ar_akhlag1-ch2_1.htm

معرفة الله تعالى

القسم الثانی

1

  • معرفة الله تعالى
    • ما معنى معرفة الله؟
    • قیمة معرفة الله
    • علاقة معرفة الله مع الإیمان
    • طریق معرفة الله
    • دوافع معرفة الله

معرفة الله تعالى

ذكرنا أنّ صفات الإنسان وأفعاله الاختیاریة تدخل فی نطاق الأبحاث الأخلاقیة والقیمیة، ویمكن أن تقسّم حسب متعلقاتها الى مجموعات ثلاث:

ترتبط الاُولى بالله تعالى، والثانیة بالإنسان نفسه، والثالثة بمخلوقات الله تعالى.

فی المجموعة الاُولى یعتبر (الإیمان) أول فعل نفسانی للإنسان ذی علاقة بالله تعالى حیث قلنا آنفا: إنّه الأصل لقیمة سائر الأفعال والصفات الأخلاقیة، وقلنا أیضاً: نظراً الى أنّ حقیقة الإیمان هی نوع من أفعال الإنسان الاختیاریة فانّه یدخل فی نطاق الأخلاق والأبحاث الأخلاقیة، وكما قلنا:

الشرط الضروری لانعقاد الإیمان فی نفس الإنسان هو معرفة متعلَّق الإیمان، ونظراً الى أنّ العلم یحصل عادةً بطرق اختیاریة أمكن أن یكون من زمرة الأفعال الاختیاریة القیّمة.

بناءً على هذا نستنتج أنّ تحصیل العلم بالنسبة لمتعلَّق الإیمان من قبیل (الله عز وجلّ، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، والبعث والنشور والحساب) شرط لازم لانعقاد الإیمان فی النفس، كما أنّ الإیمان شرط لازم وأساس لسائر القیم الأخلاقیة.

من هنا ینبغی المبادرة بالبحث ـ قبل كلّ شیء ـ حول طلب العلم ومعرفة الله سبحانه، ویعتبر ذلك محوراً لسائر الأمور، ونجیب عن اسئلة یمكن طرحها فی هذا المجال من قبیل: ما المراد من معرفة الله؟ كیف تتمّ معرفة الله؟ ما هی قیمة معرفة الله؟ ما هی آفات وموانع المعرفة؟ إنها مهمة الأخلاق وعالِم الاخلاق، فعلیه أن یحدّد درجة أهمیة كلّ شیء وقیمته، ومنه هذا العلم وبیان طریق تحصیله وصیانته للآخرین من خلال دراسة موانعه وآفاته.

ما معنى معرفة الله؟

تكون معرفة الإنسان بالله على نحوین: المعرفة الحضوریة والمعرفة الحصولیة، وتنقسم المعرفة الحضوریة الى صورتین عامتین:

الصورة الاُولى: هی الإدراك الفطری أو المعرفة الإلهیّة الفطریّة، وقد تمّ بحثها فی قسم معرفة الله تعالى من معارف القرآن وقلنا: إنّ آیتی المیثاق والفطرة ناظرتان الى المعرفة الإلهیّة الفطریّة والإدراك الحضوری الضعیف والعلم نصف الواعی. إنّ العلم الحضوری فی صورته الفطریّة غیر اكتسابی وخارج عن دائرة اختیار الإنسان وإرادته، ولا یدخل فی نطاق علم الأخلاق طبعاً، إنّ الإدراك الفطری لدى أغلب الناس هو مجرّد استعداد ومادة أولیة، بوسع من توفّرتْ لدیه أن یخرجها من الإستعداد الى الفعلیة، ومن حالة الابهام الى مرحلة الإدراك الحضوری الواعی.

الصورة الثانیة: هی العلم الحضوری الذی یكتسبه الإنسان بنشاطه النفسی، ویكون أهلاً لإفاضة هذا العلم الواضح والواعی من مبدأ الفیض بعد اجتیاز مراحل التكامل. والعلم الحضوری تشكیكی أیضاً ذو مراحل آخرها هی الغایة النهائیة من الخلق والغایة القصوى للكمال الإنسانی، والهدف من خلق الإنسان أساساً هو الوصول الى تلك الدرجة.

من هنا ینبغی أن تتّجه الأفعال الأخلاقیة نحو تلك الغایة، وتقع فی طریق الوصول الى هذه المرتبة من الكمال الإنسانی. إنّ الآیات القرآنیة والروایات تشیر أیضاً الى هذه الحقیقة بتعبیرات مختلفة من قبیل الرؤیة، والشهود، والنظر وغیرها وتدلّ على أنّ أولیاء الله ینالون ذلك فی العالم الآخَر، وبذلك یكونون قد بلغوا سعادتهم الأبدیة، من قبیل قوله تعالى:

وُجُوهٌ یَوْمَئِذ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ.1

أو قوله تعالى:

وَكَذلِكَ نُرِی إِبْراهِیمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالأَْرْضِ وَلِیَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِینَ.2

من البدیهی أنّ هذه المرحلة النهائیة ـ والإدراك الحضوری الواضح أیضاً ـ لیست فی متناول الإنسان مباشرةً، بل إنّها أمر یفیضه الله ویعطیه بلطفه وكرمه لعباده المخلصین وبنی الإنسان الصالحین، لكن مقدّمات الوصول الى هذا المقام وإفاضة هذا الكمال اختیاریة، لأنّ الوصول الى هذا الإدراك الحضوری والسموّ الإنسانی یحصل كنتیجة للأفعال الاختیاریة التی إنْ وُجّهت بنحو صحیح ستنتهی بذلك المقام، وإفاضة هذا الكمال فی الواقع هو جزاء لبعض الأفعال الاختیاریة، الأفعال التی تنجز بنحو صحیح وحسن فیكون أجرها تامّاً وكاملاً فی العالم الآخر، وإن كان ممكنا أن یحظى أولیاء الله فی هذا العالم بمراتب دانیة من هذا الإدراك الحضوری على صورة حال أو ملكة.

وینبغی الإلتفات الى أنّ هدفنا فی هذا البحث عن المعرفة الإلهیّة لا یمكن أن یكون شیئاً من هذین الإدراكین الحضوریین ـ الإدراك الفطری المبهم والإدراك الحضوری الواضح ـ لقولنا عدم وقوع أیّ منهما تحت اختیارنا، والإدراك الحضوری الفطری الأول لیس اكتسابیا من الأساس، والإدراك الثانی وإن كان اكتسابیا الاّ أنه لیس تحت إرادتنا مباشرةً ولا یتحصل بدون مقدمة، ویطرح كهدف أعلى للسلوك الاختیاری.

بناءً على هذا فالمناسب لهذا المقال ویكون مقصوداً لنا أمران:

الأول: الإدراكات الحصولیة والإستدلالیة والتحلیلیة والعقلیة التی یمكن أن نكتسبها بشأن الله عزّ وجلّ وصفاته وأفعاله.

