الشدة مع الأعداء والرحمة بالمؤمنين ميزة أصحاب النبي الأعظم(ص)

في لقاء لسماحته مع جمع من شيعة تركيا، التاريخ: 22 كانون الثاني 2020م

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

اللهُمّ كُن لوليِّكَ الحجّةِ بنِ الحسن، صلواتُكَ عليهِ وعلى آبائِه، في هذهِ الساعَةِ وفي كلِّ ساعةٍ، وليًّا وحافِظًا وقائِدًا وناصِرًا ودَليلًا وعَينًا، حتّى تُسكِنَه أرضَكَ طَوعًا وتمتِّعَهُ فيها طويلًا.

أرحّب بالإخوة الأعزّاء بصفتي خادم يفتخر بالخدمة في هذه المؤسّسة. إنّ من التعاليم الإسلاميّة المؤكَّدة، والتي شُدِّد عليها بشكل واضح في الآيات القرآنيّة، هي أن يجتهد أهل الإيمان في اجتناب الفُرقة والاختلاف وفي حفظ وحدتهم بالاعتصام بحبل الله تعالى.

الأمر القرآني بحفظ الوحدة

لا بد أنّ السادة تلو هذه الآية الشريفة مرارًا، أو سمعوها، أو لربّما تناقشوا حولها، وهي قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقُوا).[1] ثم يذكِّر القرآن الكريم نفسُه للتأكيد على قضيّة أن: لا يطرأ على وحدتكم مانع؛ من ذلك ما يقوله تعالى تتمّةً لهذه الآية بالذات: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا)؛ اذكروا أيّها المؤمنون كيف أنّكم كنتم أعداءَ بعضِكم البعض، فأدخلَ الله تعالى الرحمة في قلوبكم وبدّل عداءكم محبّةً، فأتَلَفَت قلوبُكم، ونجوتم من حافّة الهاوية التي كانت تهدّدكم بالسقوط الأبدي في نار جهنم؛ (وَكُنْتُمْ عَلى‏ شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها).

عوامل بَث الفُرقة والعداوة

في مقابل اهتمام القرآن الكريم بتقوية أواصر الوحدة بين المؤمنين فإنّ عدُوّ هذا النهج، المعارض اللدود لله تعالى، هو إبليس الذي يبذل قصارى جهده لبَث العداوة بين الناس، ولا سيّما المؤمنين منهم، ويفرّق صفوفهم جميعًا لكي لا يستطيعوا اتّخاذ المسار السليم لبلوغ الكمال والسعادة. من هنا يمكننا القول: إنّ الله وأولياءه يدعون إلى الوحدة والوفاق، وإنّ الشيطان وأولياءه يدعون إلى التشتُّت والبغضاء.

ويمكننا أن نقسّم العوامل الباعثة على التفرقة، ومن ثمّ العداوة، إجمالًا إلى عاملَين: الأوّل: العامل المرتبط بالأمور المادّية والدنيويّة والحيوانيّة، أي الاختلاف حول المصالح؛ وهي أنّ مصالحَ ضيّقة تتخاصم عليها فئتان فينشب بينهما الخلاف والعداوة.

العامل الثاني الذي يبدو وكأنّه ينطلق من منطلقات دينيّة، وهو أن تختلف الفئتان حول تعريف لوازم الإيمان؛ فتقول هذه: الإيمان يستلزم أن نسلك بهذه الطريقة، وتقول تلك: بل على العكس، فيقع بينهما الاختلاف وتنشأ الشحناء.

طريقة دَرء الفُرقة والعداوة من وجهة نظر القرآن الكريم

وللخلاص من العاملَين كليهما يقدّم الله تعالى لنا عاملًا إلهيًّا إيجابيًّا عامًّا وهو أن نعرف سبيل الله، وحبل الله، وتلك الواسطة التي تربطنا بالله عزّ وجل، فنتمسّك بها، ولا نتركها. التعبير الذي ساقَه القرآن الكريم لهذا هو «حبل الله». وفي هذا إشارة إلى أنّ مقام الله سبحانه وتعالى في غاية العلُوّ، وأنّ الناس في درجة واطئة، لكنّهم ليسوا منفصلين تمامًا عن الله جلّ وعلا، بل ثمّة رباط وجودي بين الله والناس، فإنْ هم عرفوا هذا الرباط وتمسّكوا به فسينجون من أشكال التشتّت والعداء، وفي هذه الحالة سيعرفون سواءَ السبيل من ناحية، ولن يؤدّي اختلافُ المصالح بينهم إلى العداوة من ناحية أخرى.

