الدوافع الأساسیة للنفس
فی مقام التفصیل تنشأ فروع من هرم النفس ذی الأبعاد الثلاثة، ویكون لها ارتباط داخلی مع الأبعاد النفسیة الثلاثة: العلم والقدرة والحبّ (حبّ النفس) أی انّ هذه الأبعاد الثلاثة مترابطة فی باطن النفس، وتكون فی مقام التفصیل منشأً لظهور تفرعات ثمّ تكثیرها، وقد أشرنا فی الفصل الماضی إلى هذا الترابط والإرتباط المتواصل وتكثیر الفروع والأغصان.
والآن نتطرق إلى تكثیر المیول والدوافع وتبیین القنوات الأساسیة وبعض أغصانها وأوراقها الفرعیة. انّ فروعاً من المیول الغریزیة والسوائق وإنْ وجدت إثر الترابط الداخلی بین الأبعاد الثلاثة للنفس، وبالتالی یكون للعلم والقدرة تأثیر بالغ وظاهر لا یمكن التغاضی عنه فی ایجادها، ولكنْ من جهة السنخیة یمكن القول: انّ جذورها فی الأصل والأساس هو حبّ النفس، وتعتبر من فروع هذا البُعد من الأبعاد النفسیة، وتصبح هی بدورها مبدءً لأفعال الإنسان المختلفة وتدفعه للقیام بألوان سلوكیة متنوّعة.
انّ النفس تتضمّن جواذب لنیل أمور تفقدها، یطلق علیها بعض علماء النفس: اسمَ (الغریزة) وبعض آخر اسمَ- (السائق) ویطلق آخرون اسماء اُخرى علیها، أی لیس لها مصطلح ثابت ومسلّم به، وسوف یحتاج استعمال كلّ منها وإطلاق كلّ من الأسماء المذكورة علیها إلى توضیح مستقل. وما نروم طرحه هنا هو أنه یمكن القول: انّ هناك عدة میول تتولد فی النفس فی البدایة وهی تمثّل الفروع والقنوات الأساسیة لأفعال الإنسان، ویمكن اعتبارها غرائز أساسیة. ومن الجدیر بالالتفات هو انّ المقصود من الغرائز هنا لیس ذلك المصطلح الذی یستعمل فی المیول المشتركة بین الإنسان والحیوان والمتعلّقة بالجسم، بل تستعمل فی المفهوم العامّ للمیل والدافع. ثمّ تتفرع منها سائر المیول الإنسانیه الكثیرة كماً والمعقدة كیفاً، وتمثّل المنشأ لأعمال وممارسات انسانیة متنوّعة ومعقدة: التذاذیة، ومصلحیة، وعاطفیة; وفردیة واجتماعیة; ومادیة ومعنویة. وتتفرع كلّها من هذه القنوات الأساسیة ویرجع كلٌّ منها إلى هذه الجذور بصورة ما، یتعلّق بها ویتغذى منها.
ولنقلْ بنحو أوضح: انّ مقصودنا من الغرائز الأساسیة هو ثلاثة أنواع من المیول تنشأ من النفس وبها تنجز جهود الإنسان كافة، وستكون هذه القنوات الأساسیة الثلاث فی ذاتها ـ كما قلنا ـ مظاهر متنوّعة للحبّ وحبّ النفس.
إحدى هذه القنوات هو (حبّ البقاء) الذی یمثّل المنشأ لمجموعة من الجهود الإنسانیة. انّ الأساس فی رغبة الإنسان فی أن یبقى ویكون ذا حیاة دائمة هو حبّ الذات والحركة الذاتیة للنفس والتی تتجلّى فی قناة خاصّة.
القناة أو الغریزة الأساسیة الثانیة هی (حبّ الكمال) أی انّ الإنسان مع غضّ النظر عن رغبته فی البقاء وامتلاك عمر طویل یحبّ فی إطار البقاء وانقضاء العمر أن یتكامل یوماً بعد آخر أیضاً، وتكون حركته ذات مسیرة تكاملیة.
هذا الكمال الذی یودّه الإنسان ینقسم إلى قسمین ویجری فی قناتین مستقلتین، وهما فی عین افتراقهما واستقلالهما فرعان من (حبّ الكمال) لانّ كمالات الإنسان تتشكّل فی فرعین أساسیَّین هما: (تكامل العلم) و(تكامل القدرة) وعلیه فإنّ (طلب الحقیقة) و(حبّ الاقتدار) میلان یمثلاًن فرعین أساسیَّین للمیل الرئیسی الأكبر وهو (حبّ الكمال).
القناة الأساسیة الثالثة أو الغریزة الأساسیة للانسان هی (طلب اللذة) و(حبّ السعادة) فانّه یحبّ اللذة إلى جانب البقاء والكمال، ویودّ السرور الدائم والحیاة الطیبة.
وكلّ غریزة من الغرائز الثلاث المذكورة فی عین نشوئها من جذر واحد أعنی (حبّ النفس) تصبح بدورها أصلا لأغصان وفروع متعدّدة ومتنوّعة، وتكون منشأ لنشاطات كثیرة بفعل عوامل مختلفة.
أ ـ حبّ البقاء وفروعه
یظهر (حبّ البقاء) وهو الغریزة الاُولى من الغرائز الأساسیة الثلاث فی الإنسان بفعل عامل آخر فی صورتین مختلفتین، وینتهی إلى نوعین متمایزین تماماً من النشاطات الإنسانیة. والعامل المذكور هو (العلم والمعرفة)، ویحظى أفراد الإنسان بدرجات متفاوتة منه، ویوفّر للذهن الإنسانی معلومات مختلفة، ویكون منشأ للاختلاف والتنویع فی السلوك الظاهری للانسان، أی ان الإنسان هذا الموجود الحساس الذی یسعى ویجدّ على أساس من علمه وإدراكه لو توصّل فی مجال التعرّف على حقیقة النفس إلى هذه النتیجة وهی انّ حقیقة النفس هی الحقیقة المادیة لجسم الإنسان لا غیر فإنّ حیاته سوف تتلخص فی هذه الحیاة الدنیویة والحال أنّه لا یعرف حیاة ولا وجوداً له بعد موته واندراس جسده. فی هذه الحالة سیكون لـ (حبّ البقاء) تجلٍّ خاصّ وظهور متناسب مع هذه المعرفة، أی تظهر على صورة آمال عریضة فی الحیاة الدنیا، وحبّ شدید للتمتع بعمر طویل فی النشأة المادیة هذه، والرغبة فی البقاء الخالد فی هذه الدنیا والحیاة المادیة، ومثل هذا الحبّ یكشف فی ذاته عن تلك المعرفة.
قال تعالى عن أمثال هذا الإنسان:
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَیَاة وَمِنْ الَّذِینَ أَشْرَكُوا یَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ یُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ یُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِیرٌ بِمَا یَعْمَلُونَ1.
من البدیهی انّ العدد (ألف سنة) هو كنایة عن أملهم الطویل وحبّهم الشدید للحیاة المادیة، ویفهم منه محض الكثرة دون التقید بحدّه الخاصّ، والاّ فإنّ مثل هذا الإنسان ذی الرؤیة المادیة یودّ لو یعیش ألف سنة اُخرى دون أن یزول هذا الحرص لدیه أبداً.
انّ منشأ هذا الحبّ الشدید للعمر الطویل هو (حبّ البقاء) الذی اتخذ تجلّیاً خاصّاً على أساس من الرؤیة المادیة والمعرفة الخاطئة عن الكون والإنسان ـ تلك الرؤیة التی بحسبها یتلخص وجود الإنسان فی الجسم المادی وحیاته فی الحیاة الدنیویة ـ ویتجلّى بصورة الحرص على الدنیا والأمل الطویل والحرص الشدید للتمتع بعمر طویل.
وعلى العكس لو ارتقى الإنسان إلى نقطة أعلى فی سلّم المعرفة، وتوصّل إلى معرفة أعمق عن الإنسان والكون، وأدرك انّ هذه الحیاة الدنیویة تمثّل مرحلة متصرّمة من حیاة الإنسان، و هی مقدمة لحیاته الحقیقیة الأصیلة فانّه لا یتشبّث بها، بل سینصرف اهتمامه الأكبر إلى مراحل أعلى، ویباشر أعمالا أنفع لآخرته ومستقبله. ومن البدیهی انّ دافع (حبّ البقاء) فی هذه الحالة أیضاً هو الدافع لاداء هذه الأفعال والعبادات والجهاد والریاضة، ویكون السبب للإعراض عن الدنیا والتوجّه إلى الآخرة فی حالات التعارض بینهما.
ونرى انّ نتیجتین متضادتین تستمدان من جذر واحد هو (حبّ البقاء)، وهذا الدافع الفطری یحثّ الإنسان على ممارسة نوعین من الأعمال بماهیتین مختلفتین، وأهداف ودوافع مختلفة. وإذا سُئلنا هنا: كیف یمكن لدافع واحد أن یحثّ الإنسان إلى نوعین متضادین من الأعمال؟ قلنا فی الإجابة: هذا الدافع وإنْ كان ذا أساس فطری ولكنّ تشكُّله واتجاهه كما أشرنا سابقاً یستند إلى عامل خارجی وغیر فطری وهو العلم ومعرفة الإنسان، ودرجات المعرفة یمكن أن تكون سبباً لظهوره وازدهاره فی أشكال مختلفة، ویجد اتجاهات متعدّدة ویدفع الإنسان لممارسة افعال متنوّعة، ولكنّ هذین النوعین من العمل مشتركان فی حقیقة واحدة إذ هناك اهتمام بالمستقبل فی كلیهما، ورؤیة الإنسان للمستقبل تدفعه نحو العمل، أی بما انّ الإنسان توّاق لاستمرار حیاته فانّه یفكّر فی مستقبله ویسعى لإحرازه، غیر انّ هذه الرؤیة المستقبلیة تدفع الإنسان على أساس معرفة معینة لممارسة عمل خاصّ، وتدفعه على أساس معرفة اُخرى لممارسة عمل آخر، كالتاجر الذی یعقد صفقة تجاریة بهدف الربح، فانّه حینما یلاحظ أوضاع السوق وحاجة الناس والأحوال الاقتصادیة یرى انّ الربح الكثیر یكون فی تجارة القطن، ولأجله یدخل فی صفقة بیع وشراء القطن، وقد یرى فی المرة الثانیة انّ علیه الدخول فی تجارة الحدید مثلاً للحصول على ربح أكبر لاحساسه باحتیاج المجتمع للحدید، ووفق قاعدة (العَرض والطلب) یتوصّل إلى انّ الربح الكبیر والمطلوب یكمن فی تجارة الحدید. فنلاحظ انّ دافع كسب الربح وإنْ كان واحداً الاّ أنّه فی ظلّ تأثیر عامل المعرفة من الخارج یدفع الإنسان لممارسة عملین مختلفین.
ب ـ طلب الكمال فی تجلّیات مختلفة
انّ (الغریزة الأساسیة) الثانیة فی الإنسان هی طلب الكمال، و(حبّ الكمال) توأم (حبّ البقاء) إذ إنّ أیّ تكامل لا یتحقّق دون بقاء، وفرض الكمال یكون فی موقع یكون الإنسان فیه باقیا. والفارق بینهما هو انّ التكامل لا یتحقّق بدون البقاء فی حین یكون البقاء أعمَّ من ذلك فقد لا یكون متقارنا مع التكامل، إذنْ یبحث الإنسان فی طلب الكمال عن نوع من الزیادة الكمیة أو الكیفیة أو النضج، ویطلب أموراً لیزداد انتفاعاً من الوجود. وهذا أمر مستقل عن البقاء واستمرار أساس الحیاة.
انّ طلب الكمال فی الإنسان ذو فرعین رئیسیَّین ویظهر ویزدهر فی مَیلین قویَّین هما:
حبّ الاقتدار، والبحث عن الحقیقة.
