أنت علیه، واقبلْ الأمور الواقعیة كما هی علیه)
وفی كلّ الاحوال على الإنسان أن یطرد المُحالات من مخیلته وذهنه ومنها الخلود وعدم الموت.
ومن الضروری الالتفات إلى هذه الحقیقة وهی أنّ الله سُبحانه قد أودع هذه الحالة النفسیة (وهی الخوف من الموت) فی ذات الإنسان على أساس من حكمته وتدبیره الحكیم، وهذه الحالة بدورها یمكن أن تنقذ حیاة الإنسان من أخطار ومهالك كثیرة ومن حالات الموت القابلة للوقایة وتدفعه لمكافحة الكثیر من الأمراض والابتعاد عن الأخطار.
كما انّ أساس الحیاة الاجتماعیة والنظام والقانون قائم علیها، ومع وجود الأحكام والقوانین الجنائیة فإنّ الخوف من الموت أو القیود والآلام هی التی تدفع الناس لتنسیق سلوكهم وعلاقاتهم مع القانون وتحاشی الخطأ ووقایة أنفسهم حیثما كانوا من الأخطار والمهالك بسیرتهم العقلائیة.
ولا شك انّ الخوف من الموت وحبّ البقاء فی هذا المستوى نافعان للانسان نفسه وللآخرین والمجتمع حتّى بالنسبة للحیاة المادیة، وأمّا لو تعدّى هذا المستوى فسیكون منشأ للاضطراب والقلق أو یسبّب أمراضا نفسیة مختلفة أخرى، أو یسوق الإنسان نحو العدمیّة والانتحار وتعاطی المخدّرات والمُسكرات، ویكون فی هذه الحالة ضاراً یقینا لابدّ من مكافحته.
الاّ انّ طریق مكافحته لیس كما نقلنا آنفا عن بعض علماء النفس وهو الاقرار بالأمور الواقعیة لانّ بعضها مخیف والتسلیم بها لا یسكن الآلام، بل سیكون بذاته منشأ لخوف الإنسان ووحشته.
وعلیه فإنّ السؤال هو: كیف یجب مكافحة هذه الحالة؟
لكی نقدّم إجابة صحیحة عن هذا السؤال لابدّ أن نتعرّف على المنشأ الأساسی للخوف من الموت ونباشر معالجته من تلك النقطة.
یمكن القول انّ المنشأ الأساسی لذلك هو الجهل بحقیقة الموت والتفسیر والتحلیل الخاطىء لها.
لو كان الموت یعنی الفناء والإنعدام المحتوم للانسان بحیث لا یبقى له أیّ أثر من وجوده وحیاته فمن الطبیعی أن یستولی علیه الرعب، ویستوحش دوماً من هذه الأحوال فی المستقبل ومصیره المحتوم الذی رسمته ید القضاء، ولا مفرّ له من ذلك.
ولكنْ لو التفت إلى أن حقیقة الموت لیست العدم والزوال والفناء، بل سوف یعود بعد الموت ولا تستمر حیاته فحسبُ بل إن آثار حیاته ومعالمها ستكون أقوى وأجلى، وستكون لذّاته وآلامه وإدراكه أشدَّ كما انّ الحیاة الدنیا سیبهت لونها بالقیاس إلى تلك الحیاة بآثارها ومعالمها، ففی هذه الحالة سیختلف الأمر قطعاً، فإنّ الإنسان بهذه الرؤیة وبهذا التفسیر للموت سوف لا یهابه، بل بهذه الرؤیة المستشفة من «الناس نیام فإذا ماتوا انتبهوا»21. سینظر إلى الحیاة الحسیة والمادیة التی نسمیها حیاة كأنّها نوم، وموت الجسم یقظة من هذا النوم، وفی هذه الحالة لا یبقى مجال للخوف من الموت.
والآن لو أردنا التعرّف على حقیقة الموت وتعریفها للآخرین، فنظراً لكون الموت من أحوال الإنسان وأعراضه والحیاة الإنسانیة فلابدّ من جعل معرفتنا بالإنسان وحیاته كاملة ودقیقة.
لو عرفنا حقیقة الإنسان معرفة صحیحة وأدركنا عدم إنحصار الحیاة الإنسانیة فی هذه الحیاة الدنیا، لیس هذا فحسبُ بل انّ حیاته الأساسیة والواقعیة تكون بنحو لا یمكن اعتبار هذه الحیاة حیاة بالقیاس إلیها، وسوف تتغیّر رؤیتنا عن الموت ویزول الاضطراب والقلق منا.
