ar_akhlag1-ch1_1.htm

المبادئ الموضوعة فی علم الاخلاق

القسم الأول

1

  • المبادئ الموضوعةفی علم الأخلاق
    • أ ـ الإنسان موجود مختار
    • ب ـ الإنسان ذو غایة نهائیة
    • الغایة النهائیة..رؤیة قرآنیة
    • حیاة الإنسان..رؤیة قرآنیة
    • ج ـ دور سعی الإنسان فی
    • الوصول الى الغایة
    • إشكالات وردود

المبادئ الموضوعة فی علم الاخلاق

أ ـ الإنسان موجود مختار

تتیسّر عملیة التزكیة وتهذیب الأخلاق وبناء الذات حینما یؤمن الإنسان بقدرته على كسب الكمال والقیم، فان ظنَّ أن لا ثمرة لسعیه ولا تأثیر على تكامله وتغییر مصیره فلا مجال حینئذ لتزكیة نفسه وتهذیبها.

السبب هو أن الإنسان إذا كان مجبَراً فی أعماله، وافتقد إرادته فی تقریر مصیره فانّ الأمر والنهی المتوجّهین إلیه سوف یفقدان محتواهما وهو: ینبغی أن تفعل كذا أو لا ینبغی.

ان جمیع النُّظم الأخلاقیة إما تصرح بكون الإنسان مختاراً كمبدأ موضوعی، وإما تسلم به ضمناً وإن لم یلتفت إلیه أتباع ذلك النظام، وسیتمّ بیان هذه الحقیقة كمبدأ موضوعی فی النظام الأخلاقی فی الإسلام.

من هنا إنّنا حینما نبحث عن اُسس النظام الأخلاقی فی الإسلام، وتعریف مبادئه الموضوعة نعتبر (اختیار الإنسان) المبدأ الأول فیها، وهو ما تمّ بحثه ـ الى حدّ ما ـ فی الحلقات السابقة من معارف القرآن سیّما مبحث (معرفة الإنسان) ولا مجال لبحثه هنا، واستناداً الى ما مضى إنّنا نفترض صحته وننتفع به كمبدأ موضوعی.

انّ الإلتفات الى المبدأ المذكور ـ إضافةً الى ما ذكر ـ ذو أهمیة بالغة تربویاً، فانّ ظهور لون من الجبر فی الإنسان واعتقاده بعدم الاختیار فی أعماله، ورضوخه للمؤثرات الخارجیّة سوف یثبّط عزیمته ویجرّده من الشعور بالمسؤولیة.

إنّ المهملین ـ الذین لا یكلفون أنفسهم ما یتعبها، ولا یرغبون فی التحرك نحو الجهاد مع النفس أو العدوّ ـ یتولد لدیهم عادةً لون من المیل نحو الجبر، ولو سئلوا لماذا لا تزكّون أنفسكم لحاولوا فی الإجابة إسناد سلوكهم الى عامل جبری فیقول أحدهم: إنها قضیة وراثیة، فقد كان والدی هكذا فأصبحت كذلك، أو یقول: لقد أنشأتنی الظروف بهذا النحو فلست مقصّراً، ولو كان مؤمناً متدیّناً لاستعان بالفلسفة والعرفان قائلاً: الأمور كلها بید الله فلا دور لنا، أو بالقضاء والقدر بقوله: إن ما یجب وقوعه سوف یقع ـ شئنا أم أبینا، عملنا أم لم نعمل ـ وغیرها من الأقاویل المشابهة.

هذه الإجابات ـ فی الحقیقة ـ ذات جذور نفسیّة فی اهمال الإنسان وترفیته. فحتّى لو تحدّث عن قضایا حقة فانّه یصل بها الى نتائج باطلة.

وقد أثبتنا فی باب التوحید أن جمیع الأعمال تنتسب الى الله تعالى بصورة مستقلة، وقد أشار القرآن الكریم فی بعض الآیات الى هذه الحقیقة فی باب الأخلاق وهی أن الله سبحانه هو الذی یهدی الإنسان، قال تعالى:

إِنَّكَ لا تَهْدِی مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ یَهْدِی مَنْ یَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِینَ.1

وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَیْكُمُ الإِْیمانَ وَزَیَّنَهُ فِی قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَیْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْیانَ.2

وینسب كلّ شیء الى الله حتّى الجزء الأخیر منه وهو ما یترتب علیه من أجر اُخروی، فالله هو الذی یرحمكم، وهو الذی یدخل المؤمنین الجنة ویتفضل علیهم بالرحمة.

هذه حقائق مُسلّم بها عند الجمیع، والقرآن الكریم یؤكّد علیها كثیراً، ومع ذلك قیل فی محله إنها لا تعنی سلب الاختیار من الإنسان أبداً، لأن الفاعلیة الإلهیّة فی طول الفاعلیة الإنسانیة ولا تعارضها لكی تنفیها.

على أیّة حال، فإنّ الذین لا یعیرون أهمیة للدین یتشبثون بمجموعة من العوامل المادیّة من قبیل: قانون الوراثة، الجبر الذی تفرضه الظروف والتأریخ وتلهج بها الألسن أحیاناً، وما هی فی الحقیقة الاّ حجج لتبریر ما هم علیه.

وبما أنّ الإنسان یكره ظهوره بصورة المذنب بین یدی الوجدان أو الآخرین ـ على الأقل ـ فانّه یسعى للتخلی عن المسؤولیة تمسكاً بهذه الذرائع، وإلقاء ذنوبه على عاتق الآخرین (الوالدین، والأستاذ، والبیئة، والتأریخ، و...).