الثانی: الأعمال الصالحة الاختیاریة للإنسان، والتی یمكن أن تكون مؤثرة فی اقتراب الإنسان من مرحلة الكمال النهائی والإدراك الحضوری الواعی.

على هذا الأساس یمكن القول: إنّ الموضوع المقصود فی هذا البحث هو المعرفة الإلهیّة الحصولیة بمعناها العامّ الذی یشمل التصدیق بأصل وجود الله تعالى وتوحیده، وسائر اسمائه وصفاته وأفعاله التی وردت فی القرآن الكریم وروایات المعصومین(علیهم السلام) ویمكن إثباتها ومعرفتها عقلاً، كما یشمل الهدایة التی تتمّ على ید الأنبیاء(علیهم السلام) ممّا یتعلّق بمعرفة الله وصفاته وأسمائه وأفعاله حتّى الحساب والجزاء والعقاب فی عالم الآخرة، من حیث اعتبارها من جملة الأفعال الإلهیّة، وتدخل جمیعاً فی نطاق المعرفة الإلهیّة.

قیمة معرفة الله

هدفنا من طرح هذا البحث الأخلاقی هو أن نقیّم المعرفة الإلهیّة بهذا المضمون وفی هذه الحدود، وسؤالنا هو: ما قیمة المعرفة الإلهیّة أخلاقیاً؟

فی الإجابة نقول: نظراً الى أنّ الأصل فی القیم الأخلاقیة كافة هو الإیمان بالله تعالى، ومن وجهة نظر الإسلام لا یكون العمل قیّما ما لم یؤدَّ بدافع الإیمان، ومع اعتبار توقف الإیمان على المعرفة، حتّى أنّ للنقص والكمال فی المعرفة تأثیرَهما الدقیق فی كمال الإیمان ونقصه، وكلما اتصفتْ معرفة الإنسان بحَیویّة وعمق أكبر امتاز ایمانه بحیویة وعمق بتلك النسبة ذاتها. إنّ النتیجة الطبیعیة لهاتین المقدّمتین هو أن یُعدَّ العلم والمعرفة بمتعلَّق الإیمان من جملة المبادئ والاُسس للقیم الأخلاقیة. وكما أنّ الإیمان حقیقة تشكیكیة ذو شدّة وضعف ـ الاّ أنّه كلما كان أكثر حیویةً وقوةً دفع الإنسان نحو نشاط وسعی أكبر ونظام سلوكی أدق، ویوجب أخیراً قیماً أسمى فیما یتعلّق بالفوز والفلاح والسعادة الأبدیة للإنسان ـ تكون للعلم والمعرفة ذات النسبة من الشدّة والضعف أیضاً، وكلما كانتا أكثر كمالاً أوجدتا قیمة أسمى عن طریق التأثیر على الإیمان، وكان لهما تأثیر أعمق فی وصول الإنسان الى سعادته الخالدة، والى أكثر القیم والكمالات اصالةً فی حیاته.

وكنتیجة: لكی یصل الإنسان الى سعادة أكبر من الضروری أن یقوّی ایمانه، ولتحصیل الإیمان الأقوى لابدّ من المزید من المعرفة كشرط ضروری الى جانب الشروط الأخرى.

علاقة معرفة الله مع الإیمان

یمكن القول: إنّ المعرفة الإلهیّة الحصولیة التی تُكتسب باستخدام المفاهیم والتحلیل الذهنی والإستدلال العقلی هی عبارة عن مجموعة من القضایا فی دائرة المسائل المتعلقة بالمعرفة الإلهیّة التی تطرح علمیاً وفلسفیاً وكلامیاً. القضایا التی تكون ذات موضوعات ومحمولات ینبغی تعریفها، ونسب یمكن أن تنال تأیید الإنسان وتصدیقه باقامة البرهان. أی إنّنا كما نفكّر فی مسألة ریاضیة ونتوصل الى طریقة لحلها، لابدّ أن نفكّر بدقة فی المسائل والمشكلات التی تعترض المعرفة الإلهیّة، ونبادر بمعونة رجال الفكر لحلها وفك عُقدها المبهمة. وإنْ افترقت المعرفة الإلهیّة عن العلوم الریاضیة من جهة اُخرى، لأنّ الأخیرة لا دور لها فی سلوك الإنسان ومسیرة تكامله الإنسانی والأخلاقی، ویغفل عنها غالباً، الاّ أن یمارسها الإنسان فی وظیفته ومهنته الیومیة، كالمهندس الذی یمارس الهندسة غالباً، أو المحاسب الذی یضطر لاستخدام القواعد الهندسیة والقوانین الریاضیة یومیا بمقتضى عمله ومهنته، ویكون هذا العلم فیه حیاً وفعالاً، على عكس الكثیر من الذین قاموا بحل المسائل الریاضیة ولهم القدرة على حلها، الاّ أنّهم یغفلون عنها نظراً لعدم التأثیر الكبیر للعلوم الریاضیة على حیاتهم.

إنّ المعرفة الإلهیّة علم له تأثیره على تكاملنا الأخلاقی والإنسانی والمعنوی، الاّ انّها ـ بلحاظ تأثیر تطبیقها الدائم والإهتمام المتواصل بها على بقائها حیةً ومؤثرةً وفعالةً ـ كالریاضیات والهندسة تماماً. إنّنا لو طالعنا ولاحظنا القضایا الفلسفیة والكلامیة المتعلقة بالمعرفة الإلهیّة وأدلتها وبراهینها مرّة واحدة، بل وتعمّقنا فیها، ثبت لدینا وجود الله بوضوح بالأدلة والبراهین القاطعة، ولكن لو احتفظنا بها فی ذاكرتنا، ثمّ غفلنا عنها عملیاً فانّ هذه المعرفة سوف لا تبقى حیةً، ولا یمكن أن یكون لها تأثیر بالغ على حیاتنا وتكاملنا ما لم نهتمّ بها یومیا وبنحو متكرر، ونراجعها فی فرص مناسبة ونحاول استحضار تلك المعلومات فی أذهاننا الواعیة، وبهذا النحو تكون المعرفة الإلهیّة فینا حیّة وفعالة، وتلعب دورها فی حیاتنا العملیة، وتنظیم سلوكنا وتكاملنا المعنوی والأخلاقی وسموّنا الإنسانی وتوجیه أعمالنا ونشاطنا الیومی. وهذه هی المعرفة الإلهیّة التی یؤكّد القرآن الكریم على آثارها حیث یقول:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِینَ هُمْ فِی صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ * وَالَّذِینَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِینَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ * وَالَّذِینَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ.3

أجل، فانّ مثل هذه الآیات التی تُلاحظ كثیراً فی القرآن الكریم تحثّ على الإیمان الحی والمؤثّر عملیاً، والذی ینبع من المعرفة الإلهیّة الحیة والناشطة.

