القسم الأول
4
ذكرنا انّ كلّ نظام أخلاقی یبتنی على مبادئ موضوعة ثلاثة:
1 ـ الإنسان مختار.
2 ـ یتابع الإنسان فی أفعاله الاختیاریة هدفا مرغوباً بالذات.
3 ـ الطریق الوحید الموصل لذلك الهدف هو ممارسة الأفعال الأخلاقیة. أی إنّ هذه الأفعال الاختیاریة ـ فی الحقیقة ـ هی السبب لسعادة الإنسان أو شقائه، وبغیر هذا الطریق لن یصل إنسان الى السعادة والشقاء.
وینبغی التذكیر بأن الكثیر من النُّظم الأخلاقیة لا تهتمّ بهذه المبادئ تفصیلاً ولم تطرحها كمبادئ موضوعة لها، الا أنّنا نستنتج بعملیة تحلیلیة أنّ هذه المبادئ ستكون مقبولة لدى كلّ نظام من النُّظم الأخلاقیة، وإن كان ارتكازیاً واجمالیاً.
والنظام الأخلاقی فی الإسلام یوافق النُّظم الاُخرى بتقبّل هذه المبادئ وقد ابتنی على أساس الإقرار بها، فلا یفترق عن النُّظم الاُخرى فی هذا المجال. هنا یطرح سؤال: بناءً على ذلك ما الفارق الرئیس بین النظام الأخلاقی فی الإسلام وسائر النُّظم الأخلاقیة؟
الجواب: هناك فروق نقوم هنا بدراسة ثلاثة منها:
ینبغی القول انّ الاختلاف الرئیس بین النُّظم الأخلاقیة لیس بلحاظ المفاهیم الكلیة، بل مصادیقها فی الغالب، أی إنّ كلّ إنسان ـ بصورة عامّة وفطریة ـ طالب للسعادة ولیس بوسعه أن یسلب هذا الأمر المطلوب من نفسه أبداً.
ویمكن القول: انّ جمیع النُّظم الأخلاقیة تسلّم بهذه الحقیقة وتتفق فی الرأی بشأنه، والاختلاف بینها یدور حول تشخیص مصداق «السعادة». إنّ المشكلة الأساسیة ومحل النزاع بین النُّظم وآرائها المختلفة والمتضادة یكون حول الإجابة عن هذا السؤال: ما هی السعادة التی هی ضالّة الإنسان وینشدها بكلّ سعیه؟
من البدیهی لیس من الیسیر الإجابة عن هذا السؤال. ویمكن القول: جوهر المشكلة هو أنّ (السعادة) ـ وهی ضالّة جمیع الناس ـ لیست شیئا عینیاً وموجوداً خارجیا، بل ولیست حیثیة نفسیّة وظاهرة روحیة خاصّة لكی نضاعف جهودنا ونركّز على معرفتها فنقترب من حلّ المسألة ونضیّق دائرة الاختلاف.
فبصدد الإجابة عن هذا السؤال المبدئی أوضحنا رأینا فیما سبق وقلنا:1 إنّ السعادة مفهوم انتزاعی ومنشؤها هو دوام وشدّة اللذة المطلقة أو النسبیة عند عدم تحققها.
وعلى هذا الأساس فحیث تقترن حیاتنا مع المعاناة والألم فانّ (السعادة) سوف تصدق حینما تكون الآلام أخفّ وأقلَّ بالنسبة الى مستوى اللذات.
وبإیجاز: إنّ طلب السعادة أمر فطری لدى الإنسان، حیث یرغب الجمیع فی أن تدوم لذاتهم وتكون أقوى وأشد قیاساً الى الآلام. إلاّ أنّهم لا یعرفون كیفیة تحصیلها، ولكلّ فرد رأیه فی هذا المجال. من هنا یمكن القول انّ هناك اتفاقاً فی الرأی حول مفهوم السعادة ولكن یلاحظ اختلاف كبیر فی تشخیص مصداقها.
