بداهة حرمة الاعتداء على اموال الآخرین
ان عدم جواز التصرف بأموال الآخرین قضیة بدیهیة وترتبط بالادراكات والاحكام العملیة، وهی كالقضایا البدیهیة الموجودة فی مجال الادراكات النظریة.
ان الاجواء السائدة على الافكار الفلسفیة هی عدم وجود قضیة أو قضایا بدیهیة فی مجال القضایا الاعتباریة أو الادراكات العملیة. ولكن یبدو أن هناك قضایا بدیهیة فی الاعتباریات أیضا كما فی القضایا النظریة.
و قد ذكرنا فی محله انّ البدیهیات ـ غیر ما یحكى عن الوجدانیات والعلوم الحضوریة ـ ترجع الى القضایا التحلیلیة، أی القضایا التی یمكن الحصول على مفهوم المحمول فیها من تحلیل الموضوع، سواء أكانت القضیة مرتبطة بالادراكات النظریة أو الادراكات العملیة والاعتباریة، دون تفاوت بینها فی هذه الملاحظة.
بناء على ذلك لا اشكال فی ان نستخرج مفهوما من تحلیل موضوع اعتباری ثم نحمل ذلك المفهوم المستخرج من التحلیل على ذلك الموضوع فتحصل قضیة بدیهیة ولكنها اعتباریة.
ان اعتباریة موضوع لا تمنع من استخراج مفهوم آخر من تحلیله، أو حمله بعد التحلیل على ذلك الموضوع ذاته.
بناء على ذلك لا مانع من ان ندعی وجود قضایا بدیهیة فی الادراكات العملیة والأمور الاعتباریة.
كأن نقول مثلاً فی هذه القضیّة: من كان مالكا لشیء فانّ له تسلّطاً عَلى ذلك الشی انّها قضیة اعتباریة وبدیهیة فی الوقت ذاته، إذ انّنا حینما نعلم بملكیة شیء لشخص، فلا معنى لذلك سوى ان هذا الشخص ذو تسلط قانونی على ذلك المال، أی یجوز له قانونیا التصرف فیه كما یشاء، وان لم یكن له تسلط طبیعی على ذلك وكان بعیدا عن متناوله.
على هذا الأساس حینما نقول: (مالك الشیء له تسلط علیه) فانها قضیة بدیهیة، لان مفهوم المحمول فیها وهو التسلط على المال المذكور یستخرج من تحلیل الموضوع فیها وهو عنوان (مالك المال).
بناء على ذلك تكون القاعدة الفقهیة (الناس مسلطون على اموالهم) قضیة بدیهیة، ولو لم یكن لدینا أیُّ دلیل فقهی آخر یدل على اعتبار مضمون هذه القاعدة فانه لاتحدث أیّة مشكلة، لانها قضیة بدیهیة وثابتة فی ذاتها ولا تحتاج الى استدلال. فبمجرد الاقرار بالملكیة فی مذهب فكری ونظام حقوقی فانه یتبعه اقرار بالتسلط على المال ـ شئنا أم أبینا ـ ویستفاد من اضافة (اموال) الى الضمیر (هم) فی هذه القاعدة انّ المراد من (الناس) هو المالكون والصیغة الأصلیة للقاعدة هی (المالكون مسلطون على اموالهم)، ومن تحلیل مفهوم المالك یمكن الحصول على مفهوم التسلط طبعا.
وهكذا قضیة (لا یحل مال امرىء الا عن طیب نفسه)، فانها قضیة بدیهیة واعتباریة اُخرى، لانه كما یمكن ان ندرك من تحلیل المالكیة بان مالك المال یجوز له كل اشكال التصرف فانه یمكن أیضاً ان ندرك عدم جواز أی تصرف فیه من قبل الآخرین. اذا كما یمكن استخراج جواز أیّ تصرف للمالك من تحلیل المالكیة یمكن استخراج منع الآخرین من أیّ تصرف بدون رضا المالك من تحلیل مفهوم المالكیة ایضا، ولیست حقیقة المالكیة شیئاً غیر ذلك، سواء اعتبرنا هذه الأمور جزءاً من المالكیة او من لوازمها التی لا تنفك عنها، ولا فرق فی ذلك ان نفسر المالكیة بانها نوع من التسلط أو نوع من الاختصاص.
على أی حال فان حرمة أو منع التصرف فی اموال الآخرین من ارسخ الأصول الأخلاقیة فی المجتمعات البشریة كافة، ومن القضایا البدیهیة التی لا یتوقف اعتبارها على ان یصادق علیها المقنن أو یقرّ بها الناس، لانه یمثل مضمون المالكیة، وما دامت المالكیة معتبرة فی المجتمعات البشریة فان حرمة التعدی علیها وجواز التصرفات للمالك هما من فروع المالكیة وتوابعها ولوازمها التی لا تنفك عنها فتكون معتبرة. بناء على ذلك اذا كان هناك اختلاف فانه یدور حول أصل المالكیة وشروطها، ومثل هذه الاختلافات لا تضر ببدیهیة هذه القضیة.
إذنْ ما دامت المالكیة مقبولة فان أحد فروعها الواضحة هو انه فی ذلك الحدّ یكون التعدىّ علیها حراماً بشكل واضح وبدیهی، من هنا یكون قبح التعدی على اموال الآخرین من الاحكام البدیهیة والواضحة التی لا یتردد فیها انسان، إذ انّها نتیجة للمالكیة، وأصل المالكیة ولوازمها معتبرة فی المجتمعات البشریة حتى المتوحشة منها، واذا أجاز مجتمع متوحّش لنفسه فی أن یتصرف فی اموال مجتمع أو قبیلة اُخرى فانه یعنی ان من حقه سلب مالكیتها. بكلمة اُخرى ان ما یجیز لهم شن معركة على الآخرین سیكون مجیزاً لهم لتملك اموال الآخرین أیضاً. الاّ انّ هذه القبیلة المهاجمة نفسها تكون ذات علاقات فیما بین افرادها، ویرعى بعض افرادها حرمة البعض الآخر وامواله ولا یعتدی علیها، وحتى السراق الذین یسرقون اموال الآخرین یحكم هذا القانون علاقاتهم الداخلیة ولا یعتدون على الأموال فیما بینهم.