ar_akhlag2-ch3_2.htm

الأكل والشرب

الأكل والشرب

النموذج الذی صوّرناه لتبیان أبعاد النفس الإنسانیة وخصائصها یشیر إلى انّ حبّ اللذة یمثّل إحدى الغرائز الأصیلة فی الإنسان. ومنها تتفرع أغصان عدیدة ومتنوّعة ترتبط بأفعال الإنسان المختلفة من جهة، وبالجوارح أو الأجهزة المختلفة التی تنجز بها تلك الأفعال من جهة أخرى، وبالأشیاء الخارجیة المختلفة التی تمثّل متعلّقات للأفعال المذكورة من جهة ثالثة.

ومن زمرة الأفعال المذكورة التی تمهّد لتحقّق أحد أنواع هذه اللذّات الفرعیة هو الأكل والشرب. واللذة الحاصلة للانسان عبر هذا الطریق تكون ـ كسائر اللذّات والرغبات الإنسانیة ـ فطریة وغیر اختیاریة، ولذا لا تدخل نطاق الأخلاق ولا تكون موضوعا للقیم الأخلاقیة، ولا یمكن القول بأنّها حسنة أو سیئة، وذلك لتعلّق الحُسن والقبح الأخلاقیَّین بأفعال الإنسان الاختیاریة التی تنجز بهدف الوصول إلى غایة خاصّة. فی حین انّ هذا الحبّ لا یكون فعلا، بل أمر فطری وطبیعی قد أودعه الله تعالى فی طبیعة الإنسان وذاته على أساس من حكمة الخلق.

القرآن وحبّ الأكل والشرب

فی القرآن الكریم آیات عدیدة تتحدّث عن هذا الحبّ، وبما انّ هذا النوع من الآیات یكون عادة فی مقام التذكیر بالنِعم الإلهیة على الإنسان فانّه یُشعر أیضاً بفطریة اللذة ولذة النِعم التی تهتم هذه الآیات وتذكّر بها. لقد اهتمت الآیات القرآنیة بتعابیر وأسالیب مختلفة بهذا الحبّ، نشیر إلى بعضها:

أ ـ الرعایة الإلهیة لرزق الإنسان

تتحدّث مجموعة من هذه الآیات وتذكّر بالنِعم الإلهیة التی اعتُبرت رزقاً للانسان ویستفید منها للأكل والشرب، ومضمونها لا ینسجم مع ذمّ التمتع بهذه النِعم ومنعها، ولذا لا یلاحظ أیّ ذمّ على أكلها وشربها.

ونظراً لكثرة الآیات وتشابه تعابیرها نكتفی هنا بذكر بعضها وأرقام البعض الآخر.

قال تعالى فی إحدى هذه الآیات:

أَوَلَمْ یَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْقُرُونِ یَمْشُونَ فِی مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِی ذَلِكَ لاَیَات أَفَلاَ یَسْمَعُونَ * أَوَلَمْ یَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الاَْرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ یُبْصِرُونَ1]وَآیَةٌ لَهُمْ الاَْرْضُ الْمَیْتَةُ أَحْیَیْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ یَأْكُلُونَ یس 33. ووَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ البقرة 22. والآیة 32 من سورة ابراهیم بهذا التعبیر أیضاً.).

وقال فی موضع آخر:

وَهُوَ الَّذِی سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِیّ2.

وقال فی آیة أخرى:

اللهُ الَّذِی جَعَلَ لَكُمْ الاَْنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ3]وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا یَأْكُلُونَ.).

وهناك إشارة إلى هذه اللذة والرغبة فی عدد من الآیات وذلك بعبارة:

وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّیِّبَاتِ4.

ب ـ الإذن فی التمتع بالرزق

وتأمر مجموعة اُخرى من الآیات الإنسان بصراحة بالتمتع بالأطعمة والمشروبات، ولكنْ بما انّ هذا النوع من الأوامر قد صدر فی الموارد التی یظنّ فیها المنع من التمتع بهذه النِعم وحرمة أكلها، فلیس فیها أیّة دلالة على الطلب الوجوبی أو الإستحبابی للأكل والشرب، وقد قال علماؤنا فی علم الأصول: انّ الأمر فی مقام توهّم الحظر یدل على الترخیص والجواز لا أكثر.

