بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیم
الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين
اللهُمّ كُن لوليّكَ الحجة بنِ الحسن، صلواتُك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعةِ وفي كلِّ ساعة، وليًّا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليلًا وعَينًا، حتى تُسكِنه أرضَك طَوعًا وتُمتِّعه فيها طويلًا.
الأهداف المادية المختلفة في الحروب البشرية
أبدأ كلامي من هذه النقطة وهي أنه في العالم الذي نعيش فيه، خصوصًا هذا العصر وهذه الحقبة من التاريخ نشاهد دائمًا في بلدان العالم المختلفة وقوعَ صدامات وحروب ومعارك وقتل وهجمات، وحالات ائتلاف تَتبَعُها فُرقة وعداء. وبالطبع إن أول ما يَهُم كل شخص، في أي منطقة من العالم، هو مصالحه المادية، ومن ثم صيتُه وشهرته، وميوله القومية والوطنية، وهو أن يحافظ على عزة بلده وكرامته. فلا نجد في العالم بلدًا وقعَت فيه كل هذه الحروب والثورات والانقلابات وأمثالها من دون أن يكون لهذين العاملين دورٌ فيها: فإما أن تكون المصالح المادية، الفردية أو الجماعية، هي المستهدَفة، أو يكون المستهدَف هو الشهرة العالمية والعزة والـمَنَعة المكتسَبة في ظل الانتصار في الحرب.
وتقع بعض هذه الصراعات والحروب والعداوات في داخل البلدان المسلمة، والتي تمتد من منطقة الشرق الأوسط، إلى غرب أوربا وأفريقيا، إلى قسم من القارة الأمريكية أيضًا، فيكون للمسلمين دور في إشعال هذه النزاعات والصراعات. بل قد تحدث معارك وحروب واقتتال بين المسلمين أنفسهم، ولقد شاهدنا ونشاهد في العقود الأخيرة نماذج متعددة من ذلك.
ويظن معظم الناس أن المواجهات التي تحصل بين المسلمين وغيرهم، أو حتى بين المسلمين أنفسهم، هي كسائر الحروب والنزاعات التي تنشب بين باقي الأقوام والأمم والديانات، وأن العامل فيها هو المصالح المادية الخاصة بجماعة ما أو حزب معيَّن وصولًا إلى المصالح القومية والعرقية. وهنا يُطرح السؤال التالي: "هل النزاعات التي تحصل في العالم الإسلامي تشبه حقًّا تلك التي تحصل في سائر الأمم، وأن الدافع الأساسي خلفَها هو أيضًا تلك الأمور المادية، أم ثمّةَ هنا عوامل أخرى لذلك؟
الإيمان والروحانية في أيام الدفاع المقدس
ولو أننا وقَعْنا على إحصائيات دقيقة فلعلّنا سنجد أن الغالبية العظمى من الصراعات التي تنشب في داخل العالم الإسلامي هي أيضًا نتيجةَ تلك الدوافع ذاتها، وأن نزاعاتهم تتمَحوَر حول الأمور المادية والحدودية والمصالح المناطقية وأمثال ذلك، لكن ليس لنا القول إن العامل الوحيد في الحروب بين المسلمين هو هذا، فلربما أُلحقَت بها عوامل أخرى، على الأقل في صراعات بعضِ الجماعات والفئات.
ولكي أضرب مثلًا عينيًّا عِشناه نحن أنفسنا أقول: في الحرب التي دامَت سبع أو ثماني سنين بين إيران وحكومة العراق بقيادة صدام حسين لا شك أن دافع جيش صدام فيها لم يكن سوى تلك الدوافع والمصالح المادية، فكان هدفهم الاستيلاء على قسم من إيران، ولا سيما المناطق النفطية في جنوبها. وفي المقابل أيضًا كان هناك في إيران أشخاص لا يَحدُوهم لحربِ جيش صدام غير الدفاع عن الوطن والوطنية ومصالح القوم والشعب، لكننا شاهَدنا حينَها كذلك أنّ قتال قسمٍ عظيم من الشعب الإيراني لم يكن لمجرد الدوافع المادية، بل لقد ضَحّوا في هذا الطريق بكل وجودهم وبحياتهم المادية وأولادهم وشُبّانهم وأزواجهم من دون أن يَطمَعوا بأي شيء مادي ودنيوي!
