الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر (1)
ـ نموذج آخر لعاقبة ترك الأمر بالمعروف
ـ سعة معنى الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر
ـ سعة معنى الجهاد
فی الفصل الماضی طرحنا بعض الأسئلة التی تدور حول عاشوراء ونهضة الامام الحسین(علیه السلام) فقلنا: لمّا كان هَدف هذه النهضة هو طلب الاصلاح فی امّة الرسول(صلى الله علیه وآله)والأمر بالمعروف والنهی عن المنكر فهل الاسلوب الذی اتّخذه سیّد الشهداء(علیه السلام)ـ ممّا أدّى به الى الظفر بالشهادة ـ هو مصداق للاصلاح والأمر بالمعروف والنهی عن المنكر أم لا؟ وهل انّ الامام(علیه السلام) قد حصل على هدفه من هذه النهضة أم لا؟
حاولنا فی الفصل الماضی ان نتعرّف على مفهوم الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر من خلال الآیات الكریمة والروایات الشریفة، ونقلنا بعض الروایات تیمّناً وتبرّكاً وقدّمنا بعض التوضیحات لها بالمقدار الذی وفّقنا اللّه الیه. وانطلاقاً من معرفتنا لمفهوم الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر فی الآیات والروایات نحاول ـ بعون اللّه وتوفیقه ـ ان نطرح فی هذا الفصل بحثاً تحلیلیّاً فنیّاً لهذا الموضوع. ولعلّ فیه صعوبةً بالنسبة لبعض القرّاء، ولكنّنا نعتمد على الوعی العلمیّ المتنامی بین الناس بحیث أصبح الكثیر منهم مؤهّلاً لاستیعاب التحلیل العلمیّ، ونحاول ـ مهما استطعنا ـ أن نقدّم للموضوع التوضیحات اللازمة، ونرجو من القرّاء الكرام ان یعذرونا اذا استخدمنا بعض الاصطلاحات العلمیّة.
نحن نعلم انّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر قد ذُكر فی الرسائل العملیّة بعنوان انّه تكلیف عامٌّ، ویذكر الخطباء والمبلّغون والشارحون للأحكام انّ لهذا الواجب شروطاً ومراتب. وبالنظر الى هذه الشروط والمراتب یُطرح هذا السؤال وهو:
كیف یمكن عدّ ماقام به سیّد الشهداء(علیه السلام) من قبیل الأمر بالمعروف مع انّه لا یتطابق مع الأمر بالمعروف الذی نعرفه؟ لقد ذُكر فی الرسائل العملیّة انّ الأمر بالمعروف اذا كان یؤدّی الى الضّرر ـ وحتّى الخوف من الضّرر ـ فالتكلیف ساقط. أمّا بالنسبة الى سیّد الشهداء(علیه السلام) فمع انّه كان متیقّناً من الضرر فقد أقدم على هذه النهضة، فكیف یمكننا ان نعدّها أمراً بالمعروف؟
لكی بتعمّق أكثر فی مفهوم الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر وموارد استعماله فی الروایات نصل إلى هذه النتیجة، وهی انّ الأمر بالمعروف یعنى دفع الآخرین للقیام بالأعمال الحسنة، فان كان القیام بذلك العمل الحسن واجباً فانّ الأمر یصبح واجباً أیضاً، وان كان العمل الحسن مستحبّاً فانّ الأمر به مستحبّ أیضاً. فالأمر بالمعروف بعنوان انه «واجب شرعی» لا یكون إلاّ فی مجال «التكالیف الواجبة»، ومعناه دفع الآخرین لیقوموا بتكالیفهم الواجبة. وهذا الدفع له مراتب ودرجات. فاذا أردنا ان نحمل شخصاً على القیام بعمل معیّن فلابدّ لنا من قطع هذه المراحل المختلفة لهذا الأمر.
وأوّل مورد قد یواجهنا فی هذا المضمار هو موضوع الشباب الذین وصلوا حدیثاً الى سنّ البلوغ والتكلیف. فنحن ـ مثلاً ـ نرید أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر شخصاً قد وصل توّاً الى سنّ التكلیف، فنقوم بتعلیمه الصلاة لانّه لایعرف كیف یصلّی بشكل صحیح. انّ هذا یعتبر لوناً من الأمر بالمعروف، ویُطلق علیه اسم «تعلیم الجاهل».
أمّا اذا تعلّم الصلاة ولكنّه فی بعض الأحیان یتكاسل فلاینهض من النوم صباحاً إلاّ متأخراً فیفوّت بعض الصلوات ولا یؤدّیها فی أوقاتها الشرعیّة فتصبح قضاءً علیه، ونحن نرید أن نرغّبه لیؤدّی الصلاة فی وقتها المحدّد فانّ هذا لون آخر من الأمر بالمعروف.
اذن فالأمر بالمعروف له مصداقان واضحان: أوّلهما یتعلّق بالشخص الذی لا علم له ویُراد تعلیمه، سواء أكان لا یعلم الحكم أم لا یعلم موضوعه، فهو لا یعلم انّ الصلاة واجبة أم لا یعلم كیف یصلّی. والتمثیل بالصلاة لیس دقیقاً لانّ الجمیع یعلم بوجوبها، لكنّه توجد واجبات اخرى لیس الكلّ عالماً بوجوبها، إذنْ تعلیم المسائل والأحكام لون من ألوان الأمر بالمعروف.
إلاّ انّ اصطلاح الأمر بالمعروف لا یشمل ـ بذاته ـ تعلیم الجاهل، واذا توسّعنا فیه بحیث یشمل تعلیم الجاهل فانّ ذلك اعتماداً على سعة ملاكه، بمعنى أنّ الملاك الذی أوجب اللّه تعالى الأمر بالمعروف على أساسه شامل للشخص الذی لا علم له ولابدّ من تعلیمه. ومن الواضح انّ هذا لیس هو المفهوم الأصلیّ للأمر بالمعروف.
ومن ناحیة اخرى نلاحظ ـ مثلاً ـ وجود شخص یعلم بوجوب الصلاة وهو مطّلع على مسائلها وكیفیّة ادائها، وهو یعیش فی جوّ اجتماعیّ ینظر الى الصلاة بعنوان كونها قیمة اجتماعیّة رفیعة ویعدّ تركها ذنباً عظیماً وأمراً مضادّاً للقیم، ولهذا اذا وصف شخص بانّه تارك للصلاة فانّه یُعتبر هجاءً جارحاً وشتماً لاذعاً. أتذكّر فی طفولتی انّ الجوّ الاجتماعیّ كان بهذا الشكل، فاذا قیل لشخص انّه تارك للصلاة فانّه یطأطئ برأسه ویخجل من انّه كیف عرف الناس ذلك، ویعتذر بانّه قد نسی أو كان له عذر فی ذلك. والحاصل انّ القول یؤثّر فیه ویعتبر نصیحة له وموعظة، وهو أیضاً یتّعظ به. وقد ورد فی بعض الروایات: «انّما یؤمر بالمعروف ویُنهى عن المنكر مؤمن فیتّعظ أو جاهل فیتعلّم».(1)
ولكنّه أحیاناً تغدو الظروف بشكل آخر، فلایكون الجوّ الثقافیّ السائد فی المجتمع اسلامیّاً، فالشیء الواجب الّذی نرید الأمر به لا یُعتبر قیمة أصلاً ولا یُعدّ
1. بحار الانوار، ج 100، ص 71، الباب 1، الروایة 3.