كما أن بعض المؤمنین والمتدینین الذین لم یتعرفوا على التعالیم الإسلامیة جیّداً، ولم یدركوا حقیقتها تنتشر فی أوساطهم الخرافات والانحراف فی استیعاب مفهوم القضاء والقدر والتوحید الأفعالی وما شاكل. وتظهر فی بعضهم اتجاهات صوفیة فیتنصّلون عن المسؤولیة تجاه المجتمع وشؤونه، ویتحاشون عن حمل العبء الثقیل الذی تفرضه الواجبات الاجتماعیة بذریعة أن ما یقع هو فعل الله فلابدّ من وقوعه، شئنا ام أبینا.

أجل، إن لهذه العقائد المنحرفة والأفكار الخاطئة تأثیرَها البالغ على السلوك الإنسانی فی المجال المادی أو الإلهی.

أما القرآن الكریم فانّه ـ بدون جحد لتأثیر هذه العوامل أو الفاعلیة الإلهیّة ـ یلقی على الإنسان مسؤولیة أعماله، فهو یرى أنّ الفاعلیة الحقیقیة والتأثیر المستقل مختص بالله وحده، ولكن ذلك لا یعنی تجرید الفواعل والعلل القریبة عن تأثیراتها أبداً، وكذلك توجد فی هذا العالم عدة عوامل من قبیل الوراثة، والبیئة، واللبن والطعام، و... تفرض تأثیراتها على أفعال الإنسان، ولكن الرؤیة الإسلامیة رغم قبولها لتأثیر جمیع العوامل المذكورة تؤكّد بشدّة على دور اختیار الإنسان نفسه باعتباره العامل الأهم من بینها، أی إن هذه العوامل لیست عللاً تامّة للفعل بل هی مجرّد معدّات له، وبما أن إرادة الإنسان هی التی تعیّن وتتمّ الفعل فانّه مسؤول بمقدار ما یمتلك من إرادة واختیار.

إنّ العوامل المذكورة لا تسلب الإنسان اختیاره، ولا یمكن التمسك بها كذرائع لارتكاب الذنوب وانحراف الإنسان، حیث لا جبر فی أیّ شرط من الشرائط المذكورة بل یكون الإنسان مختاراً فیها.

إن الإلتفات الى هذه الحقیقة یجرّد الإنسان من هذه الذرائع، ویحیی فیه الشعور بالمسؤولیة ویعدّه مجاهداً وناشطاً، الأمر الذی یحظى بأهمیة بالغة فی المجال التربوی.

إنّ الرؤیة الكونیة والأیدیولوجیات التی تزرع المیول الجبریة فی أذهان أتباعها تنشئ أناساً مهمِلین، وغیر مسؤولین، وأنانیّین، ومعجَبین بأنفسهم، ومتشبثین بالذرائع، واُناس لا یكتفون بارتكابهم المستمر للمعاصی والآثام، بل یسعَون دوماً لاتّهام غیرهم بذنوبهم وأخطائهم، أو العوامل الاُخرى كالظروف والتأریخ والمجتمع وغیره.

ممّا ذكر نستنتج أن علینا الإعتماد الأكبر على اختیار الإنسان فی دراسة النظام الأخلاقی فی الإسلام، والتدقیق جیّداً عند استیعاب المعارف الإسلامیة وهی: التوحید، والقضاء والقدر والمعارف الاُخرى التی تترتب على التساهل فیها خسائر وانحرافات. كما أن علینا الحذر من أن یكون الضعف والإهمال والانحراف سبباً للإنحراف الفكری فینا، وذریعة للتنصل عن حمل المسؤولیة والواجبات الاجتماعیة.

هذا وینبغی الإلتفات الى هذه النقطة وهی أن اختیار الإنسان من بدیهیات المبادئ الأخلاقیة فی الإسلام، ومن أرسخ المعارف والعقائد الإسلامیة التی ینبغی إیضاح التشابه فی المعارف ورفع الإبهام فی العقائد الاُخرى بهذا المبدأ الراسخ والقاطع قبل أن تكون سبباً لتردُّدنا فی هذا المبدأ، فالقرآن الكریم یشهد كله على اهتمامه بالإنسان بوصفه موجوداً مختاراً، ویتعامل معه كموجود مسؤول.

ب ـ الإنسان ذو غایة نهائیة

بعد التسلیم بأن الإنسان فاعل مختار كمبدأ أول، وبإمكانه اختیار عمل دون آخر، أو ممارسة فعل على تركه، سوف نستنتج منه المبدأ الثانی وهو (غائیة الإنسان).

الإنسان المختار ینتخب غایةً ثمّ یباشر أفعاله الاختیاریة بُغیة الوصول إلیها.

ویطلق على الغایة المنشودة (علة غائیة) ولها الدور الأساس بین العلل الاربعة لإیجاد المعلول.

ومن اللازم الإلتفات الى وجود فارق كبیر بین العلة الغائیة وبین الغایة، فكلّ حركة وإن كانت ذات غایة لا یمكن اعتبار أیّة غایة علةً غائیة، أی إنّ العلة الغائیة تُذكر فقط فی فعل الفاعل المدرِك الذی یؤدیه عن علم وإرادة ویمكن القول: إنّ العلة الغائیة لأیّ فعل هی الغایة التی یصبو إلیها الفاعل المدرك وتدفعه نحو انجاز العمل، ویجوز أن یكون لذلك العمل آثار وغایات اُخرى لا تعتبر علةً غائیة له لعدم تركیز اهتمام الفاعل ودافعه علیها اثناء العمل، وعلیه فانّ العمل الذی نباشر به لا یكون مقصوداً لنا بالذات، بل یكون مقدمة للثمرة التی ننشدها وتعود علینا إثر ذلك العمل، ویطلق علیها الغایة والعلة الغائیة لذلك العمل.

وینبغی القول هنا: إنّ الغایة التی ننشدها فی أیّ عمل قد تصبح مقدمة لأمر آخر، وهو بدوره یصبح مقدمة لتحقیق غایة ثالثة وهكذا، ولكن هناك نقطة نهائیة نصبو إلیها فی عملنا حین انجازه وإن كان ارتكازیاً وغیر ملتفت إلیه بنحو كامل، نطلق علیها (الغایة النهائیة).