تختلف مصادیق السعادة فی النُّظم الأخلاقیة المختلفة نظراً للرؤى الكونیة المختلفة التی تمثّل الأساس والجذور لها، والإسلام أیضاً باعتبار رؤیته الكونیة الخاصّة والإلهیّة یطرح مصداقاً خاصّاً للسعادة ویدعو الى امتثال تكالیف وأحكام خاصّة بهدف الوصول إلیها.
حسب رؤیة الإسلام ـ وهو الدین الحق ـ یُعتبر الإنسان موجوداً له عمر غیر متناه، ومن جهة اُخرى هو فقیر الى الله عزّ وجلّ ولیس له أیُّ استقلال، وبصورة تُناسب هذه الرؤیة تَطرح للإنسان سعادةً خالدة أسمى من الحیاة المادیّة، وعلى العكس فانّ الإنسان حسب الرؤیة الكونیة المادیّة ـ موجود مستقل، ذو عمر محدود، وتقتصر حیاته على الحیاة الدنیا هذه، وبما یناسب هذه الرؤیة فانّ النُّظم المادیّة تبحث للإنسان عن السعادة واللذة الدنیویّة، لانّها لا تعرف سعادة ولذة اُخرى وراءها.
ویمكن أیضاً ـ أو یفترض على الأقل ـ وجود أشخاص یعتقدون بالحیاة الخالدة والعالم الآخر والسعادة التی لا نهایة لها، ولكنهم یعتقدون بعدم وجود علاقة بینها وبین أعمال الإنسان وسلوكه الاختیاری فی هذا العالم، ویعتقدون بأن أعمالنا وسلوكنا فی هذا العالم یمكن أن یوفّر السعادة الدنیویّة ولهذا الهدف یجب اداؤها، وسعادة الإنسان الاُخرویة تتحقّق بسعیه فی تلك النشأة فلا حاجة وفائدة فی بذل الجهود وتحمل الآلام فی الدنیا بهدف تحقیق السعادة الاُخرویة، انّ هؤلاء لا ینكرون الآخرة والسعادة، الاّ أنّهم یهتمون بالدنیا عملیاً، ویذرون عالم الآخرة وراءهم منسیاً.
الإسلام فی رؤیته الكونیة وما یطرحه من تفسیر للكون یعلّم الإنسان ـ من جهة ـ بأن وجوده كله متعلِّق بالله عزّ وجلّ وهو «رب» الإنسان بتمام معنى الكلمة، ویعلّمه ـ من جهة اُخرى ـ أنّ حیاته لا تنحصر فی الحیاة الدنیا، بل إنّ حیاته الواقعیة ذات ثبات وسَعَة ممّا یجعل الحیاة الدنیا«لا شیء» قیاساً إلیها.
بمقتضى هذه الرؤیة یبتنی النظام الأخلاقی فی الإسلام على المبدءین المذكورین أیضاً، وفیه تراعى «علاقة الإنسان مع المبدأ» من جانب و«علاقة الإنسان بالمعاد» من جانب آخر، ولذا فإنّ القرآن إن لم نقل فی جمیع الموارد ففی أغلبها یعرّف السعادة الاُخرویة مصداقاً لـ (الفلاح)، والسعادة التی وردت فی الآیات (105 ـ 108) من سورة هود قد استعملت أساساً بمعنى السعادة الاُخرویة. وهذا لا یعنی أنّ الإسلام یدعو الى اعتزال الدنیا تماماً، وعدم الإهتمام بها إطلاقاً، بل یعنی ضرورة المحافظة على ترابط الدنیا مع الحیاة الأبدیة، ورعایة شأنها فی طریق الوصول الى سعادته الخالدة. وفی عبارة واحدة: أن یعرفها الإنسان كما هی، أی بما أنّها وسیلة ومقدمة، ویستثمرها على ما ینبغی.
إنّ القیم الأخلاقیة التی یطرحها الإسلام إنّما تبتنی على رؤیته الكونیة الخاصّة والتی یرتضیها، فلا یمكن ـ فی إطار الدین الإسلامی ـ أن نطرح نظاما أخلاقیا مجرّداً عن الإعتقاد بالمبدء والمعاد، فانّ مثل هذا النظام لا یمكن أن یعتبر نظاماً أخلاقیاً إسلامیاً، بل سوف یكون غیر اسلامی أو هجینا.