تركه شیئاً مضادّاً للقیم. فالجوّ السائد هو بحیث اذا قیل لشخص لماذا تقوم بهذا الفعل فانّه یجیبك فوراً: أنا لا اُحبّ ذلك! وما علاقتك بما أفعل وما لا أفعل! وهل أنت متطفّل!
واذا قلت له: انّ هذا مخالف للشریعة الاسلامیّة، وقد جاءت الثورة الاسلامیّة لكی تُنفّذ أحكام الشریعة، وقد قدّم الناس مئات الآلاف من الشهداء من أجل ان تُطبّق أحكام الاسلام، فانّه یجیبك: كان بامكانهم ان لا یقدّموا الشهداء! وأنا لااُحبّ أن اقوم بهذا الفعل! واذا قمتَ بالاصرار علیه قلیلاً فانّه یهاجم الاسلام بشكل صریح ویسخر من اطروحة الجمهوریّة الاسلامیّة! فالجوّ الثقافیّ السائد لا ینظر الى التظاهر بمخالفة الاسلام بما انّه أمر قبیح، فالبعض ـ على الأقلّ ـ لایستحی من أن یتجاهر بمخالفة الاسلام، ویوجد ما هو أشدّ من هذا ولكنّی لا أحبّ تفصیل ذلك.
على أی حال فی مثل هذا الموقف ماذا یجب علینا أن نفعل؟
لقد كان الجوّ السائد فی المجتمع فی عصر سیّد الشهداء(علیه السلام) یشبه الجوّ الذی شرحناه آنفاً، حیث كانت الأحكام الیقینیّة للاسلام متروكةً والحدود الالهیّة معطّلة والشخص المرشّح للخلافة مشهوراً بشرب الخمر، حیث كان معاویة یخطّط ویمهّد الطریق لیُمسی یزید ابنه خلیفة للنبیّ الأكرم(صلى الله علیه وآله)، وهذا یعنی انّه سوف یصبح الشخصیّة التی تأتی بعد النبی(صلى الله علیه وآله) فی المجتمع الاسلامیّ، وهو مَن یعرف الناس انّه شارب للخمر، ولم یكن قد ارتكب هذه المعصیة مرّة أو مرّتین فحسب وانّما كان مدمناً على شرب الخمر. ولم یكن هذا الموضوع مخفیّاً عن الناس بل كان علنیّاً. وسائر الأحكام الاسلامیّة ما كان حالها أحسن من هذا، حیثُ كان التشكیك یتمّ فیها واحداً بعد الآخر ثمّ یتمّ انكارها وطردها بعیداً عن الحیاة الاجتماعیّة. مثلاً سفك دماء المسلمین كان سهلاً، فكلّ من یخالف الحكم القائم فانّه یُقتل ببساطة، وكذا كثیر من ألوان الفساد التی كانت رائجة فی ذلك المجتمع. فلو أنّ سیّد
الشهداء(علیه السلام) جاء الى الناس ـ فی ظلّ هذه الظروف ـ وقال لهم: أدّوا الخمس والزكاة واحترموا الحدود الالهیّة ولا تشربوا الخمر، فما هی الفائدة المترتّبة على هذه الموعظة للمعروف بشرب الخمر؟ فالناس قد بایعوا یزیداً وهم یعلمون انّه شارب للخمر. ولم تقتصر المصیبة على شرب الخمر بل كانت هناك امور اخرى فی حالة النموّ والانتشار فی المجتمع الاسلامیّ كاللعب مع القرود والكلاب!
هكذا كان یزید وهو یرید أن یصبح الشخصیّة التی تحلّ محلّ النبیّ الأكرم(صلى الله علیه وآله)فتصبح أوامره مثل أوامر النبی(صلى الله علیه وآله)واجبة الطاعة، وتمسی أحكامه كأحكام اللّه عزّ وجلّ. وهذا هو الذی دفع الامام الحسین(علیه السلام) لیقول:
«فعلى الاسلام السلام اذ قد بُلیت الاُمّة براع مثل یزید»(1) لانّه سوف لن یبقى من الاسلام شیء.
وصحیح أنّه فی أواخر زمان معاویة لم یكن قدبقی من الاسلام سوى بعض الظواهر المحدودة ولكنّه على كلّ حال لم یكن الأفراد یتظاهرون بالفسق بسهولة بحیث یرضى الناس بذلك.
أمّا اذا تقرّر أن یصبح «شارب الخمر» نفسه «خلیفة للمسلمین» فهل من المتصوّر ان یُجری هذا الخلیفة الحدَّ الشرعیّ على شارب الخمر؟
ففی مثل هذا الجوّ اذا أراد شخص أن یأمر بالمعروف فماذا ینبغی له أن یفعل؟
هل یمكننا أن نقول انّ الأمر بالمعروف معطّل فی مثل هذه الظروف ولا یوجد تكلیف اطلاقاً فی مثل هذه الموارد؟
من الواضح انّ الفعل المحرّم اذا وقع فی المجتمع فانّ جمیع الناس مسؤولون لانّ الأمر بالمعروف واجب كفائیّ، فاذا رأى عشرة أشخاص معصیة تُرتكب فانّ العشرة
1. بحار الانوار، ج 44، ص 326، الباب 37، الروایة 2.
مكلّفون جمیعاً بالأمر بالمعروف والنهی عن المنكر، فان قام به مایكفی فانّه یسقط عن البقیّة، وان لم یقم به أحد منهم فالعشرة بأجمعهم مقصّرون ومسؤولون. معنى هذا انّه اذا ارتُكبت معصیة من الكبائر فی المجتمع بصورة علنیّة فانّ كلّ من یطّلع على ذلك مكلّف بالأمر بالمعروف، وان لم یفعلوا فالكلّ یذهب الى جهنّم. هذا هو القدر المتیقّن من المسألة. ولا نتطرّق الآن الى حكم الأمر بالمعروف فیما اذا كان ارتكاب المعصیة یتمّ فی السرّ والخفاء.
