ar_akhlag2-ch2_3.htm

حبّ الاقتدار

حبّ الاقتدار

من الرغبات القویة فی الإنسان هو (حبّ القدرة) أو حبّ الاقتدار، ویظهر منذ السنین الاُولى فی حیاة الطفل، ویكون فعالا فیه بمقدار ما یتوفّر له المجال لابراز الاقتدار ویعمل على توجیه أفعاله وسلوكه.

تجلّیات مختلفة لحبّ الاقتدار

من خلال تجارب بسیطة یمكن معرفة انّ الطفل ینتابه نوع من الشعور بالسرور حینما یُوفّق لإنجاز عمل ما لأول مرة، ویودّ لو یتكرّر ذلك العمل لیكتسب اقتداراً أكبر.

فمثلاً، یشعر الطفل فی المرة الاُولى التی یستطیع فیها الوقوف على قدمیه بالسرور الشدید من هذا الاظهار للاقتدار وینتابه نوع من الشعور بالزهو، یدفعه ذلك للعزم على إعادة ذلك العمل والسعی لاكتساب المزید من القوة والاقتدار لإنجازه.

من الطبیعی أن تبدو للطفل فی السنة الاُولى قدرات كائنة فی دائرة معلوماته، ونظراً لوجود قدرات كثیرة غیر معروفة لدیه فانّه لا ینتبه إلیها أساساً ولا یعی انّ الإنسان قادر على اكتساب تلك القدرات.

وعلیه یشتد حبّ الاقتدار فی الطفل ویتوضح اتجاهه ویزداد تشخّصا بمقدار ما تتوسع لدیه دائرة المعلومات، ویزداد معرفةً بأنواع القدرات وامكانیة نیلها من قِبل الإنسان.

انّ حبّ الاقتدار فی الإنسان رغبة فطریة ولیست له جهة محددة ولا تعیّن خاصّ، ولكنْ باتساع المعلومات والمعارف لدیه فانّه یجد جهته وتشخصه، ویتوقف ذلك على أن یعرف الإنسان أی عمل یمكن القیام به ویُوفّق لانجازه وأیّة قدرة یمكن اكتسابها ویُوفّق لتحصیلها.

وعلیه فإنّ الشعور بحبّ الاقتدار فی الإنسان لا یتمّ اشباعه تماماً ولن یتوقف ویركد فی نقطة ما، بل انّ حبّ الاقتدار فی كلّ آن وفی كلّ موقع یكتشف فیه مجالاً جدیداً للإبراز ویتعرّف على قدرة مفقودة وتتوفّر له امكانیة نیلها، یدفعه لبذل جهود جدیدة لنیلها.

من الطبیعی انّ القدرات الابتدائیة التی تتراءى للانسان هی القدرات الجسمانیة المحسوسة والملموسة بنحو أكبر والتی تُنال بدون وسائط، أی القدرة على الأفعال التی تصدر من الجسم وتحتاج إلى قوة جسمیة خاصّة. فالإنسان یرغب فی تعاظم القوة فی جسمه لكی ینجز أعمالا اثقل وأصعب وأهمَّ.

والإنسان یتعرّف تدریجیّاً على القدرات المستندة إلى الوسائط والأدوات وعلى قوة العتلة، واستخدام العتلة والمعدات لانجاز أعمال أعظم لا یمكن إنجازها بالقوى الجسمیة مباشرة وبدون استخدام العتلة والمعدات، فی هذه الحالة یتدخل فیها العلم والتجربة تدریجیّاً لاستخدام المعدات ویتطور هذا التدخل یوماً بعد آخر، أی انّ الإنسان ینال بفضل العلم والتجربة نوعاً آخر من القدرة، وحینما تصل قدرة جسم الإنسان ذروتها وحسب التعبیر القرآنی بَلَغَ أَشُدَّهُ سوف یفكّر فی استخدام قدرة هی فوق مستوى الجسم الاعتیادی بصورة غیر مباشرة وبواسطة المعدات والعتلة فی الطبیعة والظواهر الطبیعیة، الأمر الذی یتطلّب علوماً وتجارب خاصّةً ینبغی علیه تحصیلها كی یعرف الوسیلة التی توصله إلى مقاصده.

فی المرحلة الاُخرى یستخدم قدرة اُخرى تُكتسب بالمال والثروة، فحینما یلتفت الإنسان إلى انّ المال یمنحه القوة والقدرة لإنجاز الكثیر من الأعمال الاجتماعیة فإنّ حبّ الاقتدار المودع فی ذاته یدفعه للسعی الحثیث لتحصیل المال ـ المانح للقدرة ـ لكی ینجز به بعض الأعمال.

فاكتساب المال والثروة یمكن أن یتمّ بدوافع مختلفة. وفد ذكّرنا سابقاً بهذه الملاحظة وهی انّ العمل والسعی قد یتمّ بدوافع مختلفة، كأن یكون اكتساب المال وتوفیر الثروة لتلبیة متطلَّبات الجسم كالمأكل والملبس وما شاكلهما، ولكنْ قد یتمّ هذا السعی كواسطة لاكتساب القدرة وبدافع من حبّ الاقتدار، وأحیاناً یمكن أن یكون ذلك كواسطة للعبادة كمن یسعى وینشط لیكتسب المال ثمّ ینفقه فی سبیل الله سُبحانه ویعین الضعفاء والفقراء، أو ینفقه حسب الأمر الإلهی فی مشاریع ذات منفعة عامّة، وسیكون هذا دافعاً ثالثاً لتحصیل المال واكتساب الثروة. وأخیراً یمكن أن یكون الدافع لاكتساب المال ـ كما ورد فی الروایات ـ «الكادُّ على عیاله كالمجاهد فی سبیل الله»1 هو توفیر المأكل للأهل والأبناء وتوفیر متطلَّبات المعیشة بحثّ من الدافع الإلهی نحو ذلك.

ویلتفت الإنسان تدریجیّاً إلى انّ اكتساب نوع آخر من القدرة یتیح له التسلط على القوى الطبیعیة. إلى هنا كان الكلام فی قدرات یكتسبها الإنسان فی إطار الطبیعة باستخدام الأسباب والآلات، وهنا یبدأ بالتفكیر فی اكتساب نوع آخر من القدرة لیقهر القوى الطبیعیة. فی المرحلة السابقة كان الإنسان عاجزا أمام قوى الطبیعة، وكان یسعى قدر المستطاع لتسخیرها فی سبیل أهدافه، ولكنْ هنا یسعى لیقهر قوى الطبیعة ویكتسب قدرة لا تكون مقهورة للقوى الطبیعیة، ولهذا یجتهد فی اكتساب قدرة روحیة عن طریق الریاضة لیقهر قوى الطبیعة ولا یكون محتاجا لاستخدامها.

