ar_akhlag1-ch1_5.htm

أساس القیمة الأخلاقیة فی الإسلام

القسم الأول

5

  • أساس القیمة الأخلاقیة فی الإسلام
    • دور الدافع فی الفعل الأخلاقی
    • تنوّع دوافع الفاعل
    • نقد نظریة «كانْت»
    • النیة من وجهة نظر اسلامیة
    • للنیة تأثیر حقیقی
    • درجات النیة
    • العلاقة بین الإیمان وقیمة الأفعال
    • منشأ قیمة الإیمان
    • منشأ القیمة حسب الرؤیة القرآنیة
    • تبویب الآیات
    • تجمیع الآیات
    • طرق معالجة الذنوب
    • ما هو متعلق الإیمان؟
    • الكفر، الشرك، النفاق
    • الإیمان یجب أن یكون مطلقاً
    • مراتب الإیمان والكفر

أساس القیمة الأخلاقیة فی الإسلام

أوضحنا مفهوم القیمة الأخلاقیة فی الفصول السابقة، وهنا نطرح هذا السؤال: ما هو منشأ القیمة الأخلاقیة وفق رؤیة الدین الإسلامی؟ هذه المسألة بالغة الأهمیة، ونبادر هنا للإجابة عنها.

دور الدافع فی الفعل الأخلاقی

من الموضوعات التی تطرح كأساس لقیمة الأفعال الأخلاقیه هو نیة الفعل والدافع لقیام الإنسان به. یمكن القول: من امتیازات النظام الأخلاقی فی الإسلام هو أنّه یقدِّم النیة كأساس للقیمة الأخلاقیة، والمصدر لكلّ صلاح وسوء. ویعدّ هذا فارقاً رئیساً بین النظریة الأخلاقیة فی الإسلام وسائر النظریات الأخلاقیه، لأنّ أغلب المذاهب الأخلاقیة لا تَعبأ بنیة العمل، والمذهب الوحید الذی استند الى النیة كأساس للقیمة ویُعرف بهذه الخصیصة هو مذهب (كانْت). ولكن ینبغی الإلتفات الى أنّ النیة التی یعتبرها (كانْت) ملاكاً للقیمة هی نیة الطاعة لحكم العقل واحترام القانون، ویختلف بذلك مع النظریة الإسلامیة.

وعلیه فانّ المذهب الأخلاقی فی الإسلام یختلف مع سائر المذاهب الأخلاقیة ـ غیر مذهب كانْت ـ فی أنها خلافاً للاسلام لم تعبأ بالنیة ولم تعتبرها فی أخلاقیة الفعل، وأما مذهب كانْت فانّه رغم اعتباره النیة أساساً للقیمة الاّ انّها لیست تلك النیة التی یطرحها الإسلام. فالنظریة الإسلامیة تفترق عن جمیع المذاهب الأخلاقیة، حیث أنّها إمّا لا تعتبر النیة أساساً، وإمّا تعتبر نیة خاصّةً تختلف عمّا یراها الإسلام.

وبما أنّ المراد من النیة فی هذا البحث هو الدافع النفسیّ للعمل یمكن القول: إنّ أیَّ عمل ـ أساساً ـ لا یتمّ بدون نیة ودافع، وكلّ عمل ینجز بالاختیار فانّ له داعیاً أو دافعاً لإنجازه فی نفس فاعله بحیث یكون سبباً لعدم تركه أو انتخاب عمل آخر بدلاً عنه.

الآن وقد توضّح أنّ أیَّ عمل اختیاری لن یتمّ بدون دافع لدى الفاعل یطرح هذا السؤال: هل إنّ الفعل الأخلاقی الصالح والجدیر فی ذاته وله حُسن فعلی یلزم أن یتوفّر فیه حسن فاعلی أیضاً أم لا، ویكون ذا قیمة أخلاقیة مهما كانت النیة والدافع؟

للإجابة عن هذا السؤال ینبغی القول: من وجهة نظر اسلامیة لا یكفی حسن الفعل وحده لكی یكون ذا قیمة أخلاقیة، بل یلزم تقارنه مع حسن فاعلی، لأنّ آثار الأفعال الأخلاقیة وهی كمال الإنسان وسعادته تتوقف على الحسن الفاعلی ووجود النیة الصالحة.

تنوّع دوافع الفاعل

نظراً لإمكان وجود دوافع متنوعة فی الأعمال التی یؤدیها الإنسان یُطرح هنا هذا السؤال: أیّ الدوافع هو الذی یقوم الإنسان بالعمل من أجله ویمنح العمل صبغة أخلاقیة؟ وأیة نیة توجب القیمة الأخلاقیه؟

قبل الخوض فی البحث ینبغی القول: یمكن تقسیم دوافع الإنسان لإنجاز أفعاله الاختیاریة الى عدة أنواع:

فبعض الدوافع یلبّی المتطلبات المادیّة ویأتی استجابة للغرائز الحیوانیة، ویكون البعض الآخر استجابة للمشاعر الاجتماعیة، وذلك حینما یتنازل الإنسان عن حقه، وبهدف رفع حوائج الآخرین یمارس ألواناً من الإیثار والتضحیة والتنازل.

أمّا السؤال عن سبب تنازل الإنسان عن حقه، والدافع النفسیّ للإیثار من أجل الآخرین فانّ الإجابة عنه ترتبط بعلم النفس وتتطلب بحثاً مطوَّلاً لا یتناسب مع هذا المقال.

وما یمكن قوله اجمالاً هنا هو أنّ الإیثار لا یحدث بداع واحد، بل هناك عوامل مختلفة تدفع الإنسان نحو التضحیة. فمثلاً: قد تحدث هذه الممارسات استجابة للمشاعر والأحاسیس فقط، كالأُم التی ترجّح ولدها على نفسها وتضحی براحتها من أجل راحته، فانّ دافعها لا یكون غیر استجابة مشاعر الأمومة. وأمّا من یعین مریضاً أو مسكیناً ببذل وقته وطاقته وماله لقضاء حاجته، فقد یكون ذلك استجابة للمشاعر الإنسانیة، بحیث إنّه یتبرّم ویشعر بعدم الإرتیاح إنْ لم یفعل ذلك، وتارة یكون الأمر فوق المشاعر فیدفع الإنسان نحو الإیثار والتضحیة فی سبیل الآخرین، كأن یعتبر الفعل كمالاً إنسانیاً، وبما أنّ الإنسان یهوى الكمال فی ذاته فانّه حینما یعتقد ـ صحیحاً أو خطأً ـ أنّ كماله فی أمر مّا، فانّ غریزة طلب الكمال سوف تدفعه لإنجاز ذلك الأمر، وتارة یكون لأجل دوافع اُخرى كطلب الشهرة والجاه، وأخیراً یمكن أن یكون الدافع إلهیاً فیقوم الإنسان بانجاز العمل ابتغاء مرضاة الله عز وجل.

نقد نظریة «كانْت»

یقول كانْت: إنّما یكتسب الفعل قیمة أخلاقیة حینما یُنجز بدافع إطاعة العقل، والاّ فلا قیمة أخلاقیة للفعل، وذلك فیما لو اُنجز بأیّ دافع آخر كالإستجابة للمشاعر وتحصیل الكمال والسعادة والأجر الدنیویّ والاُخروی. فالفعل الأخلاقی هو ما اقتضى الواجبُ العقلی أداءه، ویؤدّیه الفاعل بحكم العقل ولا یرید أجراً أو آثاراً تترتب علیه حتّى الإستجابة للمشاعر وكمال النفس.

ما ذكرناه هو خلاصة نظریة (كانْت) فی هذا المجال. وقد ناقشنا هذا القول فی محلّه1 وقلنا:

لا یمكن ولن یتأتى للإنسان أن یقوم بفعل مّا بدافع إطاعة العقل فقط دون أن یبغی أمراً آخر حتّى كماله، وحیثما تصوّرنا إنجاز عمل إطاعةً للعقل ظاهراً فانّ هناك دافعاً أعمق ولكنه مغطّى وكامن فی جوف هذا الدافع الظاهری، ولذا لو سُئل لماذا تطیع حكم العقل؟ لأجاب: یجب على الإنسان أن یطیع العقل. ان إنسانیة الإنسان تتمثّل فی إطاعته لحكم العقل. هذا الجواب یعنی أنّه یرى كماله الإنسانی فی إطاعة العقل، فیكون هناك دافع أعمق وراء إطاعة العقل وهو استكمال النفس. وعلیه سیكون من یرفض حكم العقل إنساناً سیئاً وناقصاً.

ممّا ذكر نستنتج أنّ صدور الفعل بدافع إطاعة الفعل محضاً افتراضٌ غیر صحیح ولون من السطحیة، ولو كان صحیحاً وممكناً لما أمكن أن یكون منشأً للقیمة الأخلاقیة ـ كما سنوضّحه لاحقاً ـ .

النیة من وجهة نظر اسلامیة

العمل الأخلاقی الذی یحظى بقیمة إیجابیّة ـ وفق النظریة الاسلامیة ـ هو العمل الذی ینجز لكسب رضا الله تعالى محضاً. وهو ذو مراتب، ویطلبه الناس بصور مختلفة. أی إنّ هذا المراد یتخذ أشكالاً مختلفة لدیهم، فتارة یهتمّ الإنسان برضا الله باعتباره منشأً للثواب الاُخروی، أو باعتباره سبباً للنجاة من العذاب ویكون ذلك دافعاً لإنجازه بعض الأعمال، وتارة لا یهتمّ بالثواب أو العقاب بل إنّ دافعه لإنجاز العمل هو رضا الله محضاً، وهذه حقیقة یطلبها بالذات. وتتوفّر مثل هذه الحقیقة لدى أولیاء الله الذین یستندون إلیها بوصفها الحافز نحو الأعمال والعبادات.