نذكر هنا بعض الآیات نظیر:

وَهُوَ الَّذِی أَنْشَأَ جَنَّات مَعْرُوشَات وَغَیْرَ مَعْرُوشَات وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّیْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَیْرَ مُتَشَابِه كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ یَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ یُحِبُّ الْمُسْرِفِینَ * وَمِنْ الاَْنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّیْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِینٌ5.

وفی الحقیقة ترید الآیتان من خلال الأمر بالأكل بیان أنّ الله تعالى خلقها لكم لأكلها والتمتع بها، فلا مانع من تناولها.

فكلوا إذنْ ولكنْ احذروا الإسراف والتزموا بمنح الفقراء حقَّهم ولا تبقوه فی أموالكم، ولا تتّبعوا الشیطان بتناوله على غیر الوجه الحلال. وقد جاءت عبارة كلوا واشربوا فی موردین من الآیات مع فارق هو ورود النهی عن الفساد فی مورد والنهی عن الإسراف فی مورد آخر، وذلك بعد القید من رزق الله، وقد جاء فی عدة موارد: كُلُوا مِنْ طَیِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ6.

وجاء فی مورد واحد: كُلُوا مِنْ الطَّیِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِح7.

وهناك تعابیر اُخرى فی القرآن نظیر: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلا طَیِّب8.

أو فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللهُ حَلاَلا طَیِّب9.

أو كُلُوا مِمَّا فِی الاَْرْضِ حَلاَلا طَیِّب10.

أو كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ11.

أو كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ12.

الملفت ورود إرشادات نظیر: كلوا ولا تفسدوا، أو لا تسرفوا، أو لا تطغوا، أو لا تتّبعوا الشیطان، أو اشكروا الله، أو اتقوا، أو... عقیب هذه الآیات التی تأمر بالأكل والشرب.

ویمكن القول انّ الآیات التی استخدمت لفظ (طیب) أو (طیبات) والآیات التی استعملت (مما غنمتم) أو (مما رزقكم) احتمالاً تُشعر من زاویة اُخرى بفطریة لذة الأكل، لانّ لفظ (طیب) استخدم فی الآیات مفرداً وجمعاً بمعنى الشیء أو الأشیاء التی یلتذ بها الإنسان فی الطبیعة. أی انّ الله سُبحانه قد خلقها بنحو تكون لذیذة، كما انّ (غنمتم) و(مما رزقكم) یُشعران إلى حدّ بهذا الترابط الطبیعی والفطری.

ج ـ ذمّ التحریم بلا دلیل

لم یكتفِ القرآن الكریم بالأذْن والترخیص فی تناول الأطعمة والمشروبات، بل ذمّ معه الذین حرّموا على أنفسهم تناول بعض الأطعمة والمشروبات بدون سبب، حیث قال بهذا الشأن فی إحدى الآیات:

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّیِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِیَ لِلَّذِینَ آمَنُوا فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا خَالِصَةً یَوْمَ الْقِیَامَةِ13.

و قَدْ خَسِرَ الَّذِینَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَیْرِ عِلْم وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِینَ14.

لم یمنع الله عزّوجلّ أبداً من تناول هذه النِعم التی خُلقت للانسان الاّ انّهم افتَروا على الله تحریمه إیاها.

د ـ لذة الأكل والشرب فی العالم الآخر

تدل مجموعة اُخرى من الآیات بأنّ هذه النِعم متوفّرة للمؤمنین والسعداء فی عالم الآخرة أیضاً، ویحكی ذلك عن انّ حبّ الأكل والشرب والالتذاذ بذلك لا ینحصر فی حیاة الإنسان فی الدنیا، بل له وجود فی عالم مابعد الموت، والآیات فی هذا المجال كثیرة ونشیر هنا إلى عدة نماذج، كالآیة:

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِی وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَ15.

والآیة: مُتَّكِئِینَ فِیهَا یَدْعُونَ فِیهَا بِفَاكِهَة كَثِیرَة وَشَرَاب16.