وإنّ وجودَ أمثال هؤلاء المقاتلين، الذين لا تحرّكُهم في جهادهم الدوافعُ المادية فحسب، بل تدفعهم - فوق ذلك - بواعثُ معنوية وإلهية؛ أقول: إن وجود أمثال هؤلاء يُتيح لنا – على ما يبدو – تقسيمَ الحروب البشرية إلى فئتين: الفئة الأولى هي التي لا يحرّك المقاتلين فيها سوى المصالح المادية، والثانية هي التي لا يَلتفت المقاتلون فيها إلى القضايا المادية، بل يكونون على استعداد للتضحية بأرواحهم أيضًا في سبيل أهداف معنوية وإنسانية وإلهية. ويبدو أن أصحاب الفئة الأولى هم أكثر بكثير من حيث العدد.
ويحدّثنا تاريخ الأمم السابقة أيضًا، ولا سيما ما جاء ذكره في القرآن الكريم، أنه كان عبر التاريخ أيضًا أُناسٌ لم يقاتلوا أو يجاهدوا لمصالح مادية محضة، بل كانت لديهم فوقَ ذلك أهدافٌ إلهية، إلى درجة أنهم كانوا حاضرين لأن يُنفقوا جميع مصالحهم المادية ثمنًا لبلوغ تلك المنافع الإلهية والمعنوية والـمُثُل الإنسانية، وجميعنا مُطّلع على نماذج من هذا الصنف في صدر الإسلام. ثم لم يَخلُ التاريخ بعد ذلك أيضًا من أشكال الدفاع المقدس وصوَر الجهاد المبدئي والإلهي هذه، تقع بين الحين والآخر في هذا البلد الإسلامي أو ذاك.
البواعث المختلفة للأنشطة السياسية والاجتماعية والجهادية
كان هدفي من هذه المقدّمة هو أن نَرجع إلى أنفسنا لنرى ما هي دوافعنا من مشاركتنا في هذه الأنشطة السياسية والاجتماعية والجهادية؟! هل العامل الذي يحرّكنا نحو هذه التضحيات والصراعات هو رجاءُ المصالح المادية فحسب؟! وهو أن نَجني ثروةً أكبر، وسلطة أعظم، وقوة ومصالح أزيد، أم أن دافعًا إلهيًّا يجُرّنا إلى هذه الساحة، ولولاه لما كنا حاضرين لتجَشُّم هذه المشاقّ وتقديم هذه التضحيات، وأنّ دافعَنا الأساسي لذلك هو - في الحقيقة - دافعٌ إلهي وفوق مادي؟!
ولو تقصَّينا كل حرب من هذه الحروب فربما نجد البعض فيها يسعى وراء منافعه المادية، ومتى ما هُدّدَت منافعه هذه لا تجد فيه تلك الرغبة في اقتحام مثل هذه القضايا الخطرة والحروب والقتل! وهذه هي طبيعة الأنشطة الإنسانية الاجتماعية، إذ لا تكون القيَم في مستوى واحد، ولا تتساوى فيها الدوافع، وإن الأشخاص يختلفون فيما بينهم كثيرًا من حيث قيمة عملهم وطهارة نيّتهم. المهم هو أن نرى في أي صف نقف نحن أو تقف الجماعة التي ننتمي إليها؟
لربما يظن بعض السُذَّج، ممن يفتقدون المعرفة الكاملة بالقيم الإلهية، أو المراهقون الذين لم يبلغوا بعدُ مَبلغ الرجال وما زالوا جديدي العهد بالحياة الاجتماعية – لربما يظنون أنه ليس هناك فرق كبير؛ فهدفنا في هذه الحرب هو الغلَبة على العدو، فترانا نقدّم التضحيات، ونُبدي الشجاعة، وهذه الأمور نفسُها هي القيمة الأساسية. لا يَهُم إن كانت نوايانا النهائية مادية أو معنوية، المهم هو أن ننتصر في الحرب ونهزم أعداءنا!
لربما نعثر في بلداننا أو مناطقنا على مثل هذه الفئات والجماعات من المراهقين أو الأشخاص القليلي المعرفة، لكن من واجبنا نحن أن نحاول معرفة ما إذا كان هذان الصنفان من العمل والجهاد - هذا الذي تحرّكه الدوافع المادية وذاك الذي تدفعه البواعث الإلهية - هما حقًّا متساويَين من حيث القيمة، وأن الله تعالى يُثيب على كليهما بالثواب ذاته، أم أنهما مختلفان؟
مكانة النية في قيمة العمل
السؤال الجوهري الذي أوَدّ طرحَه من وراء كلامي هو: "ما إذا كانت قيمةُ هذا النضال وهذه الأنشطة الجهادية، من وجهة النظر الإسلامية، هي بالعمل نفسِه أم أنّ قيمتها الأساسية تكمُن في النية والدافع للقيام بهذا العمل؟ فإن كانت قيمة العمل بالعمل نفسه فلا يَهُم كثيرًا مقدارُ ما نصبو إليه من وراء العمل، حتى وإن كانت مصالح مادية، أما إذا كانت قيمة العمل بالنِيّة حقًّا، فإن علينا حينها أن نجتهد في جعل نوايانا من هذه الأعمال أكثر خلوصًا ونقاءً.