على أیّة حال، إنّ الحدّ المطلوب للقیمة الأخلاقیة للعمل فی وجهة نظر الإسلام هو انجازه بهدف رضا الله عز وجل، وبعبارة اُخرى انّ مقوّم القیمة الأخلاقیة لـ (العمل) هو إنجازه بهدف نیل رضا الله.

فی القرآن الكریم آیات تعتبر مطلق رضا الله ـ تقریباً ـ مقوِّماً لقیمة الأفعال الأخلاقیة، وفی المقابل تُعتبر النیّات والدوافع المخالفة لرضا الله وغیر المناسبة له سبباً لسقوط الفعل عن القیمة الأخلاقیة وتطرحه كنقیض للقیمة الأخلاقیة.

هناك موارد تؤكّد فیها الآیات الكریمة على لزوم إتیانها ابتغاء مرضاة الله، ولعله لكون الإنسان فی هذه الموارد أكثر عُرضة للإنحراف والنیة غیر الصحیحة، ولذا یؤكّد تعالى على النیة والدافع الإلهی وقایة من الانحراف عن القیمة الأخلاقیة ووقوع الإنسان فی القیم السلبیة، على عكس ما إذا كانت نیته غیر إلهیة فی موارد اُخرى فانّها حالة انحرافیة استثنائیة كمن یصلی رئاءً، فانّه یمثّل استثناء بین المؤمنین وإنْ كثرَ بین المنافقین، ولكن فی هذه الموارد التی یؤكّد فیها على الإتیان بداعی نیل رضا الله تعالى فانّها لیست حالة انحرافیة أو استثنائیة، بل الكثیر من الناس حتّى المؤمنین هم عرضة لها. ومن تلك الموارد التی یؤكّد القرآن فیها على النیة هو الإنفاق، حیث یفقد قیمته كثیراً ما لأنّ النیة غیر صالحة. والله عزّ وجلّ یذكر أحیاناً أهمیة النیة بصورة مطلقة، حیث قال فی وصف القرآن الكریم:

قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِینٌ * یَهْدِی بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ.2

أجل، إنّ الذین یرومون رضا الله یهتدون بالقرآن، على عكس الذین یفقدون هذه البُغیة الثمینة، فانّهم لا یستفیدون من هذا الكتاب.

أو یقول فی وصف فئة من الناس:

وَمِنَ النّاسِ مَنْ یَشْرِی نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ3 حیث یقابل بین فئتین من الناس: فئة تبغی الفساد والإستعلاء وفئة تبیع نفسها لله تعالى، توقِف نفسها طلباً لمرضاة الله. وفی قبال هذه الآیات تدلّ بتعابیر مختلفة على أنّ النیة الخبیثة والدوافع النفسیّة المتعارضة مع رضا الله تستدعی انحطاط الإنسان كقوله تعالى:

وَإِنْ تُبْدُوا ما فِی أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ یُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ.4

أو لا یُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِی أَیْمانِكُمْ وَلكِنْ یُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ.5

إن الآیة الأخیرة وإن كانت نازلة فی مورد خاصّ الاّ أنّ ذیلها مطلق بالنسبة لمؤاخذة الإنسان على النیة السیئة.

أغلب الآیات التی تؤكّد على النیة ترتبط بموارد خاصّة یكون الإنسان فیها أقرب من الانحراف، حیث یظنّ أنّه لو ادى هذه الأعمال لغیر رضا الله تعالى أیضاً فانّها سوف تكون ذات قیمة. ومن هذه الموارد الخاصّة هی (الهجرة) حیث ترك المهاجرون دیارهم وأعمالهم وأموالهم فی مكة وهاجروا الى المدینة فی ظروف صعبة وشاقة من أجل الإسلام، ثمّ حظَوا بتكریم خاصّ من قبل المسلمین لتضحیتهم هذه، وكان موقفهم ذا قیمة أخلاقیة سامیة، ولكن بعد قوة وشوكة الإسلام كان ثمَّة اُناس یتوقعون انتصار المسلمین فأخذوا یهاجرون الى المدینة طمعاً ولدوافع غیر إلهیة، ولذا یؤكّد القرآن الكریم فی قضیة الهجرة على هذه النیة الخاصّة والدافع الإلهی بصورة خاصّة، ویقول بأن ذوی الشأن هم الذین یهاجرون لنیل رضا الله:

لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِینَ الَّذِینَ أُخْرِجُوا مِنْ دِیارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ یَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ.6

والمورد الثانی الذی تؤكّد فیه الآیات على قضیة النیة هو (الجهاد). فالذین یشهدون المعارك بدافع الإستیلاء على الغنائم حینما یعتقدون جازمین بأنّهم منتصرون فی الحرب، ویجاهدون على أساس هذا الحكم المسبق طامعین بالغنائم لا قیمة لجهادهم فی بُعده المعنوی والأخلاقی، وإنّما یكون ذا قیمة حینما یكون بدافع نیل رضا الله تعالى، یقول القرآن بهذا الشأن:

یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّی وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِیاءَ تُلْقُونَ إِلَیْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ یُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِیّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِی سَبِیلِی وَابْتِغاءَ مَرْضاتِی تُسِرُّونَ إِلَیْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ.7

إذا كان جهادكم لله ورضاه حقاً فلا یجوز ان تقیموا علاقات مع اعداء الله، فیكون العمل لغیر الله ولا قیمة له.

المورد الثالث من الآیات المؤكّدة بشدّة على أن تكون النیة لله ولوجه الله هو (الانفاق) منها قوله تعالى:

یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَْذى كَالَّذِی یُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَلا یُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْیَوْمِ الآْخِرِ.8

حیث یعطی أولاً درساً أخلاقیا وهو النهی عن المنّ أو الإیذاء بعد دفع الصدقة، فانّ صدقاتكم سوف تفقد تأثیرها من الناحیة المعنویّة والأخلاقیة. ثمّ یشبّه من یمنّ فی صدقته بالذی لا یؤمن بالله والیوم الآخر ودافعه فی الانفاق هو الریاء. الانفاق الذی لا یتمّ بدافع الإیمان بالله والیوم الآخر بل بُغیة المحبوبیة والجاه لا قیمة له فی بعده المعنوی والأخلاقی، ولكی یجسّد عدم قیمة هذا العمل بصورة أوضح یستفاد من مثال، یقول تعالى:

فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوان عَلَیْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا یَقْدِرُونَ عَلى شَیْء مِمّا كَسَبُوا.9

فبدلاً من إلقاء البذرة فی ارض خصبة یلقیها على صخرة صمّاء فینزل المطر وبدلاً من أن یساعدها على الانفلاق والنموّ والاخضرار یغسلها ویلقیها خارجاً ویتلفها، فلا یبقى مجال لنموها واخضرارها بل حتّى لبقائها.

إذنْ لا یعود على الإنسان من هذا العمل شیء فحسب، بل تصبح البذرة التی ألقاها فاسدة تالفة.

وَاللهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْكافِرِینَ.10

وفی مقابل هؤلاء المرائین یضرب الله تعالى مثلاً بشأن المؤمنین، حیث یقول:

وَمَثَلُ الَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِیتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّة بِرَبْوَة أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَیْنِ فَإِنْ لَمْ یُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ.11

وعلیه فانّ النیة هی ملاك القیمة، ونیة الإنسان ـ الإلهیّة أو الشیطانیة ـ تؤثر فی سموّ العمل أو انحطاطه.

للنیة تأثیر حقیقی

إنّ ما تتركه النیة على العمل من تأثیر فی تكامل النفس ووصول الإنسان الى السعادة تأثیر حقیقی وتكوینی لا تعاقدی كأن یقال: انْ فعلت كذا أفعلْ كذا والاّ فلا أفعل. فالنیة ذات علاقة تكوینیة مع ذلك العمل وتمدّه بالحیاة، فالعمل الفاقد للنیة جثةٌ میتة فی الحقیقة، لا تجد ارتباطاً مع قلب العامل وروحه ولا تعطی ثمرة للعامل نفسه.

انّ الأعمال التی ننجزها خارجاً إنّما تتحقّق علاقتها مع كمال النفس بفضل النیة والدافع الذی ینشأ من النفس ویتعلّق بذلك العمل، وعلیه فالعمل الذی یفقد النیة الصالحة لا یستوجب كمالاً للنفس، ولذا قال تعالى:

وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَیْر فَلاَِنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ.12

وقال:

وَالَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النّاسِ وَلا یُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْیَوْمِ الآْخِرِ وَمَنْ یَكُنِ الشَّیْطانُ لَهُ قَرِیناً فَساءَ قَرِیناً.13

جاءت هذه الآیة بشكل قیاس ولكن بدلاً عن التطبیق واعلان النتیجة اكتفت بذكر الكبرى وهی:

وَمَنْ یَكُنِ الشَّیْطانُ لَهُ قَرِیناً فَساءَ قَرِیناً.

