العاطفة والأحاسیس
مفهوم العاطفة
قلنا ان أحد أبعاد وجود الإنسان هو بُعد اللذة والسعادة، فالإنسان یحبّ اللذة فطریا ویسعى لها بمختلف القنوات، وكانت الغرائز إحدى قنوات اللذة التی تمّ بحثها.
والعاطفة هی النوع الثانی من قنوات اللذة الإنسانیة. وما نقصده من العاطفة قد لا یتطابق مع اصطلاحها فی علم النفس تطابقاً كاملاً. العاطفة ـ كما نرى ـ هی الانجذاب النفسی الذی یشعر به الإنسان تجاه انسان آخر، ویمكن تشبیهه بالعلاقة بین المغناطیس والحدید. فالإنسان فی هذه الحالة یشعر بانجذابه نحو انسان آخر یتعاطف معه.
انّ مفردة (العطف) التی هی الجذر لمفردة (العاطفة) فی قاموس اللغة العربیة تستعمل فی مفهوم التفات شیء ومیله إلى شیء آخر، مع فارق هو انّ المفهوم الاصطلاحی لـ (العاطفة) الذی نقصده لیس العطف والالتفات المطلق، بل یقتصر على الموارد التی یكون الإنسان فیها ملتفتاً ومنعطفاً على انسان آخر ولیس أىّ شیء غیره.
للعاطفة الإنسانیة جذور مختلفة وتتجلّى فی صور متنوّعة. فأساس العاطفة یكون تارةً المنفعة التی تصل الإنسان من شخص آخر، وتارةً اللذة التی یشعر بها من النظر إلى الآخرین، كأن یلتذ من رؤیة ذوی الجمال وینجذب إلیهم بهذه اللذة، وتارةً ینجذب الإنسان لشخص آخر تلقائیاً وإنْ لم یكن جمیلاً ولا تصله منفعة منه، بل قد یلحقه الضرر والخسارة بسببه. ففی هذه الحالة هناك شیء آخر غیر الجمال والمنفعة یكون منشأً للعاطفة. وعلیه ـ استناداً إلى ما قلنا ـ یمكن تقسیم العاطفة إلى مجموعتین أساسیتین.
العاطفة الطبیعیة الأوّلیة والعاطفة الثانویة
العاطفة الأوّلیة هی الانجذاب الذی یشعر به الإنسان تجاه شخص آخر بدون وجود منفعة أو جمال خاصّ، كعاطفة الأم تجاه ولدها، إذ لا تكون المنفعة والجمال واسطة ومنشأ للعاطفة. فالطفل مهما كان دمیماً ولا تنتفع به أمه، بل قد یسبّب لها الضرر والخسارة فانّه محبوب لدیها، هذا النوع من العاطفة نسمیه عاطفة أولیة وطبیعیة.
العاطفة الثانویة وهی التی یكون المراد فیها شیئاً آخر أساساً. والشخص الذی یُتعاطف معه یكون محبوباً لأنّه واسطة لبلوغ الإنسان إلى ذلك الشیء. فمثلاً یحبّ الإنسان من یحسن إلیه الاّ انّ هذا لیس میلاً طبیعیا، بل انّ الإنسان یحبّ نفسه ومنفعته بالأصالة، ویحبّ الواسطة فی منفعته ثانیاً وبالعَرض. فالتعاطف بین المعلم والطالب تعاطف ثانوی. إذ رابطة التعلیم والتعلّم هی الواسطة لظهور هذا التعاطف، وبدونها لا یسود التعاطف بین المعلم والطالب.
العاطفة الطبیعیة
المصداق الواضح للعاطفة الطبیعیة هی الآصرة الاُسرّیة وأقواها آصرة الوالدین مع الأبناء، وبدرجة أضعف آصرة الإخوة والأخوات. وحتّى أبناء العشیرة الواحدة الذین تربطهم علاقة قرابة بعیدة توجد بینهم علاقة عاطفیة، وتضعف طبعاً كلّما تباعدت القرابة.
وقد تكون القرابة البعیدة أحبّ إلى الإنسان من القرابة القریبة لسبب خارجی، الاّ انّ ذلك لا یرتبط بعلاقة القرابة وحدها، ولیس من مراتب العاطفة الطبیعیة، بل له حیثیة ثانویة كأن یحبّ شخص ابن عمه أكثر من عمه، فهذا لیس عاطفة طبیعیة، بل له سبب خارجی وهو عاطفه ثانویة، كأن یكون ذا أخلاق خاصّة.
انّ العاطفة الطبیعیة الناشئة من القرابة تكون أقوى كلّما قصرت واسطة القرابة، وتضعف كلّما تعدّدت الواسطة.
القرآن والعاطفة الطبیعة الإیجابیة
یمكن استشفاف العلاقة العاطفیة المذكورة من عدة آیات فی القرآن الكریم، منها الآیات التی تتحدّث عن قصة أم موسى(علیه السلام). فعندما ولد موسى(علیه السلام) وضعته أمه بوحی إلهی فی صندوق وألقته فی نهر النیل، والآیات القرآنیة تشیر فی موضعین إلى انّها كانت قلقة ومضطربة جدّاً. قال فی موضع:
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِی بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِینَ * وَقَالَتْ لاُِخْتِهِ قُصِّیهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُب وَهُمْ لاَ یَشْعُرُونَ1.
وقال فی موضع آخر:
إِذْ تَمْشِی أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ یَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَىْ تَقَرَّ عَیْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ2.
هذه العبارة اُوحیت إلى موسى مع عبارات اُخرى فی الوادی الأیمن، وجاءت عبارة شبیهة لها مع فارق طفیف فی سورة القصص، هذه الآیات تحكی بوضوح عن التعاطف بین الأم والولد، ووجود هذه العاطفة ملحوظ من خلال اضطراب اُمّ موسى وقلقها والحزن على فقده، وسرورها وقرّة عینها بعد رجوعه.
على أىّ حال، فإنّ العاطفة والرابطة بین الأم والولد أمر طبیعی جدّاً، وتوجد بین كلّ أم وولدها مهما كان.
ومن الممكن أیضاً أن تقوم بعض الأسباب الخارجیة بتضعیف هذه العاطفة أو إزالتها، ویوجد فی التأریخ أشخاص قتلوا أبناءهم أو وأدوهم، الاّ انّه انحراف عن الفطرة ویحصل فی ظل بعض الظروف البیئیة والاجتماعیة أو النفسیة، فی حین یكون المیل الطبیعی والفطری لأىّ أب وأم هو الأُنس بأبنائهم ومحبّتهم.