ولكي لا أُطيل عليكم سأقُصّ حكاية من صدر الإسلام، حدثَت في زمان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أثناء معركة أحُد وسجّلَتها كتُب التاريخ: كلنا يعلم كم من المِحن والشدائد جرَت على المسلمين في معركة أحد؛ فلقد استشهد فيها حمزة، سيد الشهداء، وعدد كبير من أكابر الصحابة، وتكبّد المسلمون فيها خسائر فادحة. يقول الراوي: كنتُ يومَ غزوة أحُد إلى جانب النبي (صلّى الله عليه وآله) وإذا برجل نزل إلى ميدان القتال مسرعًا، ونظر يمنةً ويسرة، ثم استَلّ سيفَه وراح يقاتل حتى سقط شهيدًا. وإذ كنتُ إلى جانب النبي أنظر إلى المشهد سألتُه عن مقام هذا الرجل الذي استُشهد للتو. فكان جواب النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد تأمل لحظات [ما مضمونه]: ليس شيئًا ذا بال! فتعجّبتُ من أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يكترث للرجل مع أنه قاتل ببسالة بمجرّد نزوله إلى ساحة المعركة حتى استُشهد!
قلت: "لماذا؟ أنا أقصد هذا الرجل الذي نزل إلى ساحة المعركة للتو وقاتل حتى استشهد!"
فأوضَح النبي (صلّى الله عليه وآله) ما معناه أن الرجل كان مارًّا على مقربة من ساحة المعركة فضيَّع حماره، وأخذ يبحث عنه. وبينما هو يفتش عن حماره رأى هنا جمهرةً من الناس فجاء ليستخبر الحال فرأى أنها ساحةُ حرب، فقال في ذاته نفسه: ما دمتُ علِقتُ هنا فلأدافع عن نفسي، فهو إنما قاتل ليُنقذ نفسَه ويبحث عن حماره ليسترجعه. إنه "شهيد الحمار"، وليس لشهادته أية قيمة، إذ لم تكن نيّته القتالَ لله، بل لاستنقاذ حماره.
وهذا شاهد على أنه كم للنية من أثر في قيمة العمل!
قيمة العمل تكون بالنية والهدف الإلهيين
هذه القصة وأمثالها تشكّل إنذارًا لنا يحثّنا على التدقيق أكثر في أعمالنا، وهو أنه: من أجل ماذا نقوم بها؟ سواء أعمالنا الفردية، من صلاة وصيام وإنفاق وصِلة رحم، أم أنشطتنا الاجتماعية والسياسية والجهادية التي نخاطر فيها بأرواحنا، ونُظهر بسالةً وشجاعة، ونتكبّد أضرارًا، فنتساءل: ما هو دافعنا من هذه الأعمال حقًّا؟! فنحاول إخلاص نيّتنا لله تعالى وابتغاء مرضاته وإرادة وجهه. عندذاك سيسجَّل للعمل آلاف، بل ملايين الأضعاف من القيمة التي تُكتب لعمل بسيط يمارسه الناس جميعًا لأغراض تافهة وأهداف عادية. وإنه لخسران مُبين أن لا يُخْلص المرء نيته لعمل ما وينجزه مثل أي عمل عادي، وقد كان بمقدوره أن يضاعف قيمتَه آلاف الأضعاف من خلال النية. وأحيانًا ليس أنه لا يجني منه أي ربح فحسب، بل قد يجابَه بسببه بالذم والتوبيخ أيضًا! هذه هي النقطة الأساسية بخصوص أهمية النية.