وعليه، فمن أجل أن نأمَن هذا الخطر الكبير الذي يؤكّد عليه القرآن الكريم، وقد حذّرَنا في بضع مواطن من أن نقع في هذا الفخ الشيطاني، علينا أوّلًا أن نقوّي ركائزَ إيماننا، ثمّ نحاول، على مستوى العمل، أن نرى مصالحنا في ظلّ العمل بالأحكام الإلهيّة، خلافًا لأولئك الذين يسعون لضمان مصالحهم الدنيويّة بعيدًا عن الدين، فلا يكترثون للحلال والحرام، ويحاولون تأمينَ مصالحهم ومنافعهم من أيّ طريق ممكنة، فعندها سيضطرّون إلى إقصاء الدين جانبًا، فتنشأ بينهم، منذ البداية، بوادر الاختلاف والشحناء. ومن أجل الخلاص من هذه المشكلة فإنّنا مهما اجتهدنا أكثر لفَهم حقائق الدين، وألزَمنا أنفسنا بالعمل بهذه الحقائق، فسوف تزداد فرص نجاتنا من هذه الأخطار.

العنصرية والقومية عاملان للاختلاف والفُرقة

من عوامل الفُرقة، والتي خبَرَها الشيطانُ طيلة آلاف السنين، وقد تعلّم جيّدًا كيف يزرع بذور الاختلاف بين الناس هي عوامل خارجة تمامًا عن اختيار البشر؛ كاختلاف لون البشرة، والعرق، واللغة، والقوميّة، والجغرافيا. هذه أمور ليست في حيّز اختيار الإنسان؛ فهذا أسود، وذاك أبيض، وثالث شمالي، ورابع جنوبي، وخامس يتكلم لغة كذا، وسادس لغة أخرى. يُشيْع الشيطان بين الناس أمورًا مثل القوميّة، والعنصريّة، وأمثالهما؛ فيقول بعضهم: عنصرنا كذا، ونحن ضدّ مَن ليس من عنصرنا!

من الأمثلة البارزة على هذا الاختلاف ما حصل في الحرب العالميّة حيث عَدّ النازيّون الألمان في أوربا أنفسَهم العنصرَ الأفضل فقالوا: "نحن الأفضل من بين البشر، وعلى الجميع أن يتّبعونا!" على حين أنّ منطق الإسلام هو أنّه لا فضلَ لأبيض على أسود، ولا لأيّ عنصر على عنصر آخر ذاتًا؛ لا لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لتركي على فارسي، ولا لفارسي على تركي، فالكل عند الله سواسية، ولا فضلَ إلّا بالتقوى. لكنّ الشيطان، كما أسلَفنا، يجتهد في تفريق هؤلاء؛ فهذا تركي وذاك فارسي، وهذا عربي وذاك أعجمي، وهذا آسيوي وذاك أوربي، وهذا أبيض وذاك أسود، مما يؤدّي إلى التفريق بين الناس، ويقود - شيئًا فشيئًا - إلى العداوة والبغضاء.

استراتيجية النبي(ص) لحفظ الوحدة الإسلامية

منذ بداية البعثة، وفي شبه الجزيرة العربية، مركز القومية العربية، حيث كان العرب متعصّبين جدًّا لعنصرهم العربي، عملَ النبي الأعظم(ص)، في تلك المدّة القصيرة، على احترام الفارسي والأفريقي من بين أصحابه احترامًا خاصًّا؛ على سبيل المثال كان رسول الله(ص) يُكِنّ احترامًا مميّزًا لسلمان الفارسي، مع أنّه كان شيخًا من العنصر الزرادشتي، ولبلال الحبشي، على الرغم من كونه عبدًا أسودَ من أفريقيا، بحيث تُجمِع جميع الفِرَق الإسلامية تقريبًا اليوم على أنّ إحدى أبرز الشخصيّات الإسلاميّة في زمان النبي(ص) وصدر الإسلام كان سلمان الفارسي، مع أنّه كان إيرانيًّا، ولم يكن له أيّ صلة بالعرب أصلًا. يعني أنّ النبي(ص) أزال هذا الاختلاف بشكل عملي، وأشاعَ روح الانسجام والتماثل بين الناس، وأنّ القيمة تكمن فقط في التقوى والعبوديّة لله.