بناءً على هذا فانّ المعرفة یمكن أن تؤثر فی تكامل الإیمان بلحاظین وعَبر قناتین:

الاُولى: من ناحیة الكیفیة، أی كلما كانت معرفة الإنسان أقوى فی قطعیتها وأرسخ وأوضح وأبعد من الشك والإبهام والتردد، وبلغت حدّ الیقین وترسخت فی مرحلة الیقین فانّه یحظى بایمان أقوى، وتصدیق أعلى، والتزام عملی أشمل وأعمق.

الثانیة: كلما اشتدّ اهتمام الإنسان بالمعرفة الحاصلة وتكررتْ مراجعته إلیها وسعى لجعلها مؤثّرة فی حیاته العملیة والیومیة، فمن الطبیعی أن لا تنسى هذه المعرفة وتبقى مؤثّرة على ایمانه الحی والفعّال.

بناءً على هذا یكون لمراتب العلم والإلتفات المتكرر إلیها التأثیر البالغ فی تنمیة الإیمان وترسیخه وبقائه وحیاته و... من هنا ندرك السبب فی تأكید القرآن الكریم الخاصّ على فضیلة العلم والمعرفة، حیث إنّ الآیات الكریمة النازلة فی فضیلة العلم یمكن القول بوضوح أنّ اكمل وأوضح مصادیقه هو العلم بذات الله عزّ وجلّ وأفعاله وصفاته، وتمثّل هذه المعرفة القدرَ المتیقن من مصادیق العلم فی الآیات المطلقة، فضلا عن الآیات التی ینحصر ظهورها فی هذا النوع من العلم. ویمكن القول أیضاً: إن ملاك فضیلة العلم ومعیار سموّه یعودان أیضاً الى تأثیره على الإیمان، ومن خلاله على السلوك، ومن خلال الأخیر على السعادة الدنیویّة والخالدة للإنسان، ویكون منشأً للحیاة المادیّة والمعنویّة والفردیة والاجتماعیة الفاضلة والسعیدة للإنسان، قال تعالى بهذا الشأن:

یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اسْتَجِیبُوا للهِِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما یُحْیِیكُمْ.4

طریق معرفة الله

الآن وبعد اتضاح مفهوم معرفة الله وعلاقتها بالإیمان وقیمتها السامیة یُطرح هذا السؤال: كیف یدرك الإنسان تلك المعرفة القیّمة؟

فی الإجابة عن السؤال نقول: القضایا العلمیة على نحوین: القضایا البدیهیة التی یكفی لتصدیقها تصور الموضوع والمحمول والنسبة بینهما، والقضایا غیر البدیهیة التی یحتاج التصدیق بها الى أمر غیر التصور وهو «الدلیل» بمعناه العامّ. ولا ینحصر طریق تحصیل المعرفة ـ طبعاً ـ فی البرهان العقلی، بل حسب تناسب الموضوعات التی تنالها معرفة الإنسان یمكن استخدام طرق متنوعة اُخرى كالتجربة فی الموضوعات العلمیة، والنقل فی الموضوعات التأریخیة، وأحادیث المعصومین(علیهم السلام)فی الموضوعات الفقهیة وغیرها، فكلّ واحدة منها تقدِّم معرفة فی موضوعها المتناسب معها، ولكن المعرفة الإلهیّة لا یوجد فیها غیر طریق واحد وهو البرهان العقلی. فعندما یكون موضوع المعرفة هو الله سبحانه فلا معنى للاستناد الى نقل الآخرین حتّى النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) أو الائمة المعصومین(علیهم السلام). بناءً على هذا یكون الطریق الوحید لمعرفة الله هو البرهان العقلی. ومن الواضح ـ كما قلنا آنفاً ـ إن بحثنا هنا هو المعرفة الإلهیّة الحصولیة ولیس الحضوریة التی لا تكتسب عن طریق الإستدلال والبرهان العقلی، وطریق الوصول إلیها هو عبادة الله تعالى وتركیز التوجّه إلیه سبحانه.

فی مجال المعرفه الإلهیّة الحصولیة توجد براهین واضحة ومطمئنة لا نستعرضها هنا، وللتعرف علیها یمكن مراجعة العلوم ذات العلاقة بها كعلم الكلام والفلسفة. الأمر الوحید الذی ینبغی التذكیر به هو أن براهین المعرفة الإلهیّة تستند غالباً الى مقدمات وأصول موضوعة، بحیث یتوقف الإدراك الحقیقی لتلك البراهین على إدراك هذه المقدّمات، ویتمّ إدراك تلك المقدّمات بالممارسة والاُنس مع المنطق وعلم الكلام والفلسفة. من هنا فانّ بیان هذه الموضوعات وطرح هذه البراهین على الأشخاص الإعتیادیین والجاهلین بالعلوم المذكورة لا یكون عدیم الفائدة فحسب، بل قد یكون ضاراً ومثیراً للشبهات فی أذهانهم، ولا یدركون الردود علیها سریعاً. إذنْ من الضروری فی التعلیم أن نأخذ بعین الإعتبار مستوى إدراك المتعلم ونقوم بتعلیم القضایا المقصودة مراعین قابلیة الإدراك ومستوى الفهم، ونحترز من طرح الشبهات المعقَّدة التی یشكل ردّها، لكی لا نكون سبباً للإضلال بدلاً عن الهدایة.

یمكن القول انّ أفضل منهج للمعرفة الإلهیّة هو منهج الأولیاء والأنبیاء وأفضلها هو منهج القرآن، هذا الكتاب السماوی وكلام الله تعالى، ویمكن الإستعانة بهذه المناهج لنشر المعرفة الإلهیّة بین عامّة الناس، ولا نقصد طبعاً الحط من شأن الأبحاث الكلامیة والفلسفیة، بل نرید القول: إنّ طرح هذا النوع من الأبحاث یكون نافعاً لفئة خاصّة من ذوی الأفهام المتوقدة، والمطلعة على الفلسفة وعلم الكلام، ولیس لعامّة الناس، أو عند ضرورة الردّ على الشبهات التی یثیرها الآخرون. ولكن فی التعلیم الابتدائی للأشخاص الإعتیادیین لا تتوقف المعرفة الإلهیّة على طرح القضایا الفلسفیة المعقَّدة وإدراك مصطلحاتها العویصة، حتّى إذا عجزوا عن إدراكها یئسوا من معرفة الله أیضاً. نستنتج من ذلك أنّ طریق المعرفة الإلهیّة هو إقامة البرهان العقلی، والقرآن یقیم البرهان أیضاً فی مجال المعرفة الإلهیّة والمسائل العقائدیة، وذلك لاقناع العقول وتنویر أفكار الناس.