فمثلاً: غایة العامل من عمله هو كسب الأجرة، الاّ انّها لا تكون غایة نهائیة له عادة، بل یستلمها لتوفیر الطعام الذی یُقصد بدوره للأكل الذی یتمّ بهدف الشبع.

قد ینتهی النشاط المذكور بهذا الحدّ فلا یقصد الإنسان غایة اُخرى وراءه، فیكون الشبع غایة نهائیة ومثل هذا الإنسان یكون مصداقاً واضحاً لقوله تعالى:

یَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الأَْنْعامُ وَالنّارُ مَثْوىً لَهُمْ.3

بینما العظماء ذوو الهمة العالیة من البشر لیس همُّهم الأخیر هو إشباع البطن، بل ینشدون غایات أكبر وراء ذلك، والخواص من عباد الله ـ وهم المؤمنون المتقون ـ یأكلون الطعام لتوفیر الطاقة اللازمة لعبادة الله وخدمة خلقه، هؤلاء لا یكون الشبع لدیهم غایة نهائیة، بل مقدمة لتحقیق غایة نهائیة كبیرة.

على أیّة حال، هناك غایات نقصدها عند انجاز أعمالنا، وبما أنّ التسلسل فی الغایات أمر غیر ممكن فإنّا نلاحظ غایةً نهائیة لتلك الأعمال، وقد تكون أموراً مختلفة، الاّ أن من بین ما یترتب على أفعال الإنسان هناك شیء لا یمكن تصوُّر غایة أكبر منه ویكون مطلوباً لذاته، وكلّ مقصود سواه یكون مقدمة له أو یمكن أن یكون كذلك.

وعلیه فانّ الإنسان یتابع غایةً نهائیة واحدة ـ مهما كانت تلك الغایة ـ وینجز الأعمال لتحقیقها، وقد لا یكون ما یمثّل غایةً نهائیة لشخص كذلك لشخص آخر بل یستخدمه كمقدمة لغایة اُخرى، الاّ من الطبیعی أن تنتهی نشاطات الثانی وحركاته فی حدّ فیكون بالضرورة ذا غایة أو غایات نهائیة متعدّدة.

ممّا ذكر نستنتج أن أیَّ إنسان ذو غایة أو غایات نهائیة ویسعى لتحقیقها، وهذه الحقیقة تطرح فی عالم الأخلاق كمبدأ، لأن تزكیة النفس وتهذیب الأخلاق یقعان فی إطار الأعمال الاختیاریة للإنسان، وتنجَز بقصد الوصول الى الغایة والمطلوب النهائی، وعلیه فانّ المبدأ الثانی من المبادئ الموضوعة للنظام الأخلاقی هو: (انّ الإنسان ذو غایة نهائیة).

الغایة النهائیة ... رؤیة قرآنیة

هناك سؤال یطرح نفسه: هل بالإمكان استخراج مثل هذا المبدأ من القرآن الكریم؟ وهل بالامكان معرفة الغایة النهائیة من هذا الكتاب السماوی؟

للإجابة لابدّ أولاً من معرفة المقصود من السؤال، فهل هو أن نعرف العنوان العامّ للغایة النهائیة أو مصداقها المرتبط بالعنوان العامّ؟

إنّ النُّظم الأخلاقیة تشترك فی هذه العقیدة وهی وجود غایة نهائیة، الاّ انّها تختلف فی تعیین مصداقها.

بمقدار ما یرتبط بالنُّظم الأخلاقیة كافة ویتحدّث عنه القرآن الكریم بصورة عامّة یمكن القول بأنّ الغایة النهائیة هی ما یطلبه الإنسان بفطرته ونعبّر عنه بـ (السعادة، والفلاح، والفوز و...) وبما أنه مقصود بالذات فلا یتحمل السؤال، ولا یمكن تعلیله بشیء آخر وتوجیهه فی إطار غایة مقصودة اُخرى.

یمكن السؤال من العامل: لماذا تعمل؟ فیجیب مثلاً: لكی أكسب المال. ثمّ یُسأل: لماذا تأخذ المال؟ فیجیب: لشراء الطعام. ویُسأل: لماذا تشتری الطعام؟ فیجیب: لكی آكل وأشبع وأشعر باللذة. ولكن لا یمكن السؤال منه: لماذا ترید الشعور باللذة، لأن اللذة مرادة للإنسان بالذات، ولا ینحصر ذلك فی الإنسان، بل إن كل ذی شعور یبحث عن اللذة، والإنسان یدرك هذه الحقیقة بعلمه الحضوری والشهودی، ولا یصحّ لومه على ذلك لأنّها حقیقة فطریة قهریة خارجة عن دائرة اختیار الإنسان، فقد أوجد أساساً على هذه الصورة، وخلقه الله عزّ وجلّ على هذه الشاكلة، ولأجل ذلك لم تجعل فی حقل الاخلاق.

ومن خلال البحث القرآنی نجد هذه الملاحظة: وهی أنّ القرآن یبشّر الناس بأنكم ستفلحون من خلال التزكیة والتهذیب بهدف حثّهم على فعل الخیر وتهذیب الأخلاق وتزكیة النفس فی حین لا یرغّبهم فی الفلاح ولا یأمرهم به بصورة مباشرة.

وعلیه إنّنا وإن لم نلحظ تعبیراً قرآنیاً صریحاً عن الغایة النهائیة بقوله: إنّ الإنسان ذو غایة نهائیة ویسعى نحوها ـ شاء أم أبى ـ الاّ أنّنا قلنا من خلال التحلیل الذی قُدّم فی هذا المجال سابقاً: من الممكن تعلیل أیّ عمل بذكر عمل آخر كغایة له، وتعلیل العمل الآخر بذكر غایته أیضاً، هذا التعلیل المتسلسل سوف ینتهی فی نقطة لا علة لها.

