بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين.
اللهُمّ كُن لوليِّكَ الحجّةِ بنِ الحسن، صلواتُكَ عليهِ وعلى آبائِه، في هذهِ الساعَةِ وفي كلِّ ساعةٍ، وليًّا وحافِظًا وقائِدًا وناصِرًا ودَليلًا وعَينًا، حتّى تُسكِنَه أرضَكَ طَوعًا وتمتِّعَهُ فيها طويلًا.
تعزية وتهنئة بمناسبة شهادة الجنرال قاسم سليماني
إلى روح الإمام الخميني الطاهر (رضوان الله عليه) وشهداء الإسلام العظام وكل من له علينا حق التعليم والتزكية والتوعية نهدي ثواب الصلاة على محمّد وآل محمّد.
أشكر الله تعالى أن مدَّ بعمري ووهبني التوفيق لأتشرّف هذا اليوم بالحضور بينكم أيّها الأجِلّة والأعزّة ومنحَني الفرصة لأن أقدّم بين أيديكم فروض الاحترام والدعاء بلساني العاجز.
قبل كل شيء أتقدّم إلى صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرَجه الشريف) وجميع محبّي الإسلام والثورة بخالص عزائي على المصاب الجلَل الذي ألمّ بنا هذه الليلة [استشهاد الجنرال قاسم سليماني] فسلبَ هذه الأمّة إحدى الشخصيّات التي قلّ نظيرها، أو لنقل: لا نظير لها. بالطبع لقد تعلّمنا جميعًا، سواء من النصوص الدينيّة أو التجارب الواقعيّة، أنّ هذه المصائب تتلوها مثوبات وجوائز من الله تشمل بركاتُها الأمّة جمعاء، فلم يلحَقنا إلى الآن بسبب هذا اللون من الشهادات خسران، فلقد جنَينا من استشهاد سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، التي كانت أعظم فاجعة إنسانيّة عرفَتها البشريّة - جنَينا أعظمَ المنافع والفوائد، وإنّ بقاء الإسلام والثورة والتشيّع وتعاليم أهل البيت (عليهم السلام) إلى يوم الناس هذا لَمدين لهذه الشهادة بالذات، ولولاها ما كان من المعلوم كم سيكون لدينا، أنا وأنتم، اليوم من المعرفة بحقائق الإسلام والتشيّع وبمذهب أهل البيت (عليهم السلام). فمن حيث إنّ هذه الحادثة تبعث على ازدياد حجم البركات النازلة من الله تعالى وشمولِ فيوضاتها العالَـم الإسلامي كلّه فإنّها تستوجب منّا التهنئة والتبريك. ولهذا نرى أنّ سماحة الإمام القائد الخامنئي (دام ظلّه) قد بارك وعزّى معًا في ندائه بهذه المناسبة. حشرَ الله شهيدنا العزيز مع سيّد الشهداء (عليه السلام)، وعوّضَنا هذه الخسارة بلطفه، وملأ هذا الفراغ الحاصل بمَن باستطاعته أن يكون خير خلَف له، فيكون في ذلك تمهيدًا لظهور صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرَجه الشريف).
أتقدّم بدوري بالشكر إلى الأعزّة أن شرّفونا وتلطّفوا علينا بحضورهم مع أنّ أغلبهم من محافظات أخرى، وأدعو الله عزّ وجل أن يثبّت أقدامهم على طريق الحق، ويضاعف في هدايتهم، ويمدّهم دومًا بالمزيد من التوفيق للعمل بواجبهم.
كما أقدّم شكري على الموضوع المختار لهذا الاجتماع وطاولة النقاش المعقودة. المباحث المطروحة مفيدة للغاية، وتناسب العصر، وهي محطَّ احتياج هذا الزمان، بل إنّ اقتراح طرح مثل هذا الموضوع هنا لَمؤشِّر على النضج الفكري والاجتماعي للأعزّة المقترحين والذين تبنّوا عقد الاجتماع واختاروا له هذا الموضوع للنقاش وهو "وسائل الإعلام الافتراضي؛ التحدّيات، وأحيانًا الفرص". بالطبع، لا تاريخي المهني، ولا معلوماتي الحِرَفيّة، ولا مزاجي يسمح لي بدخول نقاش في هذا المجال، لكن دعوني ألاحِظ بضعَ ملاحظات أرى التنبيه إليها ضروريًّا.