دوافع معرفة الله

هناك سؤال آخر جدیر بالطرح والبحث بشأنه هنا وهو: ما العوامل والدوافع التی تحفز الإنسان لطیّ طریق المعرفة الإلهیّة والبحث عن الله؟

تحظى الإجابة عن هذا السؤال بأهمیة كبیرة فی علم الاخلاق، لأنّ الإنسان یستطیع بمعرفة هذه العوامل والدوافع أن یحثّ نفسه أو الآخرین على بذل المزید من السعی فی المعرفة الإلهیّة، أو یندفع من خلال تعریفهم وتأییدهم وتحفیزهم لاكتساب المعرفة بنحو تلقائی.

بناءً على هذا فانّ من الضروری معرفة هذه الدوافع من قِبل معلّم الأخلاق والمربّی، وهكذا معرفة طرق تقویتها وتحفیزها. ولذا نقوم هنا ـ حسب المجال المسموح به ـ للإجابة عن السؤال بدراسة بعض هذه العوامل والدوافع:

أ ـ من الدوافع ذات التأثیر الایجابی فی مطلق العلوم وجمیع المعارف لدى الإنسان هو (غریزة البحث عن الحقیقة) فالله تعالى قد خلق الإنسان بنحو یكون باحثاً فی فطرته وباطنه عن معرفة الحقائق، وباحثاً عن ضالّته هذه، وبهذا الصدد یطرح باستمرار أسئلة فی المجالات والموضوعات المتنوعة ویسعى للحصول على أجوبتها. من هنا حقق الإنسان تقدّما كبیراً فی المعارف والعلوم، ووضع فلسفة وعلوما مختلفة وفروعا تخصّصیة متنوعة تتشعب بسرعة یوماً بعد آخر، وقام من خلال ذلك باختراعات واكتشافات وحقق تقدُّماً فی الحیاة.

إنّ البحث عن الحقیقة نزعة فطریة وقهریة متجذّرة فی كلّ إنسان، ویعبّر عنها أحیاناً بغریزة البحث والتحرّی. هذه النزعة بأیّ عنوان ذكرناها هی جزءٌ من حقیقة الإنسان، ومتجذّرة فی طبیعته وأعماق وجوده، إنْ غفلْنا عنها فسوف نغفل عن جزء من إنسانیتنا ووجودنا. بناءً على هذا فانّ إنسانیة الإنسان وكماله یقتضیان البحث عن الحقائق وإدراكها، فانْ أُهمل فی هذا المجال خُدشت إنسانیته وسیهوى الى حضیض البهیمیة ودونها.

بناءً على هذا نستطیع من خلال الربط بین (البحث عن الحقیقة) و(البحث عن الكمال) فی الإنسان والذی سیكون أعمَّ منه وأوسع وأعمق ـ ومن الأفضل أن نقول: بالتوعیة والتنبیه على هذه العلاقة الواقعیة الموجودة بین هاتین الغریزتین ـ یمكن أن ندفع الإنسان الى بذل المزید من الجهد والنشاط فی هذا المجال، لأنّ أیّ إنسان لا یرغب فی عدم تكامله، أو هویّه الى حضیض البهیمیة وابتعاده عن الإنسانیة والكمال الإنسانی. وإذا التفت الى أنّ الإهمال فی إدراك الحقائق یعنی ذلك فانّه سوف یبذل المزید من السعی المقدور للحیلولة دون السقوط، فیقوم بطرح الاسئلة، ویستعدّ لتلقّی الأجوبة عنها، ومن أهمّها هو هذا السؤال الأساس: هل للعالم خالق أم لا؟ وإن كان له خالق فما هی صفاته وأفعاله؟

هذه الغریزة لا یلزم أن تكون مؤثرة فی جمیع الناس، بل إنّ ثلّة قلیلة یقوى فیها هذا الدافع فتتابع العلم والمعرفة بتحفیز فطری بحثاً عن الحقیقة فقط. إن أغلب الذین یهمّهم اكتساب المعارف ـ ومنها التوحید والمعرفة الإلهیّة والمسائل ذات العلاقة بها ـ لابدّ أن یضموا دوافع اُخرى الى دافع البحث عن الحقیقة، لیكونوا ناشطین فی انتهاج هذا الطریق، وقلیلون هم ذوو الهمة العالیة الذین یتحرَّون الحقائق، وفی صدارتها خالق الوجود بهدف إدراك الحقیقة، ورفع مستوى المعرفة لدیهم.

ولعل استناد القرآن الكریم فی موارد كثیرة جدّاً الى الحق والحقیقة یؤید ما نقول، وهذا الإهتمام فی نفسه دلیل على إقرار القرآن بوجود هذا المیل فی الإنسان وامضائه والإستناد إلیه كعامل تربوی مؤثر. من هنا نلاحظ آیات من قبیل الآیة: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِینَ.5

والآیة: فَهَدَى اللهُ الَّذِینَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِیهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ.6

حیث تشیر الى أن الجمیع یبغون الحق، ولكنهم یختلفون فی معرفة الحق وتعیین مصداقه.

أو الآیة: تَرى أَعْیُنَهُمْ تَفِیضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ.7

أو الآیة: وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ.8

والآیة: أَ فَمَنْ یَهْدِی إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لا یَهِدِّی إِلاّ أَنْ یُهْدى.9

أو الآیة: قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاّعِبِینَ.10

هذه الآیات تعترف بوجود هذا المیل فی الإنسان، وتتحدّث عن الحق بأسالیب مختلفة بهذا الشأن، فلولاه یفقد هذا اللون من التأكید معناه، ومن خلال وجود هذا المیل یقوم بتوجیهه نحو أهداف خاصّة بتحدید مصداق الحق. بعبارة اُخرى یقرّ القرآن الكریم بمبدأ غریزة المیل الى الحق فی الإنسان، وبعد الإقرار یقوم بتقویتها وتأییدها وهدایتها عبر طریقین: أحدهما الإشارة الى هذا المیل، وإلفات نظر الإنسان الى وجوده وتحفیزه، والثانی تحدید المصداق ومعرفة الحق، فیكون ذلك سبباً للمزید من الاتضاح والتحدید لمتعلَّق هذا المیل وجهته، لیستتبع تحرك الإنسان نحو معرفة الحقائق وأكبرها وأشرفها وهو وجود الله تعالى.