نموذج آخر لعاقبة ترك الأمر بالمعروف:
نقلنا فیما مضى نصّ الروایة القائلة انّه كان هناك أربعون الف مذنب من قوم شعیب(علیه السلام)لكنّ اللّه سبحانه قد أنزل العذاب على مائة ألف منهم، وقد اعتُبر عذاب الستین ألفاً منهم بسبب تركهم الأمر بالمعروف. ونظیر هذا قد حدث لأقوام آخرین أیضاً، ومن جملتهم أصحاب السبت. ففی شریعة موسى(علیه السلام) كان الصید محرّماً فی یوم السبت بالاضافة الى تكالیف صعبة اخرى. وحتّى فی عصرنا هذا یمتنع الیهود الملتزمون بدینهم عن الصید فی یوم السبت ولا یذبحون ولا یطبخون فیه. وقد امتحنهم اللّه سبحانه كما ینقل لنا القرآن الكریم:
«إِذْ تَأْتِیهِمْ حِیتانُهُمْ یَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ یَوْمَ لا یَسْبِتُونَ لا تَأْتِیهِمْ».(1) وكانت مجموعة من الیهود تعیش قرب سواحل البحر أو النهر. وكانوا یشاهدون الأسماك تأتی الى الساحل فی یوم السبت بحیث یسهل صیدها، بینما لم یكن الأمر بهذه الصورة فی الأیّام الاخرى. ومن جهة ثانیة فقد حُرّم الصید علیهم فی یوم السبت. وبالتّالی لم یستطع البعضُ الصبرَ على هذا الوضع، فلجأوا الى حیلة تصوّروا انّها
1. سورة الأعراف، الآیة 163.
تنقذهم من حرج الموقف، فقاموا بحفر أحواض قرب الساحل، وفی یوم السبت یتركون السبل مفتوحة الى هذه الأحواض فیدخل الیها الماء والأسماك ثمّ یغلقون هذه السبل حتّى لا تخرج الأسماك من الأحواض. فاذا حلّ یوم الأحد جاءوا الى الأحواض واصطادوا الأسماك.
وقد عاقبهم اللّه تعالى على هذا الفعل فمسخهم، ولو لم یذكر القرآن الكریم وقوع هذا الأمر بصراحة كان الكثیر قد یتردّد فی الاعتقاد به عن طریق الروایات. لكن قال اللّه تعالى:
«فَلَمّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِینَ»(1).
حیث مسخهم اللّه الى قردة. ولم یقم هؤلاء جمیعاً بالصید فی یوم السبت مخالفین النهی الالهیّ، فمجموعة من الذین ماكانوا یصطادون قد نزل بهم العذاب ومُسخوا أیضاً.
انّ هؤلاء كانوا ثلاث فئات: الفئة الاولى هی التی كانت تقوم بالصید فی یوم السبت. الفئة الثانیة ماكانت تصید ولكنّها أیضاً لم تنه الفئة الاولى عن فعلها. الفئة الثالثة لم تكتف بأنّها ما كانت تصید، وانّما كانت تنهى الآخرین عن الصید فی الیوم المخطور بعنوان انّه ارتكاب للذنب.
والفئة الثانیة التی ماكانت تصید ولا تعترض أیضاً على الفئة الاولى كانت تقول للآمرین بالمعروف: ما الفائدة من نهیكم هؤلاء عن الصید؟ أی لا تقوموا بالأمر بالمعروف لانّه لا تأثیر له، اتركوهم لحالهم، یقول اللّه تعالى:
«وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِیداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ یَتَّقُونَ»(2).
1. سورة الأعراف، الآیة 166.
2. سورة الأعراف، الآیة 164.
مجموعة منهم تعترض على الواعظین بانّه ما الفائدة من موعظتكم هذه؟ فیجیب الواعظون: انّنا نقوم بالوعظ لأمرین: الأوّل ان یكون لنا عذر عند اللّه تعالى. الثانی لسنا على یقین من أنّ موعظتنا لا تؤثّر فیهم فلعلّ بین هؤلاء من یتأثّر بها.
وخلاصة القول انّ من بین هذه الفئات الثلاث فئة ناجیة وهی التی قامت بالنهی عن المنكر وان لم یؤثّر هذا النهی كثیراً فی المذنبین، وأمّا الفئتان الاخریان فقد ابتُلیتا بالعذاب ومُسختا الى قردة خاسئین(1).
سعة معنى الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر:
انّ اللّه تعالى یضفی قیمة كبیرة على هذه المسؤولیّة الاجتماعیّة. وقد نقلنا فیما سبق بعض الروایات الشریفة التی تتحدّث عن أهمیّة الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر كقوله(علیه السلام): «فریضة عظیمة بها تُقام الفرائض»(2)، وقوله(علیه السلام): «أتمّ الفرائض وأشرفها وأفضلها»(3).
وعلى كلّ حال فالسؤال المهمّ هو اذا لم یكن الأمر بالمعروف مؤثّراً فی أحد الموارد فهل یكون الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر جاریاً فی هذا المورد أیضاً أم لا؟
وأسوء الحالات هی الحالة التی لا یقتصر فیها الوضع على عدم قبول الأمر بالمعروف وانّما یعادون الآمر بالمعروف ویؤذونه ویضربونه بل وحتّى انّهم یقتلونه، یقول اللّه تعالى:
«یَقْتُلُونَ الَّذِینَ یَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ»(4)
1. بحار الأنوار، ج 14، ص 49، الباب 4، الروایة 34.
2. اصول الكافی، ج 5، ص 55، الروایة 1، تهذیب الاصول، ج 6، ص 181، الروایة 21.
3. نفس المصدر السابق.
4. سورة آل عمران، الآیة 21.
والسؤال هو: ماذا یجب علینا أن نعمل مع اُناس یقتلون الآمرین بالمعروف؟
لقد نقلنا فیما مضى روایة شریفة تبیّن واجب المؤمنین فی مثل هذه الحالات حیث یقول(علیه السلام):
«هنالك فجاهدوهم بأبدانكم... حتّى یفیئوا الى أمر اللّه»(1)
و بهذا یُعلم سعة نطاق الأمر بالمعروف بحیث یشمل ـ من ناحیة ـ تعلیم الجاهل أیضاً، فمن أراد تعلیم أولاده الصلاة فانّ هذا یدخل تحت عنوان تعلیم الجاهل فی نطاق الأمر بالمعروف، وان لم یُطلق علیه ذلك بحسب الاصطلاح، ولكنّه وارد فی الروایات انّ هذا لون من ألوان الأمر بالمعروف، فالموعظة والنصیحة بالكلام اللیّن تُعتبر من المصادیق الواضحة للأمر بالمعروف حسب استعمال الآیات الكریمة والروایات الشریفة. وان كان بعض الفقهاء یرى أنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر لابدّ أن یكون «عن علّو أو استعلاء»، فهو یأمر ولا یرجو ولا یتوسّل، لانّه بهذه الطریقة سوف یخرج عن مجال الأمر بالمعروف.
ومن ناحیة اخرى یتّسع نطاق الأمر بالمعروف لیمسی الجهاد أیضاً من مصادیق الأمر بالمعروف.