ونظیر: یُطَافُ عَلَیْهِمْ بِصِحَاف مِنْ ذَهَب وَأَكْوَاب وَفِیهَا مَا تَشْتَهِیهِ الاَْنفُسُ وَتَلَذُّ الاَْعْیُنُ17.

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِی وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِیهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاء غَیْرِ آسِن وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَن لَمْ یَتَغَیَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْر لَذَّة لِلشَّارِبِینَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَل مُصَفّىً وَلَهُمْ فِیهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ18.

كانت هذه عدة نماذج من آیات كثیرة فی القرآن تخبر عن وجود الأطعمة والمشروبات والتذاذ الإنسان بالأكل والشرب فی الجنة، قد اكتفینا هنا بهذه النماذج وندعو القارىء لملاحظة الآیات القرآنیة ذات الصلة بهذا الموضوع19.

ما طرحناه إلى هنا هو الآیات ذات العلاقة بأكل وشرب أهل الجنة، ولكنْ ینبغی الالتفات إلى انّه توجد على غرار ذلك آیات قرآنیة تتحدّث عن أكل وشرب أهل النار أو طعامهم و شربهم، هذه الآیات تحكی عن بقاء حاجة الإنسان للأكل والشرب حتّى فى جهنم، حیث یوجد ما یناسب ذلك من طعام وشراب یتعذب بها أهل النار.

أی كما أن أهل الجنة لولا حبّ الأكل والشرب فیهم لم یكن بوسعهم التمتع بهذه النعم فیها، فكذلك أهل النار إذ لولا حبّ الأكل والشرب فیهم لم یكن تعذیبهم عن هذا الطریق ممكنا، وعلیه لابدّ من وجود هذا الحبّ فیهم حتّى یُعذَّبوا بأكل خاصّ، نشیر هنا إلى نماذج من هذه الآیات، كالآیة:

ثُمَّ إِنَّكُمْ أَیُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لاَكِلُونَ مِنْ شَجَر مِنْ زَقُّوم * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَیْهِ مِنْ الْحَمِیمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِیمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ یَوْمَ الدِّینِ20.

وهناك آیات أخرى21 أیضاً فی هذا المجال یلاحظها الباحث من خلال تصفّح القرآن الكریم. یستفاد من مجموع الآیات أن هذا الحبّ أمر فطری لا یسلب من الإنسان حتّى فی عالم الآخرة، بل انّه من أسباب تنعّم أهل الجنة بنعمها، وهكذا تعذیب أهل النار عن طریق الطعام والشراب المكروه فی النار.

الحدود الأخلاقیة للأكل والشرب

یطرح هنا هذا السؤال: من أین یظهر حُسن هذا الحبّ وعدمه وقیمته الإیجابیة والسلبیّة من الناحیة الأخلاقیة؟

للإجابة عن هذا السؤال ینبغی القول: فی هذا المجال ـ كالمجالات الاُخرى التی تمّ ذكرها ـ تكون للقیمة الأخلاقیة جذور فی انتخاب الإنسان، وترتبط بالكمیة أو الكیفیة أو جهة خاصّة فی تناول الطعام والشراب. انّ ذمّ الأكل والشرب قد یرتبط بكمیته إذ إنّ هناك مقداراً واقعیا یتناسب مع الحاجة الواقعیة لبقاء الإنسان حیّاً، ویكون الإلتزام العملی به ممدوحاً وإهماله مذموماً وینتهی بالتالی إلى ذمّ الإنسان أخلاقیا. من هنا قال تعالى:

وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُو22.

