القسم الثانی
2
من خلال البحوث الماضیة توصّلنا الى هذه النتیجة، وهی أنّ مبدأ تحصیل الكمال الإنسانی والأساس فی الفضائل الأخلاقیة فی الرؤیة الإسلامیة هو الإیمان بالله تعالى، ویتوقف تحقّق هذا الإیمان على العلم والمعرفة.
إذنْ اكتساب العلم كأمر اختیاری وهدف متوسط یكون محبّذاً فی ضوء مرغوبیة الإیمان والكمال والفضائل الأخلاقیة، لانّه مقدمة للإیمان الذی یمثّل الأساس لكلّ الفضائل والكمالات الإنسانیة.
وقلنا: للوصول الى هذه الغایة لابدّ من بذل جهود جیدة (جوارحیة وجوانحیة) لنحصل على علم صحیح ومعرفة واقعیة.
إنّنا نستعین بمعلومات اُخرى تجاه أیّ مجهول نواجهه، وننظّمها بنحو یكشف لنا ذلك المجهول، وهذه عبارة عن عملیة التفكیر حسب الاصطلاح المنطقی، حیث لا یكتسب علم صحیح بدونها حتّى یتحقّق الإیمان تبعاً له. وبدون الإیمان لا تتوفّر أرضیة لتنمیة الفضائل الأخلاقیة فی الإنسان.
من هنا یتوضّح السبب فی التأكید على التفكیر والتعقل وما شاكلهما من قبل الآیات القرآنیة، والاحادیث النبویة وأقوال المعصومین(علیهم السلام) . وكان لنا بحث فی هذا المجال، ونشیر هنا الى بعض النماذج أیضاً، من قبیل قول الكفار یوم القیامة:
وَقالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنّا فِی أَصْحابِ السَّعِیرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَِصْحابِ السَّعِیرِ.1
أجل، یقول الكفار یوم القیامة بحسرة وأسف: لو كنا نسمع الحق ونفكّر بشأنه لم نواجه هذه الأحوال ویعترفون بذنبهم. ولو كان هذا الإقرار بالذنب قد تمّ فی هذا العالم لنَفَعَهم ودفعهم لمعالجة ذنوبهم السالفة مادام ذلك ممكنا، ولكن لا یمكن ذلك فی العالم الآخر حیث لا ینتفع الإنسان باقراره وندمه بتاتاً.
یستفاد جیّداً من هذه الآیة انّ مفتاح السعادة هو المعرفة الصحیحة التی یكتسبها الإنسان من خلال تفكیره وعقله تارة، وبمعونة الآخرین واتّباع المرشدین تارة اُخرى. هاتان وسیلتا المعرفة الصحیحة.وبمقتضى مفهوم (لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنّا فِی أَصْحابِ السَّعِیرِ)، نفهم أنّ الذین لا یفكّرون بأنفسهم، ولا یصغون الى المصلحین والأنبیاء والهداة لا یرَون وجه السعادة أبداً، بسبب عدم تحصیلهم للمعرفة، وبالتالی لا یظفرون بالایمان، بل یدخلون جهنم كما قال تعالى:
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِیراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِْنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا یَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْیُنٌ لا یُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا یَسْمَعُونَ بِها.2
هذه الآیة تشیر الى أنّ السبب فی دخول الكثیر من الناس فی جهنم هو عدم استثمارهم قوة العقل ووسائل المعرفة الأخرى، ممّا یفضی الى حرمانهم من المعارف الصحیحة التی یكتسبونها بهذه الوسائل.
وعلیه فانّ من رغب فی السیر نحو الكمال الإنسانی، فانّ الخطوة الاُولى هی استخدامه للقوى العقلیة ووسائل الإدراك وهی العقل والبصر والسمع، وهو عمل اختیاری، وعلیه ترشیدها بإرادته وعزمه الواعی نحو طریقها الصحیح لكی یصل الى نتیجة طیبة ومعارف صحیحة، لأن التفكیر لیس مجرّد تأثّر نفسیّ بالعوامل الخارجیّة، بل هو نشاط داخلی وعقلانی، وینبغی للإنسان أن یصرف نظره ویحترز عند التفكیر ـ سیّما حول القضایا الغیبیة والموضوعات البعیدة عن متناول الحس ـ من الأعمال المزاحمة، وبعض اللذائذ المتوفّرة لدیه فی تلك الفرصة، من قبیل مشاهدة المناظر الجمیلة وسماع الموسیقى وممارسة الجماع والنوم والإستراحة واللامبالاة و.. فانّها موانع من التفكیر بصورة طبیعیة، ویضطر الإنسان لتركها حین التعمق فی الفكر والإستغراق فی التأمّل، لأنّ التفكیر لا یجتمع معها، ویضطر لأن یمارس أحد الأمرین: إمّا أن یفكّر أو یتوجه الى تلك الأعمال واللذائذ.
الذین اعتادوا متابعة بعض اللذائذ وتعلقت أنفسهم بها لا یهمّهم ضرورة التفكیر أبداً، فبمجرّد توفّر الأجواء یتوجهون تلقائیاً الى اللذائذ التی اعتادوها، إذْ إنّ هذه اللذائذ الحسیة قد أصبحت ملكة لدیهم وتعلقت قلوبهم بها، كالإدمان على سماع الموسیقى، فالمدمن علیها لا یفكّر أساساً فی فائدة الموسیقى وهل هناك عمل أفضل منها أم لا؟ وهل یوجد فی العالم ما هو أشدّ لذة أم لا؟ بل إنّ هذه العادة تجتذبه تلقائیا. أو الذین اعتادوا النظر الى أعراض الناس سیشعرون بالعذاب ان أرادوا الانصراف عن ذلك حتّى لدقیقة واحدة، ویمارسون ذلك دون تأمّل فی تبعات هذا العمل.
انّ جمیع هذه العادات والملكات التی تنشأ فی الإنسان فیما یتعلّق بالأعمال الخارجیّة، أو الملكات النفسانیة التی تنشأ فی النفس نتیجة التفاعل مع البیئة والأعمال الاختیاریة للإنسان نفسه، تمثّل موانع أمام التفكیر بنحو صحیح والوصول الى نتائج صحیحة، فهی معارضة له فی الواقع.
النتیجة التی نتوخاها من هذا التعارض هی أنّ الإنسان لكی یخرج من هذا التعارض، ویتحرك فی مفترق طریقین بحاجة الى أن یختار ویعزم، ویرجّح التفكیر على تلك الممارسات واللذائذ المعارضة باختیاره، ولكن قد توجد هنا موانع تصدّ الإنسان عن العمل بهذا الاختیار وترجیح أحد الطرفین، ولكی یتحقّق هذا الإنتخاب ویرجّح أحد الطرفین لابدّ من وجود دافع، حیث نلاحظ فی هذه الحالة أنّ التفكیر وكسب المعرفة نفسها بحاجة الى معرفة سابقة، أی إنّ الإنسان قد یُطرح أمامه بنحو ارتكازی لا شعوری هذا السؤال: الآن وقد سنحت الفرصة هل أصرفها فی اللذائذ المادیّة، أو أفكّر تفكیراً لیس فیه لذة فعلیة، ولا یعلم الى أین سینتهی؟ أجل، أیهما أفضل وأنفع: اللذة العابرة أم التفكیر؟
من الطبیعی انّ الناس لا یتّخذون قراراً متشابهاً فی الجواب على السؤال السابق الذكر، وانّما أصحاب الرؤیة السطحیة التابعون لِلّذّات العابرة یرجّحون اللذة وینتهزون الفرصة، بینما هناك آخرون یرجّحون التفكیر على اللذات العابرة قائلین صحیح انّ التفكیر لا یستلزم لذّة سریعة ولكنه یمكن أن یكون منشأ آثار عظیمة ولذّات كثیرة وعمیقة، غیر انّه من المسلّم به انّ الآثار العظیمة للتفكیر لا یتمّ الإلتفات إلیها الاّ بواسطة التفكیر أیضاً، فالتفكیر فی انّی اذا فكّرت فی ذاتی وفی العالَم الذی أعیش فیه ووصلت الى هذه الحقیقة وهی انّ الله موجود وانّ القیامة موجودة وانّ الأنبیاء موجودون، هذا نفسه یمكن أن یستتبع آثاراً عظیمة وكمالات مهمّة ولذّات كثیرة وعمیقة لی، ویدفع عنّی أیضاً أضراراً عظیمة وخسارات لا تجبر.