الإعلام الافتراضي أداةُ عدوان معقّدة بيد أعداء الثورة
ليست هذه القضيّة هي المخطّط الأوّل للأعداء ضد الإسلام والثورة، ولن تكون الأخير؛ فمنذ الأيّام الأولى لاندلاع الثورة، بل منذ انطلاق النهضة الإسلاميّة في إيران نرى أنّ الشياطين، كبارهم وصغارهم، يمارسون العداء ضد الإسلام والثورة الإسلاميّة بصوَر شتّى، وقد بلغ هذا العداء ذروتَه زمان انتصار الثورة. هذه الشياطين دائبةٌ على التخطيط، ما وسعَها ذلك، لتقويض هذا النظام وإزالته، ولا سيّما بعد انقضاء بضعة أشهر على انتصار الثورة الإسلاميّة من دون أن تتحقّق نبوءاتهم في قراءة الفاتحة على روح النظام والنهضة من خلال بضع إجراءات ابتدائيّة، إذ قد تركّزَت جميع جهودهم في وضع الخطط والمؤامرات التي تؤدّي، على المدى البعيد، إلى زعزعة النظام الإسلامي، ومن ثم إزالته. ونحن اليوم نشاهد صورًا من هذا العداء على مستويات مختلفة؛ فقد أقدَموا منذ البداية على فرض أشكال من الحظر الاقتصادي على أمور لا يُجيزها أي قانون أخلاقي أو دولي، حظر بلغ اليوم أوجَهُ؛ نقَضوا رسميًّا العهد والميثاق الذين أبرموه بأنفسهم وأكّدوا عليه، وعَدّوه من مفاخرهم من دون أن يكون في حوزتهم أي ترخيص أو مسوّغ دولي لنقضه سوى التجبّر والغطرسة، إلى سائر ضروب العداء التي نشاهدها. لكن الأعداء أخذوا في العقد الأخير يركّزون جهودهم على الفضاء الافتراضي. لقد شاهدوا أنّهم لم يجنوا نفعًا من إثارة القلاقل الداخليّة، كالتي أثاروها في سنة 2009م، كما لمسوا أنّ الحظر الاقتصادي لم يُؤتِ أُكُله، لهذا فقد أعدّوا – كما يحسبون – آخر رصاصاتهم من أجل الإطاحة بهذا النظام الإسلامي، وإنّ من مظاهرها وأدواتها وسائل الإعلام الافتراضي وشبكات التواصل الاجتماعي التي تنشط على نطاق واسع في أنحاء العالم، وإنّ معظم هذه النشاطات في داخل بلدنا أيضًا – كما قد أُشيرَ – تجري تحت إشرافهم وإدارتهم هم مع الأسف. فهذه الشبكات في الوقت الحاضر هي أداة بيد الأعداء.
إمكانيّة تحويل تهديد الإعلام الافتراضي إلى فرصة
النتيجة التي خرجَت بها طاولة النقاش هذه هي أنّه يتوجّب علينا أن نحاول انتزاع هذه الأداة من يد العدو ونكون مستقلّين في هذا الفضاء لنتمكّن من تحويل التهديدات إلى فرص؛ كشأننا مع الاختراعات والابتكارات الأخرى التي ظهرَت في العالم، حيث شكّلَت بدايةً أداةً استغلّها الكفّار وأعداء الإسلام ضد الإسلام، ثم جرى فيما بعد، وبتدبير من الله عزّ وجل، الانتفاع منها جميعًا بما فيه خير الإسلام. فظهور المذياع والتلفاز وسائر وسائل البث والإعلام كانت في البداية جميعًا تحت سيطرة الأعداء، وكانوا هم في الغالب المبتكر والمقوّي لها، ومَن يرصد لها الميزانيّات، ويهيّئ الآليّات، لكن بتدبير من الله تعالى، ولا سيّما منذ انتصار الثورة الإسلاميّة فصاعدًا أصبحَت جميعًا في خدمة النظام والإسلام وتحوّلَت إلى وسيلة ضخمة لتبليغ ناجح للإسلام في العالم؛ وثمة لهذا الأمر نماذج كثيرة؛ أنا شخصيًّا لمستُ نتائجها في الكثير من دول العالم، من أكثرها شرقيّة إلى أشدّها غربيّة. لكنّنا للأسف لم ننتهز هذه الفرص إلى الآن كما ينبغي انتهازها.