وأخیراً یكون النوع الآخر من القدرة وهی القدرة الاجتماعیة التی تستند إلى النظام القیمی والثقافی السائد فی المجتمع. فكلّ مجتمع یعتبر أموراً وسیلة للاقتدار والتسلط على الآخرین والتحكم فی سلوكهم لكی یجعل إرادتهم تابعة لارادته بل یحظى بالهیمنة على قلوبهم.

الرغبات المتفرعة من حبّ الاقتدار

الأنواع التی ذكرناها تعدّ من القدرة، وهنا نقول انّ لحبّ الإستقلال ـ وهو من الرغبات النفسیة فی الإنسان أیضاً ـ جذوراً فی حبّ الاقتدار. فیمكن القول انّ رغبة الإنسان فی أن یكون مستقلا وغیر محتاج ومستند إلى الآخرین لها جذور فی حبّه للاقتدار أو انّ منشأها هو حبّ الاقتدار، وعلیه فإنّ حبّ الإستقلال لدى الإنسان من فروع حبّ الاقتدار وشعبه.

فما نلاحظه من رغبة الاطفال فی الإستقلال لدى التعامل وإنجاز الأعمال بأن یفلتوا من قبضة آبائهم لیسیروا معتمدین على أنفسهم، وهكذا الضعفاء والعاجزون حیث یسعون قدر المستطاع للاعتماد على أنفسهم ولا یرضون أن یمدّ لهم أحد ید العون سیّما إذا كانت بروح الشفقة، هذا السلوك وأمثاله یدل على رغبة الإنسان فی أن یكون مستقلا وینجز أعماله بنفسه، أی یحبّ أن یكون قادراً على إنجاز أعماله بنفسه.

ومن الرغبات التی لها جذور فی حبّ الاقتدار هو رغبة الإنسان فی أن لا یكون طفیلیّاً للآخرین ولا یعقد آماله علیهم، وبعبارة واضحة ومختصرة: أن یكون واثقا من نفسه. وهذا أیضاً له جذور فی حبّ الاقتدار فی الإنسان.

انّ الثقة بالنفس تتمّ حینما یؤمن الإنسان بقدرته. ولكنْ قد یرغب الإنسان رغم إیمانه بقدرته فی أن یكون عالة على الآخرین ولا یرید استخدام قدرته، وهذه حالة یطلق علیها الكسل وحبّ الراحة، وعلیه فلایعنی كلّ استناد إلى الآخرین فقدان الثقة بالنفس، وما نرید قوله هنا هو انّ الإنسان یكون واثقا من نفسه حینما یجد فیها قدرة یستند إلیها، وبعبارة اُخرى أن یؤمن بقدرته. فمن كان ضعیفا أو یرى نفسه ضعیفا لا یمكن أن یتمتّع بالثقة بالنفس الاّ بمقدار قدرته وحدودها التی یؤمن بها.

ومن الرغبات التی تتفرع وتتشعب من حبّ الاقتدار المتأصّل هو حبّ المقام والجاه، فهدف الذین یرومون المقام هو جعل الآخرین تحت سلطتهم وإمرتهم لاستثمار أعمالهم وسلوكهم خدمة لمصالحهم ومقاصدهم أو لتسخیر قلوبهم. وأغلب علماء النفس یعدّون حبّ الجاه والرغبة فی كسب المحبّة والاحترام من مقولات أخرى، ولكنْ یمكن القول أنّ جمیع هذه الرغبات التی ذكرناها فروع وأغصان للرغبة الأساسیة والمتجذّرة وهی حبّ القدرة فی الإنسان.

الأخلاق وحبّ الاقتدار

بما انّ حبّ الاقتدار رغبة فطریة فانّه لا یدخل فی زمرة القیم الأخلاقیة، كما انّ سائر الرغبات الطبیعیة لكونها غیر اختیاریة فهی لا تتصف بالحُسن والقبح الأخلاقیَّین. أجل انّها خیر من الناحیة الوجودیة والاصطلاح الفلسفی لكونها كمالاً للانسان أو وسیلة لتكامله، وهذا لا یمتّ بصلة للاصطلاح الأخلاقی، لانّ الوجود الفطری والتكوینی لهذه الرغبات خارج أساساً عن الاختیار وبالتالی عن دائرة الأخلاق ولا یتّصف بقیمة أخلاقیة إیجابیّة أو سلبیّة.

انّ حبّ الاقتدار یرتبط بالأخلاق فی موقع یكون فیه منشأ لصدور نوع من السلوك الاختیاری، ویبدو على شكل استخدام القدرة أو اكتساب القدرة فی أعمال الإنسان الاختیاریة، وفی هذه الحالة یتصف بالحُسن والقبح.

تفعیل حبّ الاقتدار فی الإنسان

یجدر هنا ذكر ملاحظة اُخرى وهی انّ هذا الحبّ وإنْ كان موجوداً فی باطن الإنسان ولعلّه یصاحبه منذ خلق الروح وعند تعلّقها بالجسم، ولكنْ یجب الالتفات إلى انّ هذه الرغبة الفطریة لا تصبح فعّالة فی الإنسان الاّ حینما یرافقها الشعور بالعجز والحاجة. بعبارة اُخرى انّ حبّ اكتساب القدرة یدفع الإنسان للسعی والعمل حینما یشعر أنه فاقد لنوع من القدرة التی یحتاجها، وبعبارة اُخرى أن یعرف وجود قدرة مطلوبة فی الخارج ویدرك انّه فاقد لتلك القدرة المعروفة. إذنْ سیكون الالتفات إلى العجز تجاه قوة قد علم بها وتعرّف علیها منشأ لتفعیل هذه الرغبة الطبیعیة أعنی حبّ الاقتدار فی الإنسان ویدفعه نحو الجدّ والسعی وراء الحصول علیه.

وممّا قلنا یُعلم انّ حبّ الاقتدار ذو جذور طبیعیة وفطریة فی الإنسان وهو من رغباته الأصیلة الاّ انّ تفعیله واتجاهه ودفعه للانسان نحو الجدّ والنشاط بحاجة إلى ثلاثة شروط اُخرى من مقولة المعرفة والالتفات هی:

1 ـ معرفة وجود قوة خارجیة.