وتستفاد العاطفة الأبویة من بعض الآیات القرآنیة، منها ما حكاه القرآن فی قصة نوح(علیه السلام)فحینما وقع الطوفان وكاد الناس یهلكون خاطب نوح(علیه السلام) ابنه:
وَهِیَ تَجْرِی بِهِمْ فِی مَوْج كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِی مَعْزِل یَا بُنَىَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِینَ3.
فدعوة نوح ابنه هی غیر دعوته للناس، حیث دعاهم للدین سنین طوالاً دامت أكثر من تسعمائة عام الاّ انّهم عارضوه وناوؤه حتّى یئس منهم.
ولكنّه حینما رأى ولده یغرق رغم یأسه من دعوة الناس دعته العاطفة الأبویة لیطلب من ابنه بإلحاح الابتعادَ عن الكفار وركوب السفینة مع المؤمنین.
ومرة اُخرى حینما رأى ابنه یغرق فی الماء دعا ربه لینجیه:
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِی مِنْ أَهْلِی وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِینَ)4.
ربّ انك وعدت بنجاة أهلی وهذا ابنی وهو من أهلی فأجاب الله نوحاً:
إِنَّهُ لَیْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَیْرُ صَالِح5.
انّ نوحاً فی هذه التعابیر قد أولى التفاته الخاصّ لإنقاذ ابنه أكثر من إنقاذ جمیع الناس، مما یشیر إلى عاطفته الأبویة الخاصّة، أی العاطفة الطبیعیة التی یمتلكها كلّ والد تجاه ولده بعیداً عن أیّة خصوصیة.
وفی المقابل یشعر الابن بهذه العاطفة تجاه والده، ویشیر القرآن إلى ذلك، ففی قصة ابراهیم(علیه السلام)والحوار الذی جرى بینه وبین أبیه الذی تبناه (آزر) قال الأب: ابتعد عنی، فاجابه ابراهیم(علیه السلام):
قَالَ سَلاَمٌ عَلَیْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّی إِنَّهُ كَانَ بِی حَفِیّ6.
وهذا هو الوعد الذی وعده ابراهیم(علیه السلام) وجاء فی القرآن أیضاً:
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِیمَ لاَِبِیهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَة وَعَدَهَا إِیَّاهُ فَلَمَّا تَبَیَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِِ تَبَرَّأَ مِنْهُ7.
إذ إنّ عاطفة البنوّة هی التی دفعت ابراهیم(علیه السلام) لاتخاذ هذا الموقف من الأب الذی أبعده، فیسلّم علیه ویدعو له ویطلب له المغفرة والعفو من الله تعالى.
لا شك انّ ابراهیم(علیه السلام) لم یدعُ لعبدة الأصنام الآخرین ولم یعِدهم بالإستغفار، الاّ انّه وعد هذا الشخص الذی یرتبط معه أسریّا، وهذا مؤشر على رعایته الخاصّة به، ولو كان والده الحقیقی لكانت هذه العاطفة أشدّ وأقوى بنحو أولى .
العاطفة التركیبیة
هناك حیثیات خاصّة تستوجب مودة أشدّ بین أعضاء الاُسرة، وهی فی الواقع حیثیات ثانویة للعاطفة تنضّم إلى هذه الحیثیة الطبیعیة الأوّلیة، كأن یكون الابن صالحاً ومؤدباً وعالماً وعابداً ومحسناً وجمیلاً، أو یعتنی بوالدیه ویخدمهما أكثر من سائر الأبناء، فمثل هذا الابن یحظى بعطف الوالدین ومودتهما بنحو یفوق سائر الأبناء قطعاً.
فی هذه الموارد تكون الخصوصیات والضمائم الخارجیة سبباً لتقویة العاطفة الاُسریة الطبیعیة، وتكون العاطفة هنا تركیبا من العاطفة الطبیعیة الأوّلیة والعاطفة الثانویة.
نقرأ فی القرآن الكریم انّ النبی یعقوب(علیه السلام) كان یُضمر لیوسف(علیه السلام) حبّاً شدیداً. حیث كانت خصال یوسف وكمالاته سبباً لاشتداد حبّ الوالد وعاطفته الطبیعیة حتّى حسده أخوته واستعدوا لالقائه فی البئر. قالوا فیما بینهم: رغم كوننا شبابا ذوی قوة أكبر وعمل أكثر فإنّ یوسف وأخاه أحبُّ لدى أبینا. قالوا:انّ أبانا على ضلال بحبّه یوسف أكثر منا، وأخیراً ألقَوه فی البئر.
انّ حبّ یعقوب لیوسف كان شدیداً إلى درجة انّه دام بكاؤه على فراقه حتّى عمیت عیناه، وعندما وجد الأخوة یوسف فی مصر بعد سنین وجاؤوا لیخبروا یعقوب بحیاة یوسف ویكشفوا عنه الغمّ اطّلع على ذلك قبل وصول القافلة والخبر، وذلك لشدة العلاقة والعاطفة الأبویة، وقال: انّی أشمُّ رائحة یوسف.
على أیّ حال، فقد كان یعقوب یحبّ یوسف حبّا جماً فاق العلاقة الأبویة الاعتیادیة وفوق علاقته مع سائر الأبناء، وذلك لكمالات خاصّة فی یوسف. إذنْ كانت هناك عدة عوامل وراء ذلك: أحدها عامل العلاقة الأبویة الطبیعیة وهی مشتركة بین جمیع الأبناء. ثانیها: كمالات یوسف الخاصّة وكانت هی المنشأ للعاطفة الثانویة، وكانت عاطفة یعقوب تجاه یوسف عاطفة تركیبیة.
تأرجح العاطفة الطبیعیة
لیست هذه العاطفة التی تتوفّر فی بنی الإنسان طبیعیاً ذات مستوى واحد، بل تتصف بالشدة والضعف حسب البعد أو القرب فی الانتساب الأُسری، فتكون فی كلّ انسان هی الأقوى والأشد بالنسبة للابناء والوالدین إذ هم أقرب من بین أعضاء الاُسرة، وكلّما ابتعد هذا الانتساب كانت الأواصر العاطفیة أضعف حتّى نصل إلى أدنى وأضعف آصرة عاطفیة طبیعیة أولیة، وهی التی نشعر بها تجاه أی انسان من أیّة قومیة ومهما كان بعیداً عنا.
هذه العاطفة التی تكون بإزاء كلّ انسان فی أوسع نطاق لها تكون ضعیفة وذات لون باهت، ولكنّ فی بعض الظروف الإستثنائیة كأن یكون الإنسان حائراً ووحیداً فی صحراء لمدة، ولم یر أیَّ انسان فانّه یكون موضع اهتمامه بوضوح، فإذا وقع بصره علیه فكأنّه وجد ضالته وسرعان ما یأنس به، وإنْ لم تكن هناك منفعة وعلاقة اُسریة خاصّة.
