القسم الأول
2
العلاقة الخاصّة بین المفاهیم الأخلاقیة
والفعل الاختیاری
الخصوصیة القیمیة للمفاهیم الأخلاقیة
انتزاعیة المفاهیم الأخلاقیة
الهدایة والضلال
المعروف والمنكر
الطاعة والعصیان
للمفاهیم الأخلاقیة بلحاظ وجودها فی إطار الأخلاق خصائص وكیفیات نشیر الى عدد منها:
یمكن تقسیم الألفاظ المستعملة فی القضایا والموضوعات الأخلاقیة الى ثلاث مجموعات:
المجموعة الاُولى: الألفاظ التی یرتبط بعضها بغایات الأخلاق ونتائجها من قبیل مفاهیم الفلاح، والفوز والسعادة، وتُقابلها مفاهیم الخسران، والشقاء والهلاك.
بمثل هذه المفاهیم فقط تُبیَّن نتائج الأفعال الأخلاقیة، ولا یتصف الفعل الاختیاری نفسه بهذه الصفات الاّ مجازاً. وبما أنّ نطاق الأخلاق یختص بالأفعال الاختیاریة أو الصفات والملكات النفسانیة الحاصلة منها فلا یمكن اعتبار هذه المجموعة من المفاهیم من العناوین الأخلاقیة الأصلیة.
المجموعة الثانیة: المفاهیم التی تقع صفة للأفعال الاختیاریة والصفات والملكات النفسانیة، كما تقع صفة للأعیان والأشیاء الخارجیّة التی تكون أجنبیة تماماً عن أفعال الإنسان الاختیاریة والأخلاقیة من قبیل مفهوم الخیر والشر، الحسن والسوء فی الاصطلاح القرآنی والحُسن والقُبح فی اصطلاح علم الكلام.
إنّ الحسن والسوء اللذینِ یستعملان عادةً فی القرآن الكریم والحوارات العرفیة كمفهومین متقابلین یطلقان على الأعیان الخارجیّة وعلى الأفعال الاختیاریة والأخلاقیة أیضاً، كما یستعملان فی الأشخاص أحیاناً فإنّما یمكن اعتبارهما من المفاهیم الأخلاقیة عند استعمالهما فی مورد الأفعال الاختیاریة بقید كونهما صفة للفعل الاختیاری أو الملكات النفسانیة، ویكتسبان حینئذ معنى قیمیاً بمفهومه الأخلاقی.
المجموعة الثالثة: المفاهیم التی تقع صفة لأفعال الإنسان الاختیاریة فقط من قبیل مفهوم البِرّ والفجور، وتعتبر هذه المجموعة من المفاهیم الأخلاقیة بصورة مطلقة.
وعلیه فانّ إحدى خصائص المفاهیم الأخلاقیة هی ترابطها الوثیق مع الأفعال الاختیاریة وتُعدّ من مجموعة المفاهیم الأخلاقیة فی هذا الترابط، فاذا استعملت باستمرار كصفة للفعل الاختیاری فانّها تُعدّ من المفاهیم الأخلاقیة المطلقة، وإذا كانت ـ إضافةً الى ذلك ـ من صفات الأعیان فانّها ستكون أخلاقیة حینما تكون صفة للفعل الاختیاری والملكة الحاصلة منه والمؤثرة فیه.
قلنا فی الفصل الأول إنّ القرآن الكریم یعرض الفوز، والفلاح والسعادة كنتیجة وغایة نهائیة للأفعال الأخلاقیة والتحلّی بالصفات الحمیدة، ممّا یعنی أنّ هذه العناوین مطلوبة بالذات لكنها لا تقع فی مجموعة الأفعال الاختیاریة، ویصحّ القول بأنّ نیل الفلاح والفوز ممكن عن طریق أداء مجموعة أفعال اختیاریة فقط، وعلیه فانّ نیل الفلاح یعنی أداء تلك الأفعال، وهو مقدور لنا عن هذا الطریق.
ولكن من المسلّم به أن ترتب الفوز والفلاح على هذه الأفعال معلول للعلاقة الضروریة والقهریة بین هذه الأفعال وتلك النتائج والغایات، إنها الرحمة الإلهیّة التی تعطى ـ وفق الرؤیة التوحیدیة ـ كجزاء على تلك الأفعال.