المقصود هو أنّ الاختراعات الحديثة تكون أحيانًا أمورًا يستحدثها الأعداء وكبار الشياطين وصغارها، لكن من الممكن أن تتحوّل جميعًا إلى أداة تُستغَل لنشر الحق ومحاربة أعدائه، ويمكن أن تُستغَل هذه الاختراعات على نطاق واسع ومستويات عالية جدًّا لم تكن أبدًا متاحةً للمسلمين قبل ظهورها.
كيف تبدَّل سيّئات الفضاء الافتراضي إلى حسنات؟
لذا علينا أن نسعى إلى تحويل وسائل الإعلام الافتراضي إلى فرصة لتبليغ حقائق الإسلام والثورة لجميع أصقاع العالم. وبالاقتباس من قول الله تعالى في القرآن الكريم: (يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَنات)،[2] أقول: هذه السيّئات الله هو الذي يبدّلها إلى حسنات. بالطبع لا أزعم أنّ الآية نزلَت في هذا الموضوع، بل أقتبس ذلك منها اقتباسًا. وقد ذُكر شبيهُ هذه الحقيقة في مصادر مختلفة منها القرآن الكريم نفسه، وهو أنّ الله عز وجل حوّلَ خطط الأعداء ضد الأنبياء وأوليائهم، ولا سيّما نبي الإسلام (صلّى الله عليه وآله)، إلى سبب لانتصار الإسلام وتقدّمه، وما زالَت هذه السُنّة جارية. على أنّ لهذه السُنّة شروطًا ولا بد لجريانها من تحقّق هذه الشروط؛ أي في حال عرفنا نحن واجبَنا، ولم نتقاعس في أدائه فسيمُدّ الله لنا يد العون ويجعل من هذه الأداة سببًا لتقدّم الإسلام. يتوجّب علينا أن نتعلّم كيفيّة الإفادة من أداة الفضاء الافتراضي، ونضع له الخطط والمناهج، ونُعِد أشخاصًا باستطاعتهم الإفادة منه خيرَ إفادة وقادرون على التأثير في أفكار شعوب العالم. كل ذلك سيكون ممكنًا عبر وضع خطّة سليمة، ومن خلال إدارةٍ صائبة، وعزيمةٍ ممّن يتحتّم عليهم تهيئة الطاقات البشريّة لهذا الغرض.
المشكلة الحادّة هي ضعف اعتقاد بعض المسؤولين بولاية الفقيه
لكن ثمّة مشكلة حادّة نعرفها جميعًا، ومن شأنها أن تجتذب منا اهتمامًا أكبر ببعض القضايا. هذه المشكلة، التي تتكشّف للعلن يومًا بعد يوم، هي أنّه ثمة بين ساسة البلد ومسؤوليه من يحمل ميولًا وتوجّهات لا تنسجم كثيرًا مع روح الثورة، ولنقل: مع روح الإسلام. هناك أسباب شتّى لظهور هذه الميول؛ فهي إمّا بسبب الجهل، أو الإعلام المعادي، أو نتيجة الدراسة التي تلقّوها فتركَت عليهم بصمات بشكل مباشر أو غير مباشر، أو معاشَرتهم لبعض المدسوسين الذين أثّروا فيهم. فهناك - إذًا - أسباب مختلفة لهذه التوجّهات، وهي تقود في نهاية المطاف إلى ضعف في نفوس هؤلاء الأشخاص. في الماضي كان ثمّة بين سياسيّي البلد ومسؤوليه مثل هذه النماذج، ولربّما نجد اليوم أيضًا نماذج لهم، خصوصًا في أوساط من عُهدَت إليهم مسؤوليّات تنفيذيّة. فلربّما يوجد من بينهم أشخاص لا يعتقدون حقًّا بروح الثورة، وروح الإسلام، وبضرورة أن يكون للإسلام دور في المجتمع، وبحقيقة ولاية الفقيه. وهناك شواهد على أنّ بعضهم إذا تظاهر بالالتزام بهذه الأمور فلمصلحةٍ سياسيّة، وإلّا فإنّه لا يؤمن في أعماق قلبه بولاية الفقيه وبضرورة أن يؤدّي الدين دورًا في السياسة، أو إنّ إيمانه بهذا ضعيف جدًّا. هذه أزمة حادّة وهي موجودة، وللأسف نحن أيضًا، الذين كان من واجبهم الحيلولة دون استشراء مثل هذه الميول، قد غفلنا عن هذا الأمر فلم نُعِدّ أنفسنا للنهوض بهذا الواجب. نرجو من الآن فصاعدًا أن نعير هذا الواجب أهمّية أكبر وندرك أنّ المسائل التأسيسيّة لها نتائجها. فإن عجزنا عن أن نبيّن للناس خيرَ بيان الأسسَ المتينة للنظام الإسلامي والدولة الإسلاميّة، الفكريّة منها والثقافيّة والسماويّة والدينيّة والعقليّة، فسوف تطفو نقاط الضعف هذه على السطح يومًا ما، وقد يكون ذلك على يد مسؤولين انتخبَتهم الجماهير بنفسها لتسنُّم المناصب.