العاطفة السلبیّة
یطرح هنا سؤال: هل هناك عاطفة طبیعیة سلبیّة كما توجد عاطفة طبیعیة إیجابیه؟ وهل یشعر الإنسان بالنفور من أناس أو انسان آخر بلا علة خارجیة؟
فی الإجابة نقول: لا یمكن إثبات وجود عاطفة طبیعیة سلبیّة فی الإنسان، ولا یمكن القول: كما توجد عاطفة طبیعیة إیجابیّة بین الوالد والولد فإنّ هناك عاطفة طبیعیة سلبیّة فی الإنسان تجاه بعض بنی الإنسان. إذ لا تثبتها تجربة ولا یمكن الاطلاع على وجودها من خلال القرآن الكریم.
فی العاطفة الثانویة طبعاً یوجد نوع سلبی وهكذا إیجابیّ، لانّ العاطفة الثانویة تنشأ فی روح الإنسان بصورة غیر مباشرة وبتأثیر من العوامل الخارجیة، والعوامل المختلفة تكون منشأ لحدوث عواطف مختلفة، فبعض العوامل توجِد العاطفة الإیجابیة، بینما توجِد العوامل الاُخرى العاطفة السلبیّة والكدورة والنفور والعداء والحقد.
انّ جذور وأساس العاطفة الثانویة ترجع إلى أن یكون شخص واسطة لتحقیق رغبات الإنسان، أو عاملاً على فقدانها، وبالتالی تنشأ فی نفس الإنسان عاطفة ثانویة إیجابیّة وسلبیّة. فمثلاً یحبّ الإنسان العلم ویرید المأكل والملبس والسكن ویكون المال مراده بصورة غیر مباشرة لرفع حوائجه الأوّلیة كالمأكل والملبس، فإذا قام شخص بتوفیرها له وكان واسطة لنیل هذه المتطلَّبات الإنسانیة فانّه تتعلّق به عاطفته الإنسانیة الإیجابیة.
وعلى العكس، لو كان شخص سبباً لحرمان انسان من إحدى رغباته والأمور القیّمة المذكورة فانّه سیكون موضعاً للعاطفة الإنسانیة السلبیّة، لأنّه أصبح واسطة لفقدان رغبات الإنسان.
الآثار المتنوّعة للعاطفة
هل ینحصر أثر العواطف فی لذة النظر إلى شخص آخر واللقاء به وصحبته أم هناك آثار إضافیة أخرى؟
نقول فی الإجابة: لا تنحصر آثار العواطف فیما ذُكر، فقد لا یلتذ انسان فی الحالة الاعتیادیة من لقاء شخص أو صحبته أبداً، ولكنْ یوجد أثر آخر یحكی عن وجود عاطفة تجاهه، إذ إنّ هذا الشخص الذی لا نشعر بعاطفة تجاهه فی الحالة الاعتیادیة حینما یمرض أو یواجه مشكلة اُخرى نحس بشعور مماثل ونتألم لألمه، ونستعد برغبة تامة على إعانته قدر المستطاع. انّ هذا أثر آخر یشیر إلى وجود مرتبة اُخرى من العاطفة الإنسانیة.
انّه الشعور الذی یكنّه الإنسان تجاه الآخرین من بنی الإنسان وحتّى الحیوانات. فعندما یطّلع الإنسان على موجود آخر ذی شعور ومدرك للألم واللذة فانّه یضع نفسه موضعه عندما یبتلى ویتألم لألمه ویُقدم على مساعدته.
انّ ذلك میل طبیعی وعاطفة إلهیة، وكان من الممكن أن یخلق الله عزّوجلّ الإنسان بنحو یحبّ فیه الآخرین دون أن یتألم أو یتأثّر لما یلاقونه من آلام ومشاقّ.
الاّ انّ الله سُبحانه قد منحه حسَّ الرحمة والشفقة فیشعر به فی نفسه تجاه بنی الإنسان والحیوانات المتألمة، مع فارق انّ هذه العاطفة لها ارتباط خاصّ مع الإدراك والشعور لدى الموجود الذی یعطف علیه، ولذا تكون هذه العاطفة تجاه الإنسان أقوى من الحیوانات، ومن بین الحیوانات أیضاً تشتد عاطفة الإنسان تجاه الحیوان الذی یحظى بادراك وشعور أقوى، وكلّما كانت الحیاة فیه أضعف كان حس الشفقة والرحمة لدیه أضعف حتّى نصل إلى موجودات حیة ذات أدنى مراتب الحیاة حیث یشعر الإنسان فی نفسه بأدنى درجات العاطفة تجاهها.
انّ الحیوانات التی لها نوع احساس متبادل مع الإنسان تكون موضعا للشفقة والعواطف الإنسانیة بنحو أكبر. فبعض القطط تأنس مع الإنسان ویأنس الاطفال معها بشدة أیضاً، وفی المجتمعات الغربیة یوجد من یحبّ كلبه أكثر من أطفاله!، والسبب هو انّ هذه الحیوانات لها مشاعر مشتركة تجاه الإنسان، وتبدو منها حالات یفهم الإنسان منها أنها تبادله الحبّ، فیقیم معها علاقة عاطفیة متبادلة. وأمّا الموجودات الحیة الاُخرى نظیر الصراصر والدود وأشباهها والتی لا یفهم الإنسان منها مثل هذه الحالة فانّه لا یشعر فی نفسه بمثل هذه العاطفة إزاءها، ومع ذلك فانّه یتألم إذا رأى هذه الموجودات عدیمة الاحساس تتأذى بدون وجه.
وهذا هو نوع من العاطفة الإنسانیة ویمكن القول: من الكمال أن یمتلك الإنسان مثل هذه العاطفة، فقد كان من أخلاق الانبیاء وأولیب اء الله أن لا یؤذوا أیّ موجود ذی روح، وكانوا یجتنبون أیّ ایذاء لهم.
انّ أصل هذه العاطفة أمر فطری الاّ انّ وجودها لا یكون بمستوى واحد لدى الجمیع، بل یشتد ویضعف فی أفراد الإنسان حسب الظروف التربویة المختلفة والبیئات المتنوّعة.
وفی مقابل الكمّل من بنی الإنسان المذكورین هناك أشخاص لا یتألمون ـ بفعل الظروف التربویة الخاطئة ـ لایذاء بنی الإنسان أو الحیوانات، لیس هذا فحسبُ بل یودّون ایذاء الإنسان أو الحیوانات ویلتذون من مشاهدة ذلك، وهذا انحراف عن الفطرة الإنسانیة الطاهرة والأصیلة.
