الجواب على بعض التساؤلات
السؤال الأوّل: إن كان المطلوب الحقیقیّ للإنسان هو مقام القرب الإلهیّ و أنه عبر وصوله إلیه ینال أسمى و أدوم اللذائذ فلماذا لا نجد أكثریّة الناس بهذا الصدد رغم أنهم بالفطرة یسعون نحو اللّذة و السعادة؟
و عند الإجابة على هذا السؤال نقول: إنّ سعی الإنسان للوصول إلى الكمال و السعادة الحقیقیة و نیله للذّتهما منوط بمعرفة اللذّة و تصدیقه بها. و لأنّ أكثریّة الأفراد لا یعرفون الهدف الأصلی للخلقة و كمالهم الحقیقیّ كما ینغبی و لم یذوقوا لذّة الوصول إلیه فسوف لن یكونوا بصدد البحث و الوصول إلیه، و لكنهم یعرفون الكمالات المادیة و الدنیویّة و یدركون لذّة الوصول إلیها و لذا فهم یبذلون كل قواهم للوصول إلیها هذا و إن كان هناك فرق بین الناس فی اختیار الحاجات الدنیویّة و شؤونها فنجد كلّ شخص یختار ـ وفقاً لمیوله ـ مجموعة معیّنة منها باعتبارها الأهم و الأكثر قیمة أو الأقل مؤونة و الأسهل و یبذل جُلّ اهتمامه فی سبیل الوصول إلیها.
إن معرفة الكمال الحقیقیّ و إن كانت تمتلك جذوراً فطریّةً و لكنها لا تصل عند أكثر الناس ـ و بشكل طبیعیّ ـ إلى حدّ الوعی الكافی و إنما تحتاج إلى إرشاد و تربیة صحیحة.
و من هنا كانت أحد أهمّ أهداف وظائف الأنبیاء (علیهم الصلاة و السّلام) توعیة هذا الجانب اللاشعوری الفطری و التذكیر بالعهد الإلهیّ المنسی.
«لیستأدوهم میثاق فطرته و یذكروهم منسی نعمته»([1]).
و هذه المسؤولیة العظمى ملقاة فی هذا الزمان على عهدة من عرفوا سبیل الأنبیاء بشكل أتمّ و لدیهم قدرة تعریفه للآخرین لكی یعیدوا الضالّین عن طریق السعادة إلى السبیل الأقوم و یعرفوهم بُغیتهم الفطریّة.
السؤال الثانی: إذا كان الهدف الأصلی لخلق الإنسان هو الوصول لمثل هذا المقام فلماذا نجد الغرائز الموجودة فی أعماقه تقوده دائماً نحو اللّذائذ المادّیّة و الظواهر الدنیویّة الخلاّبة و تمنعه من السیر نحو هدفه الأصلی؟ ألا یعتبر هذا نقضاً للغرض و خلافاً للحكمة؟ ألم یكن الأمر أكثر انسجاما مع هذا الهدف لو لم یكن فی أعماقه سوى الدوافع التی تسوقه نحو الله و العالم الأبدیّ؟ و لكی یتوضح الجواب على هذا السؤال یجب الالتفات إلى نكتتین هما:
1ـ إنّ قیمة الكمال الإنسانیّ تكمن فی كونه اختیاریّاً و هی المیزة التی تجعل الإنسان مخدوماً من قبل الملائكة و مورداً لسجودهم. و لكی تتحقق أرضیّة الاختیار كان لابّد من وجود سبل مختلفة و جواذب متنوعة لكی لایكون السیر فی سبیل السعادة إجباریاً مفروضاً.
2ـ لأن التكامل الإنسانی تدریجی و له مراحل طویلة فإنه من اللازم أن یدوم مجال الاختیار إلى مدة لا بأس بها لكی یستطیع الإنسان فی كل مرحلة أن یختار سبیله بكل حریة و یغیّر اتّجاهه إذا شاء.