أجل، إنّ الذین یقومون بعمل ما رئاءً ولیس لله هم قرناء الشیطان وعلى خطه، قال تعالى:

فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِینَ وَابْنَ السَّبِیلِ ذلِكَ خَیْرٌ لِلَّذِینَ یُرِیدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.14

انّ دفع الزكاة إنّما یكون ذا قیمة أخلاقیة إذا كان لله سبحانه، وینحصر طریق الفلاح للإنسان فی أن یكون دافعه فی الإنفاق هو الله، ویكون عمله لوجه الله، قال تعالى فی الآیة التالیة:

وَما آتَیْتُمْ مِنْ زَكاة تُرِیدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ.15

وقال:

وَیُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِیناً وَیَتِیماً وَأَسِیراً * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِیدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً.16

انّ قیمة هذا الاطعام ناشئ من كونه لوجه الله ولیس لتحصیل الأجر من المطعَمین، وإن أرادوا الأجر فانّهم یبغونه من الله تعالى، حیث قال فی آیات اُخرى:

وَسَیُجَنَّبُهَا الأَْتْقَى * الَّذِی یُؤْتِی مالَهُ یَتَزَكّى * وَما لأَِحَد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَة تُجْزى * إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَْعْلى * وَلَسَوْفَ یَرْضى.17

إذا بعث شخص الیك هدیةً ذاتَ یوم وفی المقابل أرسلت له هدیة أیضاً لأن الله تعالى یحبّ هذا العمل كان ذا قیمة أخلاقیة ونافعاً، ولكن إذا كان بدافع انّك إن لم تقابله بالمِثل فانّه سوف لا یكرر ذلك الفعل، فتقابله بالمثل لكی یواصل خیره وتزداد انتفاعاً فانّ عملك سوف یفقد القیمة الأخلاقیة.

الذین وصفتْهم هذه الآیات إنّما ینفقون أموالهم بغیة مرضاة الله لا لدافع آخر وإن كان المقابلة بالمثل وتقدیم الجزاء.

وقال تعالى عن الصبر:

وَالَّذِینَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِیَةً.18

إنّ ذكر هذه الموارد یكفی فی إدراك هذه الحقیقة وهی أنّ النیة ستكون أهمَّ المناشئ الأساسیة لقیمة العمل، وهذه من القضایا المهمة التی أكّد علیها القرآن الكریم بشدّة.

والروایات فی هذا المجال كثیرة أیضاً، منها الروایة التی ینقلها الشیعة والسنة عن النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله وسلم) حیث قال:

«إنّما الأعمال بالنیات ولكلّ امرئ ما نوى».19

وقد وردت روایات كثیرة بهذا المضمون وهو أنّ قیمة عمل كلّ إنسان تتوقف على نیته، فنستنتج أنّ النیة التی تضفی القیمة هی النیة التی ترتبط بالله عز وجل.

درجات النیة

انّ ارتباط (النیة) بالله ذو درجات مختلفة: فتارة ینجز العمل خالصاً لله سبحانه، والإنسان یقوم بالعمل الذی یرتضیه الله لمحض حبّه، كما ورد فی بعض الروایات عن امیر المؤمنین(علیه السلام):

«ولكنی أعبده حبّاً له».20

وتارة یقوم بالعمل تحصیلاً للنعم الإلهیّة، وبما أنّ النعمة یتفضل بها الله فیطلبها منه ویعمل لنیل تلك النعمة التی هی من الله وبیده. الذین یعملون لكسب الثواب الاُخروی والأمان من العذاب یكون عملهم ذا قیمة أیضاً، الاّ أنّ قیمته أقل بالقیاس الى العمل الذی یؤتى به خالصاً لوجه الله.

الخلاصة: إنّ العمل فی الإسلام یكون ذا قیمة لو كان مرتبطاً بالله، بواسطة أو بدونها، والسبب فی منح النیة القیمةَ للعمل هو الإرتباط مع الله، فهذا الإرتباط یتمّ عن طریق النیة.

العلاقة بین الإیمان وقیمة الأفعال

العمل القیّم من وجهة نظر الإسلام هو العمل الذی یرتبط بالله تعالى من خلال النیة، ومثل هذه النیة التی تحقّق العلاقة مع الله تتأتّى من الذین یقومون بالعمل لأجل الله، أو خوفا من عذابه، أو أملاً فی ثوابه. إذنْ یجب أن یكونوا مؤمنین بالله والیوم الآخر، فما لم یؤمن الإنسان بالله، لا یمكن أن یقوم بعمل لأجله، وما لم یؤمن بیوم القیامة وهو یوم الحساب والثواب والعقاب لا یمكن أن یقوم بعمل رجاءَ ثوابه أو خوفاً من عذابه. وعلیه فانّ للإیمان دوراً أساسیاً، ومن أراد القیام بعمل رجاء ثواب الله أو خوفاً من عذابه علیه أن یؤمن بیوم القیامة وهو یوم الحساب والجزاء. هذه الآصرة بین العمل والإیمان من القوة بحیث یمكن القول بأن الذین یعملون رئاءً لا یؤمنون ـ فی الحقیقة ـ بالله ویوم القیامة، قال تعالى بهذا الشأن:

كَالَّذِی یُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَلا یُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْیَوْمِ الآْخِرِ.21

ان جملة وَلا یُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْیَوْمِ الآْخِرِ فی الآیة ترتبط بجملة: یُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ. بهذا النحو وهو أن منشأ عدم الرئاء فی العمل هو الإیمان بالله والیوم الآخر. ولو فرض انّ مؤمناً قام بعمل رئاءً ولم یكن الإیمان منشأً لعمله، أی إنّ ایمانه من الضعف ما یؤدی الى نسیانه اثناء العمل فلا یذكر الله ولا یوم القیامة، مثل هذا العمل یكون باطلاً وحراماً أحیاناً، ویترتب علیه العقاب بدل الثواب.

على هذا فانّ تحقّق النیة التی تقوّم القیمة الأخلاقیة أو تكون روحها یكون من وجهة نظر الإسلام مشروطاً بالإیمان، فلولاه لا تتحقّق تلك النیة ویفقد العمل القیمة. من هنا یجب القول: انّ أساس القیم فی الإسلام هو الإیمان بالله ویوم الجزاء وكما قلنا: إنّ النظام الأخلاقی فی الإسلام یرتبط بنظامه العقائدی ولا یمكن أن یستقل عنه.

فتوضّح جیّداً انّ جوهر القیمة هو النیة التی یجب ان تكون إلهیة، ومثل هذه النیة لا تتحقّق الاّ بالإیمان بالله ویوم القیامة، ویمكن استنتاج أنّ العمل یكون قیّماً فی حدّه المطلوب، بحیث یوجب السعادة فی الآخرة لو كان ناشئاً من الإیمان بالله والقیامة.

منشأ قیمة الإیمان

الآن وقد عُلم انّ منشأ القیمة فی أیّ عمل هو الإیمان یطرح هذا السؤال: من أین یكسب الإیمان فی ذاته القیمة وما هو منشؤها؟

نقول فی الإجابة: الإیمان كما یستفاد من ظاهر الآیات أمر قلبی واختیاری فی الوقت ذاته ویختلف عن العلم والعقیدة، لأنّ العلم قد یحصل للإنسان بنحو غیر اختیاری بخلاف الإیمان، ومثل هذا العلم والعقیدة لیس إیماناً فقد یكون شخص عالماً بشیء وكافراً به فی الوقت نفسه. وبدیهی أنّ هذا الكفر المقرون بالعلم بالحقانیّة هو أسوء بكثیر من الكفر عن جهل. على أیّة حال، فانّ الإیمان لیس عین العلم ویفترق عنه، كما قال تعالى:

وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا.22

إذنْ نستنتج أنّ الإیمان عمل اختیاری یتعلّق بالقلب ویمكن فی نفسه أن یدخل فی دائرة الاخلاق، لأنّ أیّ عمل اختیاری ـ جوارحیاً كان أو جوانحیاً ـ یدخل فی دائرة الاخلاق، فیكون من المناسب السؤال عن دافعه.

فی الإجابة عن السؤال یمكن القول: الدافع الذی یبعث الإنسان نحو الإیمان یمكن أن یكون نوعاً من العلم، العلم بأن الله حق وله نعم خالدة وعذاب أبدی. وقد یكون دافع الإنسان للإیمان هو بلوغ الكمال فی حالة اعتقاده انّ قبول ما یراه حقاً هو كمال لنفسه.

ولا إشكال فی أن یكون كلّ واحد من هذین دافعاً لایمان الإنسان، وبعد الایمان یصیر دافعاً لسائر الأعمال، وأساساً لقیمة أعمال الإنسان الاُخرى أی الأعمال التی تصدر عن الایمان.

نستنتج أنّ الدافع فی ایمان الإنسان هو العلم والمعرفة أو طلب الكمال، ولو كان كلّ منهما دافعاً للإیمان كان منشأً لقیمته أیضاً، وإذا افترضنا أنّ من یكون منشأ ایمانه هو الدافع الشیطانی فانّ ایمانه لا قیمة له جزماً، ولكن مثل هذا الافتراض غیر ممكن، لأنّ الإیمان كما قلنا أمر قلبی ومستور عن أنظار الآخرین ولذا لا سبیل للشیطان والرئاء والغشّ فیه، الاّ أن یكون المراد هو إظهار الإیمان فانّ ذلك لیس إیماناً بل نفاقاً، قال تعالى عن أمثال هؤلاء:

قالَتِ الأَْعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمّا یَدْخُلِ الإِْیمانُ فِی قُلُوبِكُمْ.23

إذنْ دافع المؤمن فی ایمانه إمّا هو علمه بأن الله أهل للإیمان به كما قال الامام علی(علیه السلام) فی مناجاته مع الله:

«وجدتك اهلاً للعبادة فعبدتك».24

ولسان حال المؤمن أمام الله تعالى هو: إلهی وجدتك اهلاً للإیمان فآمنت بك.