أی علیكم رعایة الكمیة اللازمة فی الأكل والشرب، إذ إنّ الإلتزام الأخلاقی فی هذه الموارد إذا كان یرتبط بمقدار خاصّ فإنّ مراعاة أو عدم مراعاة تلك الكمیة تستتبع القیمة الإیجابیة أو السلبیّة لذلك الفعل. وتترتّب القیمة الأخلاقیة السلبیّة على نوع خاصّ من الأطعمة والمشروبات أحیاناً وتعود إلى نوع من التعارض. فبالنظر إلى أنّ تناول بعض الأطعمة والمشروبات یزاحم لذائذ اُخرى أو یضرّ بجسم الإنسان أو روحه فإنّه یكون ذا قیمة سلبیة. فمثلاً قد یهدّد أكل شیء صحّة الإنسان ففی هذه الحالة یتعارض الالتذاذ بالأكل مع لذة الصحّة فی الإنسان، وهذا بذاته عامل فعّال على تقیید الأكل أخلاقیا إلى درجة عدم الإضرار بصحّة الإنسان وحصر الأطعمة فی الأشیاء التی لا تهدّد صحّة الجسم، ولا توجب ضرراً روحیاً ومعنویاً كما فی الخمر أو لحم الخنزیر أو لحم حیوان لم یُذكر اسم الله علیه.

وهناك جهة مرفوضة تكون فی بعض الموارد منشأً للقیمة السلبیّة للأكل والشرب فی الإنسان. فمن یأكل ویشرب بهدف المعصیة لله بالطاقة التی یكتسبها فإنّ مثل هذه النیة ـ وإنْ كان المأكول من الطیبات وخالیاً من الضرر المادی والعقلی والاجتماعی ـ یجعل الأكل والشرب مذمومین تلقائیا وذوَی قیمة سلبیّة، وعلى العكس لو كان دافع الإنسان فی هذا العمل ونیّته خیراً كالقدرة على عبادة الله، أو إدخال السرور على والدیه أو إخوانه المؤمنین، ففی هذه الحالة تكون مثل هذه النیة منشأً للقیمة الإیجابیة لأكله وشربه، وقد عبّرنا عن هذا العامل المحدّد للقیمة بـ (الجهة الخاصّة).

وعلى أیّ حال، فلا یكون أكل الإنسان وشربه أجنبیَّین عن سائر صفاته الجسمیة وحالاته الروحیة أبداً، فتارةً یزوّدان الإنسان بالطاقة والقوة ویزیدانه صحّة، فتكون لعملیة الأكل والشرب قیمة إیجابیّة طبعاً، وتارةً یجعلان الإنسان خاملاً ویضعّفان قواه الفكریة فیكون تركهما ذا قیمة إیجابیّة، ویكونان تارةً سبباً لِلنشاط الروحی فی الإنسان ویكسبانه قوة فی العبادة، فتكون العملیة ذات قیمة إیجابیّة أیضاً، وتارةً ـ على العكس ـ یسلبان الحضورَ القلبی من الإنسان ویضعّفان عواطفه ویكونان منشأ لقسوة قلبه وكدورة روحه، فیكون تركهما ذا قیمة إیجابیّة.

الرؤیة القرآنیة فی تقییم الأكل والإمساك

یبیّن القرآن الكریم القیم الإیجابیة والسلبیّة فی هذا المجال على أساس المحاور المذكورة، و بصدد دراسة هذا الموضوع یمكن مراجعة الآیات التی تتحدّث عن الصیام الواجب وآیات الصیام المطلقة والصیام المستحب، كالآیة:

یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَیْكُمْ الصِّیَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِینَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ23.

وكآیات صیام الكفارة:

فَمَنْ لَمْ یَجِدْ فَصِیَامُ ثَلاَثَةِ أَیَّام فِی الْحَجِّ وَسَبْعَة إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ24.

وآیات أخرى25 ترتبط بالصیام الواجب تحت عنوان (الكفارة) لا حاجة لذكرها هنا.

ومن خلال اعتبار القرآن الصیام كفارة فی بعض الخطایا یمكن أن نفهم ـ للتناسب بین الموضوع والحكم ـ انّ الصیام فی هذه الموارد یفیض على الإنسان نورانیة تزیل التلوث المترتّب على ارتكاب المعصیة فی النفس الإنسانیة وتتطهر بالصیام، ولذا یطلق على هذا الصیام (الكفارة) ویعنی الجابر.

وبعض الآیات یشمل مطلق الصیام الأعمّ من الواجب والمستحب، كالآیة:

فَمَنْ تَطَوَّعَ خَیْراً فَهُوَ خَیْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَیْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ26.

والآیة: وَالصَّائِمِینَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِینَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِینَ اللهَ كَثِیراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِیم27.