إنّ على كاهل الشريحة العلمائيّة اليوم مَهَمّة لم تكن في الماضي بهذا الثِقَل، وهي بيان أُسس الإسلام العقَديّة وركائزه الفكريّة؛ مثلًا: لماذا قيام نظامٍ للحكم ضروري أصلًا؟ إذ ما زال هنا وهناك، إلى يوم الناس هذا، مَن يحمل توجُّهًا منقرضًا أكلَ عليه الدهر وشرب، كان يومًا ما مطروحًا في الغرب، أو توجَد بعض رواسبه في الماركسيّة، وهو اعتقادهم بأنّه سيأتي يوم لن يحتاج المجتمع فيه إلى دولة ومؤسّسات! وما زال هذا التوجّه يخيّم على فكرهم فيتساءلون: مَن قال أصلًا أنّه يوجد في الدين شيء اسمه الدولة الإسلاميّة؟ في أي كتاب فقهي طُرحَت هذه المسألة؟ الحُكم الإسلامي قضيّة طرحَها السياسيّون بخلطهم للمسائل المختلفة فتأثّرَ بهم الإمام الخميني (رحمه الله) واتّخذَ من هذه المسألة امتيازًا وبلورَ منها قضيّة، وإلّا فليس هناك في الإسلام أساس ثابت لإقامة نظامِ حُكم ودولة! وما زال هناك في حوزة قُم العلميّة، بعد أربعين عامًا من انتصار الثورة الإسلاميّة، مَن يتكلّم بهذا المنطق، بل لربّما أظهره لتلامذته في درسه! وهناك آخرون ممّن يرون – بعد الاعتقاد بضرورة الدولة، وإثبات لزوم تعيين الحاكم من الله تعالى – يرون أنّ نظام الحكم الوحيد المجاز هو ذلك المعيَّن من الله عزّ وجلّ من خلال تعيين شخصِ الحاكم بالاسم والمواصفات التي لا يمكن أن تنطبق على شخص آخر، ولا نجد مثل هذا الحكم في التاريخ إلّا ما كان لبعض الأنبياء، ومنهم نبي الإسلام محمّد المصطفى (صلّى الله عليه وآله) ومن بعد ذلك ما كان للإمام المعصوم (عليه السلام) بتوجيه منه (صلّى الله عليه وآله). فلو كان لنظام الحُكم من ضرورة فلا يكون هذا النظام إلّا كالذي أعطاه الله سبحانه وتعالى لنبيّه سليمان (عليه السلام)، وأعطاه فيما بعد للنبي الكريم (صلّى الله عليه وآله)، بدرجة أكمل أو أنقَص، ثم لا نقبل بعد ذلك بأزيدَ مما وصلَنا من النبي في حقّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، ولا شيء غير ذلك!