وإمّا هو رجاء الأجر الإلهی إزاء ایمانه، وإمّا هو الخوف من عذاب الله مقابل كفره. إذ یَعلم أنّه لو آمن بالله فانّه سوف یؤجره، وإن لم یؤمن فانّه سیعاقبه، وهذه طبعاً دوافع إلهیة أیضاً. وحتّى لو اعتقد أنّ كمال الإنسان یكمن فی التزامه بالحقیقة لو تعرَّف علیها ثمّ آمن بهذا الدافع، فانّه لا یقلل قیمة ایمانه، ولیس هذا استثناءً بل قاعدة عامّة، وكما قلنا آنفاً: إذا قام الإنسان ـ بصورة عامة ـ بعمل طلباً للكمال لم یفقد قیمته. نعم، إذا لم یعرف مصداق الكمال وهو الإیمان بالله فانّه لا یدخل الجنة طبعاً، ولكن فی هذا المورد یفترض أن یكون دافع طلب الكمال منشأً لایمانه، والإیمان هو الذی یُدخله الجنة، أی إنّ القیمة ـ فی الحقیقة ـ ترتبط بالإیمان، ودافع طلب الكمال لا یتنافى مع القیمة، إذنْ یكون الإیمان هو المنشأ لسعادة الإنسان.

منشأ القیمة حسب الرؤیة القرآنیة

تدلّ آیات كثیرة على أنّ الإیمان هو المصدر للقیمة أو السعادة، الاّ أنّ لسان حالها یختلف نوعاً ما، ویمكن القول بأن فی أغلب الموارد ـ أی أكثر من خمسین آیة ـ قد ذُكر الإیمان والعمل الصالح معاً حیث یقول تعالى:

الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ.

وفی آیات اُخرى ذُكر الإیمان وحده فی بعض الموارد، وذُكر العمل وحده فی موارد اُخرى، فیكون ذلك سبباً لهذه الشبهة وهی: انّ الإیمان وحده كاف وإن لم یترتب علیه عمل كما هو مقتضى اطلاق بعض الآیات، أو إن العمل وحده كاف وإن لم یكن مصدره الإیمان كما هو مقتضى الظهور البدوی لبعض الآیات.

تبویب الآیات

فی القرآن الكریم آیات ظاهرها كفایة الإیمان وحده أو العمل وحده، كما ذُكر الإیمان والعمل معاً فی آیات اُخرى، نستشهد هنا بنماذج من كلّ طائفة من الآیات المذكورة:

ـ الطائفة التی تذكر الإیمان والعمل الصالح معاً تكون ذات مضامین وصیغ مختلفة، ففی مضمون قال تعالى:

وَالَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّات تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهارُ خالِدِینَ فِیها أَبَداً.25

وفی مضمون آخر:

وَمَنْ یَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا یُظْلَمُونَ نَقِیراً.26

حیث أشارت أولاً الى القیام بالعمل الصالح ثمّ ذكرت الإیمان كشرط، وهذه المجموعة من الآیات التی تذكر الإیمان كشرط كثیرة.

وفی مضمون ثالث ذُكر الإیمان مع التقوى، كقوله تعالى:

وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَیْرٌ لَوْ كانُوا یَعْلَمُونَ.27

فی هذا النوع من الآیات ینطبق التقوى على العمل الصالح.

وفی آیات كثیرة ذُكر التقوى وحده كقوله تعالى:

وَلَدارُ الآْخِرَةِ خَیْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِینَ.28

أو: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِینَ غَیْرَ بَعِید.29

كما اعتبر الإیمان وحده فی آیات اُخرى شرطاً للسعادة ودخول الجنة، قال تعالى فی أوضحها:

وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِینَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنّات تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهارُ خالِدِینَ فِیها وَمَساكِنَ طَیِّبَةً فِی جَنّاتِ عَدْن وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ.30

هذه الآیة تستند الى محض الإیمان وتذكر النعم الإلهیّة العظیمة حتّى رضوان الله كأجر، والظاهر أنّها مطلقة وأعمُّ من القیام بعمل صالح أو عدمه.

ـ فی بعض الآیات استند الى محض العمل الصالح، كقوله تعالى:

لِلَّذِینَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِیادَةٌ وَلا یَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِیها خالِدُونَ.31

ظاهر هذه الآیة هو أنّ كلّ من عمل صالحاً سوف ینال أجره الجزیل، ولكن هذا الظاهر یمكن تأویله بالقول: انّ مقصود الآیة هو العمل الصالح المقارِن للإیمان، خاصّةً وقد قلنا سابقا بأنّ قیمة العمل الأخلاقی یتوقف على «النیة»، والنیة المطلوبة لا توجد بلا ایمان. وعلیه یمكن القول انّ «الحُسنى» فی القرآن الكریم هی العمل الصادر عن ایمان سابق.

ـ بعض الآیات تطرح طاعة الله ورسوله كملاك للسعادة، كقوله تعالى:

تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ یُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ یُدْخِلْهُ جَنّات تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهارُ خالِدِینَ فِیها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ.32

فی هذه الآیة وإن استند الى الطاعة وحدها لكن ینبغی الإلتفات الى أنّ طاعة الله والرسول تبتنی فی نفسها على الإیمان بالله ورسوله وتنشأ منه، والإیمان بالنبوة هو الأساس لهذا العمل الأخلاقی.

فی هذا السیاق أشرنا سابقاً الى ملاحظة هی أنّ طاعة الله قد تُطرح كموضوع للقیمة الأخلاقیة، وقلنا أنّ هذه الملاحظة تبتنی على حقیقتین:

الاُولى: انّ الأمر الإلهی كاشف عن الحُسن الذاتی للفعل.

الثانیة: انّ لطاعة الله بلحاظ العلاقة بین عبودیتنا وربوبیته ـ وهی من الشؤون الأخلاقیة الإسلامیة ـ موضوعیة فی ذاتها.

ـ فی مقابل هذه الآیات ثمّة آیات عدیدة تدلّ على أنّ الكفر بالله والأنبیاء(علیهم السلام)والقیامة یستوجب الخسران والعذاب الأبدی، ونظراً الى أنّ ذكرها یطول نغضّ الطرف عن ذكرها هنا.

ـ هناك آیات تطرح طاعة الشیطان وعناوین كالظلم والطغیان وما شاكلهما كعوامل للفساد، وتدلّ على أنّ ممارسة السیئة والظلم والطغیان موجب للدخول فی جهنم. الكثیر من هذه العناوین یبیّن هذه الحقیقة وهی أنّ نشوءها عن الكفر أو ملازمتها لعدم الإیمان هو الذی یوجب العذاب الدائم.

وعلى أیّة حال فاذا اعتبرنا الكفر جحوداً ـ بمعنى الانكار العمدی ـ فانه قد ارتكب معصیة بسبب عدم ایمانه، ولكن إذا كانت معصیته ناشئة من ضعف الایمان فانّ هذه الآیات لا تتعرض له.

ـ ثمّة آیات تؤكّد على الإیمان كشرط للقیمة الأخلاقیة وتدلّ على أن أعمال الكفار لا قیمة لها، قال تعالى:

إِنَّ الَّذِینَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِیَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَیْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ * مَثَلُ ما یُنْفِقُونَ فِی هذِهِ الْحَیاةِ الدُّنْیا كَمَثَلِ رِیح فِیها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْم ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ یَظْلِمُونَ.33

ومَثَلُ الَّذِینَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَماد اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّیحُ فِی یَوْم عاصِف لا یَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَیْء ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِیدُ.34

ووَالَّذِینَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَراب بِقِیعَة یَحْسَبُهُ الظَّمْ آنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ یَجِدْهُ شَیْئاً.35

ووَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَل فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً.36

وكَالَّذِی یُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَلا یُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْیَوْمِ الآْخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوان عَلَیْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا یَقْدِرُونَ عَلى شَیْء مِمّا كَسَبُوا.37

نستنتج من هذه الآیات أنّ العمل وإن كان صالحا واتّصف بحُسن فعلی إنّما یكون سبباً لسعادة الإنسان إذا اتّصف بحُسن فاعلی أیضاً وكان منشؤه النیة الخالصة والإیمان.

تجمیع الآیات

للجمع بین هذه الآیات إمّا أن نخصّص بعضها ببعض بهذا النحو، وهو أنّ الإیمان والعمل نافعان بشرط تقارنهما، وإمّا أن نجعل أحدهما شرطاً للآخر بأن نقول مثلاً: الإیمان نافع إذا اقترن مع العمل أو نقول: إذا كان منشأ العمل هو الإیمان فانّه نافع لا ما إذا كان فاقداً للإیمان. ولكن لو تأملنا فی الآیات المذكورة وجدناها ـ كما هو لسان بعض هذه الآیات آبیةً عن مثل هذه التخصیصات. وفی الحقیقة حینما نتأمّل ندرك أنّ الموارد التی جاء فیها الإیمان مع العمل كان الإیمان مقتضیا للعمل، وفی الظروف الإعتیادیة لا یمكن تحقّق إیمان بدون عمل، لأنّا قلنا انّ حقیقة الإیمان لیست العلم فقط، بل یلزم معه تسلیم الإنسان نفسه لله وعزمه على الإلتزام بمستلزمات ذلك العلم، بدلیل انّ الإیمان أمر اختیاری، فی حین أنّ العلم لیس اختیاریاً بالضرورة.

