الهدف من نهضة عاشوراء (1)
اصلاح المفاسد هدف اصلیّ لنهضة الامام الحسین(علیه السلام)
مفهوم الاصلاح
تأثیر النظام القیمیّ فی تعریف الاصلاح
الاصلاح من وجهة نظر المنافقین
الاصلاح المطلوب
طرحنا فی الفصول السابقة أسئلة تدور حول موضوع عاشوراء ونهضة ابی عبداللّه الحسین(علیه السلام) وقد أجبنا علیها بمقدار ما سمح به معلوماتنا وحجم هذا الكتاب.
ومن جملة الأسئلة المهمّة التی تُطرح فی مجال هذه النهضة العظیمة التی لا نظیر لها فی التاریخ ـ وقد تكرّر طرحه من قبل واُجیب علیه مراراً ـ هو السؤال عن هدف سیدالشهداء(علیه السلام) من هذه الحركة. وقد أُجیب علیه بأجوبة عامّة یعلمها الكثیر، كقولهم: انّ نهضة الحسین(علیه السلام) كانت لاحیاء الدین واصلاح الامّة.
ولكنّه فی ظلّ هذا السؤال العامّ تخطر فی أذهان كثیر من شبابنا والیافعین عدّة أسئلة فرعیّة، منها:
أیّ اصلاح قد تمّ بهذه النهضة لسیدالشهداء(علیه السلام)؟
أیّ لون من ألوان الأمر بالمعروف تمثّله نهضة الامام الحسین(علیه السلام) بحیث كان لابدّ ان تتمّ بهذه الصورة؟
وكیف یتیسّر إحیاء الدین بهذه الطریقة؟
هل نجح سیّدالشهداء فی هدفه واستطاع بنهضته اصلاح الحكومة والامّة الاسلامیّتین والحیلولة دون وقوع المفاسد؟
انّ هذه الأسئلة تدور فی أذهان الكثیر من شبابنا، وفی بعض الأحیان یطرحونها باحثین لها عن أجوبة شافیة.
لكی نعرف السبب وراء نهضة سیّدالشهداء(علیه السلام) نتأمّل ـ أوّلاً ـ فی مجموعة من
عبارات الامام الحسین(علیه السلام) ننقلها تبرّكاً وتیمّناً بها ثم نقدّم بعض التوضیحات اللازمة فی هذا المجال.
اصلاح المفاسد هدف أصلیّ لنهضة الامام الحسین(علیه السلام):
فی وصیّة له(علیه السلام) موجّهة الى أخیه محمد بن الحنفیّة وردت جملة معروفة یقول فیها(علیه السلام):
«انّی لم اخرج أَشِراً ولا بَطِراً ولا مفسداً ولا ظالماً وانّما خرجت لطلب الاصلاح فی امّة جدّی(صلى الله علیه وآله)»(1).
اذا تعمّقنا فی عبارة «لطلب الاصلاح» وجدنا ملاحظة دقیقة، فالامام(علیه السلام) لم یقل «انّما خرجت للاصلاح» بل قال: «خرجت لطلب الاصلاح». ویشبه هذا التعبیر ما ورد فی حدیث الامام(علیه السلام) للصفوة والعلماء حیث یقول(علیه السلام):
«ولكن لنری المعالم من دینك ونُظهر الاصلاح فی بلادك»(2)
و قد تحدّث(علیه السلام) بهذا الأمر قبل اعلان الخروج على یزید والنضال ضدّه. فالامام(علیه السلام)یدعو فی آخر هذه الخطبة ویخاطب اللّه تعالى بما معناه: انّك یا الهی تعلم انّ هدفنا من هذا النشاط السیاسیّ لیس سوى ان نبیّن للناس معالم دینك والمعاییر الاسلامیّة، ای نبیّن لهم ما هو الدین؟ وما هی علاماته؟ وبأیّ معیار یمكن التمییز بین الأفراد المتدیّنین والذین لا دین لهم؟ وهدفنا هو ان «نظهر» الاصلاح فی بلادك. ویمكن ان یكون هذا «الاظهار» بأحد معنیین: الأوّل یعنی ان نبیّن ما هو معنى الاصلاح. والثانی یعنی ان نحقّق الاصلاح ونجعله ظاهراً وغالباً على الفساد.
1. بحارالأنوار، ج 44، ص 329، الباب37، الروایة 2.
2. نفس المصدر السابق.
مفهوم الاصلاح:
لمّا كانت كلمة «الاصلاح» من الكلمات المستخدمة كثیراً فی كتاباتنا السیاسیّة وقد أشار الیها قائد الثورة الاسلامیّة حفظه اللّه فی خطاباته، لذا فنحن نولی هذه الكلمة أهمیّة خاصّة ونوضّح أبعادها وجوانبها لكی نكون من المقتدین بالصالحین.
نبدأ أوّلاً بذكر معنى هذه الكلمة ثمّ نستعرض موارد استعمالها فی القرآن الكریم والروایات الشریفة ، ثم نقدّم عرضاً للمواضیع التی نراها حسّاسّة فی ضوء هذه النصوص الشریفة.
«الاصلاح» كلمة مأخوذه من هذا الجذر وهو «ص ل ح» وله أحد معنیین، اولهما مأخوذ من مادّة (الصُلح)، والثانی مأخوذ من مادّة (الصَلاح). فالاصلاح من مادّة الصُلح یعنی رفع الاختلاف والشجار بین فردین أو بین فئتین. وقد وردت كلمة الاصلاح بهذا المعنى فی القرآن الكریم فی مجال رفع الخلاف بین الزوجین حیث یقول تعالى:
«... فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ یُرِیدا إِصْلاحاً یُوَفِّقِ اللّهُ بَیْنَهُما...»(1)
ای اذا حدث الاختلاف والشجار بین المرأة وزوجها فإنّه یتمّ اختیار حَكَم من قبل أهل الزوج وحكم آخر من قبل أهل امرأته، فان كانت المرأة وزوجها طالبین للاصلاح واقعاً فانّ اللّه سبحانه سوف یُصلح بینهما.
وفی آیة اخرى یقول تعالى:
«وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَیْهِما أَنْ یُصْلِحا بَیْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَیْرٌ»(2)
وهناك تعبیر آخر فی هذا المجال وهو شائع بین الناس ووارد فی القرآن الكریم
1. سورة النساء، الآیة 35.
2. سورة النساء، الآیة 128.
