القسم الأول
8
الى هنا قمنا بالبحث عن قواعد ومبادئ علم الأخلاق من وجهة نظر القرآن الكریم، ومن المناسب أن نقوم هنا بدراسة الأبحاث الأساسیة لعلم الأخلاق وشرح فروعه وتفاصیله فی القرآن، ولكن قبل الخوض فی ذلك نقوم بتصنیف الأبحاث والموضوعات الأخلاقیة، وفی إطار منهج عامّ نشرع بهذا البحث من نقطة لیكون هناك تسلسل منطقی بین محتویاته قدر ما یمكن.
لا یوجد فی القرآن الكریم ـ طبعا ـ منهج وتصنیف واضح للمسائل الأخلاقیة ولا توجد نقطة بدایة خاصّة، وعلى الأقل لم نلاحظ هذا الأمر من مفاد ظواهر الآیات، فنضطرّ لدى البحث عن القضایا الأخلاقیة الى اختیار منهج خاصّ لتتوضّح بدایة البحث وآخره.
قام فلاسفة الأخلاق حتّى هذا العصر ـ تبعاً لأرسطو ـ بتفسیر الأخلاق بالملكات الراسخة فی النفس التی تحصل نتیجةً لتكرار العمل. ونظراً الى أنّ منشأ الأعمال وسلوك الإنسان هو قواه الإنسانیة قاموا بتقسیم فصول الأخلاق الى أقسام متنوعة وفق تنوّع قوى النفس وتعدّدها.
إنّهم یقولون: إنّ القوى المؤثرة فی تحقّق الأفعال وملكات الإنسان بتبعها تنقسم الى ثلاث مجموعات:
1 ـ القوة العقلیة 2 ـ القوة الشهویة 3 ـ القوة الغضبیة. وكلّ قوة من القوى الثلاثة تستدعی سلوكا خاصّا، كما أنّهم حسب الأولویة فی هذه القوى یقومون بدراسة أعمال الإنسان وسلوكه. وقد قام علماء الأخلاق الإسلامیة فی الغالب ـ تبعاً لأرسطو ـ برعایة هذا التقسیم الى حدّ ما.
فیما یتعلّق بهذا التقسیم یُطرح سؤالان یجدر التأمّل فیهما فی موضعه المناسب:
الأول: هل یصحّ تقسیم قوى النفس الى قوى ثلاث؟ وهل یمكن حصرها فی هذه الثلاثة؟
الثانی: هل یكون من المقبول تقسیم الأخلاق والسلوك والملكات الأخلاقیة على أساس التنوّع فی القوى النفسیّة، أم من الأفضل البحث عن منهج آخر للتقسیم؟
یمكن القول إنّ الأمرین قابلان للمناقشة الى حدّ ما، فبالإمكان طرح تقسیمات اُخرى فی هذا المجال استناداً الى تنوّع قوى النفس، أو تقسیمات مستندة الى قوى النفس دون أن نحصرها فی القوى الثلاثة هذه، ونجعل عدداً أكبر من قوى النفس وتنوّعاً أكثر ظرافة فیها أساساً للبحث وتقسیم السلوك والملكات الأخلاقیة، وهذا ما سنطرحه قریبا بعون الله.
حسب رأینا إنّ موضوع الأخلاق أعمُّ من الملكات النفسیّة التی أكد علیها فلاسفة الأخلاق حتّى هذا العصر كموضوع لعلم الاخلاق، وكما أسلفنا: إنّ موضوع علم الأخلاق أعمُّ من الملكات الأخلاقیة، ویشمل كلّ الأعمال القیمیة للإنسان التی تتصف بالحسن والسوء، ویمكن أن تمنح النفس الإنسانیة كمالاً، وتستدعی رذیلة ونقصاً فی النفس، وتدخل بأجمعها فی نطاق الأخلاق، وسیاق آیات القرآن الكریم والروایات الشریفة یؤیّد هذه النظریة.
بناءً على هذا یمكن القول: إنّ موضوع الأخلاق واسع وشامل للملكات والحالات النفسیّة والأفعال التی یمكن أن تكون ذات طابع قیمی.
الآن وبعد اتضاح حدود موضوع الأخلاق یمكن ـ كأطروحة للبحث ومنهج دراسی ـ أن نقدِّم تقسیمات اُخرى على أساس التنوّع فی قوى النفس، أو بصورة اُخرى لكی تتوضّح نقاط الدخول والخروج والتسلسل المنطقی للأبحاث عند السیر الدراسی والتحقیق.
بإمكاننا تقسیم المسائل الأخلاقیة حسب تنوّع قوى النفس أو متعلقات الأفعال الأخلاقیة، وبعبارة اُخرى بوسعنا أن نبدأ التقسیم من مبدء الفعل، ونقسّم الأفعال الأخلاقیة الى مجموعات متنوّعة بنحو یتناسب مع المبادئ النفسیّة المتنوّعة ونجعلها فی رتب مختلفة، كما صنع أتباع أرسطو، مع فارق هو أنّ تقسیماً آخر من القوى النفسیّة سیكون هو الملاحظ وسنقدِّمه بعون الله، وبوسعنا أیضاً أن نبدأ التقسیم من المتعلَّق وطرف العلاقة، وتبویب وتنظیم الموضوعات الأخلاقیة على أساس تنوّع متعلّقات الأفعال الأخلاقیة.
وبالنسبة لتقسیم الأخلاق حسب المتعلّقات نقول: إنّ متعلَّق الأفعال الاختیاریة إمّا هو الفاعل نفسه أو الآخرون، وإما یرتبط مع الله سبحانه، حیث یمكن اطلاق عنوان خاصّ یتناسب مع كلّ واحد. ونطلق على القسم الأول «الأخلاق الفردیة» وعلى القسم الثانی «الأخلاق الاجتماعیة» وعلى القسم الثالث «الأخلاق الإلهیّة» وسیكون هذا التقسیم أوقع فی النفس من التقسیم السابق.