أجل، انّ الإیمان یتحقّق فی حالة جعل الإنسان قلبه مستعدّاً للتسلیم بألوهیة الله تعالى اختیاراً ثمّ التزامه بمستلزماتها، وعلیه لا یصحّ افتراض كون الإنسان مؤمناً دون أن یعمل، لأنّ العمل ثمرة الإیمان، ففی حالة توفّر شروطه الخارجیّة وتوجه التكلیف للإنسان یقوم بأدائه. فمثلاً: إنّ الإیمان یستلزم أداء الصلاة ولكن بشرط دخول وقتها، ویتوجه الحكم الإلهی بوجوب الصلاة الى المكلف. فی هذه الحالة یكون مقتضى الإیمان هو أن یعمل الإنسان بواجب العبودیة لله من خلال أداء الصلاة.

على هذا الأساس یمكن افتراض موارد یتخلف فیها الإیمان عن العمل، وهی الموارد التی یتحقّق فیها الإیمان ولكن لا یصدر العمل من الإنسان لعدم توفّر الشروط الزمانیة والمكانیة وغیرها لإنجاز العمل، من قبیل أن یؤمن شخص قبل الظهر ثمّ یموت قبل الزوال ولم یدخل وقت الصلاة بعدُ. إنّه لم یقم بعمل بسبب عدم حلول ظرف العمل، لا أنّ ایمانه قاصر عن التأثیر علیه ودفعه نحو العمل، فهو كالمؤمن الذی یموت قبل حلول موسم الحج، فی هذه الحالة یكون قد ترك الحج ولكن بدون داع لتركه لكی یخالف الإیمان، بل لأنّ وقته لم یحضر بعد ولم یمهله العمر.

فی مثل هذه الموارد التی لم یؤدِّ الإنسان فیها أیَّ عمل ولكنه كان على ایمان بدون أن یعلم أنها اللحظات الأخیرة من عمره، وبعد الإیمان مات فجأةً بدون عمل وعبادة یجب القول: إنّ هذا الإیمان ـ وإن لم یكن منشأً لعمل صالح ـ موجب لسعادة الإنسان، وتدلّ الآیات القرآنیة بانضمام الروایات إلیها على أنّ مثل هذا الإنسان لیس من أهل العذاب، ویشمله اطلاق الآیات القائلة بأنّ المؤمنین یدخلون الجنة.

ویمكن القول: انّ الآیات التی تذكر العمل بعد الإیمان ناظرة الى الحالات العادیة، أی الى الذین آمنوا وتیسّرت لهم شروط العمل بمقتضى الإیمان من قبیل القدرة، والوقت، والإستطاعة وغیرها ثمّ عملوا بمقتضى إیمانهم. والآیات التی تذكر الإیمان فقط دون الإشارة الى العمل ناظرة الى الموارد التی یتخلف فیها الإیمان عن العمل ویكون موجباً لسعادة الإنسان بدون عمل، الذین یؤمنون ولكن لا یجدون مجالاً ولم یمهلهم العمر للعمل، أو یجدون مجالاً ولكن لا قدرة لهم، أو یجدون المجال والقدرة ولكن یعیشون حالة التقیة بترك العمل الذی یقتضیه الإیمان. قال تعالى فی شأنهم:

إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْیمانِ.38

فقد ابتُلی مؤمنون بأعداء ألدّاء فأخفَوا ایمانهم ولم یقوموا ظاهراً بالأعمال المطلوبة منهم حفظاً لحیاتهم وأعراضهم وأموالهم. الاّ أنّ هذا لا یمسّ سعادة الإنسان بضرر، إذْ إنّ ترك هذا العمل لم یكن لعدم الإیمان، بل كان ایمانه هو السبب لترك العمل واقتضى عدم مزاولة أعمال تضره، وعلیه لو مات على هذه الحالة أو استشهد على ید المشركین فانّ ایمانه یكون موجباً لسعادته لا محالة. نستنتج انّ ترك العمل یكون مضراً فی حالة توفّر الشروط والمجال لادائه، وفی مثل هذه الحالة إذا استنكف الإنسان عن ادائه عدّ عاصیاً وخسر خسراناً مبیناً.

طرق معالجة الذنوب

لو سئل: هل بالإمكان جَبر الضرر والخسارة التی تلحق الإنسان إثر تركه لواجب أم لا؟

فی الإجابة یمكن القول: نعم، یمكن ذلك فی بعض الحالات، وبعبارة اُخرى: انّ جبر هذه الخسائر ذو شروط وقد ذكرت فی القرآن الكریم عدة أمور لتكفیر الذنوب من قبیل:

1 ـ اجتناب الذنوب الكبیرة، قال تعالى:

وَالَّذِینَ یَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإِْثْمِ وَالْفَواحِشَ.39

فالذین یجتنبون الذنوب الكبیرة والفواحش یكفّر الله تعالى ذنوبهم الصغیرة (الصغائر) وتشملهم النعم الإلهیّة ویدخلون الجنة.

كما قال سبحانه فی آیة اُخرى:

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَیِّئاتِكُمْ.40

2 ـ التوبة، وهی عمل صالح فی نفسها وتستوجب غفران ذنوب التائب، قال تعالى:

أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَة ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ.41

3 ـ الشفاعة بحق المؤمن الذی ارتكب عملاً قبیحاً أو ترك واجبا مع القدرة على ادائه، ثمّ رحل عن الدنیا بدون توبة أو تكفیر وجَبر للذنوب، ولكنه استجمع شروط الشفاعة فانّه یُغفر له بالشفاعة أیضاً ویدخل الجنة، وإن لم تتوفّر لدیه شروطها فلا ینبغی قطع رجائه ویأسه من رَوح الله أیضاً، فربما شملته العنایة الإلهیة ولم یُعاقَب لسبب من الأسباب كأن یكون مستضعفاً، قال تعالى:

وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَِمْرِ اللهِ إِمّا یُعَذِّبُهُمْ وَإِمّا یَتُوبُ عَلَیْهِمْ وَاللهُ عَلِیمٌ حَكِیمٌ.42

وممّا مر یمكن القول بأنّ آیات الإیمان لیست بصدد التقنین الدقیق لشروط السعادة للإنسان، بل ترید بیان أهمیة الإیمان والعمل الصالح محضاً، وبملاحظة آیات اُخرى یتحصل من مجموعها أنّ الإیمان هو العامل الأساس للسعادة، والإیمان فی نفسه عمل قلبی، كما قد تدلّ علیه عبارة (الإیمان عمل كله) الواردة فی بعض الروایات43 ولعل المراد من الروایة ـ فی احتمال آخر ـ هو أنّ الإیمان یستلزم العمل فعلى المؤمن القیام بجمیع الأعمال التی یأمر بها الإیمان، وعلى كلّ حال فانّ لسان الروایة هو لسان الإقتضاء، وقد ینفصل عن العمل الصالح بدون أن یُلحق ضرراً بسعادة الإنسان.

ما هو متعلَّق الإیمان؟

هناك سؤال: ما هو متعلَّق الإیمان؟ ولأیّ الأمور یكون الإیمان منشأً للقیمة الأخلاقیة؟

بما أنّ الإیمان أو المؤمن قد ذُكرا على نحو الاطلاق فی الكثیر من الآیات ولم یُذكر متعلّقهما، كقوله تعالى:

الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ44

وقوله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْیِیَنَّهُ حَیاةً طَیِّبَةً45

أو قوله: وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ46

أجل، بما أنّ الإیمان قد ذُكر مطلقاً فی هذه الآیات، وهناك من یستغلّها لأغراض خاصّة فمن الضروری أن نجیب عن هذا السؤال للحیلولة دون ذلك، وهو واضح لدى العارفین بالقرآن الكریم، ولكن بما أنّ المغرضین والمنحرفین ومن أجل الوصول الى اهدافهم یثیرون الشكوك حول أوضح القضایا وأحكم الآیات ویؤوّلونها حسب أهوائهم، فعلینا تبیان متعلَّق الإیمان استناداً الى القرآن الكریم نفسه.

قال بعض: إنّ المراد من الإیمان الذی استُند إلیه فی القرآن هو الإیمان بالهدف. فیكون كلّ مؤمن بهدفه مصداقاً لهذه الآیات، ولو سئل ما الهدف؟ لقال: تأسیس مجتمع لا طبقی، حتّى عبّروا عنه بـ (المجتمع اللاطبقی التوحیدی) ودافعهم فی مثل هذا التفسیر والتسمیة هو أن یؤمن الإنسان ویعتقد بأن مثل هذا المجتمع اللاطبقی سوف یتحقق. ولكی نسدّ الطریق أمام مثل هذه التشكیكات الشیطانیة یلزم تحدید متعلَّق الإیمان بهدی من القرآن الكریم نفسه.

حینما نتأمّل القرآن فی هذا المجال نلاحظ فی الكثیر من الآیات تعبیرات مختلفة عن الإیمان بالله، كقوله تعالى:

مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِِ47

أو وَمَنْ یُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ48

أو قوله: إِنَّ الَّذِینَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ49

أو قوله: وَمَنْ یُؤْمِنْ بِاللهِ.50

وفیها تصریح بلفظ الإیمان وذكر لمتعلقه وهو (الله). مثل هذه الآیات بإمكانها أن تفسر الآیات المطلقة جیّداً، وتبیّن متعلَّق الإیمان فی القرآن الكریم. وعلیه فانّ الإیمان بـ (الله) سیكون من مصادیق ومتعلقات الإیمان المذكور بشكل مطلق بلسان القرآن ومطلوباً وقیّماً.