لقد اعتبر بعض فلاسفة الغرب الإنسان ـ برؤیة تشاؤمیّة خاصّة ـ موجوداً ظالماً یحبّ ایذاء الآخرین، ولكنْ ینبغی الالتفات إلى انّ الإنسان فی ذاته لا یشعر باحساس وعاطفة سلبیّة تجاه أیّ موجود، فالعاطفة السلبیّة مهما كان نوعها أمر عارض وتبدو فی روح الإنسان نتیجةً لعوامل خارجیة قد ذكرناها كعاطفة ثانویة فی هذا المقال، انّها العاطفة التی توجدها البیئة والثقافة والتربیة والعُقد الشخصیة.
الحیثیات القیمیة للعاطفة
الآن وبملاحظة ما قلنا فإنّ تشدید العاطفة الفطریة وتضعیفها أمر اختیاری، فبوسع الوالدین والمعلم والإنسان نفسه أن یكون لهم تأثیر فی توجیه العاطفة وتشدیدها وتضعیفها وانبعاثها وتربیتها وفق المبادىء الصحیحة والتأثیر على تنمیتها أو قمعها.
من هنا تدخل العاطفة ـ وإنْ كانت فی أصلها فطریة وغیر اختیاریة ـ فی نطاق الأخلاق والأمور القیمیة فی ضوء هذه الأبعاد الاختیاریة، ومن الجدیر أن ندرسها ونبحث بشأنها من هذه الزاویة.
بملاحظة ما قلنا یطرح هذا السؤال: وفق الرؤیة الإسلامیة ما هو واجب الإنسان تجاه عاطفته وعواطف ابنائه وتلامیذه؟ فی الإجابة یجب القول: انّ القاعدة العامّة التی اتّبعناها لحدّ الآن هی انّ تقییم سلوك الإنسان وصفاته ذو ملاكات متعارضة. فإذا لم یكن لاشباع غریزة أو تشدیدها أیّ تأثیر على سائر أبعاد الإنسان الوجودیة ففی هذه الحالة لیس له قیمة إیجابیّة ولا سلبیّة، بل یكون أمرا طبیعیا.
یمكن القول هنا: انّ لتعمیق العاطفة درجةً من القیمة إجمالاً وإنْ لم یكن فی الرؤیة الإسلامیة كافیا وبالغاً حدّ النصاب. لقد توصلنا إلى هذه النتیجة فی (فلسفة الأخلاق) وهی أنّ القیمة ذات نصاب معیّن لا یعتبر الإسلام مادونه ذا قیمة أساسیة. فالنصاب القیمی للعمل فی الإسلام هو أن یقوم الإنسان بأعماله بدافع الهی لیبلغ بها إلى حدّ النصاب للقیمة، ولكنّه توجد مرتبة أدنى من ذلك، ولها القابلیة ان تعدّ الإنسان لكی یقوم بأعماله بالدافع المطلوب إلى أن تصبح أعماله متمتّعة بنصاب القیمة.
وعلیه فإنّ الأعمال التی تتمتع بالنصاب المعیّن للقیمة توصل فاعلها إلى السعادة الاُخرو یة، والأعمال التی لها قیمة أدنى فانّها تمهّده للبلوغ بقیمة أعماله إلى حدّ النصاب.
فمثلاً یكون للسخاء مثل هذه القیمة، فانّه فی ذاته لا یُدخل الإنسان الجنة، ولكنّه یخفف من عذاب السخی لانّ شرط الدخول فی الجنة هو الایمان بالله عزّوجلّ. والأخلاق والسلوك الصادر عن الایمان بالله هو الذی یمهّد لسعادة الإنسان فی الجنة.
(العاطفة) التی نبحث بشأنها هنا هی كالسخاء وتتمتع فی ذاتها بقیمة أدنى من حدّ النصاب، فمثلاً حینما یشاهد الإنسان حیواناً جریحاً وجائعاً فانّه یشفق علیه ویفكّر فی تهیئة الماء والطعام له ومعالجته، فإذا قام بهذا العمل لله تعالى وعن إیمان كان فی حدّ النصاب للقیمة، ولكنْ إذا لم یكن مؤمنا فإنّ عمله ذو نوع من القیمة والحُسن، ولعل مثل هذه الخصلة تقرّبه من الله تعالى وتوفّقه للایمان.
ولدینا شواهد عدیدة فی الآیات والروایات على انّ حالة الرأفة والرحمة محبّذة عند الله تعالى، فقد أثنى الله فی القرآن على أتباع النبی عیسى(علیه السلام) لما فیهم من رأفة ورحمة حیث قال:
وَجَعَلْنَا فِی قُلُوبِ الَّذِینَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً8.
وقد ورد فی الروایات انّ الشفقة والأهتمام بحیوان جائع وعطشان قد ینجیان الإنسان، وقد یستوجب ایذاء الحیوان عذاب النیران.
روی انّ النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) كان یقبّل الحسن والحسین(علیهم السلام) فقال عُیَینة (وفی روایة الأقرع بن حابس) ـ لانّ تقبیل الولد لم یكن مألوفاً ویعتبر عملاً غیر لائق بین العرب ـ : انّ لی عشرة ما قبّلت واحداً منهم قطّ، فقال النبی(صلى الله علیه وآله وسلم): من لا یَرحم لا یُرحم. وفی روایة: فغضب رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) حتّى التَمع لونه وقال للرجل: انْ كان الله قد نزع الرحمة من قلبك فما أصنع بك؟9.
انّ فقدان العاطفة والرأفة تبعد الإنسان من الكمالات الإنسانیة، وعلى العكس فإنّ العطف والرحمة تقرّب الإنسان من الكمال. وقد جاء فی الروایات انّ من یحبّ ولده فإنّ الله سُبحانه یرحمه على هذه الخصلة وینجیه من العذاب.
انّ بعض المذاهب الأخلاقیة فی الغرب تعتبر المودة والرحمة ذات قیمة مطلقة وأساساً لجمیع القیم، سیّما انّ أخلاقیات النصارى تؤكّد بشدة على هذه القضیة وإنْ لم یكونوا كذلك عملیّاً، الاّ انّ إعلامهم الواسع یدعو الإنسان إلى بذل الحبّ للجمیع.
وفی الرؤیة الإسلامیة لیس للعاطفة قیمة مطلقة، بل انّ قیمتها تستند إلى ملاكات أخرى، ویستفاد من الآیات والروایات وجوب ضبط العاطفة، وإذا تعارضت مع قیم اُخرى فلا یمكن ترجیحها فی كلّ مورد، بل یلزمنا معالجة الإفراط فی العاطفة وإرشادها والسیطرة العقلیة علیها.
