مصادیق الاحسان فی القرآن
فی القرآن الكریم نلاحظ عناوین مختلفة كالزكاة والانفاق والصدقة والاطعام والعناوین المقابلة لها، ویكون بعضها منحصراً بموارد الاحسان، ومفهوم بعضها أعمُّ من ذلك ویندرج تحت العدل أیضاً. ان مادة (الانفاق) مثلاً تعنی البذل ودفع الكلفة المالیة، ویشمل هذا العنوان الانفاقات من قبیل النفقة على الزوجة والاولاد وحتى الأموال التی یبذلها الانسان فی مصروفاته الشخصیة أیضاً، ولكن (الانفاق فی سبیل الله) ـ وهو مورد بحثنا ـ سیكون احسانا لانه عمل لا یتوقع فیه عمل آخر إزاءه من قبل الطرف المقابل كما یحكیه القرآن الكریم على لسان المحسنین بانه عمل یؤدّونه لله سبحانه فقط، كما جاء فی الآیة الكریمة:
(وَ یُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِیناً وَ یَتِیماً وَ أَسِیراً * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِیدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً)([1]).
هذه الآیة تشیر الى ان هذا النوع من الاعمال القائمة على الاحسان تؤدَّى بغیة مرضاه الله فحسب، ولا یتوقع فیها خدمة متبادلة أو عمل مادی من الطرف المقابل ازاءه. وعلیه یمكن القول ان أحد خصائص الاحسان البارزة هو أن یكون لله، ویعتبر من جملة العبادات لا المعاملات، على عكس العدل الذی یُطلق على مصادیق المعاملات أیضاً. ومن المناسب هنا ان نذكر باختصار بعض موارد الاحسان:
1 ـ الزكاة
ان عنوان (الزكاة) فی اصطلاحنا نوع من الضرائب الشرعیة الواجبة والتی عیّن الشارع المقدس حدودها ومتعلقاتها ونصابها ومصارفها، ولكن فی الاصطلاح القرآنی وفی أصل اللغة لا تنحصر فی الضرائب الخاصة. وبعبارة اُخرى انّ الزكاة فی القرآن الكریم هی أعم من الزكاة الواجبة المعیّنة فی الشریعة ومن احسان الانسان الى المعوزین كما ورد فی القرآن: قال تعالى:
(وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ)([2]).
وشأن نزولها ـ كما یقول المفسرون وجاء فی الروایات ـ هو أن امیر المؤمنین(علیه السلام)تصدق بخاتمه على فقیر طلب المعونة من الناس فی المسجد.
وعلیه فان مصطلح (الزكاة) فی القرآن هو اعم من مصطلحه الفقهی والمصطلح الشائع بین المتشرعة، ویشمل الصدقات المالیة المستحبة ایضاً، بل له استعمالات اُخرى فی الكثیر من الموارد التی لا ترتبط بالشؤون المالیة.
ان لفظ الزكاة استعمل فی القرآن الكریم اكثر من ثلاثین مرة مقرونة مع الصلاة فی اغلبها وتم التاكید علیهما بتعابیر مختلفة كقوله تعالى:
(وَ أَقِیمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ)([3]).
أو:
(لكِنِ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ یُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَیْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ الْمُقِیمِینَ الصَّلاةَ وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الآْخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِیهِمْ أَجْراً عَظِیماً)([4]).
(وَ لَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ بَنِی إِسْرائِیلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَیْ عَشَرَ نَقِیباً وَ قالَ اللّهُ إِنِّی مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَیْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِی وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَیِّئاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنّات تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِیلِ)([5]).
وجاء على لسان النبی عیسى(علیه السلام):
(وَ جَعَلَنِی مُبارَكاً أَیْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِی بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَیًّا)([6]).
هذه التعابیر تدل على التقارن بین هذین العملین العبادیین، وتبیّن أهمیة الزكاة فی الفقه والأخلاق الاسلامیة، أی ان أهمیتها الأخلاقیة بلغت درجة تعتبر فیها قرینة للصلاة وفی مستواها.
انّ الزكاة وان كانت من مصادیق الاحسان ولیست قائمة على اساس المعاوضة المادیة، ولكن ترتبت علیها آثار مفهومیة مهمة فی الآیات القرآنیة. قال تعالى فی إحدى هذه الآیات بعد الامر بالصلاة وایتاء الزكاة:
(وَ ما تُقَدِّمُوا لأَِنْفُسِكُمْ مِنْ خَیْر تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ)([7]).
یرید تعالى القول بهذا التعبیر فی الآیة: رغم ظنكم بأنكم فقدتم شیئا بایتاء الزكاة وخروج المال من جیوبكم لابدّ أن تعرفوا انكم لم تفقدوا شیئا فی الواقع لان ما تقدمونه للفقراء فی سبیل الله محفوظ لكم عند الله وسیعاد علیكم حین حاجتكم الماسّة الیه.