2 ـ معرفة عجزه الذاتی وفقدان تلك القوة.

3 ـ شعوره الذاتی بالحاجة إلى تلك القوة.

وعلیه فكما لا یكون حبّ الذات تلقائیا منشأ لاىّ فعل فی الإنسان، فكذلك حبّ الاقتدار وحده فانّه لا یكون مبدء لنشاطه بل لابدّ من اقترانه بالشروط المذكورة، وبعبارة اُخرى أن یعلم انّه فاقد لنوع من القدرة التی هو بحاجة إلیها ویجب اكتسابها. ومن هنا قال الكثیر من علماء النفس: انّ العامل على نشاط الإنسان هو الحاجة، والحاجة هی التی تدفعه نحو العمل والسعی، وبعد اعتبار هذا الدور له بادروا للبحث والدراسة بشأن ماهیته وحقیقته.

الحقیقة هی انّ الحاجة ذاتها ـ لكونها حسب الاصطلاح الفلسفی أمراً عدمیا ونوعا من الفقدان والعدم ـ لا یمكن أن تكون عاملا لنشاط الإنسان كما یعتقد علماء النفس. إذنْ الحاجة لیست شیئاً حتّى یكون لها هذا الدور وإنّما هو ـ كما قلنا آنفا ـ الشعور بالحاجة، وهو الذی یكون عاملا لنشاط الإنسان، أی حینما یشعر الإنسان بالحاجة تنبعث فیه الرغبة لتحصیل ما یحتاج، ویكون فی الواقع منشأ التأثیر هو حبّ الإنسان للغنى ورغبته فی رفع حاجته، ولكنْ متى وأین یؤثّر؟ ذلك إنّما یكون حینما یلتفت إلى فقدانه. على أىّ حال، لا نرید القول كأغلب علماء النفس انّ الحاجة هی العامل للنشاط، ولكنْ یجب أن لا ننسى انّ الشعور بالحاجة هو شرط لازم لنشاط الإنسان.

القرآن وحبّ الاقتدار

هنا وبعد بیان هذه المقدمة یطرح هذا السؤال: هل انّ حبّ القدرة بكلّ شؤونه ومظاهره رغبة فطریة من وجهة نظر القرآن الكریم؟ وهل هناك شاهد من الآیات القرآنیة على ذلك؟ یجب القول فی الإجابة انّ هناك آیات كثیرة فی القرآن یمكن ـ بصورة غیر مباشرة ـ استنباط فطریة حبّ الاقتدار بكلّ شؤونه منها، بل یمكن استنتاج هذا الأمر من بعض الآیات بصورة مباشرة وبنحو واضح وبدون حاجة إلى اعتبار الملازمات.

نلاحظ قصة آدم(علیه السلام) ووسوسة الشیطان له الواردة فی القرآن الكریم.

حینما یعزم الشیطان على أن یوسوس لآدم(علیه السلام) حتّى یدفعه للتناول من الشجرة المنهی عنها یقول له:

یَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْك لاَ یَبْلَى2. فبناء على ما یستفاد من هذه الآیة: استند الشیطان فی وسوسته لآدم وخداعه إلى أمرین لیثیر انتباهه ویدفعه للتناول من تلك الشجرة: استند أولاً إلى الخلود قائلا له: هل أدلّك على شجرة الخلد، الشجرة التی متى ما تناولت منها ستكون خالداً، أی أراد أن یستغلّ حبّ البقاء المتأصّل فی روح آدم(علیه السلام) وهذا لیس موضوع بحثنا حالیّاً بل هی رغبة اُخرى غیر حبّ الاقتدار، وهی ما سنقوم بالبحث والدراسة بشأنها فی المستقبل.

واستند ثانیاً إلى الاقتدار وأراد أن یسیء استغلال حبّ آدم له حتّى یستطیع أن یغویه، ومن هنا قال له: هل أدلّك على ملك لا یزول ولا یبلى؟ (الملك) فی عبارة الآیة رمز القدرة، انّ اعظم قدرة لدى الإنسان هی التسلط على الآخرین، ویعنی القدرة الاجتماعیة والتسلط على الآخرین أو القدرة الاجتماعیة وهو ما نعبّر عنه بـ (السلطنة) وقد عبّر عنه بـ (الملك) فی القرآن، ثمّ قال الشیطان له:

إن كنت راغبا فی الخلود والقدرة التی لا تزول فعلیك أن تتناول من شجرة الخلد.

ثمّ یحكی القرآن أنّ آدم وحواء قد تأثّرا بوساوس الشیطان وخُدعا بوعوده.

فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَ3.

وهذا یدل بوضوح على انّ حبّ الخلود والقدرة متجذّر فی آدم وحوّاء، فدفعهما لارتكاب هذا العمل المنهی عنه لیكسبا تلك القدرة.

من القصة المذكورة یمكن أن نستنبط انّ الشیطان كان عالما نفسانیاً ماهراً، ویعلم بوجود حبّ الاقتدار فی ذات الإنسان، وكانت خطته هی سوء استغلال وجود هذا الحبّ وإغواء آدم وحواء، وقام بهذا الأمر ونجح فیه. وهذا دلیل على وجود هذا الحبّ فی فطرة الإنسان، ویدل على انّ آدم كان یتصف بهذا الحبّ قبل هبوطه إلى الأرض ومجیئه إلى هذا العالم، وحبّه هذا أصبح منشأ لاستغلال الشیطان وخداعه به.

وجاء فی آیة أخرى:

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّیْطَانُ لِیُبْدِىَ لَهُمَا مَا وُورِىَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَیْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِینَ4.

لقد خدع الشیطان آدم وقال: بما أنّكما تصبحان ملكین أو تكونان خالدین بالتناول من هذه الشجرة فإنّ الله قد منعكما منها.

قرأ بعض القراء (ملكین) فی الآیة بكسر اللام (ملِكین) وبذلك یكون أكثر انسجاما مع الآیة السابقة، لانّ (ملِك) بكسر اللام فی هذه الآیة یكون صفة من (المُلك) بضم المیم الموجودة فی الآیة السابقة. وبناءً علیه یمكن القول: هذه القراءة أولى لانّ تأكید الآیتین فی هذه الحالة سیكون على القدرة والخلود، وقد استغلّ الشیطان حبّ آدم لهما وقام بوسوسته.