فی القرآن الكریم یأمر الله سُبحانه المسلمین عند إقامة الحدّ على الزانی أو الزانیة:
وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللهِ إِنْ كُنتمّ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْیَوْمِ الاْخِرِ10.
فحینما یرى الإنسان انساناً آخر یتعرض للأذى وتهدر كرامته یتألم إلى درجة انّه قد لا یوافق على اقامة الحدّ الإلهی إشفاقا علیه، أو یعتقد بابداء المزید من اللین والتخفیف من القیود، كأن یُقام علیه الحدّ فی الخلوة وبعیداً عن أنظار الناس، ولكنْ لابدّ من الالتفات إلى انّ الشفقة والعاطفة الإنسانیة هنا تتعارض مع مصلحة أقوى. فی مثل هذه الموارد یكون اتّباع العاطفة بمثابة إطلاق عنان الغرائز والشهوات المنفلتة ویسوق المجتمع نحو مستنقع الفساد والمعاصی، ویهدّد الجیل البشری والأعراض والكرامة لدى الجمیع.
فی مثل هذه الموارد لا یبقى مجال للتعاطف عند وجود مصلحة معارضة أقوى. من هنا یأمر الله سُبحانه بعدم الرأفة بأهل الزنا، فالموقف یقتضی ضبط العاطفة.
وفی آیات اُخرى یحذّرنا الله عزّوجلّ من المودّة وإبداء المحبّة مع أعدائنا، ویرغّب فی التصدّی لهم والتعامل معهم بغلظة، وهذا ما سیتمّ البحث بشأنه تفصیلاً فی قسم الأخلاق الاجتماعیة.
خلاصة القول: نستنتج من الآیات والروایات المذكورة انّ العاطفة وإنْ كان لها فی ذاتها نوع من القیمة، ولذا بوسعها أن تزید الإنسان توفیقاً وتخفّف من عذابه وعقابه، الاّ انّ قیمتها لیست مطلقة أولاً، بل انّ ملاكات اُخرى تمثّل الأساس لقیمتها، وثانیاً انّ قیمتها لیست فی حدّ نصاب القیمة الإسلامیة لأعمال الإنسان وسلوكه لكی تكون فی ذاتها منشأ للسعادة.
أمّا البُعد الأخیر الملحوظ لروح الإنسان فی الاُطروحة المقترحة فهو بُعد الأحاسیس والانفعالات. هذا البُعد مع كونه أكثر سطحیة من الأبعاد الوجودیة الاُخرى للانسان فانّه أوسعها. أی بما انّه یتأثّر بسائر الأبعاد الوجودیة للانسان ویُبدی آثاره وأعراضه الظاهریة والشاملة على صورة عبوس الوجه أو البشاشة أو الانعزال والمعاشرة أو الكسل والنشاط ونظائرها فانّنا نراه أكثر سطحیة من الأبعاد الأخرى.
وعلیه فإنّ الانفعال حالة محسوسة لها جذور فی أعماق النفس والروح الإنسانیة، ویمكن تشبیهها بتغیّرات الأغصان والأوراق الناشئة من تغیّرات الجذور.
من جهة اُخرى بما انّ الانفعالات تنشأ بتأثیر كلّ بُعد من الأبعاد الروحیة، ولا یكون كلّ غصن مستقلا عن الأغصان الاُخرى فانّه یمكن القول: انّ سعة هذا البُعد هی أشمل من الأبعاد الوجودیة الاُخرى للانسان. انّ الأحاسیس والانفعالات ذات شُعب وفروع متعدّدة وآثار وظواهر متنوّعة نوضح هنا عدداً منها:
الحزن والسرور
حینما یرید الإنسان شیئاً ـ قد یرتبط بأىّ واحد من الأبعاد الإنسانیة السابقة ـ فانّه یشعر بحالة هی (السرور) انْ تحقّق مراده، وإنْ لم یتحقّق أو فقَد ما یملكه فانّه یشعر بحالة اُخرى هی (الحزن) و(الغمّ).
ولذا فإنّ الانفعالات النفسیة لا تختص بأحد الأبعاد الوجودیة للانسان، بل لو لاحظنا أیّ واحد من المتطلَّبات السابقة ـ المتعلّق بأیّ بُعد من الأبعاد الإنسانیة ـ فإنّ نیله أو فقدانه یمهّد لحصول السرور والحزن فی روح الإنسان.
فمثلاً: یحبّ الإنسان حیاته وسلامته، فإذا أحس بأنّه سیفقد حیاته وسلامته فانّه یشعر بالحزن والغمّ، وعلى العكس إذا استرجع المریض أو المهدّد بالموت سلامته أو التفت إلى زوال الخطر عنه فانّه یشعر بـ (السرور).
والإنسان یحبّ (الاقتدار) أیضاً، فإذا أحس بزوال قدرته وانّه سیكون عاجزا فانّه سوف یحزن، وعلى العكس إذا اكتسب القدرة فاقدُها فانّه یشعر بـ (السرور).
وهكذا الإنسان الذی یحبّ (الأموال) و(البنین) یحزن لفقدها ویفرح باكتسابها.
النماذج المذكورة شاهد واضح على ما ادعیناه سابقاً من انّ الانفعالات النفسیة كـ(الحزن والفرح) ذات دائرة أوسع وتشمل جمیع الأبعاد والمیول الإنسانیة وتتأثّر بها جمیعاً.
الندم والغضب والرضا
تترتّب آثار على تحقّق مراد الإنسان أو فقدانه حسب خصائصه وإضافاته أو عوامله المختلفة نذكرها على التوالی تحت عناوین خاصّة: فما یریده الإنسان تارةً یتحقّق أو یزول بفعل منه، ویكون الآخرون واسطة لنیل مراده أو فقدانه تارةً أخرى.
فإذا كان الإنسان نفسه هو السبب لخسارته واستوجبت أعماله فقدان مراده فانّه یشعر بحالة نطلق علیها (الندم). وینبغی الالتفات إلى أنّ الندم لیس شیئاً سوى (الغمّ) الاّ أنّ له میزة خاصّة، وهی أن یمهّد الإنسان بنفسه واختیاره وأعماله لفقدان ذلك المراد وعروض هذه الحالة.
ولكنْ إذا كان شخص آخر هو السبب لفقدان هذا المراد فستنشأ حالة تسمى (الغضب). إذنْ للغضب والغمّ أصل واحد، ولكنْ یمتاز الغضب بأنّ شخصا آخر أصبح واسطة للخسارة وعروض هذه الحالة. ولو أصبح شخص آخر واسطة لنیل الإنسان مراده فانّه سیشعر بالسرور والرضا من ذلك الشخص.