ایضاً وهو اصلاح ذات البین الذی یعنی ایجاد السلام والعلاقة الحسنة بین شخصین أو فئتین مختلفتین. یقول القرآن الكریم:
«وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَیْنِكُمْ»(1)
وقد ذكرت الروایات الشریفة ثواباً عظیماً لإصلاح ذات البین، فاذا كان هناك مؤمنان أو عائلتان أو فئتان بینهما اختلاف ونزاع فلابدّ من المبادرة الى اصلاح الوضع بینهما، ویترتب على هذا الاصلاح ثواب یفوق ثواب الصلاة المستحبة والصوم المستحب.(2) ویتّسع مجال اصلاح ذات البین لیشمل هذه الحالة وهی ما اذا حدث نزاع مسلّح بین فئتین منتسبتین الى المجتمع الاسلامیّ وتقاتلتا، یقول تعالى:
«وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُما...»(3)
فالحلّ الأوّل الذی تطرحه الآیة الكریمة هو الإصلاح برفع الاختلاف سلمیّاً، ثمّ تتعرّض الآیة بعد ذلك لموضوع الجهاد بعد فشل الحلّ السلمیّ وهو خارج عن بحثنا الحاضر.
اذن كلمة الاصلاح فی هذه الموارد تعنی ایجاد السلام ورفع الاختلاف بین فردین أو فئتین من الناس.
أمّا الاستعمال الآخر لكلمة الاصلاح فهو مأخوذ من مادّة الصَلاح وهو فی مقابل الفساد، فالعمل الصالح والشخص الصالح هو غیر الفاسد. والاصلاح بهذا المعنى یكون فی مقابل الافساد، ویعنی القیام بالعمل الصالح أو رفع الفساد. ویُطلق اسم «المصلح» على الشخص الذی یقوم بأعمال صالحة تماماً ویرفع ألوان الفساد والنقص والعیب من الوسط الاجتماعیّ. ویكون فی مقابله اسم «المفسد» الذی
1. سورة الأنفال، الآیة 1.
2 بحار الانوار، ج 42، الباب 127، الروایة 51 و58; ج 75، الباب 34، الروایة 3; ج 76، الباب 101، الروایة 2; ج 78، الباب 18، الروایة 2.
3. سورة الحجرات، الآیة 9.
یطلق على من یوجِد الفساد ویروّج له فی الوسط الاجتماعیّ. وبهذا المعنى جاء اصطلاح «المفسد فی الأرض». وهذا المعنى للاصلاح یختلف عن الاصلاح بمعنى رفع الاختلاف بین فردین أو فئتین. فالذی یحاول ان یرفع فساداً أو یعمل عملاً صالحاً لا یواجه فرداً معیّناً. وبناءً على هذا فالاصلاح المأخوذ من مادّة الصلاح له مصداقان، أحدهما بمعنى القیام بالعمل الصالح، والثانی بمعنى رفع الفساد أو الحیلولة دون وقوعه. وكلا المصداقین قد استُعمل فی القرآن الكریم، قال تعالى:
«إِلاَّ الَّذِینَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا»(1)
أی انّهم عملوا اعمالاً صالحة بعد توبتهم بدل تلك الأعمال الخاطئة والذنوب التی كانوا قد ارتكبوها.
والاصلاح الذی یتمیّز بالبُعد الاجتماعیّ وهو مطروح فی أحادیث أبی عبداللّه الحسین(علیه السلام) وفی الدراسات السیاسیّة والاجتماعیّة المعاصرة هو الاصلاح فی مقابل الافساد، ویعنی اصلاح المفاسد.
الى هنا اتّضح مفهوم الاصلاح كما جاء فی اللغة العربیّة وكما هو مستعمل فی القرآن الكریم والدراسات الدینیّة.
أمّا مفهوم الاصلاح فی الجوّ السیاسیّ المعاصر فقد اكتسب خصوصیّة معیّنة فی المصطلحات السیاسیّة فهو یستعمل بمعنى «رِفُرم»(2)، وفی مقابل مفهوم الانقلاب والثورة.
یقولون انّ التغییرات التی تحدث فی المجتمع تارةً تتمّ بصورة تدریجیّة وبطیئة وبهدوء وتأنٍّ، فیُطلق علیها عندئذ اسم «رِفُرم»، ویُطلق على الذین یقومون بهذه
1. سورة البقرة، الآیة 160; سورة النساء، الآیة 146.
2. Reform
التغییرات فی المجتمع اسم «رِفُرمیست»(1). واللفظ المتداوَل اطلاقه علیهم فی العالم السیاسیّ الیوم هو اسم «الإصلاحییّن».
وفی مقابل هؤلاء یوجد أشخاص یریدون تغییر الأوضاع دفعةً وهم الانقلابیون أو الثوریون. فالثورة تعنی التغییر الاجتماعیّ المفاجئ والسریع الذی یرافقه العُنف أحیاناً، مثل الثورة الاسلامیّة فی ایران.
انّ هذا الاصطلاح لِـ«الاصلاح» هو اصطلاح سیاسیّ فی مقابل الثورة، ویستعمل بالمعنى الأخصّ للاصلاح، ولا علاقة له بالمعنى اللغویّ ولا بالاصطلاح الدینیّ للكلمة، وانّما هو اصطلاح سیاسیّ حدیث، یستعملون فیه «الاصلاح» بمعنى مقابل للثورة.
ومن الواضح انّ هذا المصطلح حدیث ولم تُستعمل هذه الكلمة بهذا المعنى لا فی القرآن الكریم ولا فی الروایات الشریفة. فاذا قال سیّدالشهداء(علیه السلام): «انّما خرجت لطلب الاصلاح فی امّة جدّی» فانّه لا یقصد هذا المعنى الخاصّ للكلمة، حیث انّ نهضته المباركة لم تكن تحرّكاً تدریجیّاً هادئاً ومن دون عنف، بل كانت حرباً وقتالاً وتضحیة بعشرات الشرفاء فی سبیل ذلك الهدف الرفیع.
وقد أشار قائد الثورة الاسلامیّة فی خطاباته الى هذه الملاحظة فأكّد على أنّنا عندما ننادی بالاصلاح فنحن لا نقصد به معناه الخاص المتداول الیوم فی العالم السیاسیّ، وانّما نقصد به كلّ لون من ألوان النضال ضدّ الفساد ولرفع المفاسد، سواء أكان ذلك یتمّ بصورة تدریجیّة أم بصورة دفعیّة وثوریّة. ولهذا أعلن سماحته انّ الثورة الاسلامیّة فی ایران كانت أعظم اصلاح فی هذا القرن، مع انّه لا یُطلق علیها مفهوم «الاصلاح» بالمعنى السیاسیّ المتداول الیوم.
2. Reformist
ویقصد سماحته انّنا عندما نتحدّث عن الاصلاح بالمعنى الوارد فی القرآن الكریم والروایات الشریفة فنحن نقصد معناه الأعمّ الذی یشمل الاصلاح الذی یتمّ بصورة تدریجیّة والاصلاح الذی یتمّ بصورة دفعیّة وثوریة وبسرعة وعجلة. ولهذا اعتُبرت الثورة الاسلامیّة أكبر اصلاح فی القرن العشرین، لانّها أدّت الى رفع مفاسد كثیرة، وان كان هذا الإنجاز قد تمّ بصورة دفعیّة. صحیح انّ مرحلة الثورة قد امتدّت خمسة عشر عاماً حتّى انتصرت، لكنّ انتصار الثورة على النظام السابق قد تمّ بصورة دفعیّة، فتغیّرت أجهزة البلد ومؤسسّاته وسیاساته السابقة بصورة مفاجئة ووضع دستور جدید، وحدثت فی البلاد تحوّلات أساسیّة شملت جمیع الأبعاد المهمّة.