وحتّى لو قرأنا (ملكین) فی آیة البحث بالفتح، كما قرأوها فانّها قابلة للانسجام مع الآیة السابقة بما نقدمه من توجیه. أی بما انّ الملائكة هم مظهر القدرة یمكن القول: فی هذه الآیة قام الشیطان بالوسوسة لآدم عن طریق حبّ الاقتدار أیضاً. ولعل الأصل فی المُلك والملائكة والمِلك والمَلك شىء واحد وكلّها ترتبط بالتسلط والقدرة، أی انّ المِلك (بكسر المیم) تسلط اعتباری على الأشیاء، والمُلك (بضم المیم) تسلط اعتباری على بنی الإنسان، ولعل المَلَك (بفتح المیم واللام) یشترك معهما فی الأصل أی انّ المَلَك بما یحظى به من قدرة یدعى (مَلك) ویمكن أیضاً الاتیان بشاهد قرآنی لتأیید ذلك، فالقرآن یعبّر لدى تعریف جبرئیل(علیه السلام) وهو من الملائكة:ذِی قُوَّة عِنْدَ ذِی الْعَرْشِ مَكِین5، وذكره فی آیة اُخرى بعبارة شدید القوى عَلَّمَهُ شَدِیدُ الْقُوَى6 على بعض التفاسیر حیث یعدّ جبرئیل مصداقاً لشدید القوى.

على أىّ حال، فإنّ مثل هذه الآیات التی تتحدّث عن القدرة فی تعریف ملك الوحی وتشیر إلیه بهذا العنوان یمكن أن تكون قرائن مؤیدة لهذا الأمر وهو أنّ الـ (مَلك) بفتح اللام أو الملائكة لهما أصل مشترك مع لفظ (المُلك) بضم المیم، و(المِلك) بكسر المیم، وقد لوحظ فیها مفهوم القدرة. وعلیه یحتمل ما یلی فی الآیة أیضاً، وهو انّنا لو قرأنا (ملكین) بفتح اللام فانّها تكون قد استخدمت لفظ (الملَك) كرمز للقدرة، وأراد الشیطان أن یقول لآدم(علیه السلام) بانّكما إذا رغبتما فی أن تكونا ملَكَین أی موجودین مقتدرین فإنّ علیكما التناول من هذه الشجرة.

انّ التناغم والتطابق بین هذه الآیة والآیة السابقة التی تعرّض فیها آدم(علیه السلام)لوسوسة الشیطان بعبارة (مُلك لا یبلى) قرینة اُخرى على انّ (الملكین) فی هذه الآیة یدل على مفهوم القدرة بنحو مّا ویكون منسجما بنحوما مع (ملك لا یبلى) سواء قرأناه بكسر اللام (ملِكین) أو بنحو نعتبر (الملَك) بفتح اللام بمعنى رمز القدرة. وعلى أىّ حال، فإنّ الشیطان فی هذه الآیة كالآیة آنفة الذكر قد وسوس لآدم وخدعه عن طریق حبّ الاقتدار وحبّ الخلود فی الحیاة.

والحاصل أنه بملاحظة الآیتین المذكورتین یمكن فهم انّ حبّ الاقتدار فی منظار القرآن ذو أساس فطری.

قیمة القدرة فی القرآن

السؤال الثانی الملفت للنظر بشأن القدرة هو: ما رأی القرآن فی القیمة الإیجابیة أو السلبیّة لاستخدام حبّ الاقتدار؟ هل یعتبره القرآن أمراً حسنا مطلقاً أم سیئا مطلقاً أم هو قائل بالتفصیل حسب الموارد؟

فی الإجابة على السؤال المذكور نقول: ینبغی أن لا یُتوقع أساساً أن یَمنع القرآن الإنسانَ من استخدام غریزة فطریة مطلقاً، لانّ ما أودعه الله تعالى فی فطرة الإنسان لیس لغواً وجزافا من الناحیة العقلیة، وهكذا فی الرؤیة القرآنیة بل یفسح المجال لتكامله. فأیّة غریزة طبیعیة فی الإنسان لا یمكن أن یشكّل نفس وجودها خطرا مطلقاً، ولهذا لا یجب بل لا یجوز قمعها تماماً. فالقمع التام لغریزة فطریة لایتقبله العقل ولا تؤیده الآیات القرآنیة.

بل یمكن أن یُستنبط من آیة الفطرة فِطْرَةَ اللهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَ7. وآیات اُخرى مشابهة انّ ما أفاضه الله سُبحانه على الإنسان وأودعه فی فطرته قد جعله وسیلة لتكامله، فلا یصحّ المنع من استخدامه مطلقاً، وإنْ وجد منع فانّه یتعلّق بكمیته وكیفیة استخدامه ومن أجل توجیهه نحو الاتجاه الصحیح.

مجالات توجیه القدرة

یطرح هنا هذا السؤال: هل یصحّ اكتساب القدرة من أىّ طریق كان ولأىّ مقصود وهدف؟ هذا السؤال یكشف بنفسه عن هذه الحقیقة وهی أنه یتعلّق بأفعال الإنسان الاختیاریة التی ترتبط بنحو مّا بالقدرة، ویكون لانتخاب الإنسان دور فی ذلك، سواء أكان منشأ للقدرة أو ناشئاً منها.

من جهة اُخرى انّ الانتخاب والقیام بعمل اختیاری حتّى لو كان لاكتساب القدرة فانّه سیكون فی ذاته مقرونا بالعلم والقدرة دائما، لانّ ذلك هو القاعدة والقانون فی كلّ فعل اختیاری حیث لا یمكن إنجازه بدون علم وقدرة.

انّ اكتساب القدرة عن طریق الأعمال الاختیاریة لابدّ أن یتمّ بمساعدة من العلم والمعرفة، ولو كان لدینا إدراك صحیح بهذا الشأن فإنّ من الممكن رعایة الجهة الصحیحة فی اكتساب القدرة واستخدامها لكی تكون الأعمال التی تنجز عن هذا الطریق قیّمة أخلاقیا.