انّ احتمال هذه الآثار الكبیرة یمكن أن یغیّر ـ كدافع قوی ـ مسیرة الإنسان، وینقذه من مستنقع اللذائذ المادیّة الدنیئة، ویرشده الى التفكیر والتأمّل حول الوجود، ویحثّه على التحرك والتسامی نحو قمم شامخة فی الكمالات الإنسانیة.
هذه الحقیقة حاكمة على الإنسان فی حیاته المادیّة أیضاً، فهو حینما یفكّر فی لذائذه المادیّة فی المستقبل یتنازل ـ كثیراً ماـ عن لذائذه العابرة، بل یتحمل ألوان المعاناة آملاً نیل لذائذ أكبر وأدوم، أی إنّ العقل یدعو الى ضرورة المقارنة بین لذائذ الإنسان، ثمّ الحكم بأنّ تحصیل لذائذ أكبر وأشدّ فی المستقبل الى جانب ترك لذائذ فعلیة عابرة وسطحیة أفضل من الإلتذاذ الآنی الذی قد یعقبه عذاب دائم.
وإذا كانت تجارب هذا العالم تشیر الى أنّ الإنسان سوف یندم، وأنّه یعانی دائماً من عدم التدبر واللامبالاة فی الماضی، فانّ عدم التدبر هذا واللامبالاة ستعقبهما معاناة أكبر وندامة أشدّ قیاساً الى الآخرة والسعادة الخالدة فیها، وبحكم العقل ینبغی أن یقوم الإنسان بمطالعة هذه الاحتمالات، حیث قلنا انّ الاحتمال فی القیام بعمل یستتبع نفعا كبیراً أو غیر محدود یكون أحیاناً أكبر قیمة للإنسان من الیقین بلذة محدودة زائلة.
انّ هذا الاحتمال مهما كان ضعیفا، أی كان مَقامه أكبر (مقابل البَسْط فی الكسر الریاضی) حینما یكون المحتمل قویّاً أو غیر نهائی فانّه یحظى بقیمة عالیة.
بناءً على هذا یحكم العقل بضرورة التدبر بشأن المستقبل، وعدم الإكتفاء بهذه اللذائذ العابرة والآنیة، ویحذّر من الانشغال بها، إذْ من الممكن ان تحرمنا من سعادات المستقبل.
انّ اتّباع هذا الحكم العقلی فی العالم الحسی هذا یستدعی اكتساب العزة والعظمة والشرف والقیمة الإنسانیة فی المجتمع، على عكس اللامبالاة وعدم الإهتمام به، والتمادی فی الأهواء واللذائذ العابرة، فانّه یدمّر المستقبل المادی والاجتماعی للإنسان، ویصنع منه شخصیة لا قیمة لها ونادمة من اتّباع الشهوات فی الماضی. ومن المعلوم انّ حیاة الإنسان المادیّة والمعنویّة تتّبع قانوناً واحداً من هذه الجهة، وأنّ مفتاح السعادة المادیّة والمعنویّة فی الدنیا والآخرة هو تفكیر الإنسان وتدبره.
الآن وبعد اتضاح أهمیة مبدأ التفكّر والتدبر وقرارنا ـ بمقتضى العقل ـ القیام بالتفكیر وترك اللذائذ المعارضة، یطرح سؤال آخر عن ما ینبغی توجیه العقل والفكر إلیه، والقضیة التی هی الأَولى بالدراسة والتفكیر بشأنها.
الجواب: تبرز الحاجة هنا أیضاً الى انتخاب آخر لیتمّ التفكیر حول ما هو أهمّ وأخطر وأثمن من بین الموضوعات والقضایا المختلفة التی یمكن التفكیر بشأنها. بعبارة اُخرى إنّنا أبدینا لحدّ الآن وبانتخاب وقرار صحیحین استعدادنا للتفكیر فی مستقبلنا، بدلاً عن صرف الزمان فی اللذائذ العابرة، الاّ أنّ التفكیر حول المستقبل له مصادیق مختلفة من قبیل: ماذا نصنع حتّى نكتسب ثروة طائلة؟، أو نحصل على مكانة اجتماعیة مرموقة؟ أو ماذا نصنع لكی نحظى بثقل سیاسی ممتاز؟ كما یمكن ان نفكّر بشأن الله عزّ وجلّ والقیامة، ماذا نصنع لكی ندخل الجنة ونحظى بالنعم الإلهیّة، أو ننجو من عذاب الله وجهنم؟ إذنْ لتحدید طریق التفكیر یلزم انتخاب آخر للتفكیر والمطالعة بشأن الأهمّ، وما یترتب علیه من قیمة أكبر.
ینبغی الإنتباه الى أنّ فی هذه المرحلة توجد بعض الموانع النفسیّة التی تصدّ الإنسان عن التفكیر الصحیح والوصول الى نتیجة صحیحة ومعرفة واقعیة، أی نظراً الى أنّ الموضوعات والأمور المادیّة محسوسة بصورة أكبر كالثروة والمقام والموقع الاجتماعی، ولها آثار دنیویّة محسوسة ملحوظة فانّها تبدو كثیراً ما ذات جذابیة أكبر فی الفكر السطحی للإنسان وتستقطب فكره وأقواله وتأملاته.
بناءً على هذا لكی یستعدّ الإنسان لصرف قسط من وقته للتفكیر حول الموضوعات غیر المادیّة بعیداً عن الحس ـ الله سبحانه والقیامة والجنة والمقامات المعنویّة والأمور الغیبیة الاُخرى ـ لكی ینتهی تفكیره هذا الى المعرفة والإیمان بالغیب والأمور الغیبیة هذه، فانّه بحاجة الى جهاد النفس والدوافع النفسیّة، وسیحدث صراع نفسیّ بین القوى والدوافع المادیّة والمعنویّة، حتّى یعرف الغالب والمنتصر فیها، فإنْ كانت الدوافع والقوى المادیّة فی الإنسان قویة فانّها لن تسمح له بالتفكیر فی الأمور المعنویّة أبداً، بل تشغل ذهنه دائماً وبشدّة، وتعمل على تضعیف الدوافع المعنویّة قدر الإمكان والقضاء علیها أحیاناً، حتّى یمحى ذكرها من فكر الإنسان، ویصبح فكره وأقواله وسعیه منصرفاً الى المادة والحیاة المادیّة ومكتسبات الحیاة الدنیویّة، وهنا یكون هلاك الإنسان الاّ أن تنتشله الید الإلهیّة بصورة اعجازیة من مستنقعه هذا.
وعلیه إنّنا بحاجة الى معرفة سابقة حتّى عند الصراع مع العوامل والدوافع النفسیّة، وعند تحقّق الإستعداد للتفكیر الصحیح نتمكن ـ استناداً الى ذلك ـ من العزم على التفكیر فی القضایا المطلوبة بعد تحریر أنفسنا من تأثیر الدوافع المعارضة.
من هنا یمكن القول انّ مستوىً من التزكیة وتهذیب النفس یتقدّم حتّى على العلم، فما لم یمتلك الإنسان قوة نفسیّة تمكنه من كَبْت بعض رغباته ومنعها مؤقتا، فانّه غیر قادر من الأساس على سَوق نفسه نحو التفكیر الصحیح. ولعله لهذه القضیة جیء بالتزكیة قبل التعلیم فی بعض الآیات القرآنیة، وتكون ـ على الأقل ـ أحد العوامل فی ذلك.
إذنْ بعنوان أننی فرد أروم السیر فی طریق التكامل لابدّ أن أكافح أولاً العَوامل التی تمنع وتزاحم التفكیر، ثمّ العوامل التی تمنع التفكیر الصحیح أو التدبر فی الموضوعات الصالحة والقیّمة، وأخصّص ـ باختیار وعزم ـ ساعات من أیامی للتفكیر، فانْ لم أعمل بهذه الصورة فلا أمل فی أی خیر أكتسبه.