ولو قلّبتُم بعض الكتب الفقهيّة، مثل كتاب «المكاسب»، وهو من الكتب المنهجيّة في الحوزات العلميّة، فسترون في باب بحث الولايات؛ مثل ولاية الأب والجد، أنّ مسألة ولاية الفقيه لم تُطرح إلّا كواحدة من المسائل، وأنّ حقّ إنفاذ هذه الولاية يكون حيثُ يتهدّدُ المسلمين خطرٌ مّا لا سبيل لدرئه، فتُطرح المسألة بهذه الصورة على نحو المسألة الجزئيّة الفرعيّة! أمّا أن يكون الولي الفقيه هو النائب عن الإمام المعصوم في الحكم وتكون طاعته واجبة، فلا دليل واضحًا على ذلك! هذه البحوث مطروحة في حوزاتنا العلميّة! والسؤال: لماذا القضيّة بهذه الصورة؟ الجواب: لأنّ الحوزة العلميّة – وأريد من الحوزة العلميّة تلك الشخصيّة الاعتباريّة، ولا أقصد شخصًا بعينه – أي هذه المؤسّسة لم تُدرك هذه الحاجة، وهي ضرورة تبيين هذه القضيّة بكل وضوح.
دروس من سيرة الإمام الخميني (رحمه الله)
أوّل من تنبّه في زماننا إلى ضرورة هذا الموضوع هو الإمام الخميني (رحمه الله)، فقد طرحَ موضوع ولاية الفقيه في النجف الأشرف في ظروف لم يكن بالإمكان التنبؤ بها، ولم يكن ليصدق بذلك أصدقاؤه. كان الإمام (رحمه الله) قد شعرَ بالتكليف إذ طرحَ الموضوع في ذلك الحين، وأسّس له – بما تسمح الظروف – بصفته مسألة فقهيّة، بل طرحَه في حدّ كونه أوجبَ من الصلاة، وكان ذلك إنجازًا عظيمًا لم يكن من المتيسّر أن يصدر من فقيه آخر غيره. ثم، تأسيسًا على هذه النظرية وهذا الرأي الفقهي – الذي كان برأيه رأيًا قطعيًّا لا تأمُّل فيه أبدًا – أطلقَ حركةً، وصنع إنجازًا، لا نعلم له نظيرًا في العالم. وقد أمَدّه الله تعالى بالعون والنصرة ما قلَّ نظيره إلى أبعد الحدود؛ فإنّ انتصار الحركة الإسلاميّة التي أطلقها الإمام في إيران كان أشبه بالمعجزة، إلى درجة أنّنا أنفسنا ما زلنا إلى الآن لا نصدّق أنه أيُّ عمل جبّار قد أُنجز؟! وعلى يد مَن؟! على يد عالِم دين، ومعلّمِ حوزة! بواسطة أيّ سلطة اجتماعية كان يملكها، وبأيّ ميزانيّة مالية، ومن خلال أيّ مركز ونفوذ اجتماعي له بين الناس؟! في ذلك الزمان لم يكن الإمام الخميني معروفًا حتى بين المتديّنين، بل كان يتهرّب من الشهرة آنذاك. لكنّ لطف الله تعالى، الذي حَباه به جزاءً لإخلاصه، جعلَه شخصيّة العالم الأولى في زمانه! نأمل أن يعمل الباحثون - إن شاء الله - على إثبات أنّه لم تكن في ذلك الزمان شخصية في عالم البشرية مثل الإمام الراحل (قدس سره). كانت شخصية خضع لها الأعداء كذلك، وإنّ في جعبتي أنا شخصيًّا شواهد على أن هناك من بين أشد الناس عداءً للإسلام والثورة الإسلامية كانوا – بشكل عفوي وبلا وعي منهم - يوقّرون مَن يرتدي زيًّا شبيهًا بزيّ الإمام إجلالًا واحترامًا للإمام الخميني (رحمه الله).
على أية حال، كان يتوجّب علينا أن نستلهم من هذا الإنجاز العظيم للإمام درسًا وهو أنّه: إذا أقدمَ شخصٌ على خطوة ما بإخلاص، أداءً للتكليف فسوف ينصره الله جلّ وعلا لا محالة، حتّى وإن لم تكن الظروف العادّية مواتية لذلك، وكانت نيّته من هذا العمل والنزول إلى الساحة امتثالَ أمر الله والتوكُّلَ عليه لا غير. يقول رب العزّة في محكم كتابه العزيز: (وَعَلَى اللهِ فَليَتَوَكَّلِ الـمُؤْمِنُون)؛[3] فلا ينبغي للمؤمنين أن يتوكّلوا إلّا على الله تعالى وليقتحموا الميدان وسوف ينصرهم الله لا محالة. كان الإمام الراحل (رحمه الله) الأنموذج البارز لمثل هذا الإنسان. وقد كان علينا أن نستلهم من هذا الأنموذج الدروس، ونصنع نماذج مشابهة للعهود الآتية، ونعرف أنفسَنا أيضًا إلى حدِّ ما. ولعلّنا مقصّرون بعض الشيء في هذا المجال.