لقد بیّن الله عز وجل هذه الحقیقة لیعین معطی الزكاة ویدعم دافعه فی اتیان الزكاة فیؤدی واجبه بسهولة ویكون مؤثراً فی حل المشكلات الاقتصادیة والاجتماعیة.
قال تعالى فی موضع آخر:
(وَ ما آتَیْتُمْ مِنْ رِباً لِیَرْبُوَا فِی أَمْوالِ النّاسِ فَلا یَرْبُوا عِنْدَ اللّهِ وَ ما آتَیْتُمْ مِنْ زَكاة تُرِیدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)([8]).
إذنْ لا یحفظ المال بفضل الزكاة فحسب بل ینمو أیضاً على اساس هذه الآیة ویتضاعف، وقد اكد الله عز وجل على هذا الأجر المعنوی فی عدة آیات كقوله تعالى:
(لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)([9]).
(سَنُؤْتِیهِمْ أَجْراً عَظِیماً)([10]).
(لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَیِّئاتِكُمْ)([11]).
(وَ رَحْمَتِی وَسِعَتْ كُلَّ شَیْء فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ وَ یُؤْتُونَ الزَّكاةَ)([12]).
كما نلاحظ فان الله ینبىء بهذه التعابیر المختلفة عن وجود أجر معنوی للزكاة، ومن خلال ذلك یشیر الى ابعاده أیضا وهی انه أجر عظیم أولا، ویجبر الذنوب الماضیة لمؤتی الزكاة ثانیاً، وهذا الامر مستمر فی المستقبل أیضاً ثالثا، حیث ان معطی الزكاة یكون موضعا للطف الالهی ورحمة الله الواسعة.
وعلیه فان وجود هذا الاجر المعنوی وان استلزام تصویر ایتاء الزكاة على صورة (معاوضة) الاّ انّها لیست مادیة بل سیكون عوضها أجراً معنویاً أولاً، ولا یطلب هذا العوض من الطرف الآخر ـ أی من أحسن الیه واستلم الزكاة ـ ولا یستلمه منه، بل انه یعطی الزكاة للفقیر ویتلقى اجره من الله أو یطلبه منه. إذنْ لا منافاة بین أن یتلقى أو یطالب بأجر وثواب مقابل الزكاة وبین ان نعتبره من مصادیق الاحسان، كما انه لا یكون غیر منسجم مع اعتبار الزكاة عملاً عبادیا واخلاقیا، وان كان العمل الأخلاقی یمكن ان تكون له درجات أعلى أیضاً، الا ان هذا العمل بما انه ذو أجر معنوی لا مادی فانه یُعتبر من الاعمال العبادیة والأخلاقیة.
2 ـ الصدقة
ورد لفظ (الصدقة) فی القرآن كثیراً، والصدقة كالزكاة اكتسبت مفهومها الخاص لدى المتشرعة، وتطلق على المعونات المالیة المستحبة التی یقدمها الانسان المتعبد العارف بواجباته الى الفقراء اضافة الى تكلیفه الواجب، وتكون فی مقابل الزكاة المالیة الواجبة، الا ان للصدقة فی القرآن مفهوماً واسعاً جداً كالزكاة، فتطلق على الزكاة الواجبة اضافة الى الصدقات المستحبة كما ورد فی هذه الآیة:
(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِینِ وَ الْعامِلِینَ عَلَیْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِی الرِّقابِ وَ الْغارِمِینَ وَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ فَرِیضَةً مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَلِیمٌ حَكِیمٌ)([13]).
هذه الآیة استعملت لفظ الصدقة فی مورد الزكاة الواجبة وبیّنت موارد صرفها أیضاً.
لقد استعملت الصدقة فی الموارد المستحبة أیضاً، حتى فی موارد كمهر الزواج قد استعملت فیه وهی من مشتقّات هذه المادة كقوله تعالى:
(وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً)([14]).
اطلق هنا (صدُقة) بضم الدال على مهر المرأة ویشارك (صدقة) فی أصل الاشتقاق. وقد استعمل لفظ الصدقة واشتقاقاتها فی اكثر من عشرین مورداً فی القرآن مثل: التصدّق والصدقة ومصّدّقین ومصّدّقات ومتصدّقین ومتصدّقات.
لقد استعملت تعابیر جمیلة فی القرآن بشأن الصدقة أو ترتبت علیها آثار جذابة ترغّب الناس فی ممارستها كقوله تعالى:
(وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَیْرٌ لَكُمْ وَ یُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَیِّئاتِكُمْ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِیرٌ)([15]).
(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّیهِمْ بِها)([16]).
(إِنَّ الْمُصَّدِّقِینَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ وَ أَقْرَضُوا اللّهَ قَرْضاً حَسَناً یُضاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِیمٌ)([17]).