وعليه فإنّنا نستفيد من كلام الله وكلام رسوله في القرآن والسُنّة من جهة، ومن سلوك النبي الأعظم(ص) من جهة أخرى، وهذه مصادر معرفتنا – نستفيد أنّ علينا اجتناب كل شكل من أشكال التباين الذي يؤدّي إلى الفُرقة، ولكي يتقارب المسلمون انطلاقًا من إيمانهم بالله وتقواهم، ويتآخَوا، ويتصادقوا لا بد أن نسعى لتعميق معرفتنا بالإسلام والأسس الإيمانيّة.

اختلاف مراتب الإيمان مَنفَذ للشيطان!

نعلم جميعًا أنّ الناس ليسوا سواءً في قبول الحق؛ بعبارة أخرى: إنّ درجات الإيمان مختلفة وليس الجميع في درجة واحدة. منذ صدر الإسلام لم يكن المسلمون في درجةٍ واحدة من اتّباع النبي(ص) وامتثال أوامر الله جلّ وعلا، وهم الآن هكذا أيضًا. ونحن كذلك لا نصنّف المسلمين جميعًا في خانة واحدة؛ فبعضهم لا يقبل من الإسلام إلّا اسمه، وآخرون يشتركون بأشياء بسيطة من الإسلام، مثل الصلاة وما إليها، وفئة ثالثة تلتزم بدقّة بالعمل بكل حكم إسلامي تعرفه. اختلاف مراتب الإيمان هذه بين المسلمين أرضيّات يمكن للشيطان أن ينفذ من خلالها أكثر ليَخلُق حالة الفُرقة. ولكي نحرس أنفسنا من هذا الخطر علينا أن نتّخذ ممّا أكّدَ عليه الكتاب والسُنّة محورًا، ونتمسّك به، ولا نتركه، كي لا نتشتَّت ونتفرّق، ولا نخلُقَ أرضيّة لتسلُّط العدو.

التركيز على المشتركات أهم سبيل للتقريب بين المذاهب الإسلامية

يدلّنا التاريخ والتجارب البشريّة في الحياة على أنّه لا معرفة الناس متساوية، ولا هم متشابهون في درجة التزامهم بالأحكام الإسلاميّة. من أجل ذلك، ولكي يتمكّنوا من حفظ انسجامهم وائتلافهم أمام العدو، برغم الاختلافات القائمة بينهم، يتحتّم عليهم التركيز على القواسم المشترَكة بينهم؛ وهو أن يؤكّدوا على الأمور التي يقبلُها الطرفان، ويلتزموا بها، ويحاولوا تدريجيًّا العمل على تقليص فجوة الخلافات، حتّى يأتي يوم – إن شاء الله – لا يبقى ثمّة أيّ اختلاف بين المسلمين، ويُقِرّوا جميعًا سبيلًا واحدةً هي الحق، فيسلكوها جميعًا بكل اهتمام، وينالوا سعادة الدنيا والآخرة.

فلو دقّقْنا النظر في آيات الذكر الحكيم لرأينا أنّ القرآن الكريم لم يحاول حثَّ المؤمنين فقط على الاتّحاد والتقارب انطلاقًا ممّا بينهم من مشتركات، بل حاولَ تقريب الكفّار أيضًا من الإسلام. وإنّه لمن هذا المنطلق طالبَ اللهُ النبيَّ(ص) في بعض الآيات بأن يطلب إلى أهل الكتاب أن يجعلوا من القواسم المشتركة بينهم محورًا؛ إذ قال تعالى: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللهِ[2] أي أن يقول لليهود والنصارى: إنّ لنا نحن وأنتم قواسم مشتركة؛ فكلّنا نعتقد بإله واحد، ونُقرّ بوجوب امتثال أوامره، وأنّه لا يجوز أن نشرك به ونجعل مخلوقًا في محل الخالق.. تعالوا نحيي هذه الأمور جميعًا، ونلتزم بها، ونحاول في ظلّها رأبَ الصدوع المتولّدة بيننا بالتدريج، فنتّجه نحو الوحدة. القصد هو أنّ الإسلام لم يقنع بتوحيد المسلمين فحسب، بل يقول: حاولوا التقرّب من الذين يَدينون بديانات أخرى قريبة من الإسلام أيضًا. فَتّشوا عن وجوه الوحدة بينكم، وشَدّدوا عليها؛ (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللهِ).