یشیر القرآن الكریم فی هذا المجال الى موانع وعوامل مزاحمة ومتنوعة، سنقوم هنا بالبحث حول بعضها حسب ما تمت ملاحظته:
1 ـ هناك مجموعة من المعارف تكبّل انطلاق الفكر الإنسانی،أو تحدّ من قوته أو تضعّفه، أی تلك الموانع التی هی من سنخ الرؤیة والمعرفة.
2 ـ المیول التی تحول دون المعرفة الصحیحة، أو تحدّ من قوتها أو تضعّفها، أی الموانع التی هی من سنخ المیول.
نذكر هنا أولاً عدداً من موانع القسم الأول ونقوم بدراستها:
المیل الى الحس من موانع المعرفة، وهو فی نفسه نوع من التعقل، وإن أمكن بلحاظ آخر اعتباره من المیول المانعة، كما یستفاد ذلك من عبارة (المیل الى الحس). على أیّة حال فانّ الإنسان یعیش فی عالم الطبیعة ویأنس بالمحسوسات كثیراً، وهذا الاُنس هو السبب لاكتساب معلوماته عن طریق الحس أو حصرها فی المحسوسات. والإنسان ـ طبعاً ـ ذو عقل، وبه یمكن أن یدرك حقائق لا تدرك بالحس، وبوسعه أن یفهم أنّ الموجودات لا تنحصر فی المحسوسات، ولكن اُنسه بالطبیعة والمدركات الحسیة، وإمكان تماسه المباشر بها بیُسر یدفعه لاستخدام الحس فی الموضوعات غیر المحسوسة وما وراء المحسوسات أیضاً بغیة أمور حسیة، والمراد من قول أهل المعقول: (انّ وهم الإنسان یمنعه من التفكیر الصحیح) هو ما ذكرناه.
فی القرآن الكریم نواجه آیات وموارد تحكی عن وجود أقوام بعث فیها الأنبیاء(علیهم السلام) وتعاطفوا معهم، الاّ أنّهم أهملوا اكتساب ایمان صحیح وأساس راسخ لمسیرتهم الإنسانیة، وحُرموا من السیر نحو الرقی الإنسانی.
كان بنو اسرائیل من هذه الأقوام، حیث أنّهم تحرّروا من ظلم الفراعنة والعبودیة لفرعون مصر بقیادة النبی الإلهی العظیم موسى(علیه السلام) وسنحت لهم الفرصة لأن یكونوا أمة مستقلة ویعیشوا فی إطار فكری مستقل، الاّ أنّهم حینما بدأ(علیه السلام)التحدّث عن الله والقیامة والوحی وحقائق من هذا القبیل ردّوه بقولهم:
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً.3
وكما فی الآیة:
وَقالَ الَّذِینَ لا یَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَیْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا.4
كان ذلك توقّعاً غیر معقول منهم، وفی غیر محله وناشئاً من اُنسهم بالمحسوسات وانشدادهم الى الطبیعة، فمنعهم ذلك من التفكیر الصحیح بشأن الحقائق والمعرفة الإلهیّة الصحیحة، وبالتالی الإیمان به. أجل، انّ لهذا الخلل فی المعرفة والتعقل والتفكیر جذوراً فی المیل الى الحس فی الإنسان.
ویمكن الإشارة الى آیات اُخرى فی هذا المجال تتحدّث عن انّ أعداء الأنبیاء(علیهم السلام) كانوا یسعون لاستخدام حالة (المیل الى الحس) هذه لمنع الناس من القیام بتفكیر صحیح، أو كانوا هم یُمنعون ـ إثر هذه الحالة ـ من إدراك الحقیقة، نشیر الى نماذج منها، كالآیة:
وَقالَ الْمَلاَُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِینَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الآْخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا ما هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ یَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَیَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ.5
فی هاتین الآیتین الكریمتین كان أعیان القوم یلقّنون الناس مستخدمین (المیل الى الحس) بأن الأنبیاء(علیهم السلام) بشر مثلكم، انّهم یأكلون ویشربون مثلكم بهدف منعهم من إدراك حقیقة الوحی اللامحسوسة ومن المطالعة الصحیحة بهذا الشأن، وتحقیق مآربهم السیاسیة ـ الإقتصادیة من خلال ذلك والآیات:
ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآیاتِنا وَسُلْطان مُبِین * إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلاَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِینَ * فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَیْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ.6
بدیهی إنّ الحكم بالتماثل بین موسى وأخیه(علیهما السلام) وبینهم قائم على أساس الحكم بالظاهر والمیل الى الحس، لأن هذا التماثل یكون فی الظاهر فی حین لا تماثل فی حقیقة النبوة والوحی والخصوصیات الفكریة والأخلاقیة والقیم الإلهیّة والمعنویّة، الاّ أنّ هذا المیل الى الحس كان یحول دون التفكیر والتأمّل لمعرفة هذه الحقیقة.
وكالآیتین الكریمتین:
قالَ مَنْ یُحْیِ الْعِظامَ وَهِیَ رَمِیمٌ * قُلْ یُحْیِیهَا الَّذِی أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَلِیمٌ.7
و فیها یتردد السائل فی مبدأ (المعاد) فی العقیدة، ویعجز عن إدراكه إثر الإحساس بظاهر العظام النَخِرة. والله تعالى یقیم الدلیل فی ردّه لكی ینقذه من حالة الإستغراق فی الظواهر الطبیعیة والإدراكات الحسیة، ویرشده نحو التأمّل والتحلیل العقلی وهو الطریق لمعرفة أصول العقیدة.
بهذا النحو تنبّه الآیات القرآنیة فی مجال مبادئ العقیدة الإسلامیة ـ التوحید، والمعرفة الإلهیّة، والمعاد، والنبوة والوحی ـ بأن بعض الأشخاص یستندون فیما یرتبط بهذه المبادئ الى الإدراك الحسی، ونظراً لعدم حسّیة أدوات إدراك هذه المبادئ فانّهم بدلاً من إدراكها یحرمهم هذا (المیل الى الحس) من إدراك المبادئ المذكورة، ولذا ترشد الإنسان ـ من خلال ذمّهم ـ لاستخدام الأدوات الصحیحة والمناسبة لإدراك هذه المعارف.
من الضروری طبعاً ان نذكّر بملاحظة عامّة هی أنّ الهدف من ذمّ (المیل الى الحس) فی القرآن الكریم وذكره فی هذا المقال كمانع للمعرفة لیس هو مطلق الإدراك الحسی، لأنّ الإدراك الحسی فی نفسه وفی الأصل غیر مذموم، ولا یمنع الإنسان من الوصول الى المعرفة الصحیحة، لیس هذا فحسب، بل هو من المقدّمات الضروریة للوصول إلیها، فمن فقَد الإدراكات الحسیة عجز عن الوصول الى الكثیر من المعارف العقائدیة والإدراكات العقلانیة أیضاً. فی هذه الحالة یُطرح هذا السؤال: إذنْ ما المقصود من أنّ المیل الى الحس یمنع الإنسان من المعرفة الصحیحة؟
للإجابة یمكن القول: المقصود من المیل الى الحس والذی یعتبر مانعاً من المعرفة أمران:
1 ـ المیل الفكری المتطرّف تجاه الإدراكات الحسیة، كما حصرت جماعة المنشأَ الأساس لجمیع الإدراكات البشریة فی الإدراكات الحسیة فی مجال علم المعرفة والأبحاث الذهنیّة (أبیستمولوجی) وأسّسوا (مذهب الحسّیین) مقابل (مذهب العقلیین). كان هذا القول خاویاً وبلا معنى، حتّى أن القائلین به نظراً لكونهم بشراً ولحكومة القواعد الذهنیّة ـ شاؤوا أم أبوا ـ على عقولهم فانّهم وإنْ أطلقوا هذا القول، وأسّسوا هذا المذهب الاّ أنّهم لم یلتزموا به عملیاً، ولم یتمكنوا من ذلك لانّهم كانوا یستدلّون كغیرهم، ویتمسكون باُصول لیس لها أساس حسی أبداً. ولو تأمّلوا لانتبهوا انّ الإلتزام بهذا الكلام یعنی حرمانهم من المعارف الإنسانیة والعجز عن الوصول إلیها.