تأثیر النظام القیمىّ فی تعریف الاصلاح:
قلنا: انّ كلمة «الاصلاح» فی القرآن الكریم امّا ان تكون مأخوذة من مادّة «الصُلح» وامّا ان تكون مأخوذة من مادّة «الصلاح» ونحن نعتمد فی بحثنا هذا على الاصلاح المأخوذ من مادّة «الصلاح» الذّی هو فی مقابل «الفساد». والصلاح والفساد فی القرآن هما من أعمّ المفاهیم القیمیّة. ولمّا كان بعض شبابنا لا یتمتّع بالاحاطة العلمیّة الكافیة بمعانی هذه المصطلحات لذا نجد أنفسنا ملزمین بتقدیم توضیح مختصر للمفاهیم القیمیّة.
فالمفاهیم الّتی نستخدمها تارةً تتحدّث عن الأشیاء الموجودة فی الخارج، وتارةً اخرى تتحدّث عن الأشیاء التی ینبغی أن توجد أو لا ینبغی أن توجد. والمفاهیم التی تستبطن معنى «ینبغی» و«لاینبغی» تُسمّى بـ «المفاهیم القیمیّة».
ما هو الفعل الحسن؟ هو الفعل الذی «لابدّ» من القیام به.
ما هو الفعل القبیح؟ هو الفعل الذی «لاینبغی» القیام به.
ما هو «الصلاح»؟ هو ذلك الشیء الذی «لابدّ» من البحث عنه والحرص علیه.
ما هو «الفساد»؟ هو ذلك الشئ الذی «لاینبغی» فعله، أو «لابدّ» من الحیلولة دون وقوعه.
فالصلاح والفساد مفهومان قیمیّان، أی عندما نقوم بتحلیلهما فانّهما یستبطنان معنى «ینبغی» و«لاینبغی».
والمفاهیم القیمیّة تارةً تكون محدودة وتُستعمل فی مورد خاص، وتارةً اخرى تكون واسعة بحیث تشمل جمیع الأفعال الحسنة أو جمیع الأفعال القبیحة.
والمفاهیم التی تشمل جمیع الأفعال الحسنة أو جمیع الأفعال القبیحة تُسمّى بالمفاهیم القیمیّة العامّة.
ونلاحظ فی القرآن الكریم وجود عدّة مفاهیم قیمیّة عامّة ومن جملتها مفهوم «الصلاح» ومفهوم «الفساد».
ومن جملتها أیضاً مفهوم «المعروف» ومفهوم «المنكر»، فالمعروف هو كلّ فعل حسن، والمنكر هو كلّ فعل قبیح.
و«الخیر» و«الشرّ» یعتبران أیضاً من جملة المفاهیم القیمیّة العامّة الواردة فی القرآن الكریم.
من میزات المفاهیم القیمیّة انّها لا تخضع للمعاییر التجریبیّة العینیّة. فاذا قلنا «الجوّ ساخن» أو «هذا المكان مضیء» فنحن نستطیع ان نثبت ذلك بالتجربة العینیّة، مثلاً اذا كان الطقس بشكل یؤدّی الى تصبّب العرق من أجسامنا ونشعر بعدم الارتیاح فإن الجوّ ساخن، وأمّا اذا كنّا نرتجف فانّ الجوّ بارد. وبنفس الطریقة نستطیع ان نتأكّد من انّ هذا المصباح یضیء واذا ضغطنا على الزرّ المتعلق به فانّه ینطفئ. اذن صحّة أو خطأ هذه الموارد یمكن اثباتها بالتجربة الحسیّة والعینیّة بحیث یمكن التأكّد من صحّة أو خطأ هذه الجمل القائلة: «الجوّ ساخن» أو «هذا المكان مضی» أو «الجوّ بارد».
لكنّ المفاهیم القیمیّة لیست بهذه الصورة. فبأیّ حسّ یمكننا تجربة حسن أو قبح فعل من الأفعال؟
ولهذا یقولون انّ «الحسن والقبح» و«الصلاح والفساد» و«المعروف والمنكر» كلّها تابعة للنظام القیمیّ. فالأفراد والفئات والمجتمعات تتمتّع بنظام قیمیّ، بمعنى انّها تعتبر مجموعة من الأفعال حسنة وقیّمة، ومجموعة اخرى من الأفعال قبیحة وسیّئة. وقد یكون أحد الأفعال حسناً فی نظام قیمیّ، وهو نفسه یُعتبر قبیحاً فی نظام قیمیّ آخر. مثلاً فی مجتمع مّا یُؤدّى الاحترام للآخرین بشكل معیّن ویعتبر هذا حسناً، بینما نفس هذا الفعل یُعتبر قبیحاً وسیّئاً فی مجتمع آخر.
وبناءً على هذا فـ «الصلاح» و«الفساد» یتفاوتان بشكل یتناسب مع الأنظمة القیمیّة المختلفة، فلیس الأمر بهذه الصورة وهی انّ الناس مجمعون على اعتبار شیء مّا حسناً وشیء آخر قبیحاً.
وبالالتفات الى كون «الصلاح والفساد» و«الاصلاح والافساد» من المفاهیم القیمیّة، فاذا استُعملت فی مجال معیّن فانه یُطرح هذا السؤال وهو: حسب أیّ نظام قیمیّ یكون هذا «الاصلاح»؟ هل المقصود به هو الاصلاح الأمریكیّ أم الاصلاح الاسلامیّ؟
لماذا قال قائد الثورة الاسلامیّة: انّ الاصلاح الاسلامیّ الایمانی الثوریّ هو مورد قبول جمیع الناس فی مجتمعنا، امّا الاصلاح الامریكیّ فهو مرفوض من قبل الجمیع فیه؟ ما الفرق بین الاصلاح الأمریكیّ والاصلاح الاسلامیّ؟
الجواب هو: انّ اعتبار شیء ما اصلاحاً تابع للنظام القیمیّ والثقافیّ الذی تُستعمل فیه هذه الكلمة، فلابدّ من التأكّد من هذا الأمر وهو: أیّ فعل یعتبرونه حسناً وأیّ فعل یعتبرونه قبیحاً؟ وما هو معیارهم فی تشخیص الحسن والقبیح وفی تمییز اللائق من غیر اللائق؟
اذن لكی نعرف أیّ فعل حسن وأیّ فعل قبیح لابدّ أن نبیّن معیارنا فی البدایة، بمعنى ان نبیّن أیّ نظام قیمیّ نحن نعتنقه، هل نحن نؤمن بالنظام القیمیّ الاسلامیّ ونرید القیام بـ «الاصلاح» حسب هذا النظام القیمیّ، ای انّنا نرید ان ننفّذ كلّ ما یقول الاسلام انّه حسن، ونرید ان نقاوم كل مایقول الاسلام انّه قبیح؟ أم انّنا نرید القیام بكلّ ما یقول الامریكیّون انّه حسن وان كان مضادّاً للاسلام، ونرید مقاومة كلّ مایقول الامریكیّون انّه قبیح وان كان الاسلام یأمر بفعله؟
هل هذا أمر ممكن؟ نعم انّه ممكن.