فی القرآن الكریم تعبیر جمیل عن الحیاة الآخرة حیث یحكی عن الذی لم یعمل فی الدنیا أعمالاً تنفعه هناك انّه:
یَقُولُ یَا لَیْتَنِی قَدَّمْتُ لِحَیَاتِی22.
ظاهر الآیة هو أنّ الإنسان یرى الحیاة فی الآخرة واسعة وعمیقة فیدرك حینها معنى الحیاة، إذا كانت الحیاة كما هی علیه فی الآخرة فإنّ ما یطلق علیه (الحیاة) فی الدنیا لیست حیاة أساساً ولا یصحّ إطلاق اسم الحیاة علیها.
وفی آیة اُخرى یؤیّد القرآن استنتاجنا هذا من الآیة المذكورة حیث یقول:
وَمَا هَذِهِ الْحَیَاةُ الدُّنْیَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الاْخِرَةَ لَهِىَ الْحَیَوَانُ لَوْ كَانُوا یَعْلَمُونَ23.
فی هذه الآیة یدل لام التأكید وضمیر الفصل (هی) والألف واللام فی (الحیوان) على الحصر ویؤكد إنحصار الحیاة على ما هو كائن فی الآخرة.
أجل، انّ الحیاة الواقعیة والأصیلة للانسان تكون فی الآخرة، فلو اكتسب الإنسان مثل هذه الرؤیة لاتّخذ حبّه للخلود والأبدیة ورغبته فی البقاء والخلود جهتهما الصحیحة ووجدا موقعهما الواقعی، وفی هذه الحالة یدرك انّ التعلّق بالأبدیة والحبّ للخلود لیسا جزافاً ولا أمراً محالاً، بل لهما واقعیة ویجب البحث عنهما والعثور علیهما.
وكما قلنا سابقاًنؤكد مرة اُخرى انّه یجب البحث عن العلة الأساسیة للانحراف عن حبّ الخلود والأبدیة فی عدم تكامل المعرفة والنقص فیها. أی حینما لا یدرك الإنسان حقیقة الحیاة والحیاة الحقیقیة ویلخّص الحیاة فی الحیاة الدنیا فإنّ هذا الحبّ یضلّه وتصبح قیمته سلبیّة، ولكنْ إذا كانت لدیه معرفه صحیحة كان لحبّ الخلود تأثیره وقیمته الإیجابیة أیضاً.
قیمة الحیاة الدنیا
بعد العلم بأنّ الحیاة الحقیقیة والأبدیة للانسان والخلود والدوام والبقاء تتیسّر فی عالم الآخرة وانّ الحیاة الدنیا فانیة وزائلة یطرح هذا السؤال: ما هی إذنْ قیمة الحیاة الدنیا؟ هل لها قیمة سلبیّة أم إیجابیّة؟ وإذا كانت إیجابیّة فما هی كیفیة القیمة الإیجابیة؟ وبعبارة بسیطة: هل لابدّ أن نطلب الموت أم الحیاة؟ وإلى أىّ مستوى وبأیّة كیفیة؟
للإجابة عن السؤال المذكور ننقل بعض الآیات القرآنیة:
فی موضع خاطب الله سُبحانه بعض الیهود بقوله:
قُلْ یَا أَیُّهَا الَّذِینَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِیَاءُ للهِِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِینَ * وَلاَ یَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَیْدِیهِمْ وَاللهُ عَلِیمٌ بِالظَّالِمِینَ24.
الظاهر أنّ مراد الآیة هو انّ عالم الآخرة هو عالم اللقاء مع الله عزّوجلّ وبما انّ المحبّ یودّ رؤیة محبوبه، فإذا كنتم صادقین فی ادعائكم حبّ الله وولایته فتمنّوا الموت كی تسرعوا إلى لقاء الله تعالى.
ونظیر هذه الآیة جاء فی موضع آخر من القرآن:
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الاْخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِینَ * وَلَنْ یَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَیْدِیهِمْ وَاللهُ عَلِیمٌ بِالظَّالِمِینَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ على حَیَاة وَمِنْ الَّذِینَ أَشْرَكُوا یَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ یُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ یُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِیرٌ بِمَا یَعْمَلُونَ25.