وعلیه لا یعدّ الفوز، والفلاح والسعادة وما شاكلها من عناوین جزءاً من أفعال الإنسان، ولا تقع فی دائرة اختیاره مباشرةً، كما أنّ مرغوبیة هذه العناوین وقیمتها لیست أخلاقیة على الاطلاق، وبعبارة اُخرى: للقیمة اصطلاحات واستعمالات متنوعة یرتبط بعضها بالأخلاق بالأصالة، وبعضها بالتبع كالقیمة والمرغوبیة التی تنتزع من نتائج الأفعال الأخلاقیة وتستعمل كصفة لها، وتعتبر الأفعال الأخلاقیة ذات قیمة نظراً الى أنها أسباب وذرائع لتحقیق تلك النتائج القیّمة والمطلوبة ذاتاً. فهناك نوعان من القیمة، أحدهما یتعلّق بنتیجة الفعل الأخلاقی المطلوبة ذاتاً، وثانیهما یتعلّق بالفعل الأخلاقی نفسه، ومطلوب لأجل التوصل به الى تلك النتیجة.
ممّا سبق یُعلم أنّ القیمة الأخلاقیة التی تطلق على الفعل الأخلاقی تختلف مع قیمة النتیجة اختلافاً أساسیاً، لأنّ قیمة النتیجة تكون بمعنى المرغوبیة بالذات، وقیمة الفعل بمعنى المرغوبیة بالغیر.
إنّ الأفعال الأخلاقیة لها مرغوبیة بالغیر دائماً، وتعود قیمتها الى النتیجة التی تعود على الإنسان بأداء هذه الأعمال، ولیست من سنخ قیمة الفلاح والفوز بمعنى المرغوبیة بالذات. هذه القیمة الأخلاقیة صفة للفعل الاختیاری وتُبیَّن بلفظ (ینبغی) فی حین لا تكون قیمة النتیجة للفعل، أی الفوز والفلاح، من سنخ القیم الاختیاریة.
ومن الضروری التنبیه على هذه الملاحظة وهی: انّ ما ذكر عن القیمة الایجابیة تصدق على القیمة السلبیة جملةً وتفصیلاً، أی كما أنّ القیمة الأخلاقیة الإیجابیة فی مورد الفعل تكون دائماً ذات مرغوبیة مترشحة من القیمة الذاتیة والمرغوبیة الذاتیة لنتیجته فانّ القیمة الأخلاقیة السلبیة أیضاً تكون أولاً: صفة للفعل الاختیاری للإنسان، وثانیاً: مترشحة من القیمة السلبیة والمبغوضیة بالذات للنتیجة غیر المطلوبة لذلك الفعل، فهی مبغوضة بالغیر على عكس القیمة السلبیة للنتیجة وتُبیّن بـ (لا ینبغی).
ممّا ذكر نستنتج أنّ جمیع المفاهیم الأخلاقیة وإن كانت قیمیة الاّ أنّ أیّ مفهوم قیمیّ لا یمكن أن یعتبر أخلاقیاً كمفهوم السعادة والفلاح أو الشقاء والخسران. كما أنّ أیّة قضیة قیمیّة لا تعتبر من القضایا الأخلاقیة، فمثلاً: لا یمكن عرض قضیة (ینبغی أن یكون الإنسان سعیداً) كإحدى القواعد أو القضایا الأخلاقیة، لأن ما یطلب من الإنسان فی نطاق الأخلاق هو أداء أو ترك مجموعة من الأفعال الاختیاریة التی تكون سبباً لسعادته وفلاحه أو شقائه، فالسعادة والشقاء لیسا اختیاریَّین بالذات لكی یُطلبا أو یُمنعا مباشرةً، وإن قیل أحیاناً (تنبغی السعادة) فانّ هذه الـ (تنبغی) تنتسب الى النتیجة بالعَرض لا حقیقةً، لانّها تتعلّق أساساً وبلا واسطة ـ بالفعل المنتج لـ (السعادة)، وفی الصورة الصحیحة للقضیة یقال: (ینبغی أداء فعل یوصلنا الى السعادة)، وهذا التعبیر یشابه ما یقال فی الفقه: (تنبغی الطهارة) والمقصود الأول هو: (یجب أداء فعل الوضوء لكی تحصل الطهارة) أی إن (تنبغی) تتعلّق بـ (عنوان محصِّل) للنتیجة ویكون إسناده الى النتیجة نفسها إسناداً مجازیاً لا أكثر.