الدرس الأول: المثابرة العلمية
أحد أبعاد القضية هو أن هذه المسألة لم تُبيَّن بالشكل الذي يحُول دون النفوذ الفكري للأعداء، وما زالت تُطرح مصحوبةً بالغموض، والعدو يستغل هذا الغموض. كما أنّ عملاءه المدسوسين في الحوزات العلمية يعملون لتشويش الأذهان، وحين يختلط الأمر على الذهن يتعذّر العمل الجاد؛ فصاحب الذهن المشوَّش يقدّمُ رِجلًا ويؤخّر أخرى، وهو دائمًا في حيرة من أمره. وهذا درس علينا أن نستلهمَه وأن نُخضع القضايا الفكرية الضروريّة ذات الأثر والأهمية في مستقبل الإسلام إلى البحث والتنقيب، خصوصًا إذا التفتنا إلى التحدّيات التي أشرنا إليها. علينا أن نبدأ من اليوم – وإن كانت هذه البداية أيضًا متأخّرة بعض الشيء، لكن لنبدأ على الأقل – فنتحرّى عن أنه: ما المسائل التي علينا أن نُخضعها للبحث؟ ومَن يتعيّن عليه البحث فيها؟أفَهل البحث في هذه القضايا الضرورية هو مَهَمّة الجامعيّين، أو قوى الجيش والشرطة، أو التجّار، أو الصناعيّين، أو... إلخ؟ أو هي مَهَمّتنا نحن حصرًا؟! وسواء شئنا أم أبَينا فهي ملقاة على كاهلنا، وإننا سنُسأل عنها يومًا ما؟!
الدرس الثاني: إعداد الطاقات البشرية الكفوءة
لربّما استغل العدو لتنفيذ مآربه هذه بعضَ ضعاف النفوس ممن قد يجدهم بين مسؤولي البلد. فهناك بعض مَن يقول بكل صراحة، ولأسباب معيّنة: "ما الذي نملكه يا ترى لمواجهة أمريكا؟! ألدينا أموال أمريكا؟! ألدينا قوّتها العسكرية؟! هل نملك نفوذها الدولي؟! هل مركز منظّمة الأمم المتحدة في بلدنا؟! أنحن مَن يؤمِّن ميزانية هذه المنظّمة؟! بأيّ ممتلكاتنا نتفاخر؟! ليس لدينا خيار سوى التسوية مع الولايات المتحدة!" هذا المعتقد ضارب بجذوره في أعماق قلوبهم، ولربما ظهر على ألسنتهم فصرّحوا به بين الحين والآخر، لكن غالبًا ما يحتفظون به في أعماقهم صونًا لمراكزهم، ولربما أظهروا خلاف ما يُبطنون أحيانًا؛ لكنّ معتقدهم الرئيس هو التسوية والتطبيع مع أمريكا، ومنطقهم: "إنْ فَشِلنا في التسوية مع الحزب الجمهوري الأمريكي فلنتوَخّ حلًّا ونهيّئ الأرضية للتصالح مع الحزب الديمقراطي. هذه هي السياسة." وكانت التوقّعات تقول إنّهم لن يستطيعوا التسوية مع الجمهوريين، وما استطاعوا في نهاية الأمر. على أنّهم بذلوا قصارى جهدهم لبضع سنوات للتسوية معهم فما استطاعوا. لكنهم يعتقدون أنه لا بد لنا من الآن من استغلال التنافس بين الجمهوريين والديمقراطيين، والاتّصال بالأخيرين خلسةً ومن دون ضوضاء، فنأخذ منهم العهود والمواثيق من أنّنا من جانبنا سندعمكم فاعملوا من جانبكم على مداراتنا! إننا سنتصالح معكم بعد انقضاء عهد حكومة الحزب الآخر!" وقد يلوّح الأمريكيون (الديمقراطيون) أحيانًا بالضوء الأخضر لأمثال هؤلاء فيدّعون: "أنّ الجمهوريين أخطؤوا وقوَّضوا مكانة أمريكا عالميًّا، وإن تسلّمنا نحن السلطة فسنعمل على ترميم ما هدّموا." فينخدع الإخوة هنا بهذا الضوء الأخضر ويحدثوا أنفسهم بأننا سنعمل على التسوية مع الحكومة القادمة.