و مع الالتفات لهاتین النقطتین یتوضح سر الحیاة الدنیویة و التدریجیّة للإنسان، و بدیهی أن بقاء الإنسان فی عالم الحركة و التغییر و التكامل التدریجی بحاجة إلى أسباب و وسائل و شرائط و إمكانات خاصّة. و تشكل الغرائز الطبیعیّة فی الواقع دوافع لتهیئة هذه الأسباب و الظروف و هی فی ضمن ذلك تلعب دوراً فی تهیئة مجال الاختیار الإنسانی و فی حالة اختیار السبیل الصحیح یمكنها أن تقدم خدمات جیدة للتقدم الإنسانی باتجاه الهدف الأصلی و الكمال النهائی. و علیه فإن وجودها لا یناقض هدف الخلقة بل إن عدمها یخالف الحكمة الإلهیّة المطلقة.
السؤال الثالث: على فرض التسلیم بأن الكمال النهائی للإنسان ممكن التحقق فی الجملة عبر القرب الإلهی و تجاوز كل الرغبات و المیول فی سبیل نیله و الوصول إلى مثل هذا المقام، فإنه لا ریب فی انحصار مثل هذه المهمّة و القدرة فی أفراد نادرة و بالتالی فإن الوصول إلى الكمال المطلوب سوف یكون مختصاً بهم فی حین تحرم الأكثریة العظمى للناس من هذه النعمة.
و فی مثل هذه الحالة هل یمكننا أن نقول إنّ هذه الأفراد النادرة هی وحدها التی تستحق لقب الإنسانیّة فی حین یكون الآخرون فی الواقع حیوانات لاتمتلك حظاً من الإنسانیة إلاّ فی الشكل الظاهریّ لا غیر؟ و بالتالی یحكم علیهم جمیعاً بالشقاء الأبدیّ.
و فی مجال الجواب على هذا التساؤل نقول:
إن الكمال الحقیقی للإنسان ـ كما أكّدنا على ذلك مراراًـ له مراتب مختلفة، و إذا كان الوصول إلى أسمى المراتب غیر میسر للجمیع فإن الوصول إلى أدنى المراتب میسر للجمیع و هو یحصل بالإیمان بالله و السیر على سبیل عبودیته فی حین أنّ بذل كل القوى فی سبیل الرضا الإلهیّ هو من خصائص المراتب السامیة.
و من الطبیعی أنّ الآثار المترتبة على القرب الإلهیّ لیس على مستوى واحد فی كل المراتب فالعلم الكامل بالحقائق و القدرة على إیجاد أیّ شیء أو اللذّة الكاملة من اللقاء الإلهیّ لا تحصل لدى أیّ مؤمن فی هذا العالم. إلاّ أن من یحفظ إیمانه إلى نهایة حیاته من أیّ تلاعب و لا تسلبه كثرة الذنوب و العصیان إیمانه، هذا الإنسان سوف یصل بالتالی إلى السعادة الأبدیّة و إن كانت المدة الفاصلة إلى ذلك الیوم طویلة المدى، و فی هذا الأثناء سوف یمرّ بمراحل صعبة ألیمة نتیجة أعماله الانحرافیّة و لسنا نرى حاجة لتوضیح أنّ السعادة الأبدیّة و الجنّة الخالدة أیضاً لها درجات مختلفة و أنّ كلا یجازى فی ذلك العالم بمقدار معرفته و إیمانه و وزن أعماله و أخلاقه و یمكن أن لایملك أیّ شخص فی أیّ درجة سوى ظرفیة إدراك لذائذ تلك الدرجة و أن إرادته تتعلق بالحصول علیها فقط.
و على هذا، فلیس كل من لم یصل إلى قمّة الكمال الإنسانی و نهایة القرب الإلهی لا یستحق اسم الإنسان و بالتالی فهو محكوم بالشقاء و العذاب الأبدیّ.
[1]. نهج البلاغة: الخطبة الأولى.