1 ـ حبّ الاقتدار:
انّ حبّ الاقتدار من المیول الفطریة والذاتیة والجذریة فی الإنسان، وقد قلنا سابقاً إنّ القدرة تمثّل أحد الوجوه الأساسیة لهرم النفس وأحد أبعادها الأساسیة، وتكون فی مقام الاجمال هی النفس الإنسانیة ذاتها وإنْ امكن فی مقام التفصیل إدراكها منفصلة ومتمایزة عن البعدین الآخرین. ومن الطبیعی أن یكون الإنسان المحبّ لذاته محبّاً لقدرته أیضاً.
انّ المیل لنیل القدرة وبتعبیر آخر انّ تجذّر حبّ الاقتدار فی فطرة الإنسان وذاته وجوهره حقیقة قطعیة یجدها كلّ انسان فی أعماق نفسه، كما انّ اجراء التجربة على أعمال وسلوك الآخرین یكشف بوضوح عن هذه الحقیقة. حتّى سلوك الاطفال لو درسناه تیسّر لنا ملاحظة روح حبّ الاقتدار فی أعماق نفوسهم، فالطفل منذ أن یعرف نفسه فانّه یحبّ القدرة ویسوؤه الضعف والعجز، ویغمره السرور حینما یحس بالاقتدار فی نفسه. فمثلاً نلاحظ الاطفال فی الشهور الاُولى من أعمارهم وهم عاجزون عن الوقوف على اقدامهم كیف یحاولون الوقوف على كلّ حال، وحتّى لو سقط الطفل مائة مرة فانّه لن یترك هذا الأمر حتّى یُوفّق للوقوف متوازنا تماماً على قدمیه، ویغمره الفرح لاكتسابه القدرة. ولو أمسك الوالدان بیدیه لیستطیع الوقوف والمشی وجدناه یحاول بطرق مختلفة أن یفلت من أیدی الوالدین ویقف على قدمیه بلا حاجة إلیهما.
هذه المحاولات وهذا السرور والتمرین للاكتفاء الذاتی وعدم الاحتیاج للوالدین فی الطفل هی مظاهر مختلفة لحبّ الاقتدار والكمال فی الإنسان. ونظراً لوجود جذور فطریة لهما وكونهما ذاتیَّین للانسان فانّهما یدفعانه حتّى فی مرحلة الطفولة إلى هذا النوع من السعی، ویدفعانه من خلال هذا الطریق للتحرّك فی مسیرة الكمال وتحقیق الكمالات الإنسانیة أخیراً.
ولكنْ نظراً لكون هذا المیل أمراً ذاتیاً فی الإنسان، ولوجوده فی فطرته فانّه لا یتركه بحال، ویكون حاكما على سلوكه فی مراحل عمره المختلفة بأنحاء مختلفة، حتّى الذین یودّون تسنّم المناصب والمقامات الدنیویة، والذین یریدون بسط هیمنتهم على ارجاء الأرض، أو أكثر من ذلك بأن یفكّروا فی التسلط على السماء وتسخیر الاجرام السماویة، فانّهم یفعلون ذلك تحت سلطة وتأثیر (حبّ الاقتدار) و(حبّ الكمال) وكلّ هذه الأعمال والمساعی هی مظاهر لـ (حبّ الاقتدار) و(حبّ الكمال) عندهم.
التنوّع فی حبّ الاقتدار
یجدر هنا طرح هذا السؤال والبحث بشأنه: كیف یمكن ظهور حبّ الاقتدار فی الإنسان بأشكال مختلفة؟ أی من سعی الطفل للتحرر من أیدی الوالدین بغیةَ الوقوف على قدمیه، إلى سعی الشابّ لنیل بطولة المصارعة والجهاد السیاسی لنیل مناصب سیاسیة ومقامات اجتماعیة، حتّى الجهود الدولیة المتنوّعة للوصول إلى اكتساب القوة العظمى والهیمنة على الكرة الأرضیة، وفوق ذلك بالإستیلاء على السموات وتسخیر الكواكب ـ وهو ما أوضحناه آنفا ـ وهذه مراتب مختلفة لقدرة الإنسان المادیة، وهناك من لا یحصر قدرة الإنسان الحقیقیة فی هذه الانواع المختلفة للقدرة المادیة، بل انّها تشمل مظاهر القدرة الاُخرى من قبیل قوة النفس أو قوه الإرادة والتسلط على الذات، أو القدرة على التحكم فی آمال وأهواء النفس، أو القدرة الروحانیة التی ینالها المرتاضون عن هذا الطریق ویمارسون من خلالها افعالاً تثیر الإعجاب والإستحسان، ولا تكون فی إطار القدرة المادیة، حتّى تصل أخیراً إلى القدرة التی یبحث عنها أولیاء الله، أی القدرة الخالدة والقدرة الإلهیة المطلقة التی یكرّس من أجلها أشخاص أنفسَهم لعبادة الله مدى العمر ویحملون عبء الطاعة الثقیل للأوامر الإلهیة لكی یقتربوا إلى الله وتكون قدرتهم شعاعا من القدرة الإلهیة، وبعبارة اُخرى تتجلّى فیهم القدرة الإلهیة. نكرّر السؤال المذكور هنا ونبادر للإجابة عنه: كیف یظهر حبّ الاقتدار فی الإنسان هذا المیل الفطری والطلب الذاتی بالاشكال والصور المتنوّعة المذكورة بعرضها العریض؟ الجواب: فی تنوّع صور حبّ الاقتدار یمكن الإستناد إلى عاملین، لأحدهما دور فی اختلاف مراتب القدرة الطولیة المختلفة، ولثانیهما دور فی تنوّع الصور المختلفة للقوى المتعدّدة التی هی فی عرض واحد. أمّا فیما یتعلّق بالمراتب المختلفة لقدرة طولیة فیمكن القول ان كلّ مرتبة من القدرة التی ترتبط بحبّ الاقتدار لدى الإنسان تكون ـ بعد توفّرها وتحقّقها فی الخارج ـ سبباً لانّ یهجر حبّ الاقتدار لدیه فی هذه المرتبة لیتعلّق بالمرحلة التالیة لها.
وعلیه فإنّ كلّ مرتبة من القدرة تصبح فعلیة یكون لها دور إیجابیٌّ فی طلب المرتبة التالیة لها. فمثلاً من كان طالبا للاقتدار وبإمكانه فعلا أن یصرع بطلا فانّه یكون طالبا لدرجة اعلى من القدرة لكی یصارع بطلا أكثر قوة.
انّ العامل الثانی الذی له دور فی تنوّع حبّ الاقتدار هو المراتب المختلفة للعلم والمعرفة الإنسانیة. انّ انشداد الإنسان إلى مظاهر القدرة المختلفة یتوقف على درجات معرفته بالظواهر المختلفة للقدرة.
الإنسان میّال إلى القدرة، انّه میل ذاتی فی الإنسان وله جذور فطریة، وقلنا سابقاً إنّ القدرة أساساً إحدى الوجوه الثلاثة لهرم النفس، ومن الطبیعی ان تحبّ النفس ـ التی تحبّ ذاتها ـ القدرة التی هی وجه من وجوه النفس، الاّ انّ السؤال الذی یطرح أمامها یكون عن العلم التفصیلی لماهیة هذه القدرة التی له معرفة بها فی مقام الاجمال ویبحث عنها حثیثاً. أجل. إنّ الإنسان الذی یمیل إجمالاً نحو القدرة یودّ لو یدرك ماهیة هذه القدرة؟ وأنواع القدرة وصورها المختلفة. وأنّ أىّ أنواعها هو الأفضل وما السبیل إلى نیله؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وأمثالها دور إیجابیٌّ فی توجیه حبّ الاقتدار لدى الإنسان وإرشادها، ومن جهة اُخرى تعتبر الإجابة عنها عملاً علمیا ویستند إلى معرفة الإنسان، وبالتالی نجد أنّ عامل المعرفة، أی الوجه الآخر للنفس، هو الذی یؤثّر فی توجیه المیل إلى القدرة وتنوّع حبّ الاقتدار لدى الإنسان، وترسم فروعا مختلفة لحبّ القدرة.
فكلُّ انسان بالبحث عن القدرة حسب معرفته بها، وعلى أساس من میله الفطری وطلبه الفطری للقدرة یقوم بالتمرین والریاضة لكی یصبح بطلا شهیراً فی أحد أقسام الریاضة ككرة القدم، أو كرة الطائرة، أو المصارعة،... ویبادر شخص آخر لاجتیاز مسیرة علمیة تحقیقیة ویمارس تجارب صعبة لكی یكون عَلماً فی العلم، یكشف القوى العظیمة الموجودة فی الطبیعة ویقوم باختراع وسائل وادوات قویة فی مختلف المجالات، أو یقوم برحلات فضائیة نحو الكواكب ویصنع أقماراً صناعیة وبها یراقب كلّ شیء، وأخیراً یسعى آخرون من خلال اكتساب القوة الاقتصادیة أو السیاسیة أو العسكریة وغیرها للهیمنة على المجتمعات كافة. وكلّ واحد من المذكورین یرى القدرة الحقیقیة فی ما یبحث عنه نفسه. وهناك أشخاص لا یبالون بالقوى المادیة والجسمیة والدنیویة بل یبحثون عن القوة الروحیة فحسبُ، ویمارسون فی سبیل هذا الهدف ریاضات شاقّة، أی انّهم وقفوا قدرة اُخرى تتغلّب على القوى المادیة أیضاً، ومن خلالها یزاولون أعمالاً لا یمكن إنجازها بأیّة قدرة مادیة. لقد أدرك هؤلاء بالمعرفة الحاصلة لدیهم انّ القدرة الواقعیة تكمن فی قدرة النفس أو قدرة الروح أو قدرة الإرادة، ولذا فانّهم یستعدون للقیام بریاضات شاقّة فی سبیل اكتسابها.
وأخیراً فإنّ هناك أشخاصاً یرون قدرتهم شعاعاً من القدرة الإلهیة وقد عرفوا حقیقة الإنسان والكون بهذا النحو وهو أن كلّ شیء مسخر بید القدرة الإلهیة اللامحدودة، والإنسان لا یحظى بالقدرة الحقیقیة الاّ حینما تكون قدرته اشعاعاً من القدرة الإلهیة وتتجلّى فیه القدرة الإلهیة. مثل هذا الإنسان وبهذه المعرفة یسعى سعیا جادّاً لعبادة الله واقامة الصلاة وممارسة الصیام وأداء الفرائض الإلهیة الاُخرى لكی یقترب من الحضرة الإلهیة وهی المَعین الأصیل للقدرة، لأنّه قد وجد القدرة الحقیقیه هناك. وعلیه یمكن القول انّ سرّ ظهور التجلّیات المختلفة لحبّ الاقتدار لدى الإنسان یكمن فی الإشتداد الأكبر لطلب وفائدة أحد أقسام القدرة المذكورة لدى كلّ فرد أو جماعة من البشر، ومن الطبیعی أن یكون لمعرفته الدقیقة بالقدرة التی یهواها دور مؤثّر فی تحدید فائدة أكبر وظهور رغبة أشدُّ فیها.
للعلم والمعرفة إذنْ تأثیر جادٌّ فی تنوّع حبّ الاقتدار لدى الإنسان وقد أشرنا بوضوح إلى نماذج من ذلك آنفاً، ویمكن القول إضافةً إلیها: ان طلب الشخصیة والإستقلال والمیل إلى العزّة أو الاحترام من فروع حبّ الاقتدار لدى الإنسان. انّ عدم رغبة الإنسان فی أن یكون طفیلیاً وذلیلاً یكمن فی انّ العزة والاحترام والإستقلال من فروع القدرة التی یبتغیها الإنسان بالفطرة، وفی الواقع، حبّ الاقتدار لدى الإنسان هو الذی یتجلّى بهذه الصور والاشكال المختلفة. حتّى انّ الرغبة فی الحریة تنشأ من المیل إلى القدرة. فالإنسان میّال إلى الحریة واتخاذ القرار بنفسه فی مشكلاته وشؤون حیاته، وإلى أن یكون حاكما على مصیره، أمّا لو رأى نفسه مغلوبة تحت ظل حكم وسلطة الآخرین وهم الذین یقرّرون له، فانّه سوف یتألم من هذه الحالة. انّ هذا مؤشر إلى انّ الحریة لدى الإنسان نوع من القدرة التی یشعر بها فی نفسه، وانّ سلب الحریة نوع من العجز الذی ینفر منه.