العلاقة بين النية الخالصة والنجاح في العمل
وأُضيف هنا نقطتَين فرعيّتين أيضًا: الأولى هي أن الذين يخوضون المخاطر من أجل منافعهم المادية متى ما شَعروا أنه لم تَعُد لهم فيها أي منفعة أو لم يعودوا قادرين على استحصالها فإنهم سيحاولون الهروب من الساحة كي لا يتكبّدوا المزيد من الخسائر المادية، أما الذي يقتحم الساحة مرضاةً لله تعالى فتراه يقاوم حتى آخر قطرة من دمه ولا يفر من المواجهة أبدًا، لأنه يعلم أن كل لحظة يقضيها في هذا المضمار وكل نفَس يشهقه فيه له فيه ثواب، وأن الله يثيبه عليه في الآخرة أضعافًا مضاعَفة. هذا العنصر هو الذي يجعل الحروب التي يخوضها المجاهدون بنِيّة إلهية تكلَّل بالنجاح والنصر أكثر من غيرها، لأن أمثال هؤلاء المجاهدين يكونون أكثر مقاومةً وأشد صبرًا على شدائد الحرب.
الإمدادات الغيبية هي أجر النية الخالصة
الفائدة الثالثة التي تترتب على إخلاص النية هي أن الله تبارك وتعالى قد وعَد الذين يخوضون ميدان القتال أداءً للتكليف الشرعي وقُربَةً إلى الله بأن يُسعفهم بالإمدادات الغيبية إذا خذلَتهم الماديات والعوامل الظاهرية، وإنّ المثال الأبرز لذلك هو ما حصل في وقعة بدر؛ يقول تعالى: (وَلَقَد نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّة)،[1] ويقول: (إِذ تَستَغيثونَ رَبَّكُم فَاستَجابَ لَكُم أَنّي مُمِدُّكُم بِأَلفٍ مِنَ الـمَلائِكَةِ مُردِفين).[2] فالمجاهدون في معركة بدر كانوا 313، لكنهم حين عجزَت عدّتهم المادية عن مجابهة جيش العدو بعدده الذي يزيد عنهم بأضعاف وعُدّته الكاملة، أرسل الله عز وجل ملائكةً بمقدار ثلاثة أضعاف المجاهدين، بل أخبرهم بأنه لو احتاج الأمر إلى المزيد فسنُرسل بدل الألف، ثلاثة آلاف ملَك!
النصر الإلهي في حرب تموز بلبنان
وقد خطر ببالي في هذا السياق قصة سمعتُها من السيد حسن نصر الله، من لسانه المبارك مباشرة، وإن من الخسارة أن لا أنقُلَها لكم، ولعلكم سمعتموها من لسانه بصورة أكمل وتفاصيل أكثر، أو لعلكم عشتم أمثالها: حظيتُ بعد أن وضعَت حربُ تموز أوزارَها برؤية السيد حسن نصر الله في زيارة لي إلى لبنان. دار الكلام بيننا حول الإمدادات الإلهية، فقال سماحتُه: "ذلك المدد الذي ذكره القرآن الكريم لأهل بدر رأيناه نحن بأُمّ أعيننا في هذه الحرب!"
قلت: "ماذا كان ذلك؟ كيف رأيتموه؟"
قال: "كنا ضعفاء جدًّا في مقابل إسرائيل من حيث العُدة والتجهيزات العسكرية. من حيث الطاقات البشرية كان مجاهدونا شديدي البأس، لكنّ عددَنا لم يكن كبيرًا. وفي إحدى المعارك نفدَت تجهيزاتنا الحربية وأوشَكنا على الهزيمة النهائية. وكانت هناك طائرة مقاتلة إسرائيلية تجوب السماء فوقنا وتواصل قصفنا بوابل من القنابل! لم يعُد لدى مجاهدينا حتى الطعام الذي يشبعون به بطونهم، فلاذوا بفَجّ في جبل حمايةً لأنفسهم. عن طريق التنصّت كنا نتابع أخبار المجاهدين من جهة، وما يجري على الإسرائيليين من جهة أخرى. كنا قد قطَعنا الأمل تمامًا من الأسباب الظاهرية، إذ خلَت جعبتُنا من كل شيء، وصرنا نعُد اللحظات لهزيمتنا النهائية حين سمعنا من أجهزة التنصت أن قادة الجيش الإسرائيلي يوبّخون جنودهم قائلين: "لماذا تعودون أدراجكم؟ لماذا تفرّون؟! إنهم خالو الوفاض! اثبُتوا أمامهم! إنكم لأنتم المنتصرون!" وكان الجنود يجيبون: "لستم هنا لتروا ما نرى! إننا نشاهد أشخاصًا موشَّحين بالبياض يحملون علينا بسيوفهم ولا يذرون لنا مجالًا للتفكير أصلًا! إننا نوشك على السقوط، وإنها لغنيمة أن نستطيع الفرار بجلدنا وننجوا بأرواحنا!"