ومن الممكن أن یكون أتباع المذاهب الهجینة إلهیِّین فی العقیدة، ثمّ ینسَون كلّ شیء فی أخلاقهم وسلوكهم، مع أنّ هناك ترابطاً وثیقاً بین النظام الأخلاقی فی الإسلام ورؤیته الكونیة، ومن أصول تلك الرؤیة تنشأ المفاهیم القیمیّة التی یتبنّاها. فعندما یقول: انّ الأمر الفلانی حسن فانّه یكون قد لاحظ علاقته بالمبدأ والمعاد، وحتّى حینما یتحدّث عن فلاح الإنسان فانّ علاقته بالمبدأ تكون ملحوظة، بمعنى أنّ الفلاح والفوز رحمة إلهیة تُعطى كأجر وثواب، والإهتمام بالمطلوب النهائی والسعادة والفوز والفلاح لا ینفك عن التوجه الى الله عز وجل.
وحینما یتحدّث سبحانه عن عاقبة الصالحین والمحسنین وفوزهم فانّه ینسب ذلك الى نفسه بتعابیر مختلفة وبأسالیب ظریفة من قبیل ما قاله فی آیات عدیدة، لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ2 وقال فی موضع آخر: یَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَیّانَ مُرْساها* فِیمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها * إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها.3 وقال فی آیة اُخرى: إِنَّ الْمُتَّقِینَ فِی جَنّات وَنَهَر * فِی مَقْعَدِ صِدْق عِنْدَ مَلِیك مُقْتَدِر.4
وعلیه فانّ أهمّ اختلاف رئیس بین النظام الأخلاقی فی الإسلام مع النُّظم الأخلاقیة ینشأ من العلاقة الوطیدة بین الرؤیة الكونیة والأخلاق، ولكن كما قلنا من ذی قبل فانّ اختلاف الرؤى الكونیة یسبّب نشوء الاختلاف فی تشخیص مصداق السعادة، وبالتالی ظهور مصادیق مختلفة ومتناسبة مع الرؤى الكونیة المتنوعة، ولا تسبّب اختلافاً فی مفهوم السعادة.
إنّ مفهوم السعادة فی جمیع النُّظم الإسلامیة وغیر الإسلامیة ـ مفهوم متَّفق علیه ویعنی دوام اللذة حقیقةً أو نسبیاً، وحتّى المذاهب المادیّة تتبنى هذا التفسیر للسعادة، وعلیه فانّ من یتعاطى المخدِّرات ـ مثلاً ـ ویشعر بلذة كبیرة فی الوهلة الاُولى لا یعتبر «سعیداً» لدى أیّ مذهب حتّى المذاهب المادیّة، لأن وراء هذه اللذة وفی عمق هذا الإحساس باللذة یكمن الشقاء والبلاء.
أما ما یطرحه الإسلام بنحو خاصّ ویكون منشأً للافتراق عن النُّظم الاُخرى فهو أنّه یخبر ـ استناداً الى الإیمان بعالم ما بعد الموت ـ عن وجود لذّات وآلام اُخرى، وبالنظر الى ذلك یعرّف مفهوم السعادة فی بدء الأمر بأنّها اللذة الدائمة والخالدة.
و لذا یأخذ الإسلام على عاتقه تنبیه الإنسان على أنّ حیاته لا تنحصر فی الحیاة الدنیا ولذاتها وآلامها، بل له حیاة أبدیة قرینة اللذات أو الآلام التی لا نهایة لها، فلابدّ من الإهتمام بها فی المقارنة والتقییم. وحتّى مع فرض اقتران كلّ الحیاة الدنیویّة للإنسان باللذة بلا معاناة وألم وتعب، فماذا تكون قیمة مثل هذه الحیاة إذا أعقبها العذاب الدائم والشقاء الخالد؟!