وحبّ الحریة یزدهر لدى الشباب منذ البلوغ، وتزداد شدة وقوة یوماً بعد آخر، وینمو لدیه المیل تدریجیّاً فی أن یتخذ القرار بنفسه، ویبدی ردود فعله حینما یأمره الآخرون لأنّه یحبّ قوته وقدرته بشدة، ویعتبر سلب الحریة لوناً من العجز فی نفسه وقدرة للآخرین فینفر منه نفوراً.
2 ـ البحث عن الحقیقة
تتجلّى صورة حبّ الكمال الثانیة لدى الإنسان فی بحثه عن الحقیقة وحبّه للعلم والاطلاع، وكما ذُكر بشأن القدرة یمثّل العلم بُعداً آخر من أبعاد النفس وصورها،فإنّ الإنسان یحبّ هذا البُعد أعنی العلم والاطلاع لانّه یحبّ ذاته.
والبحث عن الحقیقة أمر ذاتی وذو جذور فطریة فی الإنسان وینشأ ـ كما قلنا ـ من دافع أكثر أصالةً وعمقاً هو حبّه للكمال.
ویمكن ملاحظة مؤشرات هذا الدافع وحیویته بوضوح فی بعض الموارد، فإلى جانب ما یشاهد كلّ واحد منّا بوضوح فی قرارة نفسه، ویحس بشوقه لإدراك الحقائق والإحاطة بأسرار الوجود، یمكن ملاحظة آثار الغریزة، أعنی دافع البحث عن الحقیقة، فی الأسئلة الكثیرة والمتنوّعة التی تطرح نفسها أمام الاطفال منذ نعومة أظفارهم فی كلّ المجالات والأشیاء التی یشعرون بها بنحو مّا، ویطالبون الإجابة عنهامن والدیهم أو رفاقهم بإلحاح.
انّ هذا الأمر یُفصح عن فطریة وذاتیة البحث عن الحقیقة فی النفس الإنسانیة، ویعمل كقوة غامضة وظمأ روحی شدید یسلب سكونها منذ البدایة، ویدفعها نحو السعی والبحث، حتّى انّه یسلب راحة بعض الناس بنحو كامل فی بعض الموارد، وهم الذین یقوى لدیهم هذا الدافع بنحو أكبر بحیث یشدّون الرحال لأسفار بعیدة المدى وخطیرة بهدف إدراك الحقیقة، وقد یتعرضون إلى خسائر وآلام فی هذا الطریق، ویتحمّلون ـ هم وذووهم ـ الحرمان، أو یقضون عمراً فی زوایا المختبرات أو المطالعة والدراسة فی علم خاصّ، أو إجراء التجارب والمتابعة لظاهرة أو حیاة موجود حیّ كالنمل والأرضة والنحل والفراشة و... ویضحّون فی موارد بسلامتهم الجسمیة والنفسیة فی هذا الطریق.
هذه نماذج للآثار الواضحة لدافع البحث عن الحقیقة لدى الإنسان، و من الممكن العثور على المئات من هذه النماذج فی تأریخ حیاة رجال العلم والفكر، ومن خلالها یشعر الإنسان بتقدیره المفعم بالاحترام لروّاد العلم هؤلاء.
ورغم ذلك یمكن القول: انّ ما ذُكر یمثّل أحد وجهَی العملة، وفیه لاحظنا ما بذله الكائن البشری ـ سیّما النخبة ـ فی طریق البحث عن الحقیقة من ثروات وذخائر، ومن خلال ذلك شاهدنا نشاط دافع البحث عن الحقیقة، وبوسعنا فی الوجه الآخر أن نلاحظ بنحو أوضح الآثار والنتائج الطیبة لدافع البحث عن الحقیقة، وهی آثار من قبیل الرشد والنضج والنمو العلمی والتخصص العلمی الواسع والنضج الفقهی والفلسفی والعلمی الذی أصبح فی متناول البشریة، وكلّ هذه الآثار والنتائج التی عمّت كلّ مكان، والاختراعات والإكتشافات والمنجزات الصناعیة التی أصبحت فی خدمة الفرد والمجتمع الإنسانی وأعانته على تیسیر الأعمال والتعجیل بها، وساهمت إیجابیا فى تخفیف آلامه وجهوده المضنیة تمثّل نتائج مثمرة لتلك الجهود العلمیة، وتمثّل فی مستوى أعمق نتائج لروح حبّ العلم ودافع البحث عن الحقیقة لدى الإنسان، وآثاراً وعلامات نفسیة واقتصادیة واجتماعیة وثقافیة لهذا الدافع الفطری الذی هو أحد الفرعین الرئیسیَّین لحبّ الكمال لدى الإنسان، وتشیر إلى انّ أحد الدوافع الأصیلة فی روح الإنسان هو حبّ اتّساع دائرة إطلاعه وتعمیق وعیه.
وحول هذا الدافع یطرح هنا هذا السؤال أیضاً: كیف یظهر هذا الدافع الفطری (البحث عن الحقیقة) فی الإنسان فی صور مختلفة؟ فیدفع انساناً للتحقیق فی الفلسفة والعلوم العقلیة، وآخر فی دراسة العلوم النقلیة، وثالث للتحقیق والبحث فی العلوم التجریبیة، ولكلّ فرع من هذه الفروع الرئیسیة للحقیقة شعب متعدّدة، وفی كلّ شعبة منها یقضی جمع من الناس أعمارهم أو قسطا من أعمارهم على الأقل.
نقول فی الإجابة عن السؤال: انّ أصل البحث عن الحقیقة یمثّل دافعاً أساسیا ومتجذّراً، أمّا الاهتمام بالمصادیق وموارد الحقیقة المختلفة فیمكن القول انّ له عدة عوامل:
الأول: أن یدرك الإنسان ـ على الأقل ـ وجود حقیقة مجهولة فی مجال خاصّ، ثمّ یدفعه حس البحث عن الحقیقة للكشف عنها ولا یكون جهله ـ حسب الاصطلاح ـ جهلاً مركبا، بل جهلا بسیطا ومعروفا لدیه. ومن الطبیعی أن یكون لبعض العوامل القاهرة أو الاختیاریة دور إیجابیّ فی إطلاع الإنسان على جهله فی مجالات مختلفة، ویرتبط ذلك بالمجال الذی ترد فیه عوامل الاطلاع هذه، وتُطلع الإنسان على جهله فی ذلك المجال الخاصّ وتُوجّه حس البحث عن الحقیقة فیه نحوه، ومن البدیهی فی حالة وجود حقائق فی أی مجال یجهلها الإنسان تماماً أی لا یعلم حتّى بوجود حقیقة فی مجال هو جاهل بها، فانّه لا یمكن أن یتقدّم خطوة باتجاه كشفها أبداً، وانّ حسّه الفطری فی البحث عن الحقیقة سوف لا یدفعه للكشف عنها. لهذا العامل فی ذاته دور ملفت فی ظهور صور مختلفة للبحث عن الحقیقة. الاّ انّ هذه العلة لیست منحصرة، بل هناك عوامل اُخرى لها تأثیرها فی هذا التنویع أیضاً.
الثانی: لا یطلب الإنسان الحقیقة لذاتها دائماً، وقلیلون هم الذین یتابعون اكتشاف الحقیقة بدافع من البحث عنها. انّ أكثر الأشخاص یطلبون الحقیقة لنیل فوائد اُخرى قد تترتّب علیها، وبعبارة أخرى: انّ أكثر الأشخاص یبحثون عن الحقیقة التی شخّصوا انّ إدراكها ذو فوائد ولها تأثیر بنحو مّا على حیاتهم.
من الطبیعی انّ علّة مطلوبیة الحقیقة ومرغوبیتها لا تنحصر فی الرضا والسرور الحاصل من كشف الحقیقة، بل تتأكد بالدوافع الأخرى، بمعنى انّ رغبات اُخرى غیر حبّ الحقیقة تتركب معها وتُنشىء فی الإنسان دافعاً قویاً للبحث عن حقیقة خاصّة.
أجل، انّ رغبات من قبیل حبّ الاقتدار واللذة والمنفعة وغیرها تجذب الإنسان نحو إدراك حقیقة خاصّة یعتقد بتأثیرها وفائدتها فی بعض هذه المجالات. فإذا عرف الإنسان انّ إدراك حقیقة ما، إضافةً إلى كونه أمراً مطلوباً فی ذاته، یمده باقتدار وقوة كبیرة ویُشبع شعوره بحبّ الاقتدار، یكون لمعرفته هذه دور إیجابیّ فی انتخاب تلك الحقیقة الخاصّة للبحث عنها والاهتمام بها، ویعتقد أحیاناً انّ التخصص فی فرع علمی خاصّ یعود علیه بالفائدة او اللذة، وفی هذه الموارد یكون لحبّ الالتذاذ والمنفعة فی الإنسان ـ إلى جانب حس البحث عن الحقیقة ـ دور كبیر فی انتخاب الفروع التخصصیة ،وبعبارة اُخرى فى تقیّد الحقیقة المطلقة المحبّبة لدى الإنسان وفی توجیه المیل إلى مطلق الحقیقة نحو حقائق خاصّة.
الثالث: كثیراً ما تحصل للانسان مجموعة من المعارف الأساسیة، واستنادا إلیها تنشأ لدیه معاییر للتقییم والترجیح وتعیین الأولویّات فتحظى بعض أنواع الحقیقة بأهمّیة خاصّة لدیه فی إطار تلك المعاییر وبما یتناسب مع المعرفة السابقة ویرى الأولویة لمتابعتها.
انّ هذه المعارف وبتبعها المعاییر تُوجّه روح البحث عن الحقیقة الفطریّة فی الإنسان نحو جهة خاصّة وتركّز نشاطاته فی موارد وموضوعات معینة، كالمسلم الذی یتابع حقائق خاصّةً استناداً إلى عقیدته فی التوحید ورؤیته الكونیة الإسلامیة، ویهتم بمعرفة تُقنع ما فیه من حس العبودیة لله سُبحانه، إضافةً إلى البحث عن الحقیقة الفطریة، ویكون قادراً على الإستجابة لأفكاره وعقائده.
ومن الصحیح طبعاً أن یكون لغریزة العبودیة جذور فطریة ویمكن ـ بهذا اللحاظ ـ تصنیفه فی الطبقة الثانیة باعتبارها غریزة لها تأثیرها فی إرشاد وتوجیه حبّ الحقیقة، لكن حیث إنّ للعقائد التفصیلیة تأثیر ظاهراً فی إیقاظ وفعلیّة حبّ العبادة وبالتالی فى توجیه حبّ الحقیقة، لهذا نعتبر الاهتمام بالعقائد والرؤیة الكونیة كعامل ثالث إلى جانب العاملین المذكورین.
وعلیه یمكن القول باختصار: انّ عامل المعرفة فی ذاته ذو تأثیر فی تحقّق الحركة العلمیة، أی انّ كلّ طالب یروم اكتساب العلم وینتخب فرعا تخصصیا من الدراسة العلمیة فلابدّ من معرفته السابقة بشأنه، وذلك بأن یعلم أولاً بوجود هذا الفرع وهو فاقد للمعرفة بمضمونه العمیق، ویشخّص ثانیاً بأنّ هذا الفرع أكبر فائدة وضرورة وقیمة له.