وتكون المعارف النافعة فی هذه المرحلة والتی تمكّن الإنسان من تحدید الجهة الصحیحة لاكتساب القدرة وتشخیصها على عدة أنواع:

الأول: أن تكون معرفته عن أنواع القدرة المختلفة وكمیتها وكیفیتها وعمقها بمستوى لا یعتبر فیه أیّة مرحلة یبلغها من القدرة نقطةً نهائیة لقدرته، وأن لا یظنّ باطلا بأنّ القدرة التی اكتسبها هی ذروة القدرة التی یتمتّع الإنسان بالإستعداد لاكتسابها وله القابلیة فی تحصیلها. فإنّ الإنسان بإمكانه أن یكتسب قدرات كبیرةً ومتنوّعة ومعقدة، وفی هذا الطریق یشیر مؤشر الوجود الإنسانی ورغباته الفطریة إلى اللامحدود ورفض التحدید. وهذا هو السرّ لجهوده ونشاطاته الدائبة لاكتساب القدرات المتنوّعة. فإذا ارتضى بقدرة محدودة اكتسبها تدریجیّاً كان انحرافاً عن الفطرة وخلافا لمقتضاها، ومن الطبیعی أن یترك السعی والنشاط عند الحصول على تلك القدرة، فالإنسان نتیجةً للجهل والنقص فی المعرفة یفرح بما یناله، وینجذب إلیه ویتوقف عند ذلك الحدّ.

وذلك مثل الأیام الاُولى التی یستطیع فیها الطفل الوقوف على قدمیه، فانّه یزهو كثیراً بهذه الدرجة الدانیة من القدرة التی اكتسبها، وذلك لعدم إدراكه لدرجات أعلى، ویودّ تكرار نفس هذا الفعل. والذین یبلغون الخمسین او الستین من العمر ربّما یتصفون بهذه الصفة الصبیانیة فیغترّون بما یكتسبونه من قدرة ضعیفة وینشدّون إلیها ویتركّز كلّ اهتمامهم على القدرة التی اكتسبوها.

فمثلاً حینما یوعز القائد العسكری للجیش بالتحرّك یتحرّك الآلاف وحینما یوعز بالوقوف یتوقفون، هذه الحالة فی ذاتها تبعث الغرور فی من لم یفتح فی نفسه آفاق المعرفة والأخلاق المتناسبة مع هذه القدرة، ویفرح بهذه الحالة ویغترّ بها، حیث انّه یتحكم بآلاف الأشخاص ویتّبعونه فی حین لا یجب علیه اتّباعهم. وحینما تتركّز جمیع حواسه واهتماماته على تلك القدرة التی اكتسبها فانّه یغفل عن الكثیر من الكمالات والقدرات التی هی أعلى، ویتوقف عن السعی والتحرّك ویحرم من اكتسابها. والأخطر أن تصبح هذه الحالة فی المآل منشأ لظهور الكثیر من الصفات الرذیلة ومن ثمّ الأعمال القبیحة الكثیرة الضارّة به وبالآخرین.

فعلى الإنسان الالتفات إلى نقائصه وحوائجه أكثر من التفاته إلى ما یمتلكه، لانّ اهتمام الإنسان بالأمور التی یمتلكها لا یكون منشأ لتحرّكه التكاملی، بل سیوجد فیه نوعاً من الانشداد والسكون والجمود ویوقفه فی هذه المرحلة، وعلى العكس فإنّ معرفة الإنسان والتفاته إلى النواقص یدفعه نحو السعی والتحرّك لرفعها واكمالها، وعن هذا الطریق یكتسب یوماً بعد آخر مزیداً من القدرة والقوة والكمال. ووفق قاعدة عامّة وشاملة إذا اكتسب الإنسان قدرة أو أىّ شیء آخر وانجذب قلبه إلیه وتركّز اهتمامه علیه فإنّ ذلك سیمنعه من الإرتقاء، سواء أكان الاقتدار الاجتماعی یمثّل أمراً مثالیّاً وهدفاً نهائیا حسب زعمه أم لم یكن كذلك كما هو مقتضى التعلیمات الإسلامیة. ولكی یكون الإنسان فی حالة ارتقاء ومتّجهاً نحو الكمال فعلیه أن یلتفت إلى النقائص والاحتیاجات.

الثانی: النوع الثانی من المعرفة التی تنفع الإنسان وهی ضروریة له فی مجال القدرة هی معرفة هذه الحقیقة، وهی انّ القدرات الإنسانیة فی هذا العالم المادی تكون أدوات ومقدمات. فالقدرة التی تحصل فی الجسم كمال وجودی مطلوب وذو قیمة نفسیة لنا الاّ انّ قیمته الأخلاقیة تتوقف على علمنا بأنّ هذه القدرات لیست هدفاً بل هی وسیلة لاكتساب قدرة أكبر.

انّ معرفة النوع الثانی تساعد أیضاً على التوجیه الصحیح للانسان وإنجاز أعمال متعلّقة بالقدرة، سواء كانت منشأ للقدرة أو ناشئة من القدرة، وفی حالة فقدان هذا النوع من المعرفة سوف تتوفّر أجواء الغرور والسكون والانحراف وارتكاب الفساد والأمور الانحرافیة مما سوف نشیر إلیه لاحقاً.

وأخیراً انّ المعرفة الثالثة المهمة فی منظار الإسلام والتی تعتبر مفتاحا للكثیر من الكمالات والمقامات الإنسانیة، ویكون لها الدور الرئیسی فی مجال الاقتدار أیضاً هی معرفة الإنسان والتفاته إلى هذه الحقیقة، وهی انّ قدرته كسائر الأمور التی اكتسبها لیست ملكا له فی الحقیقة، بل انّ مالكها الأصیل والقادر الحقیقی هو الله سُبحانه، وهو الذی أعار هذه القدرة للانسان، ووفّر له الفرصة وأمهله لیستثمرها فی طریق تكامله الحقیقی.

مراتب المعرفة الثالثة

انّ هذا النوع من المعرفة هو الرؤیة التوحیدیة ولها مراتب ودرجات مختلفة:

انّ الأشخاص المتعارفین الذین یحظَون بمستویات من المعرفة یستطیعون إدراك بعض درجات هذه الحقیقة إلى حدّ ما، وتحصل الدرجات الكاملة من هذه المعرفة لأولیاء الله الذین یبلغون مقام التوحید فی الصفات، ویشاهدون انّ مصدر القدرات كافة هی القدرة الإلهیة غیر المحدودة، وأمّا القدرات الاُخرى فهی مظاهر لقدرته.