وحسب المبادئ النفسیّة للأفعال یمكن ـ كما قلنا ـ تقسیم الأخلاق بصورة اُخرى، ونحن هنا نطرح تقسیماً بهذا النحو وهو أنّ أفعال الإنسان:
1 ـ تكون تارة ذات منشأ غریزی، أی یكون الفعل والانفعال الجسمی منشأً مباشراً لدوافعها كالأكل وإشباع الغریزة الجنسیة وما شاكل، حیث إنّ المنشأ فیها هو المیل نحو الأكل أو الجنس، وهذه المیول تتحقّق بسبب الفعل والانفعال الطبیعی.
2 ـ یكون منشأ الأفعال تارة اُخرى هو الانفعالات النفسیّة للإنسان من قبیل حالات الخوف والوحشة والاضطراب التی یطلق علیها «الانفعالات» فی علم النفس.
3 ـ تنشأ مجموعة اُخرى من الأعمال من المیول الإنسانیة الفطریّة المتعالیة ـ كما یصطلح علیها ـ من قبیل: طلب الحقیقة، وطلب الكمال، والمیل نحو الفضائل الأخلاقیة والعبادة، أی المیول التی لیس لها منشأ جسمی وعضوی ولا تنشأ من العوامل المادیة والطبیعیة ولیس لها مبدأ أو غایة مادیّة.
4 ـ هناك حالات یكون للسلوك الإنسانی فیها منشأ عاطفی وشعوری، وتنقسم بدورها الى نوعین:
الأول: الممارسات التی یكون دافعها العواطف الایجابیة للإنسان كالاُنس والمحبّة.
الثانی: الممارسات التی تنشأ من العواطف الإنسانیة السلبیة من قبیل الحسد والحقد والتضجر.
نتابع هنا الأطروحة والتقسیم حسب متعلقات الأفعال ـ كما قلنا ـ الى:
1 ـ الأخلاق الإلهیّة وتعنی الأخلاق الإنسانیة ذات العلاقة بالله سبحانه كذكر الله، والخشیة والخوف من الله، والرجاء والإیمان بالله وغیرها، والتی تُمارس على أساسها بعض العبادات كالصلاة والصیام وغیرهما.
2 ـ الأخلاق الفردیة، أی الأعمال التی ترتبط بالإنسان نفسه، ولا تقصد العلاقة مع الله فی ادائها بالذات وإن كان من الممكن ارتباطها بالله وبالناس أحیاناً، ولكن الملاحظ فیها أساساً هی العلاقة مع الإنسان نفسه كالأكل الكثیر واتّباع الشهوات، فانّ الإنسان سواءً أكان كثیر الأكل أو قلیله، واتّبع الشهوات أو لم یتّبع، فانّ ذلك یرتبط بالإنسان نفسه، وإن أمكن ارتباطه بالله تعالى نظراً لإمكان تحققها كطاعة لله فی صورة ومخالفته فی صورة اُخرى، أو كاشباع الغریزة الجنسیة الذی منشؤه شهوة الشخص ویؤدّى تلبیة لندائها، فانّه یرتبط ذاتاً بالإنسان نفسه، ولكن من الطبیعی أن یرتبط مع شخص آخر أیضاً.
3 ـ الأخلاق الاجتماعیة التی تمثّل علاقة الإنسان مع الآخرین محورَها الأساس، وتنشأ من معاشرة الآخرین فی الحیاة الاجتماعیة كالإحسان للآخرین واحترامهم أو إهانتهم، ومحورها الأساس هو العلاقات الاجتماعیة.
من الضروری أن نشیر هنا الى هذه الحقیقة وهی أنّ الممارسات الإنسانیة وإن كانت متنوعة كما قسمنا، وتصنّف الى ثلاثة أصناف هی الأخلاق الفردیة، والأخلاق الاجتماعیة والأخلاق الإلهیّة الاّ أنّ جمیعها ینشأ من مجموعة مبادئ نفسیّة مختلفة ذات كلیات مشتركة.
لقد بیّنا فی بحوث معرفة الإنسان بأن أفعال الإنسان الاختیاریة تنشأ بصورة عامّة من كلّ مبدء من المبدءین النفسیین: 1 ـ الرؤى والمعارف 2 ـ المیول والرغبات، وقلنا أیضاً بأنّ لهذین النوعین من مبادئ الأفعال النفسیّة أثرین مختلفین على أداء الأفعال، حیث إن أحدهما یكشف الأمور الواقعیة، والآخر یحرّك ویدفع الإنسان نحو القیام بالعمل، وهذا الاندفاع طبعاً یتقارن مع حالات وكیفیات نفسیّة كالخوف والأمل وینتهی فی الكثیر من الموارد بفعل جسمی، وفی بعض الموارد یتحقّق فعل باطنی فقط، وإن اُنجز باعضاء داخلیة كالدماغ والأعصاب الاّ انّها لا تسری الى خارج الجسم. وهذه الأفعال لكونها من جملة أفعال الإنسان الاختیاریة فانّها تدخل فی نطاق الاخلاق.
الملاحظة الاُخرى التی ینبغی ملاحظتها أننا توصّلنا فی (مبادئ وفلسفة الاخلاق) عقلا وكتابا وسنّة الى هذه النتیجة وهی أنّ قیمة الأخلاق تستند الى عاملین: الأول: صلاح الفعل نفسه، والثانی: نیة الفاعل ودافعه، وهما فی الحقیقة بمثابة الجسم والروح للعمل الأخلاقی، أی إنّ العمل الأخلاقی یجب أن یكون فی ذاته صالحا وصحیحاً، ولابدّ من ادائه بنیّة ودافع صحیح لكی یكون قیّماً. وبناءً على هذا إنّنا نرتبط بالنیة فی جمیع الأفعال ـ شئنا أم أبینا ـ وتمثّل روح العمل وأساس القیمة من جهة، وهی أحد الأفعال الباطنیة الخفیة التی تتحقّق فی قلب الإنسان من جهة اُخرى، وقد قمنا فی الماضی بتبیان النیة المطلوبة حسب الرؤیة الإسلامیة حیث لها ـ على أیّة حال ـ ارتباط مع الله سبحانه، ویكون لها مرتبة من التقرب الى الله بحیث یؤدّى العمل إمّا خوفاً من الله، أو طمعا بنعمه، أو یكون الدافع لدى الفاعل هو إطاعة أمر الله والتقرب الیه، دون أن یكون الطمع فی ثوابه أو الخوف من عذابه واسطة فی الإرتباط بالله تعالى.