ومن جهة اُخرى انّ تقییم الحقائق والفروع العلمیة المختلفة وإنْ كان قیّما ومطلوبا فی ذاته بلحاظ حس البحث عن مطلق الحقیقة، ولكنّه بلحاظ البحث عن هذه القیمة الاضافیة وهی كون مجموعة من الحقائق أكبر فائدة وضرورة بهدف متابعتها وتحصیلها یكسب مرغوبیة بالغیر طبعاً، ویتوقف ذلك على معرفة سائر أهداف الحیاة، وبالتالی الهدف النهائی للحیاة على أساس تشخیص الإنسان نفسه. فمن البدیهی انّ أهداف الحیاة لدى الإنسان وبالتالی هدفها النهائی تترتّب على أفكاره وعقائده ورؤیته الكونیة ومعرفته للعالَم وللانسان. أی إذا كان لشخص رؤیة مادیة عن الكون والإنسان فانّه یرى الحقائق والعلوم المفیدة هی المؤثّرة إیجابیاً فی نیل الاقتدار المادی الاجتماعی مثلاً تمتّعه والتذاذه، بخلاف ما إذا كانت رؤیته إلهیة وكان مؤمنا بالقیامة وعالم الآخرة فانّه یتابع أهدافاً أخرى، ویرى أنّ معارف اُخرى هی الأكبر فائدة وضرورة. ونستنتج بصورة عامّة انّ المعرفة السابقة تحدّد مسیرتنا العلمیة وبحثنا عن الحقیقة وتدفعنا لتحصیل الاختصاصات.
انّ غریزة البحث عن الحقیقة ـ وحس حبّ الاطلاع حسب تعبیر بعض النفسانیین ـ أمر ذاتی فی الإنسان، الاّ انّ توجیهها وانتخاب طریقها وترجیح علم من بین علوم و حقیقة من بین حقائق یستند إلى معرفة سابقة، فبعضٌ یفضّلون العلوم المادیة، وبعضٌ العلومَ العقلیة، وبعضٌ آخر العلوم الشهودیة والعرفانیة، وبعضٌ آخر العلوم التجریبیة، وأخیراً یعشق بعض علوما یفیضها الله سُبحانه على الإنسان إثر جهاده للنفس وممارسته للریاضات والعبادات ویجعل قلبه منبعاً للحكمة والمعرفة.
ج ـ حبّ الالتذاذ والسعادة
الغریزة الأساسیة الثالثة فی الإنسان هی غریزة اللذة والرفاه والسعادة بحیث یمكن القول انّ دائرتها واسعة ولها فروع وشعب متنوّعة جدّاً، ویمكن تقسیمها بصورة عامّة إلى ثلاثة أقسام متمایزة: القسم الأول منها یرتبط بالجسم الإنسانی. القسم الثانی یتوسط بین الروح والجسم وبعبارة اُخرى یرتبط بالعلاقة بین الروح والجسم، والقسم الثالث یختص بالروح الإنسانیة.
نشیر هنا إلى صور وتجلّیات متنوّعة لهذه الغریزة على التوالی:
أ ـ الغرائز
مقصودنا من الغرائز هنا هی الرغبات الخاصّة التی تتعلّق بالجسم، وهدفها تلبیة المتطلَّبات المادیة والجسمیة للانسان. حسب هذا الاصطلاح تكون الغرائز قسما من الرغبات الإنسانیة فی مقابل الاقسام الاُخرى من الرغبات التی یتمتع كلّ منها بمزایا، یعرف قسم بعنوان العواطف، والقسم الآخر بالفطریات أو الرغبات المتعالیة.
هذا الاصطلاح طبعاً سیختلف عما استعملنا فیه لفظ الغریزة لحدّ الآن وهو المفهوم الشامل للغریزة أی مطلق الرغبة، والاختلاف بینهما كمّی، بمعنى انّ الغریزة فی هذا الاصطلاح تطلق على قسم من الغریزة بمفهومها العامّ.
وسیختلف أیضاً عن الاصطلاح الآخر للغریزة فی علم النفس الناشىء على أساس رؤیة خاصّة لمنشأ السلوك الإنسانی. فعلى مدى تأریخ علم النفس طرحت نظریات مختلفة حول منشأ السلوك الإنسانی، وقدّمت كلّ نظریة تفسیرها بلون خاصّ تعرف باسم: 1 ـ التفسیر العقلانی. 2 ـ التفسیر الآلی. 3 ـ الغرائز. 4 ـ المتطلَّبات والسوائق فی علم النفس.
فی اصطلاح النفسانیین هذا تقوم (الغرائز) بتفسیر السلوك الإنسانی كلّه، والمقصود منها هو القوى الحیویة الفطریة التی تُعدّ الموجود الحی سلفاً للعمل بنحو خاصّ فی ظروف مناسبة. ولا یحصل تبیان بالتفسیر الغریزی للسلوك عدا الإشارة إلى كونه أمراً موروثا. وحیال نظریة الغرائز طرحت نظریة (المتطلَّبات) و(السوائق). فالسائق هو حالة الانبعاث التی تنشأ إثر حاجة حیویة، وتدفع الموجود الحی للتفكیر بتلبیة متطلَّباته2.
على أىّ حال، فانّ الغریزة حسب هذا الاصطلاح تمثّل أولاً إشارة إلى تفسیر خاصّ لمنشأ السلوك الإنسانی وتبیینه على كیفیة خاصّة، ونحن لا نلتفت إلى هذا التفسیر الخاصّ وتلك الكیفیة عند استعمال لفظ الغریزة هنا، وثانیاً تقوم الغریزة بهذا الاصطلاح بتفسیر وتبیان السلوك الإنسانی برمّته، وهو یشمل جمیع الرغبات النفسیة والإنسانیة، فی حین انّ مقصودنا من الغریزة هنا ینحصر فی القسم المادی والجسمی لغرائز الإنسان فی مقابل الاقسام الأخرى. وأهمُّ الغرائز فی الإنسان التی ترتبط بالجسم هما غریزتا الأكل والجنس، ولكلّ غریزة منهما أعضاؤها وجهازها الخاصّ فی الجسم وتتفرعان إلى شعب متنوّعة كالشهوات والمیول المتنوّعة تجاه المذوقات المتنوّعة وطعم الحلاوة والملوحة والحموضة وغیرها وطعم المأكولات المحبّبة التی تدرك ولا توصف ولا یمكن إطلاق اسم خاصّ من المذوقات علیها. وقد تكون مركبة من طعوم معروفة باسمائها أو حبّ الروائح وألوان الأغذیة المحبّبة.
وهكذا غریزة العطش وغریزة الدفاع عن النفس تجاه المهاجمین، وسائر الغرائز التی تشكّل إلى جانب الغریزتین المذكورتین مجموعة الغرائز والمیول الخاصّة المرتبطة بالجسم وتلبّی المتطلَّبات المادیة والجسمیة للانسان.
ب ـ حبّ الجمال
ان حبّ الجمال من فروع وشعب حبّ الالتذاذ وهو بدوره یتفرع إلى شعب مختلفة:
الأول: هو الجمال الطبیعی للجمادات حیث یلتذ الإنسان لدى مشاهدة الجبال والبحار والعیون والسماء والنجوم والقمر والشمس.
الثانى: جمال النباتات حیث یشعر الإنسان بالابتهاج والإرتیاح حینما ینظر إلى منظر جمیل للحدائق والبساتین الخضراء العامرة بالفواكه المتنوّعة والغابات النضرة والأشجار الرائقة.
الثالث: هو جمال الحیوانات وبنی الإنسان، وتبدو آثاره العمیقة فی الإنسان والمجتمعات البشریة فی صور مختلفة ویعمل فی بعض الموارد على التغییر الشامل لمصیر الإنسان وطریقة حیاته ویعبّىء أحیاناً القوى الإنسانیة كافة نحو جهة خاصّة نافعة أو ضارة.
وكلُّ ما ذكرناه یُعدّ من الجمال المحسوس أعنی الأمور الواقعیة التی یرتبط بها الإنسان عبر إدراكه الحسی بعینه ویتحقّق لدیه إدراك التذاذی متلائم مع الطبع. لكنْ لا ینحصر الجمال فی الجمال الحسی هذا، بل له تجلّیات خیالیة أیضاً یرتبط بها الشعر أو سائر طبقات أهل الذوق والفن. فالشعراء والفنانون والرسامون والمصوّرون والنّحاتون و... ترتبط أعمالهم بادراك وابتكار وإبداع الجمال الخیالی ویسعَون ـ حسب ما تسمح به قدرتهم الفنیة ـ للإعلان عنه ونقله للآخرین عبر الألفاظ والمعانی والنقوش والتصاویر ونحوها. كما یوجد جمال عقلی تدركه القوة العقلیة من خلال انتظام الموجودات وكمالها، وهناك جمال عرفانی ووجودی مبنیّ على هذه الرؤیة وهی انّ الوجود بأسره جمیل ویحظى الموجود الأكمل ذوالحظ الوجودی الأكبر بجمال أكبر، ویدرك الإنسان من خلاله بالتذاذ أشدّ، وینتهی الأمر إلى الجمال الأكمل الذی یسند إلى الذات الإلهیة. والذین لهم مشاهدات توحیدیة یختصّ أحد أبواب مشاهداتهم بالأسماء والصفات الجمالیة لله سُبحانه.
ج ـ العواطف
یعرف القسم الآخر من الرغبات وحبّ الالتذاذ والسعادة فی الإنسان باسم العواطف، وهی المشاعر التی تنشأ فی النفس الإنسانیة تجاه موجود حی وذی شعور، وتدفعه للوقوف إلى جانبه أو مواساته على الأقل والشعور بالشفقة علیه والاتحاد معه.
النموذج البسیط للعواطف هو أنس الإنسان مع اصدقائه وأرحامه، بل قد یشعر بحاجة إلى الأُنس مع انسان غریب تماماً كالضالّ فی الصحراء ولم یرَ انساناً لفترة ثمّ یرى انساناً فانّه یبتهج برؤیته ویلتذ بالأُنس معه رغم افتراقه عنه فی القومیة والمذهب وكلّ شیء لكونه انساناً لا أكثر.
انّ شعور الأم تجاه ولدها والذی یدفعها لرعایته وإرضاعه وتعلیمه، وشعور الأب الذی یدفعه لبذل جهوده ومساعیه من أجل تنظیم شؤون ابنائه بكدّه وتوفیر لوازم الحیاة لهم، وشعور الزوج تجاه زوجته والذی یستمر حتّى نهایة العمر ـ حتّى بعد أفول الرغبات والشهوة الجنسیة وزوال نضارة الشباب ـ وتعاطف الإنسان مع المرضى والفقراء والضعفاء فیندفع لاعانتهم ومواساتهم وإبداء الشفقة والمحبّة معهم ونظائرها هی شُعب مختلفة للعواطف، أو السوائق التی تدفع الإنسان لخدمة الآخرین، ویشعر الإنسان باللذة من خلال ذلك.
د ـ الأحاسیس والانفعالات
تشكّل الأحاسیس والانفعالات أظهر وأبرز مراتب النفس، أی إذا اعتبرنا أعمق نقطة للروح والنفس الإنسانیة كرمز لوحدة النفس وبساطتها وارتقینا من نقطة الوحدة تلك نحو الكثرة، ومن أعماق النفس المعقدة نحو ظواهرها السطحیة فانّنا سوف نمر بمراتب مختلفة للنفس، وسنصل أخیراً إلى مرتبة الأحاسیس والانفعالات السطحیة والظاهرة.
إذا أحبّ الإنسان شیئاً ثمّ سعى للوصول إلیه ولكنّه لم یبلغ مراده فانّه سیشعر بحالة انفعالیة فی سطح نفسه یطلق علیها (الحزن والهم)، وفی المقابل إذا بلغ مراده فانّه سیشعر بشعور آخر وحالة اُخرى اسمها (الفرح والسرور) ولكنّه إذا لم یكن له مراد أصلاً لیسعى للوصول إلیه فی هذه الحالة فإنّ نفس هذا الإنسان وروحه یفقدان حالتی الغمّ والفرح.
وهكذا إذا أحس شخص بخطر یهدّد رغباته، أو انتبه إلى احتمال مفارقة محبوبه ومراده وفقدان ما ناله بكدّه وأتعابه فانّه سیشعر بحالة انفعالیة اُخرى اسمها (الخوف)، وفی المقابل إذا لم یهدّده الخطر أو لم یواجه ما یهدّد أو یكون خطراً على مسیرة حیاته فانّه یشعر بـ (الأمان).