ومن الجدیر بالذكر فی هذا المجال هو انّ كثیراً من كتب الحدیث عندنا لم یكن فیها كتاب مستقلّ باسم الأمر بالمعروف وانّما كان فیها كتاب الجهاد ویُعقد فی آخره باب یُسمّى باب الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر. والنموذج البارز لهذه الكتب هو كتاب تهذیب الاصول للمرحوم الشیخ الطّوسی(قدس سره)الذی نقلنا منه سابقاً بعض الروایات، فكتاب تهذیب الاصول لیس فیه كتاب الأمر بالمعروف وانّما یوجد فیه كتاب الجهاد وقد خُصّص فی آخره باب للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر. وهذا
1. اصول الكافی، ج 5، ص 55، الروایة 1; تهذیب الاصول، ج 6، ص 181، الروایة 21.
یعنی انّ هناك استعمالین لمفهوم الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر، أحدهما اصطلاح خاصّ، وهو المستخدم فی الرسائل العملیّة، وبهذا الاصطلاح لا یكون شاملاً للجهاد، لانّه لا یوجد جهاد یخلو من خوف الضرر. الجهاد وحمل السلاح یتضمّن «فیَقتلون ویُقتلون»، ولا معنى لان نقول لشخص جاهد عندما لا تخاف الضرر، ففی ساحة القتال لا تُوزّع الحلویّات! بل الجهاد لا یتحقّق إلاّ فی حالة احتمال الضرر، بل فی بعض الأحیان یكون الیقین بالضرر.
وبناءً على هذا فهناك لون من الأمر بالمعروف ـ الذی مصداقه الجهاد ـ لا یكون إلاّ فی مجال احتمال الضرر بل الاطمئنان به بل الیقین به أحیاناً، كالیقین بالقتل. وهناك مصداق آخر له أیضاً قد اختلف فی اطلاق عنوان الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر علیه، فهناك نقاش بین الفقهاء حول تعلیم الجاهل هل انّه جزء من الأمر بالمعروف أم هو من باب آخر؟
یقول بعض الفقهاء انّ الآیة الكریمة:
«یَدْعُونَ إِلَى الْخَیْرِ وَ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ»(1)
تشمل تعلیم الجاهل لانّه دعوة الى الخیر. فالأمر بالمعروف یتعلّق بمن یعلم، امّا من لا یعلم أصلاً فانّ هدایته لا تسمّى أمراً بالمعروف.
فللأمر بالمعروف اصطلاح مشهور وهو المتعلّق بالامور العادیّة. حیث تكون القیم الاسلامیّة هی السائدة فی المجتمع، وتكون الحكومة الاسلامیّة مقتدرة ومبسوطة الید، واذا قیل لشخص لماذا ارتكبت هذا العمل القبیح فانّ الخجل یستولی علیه بحیث یطرق برأسه ویطلب العذر، أو یقول بأنّی لم أفعله وأنتم مشتبهون فی نسبة هذا الفعل إلیّ. فی مثل هذا المجتمع الاسلامیّ الذی یمرّ بهذه
1. سورة آل عمران، الآیة 104.
الظروف یكون الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر هو الأمر بالمعروف العادىّ، وشروطه هی المذكورة فی الرسائل العملیّة.
إلاّ انّ هناك مراتبَ للأمر بالمعروف لیست بهذا الشكل. وقد أشرنا فیما مضى الى انّ الامام الخمینى(قدس سره)هو من أبرز من صرّح بهذا المعنى فی عصرنا قائلاً: ان التقیّة غیر جائزة فی بعض مصادیق الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر ولو بلغ مابلغ. أی حتّى لو أدّى الى قتل مئات الآلاف من الناس فانّه لابدّ من القیام بالأمر بالمعروف.
وبناءً على هذا فاذا أخذنا الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر بمعناه العامّ فانّه یشمل تعلیم الجاهل من ناحیة، ویمتدّ الى المراحل النهائیّة من الجهاد من ناحیة اخرى، لانّ الجهاد یُؤدّى: «لتكون كلمة اللّه هی العلیا»(1)، وهذان مفهومان مختلفان.
فاذا قال سیّد الشهداء(علیه السلام):
«اُرید أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»(2)
فانّه لا یقصد معناه الخاصّ والمحدود المتبادر الى أذهاننا والذی من جملة شروطه عدم احتمال الضرر، وانّما یقصد به معناه العام، ولهذا ورد فی بعض كلام المعصومین(علیه السلام):
«و من أنكره بالسیف لتكون كلمة اللّه هی العلیا»(3).
اذن للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر اصطلاحان: أحدهما خاصّ وهو المذكور فی الرسائل العملیّة وله شروطه وأحكامه العادیّة. إلاّ انّ هناك ظروفاً استثنائیّة تتعلّق بالامور المهمّة ـ كما یقول الامام الخمینی(قدس سره) ـ وعندئذ تُلغى تلك
1. بحار الانوار، ج 32، ص 608، الباب 12، الروایة 480.
2. بحارالانوار، ج 32، ص 608، الباب 12، الروایة 480.
3. نفس المصدر السابق.
الشروط عن الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر.
فاذا سُئلنا: أیّ لون من ألوان الأمر بالمعروف كان ذلك الذی خاطر به سیّد الشهداء(علیه السلام) وأقدم فیه على القتل؟ ولاسیّما بالنسبة لمن یؤمن بانّه(علیه السلام) كان عالماً بالشهادة ونحن من جملة هؤلاء؟ وحتّى لو فرضنا انّه لم یكن عالماً بذلك فعلى أقلّ تقدیر انّه كان یحتمل الشهادة. وقد نصحه الكثیرون أن لا یذهب الى العراق، وقالوا له: لقد رأیت فی الماضی ماذا فعل أهل الكوفة بأبیك وأخیك! واذا ذهبت الیهم فسوف تُقتل.
ونصحه أخوه وأبناء عمومته فأجابهم الامام(علیه السلام) بالدعاء لهم بالخیر على نصیحتهم، وأكّد لهم انّ علیه واجباً شرعیّاً لابدّ له من العمل به. فهؤلاء كانوا یحتملون القتل، فهل من المعقول أن لا یكون(علیه السلام) نفسه محتملاً للقتل؟
اذن ان لم یكن هناك علم بالضرر فعلى أقلّ تقدیر كان لدیه(علیه السلام) خوف من الضرر والقتل.
فاذا جاء السؤال: أیّ لون من ألوان الأمر بالمعروف هذا؟ كان الجواب: انّه لون من الأمر بالمعروف بمعناه العام وهو غیر المعنى المتبادر الیوم الى أذهاننا والمصطلح فی رسائلنا العملیّة.