وفی موارد كثیرة من القرآن ذُكر (الإیمان بالله وبالیوم الآخر) متقارنین:

مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْیَوْمِ الآْخِرِ.51

وفی بعض الموارد ذُكر الإیمان بما أنزل على النبی(صلى الله علیه وآله وسلم):

وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّد وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ.52

وفی بعض الآیات ذُكر (الإیمان بالله ورسله):

وَالَّذِینَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ.53

وفی آیتین ذكرت أمور اُخرى كمتعلّقات للإیمان غیر الإیمان بالله ورسله، ویمكن القول: إنّهما بلحاظ ذكر متعلقات الإیمان أشمل الآیات كافة، قال تعالى فی إحداهما:

وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْیَوْمِ الآْخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِیِّینَ.54

وقال فی ثانیهما:

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَیْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.55

المستفاد من مجموع هذه الآیات هو إمكانیة جعل متعلقات الإیمان على غرار التبویب الذی قام به العلماء العظام وهو التوحید، والنبوة والمعاد بصفتها اصول العقیدة. أما الكتب والرسل والرسول الخاصّ والنبیون فقد قُصدوا فی أصل النبوة. والملائكة بلحاظ كونها الواسطة فی الوحی ونزول الكتاب على الأنبیاء ستكون متعلّقاً للإیمان أیضاً. وعلیه یمكن القول بأنّ المراد من الإیمان فی القرآن الكریم هو الإیمان بالاصول الثلاثة، وأهمّها هو الإیمان بالله بحیث لو كان جامعا وكاملا لوفّر الإیمان بالأصلَین الآخَرین أیضاً. وبما أنّ الله رب الإنسان ویهدیه بمقتضى ربوبیته، وتتمّ إلهیة الإله للإنسان عن طریق الوحی فسیكون الإیمان بالله متضمناً للإیمان بالنبوة.

إذنْ ینشأ الإیمان بالنبوة من الإیمان بالتوحید، كما أنّ مقتضى العدل الإلهی هو التفریق بین المؤمن والكافر والمتقی والفاسق فی الأجر والجزاء. ومن المتیقن به أنّ إثابة الصالحین وعقاب العاصین غیر ممكن الاّ فی عالم الآخرة، وعلیه فانّ الإیمان بالله وعدله یتضمن فی نفسه الإیمان بالمعاد.

الكفر، الشرك، النفاق

وهناك آیات كثیرة تُبیّن متعلّقات وموارد الكفر التی تستوجب هلاك الإنسان وحبط الأعمال، من قبیل الكفر بالله ورسوله،56 والكفر بالآخرة والمعاد.57

وفی موارد ركّزت على الشرك كأساس للقیمة السلبیة وذلك لأن الإعتقاد بالشرك یقترن مع انكار التوحید.58

وفی الكثیر من الآیات طُرح التكذیب بآیات الله بدل الكفر أو كتفسیر له، ویرجع ذلك فی الواقع الى انكار النبوة.59

وقد ذُكر الكفر بآیات الله مقارناً للكفر بالقیامة فی بعض الموارد.60 ویمكن القول انّ الآیة الأشمل لذكر موارد الكفر هی التی ذكرت مقابل الآیات الأكثر شمولیة لذكر موارد الإیمان، وهی الآیة 136 من سورة النساء، قال تعالى:

وَمَنْ یَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْیَوْمِ الآْخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِیداً.61

ویمكن القول انّ هذه الأمور تشترك فی حقیقة واحدة، وعلى أساسها قال تعالى فی عبارة:

وَمَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الإِْسْلامِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ.62

ثمّ إنّ النفاق لیس شیئاً غیر الكفر فی الباطن والإیمان فی الظاهر، ونظراً لتوقف السعادة والشقاء على الحقائق الباطنیة یُعدّ المنافقون الذین یضمرون الكفر من زمرة الكافرین، بل هم أسوء من الكفار بلحاظ تنقّبهم وتترّسهم خلف اسلامهم الظاهری، فلا یعرفهم الناس ویكون ضررهم أشدّ على المجتمع الإسلامی. من هنا وردت آیات كثیرة تدلّ على أنّ المنافقین معذَّبون أشدَّ العذاب من قبیل قوله تعالى:

إِنَّ الْمُنافِقِینَ فِی الدَّرْكِ الأَْسْفَلِ مِنَ النّارِ.63

وإِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِینَ وَالْكافِرِینَ فِی جَهَنَّمَ جَمِیعاً.64

وقد اتضح بما ذكرنا أنّه لا یعتبر النفاق أمراً منفكّاً عن الكفر، فانّ الموجود فی الحقیقة هو إما الكفر أو الإیمان، لأن ما یمنح القیمة الأخلاقیة هو الواقع النفسیّ الذی یتلخّص فی الحقیقتین المذكورتین، ولذا یُعتبر المنافقون من زمرة الكفار.

ومن منظار آخر یمكن القول: إنّ متعلَّق الإیمان هو التوحید والنبوّة، ولهذا فانّ من نطق بالشهادتین یُعدُّ مسلماً. لكن ربّما یلتبس الأمر على بعض الناس فیظنّ أنّ الإقرار بهذین الأصلین یكفی للفوز بالسعادة الأبدیة نتیجة للخلط بین الأحكام الظاهریة والمسائل المعنویّة والواقعیة. أمّا الروایات القائلة بأنّ من نطق بالشهادتین یُحترم ماله ویمكن الزواج منه ویرث المسلم، وبجملة واحدة إنّه مسلم وله حكمه فانّها بصدد بیان حكم فقهی ظاهری شُرّع لتحقیق مصلحة المسلمین فی هذا العالم، ولا علاقة له مع الجوانب المعنویّة والسعادة الخالدة للإنسان. وحتّى إذا أقرّ شخص ـ إضافةً الى النطق بالشهادتین ـ بأحكام الإسلام كلها وعمل بها، ولكنه لم یؤمن باطناً بالرسل والكتب والملائكة فانّه محروم بلا شك من أیّة سعادة وإن اُجری حكم الإسلام بحقه فی الظاهر وله حكم المسلم فی الطهارة والتوارث والتزاوج، وحفظت ذمته وماله ونفسه وعرضه وشرفه، لأنّ هذه أحكام فقهیة اجتماعیة، وتتضمن مصلحة المجتمع ولا علاقة لها مع ما یبحث عنه هنا من أسباب السعادة والشقاوة الحقیقیین. إذنْ ملاك السعادة الأبدیة للإنسان هو ایمانه القلبی ولا تأثیر للنطق بالشهادتین على ذلك، یقول القرآن بهذا الشأن:

قالَتِ الأَْعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمّا یَدْخُلِ الإِْیمانُ فِی قُلُوبِكُمْ.65

نعم، هؤلاء یتمتعون بآثار اسلامهم، ولكنهم محرومون من ثمار الإیمان.

الإیمان یجب أن یكون مطلقاً

الإیمان بالمتعلقات التی ذكرناها سابقاً، من قبیل: الله عز وجل، والملائكة، والكتب، والرسل ویوم الجزاء لابدّ أن یكون مطلقاً، فمن یقول: آمنت بنبوة رسول الإسلام(صلى الله علیه وآله وسلم) ولا أؤمن بنبوة سائر الأنبیاء، أو یقول: اعتقد بجمیع الأنبیاء ولكنی أرفض الحكم الفلانی الذی جاء به أحد الأنبیاء(علیهم السلام) لم یكفِه ذلك لأن یكون مؤمنا بل سیكون كافراً. فالإیمان یجب أن یكون مطلقاً بجمیع الأنبیاء(علیهم السلام) وجمیع ما أنزل الله عزّ وجلّ ولا یقبل التبعیض. ومن یعتقد بالتبعیض فی هذه الموارد لم ینفعه ذلك الإیمان ولا تأثیر له فی الوصول الى سعادته الاُخرویة. بهذا الشأن قال تعالى فی القرآن:

أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض فَما جَزاءُ مَنْ یَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْیٌ فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا وَیَوْمَ الْقِیامَةِ یُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِل عَمّا تَعْمَلُونَ.66

وقال أیضاً:

إِنَّ الَّذِینَ یَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَیُرِیدُونَ أَنْ یُفَرِّقُوا بَیْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَیَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْض وَنَكْفُرُ بِبَعْض وَیُرِیدُونَ أَنْ یَتَّخِذُوا بَیْنَ ذلِكَ سَبِیلاً * أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِینَ عَذاباً مُهِیناً.67

ولعل السبب فی استحقاق المعتقد بالتبعیض فی ایمانه أشدَّ العذاب هو أنّ من ثبتت لدیه رسالة نبی وصحة كتاب سماوی ثمّ أنكر بعضه فانّ عامله هو الجحود والعناد، فمن الطبیعی أن یتعرض لأشد العذاب، لأنّ الحقیقة قد توضّحت لدیه بنحو كامل. وعلى أیّة حال، فانّ ما یوجب السعادة هو الإیمان المطلق الخالی من كلّ تبعیض بالنسبة للأنبیاء(علیهم السلام) ومضمون رسالتهم، كما قال تعالى:

وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَد مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا.68

وما ذكر ـ طبعاً ـ لا یعنی إمكان تنفیذ شریعة كلّ نبی فی كلّ عصر، ولم یدَّعِ ذلك أیُّ نبی من الأنبیاء(علیهم السلام)، بل المراد هو أنّهم یصدّقون بنبوته ورسالته من جانب الله، ولا یتهرّبون من التصدیق برسالته بذریعة انّه من بنی اسرائیل، ولا یتهرّب بنو اسرائیل من التصدیق برسالة نبی الإسلام(صلى الله علیه وآله وسلم) بذریعة انّه من العرب. وعلیه فانّ الله قد بعث رسلاً من بین كلّ قوم على طول التأریخ، وفی حالة العلم بكون شخص رسولاً لله تعالى وجب التصدیق به.