لله الحمد يُدرك جميع البشر بعقولهم، على خلفيّة ما بلغوه من التطوّر ونضج العقول، أنّ هذه الاختلافات لا تجلب للطرفين غير التعاسة. فإنّ الناصحين من جميع الأديان يحاولون اليوم تقليص الاختلافات الدينيّة أيضًا، والتقرّب إلى بعضهم البعض، ثمّ التعاون انطلاقًا من القواسم المشتركة.

أَذكُر من باب المثال أنّ دعوةً وُجّهَت لي إلى إيطاليا، ربّما قبل أكثر من عشرين عامًا، فذهبتُ. في ذلك الحين كان السيد مسجد جامعي، وكان عالم دين، ممثّل إيران في الفاتيكان. حينها السيد مسجد جامعي أَبلغَ مكتب البابا بأنّ عالِم دينٍ قادمٌ من إيران ونرى من المناسب أن يلتقي بالبابا. إبلاغه المكتب لم يتجاوز هذا المقدار. حينها ذهبتُ بجولة في مدن إيطاليا الجنوبيّة؛ فلورنسة وغيرها، وهناك اتّصلوا من مكتب البابا أنْ: تفضّل يوم كذا للقاء البابا. فرجعتُ بسرعة والتقيتُ به، وحينها أهداني هدية. وقد طُبعَت صورةُ اللقاء على ظهر كتاب. في اللقاء كنتُ أنا والبابا ومترجم. دار الحديث حول الإسلام والمسيحيّة. في البدء امتدحَ البابا الإسلام قائلًا: أرى أنّ الإسلام من أرقى ديانات العالم، وقد ذكرتُ هذا في أحد كتبي، واليوم نواجه، نحن المسيحيّين والمسلمين معًا، موجةً من الإلحاد واللادين والمادّية، ومن الأفضل في الوقت الحاضر أن نتعاون فيما بيننا لمحاربة هذا العدو المشترك، ومن ثم نبدأ في علاج القضايا الأخرى. ثم قال: ما نسعى إليه هو إقامة علاقات ودّية بين الإسلام واليهوديّة والمسيحيّة، بل أن يتبلور حلفٌ لمحاربة المادّية.

ما أردتُ قوله هو أنّ زعماء الأديان الأخرى أيضًا أدركوا بعقولهم أنّ هذا النوع من التعادي والتخاصم لا يصُبّ في صالح أيّ أحد، ولا بد من محاولة الاتّفاق على القواسم المشتركة ثم السعي تدريجيًّا لحل القضايا الخلافيّة في ظلّ المشتركات. بالطبع تقدُّم هذه الخطة لم يدُم طويلًا، إذ رحلَ ذلك البابا عن الدنيا، وتغيّرَت سياساتهم بعد ذلك. قصدي أنّ أطروحة القرآن الكريم هذه يدركها العقل تمامًا وهي ليست أمرًا تعبّديًّا محضًا؛ إذ يدرك كل عاقل أنّه ما من أحد يجني من العداء ربحًا، فلا بد للبشر من محاولة التَوادّ والتراحُم، وأن يروا مصالحهم في ظل هذه المشتركات، وأن يسعوا قدرَ الإمكان إلى تقليص الاختلافات والاقتراب من الوحدة. وكما أسلفتُ فإنّ عدوّنا اللدود إبليس، في المقابل، يجتهد يوميًّا في التفتيش عن سبُل أفضل لبثّ الفُرقة والخلاف.