لإیضاح الكلام المذكور یجب القول: انّ معرفة هذه الحقیقة وهی انّ جمیع القدرات لله تعالى مآلاً، وهو المالك الحقیقی لا تكون بدرجة واحدة عند بنی الإنسان، بل لها درجات متعدّدة وذات عرض عریض، وما یتیسّر للأشخاص المتعارفین ومتوسطی الحال هو الإدراك والتصدیق بهذه الحقیقة وهی انّ الإنسان كان فاقداً للقدرة ثمّ أعطاها الله إیاها. لقد كان عاجزا بالأمس من النهوض على قدمیه وهو الیوم قادر علیه، ومن الممكن أن یُقعده المرض رغم ما لدیه من قوة. وهكذا لم یكن مالكا لهذا الاقتدار العلمی أو ذلك الموقع الاجتماعی والیوم قد اكتسبه، ومن الممكن أن یفقده بنسیان أو غفلة أو بتحوّلات اجتماعیة. انّ مثل هذا التغییر والتبدل والإكتساب والفقدان ینبىء عن هذه الحقیقة وهی انّ هذه القدرات المذكورة وأمثالها لیست ذاتیة للانسان وغیر قابلة للانفكاك عنه، بل هی أمور عرضیة قابلة للانفكاك والانتقال عنه.

سیدرك انّ الإنسان عبارة عن مجموعة من ألوان العجز والفقدان، وانّ الله سُبحانه هو الذی یمنحه القدرة أو اىّ شیء آخر. وهذه صورة بسیطة عن معرفة الإنسان بنفسه وربه، ولكنّ الإنسان یصبح قادراً تدریجیّاً فی مسیرة تكامله الروحی والمعنوی ـ إضافةً إلى هذه الدرجة من المعرفة التی یطلق علیها (علم الیقین) ـ على بلوغ درجة (عین الیقین) ثمّ درجة (حقّ الیقین) فیشاهد هذه الحقیقة عیاناً ویدركها شهودیاً، وهذا أمر یفوق التصدیق الذهنی والعقلی.

الآثار السیئة للقدرة

بناء على ذلك لكی نوجّه أعمالنا وأفعالنا نحو الاتجاه الصحیح ـ أعمَّ من الأفعال التی هی منشأ الاقتدار وتقع فی طریق اكتسابه ومن الأفعال الناشئة عن القدرة ونمارسها باستخدام القدرة التی نملكها ـ یلزمنا اكتساب مثل هذه المعارف المذكورة سابقاً، فانْ لم نكن عارفین بهذه الحقائق فانّنا حینما نكتسب قدرة مهما كانت ضعیفة سوف نُبتلى بصفات ذمیمة من قبیل الغرور والتكبر والإستعلاء والأنانیة وأمثالها، وهذه الصفات تكون مبدء لأفظع الجرائم والخیانات فی المجتمع البشری، وهی التی دفعت ذوی الاقتدار فی تأریخ الحیاة البشریة لارتكاب أنواع الظلم والجور، الاّ انّ ضررها یصیب صاحبها قبل غیره، وسیكابد الآلام والعذاب وسائر الآثار المترتّبة على هذه الصفات الرذیلة.

التربیة القرآنیة فی مجال الاقتدار

یتضمّن القرآن الكریم إرشادات بشأن الاقتدار ورفع مستوى المعارف التی تعیننا فی توجیه القدرة نحو اتجاهها الصحیح، نشیر هنا إلى نماذج منها:

فی بعض الآیات تأكید على انّ القدرة أصالةً مختصة بالله سُبحانه، حیث تقول آیة كریمة:

أَنَّ الْقُوَّةَ للهِِ جَمِیع8.

وآیة اُخرى تبیّن هذا المضمون بتعبیر آخر مستخدمة لفظ العزة حیث تقول:

مَنْ كَانَ یُرِیدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِیع9.

وبما انّ المفهوم اللغوی للعزة هو (عدم النفوذ) فانّه سیكون قریبا جدّاً من لفظ القدرة مفهوما، والمكانة الاجتماعیة التی یطلق علیها العزة أیضاً هی بلحاظ اقترانها بالقدرة، وتؤید انّ طلب المقام هو صورة من حبّ الاقتدار. وتؤید آیات اُخرى هذه الحقیقة حیث استخدمت لفظ (عزیز) بشأن الله فی مواضع تتناسب مع القدرة ولیس مفهوماً آخر، نظیر الآیة:

إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِیزٌ والآیة: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضَ لَیَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِیزُ الْعَلِیمُ10.

لقد جعل (عزیز) فی الآیة الاُولى إلى جانب (قوی) وفی الآیة الثانیة أُطلق على من خلق السموات والأرض، والقدرة هی المتناسبة للخلق.

أجل، انّ الخلق یستند إلى حقیقتَی العلم والقدرة، والذی خلق مثل هذا الكون یتصف بالقدرة المطلقة والعلم المطلق، ولذا استعمل (العزیز) مع (العلیم) كما اقترنت العزة مع الاقتدار فی الآیة أَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِیز مُقْتَدِر11.

وآیات اُخرى تبیّن ـ بلفظَی العزة والقوة ـ أنّ من أراد العزة أو القدرة فعلیه طلبها من مصدرها الأصیل وهو الله سُبحانه، جاء فی آیة:

مَنْ كَانَ یُرِیدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِیع12.

وتقول آیة أخرى: مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ13.

ولا توجد قوة ولا قدرة الاّ بإرادة الله عزّوجلّ. انّ أمثال فرعون والنمرود وسائر الطغاة فی الأرض لم یمتلكوا معرفة كافیة عن هذه الحقائق، ولم یفسحوا المجال للمعرفة اللازمة والكافیة أو غفلوا عنها، فابتُلوا بالانحراف عن مسیرة الحقّ وبالصفات القبیحة سیّما غرور الاقتدار والطغیان. فقد كان فرعون یخاطب قومه بغرور:

أَلَیْسَ لِی مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الاَْنْهَارُ تَجْرِی مِنْ تَحْتِی أَفَلاَ تُبْصِرُونَ14.

أجل، ان الخصوصیة الفكریة والأخلاقیة لفرعون هی التی هوت به وجعلته یرتكب جرائم فظیعة هی: أولاً: انّه كان یعتبر هذه القوى ملكاً له أصالة، وثانیاً: كان یعتبر قوته ذروة ما یمكن أن یحظى به الإنسان من قوة.

وعلى هذا الأساس ادّعى الربوبیة ثملاً وخاطب قومه صراحةً بقوله:أَنَا رَبُّكُمْ الاَْعْلَى15، والنمرود أیضاً ابتعد عن المعرفة وأقحم نفسه فی الظلام والجهل إلى الحدّ الذی قال فیه: أَنَا أُحْیِی وَأُمِیتُ16. لانّی قادر على الاحتفاظ بالآخرین أحیاءً أو قتْلهم.