نستنتج ممّا ذكرنا حول القیمة وتقسیمها فیما یرتبط بالأخلاق أنّ علینا رعایة الدقة فی هذا المجال والتمییز بین قیمة النتیجة والفعل لكی لا نُعدّ ـ إثر ظنّ خاطئ ـ قیمة النتیجة من زمرة المفاهیم والقیم الأخلاقیة، لأنّ قیمة الفعل قیمة أخلاقیة فقط وتكون فی جملة المفاهیم الأخلاقیة.
أوضحنا فی (فلسفة الأخلاق) أنّ القضایا الأخلاقیة هی فی الحقیقة قضایا خبریة وتتركب من موضوعات ومحمولات، والموضوعات فی القضایا الأخلاقیة عناوین انتزاعیة والمفاهیم الماهویة والعناوین الأولیة إنّما یصحّ اعتبارها كموضوعات لهذه القضایا وجعلها مشمولة لحكمها فی حالة وجود عنوان انتزاعی كواسطة.
فالعدالة ـ مثلاً ـ لا تكون ماهیة خارجیة وواقعاً عینیاً، بل هی عنوان ینتزع من حیثیة (أداء الفعل فی محله ورعایة حقوق الآخرین) كما لا یكون كلّ من الظلم، والتقوى، والفجور، والفسق، والحق، والباطل واقعاً عینیاً، بل إن أذهاننا تنتزع هذه المفاهیم بملاحظتها الخاصّة للمفاهیم الأولیة. إنّ المفاهیم الماهویة التی تنعكس فی أذهاننا مباشرةً عن الأعیان الخارجیّة من قبیل الكلام، والمشی، والأكل، والضرب وغیرها إنّما تحلّ محلّ الموضوع فی القضایا الأخلاقیة وتكون مشمولة لأحكامها بالنظر الى كونها مصادیق مذكورة لأحد العناوین الإنتزاعیة، ولا یمكن اعتبارها حسنة أو سیئة بالنظر الى ذواتها من دون اعتبار تلك المفاهیم الإنتزاعیة التی هی موضوعات حقیقیة للقضایا الأخلاقیة.
أما المحمولات فی القضایا الأخلاقیة فانّها تكون دائماً مفاهیم من قبیل الخیر والشر، والحَسن والقبیح، والواجب والحرام ومفاهیم اُخرى مشابهة ولیست من الأمور الواقعیة التی تدرك بإدراكنا الحسی مباشرةً، بل هی نوع من المعقولات الثانویة التی تنتزعها أذهاننا بالنظر الى التأثیر الایجابی أو السلبی للأفعال فی الوصول الى الأهداف الأخلاقیة.
حتّى العناوین الحاكیة عن الأهداف الأخلاقیة من قبیل مفاهیم (الفوز) و(الفلاح) و(السعادة) و(الكمال) التی تكتسب الأفعال الأخلاقیة مرغوبیتها فی ضوء مرغوبیة تلك الأهداف لیس لها واقع عینی ومحسوس ولا مفهوم ماهوی، وهی فی ذاتها من العناوین الإنتزاعیة.
ان لفظ (سعید) ـ مثلاً ـ یعنی أن یتوفّر لدى الشخص ما یتلاءم مع نفسه، وتنتزع السعادة من علاقة النفس مع الأمر الملائم للطبع، كما تعتبر للفوز والفلاح هذه الحیثیة بالضبط، وهما من المفاهیم الإنتزاعیة التی یكون منشؤها الإنتزاعی هو النفس من جانب، ومن الأمور الملائمة للطبع من جانب آخر.
والأمر الملائم للنفس یؤثّر فیها بنحوین:
بصورة مباشرة أحیاناً ویتحقّق تكوینیاً فی النفس على صورة صفة أو حالات، ووجوده فی النفس یوفّر سعادتها، ویكون أحیاناً موجوداً خارج النفس، لكن الإرتباط والإتصال بها یوجب التذاذ النفس وسعادتها. فالمحسوسات ـ مثلاً ـ من الأمور الخارجیّة التی توجِد انفعالات فی النفس، والاحساس ببعضها یحقق اللذة والسعادة لها. إنّ النوع الثانی من الأمور الملائمة للنفس وعوامل اللذة والسعادة وإن كان فی ذاته خارجاً عن النفس، ولا علاقة لها معه ذاتاً الاّ أنّ اللذة التی تترتب علیها ترتبط قطعاً بالنفس مباشرةً، ولیست أمراً خارجاً عن وجود النفس.