توضیح ذلك: انّ جمیع الناس مع اختلاف ثقافاتهم وتنوّع ظروفهم یعرفون قبح بعض الأشیاء ویسلّمون بذلك. مثلاً اذا ضرب شخص شخصاً آخر من دون ذنب أو وجّه له كلمات نابیة، أو قام شخص باغتیال شخص آخر بصورة مخالفة للقانون ومن دون ان یكون ظالماً، وكذا اذا اغتصب شخص أموال شخص آخر من دون مبرّر، أو اعتدى على عرضه بشكل عنیف، فانّ الناس فی جمیع هذه الموارد یقولون انّه قد فعل شیئاً قبیحاً.
والواقع انّ الجمیع یعرفون أمثال هذه المصادیق من الظلم، وهی تُعدّ قبیحة فی جمیع الثقافات.
ومن جهة اخرى توجد هناك أعمال تُعدّ حسنة عند جمیع الناس، مثل القیام بخدمات تؤدّى الى سلامة الناس، من قبیل اكتشاف دواء وجعله تحت تصرّفهم، أو سائر الخدمات الصحّیة، والكلّ یقول انّها أعمال حسنة، ولا خلاف على ذلك.
إلاّ انّ جمیع موارد الحسن والقبح لیست بهذه الصورة، فبعض الموارد التی نحن بأمسّ الحاجة الیها الیوم یُنظر الیها بأشكال مختلفة فی المجتمعات المتنوّعة. فقد طرق سمعكم قطعاً مایُشاع الیوم من انّ الثقافة لابدّ ان تصبح عالمیة، أو انّ امریكا تحاول فرض ثقافتها بالقوّة على جمیع أرجاء العالم. انّ الدعوة الى وحدة الثقافة أو
عولمة الثقافة الغربیّة هی بسبب انّ هؤلاء یعتبرون بعض الامور حسنة وبعض الامور الاخرى قبیحة، ویقولون للآخرین تعالوا فكّروا كما نحن نفكّر ولابدّ لكم من اعتناق القیم التی نحن نعتنقها. ونحن لا نذكر بعض الأمثلة لذلك لانّها ممّا یُستقبح التصریح به، ولكنّ هناك بعض المصادیق لهذا الموضوع بیّنة وواضحة. مثلاً یعتقد هؤلاء انّ العقوبات الشدیدة ـ من قبیل الجلد وقطع الید والإعدام وأمثالها ـ قبیحة وسیّئة، ولهذا جاء فی منشور حقوق الانسان انّ جمیع الدول مكلّفة بإلغاء العقوبات العنیفة. ویزعم هؤلاء انّ قانون العقوبات الاسلامیّ الذی یتضمّن الجلد وقطع الید والإعدام وبعض صور الحدود الاخرى هی عقوبات تتمیّز بالعنف والخشونة. ویعلن منشور حقوق الانسان انّ جمیع دول العالم لابدّ لها من السعی لإلغاء مثل هذه العقوبات، وهذا یعنی انّ وجود هذه العقوبات فساد لابدّ من اصلاحه. كیف یتمّ هذا الاصلاح ؟ لابدّ من الغاء هذه القوانین!
أمّا نحن ماذا نقول؟ نحن على أساس الثقافة الاسلامیّة نقول: انّ ماجاء به القرآن الكریم لابدّ من تنفیذه، واذا لم یتمّ تنفیذه فانّه فساد. فالفساد هو ترك الحدود الالهیّة وتعطیلها ولیس تنفیذ الحدود الالهیّة.
اولئك یقولون إنّ تنفیذ الحدود الاسلامیّة أمر قبیح لابدّ من مقاومته ویجب الغاء القوانین المتعلّقة بها ویتعیّن الحیلولة دون العمل بها، وعندئذ یتحقّق الاصلاح.
انّ هذا هو الاصلاح القائم على أساس الثقافة الغربیّة، وهو الوارد فی منشور حقوق الانسان.
وعندما یصرّحون بانّهم یناضلون ضدّ العنف فمقصودهم هو هذا. وإلاّ فانّ موارد العنف العادّی یسلّم الجمیع بانّها قبیحة، مثل اطلاق الكلمات البذیئة على الناس وسوء الخلق معهم.
الخلاف على شیء آخر وهو: كیف یُنظر الى قطع ید السارق واعدام القاتل
المتعمّد ومعاقبة المحارب والمخلّ بالأمن الاجتماعیّ؟ هؤلاء یقولون: انّ هذه ألوان من الفساد وهی قبیحة، والعالم المتحضّر الیوم یرفض مثل هذه الممارسات ویدینها. فلابدّ من تركها ومقاومتها حتّى یتمّ الاصلاح. اذا وجدنا مثل هذه الأحكام فی مجموعة مّا من القوانین، فانّ تلك المجموعة من القوانین لا تنسجم مع الحیاة الغربیّة المتحضّرة، اذن لابدّ من اصلاحها.
أمّا الاصلاح الذی ندعو الیه نحن فهو عكس هذه النظریة تماماً، اذا كانت الحدود الالهیّة معطّلة فی مجال معیّن فلابدّ من تنفیذها لكی یتمّ الاصلاح، واذا لاحظنا قانونا مخالفاً للقانون الاسلامیّ فلابدّ من تغییره لیتمّ الاصلاح. موافقة القانون للاسلام هو «الاصلاح»، ومخالفة القانون للاسلام هو «الافساد».