ب ـ الدافع الآخر الموجود فی الإنسان ـ ویمكن التأكید علیه بمقتضى هذا البحث ـ هو (حبّ الذات) الذی له دور العامل الباطنی القوی الذی یبعث الإنسان لتحصیل كمالاته والاحتفاظ بفضیلته وشرفه الإنسانی فی نفسه. ومن وجهة نظر (الفلسفة) و(علم النفس) إنّ أحد فروع حبّ الذات والذی یعبّر عنه أحیاناً بـ (حبّ الكرامة) هو رغبة الإنسان الشدیدة فی صون إنسانیته والتمیّز عن الحیوانات، ونظراً الى أنّ الحیاة والكرامة الإنسانیة ـ على عكس الحیاة الحیوانیة القائمة على قوانین عمیاء ومنهج غریزی لا تعقّل فیه ولا اختیار عقلانی، أو یوجد بنحو ضعیف جدّاً ـ مستندة تماماً الى بناء الحیاة الإنسانیة على اُسس عقلانیة، واستناد سلوك الإنسان على الاختیار العقلانی، وتظهر فی إطار الفكر والرؤیة الكونیة، والأطر والمواصفات المعقولة والمنطقیة.

بناءً على هذا یظهر سلوك الإنسان ـ فی الحیاة الإنسانیة ـ فی اُطر قیمیة وعقلانیة وهی مبتنیة على المعارف والرؤى العقلانیة، وفی صدارتها المعرفة الإلهیّة.

وبعبارة اُخرى إن لم یعرف الإنسان الله فانّه لا یمتلك ـ فی الحقیقة ـ رؤیة كونیة صحیحة وعقلانیة، وبفقدانها سیفقد المذهب الفكری الصحیح، وفی هذه الحالة لا یصدر منه سلوك إنسانی صحیح.

فی هذا المجال نلاحظ آیات قرآنیة تستند الى هذه الحقیقة بنحو ظریف وواضح فی الوقت ذاته، وتُنزل الذین یفقدون المعارف ولم ینظّموا حیاتهم وفق القوانین والمبادئ العقلانیة والمنطقیة الى مستوى الحیوان، بل أدنى وأضلّ منه حیث تقول الآیة:

وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِیراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِْنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا یَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْیُنٌ لا یُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا یَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالاَْنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.11

نذكّر هنا بحقیقة قد تحدّثت عنها الآیات القرآنیة فی موردین: قال الله تعالى فی المورد الأول:

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِینَ كَفَرُوا فَهُمْ لا یُؤْمِنُونَ.12

وفی المورد الثانی:

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِینَ لا یَعْقِلُونَ.13

فاذا قمنا بالمطابقة بین الآیتین نستنتج أنّ فقدان الإیمان یكون معلولاً لنوع من العمى الباطنی، وفقدان العلم الصحیح وعدم استخدام العقل. بناءً على هذا فانّ طریق تحصیل الإیمان الصحیح هو استخدام العقل، حیث تُنال به معرفة صحیحة توفّر أرضیة ظهور الإیمان.

یمكن القول: إنّ الآیات التی تماثل الآیات المذكورة فی استنادها الى الإدراكات الإنسانیة بهذا النحو، حیث ترى أنّ فقدانها یتقارن مع فقدان الإنسانیة، وتسعى من خلال ذلك لدفع الإنسان نحو استخدام الفكر وتحصیل المعارف الحقة من قبیل الآیة:

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ یَسْمَعُونَ أَوْ یَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالاَْنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِیلاً14

تؤكّد على دافع حبّ الكرامة فی الإنسان، وعلى أساس تجذُّر هذا المیل فی طبیعة الإنسان تستخدمه كعامل تربوی فی مسیرة تعالی الإنسان، وبهدف تحفیز وتقویة المیل نحو الكمال والكرامة الإنسانیة، وهكذا ارشاده الى الهدف الصحیح، وتبیّن أنّ عدم الإنتفاع الصحیح من قوى الإدراك والنعم الكبیرة التی منحها الله للناس یعنی الانحطاط الى مستوى الحیوان الدانی.

ج ـ الدافع الثالث الذی یمكن الإشارة إلیه فی هذا المجال، ویمكن أن یكون مؤثرا فی تحصیل المعرفة هو غریزة شكر المنعم وأداء حقه. فكلّ إنسان ذی فطرة سلیمة حینما یُحسن إلیه شخص یَعتبر نفسه مَدیناً إلیه، ویفكّر دوماً فی إبداء شكره إزاء هذا الإحسان. هذا المیل له جذوره فی أعماق الفطرة الإنسانیة، وتظهر آثاره فی مواقع مناسبة ما لم تحُلْ موانع دون تأثیره، أو یوجد انحراف فی فطرة الإنسان إثر بعض الأعمال والممارسات.

بما أن الإنسان ـ حسب مستواه الفكری فی هذا العالم ـ یدرك هذه الحقیقة وهی أنه یحظى بنعم كثیرة، وكلما امتلك فكراً أعمق ودقةً أكبر، واستطاع أن یدرك النعم الأكثر دقةً وظرافة بنحو أفضل، فانّه یرى نفسه غارقاً فی النعم بصورة أكبر وأوسع وأعمق، ویطرح أمامه هذا السؤال:

من هو مصدر هذه النعم؟ ومن الذی أحسن إلیَّ؟

هنا تكون غریزة معرفة الحق من العوامل القویة جدّاً، والتی تدفعه فی هذا المجال للسعی بحثاً عن منعمه وأداء الشكر على نعمه، أو ردّ الجمیل ـ لو كان ممكناً ـ تجاه كلّ هذا الإحسان والإنعام، إنّه یرى هذا الموقف واجبه الإنسانی، والإهمال فیه یثیر عدم ارتیاحه النفسیّ وعذابه الوجدانی وندمه، كمن اُرسل إلیه أموال كثیرة عن طریق البنك ولم یعرف المرسل، فانّه یسعى بفطرته للتعرف علیه قدر المستطاع، وهذا الشعور لمعرفة الحق لا یدعه یستقر حتّى یجده ویردَّ جمیل لطفه بطریقة ما، أو ییأس من وجدانه.

إنّ هذا میل فطری وغیر اكتسابی قد أودعه الله سبحانه فی ذات كلّ إنسان ویكون جزءاً من حقیقته، فكأنه یشعر بوجود نقص فی ذاته، ویسعى لرفعه وإكمال إنسانیته.

إنّ القرآن یعترف بوجود هذا المیل فی ذات الإنسان، ویعمل على تقویته وارشاده كعامل فی الآیة التی تقول:

هَلْ جَزاءُ الإِْحْسانِ إِلاَّ الإِْحْسانُ.15

إنّه من الأسئلة التی یبحث القرآن عن الإجابة عنها فی أعماق الوجدان الإنسانی، ویطرحه لإیقاظ الفطرة الإنسانیة، وإذكاء المیل الفطری لشكر المنعم فیه، فضلا عن أنّنا لو تأملنا قلیلاً فی الآیات الكثیرة التی تذكّر بنعم الله، وتسند كلّ نعمة الى الله سنجد أنّ هذه الآیات تستهدف استخدام هذه الغریزة فی الإنسان كعامل تربوی، وبناء شخصیة الإنسان والبلوغ به الى الكمال باذكائها وتحریكها وتوجیهها، وكنموذج نشیر الى قوله تعالى:

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَْرْضَ لَیَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِیزُ الْعَلِیمُ * الَّذِی جَعَلَ لَكُمُ الأَْرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِیها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِی نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَر فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَیْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِی خَلَقَ الأَْزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَْنْعامِ ما تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَیْتُمْ عَلَیْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِی سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِینَ * وَإِنّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ.16

أجل، ان الله أعطاكم هذه النعم حیث جعل الأرض لكم مهداً لكی تستقروا، وشقّ فیها الطرق لكم لكی تهتدوا، وسخر لكم الفلك والحیوانات لتركبوها، ثمّ تذكروا نعمة الله وتؤدّوا شكره وتسبّحوه وتتوجهوا إلیه.

