القرآن والكلام
الكلام من خصائص الانسان المهمة التی اعتمد علیها القرآن أیضا، قال تعالى:
(خَلَقَ الإِْنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَیانَ)([1]).
فالكلام من النعم الكبرى التی تفضَّل الله سبحانه بها على الانسان، وقد التفت الانسان الى أهمیته منذ القِدم، وكأنه بهذه المناسبة اطلق (الناطق) كعلامة خاصة وفصل ممیز للانسان ویعتبر معادلاً للعاقل.
لقد طرحت قیم مختلفة للكلام فی القرآن الكریم تتعلق تارة بماهیة الكلام، وتارة بالعناوین العرضیة الطارئة علیه، ونشیر هنا الى بعضها:
القیمة الاُولى للكلام هو الصدق والكاشفیة عن الواقع. وهناك قیم اُخرى ترتبط بكیفیة التكلم كأن یكون الكلام مؤدبا أو غیر مؤدب، فظاً أو لینا وهی أمور عرضیة للكلام، أی هی من القیم والعناوین التی تعرض على الكلام وغیره، كسلوك الانسان، نظیر التواضع والرحمة والعطف والادب والفظاظة والسخط والتكبر، وعلیه فانها قیم تعرض الكلام وغیره، وهنا نشیر الى بعض القیم القرآنیة:
1 ـ الصراحة
الصراحة فی الكلام تقابل الابهام والاجمال، فالكلام یُلقى مجملاً تارة، خاصة بالنسبة للسیاسیین حینما یتحدثون بكلام یحتمل تفسیرات مختلفة، وبالتالی لا تتّضح افكارهم ومقاصدهم ونیاتهم الباطنیة وصداقتهم أو عداؤهم ورفضهم أو تأییدهم، ویُلقى تارة على العكس حیث یعلن الانسان ویصرّح للمخاطب بما یریده بنحو لا یمكن حمله على معانی اُخرى.
یمكن القول انّ الصراحة فی الكلام مطلوبة فی بعض الموارد. حینما یرتبط الامر بمصالح الانسان والمجتمع الأساسیة، فلابدّ من الكلام الصریح لوضع حد للتفسیرات والتحلیلات الشخصیة الخاطئة التی تتطابق مع المصالح الفئویة أو الشخصیة.
ان الانبیاء لم یلجأوا الى الاجمال فی ابلاغ رسالتهم وبیان الغایة من تحركهم أبداً، بل كانوا یصرّحون حینما یواجهون من یعارضهم بان عقیدتنا تخالف عقیدتكم. كان النبی ابراهیم یقول بصراحه لاعداء الله وعبدة الأصنام:
(وَ بَدا بَیْنَنا وَ بَیْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَحْدَهُ)([2]).
كانوا یُفهمونهم بان هذا الامر یمثل مسؤولیة اساسیة وغایتنا الاُولى ولا یتحمل المساومة والتفاوض أبداً.
وكان الكفار فی عصر النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) یرغبون فی مداهنة المسلمین ایاهم، ولعله كان بین المسلمین والمؤمنین من یفضّل الراحة ویتحفظ ولا یحب وقوع الحرب، وقد أشار الله عز وجل الى ذلك فی القرآن حیث یقول:
(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَیُدْهِنُونَ)([3]).
ولكن ینبغی الالتفات الى انّ القضایا الأساسیة لا تحتمل اللین والتسامح، ولابدّ من التأكید الجازم على هذه القضایا بصراحة، وهكذا یشیر القرآن فی موارد مختلفة الى عدم امكان التنازل والضعف والمداهنة فی بعض القضایا نظیر قوله تعالى:
(قُلْ یا أَیُّهَا الْكافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ * وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ * وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ * وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ * لَكُمْ دِینُكُمْ وَ لِیَ دِینِ)([4]).
فی هذه السورة یأمر الله النبی بأن یقول لهم بصراحة: لیس الدین امراً یجوز لنا التصالح معكم بشأنه، بأن نعبد الأصنام یوما ونعبد الله فی یوم آخر! انّ القضایا المبدئیة ترتبط بالمصیر الواقعی لبنی الانسان وكمالهم الحقیقی، فلا ینبغی التفریط بها نتیجةً للتساهل والتنازل والتحدث بالمجملات. نعم، قد تستدعی المصلحة أحیاناً عدم التحدث بصراحة ویكون الخطاب مقرونا بلون من الاجمال واللین، لكن مثل هذه الموارد قلیلة جدّاً، والضرورات تتقدّر بقدرها.
2 ـ اللین
وهو من الصفات والقیم الایجابیة فی مجال الكلام، ویعتبر فی مقابل الفظاظة والحدة ویمكن القول: ان لهاتین الصفتین المتضادتین جانبین:
الاول هو الجانب الروحی والنفسی، ویؤثر فی الكیفیة المعنویة للكلام وانتخاب العبارات واسلوب المواجهة مع المخاطب.