سعة معنى الجهاد:
و نظیر هذا البحث یجری فی موضوع الجهاد أیضاً. فأیّ معنى للجهاد نحن نفهمه الآن؟
انّ الكتب الفقهیّة تقول: الجهاد ثلاثة أقسام: الجهاد الابتدائی، والجهاد الدفاعیّ، وجهاد البُغاة (قتال أهل البغی).
فالقسم الاول یتمّ بأمر من الامام المعصوم(علیه السلام)، وذلك لإزالة موانع الهدایة من
طریق ولیّ اللّه حتّى تتمكّن الحكومة الاسلامیّة من نشر الاسلام فی مختلف أرجاء العالم، ولیس الهدف منه اجبار الكفّار على ان یسلموا، وانّما لفتح أبواب الهدایة أمامهم: «فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ»(1)، هذا هو الجهاد الابتدائیّ. القسم الآخر من الجهاد هو فیما اذا تعرّض المسلمون الى هجوم فانّهم یتصدّون للدفاع عن أنفسهم.
والقسم الثالث من الجهاد هو فیما اذا نشب القتال بین فئتین مسلمتین فی الظاهر ولم یكن الاصلاح بینهما فهنا لابدّ من الوقوف الى جانب المظلومین وقتال أهل البغی، أو ان یأمر الحاكم الشرعیّ بقتال أهل البغی.
هذه الأقسام الثلاثه للجهاد یعلم بها الجمیع.
وهنا نتساءل عن قول ابی عبداللّه(علیه السلام) انّی نهضت اجاهد فی سبیل اللّه «لتكون كلمة اللّه هی العلیا»(2)
تحت أیّ قسم من أقسام الجهاد الثلاثة یندرج ماقام به الامام(علیه السلام) فی كربلاء؟
لم یكن من قبیل الجهاد الابتدائیّ مع الكفّار، ولا یندرج تحت عنوان الجهاد الدفاعیّ، لانّ الجهاد الدفاعیّ یعنی جهاد المسلمین دفاعاً عن أنفسهم فی مقابل هجوم الكفّار. وهناك أیضاً دفاع شخصیّ عن النفس، ولا یطلق علیه اسم الجهاد. ولیس هو أیضاً من قبیل قتال أهل البغی، لانّه فی قتال أهل البغی یقوم الحاكم الاسلامیّ بقتال المخلّین بالنظام والأمن الاجتماعیّ، كما حدث فی حرب الجمل.
اذن أیّ لون من ألوان الجهاد هذا الذی یخرج فیه الانسان مع نسائه وأطفاله الى كربلاء ویصمد فی القتال حتّى یُقتل طفله الرضیع أیضاً؟
الجواب هو: انّ لـ «الجهاد» أیضاً اصطلاحات مختلفةً، فهناك معنى واسع للجهاد ـ من جهة ـ بحیث یشمل الجهاد بالمال وانفاقه فی سبیل نشر الاسلام والنضال ضدّ
1. سورة التوبة، الآیة 12.
2. بحارالانوار، ج 32، ص 608، الباب 12، الروایة 480.
الكفّار والحیلولة دون الهجوم الثقافیّ للأعداء كما فی قوله تعالى:
«وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ»(1)
فحسب هذا الاصطلاح یغدو انفاق المال لوناً من ألوان الجهاد، وهو یعتبر توسّعاً فی مفهوم الجهاد.
ومن الواضح انّ المعنى اللغویّ للجهاد شامل لجمیع هذه الموارد، لانّ الجهاد یعنی بذل الجهد. ومن یتأمّل فی معناه یعرف انّ الجهاد یعنی بذل الجهد فی مقابل عدوّ أو مانع. ولم یؤخذ فی معناه اللغویّ ان یكون حتماً من قبیل السیف، بل قد یكون المانع عدوّاً اقتصادیّاً أو ثقافیّاً، فالجهاد صادق فی هذا المجال أیضاً.
انّ الجهاد بالمال أو سائر النشاطات الاجتماعیّة الاخرى ـ بمایتناسب مع جهود العدوّ ـ هو جهاد أیضاً، یقول اللّه تعالى:
«فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِینَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِینَ دَرَجَةً»(2)
والنوع الآخر منه هو الجهاد بالنفس، وهو یعنی تعریض النفس للقتل فی سبیل اللّه.
والقسم الآخر منه هو جهاد النفس، وهو یعنی جهاد الانسان ضدّ نفسه، ویُسمّى بـ «الجهاد الأكبر».
ولهذا فانّ الشیخ الحرّ العاملیّ(قدس سره) صاحب كتاب وسائل الشیعة بعد أن طرح مسائل الجهاد فی كتاب الجهاد قام بطرح موضوع جهاد النفس والمسائل الاخلاقیّة تبعاً لذلك.
اذن مفهوم الجهاد یتّسع ـ من ناحیة ـ لیشمل الجهاد بالمال والجهاد بالكلمة والجهاد باللسان وبالقلم وحتّى جهاد الانسان ضدّ نفسه، بل یُطلق على هذا اسم «الجهاد الأكبر»، ویُعتبر هذا توسّعاً فی مفهوم الجهاد.
1. سورة التوبة، الآیة 41.
2. سورة النساء، الآیة 95.
أمّا الجهاد الذی تتناوله بالبحث كتب الأحكام الشرعیّة والرسائل العملیّة فانّه لا یشمل العمل الذی قام به الامام الحسین(علیه السلام)، بل یشمل الأقسام الثلاثة التی ذكرناها فحسب.
كان هذان نموذجین لبیان انّ المفاهیم قدیكون لها أحیاناً معنیان، معنى عام ومعنى خاصّ. فالمعنى الخاصّ هو مفهوم اصطلاحیّ معیّن فی جوّ محدّد ومجتمع خاصّ. وأمّا المعنى العام فقد یكون هو نفس معناه اللغویّ أو انّه قد اتّسع نتیجةً للتحوّلات الاجتماعیّة فأصبحت له مصادیق جدیدة.
فان أخذنا بعین الاعتبار المعنى العامّ للجهاد ـ وهو بذل الجهد فی سبیل اللّه ضدّ العدوّ ـ فانّ كثیراً من موارد الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر تدخل تحت عنوان الجهاد.
ومن ناحیة اخرى اذا أخذنا الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر بمعناه العام فانّ جمیع مصادیق الجهاد تقریباً ـ عدا جهاد النفس ـ سوف تدخل فی نطاق الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر. لانّ أحدهما یعنی أمر الآخرین بانجاز الفعل الحسن، والآخر یعنی الكفّ عن الفعل القبیح. ولهذا یتداخل هذان المفهومان. ویصف طلاّب الحوزة العلمیّة مثل هذه المفاهیم بقولهم: «اذا اجتمعا افترقا واذا افترقا اجتمعا»، أی اذا ذكرنا الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر الى جانب الجهاد، كما اذا قلنا انّ فروع الدین عشرة... السادس هو الجهاد، والسابع هو الأمر بالمعروف، فمعنى ذلك انّ الأمر بالمعروف هو غیر الجهاد. فقد اختلف معنى هذین المفهومین لانّهما قد ذكرا معاً، وعندئذ لا یكون الجهاد شاملاً للأمر بالمعروف، ولا یكون الأمر بالمعروف شاملاً للجهاد. وأمّا اذا استُعمل كلّ واحد منهما وحده فانّه سوف یكون شاملاً للآخر، أی انّ الأمر بالمعروف یشمل الجهاد، والجهاد أیضاً یشمل الأمر بالمعروف.