الخوف والأمان والیأس والأمل
إذا كان فقدان المراد مرتبطا بالمستقبل القریب أو البعید فنتیجةً للتفكیر فی الخسارة التی یمكن أن تلحقنا فی المستقبل تنشأ فینا حالة نسمیها (الخوف) وفی المقابل إذا علم الإنسان بعدم وجود خطر یهدّده فی المستقبل فانّه سوف یشعر بحالة نسمیها(الأمان) و(الاطمئنان).
وإذا توقع الإنسان نیل بعض رغباته أو دفع خسارة عنه فی المستقبل فانّه سیشعر بحالة تسمى (الرجاء) و (الأمل) وعندما یطمئن بأنه سوف لا یصل إلى مراده فی المستقبل، أو لا تجبر خسارته فانّه سیشعر بحالة تسمى (الیأس).
وعلیه یمكن القول: انّ سعة المفاهیم فی هذا الباب تكون لجهتین: إحداهما هی انّها تشمل رغبات الإنسان كافة، وتعم حبّ الذات والكمال والعلم والاقتدار وأنواع اللذّات، ویستتبع تحقّقها وعدمه ألواناً من الأحزان والأفراح.
ثانیتهما انّ الاختلاف فی الاضافات والحیثیات كالزمان الماضی أو المستقبل، أو الاختلاف فی نسبة الفعل للانسان نفسه أو فاعل آخر یستوجب تنوّع الانفعالات ویُنتزع مفهوم خاصّ من كلّ واحد منها بما یتناسب معه.
فمثلاً لنلاحظ حالة الإنسان لدى فقدان ولده، فهی (الغمّ والحزن) بالنسبة للماضی، و(الخوف) بالنسبة للمستقبل.
فإذا كان الإنسان هو السبب فانّه سیشعر بـ (الندم)، ویشعر بـ (الغضب) إذا كان الغیر هو السبب فی فقدانه. فی الموارد المذكورة كافة یكون موت الولد هو المتعلّق للحالات والانفعالات النفسیة، ولكنْ بملاحظة الازمنة والنسب المختلفة ستنشأ حالات متنوّعة وردود فعل متعدّدة.
عناوین الانفعالات وأبعادها النفسیة
ذكر فی القرآن الكریم العدید من الأحاسیس والانفعالات الإنسانیة بعناوین مختلفة أهمها: الفرح والسرور والحبور والمرح والبطر من جهة، ومفاهیم الحزن والأسى والأسف وضیق الصدر والبخوع والندامة من جهة أخرى. وكذا مفهوم الرضا وكظم الغیظ من جهة، ومفاهیم السخط والغضب والكراهة والغیظ من جهة أخرى، وهكذا مفهوم الخوف والخشیة والشفقة والرهبة والوجل المترادفة تقریبا، ومفاهیم الأمن والسكینة واطمئنان القلب وهكذا مفهوم الرجاء فی مقابل الیأس والقنوط والإبلاس.
الآثار الظاهریة للأحاسیس والانفعالات
انّ الآثار الجسمیة للسرور وانشراح النفس هی البشاشة والابتسام والضحك، والآثار الجسمیة للغمّ والحزن هی العبوس والانعزال والكآبة والبكاء. وفی بعض الموارد طبعاً یبكی الإنسان شوقاً وفرحاً.
یمكن البحث عن الآثار الجسمیة والظاهریة للأحاسیس والانفعالات فی القرآن الكریم تحت عناوین مختلفة من قبیل: الضحك والإستبشار والإسفار وقرّة العین.وفی قِبالها مفاهیم من قبیل: البكاء والعَبُوس وقَمطریر وغبْرة ومُغبرّة وكالِحون أو الجزع بمعنى عدم التحمّل فی مقابل الصبر والحلم والإستعجال المستعمل فی مورد الخوف من فوت المنفعة، هذه ونظائرها من المفاهیم الأخلاقیة التی تُنتزع من الالتفات إلى الانفعالات النفسیة وردود الفعل تجاه الحوادث.
القیمه الأخلاقیة للأحاسیس والانفعالات
ما هی قیمة الأحاسیس والانفعالات من الناحیة الأخلاقیة؟
الجواب: انّ هذه الحالات حیادیة، ولیس لها قیمة أخلاقیة إیجابیّة أو سلبیّة مادامت غیر اختیاریة.
فی طبع كلّ انسان أن تنتابه حالة (الخوف) حینما یداهمه الخطر. هذه حالة طبیعیة فی مثل هذا الوضع ویشعر بها الإنسان دون اختیار، وأن یفرح حینما ینال مراده، وهذه حالة طبیعیة اُخرى یشعر بها الإنسان وهی خارجة عن اختیاره أیضاً، وقد نسب القرآن الكریم ـ فی آیات عدیدة11 ـ هذه الحالات إلى الانبیاء أیضاً.
هذه الحالات مادامت انفعالات طبیعیة وقهریة فانّها لا تُعدّ فعلا أخلاقیا، ولیس لها قیمة إیجابیّة أو سلبیّة ولا تقبل الثناء أو الذمّ. ولكنّ ردود الفعل التی یبدیها الإنسان عقیبها بما یتناسب معها تكون اختیاریة، وعلیه فانّها تدخل فی نطاق الأخلاق فتكون ذات قیمة إیجابیّة أو سلبیّة وقابلة للثناء أو الذمّ.
هذه الحالات كحالات الإدراك الاُخرى فانّها تتحقّق حینما یطّلع الإنسان ویلتفت إلى موردها أو عاملها الخارجی. انّ الالتفات إلى هذا العامل الخارجی یكون دفعیا وغیر اختیاری تارةً كأن یقع بصره على أسد مفترس مستعد للانقضاض علیه فانّه سیهابه دون اختیار.
ویكون الالتفات إلى العامل الخارجی للخوف باختیار الإنسان تارةً أخرى، كأن یطّلع ـ بتفكیره وبحثه وتحلیله الاختیاری ـ على وجود عامل یهدّده.
یكون الاطلاع على عامل الخوف فی الصورة الاُولى غیر الاختیاریة خارجا عن نطاق الأخلاق، فی حین یدخل فیه فی الصورة الثانیة ویكون موضوعا للقیمة الأخلاقیة ومورداً للثناء والذمّ.