في تلك الأثناء حصل انفجار في المقاتلة الإسرائيلية في السماء، وعادَت أدراجها إلى الأراضي المحتلة، وفَر الإسرائيليون وجنودهم من أرض المعركة، وكان الانتصار في حرب تموز."
هذه القصة نقلها لي السيد حسن نصر الله بلسانه، قصَصتُها لنعلم أن ما جرى في وَقعة بدر لم يكن قضيةً في واقعة، بل سُنّة إلهية مفادها أننا متى ما بذلنا كل ما نملك خالصًا لوجه الله تعالى وواجَهنا مأزقًا ما فسيرسل الله عز وجل الإمدادت الغيبية لنجدتنا ولا يدع الحق ينهزم.
طريقة اكتساب الدوافع المعنوية غير المادية
النتيجة التي أود الخروج بها من هذا البحث هي أنه بشهادة الآيات القرآنية الكريمة والروايات الشريفة والسُنّة الحتمية، وكذا الحوادث التي عشناها في زماننا هذا، فإننا لو سعينا في طريق أداء واجب العبودية لربّنا وطاعته بنيّة خالصة لوجه الله تعالى فلن ننهزم أبدًا، ولن نندم. لكن السؤال المطروح هنا هو: "ماذا نصنع لاكتساب هذه الروح، وهي أن لا نفكر في الماديات، ونكون على استعداد لبذل كل ما لدينا، مطمئنّي البال من حتمية النصرة الإلهية؟!"
علينا، في هذه السبيل، أولًا أن نبذل جهدنا لتعزيز معرفتنا بالمعارف الإسلامية، وبالله تعالى، وأوليائه، وبالإمام صاحب الأمر (عجّل الله تعالى فرَجه الشريف) وأن نتمرّس على أن نكون دومًا ذاكرين لله تعالى وآملين نصرتَه؛ يقول تعالى: (وَاذكُروا اللهَ كَثيرًا لَعَلَّكُم تُفلِحون).[3] وعليه فلا بد أن نلتزم بمنهاج دائمي للتمرين على أنه كلما سنحَت لنا فرصة وَجَّهْنا قلوبَنا إلى الله وإلى أوليائه، ولا سيما الإمام الحجة (عجّل الله تعالى فرَجه الشريف)، قائلين له: "يا سيدي، لسنا سوى أدوات تافهة وقد جعلنا أنفسنا طوعَ أمرك، فاسأل الله ربك أن ينزل علينا النصر على أعدائه!" وإن من شأن هذا أن يكتب لنا النصر في الحرب أولًا، وأن يثيبنا الله جل شأنه في الأخرى على كل لحظة من أعمارنا في الدنيا من الأجر والثواب ما يعادل آلاف أضعاف العدد الذي ليس لنا قياسه ولا حسابه. يكفي أن نقول هنا أن ثواب الدنيا، مهما كبر، فهو عدد افترضوا أنه يكفينا إلى آخر عمرنا الممتد لمئة عام، أما الثواب الإلهي فهو من صنف: (خالِدينَ فيها أَبَدًا)،[4] و"أبدًا" يعني ما لا نهاية له. واللانهاية لا تكون طرفًا للنسبة مع أي عدد مهما كبر، وإن مثل هذا الثواب الأبدي يُكتَب لضربةٍ واحدة، لمجرّد ضغطةِ زناد بندقية.
فإن نحن نُنفق جميع لحظات حياتنا في مرضاة الله تعالى وطاعته ونخدم الدين والإسلام في الميادين المختلفة، في ميدان العسكر والاقتصاد والسياسة والعلم والتقنية وكل مكان، فسيمنحنا الله سبحانه مثل هذه الأجور ولن نندم يومًا على سلوكنا وتضحياتنا، بل سنندم فيما بعد من تقصيرنا في بذل كل ما كنا نستطيعه، ومن قلة مشاركاتنا في مثل هذه الأعمال الخالصة لوجه الله والطاعة التي لا يُنتظَر منها جزاءً ماديًّا في أداء الواجب.
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يحشر إمامنا الراحل مع أنبيائه وأوليائه، ويحشر شهدائنا جميعًا مع شهداء كربلاء، وأن يديم لنا الإمام القائد الخامنئي (دام ظله) والسيد حسن نصر الله (حفظه الله) خيمة على رؤوسنا. وأن يوفّقنا للمزيد من المعرفة والإيمان والعمل الخالص، ويجعل عواقبنا على خير، ويشملنا جميعًا بدعوات صاحب الأمر (عجّل الله تعالى فرَجه الشريف).