2 ـ المیل العملی المتطرف فی الإدراكات الحسیة الى حدّ المنع من أداء دورها، بمعنى أنّ الإدراكات والمدرَكات الحسیة فی الواقع تكون بمثابة المادة الأولیة بالنسبة لقوة التحلیل العقلیة، ودورها الأساس فیما یتعلّق بالمعرفة هی أنها توفّر أرضیة البحث والتحلیل والإستدلال العقلی، وهی فی الحقیقة سُلّم نصل به الى مرحلة الفكر وندرك المعارف الصحیحة. الآن، بدلاً من استخدامها كآلة ووسیلة للوصول الى مراحل الفكر والمعرفة، لو استغرقنا فیها بحیث نعجز عن الفكر والإستنتاج، نقول فی هذه الحالة: هذه الإدراكات الحسیة بدلاً من أن ترفعنا الى الأعلى، وتوصلنا الى العقائد الصحیحة قد منعتنا من الوصول إلیها، ومن أن نفكر بنحو صحیح ونصل الى المعارف.
وعلیه ان ما یبدو ضروریاً هو رعایة حدود كلّ شیء وقدره لكی یوضع فی موقعه المناسب، والاّ فانّ عدم رعایة الإدراكات والمدركات الحسیة وعدم الإهتمام بها أو فقدانها یكون مانعاً من الوصول الى الإدراكات والمعرفة الصحیحة، بدرجة منع المیل الى الحس نفسه من المعرفة الصحیحة. كما أنّ رعایة هذه الملاحظة ضروریة بالنسبة للموانع الأخرى، من قبیل التقلید والعمل بالظن، وسنقوم ببیان تفصیلی لهذه الملاحظة فی موقعها المناسب.
من الأمور التی تمنع التعقل واكتساب المعرفة الصحیحة هو (التقلید)، فذَوو الفكر الضعیف والمتخلفون عقلیا وفكریاً یستندون بدلاً من التفكیر واستخدام العقل بنحو صحیح الى عقائد الآخرین استناداً كاملا، ویتلقَّون معتقداتهم منهم. انّ أكثر أنواع التقلید البشری طبیعیة هو تقلید الأشخاص آباءهم وأجدادهم، أو تقلید جیل اجتماعی الجیلَ السابق. یذكر القرآن الكریم وفی مواضع عدیدة وبأسالیب بیانیة مختلفة (التقلید) كمانع أساس من التعقل والإدراك الصحیح للقضایا، وتحصیل العقیدة والمعارف الصحیحة، نشیر الى عدد من الآیات:
قال تعالى فی موضع:
أَمْ آتَیْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قالُوا إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّة وَإِنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِی قَرْیَة مِنْ نَذِیر إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّة وَإِنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قالَ أَ وَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمّا وَجَدْتُمْ عَلَیْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ.8
اعتبرت الآیة تقلید الآباء من خلال ذمّه نقطة مقابلة لاتّباع الكتاب السماوی والوحی، وأشارت الى هذه الحقیقة فی موردین:
قالت فی الأول: هل إنّهم یتمسكون بالكتاب الذی أنزلناه إلیهم؟ وتردّ على هذا السؤال الانكاری: كلا، فانّهم یذعنون ویروّجون هذه العقیدة الخاطئة بتقلید آبائهم.
وتقول فی الثانی: انّ نبیّ الله أجابهم مرّة اُخرى عن قولهم أنّنا نقتدی بآبائنا: حتّى لو قدِّمت لكم أموراً هی أهدى لكم ممّا كان لدى آبائكم؟
وفی موضع آخر جاء حكایة عن معركة نبی الله العظیم ابراهیم(علیه السلام) مع الاصنام وعبادتها:
وَلَقَدْ آتَیْنا إِبْراهِیمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنّا بِهِ عالِمِینَ * إِذْ قالَ لأَِبِیهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ الَّتماثِیلُ الَّتِی أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ * قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِینَ * قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِی ضَلال مُبِین.9
كما جاء:
وَاتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِیمَ * إِذْ قالَ لأَِبِیهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ * قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِینَ * قالَ هَلْ یَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ یَنْفَعُونَكُمْ أَوْ یَضُرُّونَ * قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ یَفْعَلُونَ.10
فی هذه الآیات كان ابراهیم(علیه السلام) یسعى من خلال ذمّ تقلید الآباء والحكم بضلالهم فی عبادة الاصنام، وضلال الأبناء فی تقلیدهم الأعمى للآباء أن یحیی فیهم روح الإستدلال، ویحفّز فیهم قوة الإدراك العقلی ویحلّه محل التقلید، كما طرحت الآیات السابقة الوحی فی مقابل التقلید.
نستنتج أنّ التقلید الأعمى سبب لشقاء الإنسان، وأنّ طریق السعادة ینحصر فی هذین الطریقین: الأول هو الفكر الصحیح، والثانی هو الإستماع الى الوحی السماوی وهو یستند الى العقل أیضاً، كما جاء فی آیة اُخرى:
وَقالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنّا فِی أَصْحابِ السَّعِیرِ.11
على أیّة حال فانّ الإنسان مسؤول بنفسه عن مستقبله ومصیره، وعلینا ـ بقرارنا الصحیح الذی یحتاج هو الآخر الى التفكیر الصحیح والتعقل ـ أن ننظّم أعمالنا وسلوكنا بنحو تكون حیاتنا فی المستقبل قرینة السعادة، والاّ فإنّنا فی كلّ حال نكون السبب فی تدمیر مستقبلنا وتحمل شقائه ومرارته، فلا ینفعنا، ولیس بوسعنا ارجاع السبب فی ذلك الى الآخرین، واعتبارهم مقصّرین وسبباً لشقائنا، لأن الله سبحانه قد أودع فی فطرتنا وذواتنا قدرة تمییز الحق من الباطل، وإن عشنا فی مجتمع غارق فی الأباطیل والخرافات، أو فی أُسَر ذات انحراف عقائدی جیلا بعد جیل، إذنْ لا ینبغی فی هذه القضیة المهمة ان نسلّم أنفسنا ومصائرنا تسلیماً أعمى لأفكار وعقائد الآخرین، بل یلزم بمعونة الوجدان الفطری والعقل الإلهی والمعاییر الفطریّة أن نقوم بدراسة وتقییم الأفكار ونمیّز الصحیح عن السقیم منها، ونتّعظ بالتأریخ لا أن نستسلم له استسلاماً أعمى، من هنا قال تعالى عن الفطرة المستقلة:
وَنَفْس وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها.12
وقال فی آیات اُخرى:
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِی آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا یَوْمَ الْقِیامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِینَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنّا ذُرِّیَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ.13
هذه الآیات تعتبر لكلّ فرد إنسانی شخصیة إلهیّة ومستقلة، ویمكن بما یناسب بحثنا أن نخرج بنتیجتین منها:
1 ـ انّ الإنسان بهذه الشخصیة الفطریّة لا یفقد نفسه تماماً تجاه التأریخ والمجتمع ولا یذوب فیه، ولا نرید القول ـ طبعاً ـ إنّه لا یتأثّر بهما أبداً بل نقول: لا یذوب فیهما ولا یفقد حریته واختیاره ـ على ما یظهر من نظریات كنظریة الجبر التأریخی ونظریة أصالة الجمع الفلسفیة ـ . فهذه الرؤیة الإلهیّة القرآنیة تطرح الفطرة الإنسانیة واستقلالیة شخصیة الإنسان بنحو یكون قادرا على الوقوف بوجه مسیرة التأریخ كالسدّ المنیع، وأن یستفید منه ـ بشكل تؤخذ منه العبرة ـ حسب ما یحبّ وعلى أساس اختیاره الحر، بل ویغیّر مسیرة التأریخ الى الوجهة المقصودة وسوقها الى مسیر آخر.