على أیّة حال، نظراً الى أنّ مبادئ أفعال الإنسان الاختیاریة من الأمور الباطنیة، ومهما كان دافع العمل فانّ له موقعه فی قلب الإنسان، لذا لابدّ من اجراء دراسة حول «القلب» قبل أیّ شیء.
قبل الإجابة على هذا السؤال الأساس، نذكّر بأنّ البحث والدراسة بشأن القلب وإن لم یكن بحثا أخلاقیا، ولا یمكن أن یعتبر من جملة مسائل علم الأخلاق، ولكن بما أنّنا نتحدّث عن النیة بوصفها من عمل القلب فمن المناسب قبل الخوض فی مسائل علم الأخلاق أن یكون لنا بحث فی هذا المجال، فنبحث عن لفظ القلب أو الفؤاد فی القرآن الكریم وعلم الأخلاق كی لا نقع فی الأخطاء والمغالطات.
نقول فی الإجابة عن السؤال: إن للفظ (القلب) فی علم الفسلجة والعرف العامّ معنى واضحاً، وهو أنّه أحد اعضاء جسم الإنسان ویقع عادةً فی الجانب الأیسر من الصدر ویطلق علیه فی الفارسیة (دِل) وما یرادفه فی اللغات الأخرى، ولكن حینما یستعمل لفظ (القلب) هذا أو (الفؤاد) أو (دل) فی الفارسیة فی مجال الأخلاق وعلم الأخلاق لا یكون هذا المعنى مراداً للمتكلم قطعاً، وهدفنا من إثارة هذا السؤال هو توضیح المعنى الأخلاقی للقلب، وهكذا اصطلاحه القرآنی والروائی.
وقد أبدى علماء فقه الحدیث والمفسرون آراءهم فی تفسیر الآیات والروایات، وإیضاح المعنى الموضوع له هذا اللفظ والمناسبة فی استعماله بالمعنى الثانی. قال بعض اللغویین فی بیان المناسبة بین معنیَی القلب والعلاقة بینهما: إنّ لفظ القلب ـ وهو من مجموعة تضمّ ألفاظاً كالتقلّب والقلب والانقلاب ـ یفید معنى التغییر والتحول، وهذا هو وجه الإشتراك بین المعنى اللغوی والمصطلح الأخلاقی، لأن الدم فی القلب بمعنى العضو الجسمانی یكون فی حالة تقلّب، والقلب بالمعنى الأخلاقی والقرآنی هو الآخر یتضمن حالات التغیّر والانقلاب، وعلیه فانّ هذا اللفظ قد استعمل فی هذین الموردین لوجود مضمون الانقلاب والتقلّب والتحوّل.
لكن لا یكون لمثل هذه الابحاث لدى الإجابة عن السؤال فائدة كبیرة، فلابدّ أن نفكّر بنحو آخر لإیضاح مفهوم القلب فی علم الأخلاق والاصطلاح القرآنی والروائی.
للفظ القلب المستعمل فی هذین المعنیین المختلفین ـ الطبیعی والأخلاقی ـ حكم الإشتراك اللفظی، ویستعمل فی كلّ معنى من المعنیین بلا ملاحظة المعنى الثانی والعلاقة بینهما. فمراد عالم الطبیعة حینما یستعمل لفظ القلب هو العضو الخاصّ دون أدنى التفات الى المعنى الأخلاقی، كما أن عالم الأخلاق لا یقصد من استعماله هذا اللفظ غیر المعنى الاصطلاحی الخاصّ بالأخلاق ولا یلتفت الى معناه الطبیعی.
بناءً على هذا یستعمل لفظ (القلب) كمشترك لفظی فی هذین المعنیین، ولا یهمنا كشف العلاقة بین هذین المعنیین، أو تمییز المعنى الأصلی عن الفرعی بینهما، وإیضاح أنّ الوضع فی أیّهما كان أولاً ثمّ نُقل الى الثانی، لأن مثل هذه القضایا تفقد أدنى تأثیر فی إدراك المعنى الأخلاقی الذی نقصده من لفظ القلب، وإن كان ذلك بحثاً ممتعاً لدى اللغویین وله قیمته فی حدّ ذاته، كما عقد صاحب تفسیر المیزان بحثاً مستقلاً تحت عنوان (القلب فی القرآن) وقام بتقدیم الوجه فی بیان العلاقة بین هذین المعنیین بهذا النحو، وهو أنّ الحیاة الإنسانیة تتعلّق بالقلب فی المرحلة الاُولى، ثمّ تنفصل عنه فی مرحلتها الأخیرة، أی إنّ آخر عضو یموت وتفارقه الحیاة هو (القلب) واستشهد بأقوال الأطباء القدامى أمثال ابن سینا وبالتجارب والإكتشافات الطبیة الحدیثة تأییداً لكلامه فی التناسب بین معنیی القلب.
بناءً على هذا یكون استعمال لفظ القلب فی الروح والصفات الروحیة بهذا التناسب، وهو أنّ (القلب) بمعناه كعضو جسمی مظهر الروح وأول عضو تتعلّق به الروح، ویكون فی أحد معانیه الواسطة فی ترابط الروح مع الجسم.
ما ذكر قضیة تجریبیة یوكَل اثبات صحتها الى علماء الطبیعة، ومن المحتمل أنّ یوجد لها رصید علمیّ، ولكن الكلام یتركّز فی أنّ استعمال لفظ القلب فی هذا المعنى والمفهوم هل كان بهذا اللحاظ، وهو أنّ الروح تتعلّق أولاً بالقلب ثمّ تخرج منه أخیراً؟ هل إنّ كون القلب أول عضو تلج فیه الحیاة وآخر عضو یموت هو السبب فی استعمال لفظ القلب بمعنى القوة المدركة ومركز العواطف؟ ولعل المناسب هو أن تستعمل الروح بهذا المعنى، فانّ الروح هی التی یتداعى منها معنى الحیاة، وعلى أیّة حال من المستبعد أن یكون اللحاظ المذكور منشأً لإطلاق لفظ (القلب) على القوة المدركة ومركز العواطف.