كأن یفكّر الإنسان فی العظمة الإلهیة وعظمة الكون والإنسان، ویلتفت إلى الغضب الإلهی والعذاب الاُخروی فتحدث فی نفسه حالة (الرعب والخوف) طبعاً. مثل هذا الخوف ـ بملاحظة حصوله بمقدمات اختیاریة ـ یكون اختیاریا، وفی هذه الصورة لا تدخل آثار الخوف فحسبُ، بل الخوف ذاته وعوامله أیضاًـ لانّها اختیاریة ـ فی نطاق الأخلاق وتكون موضوعا للقیمة الأخلاقیة.
أو كأن یفكّر الإنسان بشیء یستدعی (الأمان) له، فهذه الحالة اختیاریة أیضاً تحصل بمقدمات اختیاریة. وفی بعض الموارد أیضاً حیث یحصل (الخوف) أو (الأمان) بنحو قهری وغیر اختیاری ولكنْ یمكن أن یكون استمراره اختیاریا، كما انّ عكسه ممكن أیضاً.
وعلیه فإنّ للاختیار والعوامل الاختیاریة دوراً أساسیاً فی حدوث أو بقاء هذه الحالات والانفعالات النفسیة أو حدوثها وبقائها معاً من جهة وفی تضعیفها أو هدایتها وتوجیهها من جهة أخرى.
انّ الأحاسیس والانفعالات النفسیة ـ لتأثّرها بالاختیار والعوامل الاختیاریة من الأبعاد المختلفة التی ذكرناها ـ تدخل نطاق الأخلاق وتكون موضوعا للقیم الأخلاقیة، لانّها فی ذاتها ناشئة من عوامل اختیاریة فی حدوثها وبقائها وتقویتها وتضعیفها وتوجیهها، وهكذا الآثار العملیة التی تترتّب على هذه الحالات، وردود الفعل التی تحصل بتأثیر هذه الحالات تكون اختیاریة بنحو أوضح.
انّ بعض الأشخاص من ضعفاء النفس یبدون ضعفهم فی مثل هذه المواقف، ویعجزون عن ضبط أنفسهم، فیتلفظّون بألفاظ نابیة فی حالة الحدّة، ویرتكبون أعمالاً خاطئة وكأنهم مسلوبوا الاختیار. والواقع انّه لم یُسلب منهم تماماً، بل لهم اختیار ضعیف وبإمكانهم السیطرة على أنفسهم من خلال التمارین والتلقین. انّ أعمال هؤلاء الأشخاص ذات قیمة أخلاقیة بنسبة ما لدیهم من اختیار.
السؤال هنا: ما هو ملاك حُسن وقبح الأعمال التی نمارسها عقیب هذه الحالات النفسیة والتی تكون باختیار الإنسان من جهات مختلفة؟ الجواب: انّ الملاك العامّ الذی استندنا إلیه فی الموارد كافة یكون حاكما هنا أیضاً. الملاك هو التعارض مع الكمالات النفسیة وعدمه، فإذا كان العمل الاختیاری سبباً لحرمان الإنسان من كمالات أعلى كان ذلك العمل مرفوضا وذا قیمة سلبیّة. وعلى العكس إذا مهّد العمل الاختیاری الطریق لنیل الإنسان رغبات أكثر وأثمن وأكمل كان ذلك العمل محبّذا وذاقیمة إیجابیّة.
إذا كان الخوف والحزن والرضا والسرور والأمل والیأس وسائر المفاهیم التی أشرنا إلیها سبباً لصدّ الإنسان عن بلوغ كمالات أسمى فانّها مرفوضة، وتكون ذات قیمة أخلاقیة سلبیّة بمقدار ما للانسان من اختیار فی تحقّقها.
ما قلناه یمثّل القیمة التی تُنسب للانسان نفسه فی ضوء قیمة تبعات ونتائج هذه الآثار، ولكنْ من جهة اُخرى بما أنّ هذه الحالات تابعة للعوامل والأجواء السابقة فانّها تكون ذات قیمة سلبیّة أو إیجابیّة تبعاً لقیمة تلك العوامل والأجواء السابقة أیضاً.
فمثلاً: ینشأ خوف الإنسان من الخطر الذی یهدّد مراده. فالواجب ملاحظة ذلك المراد ودرجة مطلوبیّته، هل هو مراد دنیوی أم أخروی، مادی أم معنوی، جسمی أم روحی؟ ما هو أثره ومع أیّ شیء یتعارض؟ هذه الأمور لها تأثیر فی تقییم الأحاسیس والانفعالات.
فمثلاً: ینبغی البحث عن السبب فی حبّ المال عند شخص معیّن، فمن یقدّم حافلة أو سفینة من أمواله لإعانة المجاهدین فی جبهه القتال یسعى للمحافظة علیها قطعاً وهو قلق على بقائها، الاّ انّ خوفه هذالیس من جهة تلف أمواله، بل من جهة عدم وصولها إلى الجبهة، وهكذا المساعدات إلى المجاهدین فیحدث خلل فی أمر الجهاد مع العدوّ. مثل هذا الخوف محبّذ وقیّم.
مع ذلك، فإنّ حُسن هذا الخوف ذو حدود وقیود كماً وكیفاً، فهو محبّذ بدرجة یزداد فیها سعیاً للمحافظة على أمواله، وأمّا بدرجة الوسوسة بحیث تحول دون قیامه بسائر واجباته فانّه غیر محبّذ.
وعلى العكس من كان خوفه من تلف أمواله هو تقلیل ثروته، أو حدوث خلل فی أهوائه الدنیویة وكیان التذاذه فقط، مثل هذا الخوف وإنْ لم یكن اختیاریاً فی البدایة وهو خارج عن نطاق الأخلاق الاّ انّ استمراره اختیاری للانسان ولیس محبّذاً فی الرؤیة الإسلامیة.
انّ الأموال والثروة واللذائذ الدنیویة لیست هدفاً، بل وسیلة لاختبار الإنسان، ففی الدنیا یُختبر الإنسان تارةً بامتلاك الأموال، وتارةً بعدمها أو تلفها. یُختبر بامتلاك الأموال والثروة لیُعلم كیف یتصرف فیها، ویُختبر بالفقر أو فقدان الأموال لیُعلم هل یصبر ویحافظ على وقاره وعزة نفسه، أو یفقد حلمه ویجزع وینتهی أمره بالإستجداء.
مثل هذا الخوف المذموم ذو درجات مختلفة من القیمة السلبیّة، وسیكون حراماً إذا دفع الإنسانَ نحو ارتكاب الحرام والعمل غیر المشروع. كأن یستخدم وسائل غیر مشروعة فی المحافظة على أمواله، أو التطاول على أموال غیره عندما تتلف أمواله.