2 ـ لا یمكن تبریر التقلید الأعمى وتوجیه التقصیر اعتمادا على التقلید كعذر بین یدی الله والأنبیاء(علیهم السلام)، إذ مع وجود هذه الشخصیة الفطریّة المستقلة لا یُقبل من الإنسان هذا العذر، لا فی هذا العالم وبین یدی انبیاء الله ورسله(علیهم السلام) ولا فی العالم الآخر بین یدی الله سبحانه.
فی الختام كما أشرنا فی بحث المیل الى الحس سیكون اجتناب الافراط والتفریط ملازما للحیاة الإنسانیة وتعالیها. نرید القول انّ ذمَّ (التقلید) لا یعنی أبداً أنّنا لا نستفید فی الحیاة من فكر أیّ إنسان، وننبذ جمیع العلوم والعقائد والأفكار لدى الآخرین ـ بحجة نبذ التقلید واكتساب الإستقلال ـ سواءً أكانت قبیحة أم جمیلة، حقاً أم باطلا كما هو حال بعض المتشدّدین، خاصّةً فیما یرتبط بآراء المفكّرین فی الغرب، إذْ كانوا یبدون هذا المیل السلبی المطلق، سیّما عند ردّ وطرد بعض العظماء والمفكّرین فی أوساطنا، فی حین انّ هذا أمر غیر عملی وغیر ممكن، إذْ إنّ حیاة النوع الإنسانی تكون متناسقة ومتشابهة الى حدّ كبیر بحیث إنّ الافراد والمجتمعات فی حیاتهم یواجهون غالباً مشكلات متماثلة ذات حلول متشابهة، وهذا أمر طبیعی ومعقول جدّاً، ولإقصار الطریق تدرس الأفكار المطروحة والطرق المتّبعة من قبل الآخرین، وتستثمر تلك الأفكار والتجارب فی مواصلة الحیاة وحلّ المشكلات، ولیس ذلك أمراً طبیعیاً ومعقولاً فحسب، بل لا مفرّ منه، إذْ لیس بوسع فرد أو مجتمع أن یدّعی انّه لم یصله شیء من أفكار الآخرین وتجاربهم ومناهجهم. غایة الأمر یقوم المفكّرون والباحثون والمصلحون فی المجتمعات البشریة باجراء تطورات فی مجال الأفكار والعلوم والمعارف البشریة بصورة أعمق أو أكثر سطحیة، أوسع أو اضیق، ویكمّلون طریقة ما ویقدِّمون منهجا جدیداً، ویعرضون أصولا حدیثة أو یضیفون الى هذه العلوم والمعارف من خلال كشف المجهولات.
إذنْ ما یذمه القرآن الكریم باسم التقلید وینبغی توضیحه هنا هو أن نقوم بـ (التقلید) الأعمى وبآذان مغلقة بالحیلولة دون تنمیة أمورنا المادیّة والمعنویّة والعقلانیة، ونحرم أنفسنا من ارشادات الوحی المباركة والمعارف السماویة العمیقة الحیة، ومسیرة التفكیر الصحیحة والارشادات العقلانیة الثابتة، والمعطیات الكبیرة لتجارب بنی الإنسان الصحیحة والمجتمعات البشریة والقیم الإنسانیة السامیة. أی بدلاً من الإنتفاع بأفكار ومنجزات الماضین وآبائنا وأجدادنا أو المجتمعات الاُخرى باتجاه تنمیة وتوسیع وتصحیح أفكارنا ومعارفنا وأمورنا المادیّة والمعنویّة، ونعتبر بها وتكون عاملاً لرقیّنا وتعالینا تتحول الى حالة تقلید أعمى وسمع مغلق تسبّب سباتنا وتخلفنا وانحطاطنا.
انّ عامل (التقلید) لا یتلخّص فی تقلید الآباء والماضین منا، بل كثیراً ما یفقد شعب استقلاله وشخصیته تجاه شعب آخر ذی امتیاز خاصّ فی الحیاة المادیّة ومن المجتمعات المتقدمة ـ كما یصطلح ـ ، ویتفاعل ضعاف العقل فی هذه الموارد مع الآثار النافعة التی یتلقّونها من ذلك الشعب فی حیاتهم المادیّة، ویبالغون فی الإنجذاب إلیها من الناحیة الشخصیة ومن ناحیة الحركات والسكنات وبصورة غیر منطقیة، ویودّون بصورة مقزّزة تلقّی كلّ شیء من ذلك (الشعب المتقدّم).
یمكن ملاحظة النموذج الواضح لهذا (التقلید) فی الشباب قبل الثورة الإسلامیة الذین نشأوا على ید نظام الشاه (بهلوی) حیث كانت الشعارات المتطرفة لبعض السیاسیین تنادی: (یجب ان نكون غربیّین فی كلّ شیء) وهكذا مشروع سلب الحجاب الإسلامی وتغییر الزی وارتداء الزی الموحد و... والأخطر من ذلك كله تأثّر الشباب ثقافیا وفكریا وجذریا حتّى انهم كانوا یفتخرون فی الكثیر من سلوكهم وأعمالهم التی یثیر ذكرها الإشمئزاز بتقلیدهم للأوربیین والأمریكان فی اسلوب المشی، وارتداء الملابس، وحلاقة الرأس والوجه، ودیكور البیت وموارد اُخرى كثیرة، وهكذا فی الأفكار والعقائد، حیث كانوا یتفاعلون معهم تفاعلا تامّاً بدون دلیل ومنطق صحیح، وممّا یثیر المزید من العجب هو أنّهم رغم كونهم مسلمین ولم یؤمنوا بالدیانة المسیحیة كانوا یقیمون احتفالات رأس السنة المیلادیة الجدیدة تقلیدا للأوربیّین النصارى الذین لا یؤمن الكثیر منهم بالنبی عیسى(علیه السلام) والدیانة المسیحیة، بل یقیمون هذه الإحتفالات بغیة الاُنس والإلتذاذ. كنتَ تشاهد المسلم الایرانی الذی ربّاه نظام الشاه ـ ولیس الایرانی فحسب بل المسلم فی الكثیر من البلدان الإسلامیة ـ وهو یقلّد الأوربیین المؤمنین أو غیر المؤمنین بالمسیحیة بحجة تقدّمهم المادی والصناعی الذی استهوى قلبه تماماً، ویهتمّ بأداء تلك الممارسات المألوفة لدیهم عشیّة المیلاد بدون تحلیل عقلی.