الاصلاح من وجهة نظر المنافقین:
منذ أزمان موغلة فی القِدم اُسی استغلال مثل هذه الكلمات واستُخدمت بشكل غیر صحیح وتمّت المغالطة فیها، وقد تمیّز المنافقون بمثل هذه الأسالیب. فالمنافقون لهم وجهان وهم دائماً یتحدّثون بشكل یمكن تبریره بالنسبة للطرفین. النفاق یعنی الظهور بوجهین، انّهم یتحرّكون بین الحقّ والباطل، لا یظهر الحقّ الخالص على ألسنتهم ولا الباطل المحض، وذلك من أجل استغلال الموقف اللاحق، فان كانت النتیجة لصالح أهل الحقّ فانّهم یعلنون انفسهم جزءاً من معسكر الحقّ قائلین: «ألم نكن معكم؟» فنحن مؤمنون. وامّا اذا كانت النتیجة لصالح أهل الباطل فانّهم یقولون: لقد نصحنا هؤلاء منذ البدایة وحذّرناهم من هذه الأفعال ولكن لم تكن لهم اُذن صاغیة. قلنا لهم: مادمتم قد استرجعتم مدینة «خرمشهر» من أیدی الجیش العراقی فی السنین الاُولى من الحرب فاتركوا القتال وكفّوا عن الحرب، ولكنّهم لم یُصغوا الى النصیحة!
انّ من الأسالیب الثابتة للمنافقین هو التحرّك على الحدّ الفاصل بین الحقّ والباطل، كما یقول تعالى:
«مُذَبْذَبِینَ بَیْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ».(1)
انهم انتهازیّون، وهم فی الواقع لا یعترفون بهذا الطرف ولا بذلك الطرف، وانّما هم باحثون عن مصالحهم الخاصّة، فان هبّت الریح من هذا الجانب فهم ثوریّون، واذا أمسكت بزمام الامور فئةٌ اخرى أصبحوا اصلاحیّین ومنتمین الى الطرف الآخر. فی كلّ یوم تتغیّر فیهم الألوان، ویبدّلون أقنعتهم بما یتناسب مع الظروف. هذه هی من أبرز میزات النفاق.
ومن الخصائص الاخرى للنفاق انّ المنافقین یعتبرون أنفسهم مصلحین دائماً، یقول اللّه تعالى:
«وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْیَوْمِ الآْخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِینَ. یُخادِعُونَ اللّهَ وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ ما یَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما یَشْعُرُونَ. فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ بِما كانُوا یَكْذِبُونَ. وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِی الأَْرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا یَشْعُرُونَ»(2)
بعض الناس یدعی انّه من جملة المتدینین ولكنّه كاذب فی هذا الادّعاء، ویقوم بالافساد فیخالف القانون ویتّهم الناس بدون دلیل ویغتال الشخصیّات بلامبرّر ثمّ یقول انا وجماعتی «انّما نحن مصلحون». یقول اللّه تعالى: اذا نصحهم ناصح بان «لا تفسدوا فی الأرض» (هذا الافساد بحسب النظام القیمیّ الاسلامیّ) فانّهم لا یقبلون هذه النصحیة لانّهم لایؤمنون بالنظام القیمیّ الالهیّ القرآنیّ بل یؤمنون بنظام قیمیّ آخر لا یعتبر هذا فساداً.
1. سورة النساء، الآیة 143.
2. سورة البقرة، الآیات 8ـ12.
ویمكننا ان نجسّم هذا النظام الذی هو مطمح أنظارهم ـ فی عصرنا الحاضر ـ فی النظام القیمیّ الامریكیّ أو الغربیّ. وقد كان فی عصر النبیّ الأكرم(صلى الله علیه وآله) نظام قیمیّ إلحادیّ یقف فی مقابل ما جاء به النبیّ(صلى الله علیه وآله) من نظام قیمیّ اسلامیّ. لا فرق بین هذا وذاك فكلّ ما هو مضادّ للاسلام فهو كفر وإلحاد سواء أكان نظاماً أمریكیّاً أم انجلیزیّاً أم منتسباً لقوم آخرین، فاذا لم یكن النظام اسلامیّاً فان «الكفر ملّة واحدة».
واذا قال القرآن: «لاتفسدوا فی الأرض» فانّه ینهى عن القیام بأعمال تعدّ فساداً بحسب النظام القیمیّ الاسلامیّ.
لكنّ هؤلاء یقولون «انّما نحن مصلحون» ولسنا مفسدین. سرّ هذا الاختلاف أنّ هؤلاء ینظرون الى الامور بمنظار یختلف فی المبنى والأساس عن المنظار القرآنیّ. فاللّه تعالى یعتبر شیئاً مّا اصلاحاً بینما هؤلاء یعتبرون شیئاً آخر اصلاحاً. واللّه سبحانه یعتبر شیئاً معیّناً افساداً بینما هؤلاء یعتبرون شیئاً آخر افسادا. ثمّ یؤكدّ اللّه تعالى على أمر مهمّ فیقول: «ألا انّهم هم المفسدون» باستعمال ضمیر الفصل و«الالف واللام» ممّا یفید الحصر، ای انّ المفسدین الحقیقیّین هم هؤلاء المنافقون الذین یدّعون انّهم مصلحون، وهم فی الواقع كاذبون، انّهم یدّعون الایمان وهم كاذبون، ویقولون انّهم مثقّفون مستنیرون فی الدین، وهم لا یعرفون من الدین إلاّ القلیل. فاذا جرى الحدیث عن الوحی قالوا: انّ الوحی تجربة شخصیّة! فالشخص یعیش فی بعض الأحیان حالةً روحیّة معیّنة ویتصوّر انّ اللّه یكلّمه! وهذا التصوّر یصبح وحیاً بالنسبة الیه! وعندما یجری الحدیث عن الدین فهم یقولون: انّ الدین متعلّق بالامور الشخصیّة فحسب، ولا علاقة للدین بالاقتصاد ولا بالشؤون السیاسیّة ولا بالامور الاجتماعیّة ولا حتّى بالقیم الأخلاقیّة! فالقیم أیضاً لیست جزءاً من الدین! لانّ القیم متغیّرة، ولابدّ ان تتغیّر فی كلّ عصر حسب أذواق الأشخاص! فما هو الدین اذن؟ انّه مجموعة من المناسك والآداب والقواعد
الاعتباریّة التی تُقدّم بعنوان انّها عبادة لشی یتصوّر الشخص انّه ربّه وإلهه! ومن الممكن ان یُصبّ هذا المفهوم فی قالب عبادة الأصنام أو عبادة اللّه! وقد یعبد الشخص إلهین أو ثلاثة آلهة. هذا هو الدین! كلّ هذه لا یختلف بعضها عن بعض. هذا صراط مستقیم وذاك أیضاً صراط مستقیم آخر! عبادة الصنم المصنوع من الحجارة صراط مستقیم وعبادة اللّه التی یقول بها الاسلام ویُقصد بها وجه اللّه الذی هو الكمال المطلق المنزّه عن الجسم والجسمانیّات هی دین وصراط مستقیم آخر! ولا فرق بینهما!
كیف یمكن ان لا یكون بینهما فرق؟
لانّ أیّاً منهما ـ من وجهة نظر هؤلاء ـ لیس له واقع. هذا كاذب وذاك كاذب، ولا فرق بینهما من هذه الجهة!