على أية حال أمثال هؤلاء لا يؤمنون بأننا بنصرة الله عز وجل، وعنايات صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرَجه الشريف) واستمداد القوة من روح الإمام الراحل (رضوان الله عليه) سنتمكن من النصر على العدو من دون أن نمد يد المسألة إليه.
إنها لمعادلة واضحة وضوح الشمس من أنه ليس لنا التعويل على نصرة العدو لنا! فكيف لنا أن ننتصر على العدو من خلال استنصاره هو؟! أهذا ممكن؟! علينا أن نشتغل أكثر على هذه القضية؛ أي علينا أوّلًا أن نؤمن نحن ونتيقّن من أن قضية الحكم الإسلامي وولاية الفقيه هي قضية أساسية في الإسلام وعصيّة على التشكيك، وليس للشبهات الشيطانية هذه أبدًا أن تصمد أمام الأدلة العقلية والنقلية المتينة في هذا المجال. وإن حركة الإمام الراحل (رحمه الله) وأنصاره والذين قدّموا أرواحهم في هذا الطريق أوضح شاهد على حقيقة أن هذا الأمر قابل للتحقّق على أرض الواقع، وأنّ الله سوف ينصرنا فيه. وبعد أن نصدق نحن بهذه الحقيقة سنحتاج لعمليّة التنفيذ إلى كوادر رسمية تؤمن بهذه النظرية وتمتلك العزيمة لتطبيقها على أرض الواقع. فإن وُجد في أوساط المسؤولين الرسميّين انحرافٌ عن هذا المعتقد فلن ينفع النقاش العلمي ولو كُرّر ألف مرة، سوى أنهم سيتّهموننا بالتزمُّت والمعتقدات البالية قائلين: "هؤلاء أناس غارقون في أفكار قديمة أكلَ عليها الدهر وشرب، ولا يفقهون الظروف الراهنة وتقلّبات عالم اليوم، ولا يدركون أن من المستحيل أن يدار المجتمع بالعمامة وأمثال هذا الكلام!"
إعداد الكوادر هي نقطة ضعفنا الثانية. نقطة ضعفنا الأولى تكمن في مجال الفكر والعقيدة وتبيين حقائق الإسلام، ومرتكزات الثورة الإسلامية. لنعترف أننا ضعفاء في هذا المجال، وأسأل الله أن يكون ضعفنا هذا عن قصور لا عن تقصير. ومهما يكن، وأيًّا كان منشأ هذا الضعف فلا بد أن يُعالج. الخطوة الثانية هي أنه لا بد لنا لتحقق هذا المشروع من كوادر تنفيذية مخلصة. فإن كانت كوادرنا التنفيذية تُنكر هذا المعتقد فلا يمكن إقناعها به بسهولة، بل يتوجّب علينا أن نجتهد، ما استطعتنا إلى ذلك سبيلًا، متوكّلين على الله تعالى ومستعينين بأرواح الأولياء والشهداء، في أن يتسنّم المناصب ويتولّى المسؤوليات في قادِم الأيام أناسٌ منسجمون مع هذا الفكر وأشدّ اعتقادًا به. هذه هي مَهَمّتنا الثانية، التي تتخطّى العمل العلمي والدراسي؛ فالـمَهَمّة الأولى تميل أكثر إلى اتّخاذ طابع العمل الحوزوي الرسمي والبحث العلمي وطرحه، أمّا المهَمّة الثانية فهي بحاجة إلى الجهد العملي والميداني. علينا أن نشمّر عن سواعدنا بعض الشيء ونَنزل إلى ميادين العمل، ونسعى جهدنا لأن يتصدّى لكل مسؤولية أشخاص يؤمنون بولاية الفقيه. ولا أقصد من المسؤولية هنا سلطةً بعينها، بل يشمل السلطات الثلاث جميعًا؛ السلطات الثلاث التي يُعَدّ وجودها من مسَلَّمات العملية السياسية ومن ضرورات تقسيم السلطة. لا بد لنا من اقتحام ساحة العمل، والعمل بكل