أجل، بهذا التحلیل یمكن القول: إنّ القرآن قد طوى هذا المسیر أیضاً، ویقدِّم أخیراً مثل هذه المفاهیم التی لا علة لها، ولا تكون واسطة لتحقیق غایة اُخرى وتنطبق مع الغایة النهائیة من قبیل مفاهیم السعادة، والصلاح، والفوز، والفلاح المتقاربة جدّاً فی المعنى.

انّ مفهوم الفلاح مثلاً یتضمن هذه الملاحظة وهی أنّ الإنسان فی حال ابتلاء دائم فی حیاته، أو أنّ هناك موانعَ تصدُّه عن تحقیق غایته، فعندما یزیحها ویصل الى مقصوده نقول: إنّه قد أفلح أی تحرّر. الفلاح إذنْ یعنی التحرّر من الابتلاء ویلازم السعادة، والإنسان یكون سعیداً حینما لا یواجه ما لا ینسجم معه ولا یرتاح الیه.

ولتوضیح مفهوم السعادة یمكن القول: إنّ السعادة واللذة متقاربان جدّاً والفارق الرئیس بینهما هو أنّ اللذة تستعمل فی الموارد التی تنتهی فی لحظات أیضاً، فی حین تستعمل السعادة فی اللذّات الدائمة وشبه الدائمة فقط، فمثلاً: لا یستعمل مفهوم السعادة فیمن یتناول طعاماً لذیذاً فی لحظات، بل یقال: إنّه التذّ بتناول الطعام ولا یقال: إنّه سعید بتناول هذا الطعام اللذیذ.

وعلیه فانّ السعادة تتضمن اللذة الدائمة، فاذا اُتیح للإنسان أن یلتذ باستمرار فی حیاته فانّه سعید تماماً، ولكن نظراً لعدم وجود حیاة خالیة عن الآلام والمعاناة أمكن القول: إنّ السعید فی هذا العالم هو من فاقت لذّاته آلامَه ومعاناتِه كماً وكیفاً ویلاحظ فیه أولاً: التفوق كیفاً، وثانیاً: الدوام كماً.

والقرآن الكریم لدى مقارنته بین اللذّات الدنیویّة والاُخرویة، ومن أجل الترغیب فی الآخرة والحثّ على التحرك فی طریق السعادة المعنویّة یركّز فی تعبیراته ـ نظیر وَالآْخِرَةُ خَیْرٌ وَأَبْقى4 ـ على هاتین الخصوصیتین ویذكّر دائماً بهذه الحقیقة: إنّ اللذة فی الآخرة هی الأفضل كیفاً، والأدوم كماً من اللذة فی الدنیا.

حیاة الإنسان ... رؤیة قرآنیة

فی الرؤیة الإلهیّة تتضمن حیاة الإنسان مرحلتین:

مرحلة الدنیا ومرحلة الآخرة، وتكون الحیاة الدنیویّة كطرفة عین قیاساً الى الحیاة الاُخرویة بحیث لا یمكن القیاس بینهما، ولا تُعتبر شیئاً یذكر بالنسبة الى الحیاة الخالدة.

وعلیه إذا كانت دنیا الإنسان كلُّها قرینة الآلام وملیئة بالمعاناة لم تكن شیئا یذكر قیاساً الى اللذّات الدائمة فی الحیاة الآخرة، والتی تكون أبدیة وأفضل. ومتى ما فاز الإنسان بالآخرة إزاء الآلام فی الدنیا كان سعیداً، وعلى العكس إذا كانت حیاته الدنیویّة عامرة باللذة ولكن كان ثمنها الشقاء والعذاب الاُخروی فلا یمكن اعتباره سعیداً أبداً. الاّ أنّنا ننسى الآخرة والحیاة الأبدیة تماماً، فینقسم الناس الى فئتین: سعداء وأشقیاء، أما السعید فهو الذی ینعم بمزید من اللذة، وأما الشقی فهو الذی فاقت معاناته لذّاتِه فی الدنیا.

لقد استعمل مفهوم السعادة فی موضع قرآنی واحد بنحو منسجم مع الرؤیة الإلهیّة الواسعة عن الإنسان وذلك فی الآیات:

فَمِنْهُمْ شَقِیٌّ وَسَعِیدٌ * فَأَمَّا الَّذِینَ شَقُوا فَفِی النّارِ لَهُمْ فِیها زَفِیرٌ وَشَهِیقٌ * خالِدِینَ فِیها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأَْرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِما یُرِیدُ * وَأَمَّا الَّذِینَ سُعِدُوا فَفِی الْجَنَّةِ خالِدِینَ فِیها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأَْرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَیْرَ مَجْذُوذ.5

بناءً على ذلك إذا لاحظنا حیاة الإنسان وفق الرؤیة الإلهیّة وفی ضوء المعارف القرآنیة كانت حیاته الدنیویّة لا شیء قیاساً الى المجموع، فمن یخلد فی النار ـ وإن فرضنا له عمراً ملیئاً باللذة فی هذه الحیاة المؤقّتة ـ كیف یمكن القول إنّه إنسان سعید؟

وعلى العكس إذا كان سعیداً فی الحیاة الأبدیة خالداً فی الجنة ـ كما یعبّر القرآن الكریم ـ فانّه حتّى لو قضى لحظات العمر القصیر فی الدنیا معذَّباً، فانّه سیكون سعیداً، ولا تُعتبر معاناته فی الدنیا شیئاً یذكر قیاساً الى المجموع.