وفی البحث عن الطرق التی توصل الإنسان الى السعادة یبدو جانبان أیضاً:
الأول: جانب البحث الكلی، والثانی: جانب المصادیق والتفاصیل.
فنقول عن الجانب الكلی: كلّ ما یوصلنا الى السعادة فهو «حسَن» وستكون هذه قضیة أخلاقیة لا یختلف الإسلام فیها مع النُّظم الأخلاقیة الأخرى، بل یتوافق معها فی هذا الجانب.
وینقدح السؤال فی الجانب الثانی حول ما یوصلنا الى السعادة؟ والمصادیق الجزئیة والمحدّدة لهذا الموضوع الكلی؟ هذا السؤال هو المنشأ الآخر لوقوع الاختلاف، وقد أعدت النُّظم الأخلاقیة إجابات مختلفةً عنه، وللنظام الأخلاقی فی الدین الإسلامی رأی یختلف مع سائر المذاهب الأخلاقیة ویبتنی على رؤیته الخاصّة. وبما أنّ الإنسان موجود معقَّد وذو أبعاد مختلفة ذات ترابط تامٍّ فیما بینها فعلا وانفعالا، وتأثیراً وتأثّراً، فكثیراً ما یخطأ فی تشخیص طریق الوصول الى السعادة وتقییم آثار العمل الذی یقوم به ایجابا وسلبا.
فمن الضروری فی تقییم الأعمال وتأثیرها على مصیرنا الإلتفاتُ الى جمیع الأبعاد الوجودیة للإنسان، ومن الخطأ أن نظنّ بأن یكون فی الحیاة العائلیة ـ مثلاً ـ منهج وأسلوب مستقل عن الأبعاد الوجودیة الأخرى، من قبیل الشؤون الفردیة والاجتماعیة أو الاُخرویة، لأنّ طریقة حیاتنا العائلیة ذات تأثیر كبیر فی تقریر مصیر حیاتنا الفردیة والاجتماعیة وحیاتنا الاُخرویة قطعاً، كما أنّ لكلّ بُعد من الأبعاد الاُخرى مثل هذا التأثیر فی سائر الأبعاد.
ممّا ذُكر نستنتج أنّنا لو أردنا أن نصف عملاً ما بانّه صالح أو سیّئ فاللازم هو تقییم تأثیره المباشر فی مجمل الحیاة الإنسانیة، وملاحظة جمیع أبعادها ثمّ إصدار الحكم بشأنه، ومن البدیهی أنّ مثل هذه المحاسبة والتقییم وتحدید التأثیر الایجابی أو السلبی للأعمال فی أبعاد الحیاة الإنسانیة المختلفة وبصورة شاملة، عملیة عویصة جدّاً.
وربما یمكن القول: انّ فهم الأحكام العملیة ـ فی مستوى دان ـ أمر واضح وقابل للتحلیل والقبول لدى الجمیع. ولكن ینبغی الإلتفات الى أنّ هذا فهم بسیط وتسامحی ولیس فهماً عمیقاً ودقیقاً وجامعاً وفلسفیاً. فمثلاً: إنّ أكثر الأحكام العملیة بداهة هو الحكم بـ (حُسن الصدق) ویسلّم به جمیع الناس بصورة بدیهیة وفطریة ولكن بنحو مبهم ومجمل وعامّ، ویعدّونه من جملة الواضحات والبدیهیات الأخلاقیة. ولكن لو تأملنا جیّداً فی هذه القضیة البدیهیة ظهرت نقاط مبهمة، وقد تبدو لنا موارد نتردّد فی حسنها، بل نحكم بحُسن الكذب فیها! وهذا یعنی أنّ (الحُسن) لا یمكن أن یكون صفة ذاتیة لـ (الصدق) لأنّ الصفة الذاتیة لا یمكن أن تنفصل عن موصوفها أبداً. إذنْ لیس (الحُسن) صفة ذاتیة للصدق كی یدركه العقل بصورة بدیهیة. هذه الإستثناءات تشیر الى أنّ ادعاء بداهة (حسن الصدق) من قِبل الناس لیس دقیقا جدّاً وأنّهم لم یدركوا ذلك جیّداً، وهذه القضایا من المشهورات الشائعة بین الناس مع شیء من التسامح والنظرة السطحیة. كما أنّ جملة من الأعمال الاُخرى من قبیل الظلم، الكذب وغیرهما التی یعتقد الجمیع بأنّها سیئة أیضاً من القضایا المشهورة وغیر البرهانیة، ولو أردنا ان تكون برهانیة فمن اللازم دراسة جهات هذه القضایا وتشخیص أحوالها ونطاقها وقیودها.5
ولا یمكننا ـ مع قصور علومنا ـ الإحاطة بجمیع العلاقات الموجودة بین أعمالنا التی نؤدیها وبین سعادتنا النهائیة بأبعادها الواسعة بحیث توجب وصول أبعاد وجودنا كلها الى المقصود النهائی. إنّنا ندرك عادةً جانباً منها وتبقى الجوانب الاُخرى تحت ستار الغیب وكما جاء فی المثل «حفظت شیئاً وغابت عنك أشیاء».