ربّما یستنتج من الآیتین المذكورتین ونظائرهما انّ البقاء والحیاة فی الدنیا أمر سلبی والموت أو الرحیل من هذا العالم ذو قیمة إیجابیّة، وبالتالی یجب على أصحاب الرؤیة الصحیحة والذین یحبّون الله والآخرة أن یحبّوا الموت، وأن یجتنبوا معالجة أنفسهم إذا مرضوا، ویتركوا الوقایة من الموت عند الحوادث حتّى إذا كان ذلك ممكنا لكی یموتوا بسرعة ویرتحلوا إلى عالم الآخرة واللقاء بمحبوبهم!
من البدیهی أنّه لا یمكن أن یكون مثل هذا الإستنتاج من الآیتین المذكورتین وأىّ آیة اُخرى صحیحا وذا حقیقة. أجل، من الصحیح أن یكون الإنسان طالبا للآخرة ولكنْ لا یمكن إنكار هذه الحقیقة وهی أنّ الله عزّوجلّ خلق الإنسان فی هذا العالم على أساس حكمة خاصّة ولهدف خاصّ. وعلیه فإنّ الوجود فی هذا العالم والحیاة فیه لیس عبثاً ولا جزافاً دون معنى، بل له حكمة وحقیقة ولا یمكن انكار ذلك تماماً.
ولكنّ بما انّ الحیاة فی عالم الدنیا والحیاة فی عالم الآخرة لا یمكن أن تكونا فی عرض واحد، لذا یمكننا أن نستنتج أنّ الرغبة فی هذین اللونین من حیاة الإنسان لا یمكن أن تكون متساویة وفی عرض واحد، وبما انّهما یتعلّقان بشخص واحد فإنّ هناك نوعاً من الترتّب والعلاقة الخاصّة الحاكمة علیهما، فإذا أردنا تقدیم إجابة صحیحة عن السؤال المذكور لزمنا سلفاً الكشف عن هذه العلاقة بصورة دقیقة.
علاقة الحیاة الدنیا بالحیاة الآخرة
إذا عرف الإنسان هذه الحقیقة وهی انّ الحیاة فی الدنیا مقدمة للحیاة فی الآخرة ویمكن نیل السعادة فی الآخرة بالعمل والسعی فی الدنیا، والتفت إلى انّ اللحظات القصیرة التی جعلها الله تعالى فی خدمته ستكون مفتاحاً لكنوزه الاُخرویة الأبدیة فانّه سیعرف الحیاة الدنیا كما هی علیه، ویدرك انّ الحیاة فی هذا العالم لیست غیر ذات قیمة سلبیّة فحسبُ، بل هی ذات قیمة إیجابیّة أیضاً كالحیاة الاُخرویة مع فارق انّ قیمتها لا تكون ذاتیة وأصیلة، بل مقدمّیة ومرادة بالغیر.
انّ الإنسان الذی یتمتّع بهذه المعرفة لیس لا یعادی الحیاة الدنیا فحسبُ ولا یطردها تماماً، بل سیحبّها لأنّه بعد معرفة موقعها ودورها بالقیاس إلى الحیاة الآخرة سیدرك هذه الحقیقة وهی انّه كلّما استمر وجوده فی الدنیا أكثر كان قادراً على تحصیل تكامل أكبر وإنجاز المزید من الأعمال الصالحة وبالتالی بلوغ مقامات أخرویة أسمى.
انّ الروایات أو الادعیة المرویة عن الائمة المعصومین(علیهم السلام) والتی تتحدّث عن طلبهم طول العمر من الله العظیم قائمة على هذه الرؤیة والإستنتاج المذكور، لقد كانوا على علم ویعلّمون الآخرین بأنّ الحیاة الدنیا یمكن أن تكون وسیلة لنیل السعادة الاُخرویة. والتعابیر الواردة فی الروایات نظیر «الدنیا مزرعة الآخرة»26 تشیر إلى هذه الحقیقة وهی انّ على الإنسان أن یعمل فی الدنیا لكی ینال السعادة الدائمة فی الآخرة.