وعلیه فانّ ملاك السعادة والشقاء فی الرؤیة الإنسانیة الإسلامیة هو اللذة والعذاب الدائمان، بمعنى أنّ الاسلام لا یغیِّر مفهوم السعادة والشقاء، ولا یأتی بمفهوم جدید فی هذا السیاق بحیث یكون بعیداً عن إدراك الناس وفهمهم، بل یرى السعادة بمعناها الشائع وهو اللذة الدائمة، ویرى الشقاء بمعناها العرفی وهو العذاب والألم، الاّ أنه یُجری تغییراً فی مصادیقهما، وذلك لأن اللذائذ والآلام فی الدنیا غیر دائمة وغیر ثابتة، فیشیر الى اللذائذ والآلام الدائمة فی عالم الآخرة كمصادیق صحیحة وحقیقیة للسعادة والشقاء.

ولفظ (الفلاح) یستعمل بمعنى التحرّر من الابتلاء والمعاناة والموانع، والوصول الى الغایة والمقصود. والإنسان فی طریقه الیهما یصارع الموانع والأعداء، ویتوفق بجهاده وسعیه لرفعها، ثمّ یصل الى غایته ومقصوده فیقال حینئذ إنّه (قد أفلح) أی تحرّر وارتاح وتغلّب على عدوّه. انّ لفظ الفلاح یستعمل فی مثل هذه الموارد.

والقرآن الكریم قد استعمل لفظ الفلاح فی مواضع منها:

ـ حینما تقرّر أن یستعرض سحرة فرعون قوّتهم أمام موسى(علیه السلام)، یحكی القرآن ما قاله فرعون لتشجیعهم ودعمهم:

وَقَدْ أَفْلَحَ الْیَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى.6

فاستعمل لفظ (أفلح) بدلاً عن انتصر وتغلّب على الخصم، كما استعمله فی المجال المعنوی وذلك بالنسبة للذین ینجون من العذاب والبلاء ویحظون بالحیاة السعیدة الطیّبة. لنلاحظْ هذه الآیات:

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى.7

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها.8

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ.9

أجل، إنّ تزكیة النفس وتهذیبها لیسا مؤثرین فی وصول الإنسان الى الفلاح فحسب، بل ینحصر الطریق إلیه فیهما، كما ذكر القرآن الكریم ذلك كثمرة للعبادات والأعمال الصالحة للإنسان فی آیات اُخرى، واستعمل معها لفظ (لعلّ)، كقوله تعالى:

وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِیراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.10

وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.11

فی مثل هذه المواضع التی أراد الله عزّ وجلّ ترغیب الناس الى ذكر الله والتقوى واجتناب المعاصی یشیر بعبارة«لعلكم تفلحون» إلى أن الغایة النهائیة للإنسان هی الفلاح، ویعلّم الإنسان أنّ الوصول إلیها یستدعی ممارسة الأعمال الصالحة وترك الأعمال القبیحة.

ویعرض القرآن الكریم (الفلاح) غایةً للأعمال الصالحة، ولذا ینبغی امتثال العبادات والأفعال الحسنة للوصول الیه. لكن لا یذكر للفلاح نفسه هدفاً وغایةً أبداً، ولا یقول ماذا سیحصل لمن یفلح؟ وذلك لعدم وجود غایة اُخرى وراء الفلاح.

للمثال نلاحظ الآیتین:

فَاعْبُدْنِی وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِی.12

إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ.13

نجد قد عبّر فیهما عن ذكر الله والابتعاد عن الفحشاء والمنكر غایةً للصلاة ونلاحظ الآیة:

وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِیراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.14

نجد أنه اعتبر لذكر الله ـ وهو المذكور كغایة للصلاة فی الآیتین السابقتین ـ غایةً، وهی الوصول الى الفلاح، ولكن سوف لا نجد حتّى فی موضع قرآنی واحد عبارة تَعتبر شیئاً آخر كغایة للفلاح، مثل أن یقول (افلحوا لعلكم كذا...).

من هنا نستنتج أنّ الفلاح هو الغایة النهائیة والمقصود الذاتی، كالسعادة التی هی تعبیر آخر عن الغایة.

ولفظ (فوز) هو الآخر یعنی الفلاح والوصول الى المقصود ـ مادیّاً كأن أو معنویاً ـ .

إن ضالّة الإنسان فی الدنیا هی الحیاة الأبدیة واللذة الخالدة، ولأجل ذلك یتحمل المشكلات المؤقتة، وحینما یصل الى الحیاة الأبدیة واللذة الدائمة یكون قد أفلح وفاز.

هذا وقد استعمل القرآن لفظ (فوز) فی موارد مختلفة كما فی هذه الآیات:

لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِیرُ.15

مَنْ یُصْرَفْ عَنْهُ یَوْمَئِذ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِینُ.16

رَضِیَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ.17

واستعمل تعبیراً آخر فی بعض الآیات كقوله تعالى:

وَمَنْ یُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِیماً.18

وفی بعض آخر استعمل تعبیراً یختلف عن التعبیرین المذكورین كقوله تعالى:

الَّذِینَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِی سَبِیلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ * یُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَة مِنْهُ وَرِضْوان وَجَنّات لَهُمْ فِیها نَعِیمٌ مُقِیمٌ * خالِدِینَ فِیها....19

ج ـ دور سعی الإنسان فی الوصول الى الغایة

المبدأ الثالث هو أن یعلم الإنسان بأنّ لمساعیه دوراً فی الوصول الى غایاته ومقصوده، وأنّ نتائجها تعود علیه، وذلك لكی یبادر بشوق الى النشاط والسعی. فالإنسان إذا كان له مقصود نهائی ثمّ ظنَّ أنّ أعماله ومساعیه لا تأثیر لها، أو أنّ نتائجها تعود الى الغیر ولا تقرّبه من المقصود والغایة النهائیة ضعف دافعه للعمل والسعی، فلا یُتعب نفسه للوصول الیه. من هنا كان من الضروری الإعتقاد بهذا المبدأ والعلم بتأثیر الأعمال والسلوك الإنسانی على مصیره، وذلك لحثّه على التحرك والسعی فی طریق الأهداف الأخلاقیة السامیة، ولْیعلم أن كلّ حركة أو عمل یقوم به باختیاره ستعود نتیجته وما یترتب علیها من نفع أو ضرر على نفسه حتماً، فانّه هو الفاعل لذلك العمل أو الحركة، ولا یُحرم من النتائج التی یتوخاها من أعماله أبداً، كما لا یُصان من تبعات سلوكه السیّئ، إذ لیس لله تعالى فی ذلك أیُّ نفع أو ضرر. ومن الممكن طبعاً أن یعمّ الآخرین بخیره أیضاً، لكن حتّى ذلك سوف یعود علیه بنحو ما.