بهذا الشأن وصف الله المتقین بقوله:

وَالَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَیْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ.69

و من الواضح أنه لا یجوز العمل بحكم منسوخ فی شریعة لأتباع تلك الشریعة فضلاً عن الأحكام المتعلقة بالشرائع السابقة والمنسوخة فی اللاحقة.

ینبغی الإلتفات الى هذه الملاحظة أیضاً وهی: انّ وجوب الإیمان بالكتب السماویة لا یعنی الإعتقاد بكون التّوراة والإنجیل المحرَّفین حالیاً كلام الله،بل إنّ النص الحقیقی للتّوراة والإنجیل المنزَلین من عند الله حق ویجب الإیمان به ولكنه غیر موجود فی أیدی الناس ومجهول لدینا.

إذنْ یجب أن یكون الإیمان مطلقاً بالنسبة الى جمیع ما أنزل الله وبدون تقیید.

مراتب الإیمان والكفر

ینبغی القول: انّ الإیمان ـ وهكذا الشرك والنفاق ـ ذو مراتب ودرجات تتناسب مع كلّ مرتبة، فالإنسان إمّا یسمو أو یتسافل، وینال درجات من الجنة ومقاماتها أو درَكات من جهنم. وعلیه فانّ الإیمان وإن كان ضعیفا هو أول وأیسر ما یُتقبّل من الإنسان ویستوجب سعادته، ولكن لابدّ لكلّ مؤمن أن یحظى بمراتب أعلى من الإیمان، والقرآن الكریم یصرح أیضاً بأن الإیمان قابل للازدیاد، قال تعالى:

هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ السَّكِینَةَ فِی قُلُوبِ الْمُؤْمِنِینَ لِیَزْدادُوا إِیماناً مَعَ إِیمانِهِمْ.70

وهكذا الكفر والنفاق. ومن الطبیعی أن یقارن صاحب المرتبة الاُولى للإیمان مراتب من الكفر والشرك، وقد أشار عزّ وجلّ الى هذه الحقیقة فی القرآن بقوله:

وَما یُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ.71

وبملاحظة المعنى الوسیع للتوحید فی القرآن الكریم ـ كما مرّ ـ نعرف أنّ تحصیل مراتب الإیمان المتكاملة لا یتیسّر لأغلب الأشخاص وذلك بأن لا یخاف ولا یرجو الاّ الله تعالى حتّى یبلغ ذروة التوحید الذی یختص بأولیاء الله الذین لا یرَون وجوداً مستقلاً لغیر الله تعالى.

فعلى ضعاف الإیمان الذین اختلط ایمانهم بالشرك ولم یبلغوا درجة التوحید الخالص السعی الجاد للتحرّر من الشرك والسیر على نهج التوحید.

ثمّ إنّ للكفر والنفاق ـ كالإیمان ـ مراتب مختلفة شدّة وضعفاً. وقد أطلق القرآن لفظ (المنافق) على أشخاص یكثر أمثالهم فی المجتمع الإسلامی كالذین كانوا یتخلفون عن الجهاد، ویصدّهم التعلّق بالدنیا عن العمل بواجباتهم وكانوا یصلّون وهم كسالى:

وَلا یَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاّ وَهُمْ كُسالى وَلا یُنْفِقُونَ إِلاّ وَهُمْ كارِهُونَ.72

والذین قال عنهم القرآن الكریم:

وَیُحِبُّونَ أَنْ یُحْمَدُوا بِما لَمْ یَفْعَلُوا.73

وهذه من علامات النفاق التی تلاحظ فی أوساط المؤمنین أیضاً.

الحاصل أنّ هناك مراتب من الكفر والشرك والنفاق تقارن مراتب الإیمان.

ولعلّك تسأل: كیف یمكن تقارن الكفر مع الإیمان؟

فی الإجابة نقول: لهذه الحالة أسباب مختلفة، أهمُّها أمران:

1 ـ عدم تكامل المعرفة، أی إنّ عدم وصول الإنسان الى بعض مراتب التوحید أو بعض مقامات الأنبیاء(علیهم السلام) وأولیاء الله ناشئ من ضحالة معرفته وقصوره فی طریق تحصیل هذا العلم فلا یتحصل لدیه، فیبقى ایمانه ضعیفا وناقصا.

2 ـ عدم تزكیة النفس وتهذیب الأخلاق الذی له دور أهمُّ ویحول دون اهتمام الإنسان بما فهمه وعرفه. كالنصارى الذین جاؤوا الى الرسول الأكرم(صلى الله علیه وآله وسلم)وتحدّثوا معه عن عقیدتهم، الاّ أنّهم لم یؤمنوا رغم أنّهم أُفحموا فی البحث وعجزوا عن الكلام، فقال(صلى الله علیه وآله وسلم) عنهم بأنّهم رغم معرفتهم لم یؤمنوا لإدمانهم شرب الخمر وأكلهم لحم الخنزیر، إذ كان علیهم لو أسلموا أن یتركوا ذلك، الاّ أن إدمانهم لذینك الأمرین حالَ دون اسلامهم. ومن المعلوم أن لا خصوصیة للخمر ولحم الخنزیر، فانّ الإنسان كلّما بدا له التعارض بین مقتضى أمر ثابت لدیه وبین أهوائه ورغباته المتنوعة فانّ الأخیرة تحول دون ایمانه بتلك الحقیقة الثابتة، سواءً أكان المیل الى الخمر ولحم الخنزیر أو شیء آخر. وقد كانت هذه الأهواء والتعلقات المادیّة على مرّ التأریخ هی العامل الأساس لمعارضة الأنبیاء من قبل مناوئیهم حیث كانت أهواؤهم فی الأموال والرئاسة وغیرها تتعرض للخطر ببعثة الأنبیاء(علیهم السلام) فانّهم وإن كانوا یتمّون الحجة على الناس إلا ان هناك اشخاصاً من بین الناس فی قلوبهم مرض یمنعهم من الایمان.

والتلوث الأخلاقی لا یكون مانعاً من ایمان الإنسان أو عاملاً على ضعفه فحسب، بل قد یكون سبباً لسلبه، فمع ایمانه وعزمه على العمل بمقتضاه یقع تدریجیّاً فی ظروف وأجواء تتوفّر فیها ما یثیر الشهوات ودوافع العصیان فیرتكب المعصیة ظانّاً أن لا تأثیر للمرّة والمرتین، فیتدرّج حتّى یصل حدّاً یفقد فیه ایمانه كله. وقد حذّر الله سبحانه فی القرآن الكریم الإنسانَ من هذا الخطر. والعدید من الآیات یخبر عن وجود ترابط عامّ بین الإیمان والعمل بهذا النحو وهو أنّ الإیمان یكون منشأً للعمل الصالح، وفی المقابل یكون العمل الصالح عاملاً على تعمّق الإیمان، كما أنّ ارتكاب العمل القبیح یستتبع سلب الإیمان.

لعل هناك من یظنّ بأن رابطة الإیمان والعمل هی التفاعل المتقابل الذی یطرح فی الفكر الشیوعی وفلسفة الدیالكتیك بوصفه أحد اركانه الأربعة، أو یظنّ انّ بالإمكان أن یكون أمران علة ومعلولا بنحو دوری.

للإجابة عن الإشكالین یمكن القول: بمزید من التأمّل نجد انّ مرتبة الإیمان التی هی منشأ العمل والسلوك لا تتأثّر بذلك السلوك، والإیمان الذی یوجده هذا السلوك هو مرتبة اُخرى من الإیمان ویختلف عن ذلك الإیمان الذی كان علة له. بعبارة اُخرى انّ أصل الإیمان یستوجب مجموعة من الأعمال والسلوك، وتعمل تلكم الأعمال والسلوك على تعمق الإیمان، لا أنّ أیّ عمل یؤثّر فی كلّ ایمان ولا أیّ ایمان یؤثّر فی كلّ عمل.

وكیف كان یستفاد من آیات كثیرة تأثیر الإیمان على العمل سیّما الإیمان بالآخرة، لأنّ عالم الآخرة عالم الثواب والعقاب والحساب والكتاب، ویجب أن ینال الناس ثواب وعقاب أعمالهم كی یتحقّق العدل الإلهی، وهذا فی نفسه برهان یثبت للعقل وجود عالم الآخرة. فمن لا یؤمن بالثواب والعقاب والحساب والكتاب ولا یؤمن بالآخرة یفعل ما یشاء، ولا یوجد ما یمنعه من أعمال ویحثّه على أعمال اُخرى، من هنا فانّ الأخلاق البعیدة عن الإیمان تكون عقیمة.