أجل انّ هذه الحیاة طریق لابدّ أن نجتازه ووسیلة ینبغی أن نستخدمها فی مجالها وبصورة صحیحة، وأداة یجب العمل بها بدقة كی ننال سعادتنا والحیاة اللائقة فی العالم الخالد. إذ بغیر هذا النهج، أی لو لم نستفد من الحیاة الدنیا بنحو صحیح وفقدنا الدقة والمراقبة التامة، فقد یكون ذلك الخلود مقرونا بالعذاب، ومن الواضح انّ ذلك أمرُّ وآلم من الفناء والعدم.
یحكی القرآن الكریم فی إحدى آیاته عن لسان المشركین وأصحاب النار:
وَنَادَوْا یَا مَالِكُ لِیَقْضِ عَلَیْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ27.
ولشدة الألم والعذاب فی الحیاة الاُخرویة الخالدة یدعو المجرمون الله سُبحانه أن یمیتهم ویعدمهم ویفضّلون الهلاك والفناء على الحیاة القرینة مع الآلام والعذاب، فیجیبهم تعالى: انكم باقون هناك دائما.
فنحن الذین نتمتع بنعمة الحیاة فی الدنیا ینبغی أن ندرك الغایة من هذه النعم ودورها فی مجمل حیاتنا. لو أدركنا انّ هناك حیاة فی الآخرة إلى جانب الحیاة الدنیا، وفهمنا ماهیة العلاقة بین الدنیا والآخرة وتأثیر حیاتنا الدنیویة على حیاتنا الاُخرویة الخالدة وعرفنا انّه لابدّ من الزراعة هنا حتّى یتمّ الحصاد هناك، وانّ اُولی النعمة هناك هم الذین انجزوا أعمالاً هنا وسعوا وجدّوا من أجل تلك الحیاة وتحصیل السعادة فیها، ففی هذه الحالة یرغب الإنسان أن تطول فترة حیاته الدنیویة كی یُوفّق للمزید من العمل وتحصیل نتائج أكبر من عمره.
إشكال و جواب
یطرح هنا هذا السؤال: إذا كان البقاء فی الدنیا نافعاً إلى حدّ الدعاء لاستمرار هذه الحیاة وبقائها فلماذا تشیر الآیات المذكورة إلى أن على أولیاء الله تمنی الموت؟ انّ استنتاجنا هذا لا ینسجم مع ظاهر تلك الآیات، أو لماذا یقول أمیر المؤمنین(علیه السلام):
«والله لابن أبی طالب آنس بالموت من الطفل بثدی أمه»28.
أجل، لماذا كان أولیاء الله یودّون الرحیل من الدنیا؟ ولماذا یحلو الموت لدى أولیاء الله الطیبین إلى هذا المستوى؟
للإجابة عن السؤال المذكور ینبغی ملاحظة الاختلاف فی الحیثیات والجهات.
انّ تمنی الموت من قِبل أولیاء الله هو من أجل لقاء محبوبهم بعد الموت حیث فصلتهم الحیاة المادیة عن محبوبهم، وبالموت یرتفع هذا المانع وینالون لقاء محبوبهم، ولا یتنافى ذلك مع طلبهم البقاء والدوام فی هذا العالم من جهة أخرى، انّهم یطلبون بقاءهم لكی یستعدوا بنحو أفضل للّقاء، ولكی یجعلوا حیاتهم فی عالم الآخرة أطیب وأكثر ثماراً وذلك بسعیهم الحثیث.
فإنّ المقصود الأصیل للانسان هو النِعم الاُخرویة والكرامات الإلهیة ورضا الله ولقاؤه. ولذا یتمنّى الموت لتحصیلها ویقول: لیتنی أرحل سریعاً فأصِل إلى هناك، ولكنّه حینما یلتفت إلى انّ الله تعالى وهو محبوبه یرید لقاءه فی الآخرة وقد تزوّد من قبلُ بأعمال كثیرة واستعد فی الدنیا بنحو أكبر للتنعّم بكراماته ونعمه یكون البقاء فی هذا العالم مراداً وقیّما أیضاً.
وعلیه فإنّ المؤمن الذی یعلم انّ الحیاة الدائمة الأبدیة والكرامات الإلهیة تكون هناك فانّه یرید تلك الحیاة بالاصالة، ولذا یكون الموت وهو الواسطة للانتقال إلى ذلك العالم طیبا. انّه لا یحبّ هذا العالم بالذات لانّ نعمه عابرة وفانیة ولكنْ بتدبره فی انّه كلّما دام بقاؤه فی هذا العالم وازداد استعداداً سینال نعما أكبر فی ذلك العالم ومرتبة أعلى من رضا مولاه ومحبوبه كان بقاؤه محبوبا ومراداً بالعَرض.