انّ أمثال هؤلاء یدّعون التدیّن، ولا تقتصر المصیبة على هذا، بل یدّعون انّهم قادة وهادون یهدون الآخرین ویعلّمونهم الدین!
وهم یزعمون أیضاً انّهم مصلحون! الاصلاح حسب أیّ نظام قیمیّ؟
انّهم یصرّحون بانّه لا یوجد نظام قیمیّ ثابت فی العالم، ولا یمكن ان یكون ثابتاً. واذا جرى الحدیث عن أحكام الاسلام فلكی یخدعوا الآخرین فهم یقولون نعم انّ هذا حكم اسلامیّ ولكنّه قد وضع لظروف كانت سائدة قبل ألف واربعمائة عام! أمّا الیوم فقد تغیّرت الظروف، والاسلام دین حَرَكىّ وهو متغیّر الشكل فی كلّ عصر.
نحن مسلمون وقد قمنا بثورة اسلامیّة ونلحّ فی تطبیق النظام الاسلامیّ. لكن أیّ اسلام نحن نطالب به؟ أهو الاسلام الذی نزل من اللّه تعالى على النبیّ الأكرم(صلى الله علیه وآله)قبل الف وأربعمائة عام أم الاسلام الذی جاء به هؤلاء من أمریكا؟
الذین قدّموا مئات الآلاف من الشهداء لكی یحكم هذا البلدَ نظامٌ اسلامیّ هل هم یقصدون الاسلام القادم من أمریكا؟ هذا الكفر الذی جعل علیه اسم الاسلام ظلماً
وعدواناً؟ هذا الافساد الذی اُطلق علیه اسم الاصلاح؟ الى ایّ اصلاح یهدف هؤلاء؟ الى كشف الحجاب وحضور النساء فی مجالس الرجال عاریات؟ الى حریّة بیع الخمور وشربها؟ الى حضور الشباب الفتیات فی الشوارع والرقص معاً؟ وكذا احیاء سنن الكفّار التی تعود الى ما قبل ألفین وخمسمائة عام!
هذه هی من موارد الاصلاح التی یهدف الیها الاصلاحیّون.
انّها فی الواقع تعطیل للأحكام الالهیّة وتغییر للقوانین القرآنیّة! ولكنّهم یطلقون علیها اسم «الاصلاح»!
صدق اللّه العلیّ العظیم اذ یقول:
«وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِی الأَْرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا یَشْعُرُونَ»
الاصلاح المطلوب:
و الآن نتساءل: لماذا نهض سیّدالشهداء(علیه السلام)؟
هل كانت نهضته تهدف الى أن یسود الناسَ نظامٌ «مبتكر» «متغیّر»؟
هل كان هذا هو مضمون «الاصلاح» الذی جاء به؟
أم انّه صرّح بكل وضوح: یجب علیكم ان تنفذّوا نفس الأحكام الّتی جاء بها جدّی رسول اللّه(صلى الله علیه وآله)؟
عندما رأى(علیه السلام) من یدّعی الخلافة یعاقر الخمر ویصلّی بالناس وهو سكران هل رحّب بهذه الحالة واعتبرها اصلاحاً؟ أم أطلق صرخة مدوّیة قائلاً: لابدّ من اجراء الحدّ على شارب الخمر؟
ثم نلقی نظرة على سلوك مدّعی الاصلاح فی بلادنا ـ خلال الفترة الأخیرة ـ حیث یعطون الضوء الأخضر لشاربی الخمر، وفی بعض الموارد تقول بعض
المؤسسّات الرسمیّة لهذا البلد الاسلامیّ للضیوف الأجانب: اذا كنتم بحاجة الى «البیرة» فسوف نحضرها لكم! ویعتبرون هذا لوناً من الاصلاح!
لماذا؟ یقولون: انّ الناس تشدّدوا كثیراً فی أوائل الثورة، وقد منع هذا التشدّد الضیوف الأجانب من المجی الى بلادنا، أمّا نحن فنحاول اصلاح الوضع لكی نجتذب الضیوف الأجانب الى بلادنا وننتفع من وجودهم بین اظهرنا! فنحن نرحّب بالضیوف الأجانب وهم یحملون أمتعتهم التی تحتوی على المسكرات وأشیاء اخرى لا أحبّ ان اخوض فیها!
ماذا یقصد سیّد الشهداء(علیه السلام) بـ «الاصلاح» حینما قال:
«انّما خرجت لطلب الاصلاح فی اُمّة جدّی»؟
ونضمّ الى هذا النصّ نصّاً آخر وهو جزء من خطاب له(علیه السلام) ألقاه أثناء مسیره نحو كربلاء، لعلّه یساعدنا على توضیح الموضوع اكثر، یقول(علیه السلام): «انّ رسول اللّه(صلى الله علیه وآله)قد قال فی حیاته من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم اللّه ناكثاً لعهداللّه مخالفاً لسنّة رسول اللّه یعمل فی عباداللّه بالاثم والعدوان ثمّ لم یغیّر بفعل ولا قول كان حقیقاً على اللّه ان یدخله مدخله. وقد علمتم انّ هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشیطان وتولّوا عن طاعة اللّه واظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفی وأحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله وانّی أحقّ بهذا الأمر»(1)
كلّ من یرى حاكماً قد تسلّط على الآخرین بالقوّة وهو ناكث لعهد اللّه، ما هو عهد اللّه؟ انّه عهد العبودیة الوارد فی قوله تعالى:
«أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَیْكُمْ یا بَنِی آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّیْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِینٌ. وَ أَنِ اعْبُدُونِی هذا صِراطٌ مُسْتَقِیمٌ»(2)
1. بحار الانوار، ج 44، ص 382، الباب 37، الروایة 2.
2. سورة یس، الآیتان 60ـ61.
كل من یرى حاكماً یستغلّ قدرته للتحلّل من عبودیّة اللّه، ویسیر بشكل مخالف لسنّة رسول اللّه(صلى الله علیه وآله) حیث لا یعمل بأقواله(صلى الله علیه وآله)، ویَتَّسم سلوكه مع الناس بالاثم والعدوان، من رأى سلطانا بهذه الصفات ثمّ لم یغیّر علیه بفعل ولا قول، أی لم یعمل عملاً ولم یقل قولاً یدفع هذا الشخص للعودة الى المسیر الصحیح، فانّ من حقّ اللّه سبحانه ان یُدخله جهنّم مع ذلك الظالم. ذلك الحاكم قام بعمل خاطئ، وهذا الشخص قد سكت عن هذا الخطأ، ویعتبر السكوت إمضاءً لعمل مرتكب الخطأ ویؤدّی الى ان یصبح الشخص جلیساً للمخطئ.