د ـ الدافع الآخر الذی یمكن أن یبعث الإنسان للسعی فی سبیل معرفة الحق هو میل التقرب الى صاحب المكانة العالیة والموجود القوی الكامل. وإذا كان هناك إله حاكم على عالم الوجود، یمكن بهدایته أن یجد الإنسان طریق كماله ویقترب منه بإطاعة أوامره والإستقرار فی جوار رحمته انبعث بمقتضى فطرته للبحث عنه حتّى یعرفه. وهذا جزءٌ من رغبات الإنسان الفطریّة، ویتشعب من حبّ ذاته وحبّ كماله.

إنّ میل التقرب من شخص قوی وذی مكانة ومنزلة والإرتباط به یمكن ملاحظته جیّداً بتأمّل یسیر فی الحیاة الیومیة والسلوك والكلام الإعتیادی بین الناس، إذْ كثیراً ما یتفق أن نلاحظ أشخاصاً یرغبون فی بیان ارتباطهم بشخصیة ما ـ صراحة أو تلمیحاً ـ من خلال سرد قصة، والزهو بذلك أمام الآخرین كقضیة مهمة وجدیرة وامتیاز مرموق لهم.

بناءً على هذا یكون المیل الى الموجود الكامل أمراً فطریاً فی الإنسان، فإذا كان هناك موجود فوق الموجودات كلها وكامل مطلق، فانّ التقرب منه لا یمكن مقایسته أبداً مع التقرب الى الموجودات الأخرى، لأنّا لو أردنا معرفة مفهوم الكمال المطلق فی المبدء تعالى وخالق الوجود سندرك أنّه كمال لا یكون عظماء العالم بدءاً بالسلاطین وأئمة الحق والباطل، وانتهاءً بالعلماء والمفكّرین، وكلّ ذی جمال وثروة تجاه ذلك الكمال الإلهی المطلق شیئاً یُذكر، وسیكونون كنسبة قطرة صغیرة الى بحر عظیم. ومع ملاحظة هذه الحقیقة كیف یمكن مقایسة التقرب من هذا المقام العظیم مع التقرب الى الشخصیات الإنسانیة الظاهریة وكلهم عبید مملوكون له لا یملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً؟ وكیف یمكن مقایسة التقرب إلیه بالتذلل أمام عباده؟

هذا الفكر العمیق یُحیی حافزاً متجذّراً فی الإنسان، ویحركه ویدفعه أحیاناً كظمآن لا یرتوی للبحث عن هذا الكمال المطلق، لینهل من ماء عرفانه الصافی والعذِب حسب المعرفة التی یكتسبها، ثمّ یبذل غایة جهده فی عبادته لكی یحظى بمكانة لدیه، والإستقرار فی جوار رحمته.

بدیهی أنّ ذكر هذه الأمثلة البسیطة تنفع السائرین فی بدایة الطریق، أمّا الذین طووا مراحل المسیر وبلغوا مستویات من القرب والتعالی فانّهم فی غنىً عن هذه الأمثلة.

ما ذكرناه الى هنا كان من أكثر الدوافع أصالة فی الإنسان وتأثیراً فی هذا المجال، وإن كان من الضروری أن نذكّر بأنّ باعثیة ودافعیة هذه الدوافع لیست قویة جدّاً فی عامّة الناس، وأنّ دافع البحث عن الحقیقة أو معرفة الحق أو حبّ الكرامة أو التقرّب من الموجود المتعالی لا یمكن أن یكون له لوحده دور كبیر فی السعی فی مجال المعرفة الإلهیّة بالنسبة لأغلب الناس، عدا عدد قلیل منهم وثلة متمیزة من بنی الإنسان الذین تهمّهم هذه القیم السامیة وتسوقهم الدوافع الإنسانیة المتعالیة، ویسعَون بحثا عن الحقیقة ومعرفة الحق ویبتغون الشرف والكرامة بالتقرّب الى الله ربّ العباد والحُظوة بالمكانة لدیه فحسب، فیستهدفون المعرفة الإلهیّة ویختارون عبادة الله وإطاعته.

فینبغی ذكر دوافع اُخرى یكون فهمها أیسر وأثرها أوضح ونفعها أسرع، ویمكن أن تكون مؤثرة ومحركة فی ساحة أوسع وفئات اجتماعیة أكبر، وتؤثر على عامّة الناس وتدفعهم للتحرك والسعی كما سیأتی.

هـ ـ من دوافع النوع الثانی هو دافع (طلب المنفعة) إذْ إنّ بنی الإنسان یسعَون عادةً لتحقیق المصالح المادیّة ودفع الاضرار، وینظّمون سیرهم ومساعیهم وأحادیثهم وسلوكهم على هذا الأساس.

والإنسان المتأثّر بمثل هذا الدافع إذا احتمل وجود مصالح یمكن التوصل إلیها من خلال طاعة الله، كفى هذا الاحتمال لدفعه لبذل الجهد والسعی لمعرفة الله وإطاعته، فكما أنّ احتمال تحصیل المنفعة یدفع الإنسان لتحمل المشاق والمعاناة الكبیرة للبحث حول نجوم السماء بأمل الوصول الى نتائج ومنافع قد تعود علیه فانّ هذا الاحتمال یؤثّر بصورة أوضح وأكمل، ویحفز الإنسان للبحث والتحقیق فی مجال المعرفة الإلهیّة.