من هنا نقرأ فی الروایات وسیرة الإمام السجاد(علیه السلام) انّه كان یتضرع إلى الله ویدعو:
«فإذا كان عمری مرتعا للشیطان فاقبضنی الیك»29.
رؤیة الإمام(علیه السلام) هی انّ هذه الحیاة مرادة مادامت تساهم فی تحقیق سعادة الإنسان ورفاهه فی حیاته الاُخرویة الأبدیة. أمّا إذا كانت كیفیة حیاته فی هذا العالم سبباً لمضاعفة اثقاله وآلامه وعذابه وشقائه فی عالم الآخرة أو حرمانه من بعض الكرامات فانّها لا تكون مرادة، إذ كلّما طال بقاؤه ساءت حیاته الأبدیة. وعلیه من الأفضل أن یُعجَّل فی رحیله من هذا العالم إلى عالم الآخرة. بملاحظة ما ذُكر یمكن القول: یصحّ تمنّی الموت فی بعض الفروض الاُخرى أیضاً، وبعبارة اُخرى انّ تمنی الموت یشیر إلى حقیقتین وعلتین أو توجیهین صحیحین:
فی بعض الموارد قد یكون تمنی الموت معبّرا عن نفاد صبر الإنسان من البعد عن محبوبه، فی هذه الحالة یحتمل صحّة حبّ الإنسان للموت والحیاة لحیثیتین ولحاظین مختلفین: یتمنى الموت لانّ فؤاده توّاق لوصال محبوبه، ویرید البقاء فی الدنیا لأنّه ببقائه فیها یزداد استعداداً للقاء محبوبه فی عالم الآخرة.
وفی بعض الموارد یكون معنى حبّ الإنسان للموت هو ان حیاته حینما تصبح مرتعا للشیطان فإنّ بقاءه فی الدنیا كلّما استمر ازداد بعداً من الله عزّوجلّ. وعلیه فإنّ بقاءه فی الدنیا ذو قیمة سلبیّة ومرفوض لدیه.
بملاحظة ما ذكرنا اتّضح صحّة تمنی الموت من قبل أولیاء الله تعالى لأنّه الواسطة للقاء محبوبهم، ولكنّ بقاءهم فی هذه الحیاة مراد أیضاً لكی ینالوا المزید من الكرامات عند اللقاء.
نعم، المحبّون یریدون ما یرید محبوبهم. ولقد خلقهم الله فی هذا العالم وقضت إرادته التكوینیة استمرار حیاتهم فیها حتّى بلوغ أجلهم المحتوم، ولذا یحبّ أولیاء الله سُبحانه الحیاة هنا لأنّه سُبحانه یرید لهم بقاء أطول هنا ویمارسون أعمالاً صالحة لینالوا كمالات أكبر، أو یوصلوا الآخرین إلى الكمال.
خلاصة القول
حصیلة البحث هی أن حبّ الخلود حبّ فطری غیر مذموم ولا ممدوح أخلاقیا، وإذا كان حبّ الحیاة الدنیا بلحاظ كونها مرادة بالذات فإنّ ذلك ناشىء من رؤیة خاطئة ومن عدم الایمان بالآخرة، ویختص بالذین لم یعرفوا أنفسهم وحیاتهم الحقیقیة فیریدون الحیاة الدنیا، وحتّى لو كانوا مؤمنین ومعتقدین بالآخرة فإنّ إیمانهم لیس قویاً لیؤثّر على أعمالهم وسلوكهم بنحو كامل، كحال الكثیر من المؤمنین الذین یؤمنون بالآخرة وهم یصلّون ولكنّهم یحبّون الدنیا أیضاً، وینشأ الكثیر من أعمالهم من حبّهم وانجذابهم المفرط للحیاة الدنیا. انّ الحبّ الناشىء من ضعف الایمان ناشىء بدوره من ضآلة المعرفة.