كما انّ من یعتقد انّ جهوده ذات تأثیر فی الوصول إلى هدفه ومراده فإنّ نفسه ستشعر بحالة (الرجاء) أو التعلّق بالعمل، وإذا اعتقد انّها غیر ذات جدوى وفائدة فانّه سیشعر بحالة (الیأس) أو اللامبالاة بالعمل.
یطلق على الحالات المذكورة الأحاسیس والانفعالات، وتمثّل أعلى السطوح فی مراتب النفس حیث تتأثّر بسائر شؤون النفس ورغباتها.
هذه شاكلة النفس حسب ما تصورنا من أجل ان تكون لدینا اُطروحة لدراسة مسائل النفس وتتّضح نقطة البدایة فی دراسة هذه المسائل التی نواصلها على التوالی، حتّى تنتهی إلى نقطة النهایة.
ملاحظات تكمیلیة
بعد توضیح الاُطروحة المذكورة وطریقة الدخول والخروج من هذا البحث، لابدّ من توضیح عدة ملاحظات تكمیلیة ترتبط بها:
1 ـ ترابط الدوافع وتمازجها
انّ القنوات والدوافع المختلفة التی تصوّرناها للنفس لا تبقى منفصلة ومعزولة عن بعضها كما ذكرنا، ولیست كأغصان الشجرة لیتّجه كلّ منها نحو اتجاه وتنمو فیه بعد افتراقها فی نقطة معینة ولا ترتبط فیما بینها أبداً، بأن یواصل غصن العلم والوعی طریقه مثلاً منفصلا عن غصن القدرة، والثانی منفصلا عن غصن اللذة.
فإنّ من خصائص النفس أن تشتبك قنواتها المختلفة وتمتزج وتترابط فیما بینها. فقد تدفع عدة دوافع مختلفة الإنسانَ للمباشرة بعمل معین وحبّ شیء خاصّ.
فمثلاً تكون الغریزة الجنسیة من دوافع الإنسان، ولكنّها تتقارن غالباً مع حبّه للجمال، وبالتعاضد بینهما یحرّك ان الإنسان فی طریق خاصّ، فمن ینتخب زوجة لا یتلخص هدفه فی إشباع الغریزة الجنسیة، إذ إنّ ذلك ممكن بدون إدراك لجمال الزوجة كإشباع الغریزة الجنسیة لدى الضریر الذی یعجز عن إدراك جمال زوجته، یشتاق بمثل تلك الدرجة ذاتها أو بدرجة أعلى إلى التمتّع بجمالها. على أىّ حال، فإنّ هذین الدافعین معاً یدفعان الإنسان لانتخاب الزوجة.
وهكذا البحث عن الحقیقة حیث قلنا انّه إحدى الرغبات الأصیلة والدوافع الأساسیة فی الإنسان التی تدفعه نحو البحث والسعی. ولكنْ فی أغلب الموارد ـ خاصّةً الموارد التی یكون العلم فیها آلة لنیل الاقتدار أو جمع المال والثروة أو یكون عاملاً لالتذاذ الإنسان أو الظفر بالاحترام والشخصیة والعزة والمكانة ـ یتقارن مع دوافع ومیول أخرى، وحینئذ تدفع الإنسان بقوة أكبر لبذل جهوده. ومن هنا فإنّ حبّ الحقیقة وإنْ أوجد درجة متساویة من الانجذاب نحو العلوم كافة ولكنّ الإنسان یتابع العلوم الخاصّة التی تقدّم له بعض الامتیازات والقیم المذكورة. أی انّ الرغبات الاُخرى بتقارنها مع المیل للبحث عن الحقیقة تكون ذات دور كبیر فی توجیه فاعلیته.
والحاصل انّ دوافع الإنسان المتنوّعة والمعقدة التی تقوم باثارة العشق والنفور تجاه متعلّقاتها یكون لها دور مؤثّر فی فعالیة أو ترك وتعزیز وتضعیف بعضها تجاه البعض الآخر، وهذا الترابط یزید الإنسان قدرةً على إنجاز الأعمال المتعلّقة لعدة دوافع، وتضعّفها عند التعارض بینها الاّ أن یقوم الإنسان برفع هذا التعارض بفضل العلم والمعرفة بنحو معقول ونافع للانسان بصورة عامّة، ویكون سبباً لانتخاب الدافع الذی یدفع الإنسان نحو عمل أكبرَ فائدةً وذی آثار ونتائج أفضل وأطول بقاءاً ویزید قدرته على إنجاز ذلك مرة اُخرى وذلك برفع هذا التعارض.
وفی ضوء هذا البیان ندرك جیّداً الترابط الوثیق بین أبعاد الإنسان المتنوّعة ودوافعه المختلفة والتأثیر المتبادل بینها.
2 ـ تأثیر الدوافع على القیم الأخلاقیة
للدوافع الموجودة فی النفس الإنسانیة الدور الكبیر فی إضفاء القیمة على الأفعال المنجزة بفعل تلك الدوافع، سواء أكانت القیمة إیجابیة أو سلبیّة، وهذه من خصائص السلوك الإنسانی التی ینبغی الالتفات إلیها سیّما فی الأخلاق. من هنا فإنّ الاختلاف فی قیمة الأفعال والسلوك الإنسانی یستند ـ إلى حدّ كبیر ـ إلى الاختلاف فی الدوافع فی إنجازها، فعند التقییم الأخلاقی لفعل مّا لابدّ من معرفة دافعه الأساسی ومنشئه وجذوره فی نفس الإنسان.
ویكون دور الدافع أكبر وأوضح فی إضفاء القیمة الأخلاقیة للأفعال العبادیة، فانّها سوف تفقد قیمتها وتأثیرها الأخلاقی فیما لو اُنجزت بدافع نیل المكانة والمحبّة والاحترام بین الناس. فمن یمارس العبادة لله سُبحانه رئاء فی مجتمع یسوده الجوُّ العبادی لا یكون عمله عبادة وعبودیة لله واقعا، بل هی عمل له صورة العبادة لله، ولا توجب تقرب الإنسان إلى الله، لیس هذا فحسبُ بل توجب ابتعاده منه ومن رحمته.
انّ العبادة والعبودیة لله التی تقرب الإنسان إلى الله هی ذلك العمل الخالص تماماً فقط، أی ینجز ـ حسب الاصطلاح ـ بقصد القربة، وسیترتّب أثره المتوقَّع فی هذه الحالة فقط ویكون ذا قیمة أخلاقیة.
أمّا من یؤدی العبادة بدافع التمتع بمعیشة رغیدة ونیل احترام الناس وحبّهم والظهور بمظهر المقدسین والمتقین ویتوقع تقبیل یدیه فإنّه قد اتخذ العبادة وسیلة للوصول إلى رغباته، ویكون عمله لوناً من عبادة الذات بدلاً عن عبادة الله، ولن تترتّب علیه آثار العبادة أبداً ولا یحظى بقیمة أخلاقیة إیجابیة.
من هذا البیان نستنتج انّ البحث عن أساس الدوافع یحظى بأهمّیة بالغة فی تقییم الأفعال الأخلاقیة وقد تأكدت هذه العلاقة بشدة فی الروایات والآیات أیضاً، حتّى عُرّفت الأعمال كثمار للنیات، والنیات كأُسس وجذور للأعمال، ونظراً لما قدّمناه من بحث فی هذا المجال سابقاً فانّا سنكتفی هنا بهذه الإشارة ونُرجع القارىء إلى بحوثنا السابقة حول النیة.
ومن الضروری طبعاً ـ تكمیلا للبحث حول الترابط بین الدافع والقیمة الأخلاقیة ـ أن نشیر هنا إلى ملاحظة اُخرى وهی انّ مجرّد وجود هذه الرغبات والدوافع الكامنة فی ذات النفس الإنسانیة لا یمكن اعتباره ملاكاً ومعیاراً وموضوعا للقیمة الأخلاقیة، ولا یمكن ذمّ أحد لامتلاكه الغریزة الجنسیة أو دافع القدرة وحبّ الاقتدار فی نفسه و... كما لا یمكن إبداء الثناء لأحد على ما له من رغبات ودوافع. انّ الدوافع والرغبات الموجودة فی النفس الإنسانیة من الأمور الفطریة والعطاء الإلهی، وبما انّنا أوضحنا سابقاً انّ متعلّق القیمة الأخلاقیة هو فعل الإنسان الاختیاری فإنّ هذه الدوافع الفطریة المودعة فی ذات الإنسان قهراً وتكوینا وهی خارجة عن اختیاره لا یمكن أن تكون متعلّقاً للقیمة الأخلاقیة الإیجابیّة أو السلبیّة.
وسوف تطرح القیمة الأخلاقیة الإیجابیة أو السلبیّة طبعاً فی مرحلة ترتیب الآثار على هذه الرغبات والدوافع وعند توجیهها وإرشادها ورعایة درجتها وتعدیلها، أو عند الإفراط والتفریط فی اشباعها، لانّ هذه أمور اختیاریة وترتبط بمرحلة ظهور هذه الدوافع والمیول فی تحرّك الإنسان وسعیه وأعماله.
وعلى هذا فإنّ هذه الدوافع والرغبات فاقدة للقیمة الأخلاقیة، وإنْ كانت نافعة فی وصول الإنسان إلى كماله اللائق به، وحسنة وخیراً حسب النظر الفلسفی حیث انّ كلّ شیء خیر فی هذا المنظار وقد قال تعالى: الَّذِی أَحْسَنَ كُلَّ شَیْء خَلَقَهُ وأمّا فقدها للقیمة الأخلاقیة فلانّها فطریة وخارجة عن حدود الاختیار. وهذا الحكم صادق فی جمیع الموارد الشاملة للغرائز وحبّ الجمال والعواطف والمشاعر والانفعالات، لانّ وجودها فی النفس الإنسانیة أمر قهری تكوینی ولیس لاختیار الإنسان أیّ دور فیها كی تشملها القیمة الأخلاقیة الإیجابیة أو السلبیّة المقصورة على الأفعال الاختیاریة للانسان، وعلیه لا تكون موضوعا للثناء والذمّ، ولا یمكن القول أنها حسنة أو سیئة من الوجهة الأخلاقیة.
أجل، بما انّ الإنسان قادر على تقویتها أو تضعیفها وتوجیهها، والعمل وفق مقتضاها أو ترك العمل، والتخفیف من الإفراط والتفریط والقیام بتعدیلها ـ وإنْ لم تمتلك القدرة على ایجاد او إفناء أصل وجودها الفطری فی النفس ـ فانّها تدخل فی حدود اختیاره بلحاظ ما هو مقدور له، وتدخل بالتالى فی حدود الأخلاق والقیم الأخلاقیة ویغدو الشخص مورداً للثناء والذمّ، وإذا كان هناك أمر أو نهی فانّه سیكون طبعاً فی نطاق اختیار الإنسان هذا.
3 ـ تزاحم الدوافع
انّ رغبات الإنسان المختلفة لا تحصل له دفعة واحدة، ونظراً للتحدید الخاصّ الذی هو من خصائص الحیاة المادیة فإنّ الإنسان یضطر لانتخاب بعض الأمور المحدودة هذه والتی لا یمكن الجمع بینها.
یطرح هنا هذا السؤال: على أیّ أساس ینتخب الإنسان إحدى الرغبات المختلفة والمتعارضة؟ فی الإجابة یمكن القول: قد ینتخب الإنسان بصورة طبیعیة شیئاً من بین أشیاء مختلفة محبّبة لدیه وذلك لقوة دافعه الفعّال، ومن الطبیعی عندما تتزاحم عدة دوافع وعوامل محرّكة فانّ الدافع الأقوى سیكون هو المؤثّر، تماماً مثل القوى الطبیعیة أو الفیزیائیة المتعارضة. فمثلاً إذا وجّهت قوة إلى جسم من جهة الیمین لتحریكه نحو الشمال، ووجّهت قوة اُخرى على الجسم ذاته من جهة الشمال لتحریكه نحو الیمین، فإذا كانت القوتان متساویتین فإنّ كلّ قوة تبطل بفعل القوة الأخرى، والنتیجة هی بقاء الجسم فی مكانه وعدم تحرّكه إلى أیة جهة، ولكنْ إذا كانت إحدى القوتین أقوى من الاُخرى فانّ القوة المعارضة ستزیح القوة المعارضة لها فی هذا النزاع، وتؤثّر على الجسم المذكور وتحرّكه نحو الجهة المقابلة.