ولكن السؤال هو: من أین وكیف یوجد هذا الاحتمال فی مخیّلة الإنسان؟

الجواب: إنّ انبعاث الأنبیاء وإنزال الكتب السماویة بكلّ مواعیدهم یكفی لنشوء هذا الاحتمال فی مخیلة الناس، وهو احتمال وجود إله بیده زمام الأمور كلها، ولعل فی طاعته منافعَ تعود على أموال الإنسان وجسمه وشؤونه، وحدّاً لنسبة الجریمة والعدوان والسرقة فی المجتمع، وتزید من أمن الناس واستقرارهم وراحتهم، كما قال تعالى فی القرآن الكریم:

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَیْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَالأَْرْضِ.17

أجل، إنّ هذه الاحتمالات تكفی لأن یقوم دافع البحث عن المنفعة فی الإنسان ـ الذی یحفّزه دوماً تبعاً لهذه الاحتمالات ـ بحثّه على بذل الجهد والتحری بشأن المعرفة الإلهیّة، والمباشرة بالتحقیق والتدبر والبحث والدراسة والمطالعة والتعلیم والتعلم وإرواء هذا الظمأ الباطنی. لأنّ الإنسان نظراً لاُِنسه بالحس وانفعاله بشدّة بالإدراكات الحسیة والملذّات الظاهریة والمادیّة، فانّ للاهتمام بهذه المكاسب المادیّة فی هذا العالم تأثیراً أكبر فی نشاطاته قیاساً الى الإهتمام بالجوانب المعنویّة للعالم الآخر، ولذا یمكن استثمار هذه العوامل بنحو جیّد فی المجال التربوی أیضاً.

و ـ الدافع الثانی الذی یؤثر تأثیراً بالغاً فی هذا المجال على الصعید العامّ هو دافع (الوقایة من الشرور) أو (دفع الآلام) ویمكن القول: یعتبر هذا الدافع اضافة الى دافع طلب المنفعة المذكور آنفاً وجهین لعملة واحدة، ویماثله فی أنّه صورة من المیل نحو المحسوسات فی الإنسان.

إنّ الإنسان فی تدبّر وتخطیط وسعی دائب لاستتباب الأمن من الآلام والمصائب والعذاب الدنیوی، والهروب من الوحوش والأمراض والحروب والأخطار العدیدة التی تتربص به فی هذا العالم المادی. وهذا الدافع من القوة ما جعله یستجمع جلّ القوى والجهود والفرص والثروات الإنسانیة، حتّى أضحى من الممكن القول: إنّ أحد العوامل المهمة فی سباق التسلح بین القوى الكبرى وتوظیف الطاقات والقابلیات الإنسانیة المهمة لتصنیع اسلحة الدمار النوویة، والكیمیاویة والبیولوجیة، أو فرض الدكتاتوریة وسحق الكرامة الإنسانیة هو دافع الخوف من العدوّ فی الجبهة المقابلة، والأخطار والآلام والاضرار التی یحتمل مواجهتها حالة الإهمال فی هذه المجالات، ثمّ تهدید الأمن والإستقرار.

بناءً على هذا إنّه عامل قوی ویمثّل أحد الأبعاد الإنسانیة القویة الذی یستحق الإعتماد علیه تماماً فی المجالات التربویة وتوجیه التكامل الإنسانی، حتّى أن من الأفضل، بل من اللازم استثمار هذه الدوافع السطحیة الحسّیة أكثر من الدوافع الإنسانیة السامیة التی ذكرناها آنفاً بالنسبة لعامّة الناس الذین یألفون الإدراكات الظاهریة والسطحیة والمادیّة فی هذا العالم، ویغفلون عن ما فوقها من إدراكات متعالیة.

والقرآن الكریم یقرّ بوجود هذین الدافعین (طلب المنفعة) و(الوقایة من العذاب) ونظراً لكثرة الآیات من هذا القبیل، لا یمكن اجراء دراسة تفصیلیة بشأنها، ولكن كنماذج یمكن دراسة عدد من الآیات، كالآیة:

الزّانِیَةُ وَالزّانِی فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِد مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَة وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِی دِینِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْیَوْمِ الآْخِرِ وَلْیَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ.18

ففی هذه الآیة تمّ استثمار هذا الدافع (الوقایة من العذاب) واستخدمت أسباب العذاب الثلاثة لتربیة المسلمین وتطهیر المجتمع الإسلامی ومكافحة الفساد: الأول هو عذاب الجَلْد، والثانی عذاب عدم الإعتناء والرأفة من قبل الآخرین، والثالث عذاب الفضیحة التی یحس بها الزانی عند مشاهدته من قبل طائفة من المؤمنین، والآیة:

وَأَطِیعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِیحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصّابِرِینَ.19

ومن قبیل الآیة:

لَقَدْ كانَ لِسَبَإ فِی مَسْكَنِهِمْ آیَةٌ جَنَّتانِ عَنْ یَمِین وَشِمال كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَیِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَیْهِمْ سَیْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَیْهِمْ جَنَّتَیْنِ ذَواتَیْ أُكُل خَمْط وَأَثْل وَشَیْء مِنْ سِدْر قَلِیل * ذلِكَ جَزَیْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِی إِلاَّ الْكَفُورَ.20

ومن قبیل الآیة:

أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِی السَّماءِ أَنْ یَخْسِفَ بِكُمُ الأَْرْضَ فَإِذا هِیَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِی السَّماءِ أَنْ یُرْسِلَ عَلَیْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَیْفَ نَذِیرِ.21

وفی الآیة:

یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَیْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَیْهِمْ رِیحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِیراً.22

وقال تعالى فی آیة كقانون عامّ وسنّة ثابتة:

ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ یَكُ مُغَیِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْم حَتّى یُغَیِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ.23

هذه الآیات وغیرها كثیرة تفترض وجود الدافعَین اللذَین نبحث عنهما (طلب المنفعة ودفع الضرر) وتستثمرهما بهدف هدایة الإنسان فی طریق الرشد والكمال فی المجالات الاجتماعیة والفردیة المختلفة.

ونقول فی هذا المجال: من الممكن استثمار هذین الدافعین الشاملین والعمیقین والمؤثرین فی أغلب الناس لحثّهم على السعی والنشاط الفكری والإدراكی، والتقدّم بهم فی طریق المعرفة الإلهیّة من خلال تحفیزهما وإرشادهما.

فإذا علم الإنسان بل احتمل أنّ هناك مَن بیده نفعه وضرّه، وهو قادر على ایصال نعمه الیه، أو تعریضه للبلاء والمعاناة والمصائب، فانّه سوف یبادر بالسعی والبحث بشأنه بغیةَ التعرف علیه، ثمّ التعامل معه بنحو یستدعی لطفه وفضله ونعمه، وتجنیبه من سخطه وغضبه وعذابه المحتمل.

والقرآن الكریم یخاطب بهذا الخصوص:

وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا یَنْفَعُكَ وَلا یَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظّالِمِینَ * وَإِنْ یَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِنْ یُرِدْكَ بِخَیْر فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ یُصِیبُ بِهِ مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ.24

ویشیر الى قول جمیل على لسان ابراهیم(علیه السلام) حیث یقول:

الَّذِی خَلَقَنِی فَهُوَ یَهْدِینِ * وَالَّذِی هُوَ یُطْعِمُنِی وَیَسْقِینِ * وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ یَشْفِینِ * وَالَّذِی یُمِیتُنِی ثُمَّ یُحْیِینِ * وَالَّذِی أَطْمَعُ أَنْ یَغْفِرَ لِی خَطِیئَتِی یَوْمَ الدِّینِ.25

ز ـ من العوامل والدوافع المادیّة المؤثرة فی هذا المجال ویمكن استثماره هو (المیل الى الراحة والإستقرار الروحی) فالإنسان فی ضوء اعتقاده وایمانه بالله یجد ركناً ركیناً، وناصراً ومعیناً، ومدافعاً وسنداً مخلصاً للغایة وقویّاً، ممّا یبعثه على الشعور براحة البال واطمئنان النفس.