ویمكن القول أیضاً: إنّ الحالات الروحیة التی تنسب الى القلب والروح من قبیل الفرح، والاضطراب، والخوف وغیرها یتمّ الشعور بها فی القلب بصورة أكبر وأسرع من أیّ عضو آخر، والإنسان یدرك أنّ (القلب) هو العضو المرتبط بهذه الحالات فی جسمه، ففی حالة الغمّ والحزن یكون الصدر هو الذی یتضیّق والقلب هو الذی ینبض بصعوبة، ومنشأ عملیة النبض هو القلب، وقد استعملت عبارة (ضیق الصدر) فی القرآن الكریم فی الموارد التی یشعر الإنسان فیها بضیق القلب، كما استعمل (شرح الصدر) فی موارد الشعور بالسرور والإنبساط. وإذا كان من الواجب ان نقدِّم وجهاً فی بیان العلاقة بین القلب بمعنى العضو الخاص، وبین القلب بمعنى القوة المدرِكة ومركز العواطف كان هذا الوجه هو الأوجه والأجمل، وإن لم یكفِ أیُّ بحث من هذه البحوث مؤونة حلّ المشكلة، ولیس بإمكانه أن یعیننا فی الإجابة عن ماهیة معنى القلب فی القرآن الكریم. وبناءً على هذا یطرح هذا السؤال: ما السبیل لمعرفة معنى القلب ومصداقه فی القرآن الكریم؟ وهو ممّا ینبغی أن نجیب عنه هنا.
الطریق الوحید الذی وجدناه لمعرفة معنى (القلب) فی القرآن الكریم هو أن نبحث عن الأعمال التی تنسب الى القلب فیه، وما هی آثارها فنتعرف على القلب من خلال مطالعة هذه الآثار. إنّنا حینما نراجع موارد استعمال لفظ القلب بهذا الهدف نجد أنّ حالات متنوعةً وصفات مختلفةً قد نسبت الى القلب والفؤاد أهمُّها هو (الإدراك) الأعمّ من الإدراك الحصولی والحضوری، وقد اُشیر فی القرآن الكریم ـ بتعابیر مختلفة ـ الى أنّ الفهم والإدراك من شؤون (القلب) و(الفؤاد) ـ الذی یستعمل كمرادف له ـ من هنا نلاحظ أنّ القرآن وبتعابیر مختلفة وباستعمال ألفاظ من مجموعة (العقل والفقه والفهم والتدبر و...) ینسب الإدراك وعدمه الى القلب، أی حتّى فی الموضع الذی ینفی فیه الإدراك عن القلب یرید إفهام هذه الحقیقة، وهی أنّ القلب قد لا یؤدی وظیفته ویكون غیر سلیم، فیفید أنّ شأن القلب هو أن یدرك، وعدم إدراكه یكون لعدم سلامته، ولو كان سلیما لقام بعملیة الإدراك بالطبع.
نواجه فی القرآن الكریم آیات من قبیل الآیة:
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِیراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِْنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا یَفْقَهُونَ بِها.1
إنها تعترض على بعض ذوی القلوب بأنّهم لا یفقهون، وتشیر الى أنّ القلب قد جعل للفهم والفقه. كما تقول آیة اُخرى:
وَمِنْهُمْ مَنْ یَسْتَمِعُ إِلَیْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ یَفْقَهُوهُ.2
تتحدّث هذه الآیة عن أنّ قلوب هؤلاء لا تفهم آیات الله وكلام النبی(صلى الله علیه وآله وسلم)وتسند عدم فهمهم هذا الى الحُجب والموانع التی تصدّ القلب عن أداء وظیفته، أی إنّ مقتضى الفهم موجود، لأنّ القلب قد خلق للإدراك والفهم، ولكن الحجب والموانع تحول دون إنجاز عمله.
وقد استعمل لفظ العقل فی بعض الآیات، قال تعالى:
أَ فَلَمْ یَسِیرُوا فِی الأَْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ یَعْقِلُونَ بِها.3
من خلال هذه الآیة یمكن إدراك أنّ القلب قد خلق للتدبر وإدراك الواقع، فلابدّ للإنسان من أن یستفید من هذه الوسیلة التی سخرها الله تعالى للفهم بنحو مناسب، ویستخدمها لإدراك الحقائق حیث إنّ الله مهّد له الأرضیة الخِصبة لكی یفهم عن طریق القلب.
واستعمل لفظ التدبر فی آیة اُخرى، قال تعالى:
أَ فَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوب أَقْفالُها.4
هذه الآیة نسبت (التدبر) ضمنیا ـ ولیس صریحاً ـ الى القلوب، وتعاتب المنافقین على عدم فهمهم للقرآن: هل إنّهم لم یفعّلوا قلوبهم ولم یفكّروا ویتدبروا، أم إنّ هناك اقفالاً على قلوبهم، وهذا المانع یصدّهم عن الفهم؟ فیستفاد منها أنّ القلب آلة للفهم، وأنّ عدم فهم هؤلاء مع وجود القلوب هو إمّا لأنّهم لا یستخدمون قلوبهم للفهم، أو أنّ هناك موانع للإدراك.
وبغض النظر عما ذكر فانّ القرآن یعدّ القلب ـ بلفظ (القلب) أو (الفؤاد) ـ من جملة وسائل الإدراك من قبیل السمع والبصر دائماً، كالآیة:
إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولاً.5
كما یؤید بتعابیر اُخرى هذه المسانخة فی بعض الآیات كالآیة:
لَهُمْ قُلُوبٌ لا یَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْیُنٌ لا یُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا یَسْمَعُونَ بِها.6
حیث وضع القلب مرّة اُخرى الى جانب البصر والسمع كآلة وأداة للإدراك.
إضافةً الى الإدراك الحصولی فی بعض الآیات الكریمة نسب القرآن الإدراك الحضوری الى القلب أو نفاه عنه بلحن الذمّ والتوبیخ، فیدلّ فی مجموعه على أنّ القلب قد خلق بنحو یتمكّن من الإدراك الحضوری، وامتلاك مثل هذا الإدراك دلیل على صحة القلب وسلامته، كما أنّ فقدانه غیر متوقَّع ودلیل على المرض والعمى.