ضرورة حفظ وحدة المسلمين وتعزيزها لمواجهة مؤامرات الأعادي

كلّنا يعرف أنّ عداءً ضاريًا نشبَ بين اليهوديّة والنصرانيّة في بدء ظهورهما؛ فكان اليهود يتطاولون على السيّدة مريم العذراء(س) ويُلصقون بها وبالنبي عيسى، على نبينا وآله وعليه السلام، تُهَمًا قبيحة. اتّهامهم للسيّدة مريم(س) كان على خلفيّة أنّها أنجبَت من دون زواج. إلى هذا الحد كانت نار العداء بينهم متّقدة! وعلى مَرّ التاريخ أيضًا كان بين النصرانيّة واليهوديّة خاصّةً عداء عميق. تعلمون جميعًا كيف أنّ أعدادًا كبيرة من اليهود، خصوصًا إبّان الحرب العالميّة الثانية، قُتلوا في ألمانيا؛ عُلّقوا على المشانق، وذُبحوا. فالألمان بالذات كانوا يعادون اليهود بشدّة. أمّا اليوم فقد تسلّط عليهم الشيطان وبيّنَ لهم سبيلًا للحل؛ أوّلًا أقاموا في قلب العالم الإسلامي دوَيلة يهوديّة، في واحدة من أقدس المدن لدى المسلمين، والتي كان منها منطلق معراج النبي(ص)، فصيّروها عاصمة اليهود؛ اليهود أنفسهم الذين يُعَدّ المسيحيّون من ألَدّ أعدائهم، ونالوا بفضاحة من أعراضهم، جاؤوا فزرعوهم هناك، وهم اليوم يبذلون كل ما في وسعهم لدعم هذه الدويلة اليهوديّة العميلة ضد المسلمين من أجل ضرب الإسلام. وتلاحظون في الوقت الحاضر كيف أنّ جميع الفتن التي تشتعل في منطقة غرب آسيا، التي هي محلّ أكبر تجمّع إسلامي في العالم، إنّما يُشعلها هؤلاء اليهود أنفسهم، بشكل مباشر أو بمساعدتهم، وبالنسبة إلى الفتن الحاصلة اليوم تشاهَد أيدي الولايات المتّحدة والصهاينة معًا فيها، مع أنّ تلك مسيحيّة وهؤلاء يهود، لكنّهم يواصلون اتّحادهم ضد الإسلام. أفيعود للبلدان الإسلامية، والحال هذه، أيّما مسوِّغ للعداء فيما يبنها؟! بل أن يعمد حكّام البلد الذي يَعُدّ نفسَه مركز الإسلام ومهده، في الجزيرة العربية، وفي مكة المكرمة والمدينة المنورة – أن يعمدوا إلى معاداة مسلمي العالم جميعًا والتطبيع مع الكيان الغاصب؟! هل من عقل يُقرّ هذا؟!

إذًا علينا أن ندرك هذه الحقائق وأن نحاول التقارب مع مَن هم أقرب إلينا، ومَن يحملون هدفًا أكثر إنسانيّة وعقلانيّة، وإيمانًا أشَدّ، ثم نسعى إلى تقليص هُوّة الخلافات الداخليّة بيننا، ونعيرها أهمّية أقل، ولا نضخّمها، كي نستطيع التقدّم في مقابل عدونا المشترك تقدُّمًا يُرضي الله عزّ وجل.

أُلخّص حصيلة كلامي: إنّ علينا أن نتعاطى برأفة ورحمة مع من يحملون أكبر قدر من العقائد والسلوكيّات المشتركة معنا، وإن كان ثمّة نقاط خلاف فلنحاول أن نعالجها من خلال المنطق السليم والأسلوب الذي يُرضي الله عزّ وجل، بل أن نزيل مواطن الخلاف ما أمكن. أمّا إذا وُجد مَن يعمل عامِدًا على إضعاف الإسلام وضربه والنيل من المسلمين، ولو باسم الإسلام، فعلينا أن نَعْرفهم ولا نسمح لهم بالنفوذ إلى صفوفنا أو زرع الخلافات بيننا، أو مداهنة أعداء الإسلام وحَرب المسلمين الحقيقيّين بغية إضعاف العالم الإسلامي كلّيًّا ليَخلو الجَوّ لتسلّط عُبّاد الدنيا وعبيد الشيطان.

سمات أصحاب رسول الله(ص)

وبغية أن نلتزم، أنا المتكلّم وأنتم المستمعين الأعزاء، بهذه الوصيّة الإلهيّة والقرآنيّة أكثر أختم كلامي بقراءة الآية الكريمة: (مُحَمَّدٌ رَسولُ اللهِ وَالَّذينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَينَهُم[3] يقول: نبي الإسلام(ص) هو الرسول الحقيقي لله عزّ وجل، وإنّ الذين معه - أي الملازمين له حقًّا وغير المفارقين له، ومَن ليسوا بأعدائه – يتّصفون بصفتين: الأولى أنّهم أشدّاء قساة مع أعداء الله، لا يتصالحون معهم أبدًا، لكنّهم مع إخوانهم رحماء وإن اختلفوا في العرق واللغة، بل وفي الدين أيضًا، يسعون إلى المزيد من التقارب فيما بينهم، وتحشيد قواهم ضد أعدائهم.

أشكر السادة مرّة أخرى على ما أبدَوه من مشاعر اللطف والمودّة، وأسأل الله تعالى بمشيئته أن يوفّقنا جميعًا لمعرفة النهج الذي يحبّه هو أكثر وإلى العمل به أفضلَ العمل.

................

