4 ـ المرونة والعنف فی الاسلام
أ ـ بحث فی التساهل والتسامح
سؤال: ماذا یعنی التسامح والتساهل الدینی؟ وهل ان روایات من قبیل «بُعثتُ بالحنفیّة السمحة السهلة»1 تدل على امكانیة ان یتحلى الناس والحكام بالتسامح والتساهل لدى عملهم باحكام الدین؟
جوابه: من الامور التی ینبغی ان تحظى بالاهتمام فی مضمار الثقافة والفكر، صیاغة المعانی بشفافیة وازاحة الغموض عن المفاهیم وتجنب استخدام المفردات الفضفاضة. فاذا لم یتضح المعنى الدقیق للمفردات ودائرتها، ربما یصبح ذلك سبباً لسوء الفهم وبالتالی یجعل الكلام أو المقالة مضلّلة، لذلك ومن خلال معرفة هذا الأمر ینبری البعض وعبر استخدامهم للمفاهیم الغامضة لتضلیل مخاطبیهم لیتسنى لهم عن هذا الطریق تحقیق منافعهم الشخصیة والفئویة والتصیّد بالماء العكر.
من هنا، فان انجع السبل للحیلولة دون اساءة الفهم، صیاغة مثل هذه المفاهیم بشفافیة وتسلیط الاضواء على حدودها، ومفردتا «التسامح والتساهل» من هذا القبیل.
من الناحیة اللغویة تعنی التسامح والتساهل ابداء اللیونة، والمجاملة والعمل بما ینسجم مع رغبة الطرف المقابل والتهاون. فلننظر ما اذا كان هذا المعنى خلیقاً بأن یُلصق بالدین أم لا؟ واذا لم یكن الأمر كذلك فایُّ منحىً یتخذه الحدیث النبوی المتقدم وامثاله؟
من الظاهر للعیان عدم صحة الصاق التسامح والتساهل بالمعنى الآنف الذكر بالدین وتعذُّر القبول به، لان احكام الدین انما شُرعت بالاساس لضمان منافع الانسان الدنیویة والاخرویة، وثمة علاقة علیّة وتكوینیّة وحقیقیّة بین العمل الدقیق والكامل بهذه الاحكام وتحقق تلك المنافع التی شأنها كأی نتیجة اخرى یتوقف حصولها على توفیر المواد الاولیة والظروف الخاصة بها. فبلوغ المنافع الفردیة والاجتماعیة للانسان اخرویها ودنیویها منوط ایضاً بالعمل الدقیق والصحیح بتلك الاحكام ودون نقص أو تهاون.
ان الاسلام دین جامع وشامل اوضح بدقة الواجبات المنوطة بالمسلمین فی كافة المجالات العبادیة والسیاسیة والاجتماعیة والثقافیة، ومن بین ذلك اهتمامه بطبیعة تعامل المسلمین مع بعضهم وتعاطیهم مع المعاندین والمشركین. وهو یدعو المسلمین للالتزام بالحدود والقیم الالهیة فی علاقاتهم، ولم یكتف الاسلام بعدم القبول بادنى تسامح أو تساهل فی الالتزام بهذه الحدود والعمل بالتعالیم الالهیة، وانما نهى بكل صراحة عن التساهل والتهاون فی تطبیق القوانین والاحكام الالهیة، فعلى سبیل المثال، الخطاب الوارد فی القرآن الكریم والموجَّه للمسلمین فیما یتعلق بتطبیق حد الزنا:
«الزّانِیَةُ وَالزّانِی فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِد مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَة وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْیَوْمِ الآْخِرِ وَلْیَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ»2.
استناداً للآیة المتقدمة یجب عدم التأثر بالعواطف حین تطبیق الحد الالهی، والتمهید لانتشار الفساد من خلال التهاون فی تطبیق الحدود الالهیة، ففی مثل هذه الحالة سیطال الانحراف المجتمع الدینی والانسانی.