فی مثل هذه الحالة من اللازم أن یسعى الإنسان وبتفكیر صحیح لطرد هذا الخوف والقلق من نفسه، ویلتفت إلى هذه الحقیقة وهی انّ متاع الدنیا لیس الاّ وسیلة للاختبار، ولیس له تأثیر بالغ فی تقریر المصیر النهائی للانسان. وعلیه لا ینبغی أن تدفعه الثروة وخوف فقدانها لارتكاب عمل غیر مشروع أو الكفر وعدم الشكر أو الجزع والفزع.
وفی المقابل هناك خوف وغمّ حسن وقیّم ذو درجات مختلفة من القیمة الإیجابیة حسب قیمة التبعات والأعمال التی تنشأ منها.
فمثلاً تستوجب خدمة الوالدین والاحسان إلیهما سعادة الإنسان فی الدنیا والآخرة، فإذا اغتمّ الإنسان لفقدان والدیه لانّهما غیر موجودین لیقوم بخدمتهما وینال ثواب الاحسان إلى الوالدین فانّه أمر محبّذ وقیّم. وهذا النوع من الخوف والغمّ محبّذ إلى درجة تدفع الإنسان للمزید من فعل الخیرات، كأن یتصدّق عنهما ویدعو لهما ویتلو القرآن ویصلی ویهدی ثواب ذلك إلیهما، ولیس إلى درجة الصدّ عن أداء سائر واجباته.
مثل هذا الخوف والغمّ ذو قیمة سامیة لأنّه یدفع إلى القیام بأعمال تستتبع الكمال للولد والخیرات والبركات للوالدین. ولكنْ إذا تجاوز هذا الحدّ كأن یجلس وحیداً ویلطم وجهه بدلاً عن السعی النافع فإنّ مثل هذا الخوف والغمّ غیر محبّذ، وذلك لفقدانه الآثار النافعة والنتائج المثمرة، وقد ذمّت الروایات اللطم غیر النافع بصفته (جزعاً).
أو یدفع غمّ فقدان الوالدین أو الأبناء الإنسان إلى الانزواء وصدّه عن العمل والنشاط الیومی فیعطل دروسه ومباحثته ویتخلّف عن أداء واجباته، ففی جمیع هذه الموارد لم تراعَ الدرجة المعقولة من الغمّ والحزن وتفقد القیمة الإیجابیة.
علینا أن نلاحظ ونقتدی بسیرة العظماء فی المجالات كافة. ینقل انّ صاحب الجواهر (ره) كان له ولد ویكنّ له حبّاً جمّاً ففقده فی شبابه. فی اللیلة التی توفّی فیها ولده وضعوا جثمانه فی غرفة لیتمّ تشییعه ودفنه صباحاً. فی تلك اللیلة كان الوالد المفجوع جالساً إلى جوار جثمان ولده یواصل تألیف كتاب (الجواهر). جلس تلك اللیلة وقال: إلهی لو كنت أعلم أن هناك عملاً آخر له ثواب أكبر لولدی من تألیف كتاب (الجواهر) لفعلته، ولكنّی لا أرى عملاً آخر أهمَّ منه، إنّی أواصل تألیفه إلى الصباح وأهدی ثوابه إلى روح ولدی.
لقد بلغ إیمانه بكتابة (الجواهر) وقیمتها السامیة درجة لم یرَ أیّة عبادة أسمى منها، فواصل الكتابة حتّى الصباح بكلّ طمأنینة.
الیوم أیضاً نعیش ظروفاً یجب فیها على كلّ فرد فی أی موقع كان أداء واجباته المكلّف بها بكلّ ما أوتی من قوة، ولا ینبغی نسیان مسؤولیاته وواجباته الجسیمة بفعل الأحاسیس والغمّ والحزن الشدید.
انّ السرور أحیاناً یدفع الإنسان نحو النشاط الأكبر، لانّ نشاطات الإنسان الجسیمة والفكریة تتحقّق بنحو أفضل عند الشعور بالفرح والانشراح، ومثل هذا السرور والفرح أمر محبّذ.
انّ إدخال السرور على قلوب المؤمنین وممازحتهم سیّما فی السفر والذی یستدعی سرور رفاق السفر یكون مستحبّاً شرعاً لما یترتّب علیه من نتائج محبّذة.
وفی المقابل یؤدی السرور والفرح فی بعض الموارد إلى نسیان الإنسان مصلحته المعنویة والاُخرویة، لانّ الفرح فی ذاته أمر مستساغ ویودّ الإنسان دوام هذه الحالة. فإذا استمر بوسائل غیر مشروعة أو استوجب عملاً غیر مشروع كان ذا قیمة سلبیّة. ولكنْ إذا لم یبلغ هذه الدرجة فانّه یستدعی ـ على الأقل ـألواناً من الغفلة، كالغفلة عن الله عزّوجلّ والآخرة وأداء الواجبات الاجتماعیة المهمة، وبمقدار ما یؤدی بالإنسان إلى الغفلة فإنّه یكتسب قیمة سلبیّة بتلك الدرجة ذاتها.
قال تعالى:
یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ یَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ12.
انّه ذلك الفرح والانشراح السلبی الذی یحدث للانسان عند امتلاك الأموال والأولاد، ولكنّه یتعدّى حدّه حتّى انّ الإنسان یغفل عن ذكر الله سُبحانه وأداء واجباته.
إذنْ یكون الملاك العامّ فی الأحاسیس والانفعالات كافة وقیمتها الإیجابیة والسلبیّة هو كمیة وكیفیة تأثیرها فی بلوغ الإنسان للكمالات الإنسانیة والأهداف النهائیة أو فقدانها.
ینبغی أن یُربّى الإنسان المؤمن بنحو لا یختلج روحه الهیاج عندما ینال زخارف الدنیا أو یفقدها، بل یحافظ فی الحالین على هدوئه ووقاره ویفكّر فقط فی أداء تكلیفه، قال تعالى:
لِكَیْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ13.
لانّ الأموال والأولاد وأمور الدنیا الاُخرى لیست هدفاً، بل وسیلة لاختبار الإنسان فلا ینبغی أن یُسكر نیلُها الإنسان، أو یؤدّی به فقدانها إلى صدّه عن أداء الأعمال والواجبات والانحراف عن التحرّك فی الصراط الإلهی المستقیم والغفلة عن الكمال والهدف النهائی.
1 القصص 10 و 11.
2 طه 40.
3 هود 42.
4 هود 45.
5 هود 46.
6 مریم 47.
7 التوبة 114.
8 الحدید 27.
9 بحار الأنوار ج43 - 283.
10 النور 2.
11 راجع الآیات: هود 70 والنمل 10 والقصص 31 والذاریات 28 وص 22.
12 المنافقون 9.
13 الحدید 23.