ثم یشیر(علیه السلام) الى القوم الذین یواجههم ـ وهم بنو امیّة ـ فیؤكّد على انّهم قد عملوا على عكس عهد اللّه المبیّن فی قوله تعالى: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَیْكُمْ یا بَنِی آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّیْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِینٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِی هذا صِراطٌ مُسْتَقِیمٌ ». فهم «قد لزموا طاعة الشیطان وتولّوا عن طاعة اللّه».
ویواصل(علیه السلام) خطابه فیقول: «و أظهروا الفساد» وهو موضع شاهدنا فی هذا البحث، حیث أظهروا الفساد فی المجتمع. ماذا فعلوا؟ یقول(علیه السلام) فی عطف تفسیر على العبارة السابقة: «و عطّلوا الحدود» الالهیّة، ففی المورد الذی لابدّ ان تُقطع فیه ید السارق فانّهم لا یقطعونها، وفی المورد الذی لابدّ ان یُجلد فیه الزانی والزانیة فانّهم لا یجلدونهما، وفی المجال الذی لابدّ ان تُنفّذ فیه سائر الأحكام الالهیّة فانّهم لا ینفّذونها. هذا هو الفساد فی ثقافة الامام الحسین(علیه السلام).
ویضیف الامام(علیه السلام) توضیحاً فیقول: «و استأثروا بالفی»، بیت المال الذی یجب ان یُنفق على جمیع المسلمین والامكانیّات الّتی لابدّ ان توضع تحت تصرّف الجمیع بشكل مساو، استأثروا بها وقصروها على أنفسهم ومن یدور فی فلكهم.
«و احلّوا حرام اللّه» هناك امور لا یشكّ مؤمن فی انّ اللّه قد حرّمها، لكنّ هؤلاء یقولون: ان القلیل منها لا یضرّ! أو انّها لااشكال فیها الآن لانّ الاسلام سیّال! ونحن
نؤمن بالفقه الحركیّ! كانت هذه الامور حراماً فی الأمس البعید، وقد أصبحت الیوم حلالاً!
لقد عبثوا بكلّ شیء، حتّى انّ بعض الشباب المتدیّن یسأل: متى یصبح الرقص حلالاً؟ أمّا آن الأوان لكی تُفتوا بحلیّته؟ متى یصبح من الجائز ان یتّخذ الشاب صدیقة له، وان تتّخذ الفتاة صدیقاً لها؟
ونجیب: بانّ هذه الامور لا یمكن ان تصبح حلالاً، لانّ اللّه تعالى حرّمها، وما حرّمه اللّه سبحانه یبقى حراماً الى یوم القیامة.
یقولون: كلاّ، هناك اُمور كثیرة كانت حراماً، والیوم قد اُحلّت! فمتى تُضاف هذه الامور الى قائمة المحلّلات؟
انّهم صادقون فی تساؤلهم! لانّ اولئك قد عرّفوا الفقه الحركیّ بشكل یتضمّن تغییر أحكام اللّه.
من الذی یقوم بتغییر أحكام اللّه؟
الحاكم المتسلّط!
یقول الامام(علیه السلام) اذا أصبح الوضع بهذا الشكل فقد قال رسول اللّه(صلى الله علیه وآله) من لم یتعرض على هذا السلوك ولم یغیّر بفعل ولا قول فسیغدو جلیس الحكّام الظلمة فی نار جهنّم، ومن أولى منّی بالنهوض لتغییر هذا الوضع المنحرف؟ اذن تحرُّكی یهدف الى اصلاح هذه الموارد.
ما هو معنى «خرجت لطلب الاصلاح فی امّة جدّی»(1)؟
معناه «اصلاح» هذه الامور: لابدّ من العودة لتطبیق الحدود الالهیّة، ویجب ان یوضع بیت مال المسلمین تحت تصرّف الجمیع بصورة متساویة، ولابدّ ان ینتفع
1. بحارالانوار، ج 44، ص 329، الباب 37، الروایة 2.
الناس بشكل متساو من التسهیلات الاقتصادیّة والإداریّة والقانونیّة، لا أن ینحصر الانتفاع منها على فئة معیّنة مع أقاربهم وبطانتهم والمشاركین لهم فی الحزب أو الجبهة. فهذا هو من أوضح مصادیق الفساد، ولابدّ من النهوض لمقاومته. فالحسین(علیه السلام) نهض لیسقط ألوان الفساد هذه. اذا كان المقصود من «الاصلاح» هو هذا فكلّنا «اصلاحیّون» ـ كما قال قائد الثورة الاسلامیّة ـ ولا یجرؤ أحد أن یخالف هذا إلاّ اذا كان غیر مسلم. نعم هناك من یعارض مثل هذا الاصلاح، وهم فی الواقع الذین لا ایمان لهم باللّه وأحكامه یدّعون الاسلام كذباً لكی ننخدع بهم أنا وأنت.
الاصلاح أمر عظیم ولكنّه الاصلاح القائم على أساس النظام القیمىّ الاسلامیّ، ولیس الاصلاح الذی تسعى الیه أمریكا أو سائر الكفّار. ولا یختلف الأمر بالنسبة الینا فأمریكا وغیرها شیء واحد، ولكن لمّا كان اصرار امریكا أكثر فقد جعلناها رمزاً للآخرین، واِلاّ فانّ ایّ كافر هو مثلها فی الحكم. كلّ من یعادی القیم الاسلامیّة فنحن نعادیه. نحن نرید تطبیق القیم الاسلامیّة، نطالب بتنفیذ أحكام اللّه. واذا قالوا انّ هذه الأحكام مخالفة لمنشور حقوق الانسان، قلنا لهم خذوا هذا المنشور لأنفسكم، فنحن نوافق على ذلك المنشور بالمقدار الذی ینسجم فیه مع الثقافة الاسلامیّة. و«الحَسَن» عندنا هو مایقول الاسلام انّه حسن، و«القبیح» عندنا هو مایقول الاسلام انّه قبیح أیضاً، لا ما یقوله البرلمان الاوربیّ ولا ما تقوله المؤسّسات الأمریكیّة. انّ أقوال هؤلاء لیست حجّة عندنا. القول الحجّة عندنا هو قول مراجعنا الكرام، قول القرآن الكریم، قول الرسول الاعظم(صلى الله علیه وآله).
وهناك قول آخر للامام الحسین(علیه السلام) یشبه هذا القول:
«انّ هؤلاء القوم لزموا طاعة الشیطان وتركوا طاعة الرحمان واظهروا الفساد فی الأرض وابطلوا الحدود وشربوا الخمور».
انّ تعطیل الحدود شیء وابطال الحدود شیء آخر أهمّ وأشدّ. فتارةً یقولون انّ
الظروف فی العصر الحاضر لا تسمح لنا بتنفیذ الحدود الالهیّة، ولكنّهم یقولون أحیاناً انّ هذا الحكم لا معنى له وهو مخالف للقیم الانسانیّة، كما قالت الجبهة الوطنیّة بالنسبة الى لائحة القصاص(1)، وكما یقول ذلك أتباعهم الیوم بصورة أوضح ویذهبون الى مؤتمر برلین ویهاجمون هناك رسمیّاً الأحكام الاسلامیّة مطالبین بضرورة تغییرها(2).