من القضایا المهمة التی یكثر الحدیث عنها فی المجتمعات البشریة یوماً بعد آخر هی آلامها النفسیّة. فقد اُجریت دراسات وبحوث كثیرة فی مجال علم النفس لاكتشاف طریقة رفع القلق والاضطرابات الروحیة ومكافحتها، لكی تقدِّم من خلال ذلك خدمة للإنسان والمجتمع الإنسانی.

إنّنا نعتقد أنّ الإیمان بالله والاُنس معه یقدِّم أفضل استقرار روحی للمؤمن، وهذا فی نفسه یمكن أن یكون دافعاً مهماً للذین یجدّون فی البحث عن هذه الضالّة، أعنی الراحة النفسیّة، ویسیرون فی هذا الطریق، ویبحثون عن الرب المُطَمْئِن والإهتمام بمعرفته وهو القائل:

أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.26

لو افترضنا هنا أنّ الإنسان ـ الذی یواجه هذا الكمّ من العذاب والقلق والاضطراب، ویمیل بشدّة الى الطمأنینة، ویستعدّ لبذل هذا الحجم الضخم من السعی لتحقیقها، ویتحمل تكالیف باهظة ـ وإن لم یؤمن ویعتقد بهذه الحقیقة ـ لو احتمل فقط أنّ من خلال هذا الطریق یمكن نیل الطمأنینة ومكافحة الآلام والعذاب الذی یسبّب هلاك الإنسان وإتعابه نفسیاً، فانّ من الطبیعی أن یبعثه هذا الاحتمال لیكون ساعیاً ومجدّاً فی طریق المعرفة الإلهیّة. إنّ الذین یعرفون هذه الحقیقة ربما یستعدّون لتقدیم كلّ ما یملكون للحصول علیها، ویستعد الأثریاء لبذل ثرواتهم الطائلة لنیلها، فمن الطبیعی أنّهم حتّى لو احتملوا بدرجة ضعیفة أنّ علیهم السیر فی هذا الطریق للوصول الیه، فانّهم سوف یوجهون سعیهم بهذا الاتجاه.

نحن الذین نعیش فی مجتمع اسلامی ونحظى بنعمة الإیمان، ونتمتّع ـ بلطف الله ـ باطمئنان نسبی قد لا نستطیع إدراك مضمون هذا الكلام جیّداً لأن مثَلنا كمثَل السمك فی الماء، لكن الأشخاص والمجتمعات الفاقدة لنعمة الإیمان یرَون الحیاة بلا معنى، ویشعرون بالخواء ولا یجدون من یسندهم، ویرسمون مستقبلا مظلما ومبهما، ویعانون من الاضطراب والوحشة والقلق، وإن توفّرت لدیهم النعم المادیّة كافة، فانّهم لا یشعرون بالاطمئنان بالمستوى المطلوب، ویصمدون بصعوبة أمام الحوادث البسیطة. وفی المقابل یقف المؤمن والعارف بالله صامداً دون انهیار، وكما جاء فی الروایة:

(المؤمن أشدّ من الجبل).27

بناءً على هذا فانّ الإنسان الذی لم یصل بعد الى المعرفة الإلهیّة یسعى جاداً لتحقیق الراحة النفسیّة، لو احتمل ـ على الأقل ـ أنّ عبادة الله وذكره سبب لطمأنینة قلبه، فانّه یبادر لمعرفة الله كوسیلة محتملة.

ح ـ العامل الآخر هو كسب المنافع والمصالح البشریة. فالمجتمعات البشریة تعانی من الفساد والجرائم التی تواجهها، وتكاد أن تزجّ بعض المجتمعات فی مستنقع الفساد، بینما یبحث المصلحون وأصحاب الفكر فی كیفیة الوصول الى التحرّر من الفساد والانحطاط.

فلو احتملوا أنّ هناك إلهاً قادراً على ارشاد الإنسان الى طریق التحرّر، كان ذلك بمثابة الضالّة التی ینشدونها فلا یألُون جهداً للعثور علیها. وهذا دافع قوی أیضاً یدفع الإنسان للبحث فی مجال المعرفة الإلهیّة.

مثل هذه المشكلات والاضطرابات قد تحدث فی المجتمعات الإلهیّة والإسلامیة أیضاً، ولكنها أولاً: لا تكون شیئا یذكر قیاساً الى المأساة التی تعیشها المجتمعات البعیدة عن الله، وثانیاً: تحدث الاضطرابات فی المجتمعات الإسلامیة نتیجةً لضعف الإیمان وعدم التطبیق الصحیح والدقیق للتعالیم الإلهیّة، فتعالج بقدر معرفة نقاط الضعف هذه، ورعایة الدقة فی العمل.

ختاماً توصّلنا من خلال هذا البحث الى هذه النتیجة وهی:

فی الإنسان دوافع مختلفة یمكن أن تكون منشأً لاكتساب المعرفة بالله عزّ وجل، ولها مبادئ عامّة: هی دافع طلب الحقیقة والكمال، وحبّ الذات، ومعرفة الحق، وكسب المنفعة ودفع الضرر. وبعضها ذو فروع مختلفة، وبالإمكان أن نستثمر هذه الدوافع الفطریّة ونسعى ـ من خلال تحریكها وتقویتها وتوجیهها ـ نحو نیل درجات الكمال والوصول الى معرفة الربّ المتعال والإستقرار فی جواره ونیل رضوانه.

* * *


1 القیامة: 22 و23.

2 الانعام: 75.

3 المؤمنون: 1 ـ 5.

4 الانفال: 24.

5 البقرة: 147.

6 البقرة: 213.

7 المائدة: 83.

8 المائدة: 84.

9 یونس: 35.

10 الأنبیاء: 55.

11 الأعراف: 179.

12 الانفال: 55.

13 الانفال: 22.

14 الفرقان: 44.

15 الرحمن: 60.

16 الزخرف: 9 ـ 14.

17 الأعراف: 96.

18 النور: 2.

19 الانفال: 46.

20 سبأ: 15 ـ 17.

21 الملك: 16 و17.

22 الاحزاب: 9.

23 الانفال: 53.

24 یونس: 106 و107.

25 الشعراء: 78 ـ 82.

26 الرعد: 28.

27 بحار الانوار: ج 37، ص 164، الروایة 41.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...