نظیر هذا النزاع یوجد فی أفعال الإنسان التی هی آثار للرغبات والدوافع الروحیة والنفسیة للانسان، فعندما تتقابل الرغبات المختلفة والمتزاحمة سیكون الدافع الأقوى من غیره هو المؤثّر. فالإنسان یقف فی شؤون الحیاة دائما على مفترق طریقین أو أكثر ویضطر لانتخاب طریق للتحرّك والسعی. هذا الانتخاب كما قلنا آنفا یتمّ أحیاناً بسبب عامل طبیعی ویتقدم الدافع الأقوى تلقائیاً لیؤثّر. الاّ انّ عامل انتخاب الإنسان لا یتلخص فی القوة الطبیعیة، بل هناك عامل أكثر انسانیة یفتح للانسان طریق الانتخاب بین الدوافع المتعارضة ویكون عاملاً لتحرّكه وسعیه، وهو عامل المعرفة وتقییم الدوافع وتشخیص الأكبر قیمة والأفضل والأدوم من بینها. هذه المعرفة والتقییم یمنحان الإنسان القدرة على انتخاب الفعل الأفضل والأنفع، وفی هذا المجال یأتی دور القیم الأخلاقیة.
ینبغی الالتفات إلى هذه الملاحظة لدى تبیان عامل المعرفة لانتخاب الحدود والكمیة والكیفیة للدوافع ورعایة الاعتدال، وهی انّ مسیرة الإنسان لابدّ أن تكون نحو هدف معین وقیّم، ولا محالة یقتضی ذلك رعایة الحدود والكمیة والكیفیة الخاصّة فی إشباع الدوافع بنحو یقرّبه إلى ذلك الهدف القیّم.
وهنا یأتی أولاً دور المعرفة، فمن الضروری أن نعرف الهدف القیّم ومقتضیاته، ونشخص الحدود والجهات النافعة والمطلوبة لكی نتمكن من الانتخاب الواعی.
وسیأتی ثانیاً دور القیم الأخلاقیة لانّ رعایة هذه الحدود والمقادیر من حیث الكمیة أو الصفات والخصوصیات من حیث الكیفیة یكون تحت تصرّفنا، وبرعایتها سیكون للعمل قیمة إیجابیة وبعدم رعایتها سیفقد قیمته أو یصیر ذا قیمة سلبیّة. وعلیه یمكن القول انّ هناك نوعا من التزاحم والتعارض بین الهدف النهائی القیّم وبین الدوافع والغایات الأدنى، وإرادة الوصول إلى ذلك الهدف النهائی القیّم الذی یعیّن كمیّة وكیفیة وجِهة إشباع سائر الرغبات والمیول.
4 ـ الدوافع الخفیة
انّ معرفة الدوافع والعوامل النفسیة وتأثیراتها على مساعی الإنسان وجهوده بحاجة إلى دقة بالغة. فقد یقوم الإنسان بعمل ما ظاناً بتأثیر دافع خاصّ فی ذلك فی حین لو أمعن قلیلا لوجد فی بعض الموارد انّ دافعاً آخر هو الذی دفعه للقیام بذلك العمل. تفسیر هذه الاثنینیة ـ بین ما نعرفه كدافع للعمل المذكور وبین الدافع الواقعی ذی التأثیر الأساسی ـ هو وقوع تفاعلات خفیة فی مراتب أعمق فی النفس الإنسانیة وقلیلاً ما یُلتفت إلیه ویُعلم به، فهناك أفعال وانفعالات وعوامل ودوافع خفیة لا نلتفت إلیها تدفعنا نحو العمل بنحو یوقعنا فی الخطأ بحیث نفسر دافع عملنا تفسیراً خاطئاً. انّ أعلام علم الأخلاق والتربیة ینبئون فی بعض الموارد عن حیل النفس ویحذّرون الإنسان، وهذه الحیل لیست سوى هذه التفاعلات الخفیة التی تحدث فی أعماق النفس وهی خافیة عن وعی الإنسان.
الإجابة عن سؤالین
الآن وبعد تقدیم اُطروحتنا المقترحة مع ملاحظاتها التكمیلیة حول النفس الإنسانیة قد تثار عدة أسئلة، ونحن نبادر هنا إلى طرح سؤالین منها ثمّ نجیب علیهما:
1 ـ انّ حبّ الله لم یُحدّد موضعه فی هذه الاُطروحة، فما طرحناه هنا هو حبّ الذات وجعلناه نقطة البدایة، ثمّ حبّ البقاء والكمال والعلم والقدرة واللذة كأغصان وفروع له، فالسؤال هو: لماذا لم یُحدّد موضع حبّ الله فی هذه الاُطروحة رغم كونه أمراً فطریا جُبلت علیه ذات الإنسان وهو مستقرّ فی أعماق النفس الإنسانیة حسب الآیات والروایات؟ وفی أیّ موضع من الاُطروحة یصلح طرحه؟
یمكن القول فی الإجابة عن هذا السؤال: لحبّ الله صور مختلفة فی قلوب بنی الإنسان، ومن الممكن البحث بشأنه فی ثلاث صور: الاُولى أن یعمل كقوة محرّكة غیر واعیة ویكون موضعه فی عمق الفطرة الإنسانیة وباطن النفس وإنْ كان الإنسان غافلاً عنه وغیر ملتفت إلیه. الثانیة: الحبّ الواعی الذی یحصل للأشخاص المتعارفین ویحظى به عموم المؤمنین. الثالثة: المرتبة الكاملة لحبّ الله وتحصل لأولیاء الله الذین تكاملت رتبة معرفتهم بالله وقد بلغوا مقام التوحید حسب الاصطلاح العرفانی.
انّ حبّ الله فی الصورة الاُولى كما أشیر إلیها یشبه المعرفة الفطریة بالله فهی حقیقة ینجذب إلیها الإنسان ویرتّب آثاراً علیها، ولكنّه یفقد معرفة واضحة عن وجودها فی ضمیره.
لقد قلنا سابقاً إنّ الإنسان ـ حسب الآیات والروایات سیّما آیة المیثاق ـ ذو معرفة فطریة وغیر واعیة بالله سُبحانه، وهناك إدراك شهودی ضعیف بالربوبیة الإلهیة فی المرتبة الباطنیة والخافیة للنفس الإنسانیة ونقول هنا: انّ حبّ الله كعامل غیر واع وإنْ كان له وجود فی النفس ولكنْ فی خفائه له حكم المعرفة الفطریة المذكورة، والإنسان فی ذاته لا یمتلك معرفة كاملة عن وجوده، ولهذه الخصوصیة لم یفسح له المجال فی هذه الاُطروحة حیث انّها وضعت للخصوصیات النفسیة ومراتب النفس الظاهرة وذات الحیثیة الواعیة التی یطّلع علیها بوضوح كلّ من یراجع نفسه.
ما قدّمناه هنا یدور حول النفس فی إطار (علم النفس) فی حین انّ ما ذكرناه آنفاً من الحبّ أو معرفة النفس الفطریة بالله كان ملاحظة عرفانیة أسمى من نطاق (علم النفس) المتعارف، ویمكن القول: انّ هذا الحبّ والمعرفة أو الحبّ الإلهی ومعرفة الله الفطریة هو الذی یجذبه نحو مقصد نهائی متعال، ویسوقه إلى جوار الرحمة الإلهیة وإنْ كان غافلا عن هذا العامل الروحی والنفسی القوی ولا یدرك كنهه وإلى أیّ مقصد یحرّكه؟وبعبارة أخرى: انّ ما یعلمه ویلتفت إلیه الإنسان هو (حبّ الذات) ویستقر هذا الحبّ الفطری فی أعماقه. انّ حبّ الذات ظاهرة نفسانیة وروحیة تستبطن الحبّ الإلهی حیث یمارس دوره عبر حبّ الذات بنحو خفیّ وغیر واع ویسوقه نحو المقاصد السامیة.
انّ الحبّ الإلهی بالمعنى الثانی الذی ـ كما ذكرنا ـ یحظى به جمیع المؤمنین تقریبا بما یتناسب مع مراتب معرفتهم هو ذلك الحبّ لله تعالى بسبب النِعم التی أنعمها علیهم وأوصلهم إلى مرادهم، أو بسبب ما دفعه عنهم من نِقم وأخطار. وعلیه فإنّ حبّاً كهذا یتعلّق أساساً بنِعم الله وبنظرة أدق برغباتهم ویُسند إلى الله تعالى بالواسطة. انّنا نحبّ استمرار حیاتنا وطول أعمارنا فنحبّ الله سُبحانه لأنّه الواهب للحیاة والقادر على استمرارها. نحبّ كمالنا فنحبّ الله تعالى لأنّه المفیض لهذا الكمال أو الموفّر لوسیلة التكامل، وكذا فنحن نحبّ التذاذنا واستمتاعنا بالأصالة، ولكنْ حینما نتدبر ونلتفت إلى انّ الله هو الذی سخّر لنا نِعماً مختلفة لا تحصى ووفّر لنا أسباب الإستمتاع والالتذاذ من كلّ باب فانّنا سوف نحبّه.
ویصدق ما ذُكر على النِعم واللذائذ الاُخرویة، أی انّ الكثیر من المؤمنین یهمّهم التمتع بنِعم الجنة والحور والغلمان والقصور، ولكنْ بما انّهم یرون أن جمیع هذه النِعم من الله سُبحانه فانّهم یحبّونه أیضاً.
انّ الأشخاص المتعارفین لهم دافع أخروی للقیام بالأعمال الأخلاقیة والعبادیة القیمیة، فما یؤدونه من أعمال الخیر وما یبذلونه من جهود لنیل الفضائل وطرد الرذائل الأخلاقیة هو من أجل نیل السعادة فی الآخرة، والتمتع بنِعم الجنة والابتعاد عن عذاب الله. إذنْ الدافع الأساسی والمحبوب الأول لدیهم هو كسب هذه النِعم ودفع النقم المذكورة، وفی المرحلة الثانیة یتوجّهون إلى الله سُبحانه ویحبّونه لانّ هذا الثواب والعقاب یتمّان على یدیه، فمحبّتهم لله تعالى ثانویة ولیست أولیة ذاتیة.
من البدیهی انّنا فی هذه الاُطروحة قمنا بتبویب وتنظیم الأمور الذاتیة والنفسیة وتصنیف جذور الأفعال والسلوك الإنسانی المتأصّل فی ذات النفس الإنسانیة، وعلیه فانّ الحبّ الإلهی بمعناه الثانی لا یحتل مكانا رئیسیا ومستقلا فی هذه الاُطروحة.
هذا اللون من حبّ الله یشابه حبَّنا للبستانی، لانّنا نحبّ بالذات البستان وأشجاره الخضراء المثقلة بالثمار وأزهاره الجمیلة، ونحبّ البستانی الذی یجعل البستان تحت تصرفنا من أجل ما ذُكر وتبعاً له. انّ حبّ الله هذا معرض للاهتزاز لعدم أصالته وقد یتبدل فی بعض الموارد إلى معاندته ومعاداته.
انّ الذین یشتد حبّهم للأمور المادیة والنِعم الدنیویة، ویحبّون الله تعالى من أجلها فحسبُ یشعرون بعدم الرضا إذا التفتوا إلى انّ الله قد أخذ منهم ما یحبّونه، خاصّةً ساعة الاحتضار، حیث یرون انّ الله هو الذی یقبض أرواحهم ویفصلهم عما یحبّونه فیشعرون ببغضه فی قلوبهم ویفقدون إیمانهم ویرحلون عن الدنیا بهذه الحالة ـ أعاذنا الله تعالى ـ.