ومع الأسف فانّ بعض المتزیّین بزّی علماء الدین قد ساهموا فی هذه الفضائح!
ونحن نطالب الذین یعتبرون أنفسهم مدافعین عن الدستور الاسلامیّ ان یجرّوا هؤلاء الذین لا دین لهم الى المحكمة، فقد أنكروا ضروریّات الاسلام، وأخلّوا بسمعة الاسلام فی الدول الأجنبیّة. ألایقتضی الدفاع عن الدستور مثل هذا الموقف؟ أهو یقتضی فقط ترك حبل الصحف على غاربها لتكتب ما تشاء من سفاسف؟ وان تنشر مایحلو لها من اهانات للمقدّسات؟ أهذا هو دفاعكم عن الدستور؟
أین ذهب الانصاف والشرف؟
یقول الامام الحسین: «أنا أولى بنصرة دین اللّه واعزاز شرعه» حیث انّ الحكّام الظلمة قد عزلوا شریعة اللّه عن الحیاة الاجتماعیّة واذلّوها، وانا ابن رسول اللّه(صلى الله علیه وآله)أولى باعادة العزّ الیها.
«و الجهاد فی سبیله لتكون كلمة اللّه هی العلیا»، فالحسین(علیه السلام) یعدّ تحرّكه جهاداً فی سبیل اللّه، والهدف هو أن یصبح كلام اللّه هو الأعلى، وهذا یعنی ان لا یتحدّث أحد بكلام مخالف لكلام اللّه عزّ وجلّ، فاذا جاء «كلام اللّه» فالكلّ خاضع. لا أن یقول القائل: هذا كلام اللّه ولكنّه مناسب لزمان مرّ علیه ألف واربعمائة عام! أمّا
1. صحیفة میزان، شتاء 1359 وربیع 1360 هـ.ش.
2. صحیفة كیهان، 1379/01/23،24،25 هـ. ش، التقریر المتعلّق بمؤتمر برلین.
الیوم فنحن نفهم الامور بشكل أفضل من اللّه!
انّ الهدف الذی أعلنه الامام الحسین(علیه السلام) فی وصیّته لأخیه هو: «انّما خرجتُ لطلب الاصلاح فی امّة جدّی»، ولعلّ فی التعبیر بـ «طلب الاصلاح» اشارة الى أنّه(علیه السلام)لا یرید القول بأنّه سوف یفعل هذا الأمر ویحلّ جمیع المشاكل ویرفع كلّ ألوان الفساد، وانّما یؤكّد(علیه السلام) على انّه سوف یحاول ویبذل قصارى جهده لیتحقّق هذا الأمر، فاذا أعان الناس وقاموا بما یجب علیهم فسوف یتحقّق المطلوب ویتمّ اصلاح المفاسد، وأمّا اذا تقاعس الناس وتخلّوا عن واجباتهم فانّنی أقوم بواجبی، وهدفی هو «طلب الاصلاح»، وقد تحقّق هذا الهدف على أفضل وجه.
هل یستطیع انسان أو مجموعة صغیرة من الناس أن یحقّقوا أكثر من هذا التحول؟ التحوّل الذی یثیر مثل هذا الحماس فی الناس بعد مرور أكثر من ألف وثلاثمائة عام، حیث یبكون على الحسین(علیه السلام) من شرق العالم وغربه، وینهضون فی اقامة الذكرى للحسین(علیه السلام) بهدف احیاء دین اللّه. وتعتبر الثورة الاسلامیّة فی ایران احدى ثمرات هذه الذكرى المباركة. ومثل هذه الثمرات فی تاریخ الاسلام لیست قلیلة، وان لم تصل الى عظمة الثورة الاسلامیّة فی ایران. وهذا هو مقتضى الامور الطبیعیّة، لانّ التجربة عندما تتكرّر فانّ الناس یأخذون العِبَر من الماضی وینتبهون أكثر للمفاسد التی تصدر من الأجهزة المعادیة للاسلام.
أتلاحظون اقامة العزاء فی هذا العام هو بشكل أوسع وأفضل من السنین السابقة. لماذا؟ لانّ هؤلاء الحمقاء اعداء الحسین(علیه السلام) قد كشفوا أنفسهم، ولم یكن الناس فی الماضی یصدّقون انّ هؤلاء اعداء للحسین(علیه السلام). واذا تحدّث خبیر عن أهداف هؤلاء الواقعیّة فانّ احداً لم یكن یصدّق، فكان الناس یقولون انّ هذه الموارد نادرة، أو انّ هذه الرؤیة متشائمة. لكنّكم تلاحظون الیوم كیف انكشفت الحقائق. فی ایران
الاسلامیّة وفی لیلة التاسع والعاشر من المحرم هاجموا هیئات العزاء(1)، كما حدث فی مدینة «رشت» ومدینة «خرم آباد».
صحیح انّهم كانوا أشخاصاً معدودین لكنّهم یقومون بهذه الحركات المحدودة لیجرّؤا الآخرین ویخلّوا بقدسیّة سیّدالشهداء(علیه السلام) وبأمن ونظام هیئات العزاء. انّها خطوات محسوب حسابها ومخطّطة. ووسائل الإعلام المعادیة كانت تشیر من قبلُ الى انّه فی هذا العام سوف یحدث اخلال بالأمن فی ایران. كلّ محاولاتهم السابقة فی القیام بانقلاب عسكریّ باءت بالفشل، فأدركوا انّهم لا یستطیعون ان یصطادوا إلا فی الماء العَكِر، لهذا خطّطوا للقیام بهذه الاَعمال الدنیئة فی هذا العام. یُصدرون منشورات تحثّ على إثارة الضوضاء. وفی مدینة رشت وخرّم آباد یعتدون على هیئات العزاء، وفی بعض الحالات یوجّهون اهانات لشخصیّات المعصومین(علیهم السلام)لیكسروا هذه الهیبة.
هل هذه الأعمال هی مضمون «الاصلاح» الذی جاءوا به؟
وهل إعداد الأرضیّة لمثل هذه التحرّكات المشبوهة هو ما یهدف الیه «الاصلاحیّون»؟
وهل هذا «اصلاح» أم «افساد»؟
وهل هؤلاء «مصلحون» أم «مفسدون» حسب منطق القرآن الكریم؟
أهم مؤمنون أم منافقون؟
«أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا یَشْعُرُونَ»(2)
1. صحیفة كیهان، بتاریخ 1379/01/28 هـ .ش; صحیفة الجمهوریة الاسلامیّة، بتاریخ 1379/01/22 هـ. ش، ص 2.
2. سورة بقرة، الآیة 12.