وللمبدأ المذكور أبعاد مختلفة نشیر إلیها:

البعد الأول: انّ سعی الإنسان لن یذهب هدراً بل ستعود ثمرته علیه.

البعد الثانی: انّ فوز الإنسان وفلاحه لن یتحققا بدون سعی اختیاری، فبسعیه واجتهاده یمكن أن یصل الى مقصوده النهائی، ولیس بإمكان الآخرین تغییر مصیره.

البعد الثالث: لا یحمل الإنسان وبال الآخرین ولن یتوجه إلیه اضرار سلوكهم.

والقرآن الكریم یؤكّد هذا المبدأ ویوضّح أبعاده المختلفة فی آیات كثیرة، ونشیر هنا الى عدد منها قدر ما یسمح المجال:

أ ـ الآیات التی تدلّ على أن سعادة الإنسان وشقاءه الأبدی والاُخروی یتوقف على أعماله، وأن ما یفعله هنا سوف یجد نتیجته فی الآخرة وقد استعمل لفظ (العمل) فی بعضها، كما فی الآیتین التالیتین:

فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة خَیْراً یَرَهُ * وَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة شَرًّا یَرَهُ.20

مَنْ یَعْمَلْ سُوءاً یُجْزَ بِهِ.21

وآیات اُخرى قد استعملتْ لفظ: عملوا، وتعملون، ویعملون، وقد استعمل فی بعض آخر من هذه الآیات لفظ (فعل) كقوله تعالى:

وَافْعَلُوا الْخَیْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.22

وفی الكثیر من الآیات استعمل لفظ (كسب) وهو یعبّر عن هذه الحقیقة وهی توقف النتیجة النهائیة للحیاة على كسب الإنسان، كقوله تعالى:

هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ.23

جَزاءً بِما كانُوا یَكْسِبُونَ.24

وعلیه فانّ الآیات المذكورة تثبت أنّ العمل الاختیاری للإنسان وكسبه هو الموجب لشقائة أو فلاحه ولیس شیئاً آخر.

ب ـ مجموعة اُخرى من الآیات تبیِّن هذه الحقیقة وهی أنّ أیّ عمل یمارسه الإنسان ـ صالحاً كان أو سیّئاً ـ فانّ نتیجته تعود علیه، كقوله تعالى:

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَِنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها.25

قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِیَ فَعَلَیْها.26

فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما یَهْتَدِی لِنَفْسِهِ.27

وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما یَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّی غَنِیٌّ كَرِیمٌ.28

وَمَنْ تَزَكّى فَإِنَّما یَتَزَكّى لِنَفْسِهِ.29

جمیع هذه الآیات یذكّر بهذه الحقیقة وهی أنّ نتائج أعمال الإنسان لن تذهب هدراً، خاصّةً أنها تذكّر بهذه الحقیقة بصورة آكد وهی أنّ هذه النتائج لا تعود على الله لانّه لیس بحاجة الى الآخرین، بل إنّ ثمرة أعمال الإنسان تعود علیه فحسب.

ج ـ انّ الآثار السیئة للأعمال السیئة وغیر اللائقة بالإنسان تلازم صاحبها فقط، وقد وردت آیات كثیرة فی هذا السیاق، كقوله تعالى:

مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَیْها.30

وعدد آخر من هذه الآیات یدلّ على أن وزر الأعمال السیئة لأیّ إنسان ووبالها لا یُحمل على أیّ إنسان آخر، كقوله تعالى:

وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.31

وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا یُحْمَلْ مِنْهُ شَیْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى32

أجل، حتّى لو كان حِمْل الإنسان ثقیلاً ثمّ دعا الآخرین لإعانتهم علیه فانّهم لا یعینونه وإن كانوا أقرباءه. قال تعالى:

وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْس إِلاّ عَلَیْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.33

مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما یَهْتَدِی لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما یَضِلُّ عَلَیْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.34

والآیتان الأخیرتان أكثر شمولیةً من السابقتین (الزمر: 7 وفاطر: 18) حیث بیّنتا الحقیقتین ـ أی ردّ الآثار السیئة على فاعله وعدم تحمیلها الآخرین فی آن واحد.

وأخیراً فانّ الآیات (41 ـ 38) من سورة النجم هی أشمل الآیات، قال تعالى:

أَلاّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * وَأَنْ لَیْسَ لِلإِْنْسانِ إِلاّ ما سَعى * وَأَنَّ سَعْیَهُ سَوْفَ یُرى * ثُمَّ یُجْزاهُ الْجَزاءَ الأَْوْفى.

هذه الآیات تبیّن بصورة شاملة الأبعادَ المختلفة للمبدأ المبحوث عنه فی الفقرة (ج)، وهی الأبعاد التی بیّنها سبحانه وتعالى لانبیائه(علیهم السلام) وأُمروا بإبلاغها الى الناس وتأكید حقانیتها وحتمیتها:

أولاً: انّ نتائج أفعال الإنسان تعود علیه نفسه.

ثانیاً: لا یَحمل الإنسان حمل أیّ شخص آخر.

ثالثاً: لا حصیلة للإنسان سوى ما سعى إلیه ولا یعود علیه شیء آخر.