وعلیه فانّ أسباب السعادة مهما كان شكلها وصورتها توجِد أمراً فی النفس وتوفّره لها، وهو ما یطلق علیه فلسفیاً (كمال النفس) أی إنّ الصفة الوجودیة التی تتصف بها (النفس) یطلق علیها الكمال فی الاصطلاح الفلسفی.
نستنتج من هذا الكلام أنّ السعادة والكمال وإن كانا مفهومین منتزعین من حیثیتین، الاّ أنّهما متحدان واقعاً ومصداقاً وغیر قابلین للإنفكاك، أی إذا حصل كمال للنفس فانّ الإنسان یصبح سعیداً، والإنسان السعید هو المتكامل.
تتضمن الأفعال والصفات الأخلاقیة ـ دائماً وفی جمیع الموارد ـ إحدى الحیثیتین (الهدایة) و(الضلال) ومن المسلّم به أنّ الإنسان ـ فی الحقیقة ونهایة الأمر ـ یسعى فی أفعاله وجهوده لتحقیق سعادته والوصول الى فلاحه وفوزه وإن أمكن ارتكابه الخطأ فی هذا الطریق.
هنا یُسأل: أین یرتكب الإنسان الخطأ، وفی أیة مرحلة؟
للإجابة یمكن القول: من الممكن أن یقع الإنسان فی الخطأ خلال المراحل المختلفة من حركته حتّى یصل الى نهایة الحركة والغایة النهائیة، كالخطأ فی معرفة الأهداف الأخلاقیة، والخطأ فی تشخیص مصداق السعادة والفلاح، والخطأ فی تشخیص الطریق الذی یوصله الى الأهداف الأخلاقیة الصحیحة والسعادة الخالدة و...
على أساس ما ذكر قد یعرف الإنسان الغایة النهائیة جیّداً دون أن یخطأ، ولكنه یخطأ فی تمییز الطریق الصحیح للحركة نحوها، ویسلك طریقاً آخر للوصول إلیها. فی هذه الحالة یكون دافعه الأول فی هذه الحركة هو انجذابه نحو الغایة النهائیة والمطلوب بالذات وفلاحه وسعادته الذاتیة وإن سلك طریقاً منحرفاً، أی إنّ السالك فی هذا الطریق الخاطئ طالب ـ فی الحقیقة ـ لسعادته أیضاً، الاّ أنّه یخطأ فی تمییز الطریق الموصل الى ذلك، فبدلاً من إرادة الأفعال الحسنة وادائها یرتكب الفسق والفجور والأفعال التی لا تلیق به، كما أنّ أشخاصاً كثیرین یعرفون الطریق المستقیم جیّداً ویسرعون نحو سعادتهم الخالدة وفلاحهم عبر هذا الطریق الصحیح ولا یقعون فی مثل هذا الخطأ.
إنّنا بعد ملاحظة الطریق الخاطئ للمجموعة الاُولى، والطریق الصحیح للمجموعة الثانیة ننتزع منهما مفهومی (الهدایة) و(الضلال) المتقابلین.
یقول القرآن الكریم عن المجموعة الاُولى التی ترتكب الجریمة:
الَّذِینَ یَسْتَحِبُّونَ الْحَیاةَ الدُّنْیا عَلَى الآْخِرَةِ وَیَصُدُّونَ عَنْ سَبِیلِ اللهِ وَیَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِی ضَلال بَعِید.1
ویقول عن المجموعة الثانیة التی تمارس الأفعال الصالحة واللائقة والتی میّزت الطریق الصحیح واهتدت:
أُولئِكَ عَلَیْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.2
ممّا ذكر نستنتج أن (الهدایة) و(الضلال) لیسا من المفاهیم الأخلاقیة الخاصّة، بل یكون الإنسان مهتدیاً بلحاظ أنّ العمل الذی یؤدیه یوصله الى هدفه المنشود، أو ضالاً لانّه لا یوصله الى ذلك الهدف.