والقیم الأخلاقیة فی الإسلام قد بُنیت على حقائق عقائدیة ثابتة وغیر متغیرة، وفی التربیة الإسلامیة یُعتمد بصورة أشدَّ على العناصر التی تؤثر على حركة الإنسان. فانّ المحرك الرئیس للإنسان فی سلوكه الاختیاری هو الأمل بخیر یعود علیه، أو الهروب من الخسائر والشرور التی تهدّده، ولذا جرت تربیة الأنبیاء(علیهم السلام)بصورة عامّة على أساس الانذار والتبشیر:

رُسُلاً مُبَشِّرِینَ وَمُنْذِرِینَ.74

الواقع أنّ الخوف والرجاء هما العاملان فی تحقّق الأفعال الاختیاریة للإنسان، والإسلام مع اعترافه بهذه الحقیقة یسعى لرفع مستوى الوعی لدى الإنسان بأن یربط خوفه ورجاءه بمتعلّقات قیّمة، كالخوف من الحرمان من لقاء الله وجوار رحمته أو رجاء الوصول الیه.

والحاصل: ما یمكن أن یكون دافعاً للإنسان نحو العمل هو الإعتقاد بوجود الحساب والثواب والعقاب كما قال تعالى:

إِنَّ الَّذِینَ یَضِلُّونَ عَنْ سَبِیلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِیدٌ بِما نَسُوا یَوْمَ الْحِسابِ.75

انّهم إمّا لم یعتقدوا بالمعاد من البدایة أو نسَوه أثناء العمل، وفی المقابل یكون الذین یعتقدون بوجود الحساب هم من أهل الجنة ولهم عیشة راضیة لأن الإعتقاد والإیمان بالآخرة یسوقهم الى الأعمال الصالحة واجتناب الأعمال السیئة. وفی الكثیر من الموارد حینما یعظ القرآن أو یأمر الناس بأعمال یعلّق الإنتفاع بتلك المواعظ أو العمل بتلك الأوامر على الإیمان بالله ویوم الجزاء، من قبیل قوله تعالى:

ذلِكَ یُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ یُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْیَوْمِ الآْخِرِ.76

فبدون الإیمان لن تنفع هذه المواعظ.

ولَقَدْ كانَ لَكُمْ فِی رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ یَرْجُوا اللهَ وَالْیَوْمَ الآْخِرَ77

أمّا الذی لا یؤمن بالله ویوم القیامة فلا دافع له فی التأسی بالنبی(صلى الله علیه وآله وسلم) كما قال تعالى:

إِنَّ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالآْخِرَةِ زَیَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ یَعْمَهُونَ * أُوْلئِكَ الَّذِینَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِی الآْخِرَةِ هُمُ الأَْخْسَرُونَ.78

ونسبة التزیین فی هذه الآیة الى الله تكون على أساس مبنى توحیدی حیث ینسب كلّ تأثیر إلیه تعالى، أی إن ربوبیة الله ینبغی لا أن تنسى فی أیّ مجال.

وقوله:

إِنَّ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالآْخِرَةِ زَیَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ.

یدلّ على وجود علاقة بین عدم الإیمان (الموضوع) وزیّنا لهم (المحمول)، وحسب قول العلماء یكون تعلیق الحكم على الوصف مشعِراً بالعِلیّة.

إذنْ عدم الإیمان بالآخرة أصبح منشأً لأن یكونوا عمیاناً وتتزیّن أعمالهم فی انظارهم. ویقول فی موضع آخر:

وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالآْخِرَةِ.79

فهناك علاقة بین الإیمان بالآخرة والرغبة فی ذكر الله، فلولا الإیمان لا تحصل الرغبة أیضاً، وقد جاء فی موضع قرآنی آخر:

وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِیّ عَدُوًّا شَیاطِینَ الإِْنْسِ وَالْجِنِّ یُوحِی بَعْضُهُمْ إِلى بَعْض زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما یَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغى إِلَیْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالآْخِرَةِ.80

فالذین لا یؤمنون بالآخرة یُخدعون بهؤلاء الماكرین فلا یستمعون إلیهم فحسب، بل یعشقون أقوالهم الخادعة، ولو كانوا مؤمنین بالآخرة لما فعلوا هكذا. إذنْ بیّن الله سبحانه نمط العلاقة بین الإیمان والعمل الصالح، وهكذا بین عدم الإیمان والعمل السیئ وبذلك یثبت تأثیر الإیمان فی العمل، كما أن آیات اُخرى تُبیِّن من جانب آخر تأثیر العمل الصالح على تجذّر الإیمان وبقائه أو تأثیر الأعمال السیئة فی خموله وفنائه، من قبیل قوله تعالى:

فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِی قُلُوبِهِمْ إِلى یَوْمِ یَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا یَكْذِبُونَ.81

كان سابقاً مؤمنون فقراء فعاهدوا الله على انفاق بعض أموالهم فی سبیل الله إنْ أنقذهم من الفقر، ولكنهم حینما تخلصوا من الفقر واغناهم الله لم یوفوا بعهدهم مع الله ولم یعملوا بمقتضاه فعاقبهم الله هكذا:

فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِی قُلُوبِهِمْ إِلى یَوْمِ یَلْقَوْنَهُ.

كان هذا العمل سبباً لزوال الایمان من قلوبهم وظهور النفاق فیه وترسُّخه وتجذُّره الى یوم القیامة.

وهناك آیة اُخرى فی هذا الشأن حیث یقول تعالى:

ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِینَ أَساؤُا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآیات اللهِ وَكانُوا بِها یَسْتَهْزِؤُنَ.82

انّ أعمالهم السیئة وتلوّث أرواحهم بالمعاصی أورثت استدراجهم حتّى سُلب الإیمان من قلوبهم فلم یكذّبوا بآیات الله فحسب، بل أخذوا یستهزئون بها.

ویمكننا أن نستفید من هذه الآیة أنّ الذین یخرجون من الدین ویرتدّون هم أشدّ ضرراً وخطراً من الذین لم یؤمنوا بالدین أساساً، لانّهم من أجل تبریر ارتدادهم لابدّ من أن یخطّئوا أنفسهم والآخرین، بل ویستهزئوا بالسلوك الدینی.

وینبغی أن تُقلق هذه الحالة كلَّ مؤمن دوماً، وذلك بأن لا یغترّ بایمانه وأعماله واخلاصه، بل علینا جمیعاً ان نعوذ بالله ونسأله حُسن العاقبة والنهایة الطیبة لكیلا نُسلب الإیمان أخیراً بعد تحمّل كلّ هذه الآلام والمصائب، ومعاناة تلك الصعوبات والمتاعب.

* * *


1 راجع: نقد ودراسة المدارس الأخلاقیّة لمحمّدتقی مصباح الیزدی، نقد مدرسة «كانت».

2 المائدة: 15 و16.

3 البقرة: 207.

4 البقرة: 284.

5 البقرة: 225.

6 الحشر: 8.

7 الممتحنة: 1.

8 البقرة: 264.

9 البقرة: 264.

10 البقرة: 264.

11 البقرة: 265.

12 البقرة: 272.

13 النساء: 38.

14 الروم: 38.

15 الروم: 39.

16 الإنسان: 8 و9.

17 اللیل: 17 ـ 21.

18 الرعد: 22.

19 بحار الأنوار: ج 70، ص 212، ح 38، ط. بیروت.

20 بحار الانوار، ج 70، ص 17، الروایة 9.

21 البقرة: 264.

22 النمل: 14.

23 الحجرات: 14.

24 بحار الأنوار: ج 72، ص 278، الروایة 1.

25 النساء: 57 و122.

26 النساء: 124.

27 البقرة: 103.

28 النحل: 30.

29 ق: 31.

30 التوبة: 72.

31 یونس: 26.

32 النساء: 13.

33 آل عمران: 116 و117.

34 ابراهیم: 18.

35 النور: 39.

36 الفرقان: 23.

37 البقرة: 264.

38 النحل: 106.

39 الشورى: 37.

40 النساء: 31.

41 الانعام: 54.

42 التوبة: 106.

43 بحار الأنوار: ج 69، ط. بیروت، ص 23، ح 6.

44 البقرة: 82.

45 النحل: 97.

46 المائدة: 57.

47 البقرة: 112.

48 لقمان: 22.

49 الاحقاف: 13 وفصلت: 30.

50 التغابن: 9 و11; الطلاق: 11.

51 البقرة: 62 والمائدة: 69.

52 محمد: 2.

53 الحدید: 19.

54 البقرة: 177.

55 البقرة: 285.

56 (وَمَنْ لَمْ یُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِینَ سَعِیراً) الفتح: 13.

57 كالآیات: الانعام: 27 و29 و31 ـ الأعراف: 147 ـ یونس: 7 و8 ـ الفرقان: 11 ـ النمل: 4 ـ سبأ: 8.

58 كالآیات: النساء: 116 ـ التوبة: 113 ـ الإسراء: 39 ـ الحج: 31 ـ الزمر: 66.

59 كالآیات: آل عمران: 4 ـ النساء: 56 ـ المائدة: 10 و86 ـ الانعام: 49 ـ الأعراف: 36 و40، الحج: 57 ـ الزمر: 63.

60 كالآیات: العنكبوت: 23 والروم: 16.

61 النساء: 136.

62 آل عمران: 85.

63 النساء: 145.

64 النساء: 140.

65 الحجرات: 14.

66 البقره: 85.

67 النساء: 150 و151.

68 البقرة: 285.

69 البقرة: 4.

70 الفتح: 4.

71 یوسف: 106.

72 التوبة: 54.

73 آل عمران: 188.

74 النساء: 165.

75 ص: 26.

76 البقرة: 232.

77 الاحزاب: 21.

78 النمل: 4 و5.

79 الزمر: 45.

80 الانعام: 112 و113.

81 التوبة: 77.

82 الروم: 10.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...