ونظیر هذه الآیات ما ورد بلفظ الفؤاد، حیث قال تعالى:
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى * أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما یَرى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى.7
هذه الآیات نسبت الرؤیة الى القلب، ورؤیة القلب هی الإدراك الحضوری فی الواقع، كما نسب العمى الى القلوب فی بعض آخر من الآیات، كالآیة:
فَإِنَّها لا تَعْمَى الأَْبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِی فِی الصُّدُورِ.8
وطبیعی أنّ العمى یكون فی مورد من شأنه البصر، فعدم البصر هنا لیس عدما مطلقاً، بل عدم ملكة.
والتعبیر الآخر الذی یؤید الإدراك الحضوری هی الآیة النازلة فی الكفار حیث تقول:
بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا یَكْسِبُونَ.9
فقلوبهم قد غشاها الصدأ، فلا ضیاء فیها لكی تعكس الحقائق كما ینبغی.
كما أنّ هناك تعابیر مختلفة ـ الى جانب هذه الآیات ـ تشیر الى هذا المضمون، وبعبارة اُخرى تدلّ على أنّ القلب إذا كان سلیما فانّه یدرك الحقائق لا محالة، فانّ لم یدركها كان ذلك دلیلاً على وجود نوع من الأمراض القلبیة. هذه التعابیر من قبیل الختْم أو الطبْع على القلب فی الآیات:
وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ.10
كَذلِكَ یَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِینَ.11
وكجعل الأقفال على القلوب فی الآیة:
أَ فَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوب أَقْفالُها.12
هذه التعابیر ظاهرة فی انّ هذه القلوب لا تفهم، وعدم فهمها أمر غیر طبیعی ودلیل على وجود المرض فیها، كما أنّ تعبیر: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ یَفْقَهُوهُ13یحكی عن هذه الحقیقة.
كما أنّ من جملة التعابیر التی وردت فی الآیات وتدلّ على أنّ وظیفة القلب هو الإدراك هی وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ14 أو بَنَوْا رِیبَةً فِی قُلُوبِهِمْ15 أو قُلُوبُنا غُلْفٌ16وأمثالها.
وعلیه نستنتج أنّ القرآن الكریم یرى أنّ الإدراك ـ أعمَّ من الإدراك الحصولی أو الحضوری ـ وظیفة القلب بحیث لو كان الإنسان ذا (قلب سلیم) فانّ الإدراك لا محالة یتمّ بنحو جیّد، وإن لم یؤدِّ عملیة الإدراك كان ذلك دلیلاً على مرض القلب.
وهناك نوع آخر من الإدراك أیضاً هو الوحی الذی نجهل حقیقته، وفی القرآن الكریم اُسند تلقّی الوحی ـ هذا الإدراك المعقَّد والمرموز ـ الى القلب.
ففی هذا الشأن ورد أن الله تعالى قد أنزل القرآن الكریم على قلب النبی(صلى الله علیه وآله وسلم)بتعابیر من قبیل:
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِیلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ.17
ونَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَْمِینُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِینَ.18
بناءً على هذا فانّ تلقّی الوحی عمل قلبیٌّ أیضاً یجد مصداقه فی الأنبیاء(علیهم السلام).
إذنْ نستنتج أنّ الإدراك الحصولی عمل قلبیٌّ یتمّ بالتعقل والتفقّه والتدبر وهكذا الإدراك الحضوری أو الرؤیة الحضوریة وتلقّی الوحی فانّه عمل قلبیٌّ.
والحاصل انّ الإدراك بمعناه العریض والأعمّ من الحصولی والحضوری والإعتیادی وغیر الإعتیادی عمل یرتبط بالقلب، وصفة یوصف بها القلب بتعابیر مختلفة.
من الأمور التی تُسند الى القلب وتُعدّ من آثاره هی حالات الانفعال والشعور الباطنی. وقد أسند القرآن هذه الحالات بتعابیر مختلفة الى القلب، ومنها الشعور بـ (الخوف) الذی یُعدّ من الحالات والانفعالات القلبیة، ونلاحظ آیات فی هذا المجال، من قبیل الآیة:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِینَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.19
والآیة:
وَالَّذِینَ یُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ.20
ففی هاتین الآیتین تمّ استعمال لفظین مشتقین من مادة (وَجَل) التی تُستعمل فی معنى الشعور بالخوف.
وفی آیات اُخرى استُعمل لفظ (رُعْب) وهو الآخر یعنی الشعور بالخوف مع هذا الفارق ظاهراً، وهو أنّه یتصف بشدّة أكبر، ویستعمل غالباً فی موارد الخوف السلبی من قبیل الآیة: سَنُلْقِی فِی قُلُوبِ الَّذِینَ كَفَرُوا الرُّعْبَ.21
كما جاء هذا التعبیر فی آیة اُخرى: وَقَذَفَ فِی قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.22
والشعور بـ (الاضطراب) من المشاعر الباطنیة للقلب كما جاء فی القرآن الكریم: قُلُوبٌ یَوْمَئِذ واجِفَةٌ.23
كما أنّ الله یبیّن اضطراب وقلق أمّ موسى(علیه السلام) حینما ألقتْه فی النیل والتقطه آل فرعون من الماء بهذا النحو:
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِی بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ.24
یُستفاد من هذه الآیة جیّداً بأن (القلب) یساوی (الفؤاد).
ومن جملة المشاعر الباطنیة والحالات التی یسندها القرآن الى (القلب) هو (الحسرة) و(الغیظ) حیث یقول: لِیَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِی قُلُوبِهِمْ.25
ویقول فی آیة اُخرى: وَیُذْهِبْ غَیْظَ قُلُوبِهِمْ.26
ومن الحالات التی تسند الى القلب هی (القسوة) و(الغِلظة) بتعابیر من قبیل: فَوَیْلٌ لِلْقاسِیَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ27 أو قَسَتْ قُلُوبُكُمْ28 أو وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِیَةً.29
كما خاطب النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) فی مورد الغلظة:
وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.30
فالغلظة تقع فی النقطة المقابلة للّین كما جاء فی صدر هذه الآیة:
فَبِما رَحْمَة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ.