وهكذا یبتنی الكثیر من الصداقات بین الرفاق على هذا الأساس، أی انّ أساس هذه الصداقات سیكون نوعا من الانتفاع والإستثمار المادی والمعنوی، فإذا انقطع هذا الانتفاع یوماً ما ولم تنجز رغباتهم عن طریق أصدقائهم فانّ العلاقات المتبادلة سوف تضعف وینتابها الشحوب وفی العاقبة تزول. ولذا یذكر الله سُبحانه أصدقاء یؤول أمرهم إلى العداء یوم القیامة بقوله:
الأَخِلاّءُ یَوْمَئِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ3، ویقول فی موضع آخر:
یَوْمَ یَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِیهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِیهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِیهِ4.
هناك یرى الإنسان انّ ما یریده لا یتحقّق عن طریق الأصدقاء والزوجة والأبناء والوالدین، بل قد تكون الأرحام سبباً لابتلائه أیضاً، فانّه سوف یفقد حبّهم ویفرّ منهم.
وأمّا النوع الثالث من الحبّ لله فیختصّ بأولیائه، لانّ هذا الحبّ العمیق الشدید لله سُبحانه یحصل فی نفس الإنسان حینما یصل إلى المعرفة الكاملة والعمیقة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وكماله وجماله وجلاله، ففی هذه المرحلة یدرك ببصیرته وعمق معرفته انّ غیر الذات الإلهیة المقدّسة لا یحظى بوجود مستقل، فبدءً من نفسه حتّى الموجودات الاُخرى والأشیاء التی تعد أسباب تكامله، أو التی لها دور ما فی رفاهه وسعادته والتذاذه لا یمتلك أیٌّ منها الوجودَ من ذاته، بل كلّ ما لدیها مستمد من رب الوجود المفیض للوجود.
فی هذه المرحلة من معرفة الله لاسیّما إذا توصَّل الإنسان إلى المعرفة الشهودیة والإدراك الحضوری وبلغ ـ حسب الاصطلاح ـ مقام التوحید الذاتی فانّه سوف یشعر بحبّ شدید عمیق لله الواحد، حبّ هو على عكس النوع الثانی من الحبّ تماماً، أی فی هذه المرحلة ینشأ حبّ واحد أصیل فی أعماق نفسه متعلّق بذات الله تعالى، وتكون محبّته للآخرین عرضیة وفرعیة وبمثابة الفروع والأغصان والثمار لذلك الحبّ الأصیل والمتجذّر المتعلّق بالله سُبحانه، حتّى انّ حبّ الإنسان لذاته یفقد أصالته السابقة، لانّ ذات الإنسان فی هذه المرحلة من المعرفة تكون طفیلیة أیضاً وظلاً لذلك الوجود الأصیل وتجلّیاً من تجلّیاته، ومع هذه المعرفة من الطبیعی أن یتعلّق حبّه وینجذب قلبه أصالةً إلى ذلك الموجود الأصیل، وتكون الموجودات الاُخرى عرضة لاشعاع الحبّ المشتق من ذلك الحبّ الإلهی الأصیل.
أجل، انّه خالق الإنسان الذی یجتذب أولیاءه وعباده الصالحین ویحتلّ موضعه فی قلوبهم ویجعلهم خاصّته تدریجیّاً، ویملأ قلوبهم حتّى لا یبقى فیها مجال لغیره، كما ورد فی دعاء عَرَفة لسید الشهداء(علیه السلام) «انت الذی أزلت الأغیار عن قلوب أحبّائك حتّى لم یحبّوا سواك». انّ التلفظ بهذا الكلام یسیر ولذیذ، ولكنّ تحقّقه لیس یسیراً كما ربّما یُتصور، الاّ إذا توفّرت لدینا معرفة واسعة وعمیقة بالله سُبحانه، وبذلك سوف نحبّه حبّاً لا یضاهیه حبّ آخر، فتكون سائر ألوان حبّنا من قبیل حبّنا لذواتنا أو بقائنا وكمالنا، أو الحبّ الذی نكنّه تجاه علومنا وسعادتنا وقدرتنا أموراً طفیلیة ثانویة بالقیاس إلى الحبّ الذاتی الأصیل المتعلّق بالذات والصفات الإلهیة، فحبّ الإنسان یتعلّق بالأشیاء الاُخرى لكونها تجلّیات ومظاهر للصفات والأسماء الإلهیة.
هذا اللون من الحبّ وإنْ كان أصیلا لم یجد موضعه فی هذا المشروع لأنّه غیر عامّ ویندر تحقّقه فی النفوس. انّ تحصیل هذا الحبّ صعب ولا یمكن أن یتصف بالعمومیة. انّ الخواص من أولیاء الله والأوحدی من الناس كالانبیاء العظام(علیهم السلام)والائمة المعصومین(علیهم السلام) هم الذین یبلغون هذا المستوى من الحبّ.
والنتیجة العامّة التی نستخلصها من هذه الإجابة هی أنّ مشروعنا المقترح یستوعب الأبعاد والرغبات النفسیة التی هی أولاً: واضحة ویقظة، ثانیاً: أصیلة وذاتیة وثالثاً: عامّة، ولا یجمع أیُّ قسم من الاقسام الثلاثة لحبّ الله هذه الخصوصیات الثلاث، لانّ الحبّ الفطری لیس واضحاً ولا یقظاً، وحبّ الناس والمؤمنین المتعارفین لله لیس أصیلا وذاتیاً بل متفرع عن حبّهم لسائر الأمور المحبوبة، ویختصّ الحبّ الأصیل والذاتی لله تعالى الناشىء من المعرفة الكاملة بأولیاء الله، ولا یمكن اعتباره أمراً عامّاً، ولذا لم یحدّد لحبّ الله سُبحانه موضع فی هذا المشروع.
السؤال الثانی: لقد عرضنا حبّ الذات فی هذا المشروع تحت عنوان: الحبّ الأصیل، وقلنا انّ أول جاذبیة ینبع من عمق الوجود الإنسانی هو حبّ الذات، وتمثّل المیول وتعلّقات الإنسان الاُخرى اغصاناً وشعباً له. فلا یصحّ إضفاء صفة سلبیة علیه، بل سیكون أكثر الأبعاد الوجودیة والمیول والتعلّقات إیجابیة لدى الإنسان، وهذا التقییم ینافی ما یطرح فی علم الأخلاق لانّ فی الكثیر من البحوث الأخلاقیة الإسلامیة وغیر الإسلامیة اعتُبرت الأنانیة وحبّ الذات ملاكاً للقیمة السلبیّة، وجاء فی كتب الأخلاق وكلمات العظام انّ أساس الفساد كلّه هو الـ (أنا) ولمكافحة الشرور وألوان الفساد ینبغی أن یضعّف الإنسان ویزیل حبّ الـ (أنا) فی ذاته، ففی هذه الحالة یمكن أن یصل إلى القیم الأخلاقیة السامیة، كما یمكن الإستنتاج من بعض الروایات انّ محور الفضیلة هو معارضة الرغبات وأهواء النفس.
فبالنظر إلى ما ذكر یطرح هذا السؤال: مع وجود هذا الموقف تجاه النفس وحبّ النفس وأهواء النفس فی الروایات ولدى علماء الأخلاق لماذا اعتُبر (حبّ الذات) فی هذا المشروع أساساً لكلّ النشاطات الإنسانیة وقلنا: انّ حبّ الذات فی نفسه لا قیمة له بالأصالة ولیس حَسنا أو سیئا فی المنظار الأخلاقی؟
من المناسب هنا أن نشیر إلى روایة عن النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) وإنْ لم تكن قویة سنداً ولكنّ مضمونها ملفت وجدیر بالتأیید بالاعتبارات العقلیة.
جاء فی الروایة: دخل على رسول الله(صلى الله علیه وآله وسلم) رجل اسمه مجاشع فقال: یا رسول الله كیف الطریق إلى معرفة الحقّ؟ فقال رسول الله(صلى الله علیه وآله وسلم): معرفة النفس، فقال: یا رسول الله فكیف الطریق إلى موافقة الحقّ؟ قال: مخالفة النفس، فقال: یا رسول الله فكیف الطریق إلى رضا الحقّ؟ قال: سخط النفس، فقال: یا رسول الله فكیف الطریق إلى وصْل الحقّ؟ قال: هجْر النفس. فقال: یا رسول الله فكیف الطریق إلى طاعة الحقّ؟ قال: عصیان النفس. فقال: یا رسول الله فكیف الطریق إلى ذكر الحقّ؟ قال: نسیان النفس. فقال: یا رسول الله فكیف الطریق إلى قرب الحقّ؟ قال: التباعد من النفس. فقال: یا رسول الله فكیف الطریق إلى اُنس الحقّ؟ قال: الوحشة من النفس. فقال: یا رسول الله فكیف الطریق إلى ذلك؟ قال: الإستعانة بالحقّ على النفس5.
العبارة الاُولى فی الروایة وإنْ تحدّثت عن الحقیقة التی أشرنا إلیها وهی انّ معرفة النفس تكون مبدء لمعرفة الله عزّوجلّ ولكنّ المستفاد من سائر العبارات والأسئلة والإجابات فی الروایة هو أنّ (النفس) تقع فی النقطة المقابلة لـ (الله) وهی مبدء للشرور والانحرافات كافة.
فی الإجابة عن السؤال الثانی یجب أن نقول: توجد مغالطة فی هذا البیان، والسبب هو الإشتراك اللفظی فی مصطلحَی (حبّ الذات وحبّ النفس) اللذین یستعملان فی موردین باصطلاحین مختلفین.
انّ حبّ الذات الذی اعتبرناه من الأبعاد الأساسیة للنفس یختلف كثیراً عن اتّباع الهوى والأنانیة المذمومتین فی الروایات وعلم الأخلاق والمدارس الأخلاقیة. وقد استعمل لفظ (النفس) فی كلمات علماء الأخلاق والمدارس الأخلاقیة والروایات سیّما الروایة المذكورة سابقاً بمفهومه واصطلاحه الخاصّ، وفی هذا المشروع استعمل حبّ الذات وحبّ النفس فی معنى ومفهوم آخر یباین مفهومه الأخلاقی. ولإیضاح هذا الأمر یجب القول: انّ لفظ النفس یستعمل فی العرف والاصطلاحات العلمیة فی مفاهیم وصور مختلفة. ففی الاصطلاح الفلسفی یكون معنى النفس مرادفاً لروح الإنسان التی هی منشأ حیاته وشعوره وإدراكه.
انّ كتاب النفس وسفر النفس فی كتاب (الأسْفار) تألیف الفیلسوف والمفكّر البارع المغفور له صدر المتألهین (ره) مثلاً یقوم بدراسة روح الإنسان.
الاّ انّ لفظ النفس یستعمل فی علم الأخلاق مقابل (الله) تارةً ومقابل (العقل) تارةً أخرى. وفی الروایة آنفة الذكر جعلت النفس فی مقابل (الله) فی عدة مواضع. وفی كتب الأخلاق كثیرا ما یقال: على أساس تقابل النفس مع العقل: انّ عقل الإنسان ونفسه فی صراع مستمر، فإنْ تغلّبت النفس على العقل كان من أهل الشقاء، وإنْ تغلّب العقل على النفس كان من أهل السعادة.
وعلیه فانّ النفس بمعناها المستعمل فی علم الأخلاق تختلف مع النفس بمعنى روح الإنسان المستعملة فی الاصطلاح الفلسفی، ویمكن القول: انّ النفس بمعناها الأخلاقی هی إحدى اعتبارات الروح، وتعتبر مبدء للرغبات الذمیمة التی تسوق الإنسان نحو الانحطاط.