وفی القرآن الكریم نلاحظ نماذج من تقلید الشعوب الأخرى، حیث یقول بأنّنا نذكر بنی اسرائیل حینما غادروا مصر وتوجهوا الى الأرض المقدسة، مرّوا فی طریقهم على مدینة طاب عیش أهلها، وكانوا یمارسون عبادة الاصنام فی معبد جمیل عبادة مقرونة عادةً مع الرقص وشرب الخمور والطرب واللذائذ المادیّة، فلما لاحظ بنو اسرائیل تلك المشاهد ارتضوها واستهوت قلوبهم وأنفسهم حتّى انّهم طلبوا من موسى(علیه السلام) أن یجعل لهم إلهاً كما كان لأولئك، بدون الإلتفات الى ماضیهم وأحادیث نبی الله، وقد ورد ذلك فی هذه الآیات:
وَجاوَزْنا بِبَنِی إِسْرائِیلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْم یَعْكُفُونَ عَلى أَصْنام لَهُمْ قالُوا یا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِیهِ وَباطِلٌ ما كانُوا یَعْمَلُونَ * قالَ أَ غَیْرَ اللهِ أَبْغِیكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِینَ * وَإِذْ أَنْجَیْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ یُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَیَسْتَحْیُونَ نِساءَكُمْ وَفِی ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِیمٌ.14
كان هذا الطلب فی الواقع تجسیداً لروح التقلید التی ظهرت لدى هؤلاء القوم، وقد أبدى النبی موسى(علیه السلام) سخطه على هذا الكلام، بعد كلّ تلك الجهود والمعارك التی خاضها من أجل تحریرهم، ولامَهم على جهلهم وتحجّرهم الفكری، وتقلیدهم أفكار الآخرین الخاویة والمراسم الباطلة بلا دلیل، ولعل التفسیر النفسیّ لهذا الطلب هو أنّهم لاحظوا أولئك القوم یعیشون عیشة طیبة، ولهم مدینة جمیلة وـ فرضاً ـ معبد على هضبة عالیة خضراء وبساتین ذات اشجار نضرة تحمل ثماراً متنوعة، وعیون وحیاض ومیاه جاریة ونساء جمیلات وأبنیة فاخرة و... فجذبتهم هذه المشاهد، ومن جهة اُخرى قاموا بمقارنة هذه الحالة مع حالتهم فلاحظوا أنّهم اُناس مشرّدون دوماً، لا یملكون حیاة سلیمة وعامرة، فقد كانوا لمدة من البدو فی الصحراء، وخدموا المصریین لمدة اُخرى، وهم الآن بعد خلاصهم من سلطة فرعون مشرّدون، لا یملكون مساكن ولا مدینة ولا بستانا ولا ارضاً، وغیر مستقرین ولهم مصیر مجهول فی المستقبل، فی مثل هذه الأحوال حینما شاهدوا رفاه أهل تلك المدینة وتقدّمهم ودّوا لو یكونون مثلهم ویعیشون عیشتهم، الاّ أن الامتیاز الواضح لأولئك الناس والذی لفت أنظارهم هو المعبد وعبادة الاصنام ومراسمها الخاصّة، ولذا طلبوا من موسى(علیه السلام) بأن یكون لهم إله وصنم وطریقة مشابهة لعبادتهم، ویماثلونهم فی طریقة الحیاة والعبادة والدین، ولكنهم واجهوا نبی الله یلومهم على جهلهم.
على أیّة حال، من العوامل المانعة من اكتساب المعرفة الصحیحة هو (التقلید) الأعمى واللامنطقی والخضوع للشعوب المتقدّمة، أو أیّ إنسان یلاحَظ فیه نوعٌ من الامتیاز والظهور الملفت.
العامل الآخر الذی یصدّ الإنسان من اكتساب المعرفة الصحیحة هو خصلة الركون الى الظن والتی تنمو فی حیاته تدریجیّاً. لیس بوسعنا ان نعلم علما قاطعا فی شؤون حیاتنا المتشعّبة والمتنوعة بكلّ ما یقع من أحداث، من هنا لا نتعب أنفسنا لتحصیله عادة، ویكون المنطلق فی أعمالنا وتحركنا هو الإستناد الى الظنون التی تحصل بجهد یسیر وبسیط. عندما نتحرك ونركب سیارة بهدف الوصول الى المقصد لا نطمئن تماماً بأنها توصلنا الى المقصد، بل نحتمل طروء موانع مختلفة تحول دون وصولنا الیه، وذلك بوقوع حادث اصطدام أو عطل فی السیارة أو مشكلات اُخرى، ومع ذلك نظن انّ بوسعنا الإنتفاع بواسطة النقل هذه والوصول الى المقصد، وهذا الظن یمثّل المنطلق لتحركنا وتنظیم برنامج حیاتنا، ونقوم عادةً بأعمالنا الاُخرى فی الحیاة على هذا المنوال، حتّى أنّه یهیمن بصورة إدمان على مجریات حیاتنا وحركاتنا وسكناتنا.
من جهة اُخرى قد لا یثیر الإستناد الى الظن فی الشؤون الإعتیادیة والمادیّة مشكلات كبیرة، ولكن تنجم خسائر كبیرة لا تُعوّض حینما یكون ظهور هذه العادة فی جوانب الحیاة الإعتیادیة منشأ لاكتفائنا بالظن أیضاً فی قضایا أهمّ دون الإهتمام بتحصیل علم قاطع وواضح وجازم.
القرآن الكریم یرجع السبب فی الكثیر من إشكالات المشركین والكفار الى هذا الإعتماد اللامنطقی على الظن ویذمّهم على اتّباعهم الظنون والأوهام، نشیر هنا الى نماذج من الآیات:
فی بعضها یعلل القرآن الكریم شرك المشركین بالإستناد الى الظن بقوله:
أَلا إِنَّ للهِِ مَنْ فِی السَّماواتِ وَمَنْ فِی الأَْرْضِ وَما یَتَّبِعُ الَّذِینَ یَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ یَخْرُصُونَ.15
وقال فی موضع آخر:
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ یَهْدِی إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ یَهْدِی لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ یَهْدِی إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لا یَهِدِّی إِلاّ أَنْ یُهْدى فَما لَكُمْ كَیْفَ تَحْكُمُونَ* وَما یَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً.16
فی هذه الآیات تُلاحظ هذه الحقیقة، وهی أنّ الله سبحانه یرجع عقائد المشركین الباطلة وشركهم الذی لا أساس له الى هذه القضیة النفسیّة، وهی أنّ أحادیث هؤلاء وعقائدهم وأعمالهم لیست سوى أوهام وظنون ویستندون الى ظنونهم بدون جدوى.
وفی بعض الآیات یرجع الجحد بیوم القیامة، والحكم بعدم وجود عالم آخر وراء العالم المادی هذا الى الإستناد الى الظن والأوهام والخیال وتقول:
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالأَْرْضَ وَما بَیْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِینَ كَفَرُوا فَوَیْلٌ لِلَّذِینَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِینَ فِی الأَْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِینَ كَالْفُجّارِ.17
وفی آیات اُخرى یحلل عقائد خرافیة اُخرى بهذا الأصل ویقول:
إِنَّ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالآْخِرَةِ لَیُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِیَةَ الأُْنْثى * وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً.18
وأَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُْنْثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِیزى * إِنْ هِیَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّیْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطان إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الأَْنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى.19
كما أنّه یرجع الضلالات كلها فی آیة الى الإستناد الى هذا الموضوع وهو الاعتماد على الظن ویقول:
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِی الأَْرْضِ یُضِلُّوكَ عَنْ سَبِیلِ اللهِ إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ یَخْرُصُونَ.20
هنا یطرح هذا السؤال: ما المراد من الإستناد الى الظن ولماذا هو قبیح؟ خاصّةً مع الإلتفات الى هذه الحقیقة، وهی أنّ الشك والظن سُلّمان أو خطوتان نحو تحصیل العلم القاطع، ولا مفرّ الاّ أن نتردّد فی كلّ مسألة ثمّ نبدأ بالتفكیر، وبعد الفكر والدراسة یقوى لدینا احتمال واحد أو احتمال أحد الطرفین وإن لم ینفَ الاحتمال المقابل تماماً. أی بعد الشك ندخل فی الظن، وبعد التفكیر والدراسة نحصل على علم قاطع فی المرة الثالثة.
مع ملاحظة ما ذكر ینبغی القول: من الضروری ـ فی لحاظ ـ الإستناد الى الظن للوصول الى العلم، ولا مفرّ عن ذلك وعلیه یكون من الضروری جدّاً الإجابة عن السؤال المذكور حول هذه القضیة وتوضیحها وذلك بالقول:
إنّ الظن یستعمل تارة كحالة نفسیّة بسبب عدم الیقین لدى الإنسان، وهذه الحالة لا قیمة سلبیة لها فحسب، بل لها قیمة ایجابیة اذْ هی بمثابة جسر یجب اجتیازه نحو الیقین والعلم القاطع، ولكن فی الموارد التی یذمّ فیها الإستناد الى الظن لا یكون الذمّ بلحاظ هذه الحالة بل بلحاظ لازمها، أعنی هذه الحقیقة وهی أنّ الظنون لا توصل الإنسانَ الى الیقین ولا تكون مقدمة لتحصیله دائماً ونظراً لتخلّفها عن الواقع فی الكثیر من الموارد یُلاحظ فیها حیثیة اللاإنسجام مع الواقع، وبهذا اللحاظ یعتبر القرآن الكریم الموارد التی یحسب الإنسان انّه على یقین وقطع ولكن یقینه وقطعه لم یطابق الواقع من الظن، لأن الطریق مفتوح أمام هذا الإنسان ذی العقیدة القاطعة الباطلة لكی یصل الى الحقیقة، فاذا دخل عن طریق العقل بصورة دقیقة وأعمل فكره بنحو جید فسوف ینكشف وهن عقیدته، وسیصل الى منهل الحقیقة الصافی والعذب.