وللقدرة ظهور وتجلّیات متنوّعة فی مراحل مختلفة لسلوك الإنسان، وتكون منشأـ فی بعض الموارد ـ لانحرافات كبیرة. من هنا یسلط القرآن الضوء على القدرة ومفاسدها، ویحذّر الناس ببیان فصیح بأن یوجّهوا رغباتهم منذ الخطوة الاُولى نحو اتجاهها الصحیح بانتباه كامل ورعایة الاعتدال فی كلّ الموارد لكی لا ینتهی أمرهم إلى هذا المستوى بانحرافهم التدریجی والابتعاد عن صراط الفطرة المستقیم ونهج التوازن. انّ التحرّك الإنسانی الناشىء من حبّ الاقتدار إذا لم تتمّ هدایته منذ البدایة بنحو صحیح فإنّ الإنسان یتعرض للانحراف الخُلقی، وفی المرحلة التالیة یرتكب الكبائر، ویُبتلى بالتالی بالكفر والشرك والفرعونیة. والحاصل أنّ مبدأ الإنسان ونهایته ومسیرته فیما یرتبط بحبّ الاقتدار واضح، وكلّما أحسسنا ببوادر الانحراف فی نفوسنا فلنعلم انّنا نسیر فی طریق خطیر ونسلك طریق الطغیان والفرعونیة، وأمّا الموضع الذی نصله من هذا الطریق والنقطة التی نبلغها فی هذه الحركة المنحرفة فانّه یتوقف على مدى همّتنا! فصاحب الهمة العالیة فی هذه المسیرة یصبح فرعون نفسه، وكلّما ضعفت همّته فانّه ینزل عن موقع فرعون بتلك الدرجة! لقد كان الخلل فی مسیرة فرعون هو الإستعلاء إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِی الاَْرْضِ17، و فی آیة أخرى: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَال فِی الاَْرْضِ18 فی حین یعتبر الله سُبحانه فی آیة اُخرى الإستعلاء ضاراً بحیاة الإنسان الخالدة فی الآخرة حیث یقول تعالى.

تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِینَ لاَ یُرِیدُونَ عُلُوّاً فِی الاَْرْضِ وَلاَ فَسَاد19.

هنا یطرح هذا السؤال: هل الآیات التی تمنعنا من الإستعلاء توحی بهذا المفهوم وهو أنّ على الإنسان أن یكون قانعاً ولا یطمح بالإرتقاء إلى مقامات أعلى أبداً؟ على هذا الفرض تأمرنا الآیات المذكورة بالجمود والسكون والتوقف، وهذا ما یتنافى مع المبدأ الذی أكّدنا علیه سابقاً من أنّ على الإنسان أن لا یقنع بما لدیه أبداً ویسكن، بل علیه أن یجعل ما ینقصه ویفقده نصب عینیه لكی ینال بسدّ ذلك النقص كمالات أكبر.

فی الإجابة عن السؤال المذكور یجب القول: انّ هذه الآیات لا تحثّنا على السكون والجمود أبداً، بل تعلّمنا هذه الحقیقة وهی انّ الإستعلاء المادی والدنیوی الذی یهواه الكثیر من الناس لا حقیقة له، بل هو استعلاء كاذب یصدّ الإنسان عن الوصول إلى العلوّ الحقیقی. انّ الرؤیة القرآنیة تعلّمنا انّ الإستعلاء المادی لا یمثّل الهدف النهائی والنقطة الأخیرة لارتقاء الإنسان ولیس مطلوباً فی ذاته بل هو وسیلة لا أكثر. وقیمته قیمة غیریة تتحقّق فی ضوء القیمة الذاتیة للأهداف النهائیة وفی طریق الوصول إلیها. انّ الإستعلاء المادی یعجز عن معالجة آلام الإنسان وإشباع متطلَّباته الفطریة. بل هو سراب ولعبة خدّاعة لا أكثر. انّ الإستعلاء المادی بمثابة الحِلمة الصناعیة التی تمنع الطفل عن البحث عن ثدی أمه، والإنسان بانجذابه إلى هذا الإستعلاء غیر الحقیقی إنّما یخدع نفسه ویتخلف عن الطلب والبحث عن العلوّ الحقیقی ویتعرض للانحراف والانحطاط.

یعلّمنا القرآن انّ الإنسان إذا سار بنحو صحیح فی مسیر هذه الغریزة وتحرَّك فی الاتجاه الصحیح فانّه یسمو حتّى یصبح فی جوار الله العزیز المقتدر المطلق، حیث قال تعالى:

إِنَّ الْمُتَّقِینَ فِی جَنَّات وَنَهَر * فِی مَقْعَدِ صِدْق عِنْدَ مَلِیك مُقْتَدِر20.

انّ القدرة الحقیقیة للانسان هی أن یهیمن على كلّ شیء فی ظل القدرة الإلهیة، وهی القدرة التی یحصل علیها من خلال الحركة الصحیحة فی الحیاة وشكرالله وعبادته والفناء فی قدرته، وهی فی الواقع قدرة الله التی تظهر فی هذا المجال. لقد أودع حبّ الاقتدار فی وجود الإنسان لكی یحرّكه فی هذا الطریق ونحو هذه النقطة. فالقوة الحقیقیة للانسان هی أن یصبح عبداً لله تعالى لكی تتجلّى فیه القدرة الإلهیة.

على هذا فلیس من الصحیح الإكتفاء بالقدرات المادیة والدنیویة والاعتباریة المحدودة والانشداد إلیها بنحو یصدّ الإنسان عن الوصول إلى القوة الحقیقیة، وقد ذمّ القرآن ذلك أیضاً ولم یذمّ حبّ الاقتدار بكلّ أشكاله.

إذنْ القیمة السلبیة لحبّ القدرات المادیة والدنیویة یكمن فی مانعیتها، فلو لم توقف الإنسان ولم تصدّه عن ارتقائه وتعالیه ولم تستتبع نتائج اجتماعیة وأخلاقیة وخیمة لم یكن ضیر فی اكتسابها. لقد طلب النبی سلیمان(علیه السلام) من ربه اقتداراً خارقا كما جاء فی التعبیر القرآنی:

وَهَبْ لِی مُلْكاً لاَ یَنْبَغِی لاَِحَد مِنْ بَعْدِی21.

