جـ ـ النقاش أو الحوار متعدد الاطراف
انّ النقاش یعنی الحوار بین شخصین أو عدة اشخاص وتبادلهم الافكار بشأن موضوع ما وطرح الاشكالات وتوضیح المبهمات والاجابة عنها. فالانسان قد لا یصل بتفكیره حول موضوع ما الى نتیجة فیدخل فی نقاش وحوار مع الآخرین للانتفاع من أفكارهم حول ذلك الموضوع. والاشخاص یهدفون فی نقاشهم الى أهداف نشیر الى بعضها:
1 ـ رفع الابهام عن الحق
المشاركون فی هذا الحوار ینتفعون بأفكار وعلوم ومعارف یبیّنها بعضهم لبعض بنحو متبادل، كبحوث العلماء والمحقّقین وحوارهم حیث یقومون ببحث النقاط المبهمة والموضوعات المقصودة كی ینتفعوا بأفكار الآخرین، وتصبح افكارهم اكثر نشاطا وعمقا حین البحث.
انّ النقاش أمر محبّذ ونافع. وینشّط افكار افراد الانسان بالبحث، وتترتب علیه آثار وبركات وفوائد أهمُّ، ولذا اعتبر عبادة.
وفی الروایات ارشادات وردت عن ائمتنا بشأن تبادل الافكار والانتفاع بالآراء فقد روی عن امیر المؤمنین(علیه السلام)قوله:
«اضربوا بعض الرأی ببعض یتولد منه الصواب».
2 ـ ارشاد الطرف الآخر
یكون الهدف من الحوار أحیاناً هو ارشاد الآخرین، أی ان الامر یكون واضحا لدى المحاور ولا یشك فیه ولا یرید الانتفاع من غیره بل یرید توضیح الامر للآخرین، أو یستجیب لدعوتهم ایاه للبحث والحوار ویشارك فی المناقشة والتباحث معهم لانه یرى ان هذا الاسلوب هو الأنفع فی ارشاد الآخرین وتعلیمهم، ویعتقد ان اجابة دعوة الآخرین تجلب رضى الله تعالى اكثر. وعلیه یكون هذا الدافع ارفع وهذا النقاش والحوار محبّذا ونافعا.
3 ـ الجدال والتعصب المرفوض
قد یصّر الانسان على أمر ما رغم علمه ببطلانه ویدخل فی المناقشة والجدال، وهدفه هو عدم التنازل للطرف الآخر والتغلب علیه فی الحوار واثبات قوله واغواء الطرف الآخر أو تبریر سلوكه أو خداع شخص ثالث یتابع المناقشة، أو للزهو بتفوُّقه على الطرف الآخر فی المعلومات، أو هناك دوافع شیطانیة اخرى تدفعه للجدال والحوار العقیم.
من البدیهی ان تكون هذه المناقشات والحوارات بهذه الأهداف مرفوضة ومذمومة، إذ انّها اضافةً الى تضییع الوقت تكون سببا لتقویة خصلة التعصب والانانیة والریاء فی الانسان، واضافة الى هذه النتائج المرّة التى ذكرناها اذا كانت سببا لاضلال الغیر أیضاً فانها تُعد معصیة كبیرة وخطأ عظیماً حیث انها توجب ضیاع نفسه وضلال الآخرین، وسیكتب اسمه فی زمرة الضالین المضلین.
هناك آیات قرآنیة كثیرة حول الجدال والاحتجاج، ومن جملة ذلك احتجاج الانبیاء(علیهم السلام) مع اقوامهم والضالین والمعارضین بهدف هدایتهم وارشادهم، وتعتبر شاهداً على صحة هذا الامر وضرورته.
من جهة اُخرى هناك آیات اُخرى فی القرآن الكریم تذمّ الجدال، وبألتامل فیها یتّضح ان هذه الآیات ترتبط بأشخاص أرادوا اثبات اقوالهم أیّاً ما كانت وكانوا یتعصبون حتى فی الموارد التی یعلمون ببطلان كلامهم فیها أو كان هدفهم هو اضلال الناس.
فی هذه الموارد وبهذه الدوافع لا یكون الدخول فی المناقشة والحوار مذموما فحسب، بل من الخطأ أیضاً الاستجابة لهؤلاء الاشخاص والدخول فی المناقشة معهم. من هنا یخاطَب النبی(صلى الله علیه وآله وسلم)فی بعض الموارد بان لا یجادل هؤلاء الاشخاص. نذكر هنا بعض آیات الجدال:
(وَ یُجادِلُ الَّذِینَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِیُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَ اتَّخَذُوا آیاتِی وَ ما أُنْذِرُوا هُزُواً)([1]).
(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یُجادِلُ فِی اللّهِ بِغَیْرِ عِلْم وَ یَتَّبِعُ كُلَّ شَیْطان مَرِید)([2]).
(وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یُجادِلُ فِی اللّهِ بِغَیْرِ عِلْم وَ لا هُدىً وَ لا كِتاب مُنِیر * ثانِیَ عِطْفِهِ لِیُضِلَّ عَنْ سَبِیلِ اللّهِ لَهُ فِی الدُّنْیا خِزْیٌ وَ نُذِیقُهُ یَوْمَ الْقِیامَةِ عَذابَ الْحَرِیقِ)([3]).
واعتبرت آیة اُخرى انّ المنشأ لهذا الجدال هو التكبر وتمحور الذات، قال تعالى:
(إِنَّ الَّذِینَ یُجادِلُونَ فِی آیاتِ اللّهِ بِغَیْرِ سُلْطان أَتاهُمْ إِنْ فِی صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِیهِ)([4]).
هذه الآیات وآیات اُخرى تخطّىء الجدال العقیم والمضرّ، وتعتبره اتّباعا للشیطان ووسیلة لاضلال الناس عن سبیل الله، وترى ان منشأه هو التكبر وتتوعّد علیه بالعذاب. وذمت آیات اُخرى الجدال واعتبرته منشأ لغضب الله والمؤمنین ومساویا للضلال.
كما فی قوله سبحانه:
(الَّذِینَ یُجادِلُونَ فِی آیاتِ اللّهِ بِغَیْرِ سُلْطان أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ وَ عِنْدَ الَّذِینَ آمَنُوا كَذلِكَ یَطْبَعُ اللّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّر جَبّار)([5])
وقوله تعالى:
(یَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِها وَ الَّذِینَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَ یَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِینَ یُمارُونَ فِی السّاعَةِ لَفِی ضَلال بَعِید)([6])
وقد أمر الله المسلمین فی آیة بقوله تعالى:
(وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاّ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ)([7]).
ویأمر النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) فی آیة اُخرى بانتهاج الاسلوب اللیّن والجدال بالتی هی أحسن مع أهل الكتاب والذین یریدون معرفة الحق، قال تعالى:
(ادْعُ إِلى سَبِیلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ)([8]).
علیك ان تدعوهم الى الحق باخلاص ولین. فالجدال بالتی هی احسن أمر محبَّذ ولا یذمُّه القرآن، ولكن اذا اتصف الجدال بالتعصب المرفوض واللجاج وحب الاستعلاء وسائر الدوافع الردیئة فانّ الكلام سوف یفقد تأثیره ویغدو مذموماً من وجهة نظر القرآن الكریم، وعلى المؤمن الاحتراز منه.
[1]. الكهف 56.
[2]. الحج 3.
[3]. الحج 8 و 9.
[4]. غافر 56.
[5]. غافر 35.
[6]. الشورى 18.
[7]. العنكبوت 46.
[8]. النحل 125.