الثانی هو الجانب الصوری والظاهری للكلام، والذی یؤثر فی لحنه والاطالة فیه أو الاختصار.
عن الجانب الاول ینبغی القول: كان الانبیاء مأمورین بالتحدث بلین حتى لدى مواجهتهم لاعداء الله والمشركین والفراعنة لكی یستمیلوا قلوبهم القاسیة. عندما خوطب النبی موسى وأخوه هارون(علیهما السلام)بالتوجه الى فرعون لدعوته الى عبادة الله أوصاهما الله سبحانه:
(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَیِّناً لَعَلَّهُ یَتَذَكَّرُ أَوْ یَخْشى)([5]).
ان خصلة اللین مطلوبة فی كل الموارد عدا موارد الاستثناء، قال تعالى وهو یثنی على النبی(صلى الله علیه وآله وسلم):
(فَبِما رَحْمَة مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)([6]).
بدیهی ان هذه الآیة لا تهتم بلیونة الكلام فقط بل تشمل جمیع الجوانب، ولكن من المسلّم به انّ الكلام من أبرز وأهمّ الشواهد للین الانسان أو فظاظته واكثرها شیوعا. إذنْ حینما یحكی الله عز وجل عن لین النبی كخصلة بارزة فی شخصیته وعامل لاجتذاب الناس فمن الممكن حمله على اللین فی الكلام الذی یمثل أوسع وأعمق وسیلة للعلاقات الانسانیة والاجتماعیة.
وعن الجانب الثانی للین او الفظاظة والذی یرتبط بلحن الكلام ویتعلّق بالشكل فانّ القرآن یدعو المسلمین الى الكلام الهادىء وعدم رفع الصوت، وفی بیانه لنصائح لقمان لابنه یحكی القرآن قوله له:
(وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَْصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِیرِ)([7]).
انّ الكلام بصوت مرتفع والصراخ سلوك مرفوض، لان الكلام یلقى لإسماع المخاطب، فرفع الصوت فوق الحد المطلوب لا یترتب علیه غیر الضرر والآثار السیئة، مضافا الى انه عمل باطل یؤذی المخاطب ویتعبه ویزاحم الآخرین ویمنعهم من التحدث، وقد بیّن الله فی الآیة الاخیرة قبح كلام الانسان بلحن مرتفع من خلال التشبیه والمثال القصیر البلیغ.
3 ـ التواضع والادب
من القیم الأخلاقیة عند الكلام هو رعایة التواضع والادب سیّما وانّ القرآن قد أكّد علیهما فی موارد خاصة نظیر التخاطب مع الوالدین، قال تعالى:
(وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِیماً)([8]).
ومراد هذه الآیة من القول الكریم هو الكلام المؤدب. انّ التواضع والادب فی القول والسلوك مطلوبان فی ای مكان. ان كلام الانسان إذنْ سیّما مع ذوی الحقوق علیه وبالاخص مع الوالدین یجب ان یكون متواضعا، لان المصلحة الاجتماعیة وحقوق افراد المجتمع وأعضائه تُضمن بنحو افضل عن هذا الطریق.
ان الادب والتواضع فی الكلام یؤلف بین القلوب ویبعد المتكلم عن الغرور والتكبر والانانیة التی تضر بكماله الروحی والمعنوی، وعلیه فان من اللازم رعایة الادب فی كل عمل ومنه الكلام، الا فی موارد استثنائیة حیث یكون رعایة الادب فیها ذا تأثیر سلبی فتجب الفظاظة والشدة. یوجد هنا أیضاً استثناء كأی مجال آخر.
ففی العلاقات الاجتماعیة قد توجد موارد یحسن فیها الصراخ والتحدث بصورة الأمر، فتكون رعایة التواضع فی تلك الموارد عدیمة الفائدة أو مرفوضة، فمثلاً من ظُلم وسُلبت أمواله أو ضُرب وأراد الاستنجاد بالآخرین كی ینقذوه من ظلم الآخرین وتعسُّفهم، فلو كان كلامه هادئاً ومؤدباً لتناقض ذلك مع هدفه ولا یغیثه أحد، قال تعالى بهذا الشأن:
(لا یُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ)([9]).
من كان مظلوماً فلابأس فی أن یرفع صوته ویعلن عن ظلامته، الاّ انّ مثل هذا مورد استثنائی، ویكون الالتزام بالادب واللین واللطف فی الكلام مبدأ وقاعدة عامة مطلوبة فی كل مكان.