والكثیر من آراء الناس حول «حُسن» أو «سوء» الأفعال یتّسم بهذه السِمة نفسها، وهی أنّهم یدرسون جهة واحدة أو جهات معدودة منها فی حین أنّها ذات أبعاد وعلاقات اُخرى لابدّ من دراستها وأخذها بنظر الإعتبار فی الحكم النهائی ولكنهم فی غفلة منها، فحتّى لو عرفنا جمیع الآثار المطلوبة لعمل مّا فی أبعاد حیاتنا المادیّة والدنیویّة لم یكفِ ذلك للقول بأنّ ذلك العمل «حسن» بل یلزم مع ذلك أن یكون نافعاً للآخرة لكی یكون حكمنا صائباً، مع أنّه لا یتیسّر لنا محاسبة ذلك ولا ندرك علاقة الحیاة فی الدنیا مع الحیاة فی العالم الآخر.
هذا كلّه بالنسبة الى ما یرتبط بالبدیهیات الأخلاقیة، وأمّا القضایا النظریة التی تنحلّ الى عناصر معقّدة فسوف تكون أشكل حالاً، والعلاقات أكثر تعقیداً، وإحاطتنا أضعف، وحكمنا أبعد عن الحقیقة. ومن هنا فانّ الدین الإسلامی وإن كان یهتمّ بالبدیهیات الأخلاقیة المعروفة ویدركها الناس ببساطة لكنه لا یكتفی بها. فی الرؤیة الإسلامیة ینبغی أن یحدّد الوحی مصادیق الأفعال الأخلاقیة بصورة مضبوطة من حیث حدودها وشروطها وقیودها، وهذه من مزایا النظام الأخلاقی فی الإسلام الذی یستند الى الوحی فی هذا الشأن.
النُّظم غیر الإسلامیة تعتقد أنّ القضایا الأخلاقیة إمّا بدیهیة وإمّا یمكن كشفها عن طریق التجربة بلا حاجة الى الوحی، أو أنّ القیم الأخلاقیة یمكن تعیینها أو تغییرها حسب الذوق العامّ. وعلیه یكون الإستناد الى الوحی فی الكشف عن المسائل الأخلاقیة من خصائص وامتیازات النظام الأخلاقی فی الإسلام.
یبتنی النظام الأخلاقی فی الإسلام على رؤیة كونیة تعرّف وجود الله سبحانه كمبدأ وخالق للموجودات، وطبعاً تعرّف الإنسان موجوداً تابعاً وفقیراً إلیه، فالإنسان فی هذه الرؤیة محض الفقر ولیس له ـ بالنسبة الى الله ـ الاّ وجود تعلّقی، قال تعالى:
یا أَیُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِیُّ الْحَمِیدُ.6
من الطبیعی لكی تكون مسیرة النظام مبتنیة على الحقائق ومنسجمة مع الواقع وبعیدة عن الأوهام والخیالات الخاطئة فلابدّ من الإهتمام بعلاقة العبودیة والربوبیة هذه ورسم المنهج طبقاً لهذا المبدأ.