كما وضعت الاحكام الاسلامیة ضوابط معینة للتعامل مع المعاندین والمشركین ولا تسمح بادنى تهاون أو مجاملة بشأنهم، فعلى سبیل المثال ایضاً، یأمر القرآن الكریم فی ظل ظروف خاصة:
«وَاقْتُلُوهُمْ حَیْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ»3، أی اقتلوا المشركین والكفّار المحاربین والناكثین للعهد الذین اعتدوا علیكم وعلى ممتلكاتكم حیثما وجدتموهم.
بناءً على هذا اذا كان التسامح والتساهل یعنی الاهمال فی تطبیق احكام الدین أو التهاون والمجاملة ازاء إضعاف وهتك حرمة القوانین والقیم الاسلامیة العقائدیة منها والاخلاقیة ـ فهو مما لا یقبله الدین اطلاقاً وان الاسلام ینبری لمقارعته بشدة، كما ان المجاملة والمرونة حیال اعداء الاسلام والنظام الاسلامی الذین یرومون توجیه ضربة للنظام واضعاف معتقدات الناس، أمرٌ لا یطیقه الدین والنظام الدینی أبداً، ولا یحق لایٍّ من منتسبی الدولة أو غیرهم ممارسة مثل هذا التسامح والتساهل.
أما ما روی عن النبی الاكرم(صلى الله علیه وآله) فهو تنویه لمنّة الشارع المقدس ورأفته بالمسلمین، وبعبارة اخرى ان الله سبحانه وتعالى قد منَّ على الناس بالتساهل فی مرحلة تشریع الاحكام وسنّ القوانین، ولم یشرّع الاحكام الاسلامیة بنحو یتعرض معه العباد للشدائد والصعاب التی لا تطاق. وكنموذج على ذلك، فقد شرَّع التیمم إذا كان فی الوضوء واستخدام الماء ضرر على الانسان لأی سبب من الاسباب، وذلك للحیلولة دون حصول عارض أو ضرر للانسان، وكذلك رفع أی حكم یوجب العسر والحرج «وَمَا جَعَلَ عَلَیْكُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَج»4.
وبشكل عام فان منظومة الاحكام الاسلامیة احكام سهلة وسمحة، وبهذا المعنى فقط تأتی السهولة الدینیة.
اذن السهولة الواردة فی حدیث رسول الله(صلى الله علیه وآله) والاحادیث المشابهة له انما یقصد بها مقام تشریع الاحكام الذی هو بید الله سبحانه ولیس لأحد التدخل وتمریر ذوقه فی هذا المقام أبداً، والسماحة فی هذه المرحلة انما هی من صلاحیات الباری تعالى وحقّه بالذات. أما التساهل والتسامح الدینی بمعنى التهاون فی تطبیق التعالیم الدینیة والعمل بها، أو المرونة ازاء عملیة اضعاف الاحكام والمعتقدات الدینیة أو التصرف بما ینسجم مع رغبة الاعداء والمعاندین وذلك بأجمعه على صلة بمرحلة التطبیق وفعل الناس ـ فهو مما لا موقع له فی الدین أبداً.
ولا ننسى هذه الملاحظة من ان التحلی بالتساهل والمسامحة ازاء الذین لا یضمرون للاسلام والمسلمین العداء والعناد لیس محبذاً فحسب بل الاسلام یوصی به ایضاً كى تلین قلوب الكفار من غیر المحاربین المعاندین تحت ظلال الرحمة والرأفة الاسلامیة وینجذبوا نحو الاسلام والمسلمین:
«لا یَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِینَ لَمْ یُقاتِلُوكُمْ فِی الدِّینِ وَلَمْ یُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِیارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَیْهِمْ إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ»5.
بناءً على هذا، اذا ما اردنا التحدث عن التسامح والتساهل فی الدین فان مصداقه الصحیح تلك الحالات التی لا یكون فیها الآخرون معاندین واعداءً للاسلام والمسلمین وللنظام الاسلامی.
* * * * *
1. بحار الأنوار: 67/ 166.
2. النور: 2.
3. البقرة: 191.
4. الحج: 78.
5. الممتحنة: 8.