وَأَنْ لَیْسَ لِلاِْنْسانِ إِلاّ ما سَعى

یظن بعض البسطاء أنّ هذه الآیة وأمثالها تبیّن مبدءاً اقتصادیاً وقانوناً تشریعیاً وتبیّن أنّ الإنسان فی المجتمع لا یملك فی حیاته المادیّة سوى ما یكسبه بعمله وسعیه.

والحقیقة هی أن صحة وسقم المبدأ الإقتصادی المذكور یبحث فی باب الإقتصاد ولا نصدر حكماً بصدده ههنا.

ما نقوله بالفعل هو أنّ القرائن تدلّ على أنّ هذه الآیة لا علاقة لها بالمبدأ المذكور ـ صحیحاً كان أو سقیماً ـ وإنّما هی ناظرة الى حقیقة اُخرویة ترتبط بالقیامة، وهی أنّ الإنسان لا یحمل حمل شخص آخر، ولیس له الاّ جهد نفسه وما سعى إلیه كما قال فی الآیتین (7 و8) من سورة الزلزال من أنّ كلّ إنسان سیرى ما یفعله، ویتلقّى أجره كاملاً وتامّاً.

إشكالات وردود

ثمة إشكالات قد أثیرت أو یمكن إثارتها حول ما ذكر، نشیر هنا الى عدد منها:

n عن سعادة الإنسان التی تُنال بأعماله الاختیاریة فقط، یمكن القول أنّ هذه المقولة تتعارض مع مبدأ الشفاعة، لأنّ الإنسان الذی تشمله الشفاعة سیحظى بنعم تكتمل بها سعادته وفلاحه الاُخروی دون أن ینجز عملاً بل عن طریق آخر غیر أعماله، وهذا یعنی وجود عوامل اُخرى غیر الأفعال الاختیاریة وخارج نطاق الاختیار یكون لها دور فی تحقیق سعادته الأبدیة، وعلى خلاف ما ورد فی بعض الآیات القائلة بأن لیس للإنسان الاّ ما سعى توجد بین یدی الإنسان أمور اُخرى الى جانب سعیه. فی هذه الحالة یُسأل: مع وجود هذه العوامل لماذا قال تعالى: وَأَنْ لَیْسَ لِلاِْنْسانِ إِلاّ ما سَعى،35 وبعبارة اُخرى: تتعارض هذه الآیات بوضوح مع آیات الشفاعة التی تعتبر عاملاً مؤثراً غیر العمل فی تحقیق سعادة الإنسان.

للإجابة عن الإشكال ینبغی القول: إنّه تعارض ظاهری یزول بعد التأمل، أی لا تعارض فی الواقع بین هاتین المجموعتین من الآیات، إذ لا یحظى كلّ إنسان برعایة الشافعین، بل من توفّرت فیه الأهلیة والجدارة اللازمة فقط.

فلا یمكن القول: لا علاقة بین الشفاعة وبین عملنا الاختیاری، لأن على الإنسان ـ بسعیه وجهوده ـ أن یكسب الجدارة اللازمة والإستحقاق لنیل الشفاعة.

ویلاحظ مثل هذا التعارض البدوی فی موارد اُخرى من الآیات القرآنیة، كقوله تعالى:

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها.36

وأكثر من ذلك فی قوله تعالى:

وَاللهُ یُضاعِفُ لِمَنْ یَشاءُ.37

وفی مقابل هذه الآیات تَحصر آیات اُخرى الجزاءَ فی عمل الإنسان فقط كقوله تعالى:

هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ.38

حیث یبدو وجود تعارض بین هذه الآیات، لانّه إذا كان ما یقدِّم للإنسان هو جزاء عمله فقط، كما تدلّ علیه الآیة الأخیرة، فلا یمكن تبریر التسعة الباقیة من (فله عشر أمثالها) بل وأكثر من ذلك بمقتضى (والله یضاعف لمن یشاء) والذی یمنحه الله تفضلاً وزیادة على ما بذله الإنسان من سعی، لأن الإنسان لم یبذل إزاءه سعیاً ولا جهداً وعناءً.

جواب هذا الإشكال یستفاد من الآیات نفسها، وبعد التأمّل سنلاحظ عدم وجود تعارض فی الحقیقة بینها، إذْ إنّ الله تعالى لا یتفضل بالمقدار الزائد على أیّ إنسان جزافاً، بل على الذین أحسنوا أداء الأعمال وجاؤوا بالحسنة فقط (جاء بالحسنة) وعلیه یكون المقدار الزائد ـ فی الحقیقة ـ نتیجةً لعمل الإنسان نفسه قد صار عشر أمثاله بل وأكثر منه، إذنْ هناك عمل یؤهّل الإنسان للشفاعة أو یجعله مستحقاً لتفضل إلهی آخر، وفی مثل هذه الموارد یعطی الله بفضله نوعاً آخر من الجزاء لصاحب ذلك العمل، وذلك عن طریق الشفاعة أو طریق آخر، أی سیكون ذلك من النتائج غیر المباشرة لذلك العمل الصالح الذی أدّاه الإنسان ولیس اعتباطاً وبدون حساب.