وینبغی الإلتفات الى أنّ ما ذكرناه لیس من امتیازات الإنسان، بل إنّ الموجودات ـ بدون استثناء ـ هذا حالها بالنسبة الى الله عز وجل، فهی فی عمق وجودها فقیرة الى الله عزّ وجلّ بكل ما فی الكلمة من معنى، ولكن بما أنّنا نبحث عن النظام الأخلاقی اقتصرنا على تعلّقیة وجود الإنسان.
فی ضوء هذه التبعیّة العامّة نستنتج بوضوح أنّ على الإنسان أن یعلم حینما یتصرف فی الأشیاء وینتفع بها أنّه إنّما یتصرف فی مِلك الله تعالى. ولا ننكر ـ طبعاً ـ أنه بلحاظ خاصّ وفی مرتبة مّا یتصرف فی ملكه، سواءً كان ملكه التكوینی كأعضاء جسمه أو التشریعی والإعتباری كالأشیاء الخارجیّة التی یمتلكها على أساس القانون. ولكن لا ینبغی الغفلة عن حقیقة أنّ هذه كلها ترتبط بالله فی النهایة وفی مرحلة أعلى، وهو المالك الحقیقی للاشیاء كلها.
هذه العلاقة تستتبع نتیجةً اُخرى وتحتم علینا طاعة أمر الله حتّى إذا تعلّق بعمل غیر نافع للحیاة الدنیا، ولا تأثیر له فی ذاته على السعادة الاُخرویة.
على الإنسان أن یسلّم تسلیماً محضاً لأوامر الله ونواهیه وذلك بانقیاد تامّ دون أیّ اعتراض، فانّ الإعتقاد بربوبیة الله التكوینیة والتشریعیة یقتضی أن یكون مطیعاً لأوامر الله عملیاً ویلاحظ العمل المطلوب منه والمحظور علیه.
نعم، من الواضح انّ أوامر الله ونواهیه تابعة للمصالح والمفاسد، وبغض النظر عن أوامر الله ونواهیه فانّ للمصالح والمفاسد واقعیات عینیة ولا ننكر هذه الحقائق، لكن نؤكّد على هذه الحقیقة أیضاً وهی أنّ أوامر الله تعالى لو لم تكن متعلقة بأمور ذات مصلحة لكانت إطاعتها واجبة على الإنسان، وفی مثل هذا الفرض علیه أن یوطّن نفسه بین یدی الله تعالى.
لو سُئل الآن: هل إنّ ما ذكر محض فرض أم له مصداق، وهل صدر من الله تعالى مثل هذا الأمر؟
الجواب: لا یبعد صدور مثل هذا الأمر الإلهی، وللمثال یمكن الإشاره الى أمر الله سبحانه النبی ابراهیم(علیه السلام) بذبح ابنه اسماعیل(علیه السلام)، فانّ ذبح الابن فی ذاته لا یحقق سعادة الدنیا ولا سعادة الآخرة حیث لا علاقة تكوینیة بینهما، ولولا الأمر الإلهی لم یسمح ابراهیم بمثل هذا العمل أبداً فضلاً أن یُقدم علیه، مع ذلك كله یأمر الله هكذا بشأن اسماعیل(علیه السلام) الذی عاش فی عصر یسود فیه الشرك وكان من الموحدین المعدودین وأعزّ عباد الله بعد ابراهیم(علیه السلام) على وجه الارض. والنبی ابراهیم(علیه السلام) یبادر لتنفیذ هذا الأمر دون أیّ اعتراض وبانقیاد تامّ، واسماعیل(علیه السلام)یرغّبه فی ذلك، كما ورد فی القرآن:
یا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ.7
انّ أیّ نظام أخلاقی غیر إلهی لا یبرّر مثل هذا السلوك، ولكن فی ضوء حقیقة اُخرى وهی أن كلّ شیء له تعلّق بالله تعالى ومملوك له فیجب امتثال كلّ عمل یأمر به فی النُّظم الإلهیّة، سواءً أكان ذا مصلحة للفرد أو المجتمع أم لا. لأن كلّ ذلك ملك لله ولا یحق للمكلف أن یناقش فیه، والتسلیم المطلق لله تعالى یحقق مصلحة كما لا یدانیه أیُّ شیء.