وهذه القاعدة یمكن ان تنفعنا فی كثیر من الموارد، فاذا قال الامام الحسین(علیه السلام)
انیّ خرجت للأمر بالمعروف والنهی عن المنكر، فانّ قوله(علیه السلام) لا یُحمل على الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر بالمعنى المحدود المقیّد بمجموعة من الشروط التی من جملتها أن لا یكون هناك خوف من الضرر، وانّما یُحمل على المعنى الأعمّ الذی ینسجم مع العلم بالخطر، وحتّى أعلى درجات الخطر حیث یعرّض الانسان نفسه للقتل. فحتّى هذا المورد أیضاً یغدو مصداقاً لوجوب الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر. غایة الأمر انّه بالاصطلاح الأعمّ وهو غیر اصطلاح المستخدم فی الرسائل العملیّة والشائع بین الناس.
ونظیر هذا یجری فی موضوع الجهاد أیضاً.
ویؤكّد الامام الخمینیّ(قدس سره) فی رسالته المخصّصة لموضوع التقیّة على انّ بعض مراتب الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر یحرم فیها التقیّة ولو بلغ الأمر ما بلغ، فلاتقیّة فی الامور المهمّة. ویضرب عدّة أمثلة للتوضیح، من جملتها: انّ العدوّ اذا حاول هدم الكعبة الشریفة، فهنا لا مجال للحدیث عن الامتناع عن الأمر بالمعروف بسبب احتمال وجود الخطر، وانّما لابدّ من القیام بالأمر بالمعروف والنهی عن المنكر والوقوف فی وجه العدوّ وان كان ذلك یؤدّی بالانسان الى القتل، فالمحافظة على الكعبة لیست مثل أیّ واجب عادىّ آخر. وكذا اذا تعرّض النبیّ او الامام للخطر ـ كما لو ألقى الأعداء القبض على النبی أو الامام ویریدون قتله ـ فهنا لا یحقّ للمؤمنین أن یقولوا نحن لا ننهى عن هذا المنكر لانّنا نخاف الضرر، فلیقتلوا النبی ولنسلم نحن!
انّ من له أدنى معرفة بالأحكام الاسلامیّة یعلم انّه یجب انقاذ النبیّ حتّى لو قُتل آلاف الناس.
وبعد ذكر عدّة أمثلة اخرى یقول الامام الخمینیّ(قدس سره) بشكل عام انّه فی أیّ مورد یتعرّض فیه كیان الاسلام وأساسه للخطر فالتقیّة حرام ویجب القیام بالأمر بالمعروف والنهی عن المنكر.
ونكرّر عتابنا هنا لأصدقائنا من أصحاب التحقیق والاجتهاد حیث إنّهم لم یتابعوا ماقام به الامام(رحمه الله)ولم یبیّنوا بدقّة مصادیق هذه الامور المهمّة وحدودها. فقد ذكر الامام(قدس سره) عدّة أمثلة منها، ولابدّ من البحث عن سائر الموارد وتوضیحها حسب الأوضاع الاجتماعیّة التی نمرّ بها الیوم. فقتل النبیّ أو الامام الیوم لا یتمّ فقط بذبحهما بالسیف، وانّما یقوم الأعداء المعاصرون بقتل نبوّته أو امامته أو ولایته. فهناك شخص یحظى باحترام الشخصیّات من الدرجة الاولى فی الجمهوریّة الاسلامیّة یكتب رأیه صراحة فیقول:
«انّه بموت النبیّ(صلى الله علیه وآله) قد انتفت الولایة أیضاً!»(1)
فلا ولایة بعد موت النبیّ! ثمّ یُدعى هذا القائل لیحاضر لطلاّب الجامعة واساتذتها فی لیلة العاشر من المحرّم بعنوان انه خطیب اسلامیّ، وقد تكرّرت الدعوة له حتّى فی هذا العام!(2).
انّه نفس الشخص الذی یقول انّ الوحی أمر شخصیّ ونحن لا نستطیع ان نثبت فی الواقع انّ شخصاً مّا نبی أم لا!
وهو نفسه الذی یقول: انّ النبی یخطئ ـ مثل سائر الناس ـ حتّى فی فهم الوحی!
هل هذا أسوء أم قتل النبی(صلى الله علیه وآله)؟
لو قتل النبیّ(صلى الله علیه وآله) فانّ هدفه سیترسّخ أكثر، كما حدث عند قتل الامام الحسین(علیه السلام)فقد حفظ دمُه هدفَه.
أمّا اذا تمّ قتل النبوّة فماذا سیبقى بعدئذ؟
ففی مقابل هذا الوضع الخطیر هل یصحّ القول: انّی اخاف أن اُهان؟ أخاف أن
1. عبدالكریم سروش، تحت عنوان «بسط تجربه نبوى»، ص 27 و133.
2. لیرجع من شاء الى صحیفة «عصر آزدگان» بتاریخ 1379/01/28 هـ. ش، ص 3; فی تقریر عن محاضرة عبدالكریم سروش فی مراسم العزاء التی أقامها «دفتر تحكیم وحدت».
اُضرب؟ أخاف ان یُشكّل لی ملّف فی الدائرة الفلانیّة؟
هل تصلح هذه الذرائع ان تكون عذراً؟
وهل انّ المسؤولین الدینیّین والحكومیّین عندنا لا یعلمون بهذه الامور؟ ولا یشعرون بالأخطار التی تتّجه من هؤلاء الأشخاص؟
أم انّهم لا یعیرون أهمیّة لهذه الامور؟
من الذی لا یعلم انّ الدین سالك طریق الضعف فی مجتمعنا خلال هذه السنین الأخیرة؟
یشهد اللّه انّی عندما أذهب الى الدول الأجنبیّة فانّی لا أملك جواباً للمسلمین الذین یعیشون فی انگلترا أو امریكا أو غیرهما. یقولون لقد ذهبنا الى ایران فی العام الماضی وذهبنا الیها فی هذا العام فلم نصدّق بانّ ایران الیوم هی ایران العام الماضی!
هل یصدّق أحد بانّ مستوى الدین فی مجتمعنا باق على ما كان علیه فی العام الماضی؟!