وسعنا على إرشاد الناس إلى انتخاب المسؤولين الصالحين. وفي هذه المرحلة لا بد أن نُعرّف الناس بالأشخاص الصالحين من جهة، ونبيّن لهم معايير الشخص الصالح من جهة ثانية، ونوضّح الأضرار التي نجمَت عن الاختيار الخاطئ في الماضي. يجب أن يُطلَع الناس على أن ما واجهناه في السابق من مخاطر وما حصل في البلد عدة مرات من قلاقل وفتن هي بسبب ما كنا نعانيه من ضعف في الجانب التنفيذي، أمّا حينما عُمل على تقوية بعض جوانب الضعف تلك فقد لمسنا نتائجها، ولعلّ نتائجها الأوضح كانت على صعيد قوّات الشرطة، حيث أدّى ذلك في الآونة الأخيرة إلى فضح العدو وعجزه عن تنفيذ الخطة الجذرية التي كان يصبو إليها. النجاحات التي حقّقَتها قوى النظام وكوادره في إفشال خطط العدو بسرعة تعود إلى ارتفاع منسوب وَعيها. على أنّ جميع ذلك هو ببركة التوجيهات الحكيمة والإلهية للإمام القائد الخامئني (أدام الله ظلّه الوارف). نسأل الله تعالى أن يُديم هذه البركات علينا ويزيدها يومًا بعد يوم، وأن نعرف مَهامَّنا أكثر من خلال إرشاداته، ونجتهد أكثر في العمل بها.
آمل أن نكون جميعًا أكثر معرفةً بواجباتنا، وإدراكا لظروف زماننا، ونكون أكثر جدية في العمل وفقًا لهذه المهام، ونحاول أن يكتسب عملُنا من القيمة ما لا تَسوَدُّ به وجوهُنا أمام الشهداء! فإن قال لنا الشهداء: "لقد ضحّينا نحن بكل ما لدينا من أجل الثورة والإسلام! فماذا قدَّمتم أنتم في هذا الميدان؟ كان بإمكانكم أن تزيدوا ساعات عملكم قليلًا! كان بمقدوركم أن تغُضّوا الطَّرْف قليلًا عن نتائج أعمالكم التقليدية، وأن تتحمّلوا بعض الأضرار! كان بوسعكم أن تتحمّلوا بعض ألوان العناء، واللوم اللاذع، والضغوط، فتزيدوا من قوة عملكم وسعته وعمقه!..." – إن قالوا لنا ذلك فماذا سيكون جوابنا؟ أسيكون في جعبتنا شيء آخر غير الخزي والخجل؟!
اللهم إنّا نُقسم عليك بعزتك وجلالك أن تزيد المسلمين وأهل الحق عزة،
وأن تجعلنا من خدام ولاية الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ونوّابهم بالحق،
وتعرّفنا أكثر بمَهامّنا وواجباتنا،
وتزيد في توفيقنا إلى العمل بها،
اللهم احشر روح الإمام الخميني (رحمه الله) مع أرواح الأنبياء والأولياء،
واحشر أرواح الشهداء، ولا سيما هذا الشهيد العزيز، الذي يقل نظيره بل الفريد، مع سيد الشهداء (عليه السلام)،
واملأ بلطفك الفراغ الذي حصل بشهادته بخلفاء صالحين،
وأحسن عواقب أمورنا جميعًا يا رب،
وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين
[1]. الخطوة الثانية للثورة: إشارة إلى البيان الذي وجّهه الإمام القائد الخامنئي (دام ظله) إلى الشباب في الذكرى الأربعين لانتصار الثورة الإسلامية في إيران الذي عَدّ فيه أن إنجازات الثورة في الأربعين عامًا المنصرمة كانت الخطوة الأولى وأننا على اعتاب اتّخاذ الخطوة الثانية، وأسماه "بيان الخطوة الثانية للثورة الإسلامية".
[2]. الفرقان: الآية70.
[3]. التغابن: الآية13.