انّ وشیجة عبودیة الإنسان مع ربوبیة الله یمكن جعلها صبغة لأعمال الإنسان كافة، وكما سیأتی توضیحه هی الصبغة الأشدّ روعة، والأقوى تأثیراً من أیّ شیء آخر فی بلوغ الإنسان الى سعادته، قال تعالى بشأنها:
صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً.8
ویمكن القول: إنّ هذا الأمر كان السبب لأن یحسب بعض المفكّرین الإسلامیّین بأن أساس القیم الأخلاقیة فی الإسلام لیس سوى الأمر الإلهی. و«الصالح» هو ما یأمر به وصلاحه ناشئ من هذا اللحاظ، و«السیّئ» ما ینهى عنه. قالوا: إنّ «العمل» فی ذاته لیس صالحاً ولا سیئاً ولا یقتضی مرغوبیة أو مبغوضیة. إنّ الحُسن والقُبح لیسا ذاتیَّین للأفعال بل تابعان للأمر والنهی الإلهیَّین.
لكن یجب أن یُعلم أنّ هذا خطأ فادح ترتكبه هذه الفئة، وأنّ الصلاح والفساد والحسن والقبح فی الأفعال لا تنشأ من أمر الله ونهیه بحیث یكون الفعل فی نفسه فاقداً لهذه الصفات، والحقیقة هی أنّ حیثیة الأمر والنهی مستقلة عن حیثیة ذات الأفعال، وبما أنها أصبحت موضوعات لأمر الله أو نهیه فانّها ـ إضافةً الى قیمتها الذاتیة ـ تقدِّم للإنسان قیمة إیجابیّة أو سلبیة اُخرى، أی قیمة العبودیة، والطاعة والانقیاد لله عزّ وجلّ وأوامره، أو التمرد والعصیان والتجرؤ علیه، سواءً لوحظت المصلحة أو المفسدة فی متعلَّق الأمر والنهی كأغلب الأحكام والأوامر الإلهیّة أم لم تُلحظ كالنموذج المذكور.
والآیات القرآنیة شاهدة على دعوانا هذه، وقد كشفت عن القیمة الذاتیة للأفعال، قال تعالى:
إِنَّ اللهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِْحْسانِ.9
وقُلْ إِنَّ اللهَ لا یَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ.10
یفهم من الآیتین أنّ العدل والإحسان متعلقان للأمر الإلهی، ولهما واقعیة فی مرتبة متقدّمة على الأمر بهما، وهما خصیصتان لجملة من أفعال الإنسان، وقد أصبحت هذه الأفعال موضوعات لأمر الله بلحاظ هذه الخصوصیة الذاتیة، ولیس أمر الله هو السبب لاتّصاف تلك الأفعال بـ «العدل» و«الإحسان».
كما أنّ الفحشاء خصیصة ذاتیة لجملة من الأفعال، ولذا لا یأمر الله بارتكابها، وعلیه فانّ للعدل والإحسان ـ بلا ملاحظة أمر أو نهی ـ مصادیق خارجیة انتزاعیة كما أسلفنا.
* * *
1 راجع صفحة 22 ـ 25 من هذا الكتاب.
2 من قبیل الآیات: البقرة: 262 و277; آل عمران: 199.
3 النازعات: 44 ـ 42.
4 القمر: 54 و55.
5 تمّ بحث هذا الموضوع تفصیلیاً فی كتاب دروس فی فلسفة الاخلاق، فراجع.
6 فاطر: 15.
7 الصافات: 102.
8 البقرة: 138.
9 النحل: 90.
10 الأعراف: 28.