تواصُل الثورة ببركة دماء الشهداء

سؤال أحد الحضور:

قَدِمنا إلى هنا لنجدّد البيعة للدين والولاية ولكم. بخصوص ما طرَحه الإمام القائد الخامنئي (حفظه الله) في خطبة الجمعة من أنّ شهادة الجنرال قاسم سليماني ستكون مثارَ تحوُّلٍ جديد إن شاء الله، أحبَبنا أن نسمع من سماحتكم إن كان لديكم كلام في هذا الخصوص.

رد سماحته:

أشكر السادة على لطفهم وحُسن نظرهم. إن أردتُ أن أقدّم إيضاحًا لكلام سماحة الإمام القائد فهو في حدود فهمي ومعرفتي، وإلّا فإنّ ما ينبغي قوله حول كلام سماحته يفوق مستواي. أدامَ الله ظلّه ووفّقنا جميعًا للإفادة الكاملة من توجيهاته.

أتصوَّر أنّ النقطة التي أثارَها سماحته ترتكز إلى سُنّة إلهيّة في عمليّة تدبير البشر. فلو ألقينا نظرة إلى ما بلغَنا وما اطّلَعنا عليه من تاريخ البشر إلى الآن لوجدنا أنّ توتّرات كانت دائمًا قائمة بين أهل الحق والباطل، وأنّ مصائب حلَّت بأهل الحق؛ فقد أقدَم أهل الباطل على قتل الأنبياء تارةً وسجنهم أخرى. حَبسوا بعضَهم في بئر، وألقوا بعضَهم الآخر في الماء المغلي. وبخصوص نبي الإسلام(ص) كذلك فنحن نعلم أنّه رُوي عنه قوله: «ما أُوذيَ نبي مثل ما أُوذيت».[4] لقد ارتكبوا بحق المقرَّبين منه وبحق أولاده وأسباطه من الجرائم ما لم يرتكبه إنسان بحق إنسان آخر، بل بحق أعدى أعدائه. حتّى الرضيع رموه بنَبل بكلّ قسوة! الكافر أيضًا لا يقترف مثل هذه الجرائم. لكنّهم اقترفوها! إذًا مصائب عظيمة حلّت بأهل الحق على مَرّ التاريخ؛ بالأنبياء أنفسهم، وبمقرّبيهم وأولادهم، لكن إذا أمعَنّا النظر نجد أنّ كل مصيبة وقعَت تبعَتها بركات عظيمة ورحمات جمّة. لعلّ أعظم المصائب التي نعرفها في العالم الإسلامي هي تلك التي وقعت في كربلاء، وقد ذكرتُ أنّنا لا نجد مثيلًا لها حتّى في البلدان الكافرة، لكنّها كانت سببًا في إحياء الإسلام من جديد بعد أن كان – بشكل أو بآخر – موشِكًا على التحريف والضياع! فالرجل الذي كان يَعُدّ نفسَه خليفة لرسول الله(ص) قال: «لا خبرٌ جاءَ ولا وَحيٌ نزل»؛ قالها وهو ثَمِل يشرب الخمر! فلو كان الوضع قد استمرّ على ذلك المنوال وأخذ أولادُه يتولّون مناصب خلافة رسول الله(ص) الواحد تلو الآخر، فما الذي كنّا سنعرفه أنا وأنتم عن الإسلام اليوم؟! حين يصبح السلطان ألعوبة في يد أمثال هؤلاء ممّن لا إيمان لهم فإنّه من غير المعلوم أن يبقى لنا من الإسلام شيء، حتّى الاسم! فإنّ ما حفظَ الإسلام في واقع الأمر هو دم الإمام الحسين(ع). كانت رزيّةً في منتهى الجسامة لكنّها رزيّة أدرك العقلاء جميعًا من خلالها أنّ معارضي أهل البيت(ع) لا يمكن أن يكونوا عقلاء، وأنّهم لا يوثَق بهم. فكانت سببًا في فضيحة بني أمية، وانتصار الحق. وقد حصل شبيه هذا في زماننا؛ فالجريمة التي اقترفها الرئيس الأمريكي[5] بحق الجنرال قاسم سليماني عارَضه عليها في أمريكا نفسها أقربُ الشخصيّات إليه في حزبه أيضًا؛ قائلين: أيّ جريمة فاضحة ارتكبتَ! شوَّهتَ سمعة أمريكا في العالم!