الاّ انّ هذا الاقتدار الذی ألحّ فی طلبه من الله سُبحانه لم یمثّل هدفه النهائی ولم یتعلّق قلبه به، بل أراده لكی ینشر به دین الله والدین الحقّ ویهدی غیر المسلمین والمشركین المقتدرین إلى الإسلام والدین الإلهی. فقد طلب (علیه السلام) مثل هذا الاقتدار لیتّخذه وسیلة للوصول إلى كمال أعلى.من هنا لم یستغل(علیه السلام) اقتداره الخارق بنحو سىّء أبداً.

لقد بلغ باقتداره حدّاً یصفه القرآن بقوله:

یَعْمَلُونَ لَهُ مَا یَشَاءُ مِنْ مَحَارِیبَ وَتَمَاثِیلَ وَجِفَان كَالْجَوَابِ وَقُدُور رَاسِیَات22.

وارتقى إلى درجة لم یكن فیها حاكما على الناس فحسبُ، بل على الجن ـ كما یحكی القرآن ـ ومع اقتداره هذا كان یأكل خبز الشعیر الیابس ولم یصبْه الغرور باقتداره.

ولو تدبّر الإنسان وهو فی أیّ مقام كان فی ضعفه والتفت إلى نقائصه وعجزه فانّه لا یتكبّر أبداً. انّ بنی الإنسان الصالحین وأولیاء الله سُبحانه كلّما ازدادت قدرتهم أدركوا ضعفهم بنحو أكبر وازدادوا تواضعاً، أی انّهم یشاهدون أنّ هذه القدرة لیست ملكهم، بل مهما عظمت فهی قدرة الله قد جعلت تحت تصرفهم، وبدون القدرة الإلهیة لا یملك الإنسان شیئاً من ذاته. وأیضاً مهما ازدادت قدرتهم فانّهم ـ بما یتمتعون به من معرفة راقیة ـ یرَون أنفسهم تحت سیطرة قدرة أرفع تُعتبر سائر القدرات بالنسبة إلیها شیئاً ضئیلاً، نظیر علم الإنسان فانّه كلّما ازداد علماً أدرك ضعفه بنحو أفضل، وهذا أمر عجیب فی مسیرة العلم. انّ الطفل المبتدىء لا یعلم ـ سوى عدة دروس اعتیادیة ومألوفة ـ بأمور اُخرى لكی یلتفت إلى انّه یحیط بها علماً أم لا. وتنحصر دائرة معلوماته ومجهولاته فی منظاره فی دروس المدرسة الابتدائیة. لا یعلم عادة بشىء اسمه الفیزیاء أو الكیمیاء لكی یدرك علمه أو جهله بمضمونه.

ولكنْ كلّما ازدادت معلوماته تبدو له مجهولات أكثر. كما انّ علم الإنسان إذا كان علما حقیقیا فانّه یدرك انّ ذلك العلم فی ذاته لیس ملكه، وكلّما تكامل علمه فانّه یدرك جهله بنحو أفضل ویدرك انّ علمه ملك لله تعالى، من هنا یقول القرآن بتعبیره الجمیل:

أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ الَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِیدُ23.

بهذا التعبیر ینبّه الله سُبحانه الإنسان بأن لا ینسى فقره الذاتی أبداً لكی یبلغ ما یمكنه من كمال.

انّ أولیاء الله كلّما ازدادوا علما اشتد تواضعهم وازدادوا اقراراً بالجهل، وكلّما ازدادوا اقتداراً أظهروا عجزهم بین یدی الله عزّوجلّ بنحو أكبر، واشتد تواضعهم بین الناس، وهذه النتیجة فی كلا الأمرین (العلم والاقتدار) ترجع إلى مستویاتهم الرفیعة من المعرفة.

خلاصة القول

انّ الالتفات إلى الضعف والعجز یجعل الإنسان متواضعا ویفتح أمامه طریق التقدم والرقیّ، وعلى العكس یجعله الانجذاب إلى الاقتدار مغروراً ومتكبراً ویسدّ عنه طریق الرقیّ والإرتفاع.

والملاحظة الاُخرى هی انّ اكتساب القدرة لا بأس به ولكنْ علینا أن نعلم:

أولاً: ما هیة القدرة الحقیقیة.

ثانیاً: انّ القوى المادیة لیست سوى وسائل وأدوات للوصول إلى القدرة الأبدیة ولا یمكن أن تكون مرادة بالذات.

ثالثاً: انّ اكتساب هذه القدرة التی هی وسیلة ینبغی أن لا یستلزم سلب قدرة الآخرین والتطاول على حقوقهم.

رابعا: انّنا لا نملك هذه القوى أصالةً بل هی القدرة الإلهیة التی نستفید منها، فعلى من یُمنح هذه النعمة الإلهیة، وهی القدرة، أداءُ شكرها الذی یقتضی استخدامَها بنحو صحیح.

خامساً: مهما تعاظمت عندنا القدرة فانّنا خاضعون للقدرة الإلهیة المحیطة بقدرتنا.

إذا لم نلتفت إلى مثل هذه الحقائق فإنّ القدرة ستستتبع آثاراً سیئة ومنها الغرور والتكبر كما أشار سُبحانه وتعالى إلى هذا الأثر السیء والخطیر فی قوله تعالى:

وَإِذَا قِیلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالاِْثْمِ24.

انّ انشداده لقدرته یبلغ حدّاً یرتكب فیه أعمالاً قبیحة ومهولة من أجل اكتسابها أو الاحتفاظ بها. أجل، انّها القدرة والمحافظة علیها هی التی تدفعه لمثل هذه الأعمال، وهذا الانجذاب القلبی هو الذی یوقفه عند هذا المستوى ویستتبع روح العلوّ والعتوّ والإستعلاء كما ذكرنا.



1 بحار الانوار ج 103 الباب 1 الروایة 59.

2 طه 120.

3 طه 121.

4 الأعراف 20.

5 التكویر 20.

6 النجم 5.

7 الروم 30.

8 البقرة 165.

9 فاطر 10.

10 الزخرف 9.

11 القمر 42.

12 فاطر 10.

13 الكهف 39.

14 الزخرف 51.

15 النازعات 24.

16 البقرة 258.

17 القصص 4.

18 یونس 83.

19 القصص 83.

20 القمر 54 و 55.

21 ص 35.

22 سبأ 13.

23 فاطر 15.

24) البقرة 206.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...