4 ـ الصدق
ان الاحتیاج الى الكلام یمثل میل الانسان لإعلان ما فی ضمیره وبیان معلوماته حتى ینكشف للآخرین ما یجهلونه، سواء أكان هذا المجهول أمراً باطنیا وكامناً فی ذهن الانسان وفكره وباطنه، ویرید المتكلم إعلام الآخرین عن احاسیسه وافكاره أو حالاته الداخلیة، أو كان أمراً خارجیا وعینیاً ومحسوساً لم یطلع علیه الآخرون ولم یشاهدوه، وهو یرید بیانه لهم لانه قد شاهده.
الكلام إذنْ وسیلة لكشف أمر واقعی مجهول، ویستفید بنو الانسان بعضهم من بعض حینما یكون الكلام كاشفا عن الواقع والحقیقة وصادقا ومطابقا للواقع. فاذا كان الكلام وسیلة لكتمان الحقائق بدلا عن كشفها أو لقلب الحقائق فان الكلام یكون قد انحرف عن طریقه الواقعی وفلسفته الوجودیة ویصبح نقضاً للغرض. من هنا تكون القیمة الایجابیة والحسنة للصدق من البدیهیات التی یدركها كل انسان. ویقال انّ العقل یدرك حسن الصدق وقبح الكذب فطریا، وكل انسان یدرك ـ على الاقل ـ بنحو ارتكازی انه یود التعرف على الواقع كما هو علیه، ویعتقد انّ الكلام یكشف عن الواقع وانه وسیلة للاعلان عنه، ویرغب بشدة فی ان یفهم الأمور الواقعیة عن طریق الاستماع. وبناء علیه اذا تجلى له عكس الواقع فی الكلام كان ذلك على خلاف ما یحتاج الیه، كما انه لاینسجم مع المصلحة الاجتماعیة لبنی الانسان فی الحیاة الاجتماعیة التی ینبغی قیامها على اساس الواقع والصدق.
المطلوب أصالة إذنْ والمنسجم مع الحاجة الفطریة والمصلحة الاجتماعیة لحیاة الانسان هو الصدق وكون الكلام كاشفاً عن الواقع. لدینا آیات وروایات كثیرة بهذا الشأن، ولكن كما قلنا فانّ القیمة الایجابیة للصدق من البدیهیات، ولا حاجة الى ادلة تعبدیة لإثباتها.
ورغم ذلك نشیر الى عدة آیات كاُنموذج:
فقد قال تعالى واصفاً العباد الصالحین مثنیا علیهم:
(الصّابِرِینَ وَ الصّادِقِینَ وَ الْقانِتِینَ وَ الْمُنْفِقِینَ وَ الْمُسْتَغْفِرِینَ بِالْأَسْحارِ)([10]).
وقال فی وصف القیامة:
(هذا یَوْمُ یَنْفَعُ الصّادِقِینَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهارُ خالِدِینَ فِیها أَبَداً رَضِیَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ)([11]).
أجل، ان ما ینفع الانسان فی القیامة ویستتبع فلاحه هو الصدق.
وفی آیة اخرى أمر المؤمنین بالتقوى ومرافقة الصادقین، قال تعالى:
(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِینَ)([12]).
وفی آیة اُخرى وعد المؤمنین لما فیهم من صفات ممیزة، ومن جملتهم وعد النساء والرجال الصادقین بالمغفرة والاجر العظیم، قال تعالى:
(إِنَّ الْمُسْلِمِینَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُؤْمِناتِ ... وَ الصّادِقِینَ وَ الصّادِقاتِ ... أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِیماً)([13]).
ان للصدق طبعا قیمة معنویة خاصة فی الثقافة القرآنیة خاصة حینما یذكره بإجلال وثناء كبیر وأجر عظیم، ولیس المراد صدق الانسان فی عبارة بسیطة، فالله تعالى یذكر الصادقین فی بعض الآیات بعلامات عقائدیة واخلاقیة وسلوكیة خاصة. ویشیر الى انه لیس من السهل ان یكون الانسان صادقا، قال تعالى:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِینَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ یَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ)([14]).
هذه الآیة تصف الصادقین بخصائصهم نظیر الایمان بالله ورسوله(صلى الله علیه وآله وسلم)والجهاد بالاموال والانفس وتقول بان هؤلاء هم المؤمنون فی الواقع وهم الصادقون فی ایمانهم.
[1]. الرحمن 3 و 4.
[2]. الممتحنة 4.
[3]. القلم 9.
[4]. الكافرون 1 ـ 6.
[5]. طه 44.
[6]. آل عمران 159.
[7]. لقمان 19.
[8]. الاسراء 23.
[9]. النساء 148.
[10]. آل عمران 17.
[11]. المائدة 119.
[12]. التوبة 119.
[13]. الاحزاب 35.
[14]. الحجرات 15.