مَن هو السبب فی هذا الانحطاط الدینیّ؟
وما هی العلّة فی ذلك؟
لماذا أصبحت الأوضاع الیوم بهذا الشكل؟
اذا درستم الأسباب لهذا الأمر فسوف تصلون الى فئتین من العوامل: الفئة الاولى هی المطبوعات والنشریات والكتب المضلّلة، ومن الواضح انّ وزارة الارشاد هی المسؤولة عنها.
والفئة الثانیة هی الأعمال التی تتمّ فی هذا البلد ممّا یذهب بقبح المعاصی ویزید فی الوقاحة. ویتمّ ترغیب الناس فی المعصیة، وتُفتح أمامهم سبُلها، وبذریعة انّهم یهتمّون بشؤون الشباب یعطونهم الضوء الاخضر للاقدام على الذنب. لیس فقط الذنب السرّی الخفیّ، بل وحتّى الذنب الذی یُرتكب علناً فی الوسط الاجتماعیّ!
وهناك عامل آخر وهو قنوات التلفزیون الأجنبیّة فی المجالات التی یتیسّر فیها استلامها كالمناطق الحدودیّة أو الذین یملكون ـ بصورة غیر قانونیّة ـ أجهزه استلام البثّ من الأقمار الصناعیة، اَو أفلام الفیدیو الاباحیّة التی تدخل البلد بصورة غیر مشروعة، وقد یكون بعضها باجازة من وزارة الارشاد!
وقد یتحمّل بعضَ الوزر أشخاصٌ فی وزارات اخرى، ولكنّ المسؤولیّة الضخمة تقع على عاتق وزارة الارشاد، مثل تشكیل دور للثقافة یتمّ فیها تعلیم الذنوب أو الترغیب فیها. وكذلك نشر مسرحیّات مضادّة للاسلام مائةً بالمائة كما یقول قائد الثورة الاسلامیّة حفظه اللّه. وامور اخرى من هذا القبیل.
من المسؤول عن هذه الأعمال؟
انّ بعض الناس یقول لنا: اذا كنتم تَعدّون هذه الحكومة حكومة اسلامیّة فلماذا تخالفون وزیراً من وزرائها؟
انّها حقّاً مغالطة عجیبة! لانّ كون النظام اسلامیّاً هو بالقیادة. ولهذا السبب تهاجم بعض الصحف والمجلاّت مقام ولایة الفقیة والحكومة الاسلامیّة القائمة على أساس ولایة الفقیه بل وشخص القائد الكریم، وهی تتقدّم فی هذا المجال یوماً بعد یوم بصورة أكثر وقاحة. لماذا؟ لانّ هؤلاء لا یریدون الاسلام. وقد قالوها بصراحة فی مؤتمر برلین حیث أعلنوا فیه انّ الاسلام لا یستطیع أن یكیّف نفسه مع الدیمقراطیّة المعاصرة، وهذه هی مشكلة الاسلام، وانّ مجلس الشورى السادس سوف یضع حلاًّ لهذه المعضلة(1). ولم یتعرّض لهم أحد!
مثل هؤلاء الوزراء ومساعدیهم ومشاوریهم هل یمكننا ان نعدّهم واجبی الطاعة؟ ألاّ اذا كانت طاعة الشیطان واجبة!
1. صحیفة «كیهان»، بتاریخ 23 و24 و1379/01/25. هـ. ش; ضمن تقاریر متعلّقة بمؤتمر برلین.
والكلّ یعلم انّه «لاطاعة لمخلوق فی معصیته الخالق»(1)، فهل من المعقول أن یجیز اللّه تعالى الطاعة لمن یدعو الى المعصیة والى طریق الشیطان؟
انّ هؤلاء یؤیّدون شیوع المعاصی ویمهّدون السبل لها، ویعطون التسهیلات لمن یرتكبون المعاصی ویقدّمون لهم الجوائز ویفرشون الموائد الضخمة للذین كرّسوا جهودهم خلال عشرین عاماً ضدّ النظام الاسلامیّ.
وقد واجه الامام الحسین(علیه السلام) أیضاً اناساً یتحدّثون عن الاسلام ویعتبرون أنفسهم خلفاء النبیّ(صلى الله علیه وآله) ولم یكونوا منكرین للاسلام فی الظاهر. لو لم یكن قائد الثورة الاسلامیّة على رأس هذا النظام فانّ هذه الحكومة لن تكون اسلامیّة. ونحن نحترم اولئك المسؤولین فی هذا النظام ممن یحظون بتأیید القائد الكریم. وقد تكرّر ذكر هذا الموضوع فی كلام الامام الخمینی(رحمه الله)وفی وصیته، حیث أكّد على أنّ النظام اذا لم یكن قائماً على أساس إذن الولیّ الفقیه أو تنصیب الولی الفقیه فانّه طاغوت(2)، وقد صرّح(قدس سره)بانّ رئیس الجمهوریة اذا لم یتمّ تنصیبه من قبل الولیّ الفقیه فهو طاغوت.
لماذا یقوم هؤلاء بالتشكیك بالأفكار الأصیلة فی المجتمع؟
لكی یهدموا ویمحوا هذه المواضیع.
لماذا یكثر هؤلاء من الحدیث عن الشعبیّة والدیمقراطیّة؟
من أجل انّه اذا قال أكثر الناس فی المستقبل انّنا لا نرید الاسلام فانّهم یقولون انّ كلام الناس هو المعیار ولیس كلام الامام(رحمه الله). وبالتالی لماذا قال هؤلاء فی مؤتمر برلین: انّ الخمینی قد ذهب الى متحف التاریخ؟!
انّ المسؤولین الامریكیّین صرّحوا بانّ الدورة السادسة من مجلس الشورى اذا استطاعت أن تحلّ مشكلة ولایة الفقیه فقد نجحت فی تسهیل الامور علینا وسوف تحلّ مشكلتنا مع ایران. انّهم یعلّقون الآمال الكبیرة على أن یأتی یوم تُزال فیه ولایة
1. نهج البلاغة، الكلمات القصار، 165.
2. نقلاً من «صحیفه نور»، ج 9، ص 253.
الفقیه من النظام عن طریق الانتخابات، وهم الآن منهمكون فی توفیر المقدّمات وإعداد الأرضیّة الثقافیّة لذلك.
لعنة اللّه على من یوفّر لهم هذه الأرضیّة! انّهم یخونون دماء الامام الحسین(علیه السلام)ومئات الآلاف من الشهداء.