كما اُسند ما یقابل الحالات المذكورة من قبیل حالة (الخشوع)، و(اللین)، و(الرأفة)، و(الرحمة) و(الإخبات) الى القلب فی القرآن من قبیل الآیة:
أَلَمْ یَأْنِ لِلَّذِینَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ.31
حیث وضع خشوع القلب قبال قسوة القلب، والآیة:
ثُمَّ تَلِینُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ.32
والآیة: وَجَعَلْنا فِی قُلُوبِ الَّذِینَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً.33
والآیة: فَیُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ.34
وهناك حالات اُخرى من قبیل (الغفلة) و(الإثم) قد اُسندت فی القرآن الكریم الى القلب أیضاً كما جاء فی الآیة:
وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا.35
وجاء فی آیة اُخرى: وَمَنْ یَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ.36
وهكذا اعتبر (الذكر) و(التوجه) و(الإنابة) و(القصد) و(العمد) من حالات القلب كما قال تعالى: إِنَّ فِی ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ.37
وقال: الَّذِینَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ.38
وجاء فی آیة اُخرى: وَلَیْسَ عَلَیْكُمْ جُناحٌ فِیما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ.39
وفی آیة اُخرى: لا یُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِی أَیْمانِكُمْ وَلكِنْ یُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ.40
وقال فی آیة اُخرى: مَنْ خَشِیَ الرَّحْمنَ بِالْغَیْبِ وَجاءَ بِقَلْب مُنِیب.41
كما أن (الإطمئنان) و(السكینة) و(التثبیت) صفات یتصف بها القلب فی القرآن الكریم حیث نلاحظ تعابیر من قبیل:
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْیمانِ42 ووَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ.43 ووَلكِنْ لِیَطْمَئِنَّ قَلْبِی44 وأمثالها45 فی إسناد الإطمئنان والسكینة الى القلب، كما جاء فی آیة اُخرى: هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ السَّكِینَةَ فِی قُلُوبِ الْمُؤْمِنِینَ لِیَزْدادُوا إِیماناً مَعَ إِیمانِهِمْ.46
وقال تعالى فی آیة اُخرى: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ.47
وفی آیة اُخرى:
نَقُصُّ عَلَیْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ.48
ومن الصفات التی تستقر فی القلب: صفتا (الإیمان) و(التقوى) حیث قال تعالى فی آیة: قالَتِ الأَْعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمّا یَدْخُلِ الإِْیمانُ فِی قُلُوبِكُمْ.49
وقال فی آیة اُخرى: كَتَبَ فِی قُلُوبِهِمُ الإِْیمانَ.50
كما جاء عن التقوى فی بعض الآیات:
وَمَنْ یُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ.51
كما جاء: أُولئِكَ الَّذِینَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى.52
ویمكن القول: إنّ القرآن الكریم یرى أنّ (الطمع) یرتبط بالقلب أیضاً حیث یقول فی آیة: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَیَطْمَعَ الَّذِی فِی قَلْبِهِ مَرَضٌ.53
و(الزیغ) أیضاً من الحالات التی یسندها القرآن الى القلب فی هذه العبارة التی قال فیها: مِنْ بَعْدِ ما كادَ یَزِیغُ قُلُوبُ فَرِیق مِنْهُمْ.54
كما أن (الإشمئزاز) اُسند الى القلب فی الآیة: وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالآْخِرَةِ.55
وهكذا اعتبر (الصَغْو) و(اللهو) من صفات (القلب) فی القرآن الكریم حیث یقول: صَغَتْ قُلُوبُكُما.56 ویقول: وَلِتَصْغى إِلَیْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالآْخِرَةِ.57
ویقول فی آیة اُخرى: لاهِیَةً قُلُوبُهُمْ.58
كما أسند (الإباء) و(الإنكار) و(الكذب) و(النفاق) الى القلب فی آیات مختلفة، كالآیة: یُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ.59
والآیة: فَالَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالآْخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ.60
والآیة: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِی قُلُوبِهِمْ إِلى یَوْمِ یَلْقَوْنَهُ.61
والآیة: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى.62
حیث نفت الكذب عن القلب، الاّ أنّ نفی الكذب عن القلب یعنی إثبات شأنیة القلب لنسبة الصدق والكذب إلیه، على أنّ نفی الكذب سیكون فی ذاته إثباتاً للصدق.
كما أنّ (الحمیّة) قد اُسندت الى (القلب) فی بعض الآیات، حیث یقول تعالى:
إِذْ جَعَلَ الَّذِینَ كَفَرُوا فِی قُلُوبِهِمُ الْحَمِیَّةَ حَمِیَّةَ الْجاهِلِیَّةِ.63
كما اُسند (الفزع) الى القلب فی الآیة:
حَتّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ.64
كما اعتبرت (الطهارة) و(الامتحان) من شؤون (القلب) واُسندا الى القلب فی الآیات القرآنیة، كالآیة: ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ.65
والآیة: أُولئِكَ الَّذِینَ لَمْ یُرِدِ اللهُ أَنْ یُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ.66
فالآیات كلها تشیر الى أنّ المراد هو الطهارة والتطهیر المعنوی من التلوث وأهواء النفس، كالآیة: أُولئِكَ الَّذِینَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى.67
كما أنّ من جملة صفات (القلب) صفتَی (السلامة) و(المرض) كما قال تعالى فی الآیة: یَوْمَ لا یَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْب سَلِیم.68
وقال فی آیة اُخرى: وَإِنَّ مِنْ شِیعَتِهِ لاَِبْراهِیمَ * إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْب سَلِیم.69
وكالآیة: فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً.70
وأمثال هذه الآیات التی تشیر قرائنها الى أنّ المراد من السلامة والمرض لیس السلامة والمرض الطبیعیَّین والمادیَّین لكی یتطابق مع (القلب) المادی الكائن فی الصدر، بل السلامة والمرض المعنویّین.