فی ضوء ما ذكر سیكون المراد من الإستناد الى الظن المذموم فی القرآن الكریم أمرین:
الأول: الإستناد الى الإعتقاد الذی ینافی الواقع وإن كان اعتقادا قاطعا.
الثانی: الإستناد الى الإعتقاد غیر القاطع أی الظن وإن كان مطابقا للواقع، لأن الإنسان فی الأول لا یصل الى الواقع والحقیقة وإن كان قاطعا ومتیقنا، وفی الثانی لا تتصف طریقته وحالته بالاطمئنان والثبات المطلوب، ولا مؤمّن لصحته، ولا یوصل الإنسان الى الحق. انّ الإنسان العاقل یبنی حیاته على الحقائق لا الأوهام والخیال، سیّما فی القضایا العقائدیة والمبادئ الأساسیة للرؤیة الكونیة، حیث یتأكّد الإدراك القاطع للواقع والإعتقاد القاطع بشأنها، أی العلم الكاشف عن الواقع الذی یحصل وفق المنطق الصحیح، وهو الطریق الذی یسیر فیه جمیع الناس بمقتضى فطرتهم الإنسانیة عند الكشف عن الحقائق ویصلون الى مقاصدهم.
إذنْ المانع الآخر من اكتساب المعرفة العلمیة هی حالة الإستناد الى الظنون التی لا مفرّ منها فی حیاتنا الیومیة، ونظراً لاُنسنا بها وصیرورتها عادةً لنا فإنّنا لا نهتمّ بتحصیل العلم القاطع فی الأمور الأساسیة والمهمة أیضاً، والقرآن الكریم یحذّرنا من خطر هذه العادة، فانّه وإن أمكن الإكتفاء بالظن فی شؤون الحیاة الیومیة والقضایا البسیطة فی الحیاة، خاصّةً إذا كان تحصیل العلم الیقینی غیر میسور، ولكن هذه العادة اللاشعوریة یجب أن لا توصد طریقنا لتحصیل العلم القاطع فی القضایا الأساسیة، فانّ ذلك لا یوصلنا الى الحق، ویورد علینا ضرراً وخسارة فادحة.
هناك موانع اُخرى تصدّ الإنسان عن اكتساب المعرفة الصحیحة وتحصیل العلم وترتبط كثیراً ما ببعد المیول، كما إذا ظنّ حرمانه من بعض الخیرات المادیّة فیما لو اهتمّ باكتساب المعارف الحقة.
إن الذین یتمتّعون فی الحیاة الدنیا بعیشة مرفّهة منعّمة قد تیسّرت لهم أدوات الراحة والإلتذاذ كافة یتشبّثون بشدّة بأوضاعهم الجاریة عادة، فانْ أحسّوا بوجود ما یشكّل خطراً على هذه الأوضاع فانّهم لا یودّون إشغال أذهانهم به، بل على العكس یقومون بمواجهته.
بصورة عامّة نلاحظ فی الآیات القرآنیة ثلاثة موانع ـ على الأقل ـ للفكر الصحیح وهی:
أ ـ اللذائذ العابرة والأهواء الآنیّة: وتوجد فی جمیع الأشخاص إجمالاً، مع فارق أنّها تكون لدى البعض فی حدود معیّنة ومعقولة، فلا تتعارض مع أعمالهم الضروریة الاُخرى، كما لا تحول دون التفكیر والتأمّل فی المستقبل، بینما تطغى فی البعض الآخر هذه اللذائذ والأهواء وتقوم بسلبهم جمیع الفرص وتمنعهم من التدبر فی المستقبل، سواءً أكان مستقبلاً مادیّاً ودنیویاً أو معنویاً وأخلاقیاً واُخرویاً، وبعبارة اُخرى تتحوّل حیاتهم الى حیاة غریزیة وحیوانیة تماماً، ویمكن استنتاج هذه الملاحظة من آیات كثیرة نشیر هنا الى نماذج منها، كالآیة:
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِیراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِْنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا یَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْیُنٌ لا یُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا یَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالاَْنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.21
والآیة:
وَالَّذِینَ كَفَرُوا یَتَمَتَّعُونَ وَیَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الأَْنْعامُ وَالنّارُ مَثْوىً لَهُمْ.22
ب ـ النظرة المادیّة المتطرّفة للمستقبل: فی المرحلة الثانیة هناك أشخاص ینتفعون بأفكارهم، ولا یغرقون فی اللذائذ والأهواء الآنیة، الاّ أن أفكارهم وأقوالهم تتلخّص بصورة عامّة فی شؤون الدنیا بحیث یشغلهم جمع المال، وابتغاء القوة وتحصیل المقام والموقع الاجتماعی فی الدنیا الى حدّ الغفلة الكاملة عن الله عزّ وجلّ والقیامة والمعنویات ومستقبلهم. فی الحقیقة انّ فكر هؤلاء لیس میتاً ومعدوماً كالمجموعة الاُولى، الاّ أنّه أسیر الرغبات المادیّة الدنیویّة، وحبّ المال، والإهتمام بالمقام وابتغاء القوة، ولیس بوسعهم الخروج من السجن المظلم، واستنشاق عطر الروح والریحان والجنة والنعیم والقرب والرحمة الإلهیّة أبداً.
قد لا یكون لهذه المجموعة عنادٌ خاصٌ مع الله عزّ وجلّ والرسول والقیامة، الاّ انّها غارقة تماماً فی المال والمنصب والقوّة وبالتالی هی غافلة عن هذه الأمور تماماً. فی هذا المجال آیات كثیرة نشیر الى عدد منها، كالآیة:
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ * حَتّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ.23
والآیة:
ذَرْهُمْ یَأْكُلُوا وَیَتَمَتَّعُوا وَیُلْهِهِمُ الأَْمَلُ فَسَوْفَ یَعْلَمُونَ.24
فَمِنَ النّاسِ مَنْ یَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِی الدُّنْیا وَما لَهُ فِی الآْخِرَةِ مِنْ خَلاق.25
بدیهی لیس المراد من (یقول) مجرّد القول باللسان، بل انّه یرید الدنیا فقط ویبحث عنها، ویكون فكره وأقواله وتخطیطه وأعماله وسلوكه من أجل تحصیلها، والآیة:
مَنْ كانَ یُرِیدُ الْحَیاةَ الدُّنْیا وَزِینَتَها نُوَفِّ إِلَیْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِیها وَهُمْ فِیها لا یُبْخَسُونَ * أُولئِكَ الَّذِینَ لَیْسَ لَهُمْ فِی الآْخِرَةِ إِلاَّ النّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِیها وَباطِلٌ ما كانُوا یَعْمَلُونَ.26
ج ـ العداء والنفور من الله عزّ وجلّ والنبیّ(صلى الله علیه وآله وسلم) والدّین: فی المرحلة الثالثة هناك اُناس ذَوو أفكار حیّة ولیسوا كالمجموعة الاُولى التی لا تفكّر بشأن الموضوعات أبداً غیر أنّ فكرهم أسیر المیول السلبیة والعناد والعداء مع الله عزّ وجلّ والرسول(صلى الله علیه وآله وسلم) ویسعَون وینشطون فی هذا المجال، وإن كان هذا العناد فرعاً وانعكاساً لتلك المیول المادیّة الایجابیة، أی طلب الجاه وحبّ الدنیا وعبادة المال، ولكن هذه المیول تظهر على صورة عداء مباشر مع الله وعبّاده، والتكذیب والإدبار والإستكبار والقتل وسفك الدماء، وفی هذا المجال یمكن الإشارة الى بعض الآیات، من قبیل:
ذَرْنِی وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِیداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً * وَبَنِینَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِیداً * ثُمَّ یَطْمَعُ أَنْ أَزِیدَ * كَلاّ إِنَّهُ كانَ لاِیاتِنا عَنِیداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَیْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَیْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقالَ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ یُؤْثَرُ * إِنْ هذا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِیهِ سَقَرَ * وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ * لا تُبْقِی وَلا تَذَرُ * لَوّاحَةٌ لِلْبَشَرِ.27
على أیّة حال، هذه أنواع ثلاثة من الرغبات العامّة التی یختلف أحدها عن غیره، الاّ انّها تصدّ الإنسان من التفكیر الصحیح بشأن الموضوعات الجدیرة بالتفكیر.