ممّا ذكر یمكن أن نفهم أن آیات الشفاعة توضّح الآیة وَأَنْ لَیْسَ لِلاِْنْسانِ إِلاّ ما سَعى39 وأمثالها، فهی ـ حسب الاصطلاح ـ حاكمة علیها، أی توسّع دائرة (ما سعى) وتبیِّن أنّ السعی فی الآیة أعمُّ من السعی الموصل للنتیجة بصورة مباشرة أو غیر مباشرة، ویثمر بالواسطة.

n n بالنسبة لما یقال من أن لكلّ عمل أثره الخاصّ وأن من یعمل أبسط عمل ـ صالحاً كان أو سیئاً ـ سوف یراه كما قال تعالى:

فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة خَیْراً یَرَهُ * وَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة شَرًّا یَرَهُ.40

قد یظن شخص أن لا انسجام بین هذا التعبیر وبین تكفیر الذنوب وغفرانها من قِبل الله سبحانه، وتتعارض الآیة مع أمثال هذه الآیة:

إِنْ تَتَّقُوا اللهَ یَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَیُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَیِّئاتِكُمْ.41

خاصّةً وأن مقتضى بعض الآیات هو غفران بعض الذنوب فی هذه الدنیا ومحو آثارها كآیات التوبة وغیرها، وفی هذه الحالة لا یمكن رفع التعارض بهذا النحو وهو أنّ المذنب بمقتضى الآیة وَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة شَرًّا یَرَهُ سوف یرى ذنبه یوم القیامة ثمّ یشمله العفو بمقتضى آیات اُخرى، لانّه بمقتضى هذه الآیات قد غفر ذنبه فی الدنیا.

جوابنا عن هذا الإشكال هو الجواب عن الإشكال الأول نفسه، أی إن مثل هذه الآیات التی تتحدّث عن غفران الذنوب والتكفیر عن السیئات توضّحُ فی الحقیقة الآیة فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة شَرًّا یَرَهُ فهی حاكمة علیها حسب الاصطلاح، ولكن على عكس المورد المذكور تقوم هذه الآیات بتضییق وتحدید دائرة الأعمال التی یراها الإنسان وتقول: إنّ الأعمال التی لا تمحى آثارها من قِبل الإنسان نفسه وتبقى على حالتها الاُولى ستكون بمرأى منه، ولیس تلك الذنوب التی تمّ محوها بالتوبة، ولا السیئات التی كفّر عنها باجتناب الكبائر أو طریق آخر.

كما أن تجسُّم الأعمال یوم القیامة المستفاد من بعض الآیات یتعلّق بالأعمال التی تبقى حتّى لحظات الاحتضار، أما إذا مُحیت ذنوب الإنسان فی هذه الدنیا بعوامل اُخرى كالتوبة واجتناب الكبائر،42 أو الأعمال الصالحة43 فسوف لا یبقى عمل لیُتجسَّم ویرى یوم القیامة.

n n n فیما یتعلّق بالآیة أَلاّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى44 وأمثالها وهی خمس آیات على ما ذكر آنفاً والتی بُیّن فیها هذا المبدأ الثابت والآبی عن الإستثناء وهو: أنّ كلّ إنسان لا یحمل أثقال إنسان آخر، قد یظن أنّ المبدأ المذكور ومضمون الآیات المذكورة یتعارض مع الآیة 25 من سورة النحل القائلة:

لِیَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً یَوْمَ الْقِیامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِینَ یُضِلُّونَهُمْ بِغَیْرِ عِلْم أَلا ساءَ ما یَزِرُونَ.

للإجابة عن الإشكال ینبغی الإلتفات الى ملاحظة ظریفة فی الآیة وهی أنها لم تقل: كلّ إنسان یحمل اثقال كلّ إنسان آخر، بل هی تختص بالذین أضلّوا غیرهم، وتحكی عن هذه الحقیقة وهی أنّ المضلَّ یحمل جزءاً من حِمل الذین أضلّهم، فهو یحمل فی الواقع حِمله، لأن هذا الحِمل هو نتیجة إضلاله، وعلیه تكون الذنوب التی یرتكبها الضالُّ تأثّراً بإضلال المضِل أثراً لذلك الضلال نفسه، ویكون وبالاً على المضِل الذی أضلّه بسعیه، وأوجد هذه الآثار السیئة والحمل الثقیل.

من البدیهی أنّا لا نرید القول بأن لیس للضال أیُّ دور فی ارتكاب الذنوب أبداً، وأن ذنوبه كلها تتعلّق بالمضِل، فانّه على أیّة حال قد ارتكب الذنب باختیاره، فعلیه أن یتحمل جزءاً من حِمل ذنبه الثقیل.

وعلیه لا تقول الآیة (حَمله كله) بل تقول: إنّه یتحمل جزءاً من وزر ذنبه، وعلیه سوف یبقى باقی الحِمل على عاتقه، أی إنّ المضل یتحمل من تبعات ذنوب الضالّ ما نشأ من الإضلال، ویتحمل الضالُّ البقیةَ لانّه فاعلها.

* * *


1 القصص: 56.

2 الحجرات: 7.

3 محمد: 12.

4 الأعلى: 17.

5 هود: 105 ـ 108.

6 طه: 64.

7 الأعلى: 14.

8 الشمس: 9.

9 المؤمنون: 1.

10 الجمعة: 10.

11 آل عمران: 130.

12 طه: 14.

13 العنكبوت: 45.

14 الانفال: 45.

15 البروج: 11.

16 الانعام: 16.

17 المائدة: 119.

18 الاحزاب: 71.

19 التوبة: 20 ـ 22.

20 الزلزلة: 7 و8.

21 النساء: 123.

22 الحج: 77.

23 یونس: 52.

24 التوبة: 95.

25 الإسراء: 7.

26 الانعام: 104.

27 النمل: 92.

28 النمل: 40.

29 فاطر: 18.

30 فصلت: 46.

31 الزمر: 7.

32 فاطر: 18.

33 الانعام: 164.

34 الإسراء: 15.

35 النجم: 39.

36 الانعام: 160.

37 البقرة: 261.

38 یونس: 52.

39 النجم: 39.

40 الزلزلة: 7 و8.

41 الانفال: 29.

42 (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَیِّئاتِكُمْ) النساء: 31.

43 (وَمَنْ یُؤْمِنْ بِاللهِ وَیَعْمَلْ صالِحاً یُكَفِّرْ عَنْهُ سَیِّئاتِهِ) التغابن: 9.

44 النجم: 38.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...