كانت جريمة كبرى، لكنّها جلبَت لهم فضيحةً لا نستطيع نحن أن نثبتها ضدّهم مهما فعلنا. فبعض أفراد شعبنا أيضًا لم يكونوا يتصوّرون أنّ أمريكا هي بهذه الدرجة من الدناءة وأنّه لا يمكن الوثوق بهم أبدًا. هذه الحادثة أثبتَت هذه القضيّة، وقد أدرك الجميع، العدوّ والصديق، الإيراني وغير الإيراني، أنّ أمريكا لا يمكن الوثوق بها. هذه هي البركة التي يذكرها الإمام القائد بالنسبة إلى شهادة الحاج قاسم سليماني وأمثالها من الأحداث؛ أي إنّها أشبه بالبركة التي نجمَت عن دم سيد الشهداء(ع)؛ فهناك حُفِظ أصلُ الإسلام بدم أبي عبد الله الحسين(ع) ومَن معه، وهنا تُحفَظ أصل الثورة بدم أمثال سليماني وسائر الشهداء. نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لمواصلة نهج الشهداء والسعي في تحقيق أهدافهم، والعمل على تقوية هذه الأهداف أينما كنّا وبأيّ وسيلة ممكنة.

الأخلاق الحميدة والسلوك السليم أفضل طريقة لاجتذاب الناس إلى الإسلام

سؤال أحد الحضور:

حبّذا لو تتفضّلون علينا بنصيحة خاصّة، لا سيّما وأنّ الإخوة من المستبصرين[6]، ويقطنون في مدينة ذات أغلبية سُنّية ويعانون من مشاكل في مسألة الصلاة وسائر العبادات.

رد سماحته:

الحمد لله الذي هيّأ للأعزّة أسباب الهداية الكاملة ولا بد أن يعرفوا قيمة هذه النعمة حق المعرفة. ما يبدو لي للتوصية به هو أنّ لدينا عبر التاريخ، منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا، أمثلة مشابهة لذلك وأنا أستحضر بعضها في ذهني؛ وهو أنّه حين يهدي الله تعالى شخصًا ما، من عائلة أو أسرة أو مدينة، بأن يهَبَه معرفة خاصّة فإنّ أفضل طريقة يتسنّى لهذا الشخص أن يتّبعها لجعْل الآخرين يميلون إلى هذا النهج هو أن يتعامل معهم بسلوك أكثرَ رأفةً وحميميّة. ففي صدر الإسلام حين كان البعض يعتنق الإسلام كان يغيّر سلوكَه مع والديه وأرحامه فيعاملهم برأفة أكبر، ويبالغ في خدمة أبويه. فكانوا يسألونه: ما الذي غيّر حالك بهذه الطريقة؟ فيقول: نبيّنا يأمُرنا بهذا.

ولدينا أمثلة على ذلك من زماننا أيضًا. أنا شخصيًّا أعرف شخصًا من أمريكا حصل له هذا. إنّه ليغنهاوزن[7] صاحبُنا؛ فبعد أن اعتنق الإسلام ثمّ التشيّع أخذ يتعامل مع والدته بعطف ورأفة، حتّى أحبَّت الإسلام وعلماءه، وعلماء الشيعة، وقائد إيران. كل هذا بسبب سلوك ولَدها معها؛ إذ جعلَها تقول: ما أروعه من دين هذا الذي ربّاك بهذه التربية الصالحة! وأنا أظن أنّ هذا نموذج جيّد يمكنكم انتهاجه لهداية الآخرين؛ أَحسِنوا معاشرتَهم، كونوا أكثر لطفًا معهم، تواضَعوا لهم، ساعدوهم ما وَسِعَكم ذلك. فهذا السلوك بالذات ربّما يكون أوقعَ أثرًا من الإرشاد اللفظي في أن يجعل الله هدايتَهم على أيديكم إن شاء الله.

سؤال أحد الحضور:

لقد عرَفنا مذهبَ أهل البيت(ع) والثورة الإسلاميّة في إيران من خلال مطالعة كتُب أمثالِ الشهيد المطهّري(ره) والشهيد البهشتي(ره)، لكن تُرجمَت بعد ذلك كتُب أدَّت إلى نشوب الخلاف، إذ جرى التركيز فيها أكثر على الجانب الديني. فكيف لنا أن نواجه هؤلاء؟

رد سماحته:

ما سبق أن ذكرتُه – بالمناسبة – يرمي إلى هذه القضايا تحديدًا؛ وهو أنّ عليكم اجتناب إثارة القضايا التي تبعث على الاختلاف. لنعمل نحن المسلمين على التقارب أكثر من بعضنا البعض من خلال السلوك الودّي. فإن كان ثمّة اختلاف في وجهات النظر فهو كالاختلاف بين أصحاب الرأي حول قضيّة ما. الفقاء ومراجع الدين أيضًا مختلفون في فتاواهم، لكن هذا لا يقود إلى العداء والبغضاء فيما بينهم. علينا أن نركّز على تقوية هذا الأساس، ونكون مع بعضنا البعض أكثر رحمةً وحميميّة. وكلّما عُولج مقدارٌ أكبر من هذه الخلافات، فهو أفضل، أمّا إذا لم تعالَج، فليعمل كل امرِئٍ بما يراه صحيحًا بينه وبين الله.

سؤال أحد الحضور:

ماذا نصنع مع بعض الذين يسعون لتعميق هذه الاختلافات؟

رد سماحته:

انصحوهم. في النهاية كلّما بالَغتُم في عدائهم تسوء الأمور أكثر. كلّما واجهتموهم بحدّة أكبر سيُضاف اختلافٌ آخر إلى سابقيه. حاولوا نصيحتهم؛ قولوا لهم: تعالوا نحفظ القواسم المشتركة بيننا ونكون رحماء مع بعضنا البعض. فإن نشأ اختلاف فهو كالاختلاف بين الفقيهَين؛ هذا يقول الحكم هذا، وذاك يقول: بل ذاك. فليعمل هذا بفتواه، وليعمل ذاك بفتواه.

نحمد الله على أنّ مستوى إدراك الشباب اليوم يفوق ما كان عليه بالأمس بكثير. خاطبوا الشبيبة بالخصوص؛ قولوا لهم: أيّهما أفضل وفي خدمة العالم الإسلامي، أن تتعاطى السعودية وإيران وسورية وغيرها من البلدان معًا من منطلق الصداقة بالتشديد على القواسم المشتركة، وتقيمَ بينها علاقات ودّية، أم أن تقف السعوديّة من باقي الدول موقف الحرب والخصومة؟! تقصف أبناء عِرقها ودينها، بل تمنع عنهم الدواء! أهذا عمل سليم؟! هل من عقلٍ يبيح ذلك؟! هذا يدل على أنّ التعادي والتخاصم لا يجلب للطرفين غير التعاسة. على العكس، فلنُقِم بيننا علاقاتِ مودّة، ولنكن معًا رحماء. فإنْ وقعَ اختلاف فهو كاختلاف الفقيهين؛ هذا يعمل بفتواه وذاك بفتواه.

لربّما زعمَ السعوديّون أمام الكثيرين أنّ خصامنا مع إيران خصام عرَب وعجم! هنا نسأل: فماذا عن خصامكم مع اليمن؟! اليمانيّون يشتركون معكم في الأرض، والجيرة، والدين، والمذهب، واللغة! فلماذا تقتلونهم؟! لماذا تقصفونهم بهذه الطريقة؟! لماذا تمنعون عنهم حتى الدواء؟! يموت هناك يوميًّا آلاف الأطفال من الجوع ونقص الدواء! أيوجد في اليمن فُرس وتُرك؟! أهو صراعُ عرَبٍ وعجم؟! هؤلاء أخوتكم، فما هو وجه النزاع بينكم؟! سوى أنكم تريدون التسلّط عليهم بالقوّة وهم يرفضون ذلك منادين: «هيهات منّا الذلّة

أبعَدَ الله عنّا الشياطين وحفظَنا من بلاياهم، سواء شياطين الإنس أو شياطين الجن - إذ يقول تعالى: (شَياطينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ)[8] - وضاعفَ اللهُ لنا جميعًا نور المعرفة والإيمان لكي نُلِمّ بواجباتنا على نحوٍ أفضل ونعمل بها فننال سعادة الدنيا والآخرة معًا.

وفّقَنا الله وإيّاكم إن شاء الله



[1]. آل عمران: الآية103.

[2]. المصدر نفسه: الآية64.

[3]. الفتح: الآية29.

[4]. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج39، ص56.

[5]. دونالد ترامب.

[6]. الـمُستَبصِر هو من اعتنق التشيّع بعد أن كان من أهل السُنّة (المترجم).

[7]. غاري كارل (محمد) ليغنهاوزن (Gary Carl (Muhammad) Legenhausen)، من مواليد 1953م بنيويروك (المترجم).

[8]. الأنعام: الآية112.