نعم، فی حالة اتخاذ الإنسان الفلاحَ والسعادة الخالدة هدفاً لعمله الذی یؤدیه تكون الهدایة والضلال اللذان ینتزعان من ذلك العمل هدایة وضلالاً أخلاقیاً.
قد تلاحظ حیثیة «المعرفة» فی العمل الأخلاقی ویؤدی هذا اللحاظ الى ظهور مفهومَی (المعروف) و(المنكر) بهذا المعنى: وهو أنّ (المعروف) یطلق على الأفعال الأخلاقیة كی یعرفها العقل والعقلاء ویدركون صلاحها، لأنّ العقل یرغب ویتابع أفعالاً توصله الى السعادة، على عكس الأفعال التی لها دور سلبی فی تحقیق سعادة الإنسان ونیل فلاحه، فلا یعبأ بها ولا یریدها فـ (المنكر) یطلق علیها بهذا اللحاظ، أی إنّ ما ینكره العقل فی الموصل الى السعادة هو (المنكَر).
وعلى أساس ما ذكر یمكن القول أن (المعروف) و(المنكر) یستعملان فی الأفعال الأخلاقیة أیضاً الاّ أنّهما لیسا فی الأصل حیثیتین أخلاقیتین، ولا یعتبران من المفاهیم القیمیة حسب المعنى اللغوی.
فی النُّظم الأخلاقیة التابعة للأدیان ـ سیّما الأخلاق الإسلامیة ـ تحظى هذه الحقیقة باهتمام متزاید وهی: إنّ القیمة الایجابیة والأفعال الصالحة تكون متعلَّقة للأمر الإلهی، وفی المقابل تكون الأفعال القبیحة والسلبیة متعلَّقة للنهی الإلهی.
فی هذه الحالة یمكن أن یؤدی المكلف أعمالاً صالحة ویترك أعمالاً قبیحة ومذمومة، وهذا یعنی إنّه قد امتثل الأمر الإلهی وخضع لأحكامه وانسجمت أفعاله وسلوكه معها.
وعلى العكس یمكن أن یترك عملاً صالحاً ویرتكب عملاً قبیحاً، وهذا یعنی أنّه لم یخضع لاحكام الله ولم تنسجم أفعاله معها. إنّنا ننتزع مفهوم (الطاعة) و(العصیان) من هذه المطابقة والانسجام، أو المخالفة واللاإنسجام.
ممّا ذكر ندرك أنّ (الطاعة) و(العصیان) لیسا حیثیتین أخلاقیتین أیضاً، ولا یعتبران أساساً من المفاهیم الأخلاقیة والقیمیة، بل ینتزعان بلحاظ مطابقة أو مخالفة أعمالنا للأوامر والنواهی الإلهیّة، ولكن بما أنّ الأمر الإلهی یتوجه الى الأفعال الأخلاقیة الصالحة، والنهی الإلهی الى الأفعال الأخلاقیة القبیحة فی النظام الأخلاقی للاسلام ستكون (الطاعة) و(العصیان) من زمرة المفاهیم القیمیة الأخلاقیة الایجابیة والسلبیة بالعَرض والواسطة. (الطاعة) تساوی العمل الصالح و(العصیان) یساوی ارتكاب العمل القبیح.
وفی القرآن الكریم استعمل لفظ (الطاعة) أو (العصیان) على نحو التقابل كقوله تعالى:
تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ یُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ یُدْخِلْهُ جَنّات تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهارُ خالِدِینَ فِیها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ * وَمَنْ یَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَیَتَعَدَّ حُدُودَهُ یُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِیها وَلَهُ عَذابٌ مُهِینٌ.3
ویصدق أحد مفهومَی (الطاعة) أو (العصیان) بلحاظ ما ذكر فی جمیع الأفعال الأخلاقیة، أی الأفعال التی تكون ممدوحة ومذمومة، وتؤدی الى نتائج (طیبة) و(سیئة).
وعلیه فانّ مفهومَی (الطاعة) و(العصیان) لیسا أخلاقیین بالذات، ولكن یصدق مفهوم الطاعة أو العصیان على مصادیق الأفعال الأخلاقیة كافة، ویعتبران من المفاهیم الأخلاقیة بالعرض.
* * *
1 ابراهیم: 3.
2 البقرة: 157.
3 النساء: 13 و14.