والصیام لا یتلخّص ـ طبعاً ـ فی ترك الأكل والشرب بل له شروط أخرى، الاّ انّ هذا الترك من أجزائه وعناصره، بل یمثّل ركنا أساسیا فیه. فمن الآیات المذكورة ومن كلّ آیة تدل على رجحان الصیام یمكن استنتاج انّ ترك الأكل والشرب فی الرؤیة القرآنیة إلى حدّ مّا أمر مرغوب ویحظى بقیمة أخلاقیة إیجابیّة سامیة، وعبارة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فی هذه الآیات تشیر إلى هذه الحكمة وتتطابق مع القاعدة الكلیة التی ذكرناها.

مرّ فی الماضی أنّ القرآن قد ذمّ بنی إسرائیل فی قضیة الأكل والشرب هذه28]وَإِذْ قُلْتُمْ یَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَام وَاحِد فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ یُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الاَْرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِی هُوَ أَدْنَى بِالَّذِی هُوَ خَیْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ البقرة 61.). فعندما خرج بنوإسرائیل من مصر ودخلوا أرض الشام أنزل الله علیهم الْمَنَّ وَالسَّلْوَى فقالوا لموسى(علیه السلام): لا نكتفی بنوع واحد من الطعام بل لابدّ أن یكون متنوّعاً، فرغم أن الله تعالى كان یُنزّل علیهم طعاما لذیذا بلا تعب ومشقة فانّهم كانوا یهتمون بالأكل رغم تشردّهم، وكانت قلوبهم توسوس لهم بأن یكون لهم أطعمة متنوّعة، وقد وبّخهم الله وذمّهم فی ذیل الآیة بانّكم تطلبون طعاماً هو أدنى قیمة بدلاً عن الطعام الذی أعطیناكم وهو الأفضل والأكبر فائدة.

حینما یكون الإنسان تابعاً للهوى وطالباً للتفنن فی الطعام فإنّ ذلك ینبىء عن تعلّقه القلبی باللذائذ المادیة والحیوانیة واعتبارها هدفاً فی الحیاة، وهذه الحالة مذمومة أخلاقیا.

وهناك ـ طبعاً ـ موارد اُخرى للذمّ فی هذا المجال وترجع كلّها إلى الكمیة والكیفیة والجهة والجذر، والأساس هو التعارض مع سائر الكمالات الإنسانیة كما تمّ توضیحه سابقاً.

انّ بعض الآیات ینهى الإنسان عن أكل أشیاء یتعارض تناولها مع بعض كمالات الإنسان ویقول:

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَیْكُمْ الْمَیْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِیرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَیْرِ اللهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَیْرَ بَاغ وَلاَ عَاد فَلاَ إِثْمَ عَلَیْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ29.

ویطرح القرآن فی مورد واحد عنوانا عامّاً بشأن الأطعمة والمشروبات ویمكن البحث فیه عن ملاك الحرمة والحلّیة حیث قال:

وَیُحِلُّ لَهُمْ الطَّیِّبَاتِ وَیُحَرِّمُ عَلَیْهِمْ الْخَبَائِثَ30.

كما قال فی مورد آخر:

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِیلِ وَالاَْعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَن31.

ففی هذه الحالة (صناعة الشراب المُسكر) لا یكون الرزق حسناً، بل یكون من الخبائث ولا یجوز تناوله.

وقد جاء فی آیة أخرى:

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَیْسِرُ وَالاَْنصَابُ وَالاَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّیْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ32.

حُكم فی هذه الآیة بالخبث والقبح على أشیاء من قبیل الخمر والقمار وغیرهما، حیث یكون كلّ واحد منها حسب تناسبه مع موضوعه الخاصّ منشأ لسلوك خاصّ فی الإنسان. ففی مورد الخمر یكون خبثه ورجسه بمعنى انّ شربه عمل قبیح وشیطانی ویزیل العقل ویستتبع مفاسد أخرى.

وهناك آیة اُخرى تشابه الآیة المذكورة فیما یرتبط بالخمر والقمار حیث تقول:

یَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَیْسِرِ قُلْ فِیهِمَا إِثْمٌ كَبِیرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَ33.