وبإمكاننا تقسیم الرغبات التی تزاحم التفكیر الصحیح بلحاظ آخر:
یعرّف القرآن الكریم شریحة من المجتمع تحت عنوان المترفین، والمسرفین، والمبادرین للخصام مع الأنبیاء(علیهم السلام) حیث كانوا یواجهون كلّ نبی یرسل إلیهم ویخالفونه، ولعلّ السّر فی معارضتهم هو رغبتهم فی المعیشة الرغیدة التی كانوا یحظَون بها، ولم یشعروا بنقص فی حیاتهم. ومن جانب آخر یظنّون ویوقنون أحیاناً بأنّهم لو سلّموا بنهج الأنبیاء(علیهم السلام) واستجابوا لدعوتهم فانّ الخطر سیهدد حیاتهم الطیبة، وكان المیل الى الرفاه والراحة منشأً لمعارضتهم.
المیل الثانی الذی یصدّ الإنسان عن تحصیل المعرفة هو المیل الى المكانة الاجتماعیة، إذْ إنّ الإنسان لو فكّر أنّ الإیمان بالله عزّ وجلّ والقیامة والآخرة یهدد موقعه الاجتماعی، فانّ هذا التفكیر سیصدّه عن التدبّر بشأن الموضوعات المذكورة.
الكثیر من الناس یرومون الموقع الاجتماعی كوسیلة لتحصیل مصالح مادیّة، حتّى یتیسّر لهم النهب والإستغلال فی ظل ما توصلوا إلیه، الاّ أنّ الأمر لا یكون هكذا فی كلّ مكان، إذ تكون للمقام موضوعیّة لدى البعض. انّ إحدى الرغبات والمیول النفسیّة فی الإنسان هی أن یكون ذا امتیاز معتبر بین الناس، وذلك بأن یدعى (الرئیس) ویقابل بالاحترام.
هؤلاء على عكس المجموعة الاُولى یرجّحون ان تحفظ مواقعهم عندما تتهدد مصالحهم المادیّة والمالیة، وكثیراً ما ینفقون الأموال لاكتساب مكانة أو منصب أو شهرة أو للإحتفاظ بها، ممّا یدلّ على حقیقة أنّ المیل الى المقام وحبّ الجاه میل مستقل فی نفسه، ویصدّ الإنسان عن ممارسة التفكیر الصحیح ذهنیا، وكسب نتائج ومعارف صافیة وحقائق، لانّهم لو اتّبعوا الأنبیاء(علیهم السلام) فانّ الخطر سوف یهدد هذه المقامات والمناصب.
فی القرآن الكریم آیات تشیر الى هذا الأمر، أو یمكن استیحاء ذلك منها على الأقل، كالآیة: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِیَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا.28
والآیة: الَّذِینَ یَتَّخِذُونَ الْكافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ أَ یَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِِ جَمِیعاً.29
والآیة: وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَیْنِكُمْ فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا ثُمَّ یَوْمَ الْقِیامَةِ یَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْض وَیَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِینَ.30
والآیات: ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآیاتِنا وَسُلْطان مُبِین * إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلاَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِینَ * فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَیْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِینَ.31
من خلال هذه الآیات وأمثالها نستنتج انّ مجموعة من الناس كانوا یهدفون فی الواقع الى اكتساب العزة والموقع الاجتماعی قبل عبادة الاصنام والآلهة الباطلة، وقد سحر طلب المقام والموقع هذا عیونهم ومجامع قلوبهم الى حدّ لم یسمحوا لأنفسهم بالتدبر فی الحق والحقیقة والله تعالى والقیامة والوحی والنبوة أبداً، لانّهم كانوا یرون انّ هذه الأفكار تزاحم مواقعهم وتعارضها.
العامل والمیل النفسیّ الثالث الذی یمنعنا من التفكیر الصحیح واكتساب المعرفة الصحیحة هو المیل الى الإستكبار والتكبّر الذی یشتدّ ویضعف حسب الأشخاص، وقد یكون شدیدا الى درجة یعتبر الإنسان التواضع للغیر عاراً، بل لا یمكنه الخضوع أمام الله وخالق جمیع الموجودات وابداء التواضع له، وهذا هو أعظم مراتب الكبر وأخطرها.
كمثال ینقل التأریخ انّ أهل الطائف بعد انتصارات الرسول الأكرم(صلى الله علیه وآله وسلم)اضطروا للتسلیم له ولكنهم اقترحوا علیهم بقولهم: انّنا ندخل فی دینك بشرط أن ترفع عنّا الصلاة وتعفینا من السجود لله على الأرض فانّه أمر ثقیل علینا ولیس بوسعنا تحمّله.
إنّ التفسیر النفسیّ لهذا الإقتراح هو أنّ روح التكبر فیهم كان من القوة ما أعجزهم عن الخضوع لله، وهذا النوع من التكبر والى هذه الدرجة من الإستكبار موجود فی الشیطان أیضاً لانّه كان خاضعاً لله (قدْ عبَد اللهَ ستَّة آلافِ سنة لا یُدرى أمِن سِنی الدُنیا أمْ من سِنی الآخِرة).32
أجل، إنّ الشیطان لم یشعر بالعار من السجود لله وقد مارس ذلك سنین طوالاً، ولكنه شعر بالعار من الأمر الإلهی بالسجود لآدم(علیه السلام) فعصى وكان عصیانه سبباً لسقوطه. إذنْ لو وجد إنسان یشعر بالعار من الخضوع لله فانّه أسوء حالاً من الشیطان. إِنَّ الَّذِینَ یَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِی سَیَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِینَ.33
وهناك نماذج كثیرة ذات درجات دانیة من الكبر، وقد اُشیر الى نماذج تأریخیة كثیرة فی القرآن الكریم، والى الأمم السالفة التی لم تطعِ الأنبیاء(علیهم السلام).
وأخیراً فانّ العجب والعصبیة والغرور یعدّ ـ كالكبر ـ من المیول المانعة من التفكیر ومزاحمة لتحصیل المعرفة كالتعصب العرقی، والتحزّب والفئویة وبصورة عامّة العصبیات الباطلة وفی غیر محلها وهكذا الغرور و...وتصدّ الإنسان من التردّد فی سلوكه، ثمّ التفكیر حتّى یصل الى الإعتقادات الصحیحة.
* * * * *
1 الملك: 10 و11.
2 الأعراف: 179.
3 البقرة: 55.
4 الفرقان: 21.
5 المؤمنون: 33 و34.
6 المؤمنون: 45 ـ 47.
7 یس: 78 و79.
8 الزخرف: 21 ـ 24.
9 الأنبیاء 51 ـ 54.
10 الشعراء: 69 ـ 74.
11 الملك: 10.
12 الشمس: 7 و8.
13 الأعراف: 172 و173.
14 الأعراف: 138 ـ 141.
15 یونس: 66.
16 یونس: 35 و36.
17 ص: 27 و28
18 النجم: 27 و28.
19 النجم: 21 ـ 23.
20 الانعام: 116.
21 الأعراف: 179.
22 محمد: 12.
23 التكاثر: 1 و2.
24 الحجر: 3.
25 البقرة: 200.
26 هود: 15 و16 وأمثالها: الإسراء: 18 والشورى: 20.
27 المدثر: 11 ـ 29.
28 مریم: 81.
29 النساء: 139.
30 النعكبوت: 25.
31 المؤمنون: 45 ـ 48.
32 نهج البلاغة: الخطبة القاصعة.
33 غافر: 60.