فی المنظار الفلسفی تتصف حقیقة النفس بالوحدة والبساطة ولا وجود للكثرة والتركیب فیها، وما ینسب إلیها من كثرة فهو امّا بلحاظ مراتب النفس أو قواها أو ما لوحظ لها من اعتبارات ولحاظات مختلفة.
فی هذا المشروع الذی قمنا فیه بتعریف حبّ الذات بوصفه أساساً ومنشأ لكلّ النشاطات الممدوحة والمذمومة فی الإنسان، نحن نقصد فی الواقع من الذات معنى النفس بالاصطلاح الفلسفی الخاصّ الذی یعنی حقیقة الروح الإنسانیة التی هی الأساس لحیاة الإنسان والمنشأ لجهوده الحسنة والسیئة كافة.
انّ حبّ النفس والذات بمعناهما الأخلاقی سیكونان محدودین جدّاً وفرعیَّین بالقیاس إلى ما قصدناه من مفهوم للنفس فی هذا المشروع، أی انّ النفس بمعناها الفلسفی والمفهوم المقصود لنا ذات شؤون مختلفة، وقد اعتُبرت جهتان لكلّ شأن من شؤون النفس: الاُولى هی انّها تجذب الإنسان نحو الكمال، الثانیة هی انّها السبب لانحطاطه. لقد أطلقوا على تلك الجهة التی هی منشأ كمال الإنسان وتعالیه اسم (العقل) طبق الاصطلاح الأخلاقی، وعلى الجهة التی تسوقه إلى السقوط والانحطاط اسم (النفس).
یجب القول: ان أساس (حبّ النفس) فی اصطلاحه الفلسفی كما هو مقصودنا هو عین وجوهرة الوجود الإنسانی، فلا یمكن وجود موجود ذی شعور خال من حبّ النفس أو الذات. وعلیه فإنّ افتراض عدم حبّ الذات ینتهی بنفی الذات والنفس، كما انّ العلم بالنفس لیس شیئاً غیر النفس ذاتها، فلا یمكن أن تكون نفس الإنسان موجودة ولا تكون عالمة بذاتها، أی انّ النفس فی ذاتها حقیقة لیست أمراً مغایراً للعلم بالنفس.
بدیهی انّ (حبّ النفس) كـ (العلم بالنفس) بوصفه حقیقة خارجیة لا یمكن أن یكون أمراً قیّماً، ولیس حبّ النفس فقط بل كلّ جهة من الجهات الفطریة التی لها جذور فی ذات الإنسان وفطرته وتكون خارجة عن دائرة الاختیار لا یمكن أن تدخل فی زمرة الأمور القیمیة والأخلاقیة لتكون (حسنة) أو (سیئة) فی المنظار الأخلاقی.
على عكس حبّ النفس المذموم فی الأخلاق فانّه أمر اختیاری ویدخل فی زمرة الأمور القیمیة، ویرجع فی الحقیقة إلى تقدیم الشهوات الحیوانیة ـ وهو أمر اختیاری وذو قیمة سلبیّة ـ على الرغبات الإنسانیة والإلهیة السامیة.
وكقاعدة عامّة یمكن القول انّ القرآن الكریم أینما ذمّ الأمور النفسیة كان ذلك بلحاظ الغرائز الحیوانیة والشیطانیة التی هی مبدء الأفعال الذمیمة والمسقطة للانسان، ولیس بلحاظ أصل وجود الروح وجذورها الفطریة، وقد قمنا فی محله بالبحث عن موارد استعمال لفظ النفس فی القرآن الكریم.
وعلیه فإنّ حبّ الذات الذی طرحناه فی هذا المشروع یباین حبّ النفس المذموم فی كتب الأخلاق تبایناً تاماً.
ومن اللازم أن نشیر هنا إلى انّ بعض المدارس التی تمیل إلى أصالة المجتمع تؤكّد هذه المقولة فی كتبها الأخلاقیة وهی انّ الأساس لكلّ الفضائل هو (حبّ الغیر) والأساس لكلّ الرذائل هو (الأنانیة) أی (النفعیة) بتعبیرهم.
وبغضّ النظر عن مناقشة (أصالة المجتمع) التی تناولناها بالبحث فی كتاب (المجتمع والتأریخ فی الرؤیة القرآنیة) نشیر هنا إلى بعض الإشكالات الواردة على هذه النظریة، ونحیل تفاصیل البحث إلى كتاب (فلسفة الأخلاق).
انّ الادّعاء بأنّ ملاك الفضائل الأخلاقیة هو (حبّ الغیر) وملاك الرذائل الأخلاقیة هو (حبّ الأنا) فاقد أساساً للدلیل العقلی والاعتبار المنطقی، مضافا إلى انّه إذا كان المراد من (حبّ الأنا) هو الغریزة الفطریة (حبّ الذات) نفسه فلابدّ أن نعتبرها أساساً لكلّ النشاطات الحیویة، إذ لولا وجود هذه الغریزة فی الإنسان لم یقم بأیّ نشاط فردی واجتماعی، فحتّى النشاطات التی تنجز ظاهراً بدافع حبّ الغیر تنشأ فی الحقیقة من حبّ الكمال وهو أحد فروع حبّ الذات. وإنْ كان المراد من (حبّ الأنا) الرغبات المتطرفة والمنحرفة للزهو والغرور والتكبر وحبّ التسلط وأمثالها فلابدّ حینئذ من تعیین حدود هذه الرذائل وإثبات علة كونها رذیلة.
ومن جهة اُخرى لا یمكن حصر دائرة الأخلاق والفضائل والقیم الأخلاقیة الإیجابیة فی العلاقات الاجتماعیة، أی انّ العمل الصالح لا ینحصر فی العمل المؤدى لصالح الغیر وبدافع خدمة الناس. وهذا التحدید غیر صحیح ولا حقیقة له فی المدرسة الأخلاقیة للاسلام. لانّ العدید من الصفات لا یمتّ بصلة للمجتمع ورغم ذلك یمتلك قیمة أخلاقیة إیجابیة فی الرؤیة الإسلامیة، كما هو المطروح على أساس التصنیف فی هذا المقال فی باب علاقة الإنسان بنفسه ویمثّل محور بحثنا الحاضر، ونظیر ما یمكن طرحه فی باب علاقة الإنسان بالله سُبحانه وقد تناولناه فی الفصل السابق.
فالخشوع فی الصلاة ـ مثلاً ـ والاخلاص وحضور القلب و... لیس لها أیّة علاقة مع مصلحة الغیر ورغم ذلك هی أمور محبّذة وذات قیمة أخلاقیة إیجابیّة فی الأخلاق الإسلامیة.
وبهذا ینشأ نموذج لدراسة المسائل الأخلاقیة الشخصیة، ونحن لا ندّعی خلوّ النموذج المقصود لنا من أیّ نقص وذلك لانّ روح الإنسان أمر معقد وسیبقى من الممكن تقدیم مشروع أكمل فی أبعاده المختلفة، ولكنْ لا یبدو حالیّاً وجود إشكال فی البدء بدراسة النفس والأمور النفسیة ومواصلتها، ثمَّ دراسة هذا القسم من المسائل الأخلاقیة فی إطار هذا المشروع، وإنْ كان فیه نقص فانّه لا یضر بأساس منهج بحثنا ولن یحدث التقدیم والتأخیر خللا مهمّا فی البحوث.
المهم فی إطار هذا المشروع هو أن نركّز على قضایا تنسجم مع الآیات والروایات والبراهین العقلیة.
ولیس المقصود طبعاً انّ جمیع تلك القضایا قد وردت فی ظواهر ألفاظ الآیات القرآنیة أو الروایات، لانّ الكثیر منها لا یستفاد مباشرة من ظاهر الآیات ولكنْ من خلال القرائن والشواهد الكثیرة یمكن استنباط موقف الآیات القرآنیة والروایات منها.
فمثلاً لا یوجد فی القرآن الكریم بحث عن الأصیل والمقدّم من بین غرائز الإنسان ومیوله وتحدید الفرعی والمؤخر منها بحیث یعلم من ظاهر اللفظ، ولكنْ من خلال التدقیق فی الآیات وتعلیلها لموضوع بموضوع آخر أو استنادها إلى أمور فی ترغیب الناس لممارسة فعل ما أو منعهم من فعل آخر، ومن كیفیة دعوة الناس وقرائن اُخرى مماثلة یمكن التوصل إلى بعض الملاحظات.
فمثلاً یبشر القرآن الكریم المؤمنین فی موارد كثیرة بنِعم الجنة، وعندما یرید دعوة الناس للایمان أو ممارسة العمل الصالح یبشرهم بأنّ الله یدخلهم جنات خالدة إذا فعلوا ذلك وَیُدْخِلُهُمْ جَنَّات تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِینَ فِیهَ6.
نلاحظ انّ الله سُبحانه فی هذه الموارد یذكّر الناس بالنِعم المذكورة ویرغّبهم لممارسة هذه الأعمال لكی ینالوا ذلك الثواب وتلك النِعم الكبیرة فی الجنة.
من مثل هذا الكلام یمكن أن ندرك انّ مرغوبیة هذه النِعم أمر فطری للانسان وبهذا اللحاظ یمكن أن یكون التبشیر بها مؤثّرا، ولو لم یكن توقان فی فطرته إلى مثل هذه الأمور لما كانت هذه الترغیبات مؤثّرة فیه ولا تدفعه لفعل شیء.
من هذا الموقف القرآنی یمكن أولاً: استنتاج تأیید القرآن لوجود هذا الحبّ فی الإنسان وكأنه یخبر عن وجوده فیه.
وثانیاً: انّ إشباع هذا الحبّ لیس أمراً ذمیما ومضاداً للقیمة من وجهة نظر القرآن، فلو كان أكل الطعام اللذیذ ذا قیمة سلبیّة وذا تأثیر سلبی على مصیر الإنسان، لم یبق مجال لیقول تعالى: وَفَوَاكِهَ مِمَّا یَشْتَهُونَ7 ووَلَحْمِ طَیْر مِمَّا یَشْتَهُونَ8 ویخبر عن وجود فواكه متنوّعة ولحوم طیور كالدرّاج والحمام والحجل، و... ومن خلال ذلك یثیر الإنسان نحو التحرّك والسعی فی طریق الحیاة الصحیح.
من هذا التعامل یعلم انّ حبّ الأطعمة موجود لیس فی هذا العالم فحسبُ بل فی الجنة أیضاً وینبغی اشباعه، وقد وعد الله سُبحانه باشباع هذا الحبّ لدى أهل الجنة والذین یرتضی الله أعمالهم وسلوكهم بأفضل الصور وكما یشتهون.
ولهذه البشائر یمارس المؤمنون أعمال الخیر ویجاهدون ویسعون ویُقدِمون على التضحیة والشهادة.
وقد أمضى الله هذه المعاملة وأنفذها حیث یقول:
إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الُْؤْمِنِینَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ9 أو یقول:
هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَة تُنجِیكُمْ مِنْ عَذَاب أَلِیم10.
مثل هذه الآیات والقرائن والشواهد تكشف عن هذه الحقیقة وهی أولاً: انّ الإنسان مشتاق بفطرته إلى الالتذاذ الدائم، وثانیاً: انّ إشباع هذا الحبّ لیس أمراً مرفوضا، وإذا دُعی الإنسان لترك بعض اللذّات فی الدنیا فانّه من أجل أن لا تضر باللذائذ الأشد والأوسع والنِعم الخالدة فی عالم الآخرة. وعلیه فلا بأس فی الالتذاذ والتمتع بالنِعم الإلهیة فی الدنیا ما لم تزاحم وتعارض النِعم الخالدة فی الآخرة والسعادة الأبدیة للانسان.
1 البقرة / 96.
2 مقتبس من كتاب «أرضیة علم النفس» وقد ترجمه إلى اللغة الفارسیة مجموعة من المترجمین الایرانیین، ص 25.
3 الزخرف 67.
4 عبس 34.
5 بحار الانوا ج 70 ص 72 عن عوالی اللئالی.
6 المجادلة 22.
7 المرسلات 42.
8 الواقعة 21.
9 التوبة 111.
10 الصف 10.