انّ التعلّق الشدید بالحیاة الدنیا غیر صحیح للمؤمن والكافر على السواء مع فارق هو انّه یدمّر الكیان المعنوی للكافر تدمیراً كاملا ویسلبه سعادته الدائمة لافتقاده الایمان من الأساس، بینما المؤمن لاتصافه بالایمان لا یتسافل تماماً وإنْ لم یكن إیمانه كاملا وقویاً، بل انّ ضعف إیمانه یحطّ من مرتبته ودرجات كماله بمعنى انّه كلّما ازداد حبّاً للدنیا تنزّلت مراتبه الاُخرویة.
الاّ انّ ما ذُكر لایعنی نكران حبّ الدنیا تماماً. فالحیاة الدنیا بوصفها وسیلة لنیل السعادة الدائمة ـ شئنا أم ابینا ـ قد تكون نافعة ومرادة بالعَرض.
من خلال ما ذكرنا تتضح نكتة الجمع بین الآیات والروایات المتعارضة فی الظاهر حیث انّها تذمّ حبّ الدنیا تارةً، وتطلب طول العمر فی الوقت ذاته تارةً أخرى. أی یجب القول: انّها غیر متعارضة واقعا لانّ المذموم هو حبّ الإنسان الذاتی والأصیل للدنیا ولا یتنافى ذلك مع كونها مرادة بالعَرض ولأجل كونها وسیلة لنیل السعادة فی الآخرة.
لا قیمة ذاتیة للدنیا لدى أولیاء الله عزّوجلّ الذین لا یریدون غیر ما یریده محبوبهم، ورغم ذلك یكون البقاء فی الدنیا مراداً لهم لانّ مولاهم شاء ذلك. كما إذا أراد محبوبٌ من محبّه القیام بعمل فی مكان بعید عنه، فإنّ هذا العمل فی ذاته غیر مراد للمحبّ، ولكنْ بملاحظة طلب المحبوب لیس أنّه یكون قابلا للتحمّل فحسبُ بل یكون طیبا ویقوم به بشوق، یقول الإمام علی(علیه السلام) بهذا الشأن:
«ولولا الأجل الذی كتب الله علیهم لم تستقر أرواحهم فی أجسادهم طرفة عین»30.
أمّا المؤمنون الذین لا یرتقون إلى مستوى الأولیاء فی المعرفة والحبّ الإلهی یكون حبّ الدنیا مراداً لدیهم من أجل القیام بالمزید من الأعمال الصالحة كی یتمتعوا بنِعم أخرویة أكبر.
ولذا لا یریدون الحیاة الدنیا ما لم تقدم تلك النتیجة المتوخاة. وإنْ أصبح عمرهم مرتعا للشیطان فانّهم لا یریدونها بل یسألون الله إنهاء حیاتهم.
من هنا یتّضح السبب فی تحذیر الإنسان فی الروایات من طول الأمل ووصفه كأعظم خطر یهدّد سعادة الإنسان.
روی عن النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) وأمیر المؤمنین(علیه السلام):
«انّ أخوف ما أخاف علیكم اثنان: اتّباع الهوى وطول الأمل»31.
فطول الأمل دلیل الحبّ المفرط لهذه الحیاة وغفلة الإنسان ونسیانه للحیاة الدائمة والسعادة الخالدة والغایة النهائیة، ویجر الإنسان لارتكاب مختلف الأعمال القبیحة، ویصدّه عن الأعمال الممهّدة للسعادة الدائمة.
1 طه 120.
2 الأعراف 20.
3 النحل 95 و 96.
4 القصص 60.
5 الشورى 36.
6 الأعلى 16 و 17.
7 طه 131.
8 الأنعام 76.
9 ق 34.
10 الكهف 46 ومریم 76 بفارق ورود (مردّاً) بدلاً عن (أملاً).
11 الكهف 32 ـ 41.
12 الكهف 44.
13 الانبیاء 34.
14 الانبیاء 35.
15 الزمر 30.
16 الجاثیة 24.
17 الدخان 9.
18 النمل 66.
19 الكهف 36.
20 البقرة 96.
21 بحار الانوار 50/134 الروایة 15.
22 الفجر 24.
23 العنكبوت 64.
24 الجمعة 6 و 7.
25 البقرة 94 ـ 96.
26 بحار الانوار 70/225.
27 الزخرف 77.
28 نهج البلاغة ـ شرح ابن ابی الحدید1/213.
29 بحار الانوار 73/62 فی شرح الروایة 30.
30 نهج البلاغة ـ الخطبة 193.
31 المصدر السابق ـ الخطبة 28.