(إِنَّ اللّهَ یَجْزِی الْمُتَصَدِّقِینَ)([18]).
(إِنَّ الْمُسْلِمِینَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْقانِتِینَ وَ الْقانِتاتِ وَ الصّادِقِینَ وَ الصّادِقاتِ وَ الصّابِرِینَ وَ الصّابِراتِ وَ الْخاشِعِینَ وَ الْخاشِعاتِ وَ الْمُتَصَدِّقِینَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ)([19]).
3ـ إقراض الله
من التعبیرات الشائعة فی هذا المجال هو إقراض الله عز وجل، ففی ست آیات یرغّب الله الناس بتعابیر مختلفة فی إقراض الله، أو یثنی على الذین یقرضون الله كقوله تعالى:
(مَنْ ذَا الَّذِی یُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَیُضاعِفَهُ لَهُ)([20]).
لقد تكرر هذا الامر فی عدة موارد وبتعابیر مختلفة فی القرآن.
یظن البعض انّ المراد من هذه الآیات هو المال الذی یعطیه الناس للآخرین بصورة قرض، ولكن ینبغی الالتفات الى انّ المراد الرئیسی من إقراض الله فی هذه الآیات هو التصدق والانفاق، وقد استعمل الله عز وجل هذا التعبیر ترغیبا للناس فی الانفاق والتصدق لیفهم الناس انّ المال الذی یتصدقون به لن ینعدم، بل انهم یعطونه لله قرضا، ویبقى لدیه محفوظاً، وسیسترجعونه منه عندما تشتد حاجتهم الیه.
4 ـ إطعام الفقراء
ان اطعام المسكین هو من موارد الصدقة والزكاة والانفاق، وهو أخصُّ منها. وقد ورد هذا التعبیر فی عدة آیات واستعمل بنحو خاص وبلغة التهدید فی الذین لا یعبأون ویغفلون عن مصیر الفقراء والمحتاجین الذین هم بحاجة الى وجبة طعام ولقمة عیش، جاء فی آیة:
(یَتَساءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِینَ * ما سَلَكَكُمْ فِی سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّینَ * وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِینَ)([21]).
وقال تعالى فی آیة اُخرى:
(وَ أَمّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَیْهِ رِزْقَهُ فَیَقُولُ رَبِّی أَهانَنِ * كَلاّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْیَتِیمَ * وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِینِ)([22]).
یستفاد من بعض الآیات ان الأساس فی عدم الاهتمام بالفقراء هو عدم الایمان بالقیامة والتكذیب بها، قال تعالى:
(أَ رَأَیْتَ الَّذِی یُكَذِّبُ بِالدِّینِ * فَذلِكَ الَّذِی یَدُعُّ الْیَتِیمَ * وَ لا یَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِینِ)([23]).
أجل ان اطعام مسكین جائع أیام المجاعة والعَوز له قیمة سامیة فی رؤیة القرآن، وان عدم الاكتراث بمثل هذا الانسان على هذه الحالة یثیر سخط الله الشدید.
5 ـ الزكاة بتعبیرات اخرى
فی آیات اخرى یؤكد الله عز وجل على هذه الحقیقة من خلال ثنائه على المتقین باعتبارها إحدى الصفات البارزة فیهم بقوله تعالى:
(فِی أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسّائِلِ وَ الَْمحْرُومِ)([24])
فی هذه الآیات عبّر عن الزكاة أو الصدقة بـ (حق معلوم)، وهو المقدار الواجب دفعه للمعوزین كزكاة واجبة، ویشمل المقدار الزائد الذی یعیّنه الانسان ویجعله معلوما لیدفعه كصدقة مستحبة.
التعبیر الآخر فی هذا المجال هو التعبیر بـ (اعطاء) المستعمل فی سورة (اللیل) قال تعالى:
(فَأَمّا مَنْ أَعْطى وَ اتَّقى * وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُیَسِّرُهُ لِلْیُسْرى * وَ أَمّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنى * وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُیَسِّرُهُ لِلْعُسْرى )([25])
[1]. الانسان 8 و 9.
[2]. المائدة 55.
[3]. البقرة 43.
[4]. النساء 162.
[5]. المائدة 12.
[6]. مریم 31.
[7]. البقرة 110.
[8]. الروم 39.
[9]. البقرة 277.
[10]. النساء 162.
[11]. المائدة 12.
[12]. الاعراف 156.
[13]. التوبة 60.
[14]. النساء 4.
[15]. البقرة 271.
[16]. التوبة 103.
[17]. الحدید 18.
[18]. یوسف 88.
[19]. الاحزاب 35.
[20]. البقرة 245.
[21]. المدثر 40 ـ 44.
[22]. الفجر 16 ـ 18.
[23]. الماعون 1 ـ 3.
[24]. المعارج 24 و 25.
[25]. اللیل 5 ـ 10.