ما هی وسیلتهم فی ذلك؟
هذه الصحف الكذائیّة التی تُدار وتُدعم بواسطة التموین الخارجی. قد یسأل سائل: ما هو الهدف من وراء كلامی هذا؟
انّ المشكلة الأساسیّة فی كل مجتمع هی قلّة الوعی. اذا استطاع هؤلاء أن یصولوا ویجولوا فی هذه السنین الأخیرة فذلك بسبب أنّنا لم نكن عالمین بواجباتنا، فالبعض منّا قد خُدع بمقولة التساهل والتسامح، وقد انخدع الناس بالذمّ الموجّه للعنف ووصفه بانّه مضادّ للقیم، فقد خاف الناس من ان یُتّهموا بالعنف حینما یتكلّمون! وهناك فئة من الناس متدیّنة ومستقیمة ولكنّها كانت تخاف اذا تكلّمت ان یكون كلامها ضدّ مصلحة النظام الاسلامیّ وخلاف ما یُرضی القائد. وهذه الفئة لیست قلیلة. ولابدّ ان نكون مصغین لما یقوله القائد المحنّك، ولكنّه یجب علینا ان نكون على اُهبة الاستعداد الكامل حتّى اذا صدر ـ فی یوم مّا ـ الأمر بالجهاد والنضال فانّنا سوف نصمد ونقاوم الى آخر قطرة من دمائنا. انّ توفیر هذا الاستعداد لا یكون فی «لحظة»، فاذا صدر الأمر فانّه لا یمكن الاستعداد سریعاً بل لابدّ من توفیر الاستعداد الروحیّ فی الانسان قبل ذلك بعشرات السنین.
فالامام الخمینی(قدس سره) عانى الأمرَّینِ خلالَ خمسة عشر عاماً حتّى اعدّ الأرضیّة الثقافیّة للثورة الاسلامیّة. لقد دخل السجن ونُفی من الوطن واستشهد ابنه الأكبر فی هذا السبیل فی ظروف غامضة مشبوهة وتحمّل المشاكل الضخمة خلال سنین طویلة حتّى توفّرت الأرضیّة الاجتماعیّة لهذه الحركة العظیمة. ولو كانت هذه
الأرضیّة متوفّرة منذ البدایة فان الثورة لم تكن لتتأخّر خمسة عشر عاماً. اذن قام الامام(قدس سره) بتوفیر هذه الأرضیّة خلال خمسة عشر عاماً ثمّ سقى هذه الشجرة بالدماء الطاهرة للشهداء خلال عشرة أعوام. والیوم یحاول الأعداء ان ینتزعوا منّا بسهولة ثمرة هذه الجهود المباركة. بأیّ شیء؟ بأعذار واهیة من قبیل انّنا نخاف أن نفعل شیئاً ویكون عنفاً! أو خلاف التساهل والتسامح! بمثل هذا السحر یریدون ان یلتقموا ویبتلعوا ثمرة نشاط وجهود كلّ الأنبیاء والأولیاء ودماء سید الشهداء(علیه السلام)وآلاف الشهداء الأوفیاء وكذا مجالس العزاء خلال ألف وثلاثمائة عام التی انتجت هذه الثورة الاسلامیّة المباركة.
انّهم یریدون ان یقتلعوا هذه الشجرة ویتلفوا هذه الثمرة بسحر التساهل والتسامح!
من أین جاء هذا المفهوم؟ ومن أین نزل هذا الواجب الذی یقضی على كلّ أحكام الشریعة المقدّسة وینسخ جمیع احكام الجهاد والأمر بالمعروف والنهی عن المنكر؟
انّه أمر صادر من العالم الغربیّ یفرض علینا التساهل والتسامح!
لابدّ لنا من الحذر الشدید، وأن لا نتصوّر انّها مسألة تخوض فیها الصحف، حیث یكتب أحدهم شیئاً والآخر یجیبه أو یمتنع عن جوابه.
لاحِظوا آثار هذا الموضوع فی المجتمع! انظروا كیف یدفعون كثیراً من الشباب الى الانحراف بواسطة هذه الأعمال! انّها آثار هذه الجهود الحثیثة. انّها السیاسة الثقافیّة الخبیثة التی تنتج مثل هذه الثمرات المرّة. لو كنّا قد وقفنا ضدّ هذه النشاطات منذ البدایة لما ابتُلینا بهذا الفساد، والآن أیضاً لیس الوقت متأخّراً للقیام بما یحجمها.
لیعلمِ الناس انّ العدوّ یتآمر ویخطّط ویحاول بطرح بعض الأقوال والشعارات أن یقضی على جهود المذهب الشیعی خلال ألف وأربعمائة عام! انّهم یقولون صراحةً انّه بموت النبیّ(صلى الله علیه وآله) فقد ذهبت الولایة أیضاً! ویقولون بانّه لا یوجد یقین بنبوّة النبیّ(صلى الله علیه وآله)! ویقولون بانّ وجود اللّه أساساً لیس قابلاً للاثبات العقلیّ!
قالوا كلّ هذا وغیره ولم یفهم الكثیر منّا لأیّ شیء یخطّط هؤلاء.
انّهم بهذه الأقوال وبهذا السحر یحاولون أن یقضوا على دین وایمان الشباب الذین یمرّون بمرحلة الثانویّة أو الجامعة ولیسوا مزوّدین بالمعارف الاسلامیّة كما ینبغی ولم تستقوِ بعدُ بنیتُهم الایمانیّة كما یجب!
لقد نبّه قائد الثورة الاسلامیّة على أنّ الأعداء قد وجّهوا سهامهم الى دین الناس وایمانهم. وقد حذّر الناس كثیراً من الهجوم الثقافیّ والغارات الثقافیّة! وقد تساءل: ماذا فعل المسؤولون الثقافیّون فی مواجهة هذا الهجوم؟
وبدوری احذّر المسؤولین فی البلد وأنصحهم بانّ السبیل الذی انتهجتموه لیس فی مصلحتكم. فالناس قد أثبتوا ـ مرّات عدیدة ـ بانّهم اذا عرفوا انّ دینهم یواجه خطراً فلن تكون للأرواح قیمة عندهم. ولیحاول المسؤولون المعتقدون باللّه تعالى والنبی(صلى الله علیه وآله)أن یبعدوا هؤلاء الشیاطین عنهم وأن یطردوهم من الأجهزة الحكومیّة ولاسیّما الأجهزة صاحبة القرار الاساسیّ. ولیهتمّوا بنصائح الامام(قدس سره)ولیجعلوها نصب أعینهم.
وان لم یفعلوا ذلك فلایستبعدوا أن یأتی یوم یتّجه فیه نفس تكلیف سید الشهداء(علیه السلام)الى نائب الامام المعصوم(علیه السلام) وینهض الآلاف لنصرته ممّن ینتظرون الشهادة وممّن یزورون الامام الحسین(علیه السلام) كلّ یوم ویخاطبونه:
«یالیتنی كنت معكم فأفوز معكم».(1)
لیحذر هؤلاء من ذلك الیوم ولیصحّحوا أخطاءهم ولیتوبوا الى اللّه تعالى ان كانوا قد ارتكبوا ذنباً ولیعتذروا لسیّدالشهداء(علیه السلام) وللامّة الإسلامیّة.
1. زیارت الامام الحسین(علیه السلام) فی یوم عرفه.