كما اُسند (الشوق) و(المیل) الى القلب حیث قال تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ.71
كما أنّ (التآلف) و(الاُنس) و(الإستئناس) مع الآخرین عملیات قلبیة حیث جاء: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَیْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً.72
وجاء فی آیة اُخرى: وَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِی الأَْرْضِ جَمِیعاً ما أَلَّفْتَ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَیْنَهُمْ.73
وبملاحظة الصفات والأمور المتنوعة التی نسبت الى (القلب) فی القرآن الكریم من قبیل الإدراك، والتدبر، والخوف والاضطراب، والحسرة والغیظ، والقسوة والغلظة، والغفلة والمعصیة، والزیغ والكذب، والنفاق والانكار، والذكر والتوجة، والإنابة والإیمان، والتقوى والاطمئنان والسكینة والخشوع والرحمة والرأفة واللین والاُنس والاُلفة والصفات والأعمال المتعدّدة والمتنوعة الاُخرى ـ على التفصیل المذكور آنفاً ـ یمكن الإستنتاج جیّداً بأنّ مصطلح القلب فی القرآن یختلف تماماً مع القلب المادی، ولعله یمكن القول: إنّ القلب بمعناه الجسمانی لم یستعمل فی موضع من القرآن، لانّه لا یمكن اسناد أیّ واحد من هذه الأعمال الى عضو جسمی، وحتّى بعض الصفات النادرة كالسلامة والمرض اللّذین یمكن أن یكونا من صفات القلب المادی فانّ القرائن الحافة بالكلام تدلّ جیّداً على أنّ المراد من السلامة والمرض لیس المعنى المادی والجسمانی منهما، بل الجهات الروحیة والأخلاقیة والمعنویّة.
بناءً على هذا فانّ (القلب) فی المصطلح القرآنی موجود یتولّى مهمة القیام بهذه الأعمال: الإدراك، والتدبر، وتركیز المشاعر، واتخاذ القرار، والصداقة والعداوة و... ویمكن الادعاء بأن المراد من القلب هو الروح والنفس الإنسانیة التی یمكن أن تكون منشأً لجمیع الصفات السامیة والخصائص الإنسانیة، أو منشأً للإنحطاط والرذائل الإنسانیة. ویمكن ادعاء هذه الحقیقة وهی عدم إمكان العثور على بُعد من أبعاد النفس الإنسانیة، وصفة من الصفات، أو عمل من أعمال الروح الإنسانیة آب عن الإسناد الى القلب. نعم، یمكن استثناء مورد واحد وهو أنّ الروح منشأ الحیاة لا یصحّ إسنادها الى القلب. لكن لابدّ من الإلتفات الى أنّ المراد من الحیاة هنا هی الحیاة النباتیة والحیوانیة، والمراد من الروح هی الروح النباتیة والحیوانیة، أو هی ـ على الأقل ـ أعمُّ وتشملهما، ولكن لو اعتبرنا الحیاة بمعنى الحیاة الإنسانیة كما قال تعالى:
یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اسْتَجِیبُوا للهِِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما یُحْیِیكُمْ74
فی هذه الحالة یمكن أن نسندها الى القلب أیضاً، لأن الحیاة الإنسانیة فی الحقیقة لیست غیر هذه الصفات السامیة والخصائص والامتیازات التی تنبع من القلب وتستقر فیه. الاّ أن نقول: إنّ الإنسان لا یملك غیر روح واحدة، وهی منشأ حیاته النباتیة وهكذا الحیوانیة والإنسانیة. بناءً علیه تكون له روح واحدة كاملة، فهی إضافةً الى دَورها كروح نباتیة وحیوانیة تمتلك امتیازات وخصائص إنسانیة تمتاز بها عن الأرواح النباتیة والحیوانیة. وبهذا الفرض یكون القلب أحد أبعاد روح الإنسان، وعبارة عن تلك المرتبة الروحیة التی تكون منشأً للصفات والخصال الإنسانیة التی ذكرناها تفصیلاً. وعلى هذا المبنى یمكن القول: إن الروح منشأ للحیاة الحیوانیة والنباتیة، ولكن لا یمكن اسناد ذلك الى (القلب) باصطلاحه القرآنی.
الملاحظة الاُخرى التی یمكن استنتاجها من الآیات هی أنّ للفؤاد معنى القلب ذاته مع فارق أنّ (القلب) إذا كان لفظاً مشتركاً بین (القلب) الجسمانی و(القلب) غیر الجسمانی فانّ الفؤاد یستعمل فی (القلب) غیر الجسمانی فقط، وهذا ـ طبعا ـ فارق فی الإستعمال العرفی للّفظَین لا الإستعمال القرآنی، إذ كما أشرنا آنفاً لم یستعمل القلب فی القرآن بمعنى القلب المادی أبداً، وبناءً علیه فلا وجود لفارق بهذا النحو بین (القلب) و(الفؤاد) فی الإستعمال القرآنی بهذا المعنى، والدلیل على أنّ الفؤاد والقلب متحدان فی القرآن هو قوله تعالى:
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِی بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ.75
هذه الآیة استعملت لفظی (القلب) و(الفؤاد) بمعنى واحد وأطلقتهما على شیء واحد.
الدلیل الآخر هو أنّ أعمالاً وصفات متشابهةً قد اُسندت إلیهما فی آیات مختلفة، كما یتضح ذلك من التأمّل فی الآیات التی مرّ ذكرها.
التعبیر الآخر الذی یلاحظ فی القرآن الكریم هو لفظ «الصدر» من قبیل شرح الصدر أو ضیق الصدر، فما هو المراد من الصدر فی الآیات الكریمة؟
فی الإجابة عن هذا السؤال یمكن القول: المراد من الصدر هو ما یعتبر وعاءً وموضعاً للقلب. وعلى هذا فانّ القلب إذا كان مادیّاً فالصدر مادی أیضاً وسیكون موضعه، وفی القلب المعنوی سیكون الصدر أیضاً بما یناسبه موضعاً غیر جسمانی، أی إنّ القلب بمضمونه المعنوی ـ وإن لم یكن أمراً جسمانیاً لكی یكون وعاءً وموضعاً جسمانیاً ـ قد اعتبر له ما یشابه الظرف أیضاً، وذلك نظراً الى اُنس أذهاننا بالمادیات والمحسوسات، ویتصور للقلب المادی وعاء باسم الصدر ویمثّل فضاءً أوسع من القلب ویحویه، فقد قدّر للأمور المعنویّة مثل هذا التقدیر أیضاً وهو أنّ روح الإنسان وعاء لقلبه وعبّر عنها بالصدر، كهذه الآیة التی تقول:
فَإِنَّها لا تَعْمَى الأَْبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِی فِی الصُّدُورِ.76
إذنْ المراد من الصدر هو الروح ومرجع ضیق الصدر وشرحه الى احساس الروح بالضیق والانشراح.
الحصیلة: یمكن تقسیم خصوصیات القلب التی ذكرناها تفصیلاً الى ثلاث مجموعات: الاُولى ترتبط ـ سلبا أو إیجابا ـ بأنواع المعرفة المختلفة. والثانیة ترتبط ببُعد المیول والأحاسیس المتنوعة. والثالثة هی الخصوصیات التی ترتبط بالقصد والارادة والنیة.
من اللازم هنا التذكیر بهذه الحقیقة وهی أنّ الإنسان فی البدایة لا فعلیة فیه لأیّ بُعد من الأبعاد المذكورة غیر مجموعة من الغرائز الحیوانیة كغریزة المیل الى الطعام. فالمعرفة فی الإنسان تكون بالقوة ولا فعلیة لها كما قال تعالى:
وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَیْئاً.77
والقدر المتیقن هو أن لا وجود فی البدایة لمعرفة واعیة لبنی الإنسان الإعتیادیین، وهكذا المیول التی تظهر فی روح الإنسان إذ لا وجود لها فی بدء الخلق الاّ بالقوة، وتتحقّق بالفعل على مدى سنین ومراحل مختلفة للحیاة وفی ظروف مؤاتیة.
فهذه الأمور توجد بالقوة فی النفس وتصل الى الفعلیة تدریجیّاً، الاّ أنّ فعلیتها غیر متساویة، إذْ إنّ بعضها تصبح فعلیة بصورة ذاتیة ولیس لاكتساب الإنسان واختیاره دور یذكر فی فعلیتها كالغریزة الجنسیة، وبعض آخر من الغرائز والأمور الفطریّة وغیر الإكتسابیة التی تجد فعلیتها وتصل الى حدّ بلوغها ونضجها فی ظروف طبیعیة خاصّة. فالإدراكات الحسیة فی بُعد المعرفة تحصل للإنسان بصورة غیر اكتسابیة، بمعنى أنّ إعداد أسباب الإدراكات الحسیة لیس اكتسابیا. وهذا النوع من الإدراكات یحصل للإنسان فی ظروف خاصّة بنحو طبیعی وإن كان بمقدوره الحیلولة دون تحقّق الكثیر منها، بأن لا یرى بعض الأشیاء ولا یسمع بعض الأصوات، ویتحكم بسائر حواسه الى حدّ ما.
الملاحظة الاُخرى التی ینبغی التذكیر بها هی أنّ ما كان من هذه الأبعاد غیر اكتسابی ویحصل بصورة طبیعیة، ونظراً لعدم دخل اختیار الإنسان فیها فلا یمكن دخوله فی دائرة الأخلاق لیكون موضوعاً للمدح والذمّ أخلاقیاً، كما هو حال الإنسان فی امتلاكه الثروات الطبیعیة والقابلیات الإلهیّة القهریّة فانّه لا یمدح أو یذمّ علیه أخلاقیاً، ولا یتعلّق بها أجر أو عقاب، ولكنه فی المواضع التی یكون لاكتساب الإنسان واختیاره دور فی فعلیة هذه الأبعاد یدخل فی نطاق الأخلاق ویكون ذا قیمة أخلاقیة إیجابیّة أو سلبیة. وأما الجهل الفطری والطبیعی الذی یصاحب خلق الإنسان وإن كان أمراً غیر اختیاری ولیس فیه ذمّ أخلاقی، الاّ أنّ طلب العلم والمعرفة والخروج من الجهل الفطری أمر اختیاری تماماً، فیمكن أن یعدّ فی مجموعة الموضوعات الأخلاقیة.
* * *
1 الأعراف: 179.
2 الانعام: 25; كما جاءت عبارة (جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ یَفْقَهُوهُ) فی الآیة 46 من سورة الإسراء والآیة 57 من سورة الكهف.
3 الحج: 46.
4 محمد: 24.
5 الإسراء: 36، راجع أیضاً: النحل: 78 ـ المؤمنون: 78 ـ السجدة: 9 ـ الاحقاف: 26 والملك: 23.
6 الأعراف: 179.
7 النجم: 11 ـ 13.
8 الحج: 46.
9 المطففین: 14.
10 الجاثیة: 23.
11 الأعراف: 101.
12 محمد: 24.
13 الانعام: 25.
14 التوبة: 45.
15 التوبة: 110.
16 البقرة : 88.
17 البقرة: 97.
18 الشعراء: 193 و194.
19 الانفال: 2.
20 المؤمنون: 60.
21 آل عمران: 151 وباختلاف طفیف، الانفال: 12.
22 الحشر: 2.
23 النازعات: 8.
24 القصص: 10.
25 آل عمران: 156.
26 التوبة: 15.
27 الزمر: 22.
28 البقرة: 74.
29 المائدة: 13.
30 آل عمران: 159.
31 الحدید: 16.
32 الزمر: 23.
33 الحدید: 27.
34 الحج: 54.
35 الكهف: 28.
36 البقرة: 283.
37 ق: 37.
38 الرعد: 28.
39 الاحزاب: 5.
40 البقرة: 225.
41 ق: 33.
42 النحل: 106.
43 الرعد: 28.
44 البقرة: 260.
45 كالآیات: آل عمران: 26 والمائدة: 113 و...
46 الفتح: 4.
47 الفرقان: 32.
48 هود: 120.
49 الحجرات: 14.
50 المجادلة: 22.
51 الحج: 32.
52 الحجرات: 3.
53 الاحزاب: 32.
54 التوبة: 117 و(فَأَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ زَیْغٌ) آل عمران: 7، (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) الصف: 5.
55 الزمر: 45.
56 التحریم: 4.
57 الانعام: 113.
58 الأنبیاء: 3.
59 التوبة: 8.
60 النحل: 22.
61 التوبة: 77.
62 النجم: 11.
63 الفتح: 26.
64 سبأ: 23.
65 الاحزاب: 53.
66 المائدة: 41.
67 الحجرات: 3.
68 الشعراء: 88 و89.
69 الصافات: 83 و84.
70 البقرة: 10.
71 ابراهیم: 37.
72 آل عمران: 103.
73 الانفال: 63.
74 الانفال: 24.
75 القصص: 10.
76 الحج: 46.
77 النحل: 78.