هذه الآیة تشیر بوضوح أكبر إلى التعارض الذی ذكرناه سابقاً حیث تقول: كلّ شیء وإنْ كان نافعا ولكنْ إذا كان ضرره أكبر فانّه یلزم التغاضی عن نفعه أیضاً لتوقّی ضرره، ویشیر بوضوح إلى ملاحظة حیثیة التعارض فی مقام التشریع، وبعد التقییم والمقایسة بین الملاكات المختلفة تمّ رعایة الملاك الأقوى وغُضّ النظر عن الملاك الأضعف.

من جملة الأشیاء الضارّة معنویا هو أكل لحم الحیوان الذی لم یذكر اسم الله عند ذبحه، وقد منعت بعض الآیات المؤمنین من أكله حیث قالت:

وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ یُذْكَرْ اسْمُ اللهِ عَلَیْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ34.

انّ ذبح الحیوانات وسلب حیاتها للانتفاع بلحومها نوع من التصرف فی المخلوقات التی أفاض الله عزّوجلّ علیها الحیاة وهی مملوكة له، فإذا أردتم سلب حیاتها فلابدّ من كون هذا التصرف والعمل بإذن الله عزّوجلّ وباسمه. لو كان الإنسان غافلا عن الله والقیامة وغیر آبه بالمعنویات إلى حدّ عدم التوجّه إلى الله الخالق للنفس حتّى لدى الذبح وسلب روح الحیوان، فلا یحقّ له تناول تلك الذبیحة، ولا تكون طاهرة وحلالاً أساساً. وعلیه فإنّ المنع من تناول بعض الأطعمة وحرمته سیكون بلحاظ رعایة ذلك الجانب المعنوی.

وأخیراً، هناك مجموعة اُخرى من الآیات تدل على النهی عن أن یكون تناول الأطعمة والمشروبات بنحو یترتّب علیه الضرر والفساد الاجتماعی ومصادرة حقوق الآخرین، كالآیات الدالة على حرمة الربا وأكل أموال الناس، خاصّةً أكل مال الیتیم. ونشیر هنا إلى بعضها، كالآیة:

وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَیْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِیقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالاِْثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ35.

والآیة: یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَیْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاض36.

والآیة: یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ37.

والآیة: إِنَّ الَّذِینَ یَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْیَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا یَأْكُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَیَصْلَوْنَ سَعِیر38.

والمقصود من (الأكل) فی هذا النوع من الآیات هو كلّ تصرف أعمَّ من الأكل أو الشرب أو اللبس أو الهبة و... الاّ انّها تشمل الأكل الحقیقی قطعاً وهو ما یبحث بشأنه وندرسه فی هذا المقال.

نتیجة وفذلكة

بملاحظة الآیات الماضیة یمكن استنتاج انّ الالتذاذ بالأطعمة والمشروبات بذاته لا قیمة إیجابیّة له ولا سلبیّة، والقیمة السلبیّة لهذا العمل تستند إلى جهة خارجیة عارضة تُنتزع من الكمیة أو الكیفیة أو الدافع والنیة الخاصّة لهذا العمل وإلى تعارضه مع الكمالات والمصالح الإنسانیة، وبالتالی یترتّب علیه ضرر جسمی أو روحی عقلی وفكری یصیب الإنسان، أو فساد فی المجتمعات الإنسانیة، أو ضرر معنوی وأخروی، كما انّ قیمته الإیجابیة تستند إلى كون نیة الإنسان فی ممارسة العمل خیرا.

ومن خلال الآیات القرآنیة والروایات فی هذا المجال یمكن استشعار أمرین یمنحان القیمة والحُسن لأكل الإنسان وشربه: أحدهما كسب الاقتدار والقوة على العبادة والعمل الصالح حیث جاء الخطاب إلى الانبیاء(علیهم السلام):

یَا أَیُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّیِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّی بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِیمٌ39.

فالتقارن بین عبارتی كُلُوا مِنْ الطَّیِّبَاتِ واعْمَلُوا صَالِحاً یمكن أن یكون إشارة إلى هذه الحیثیة وهی أنّكم تقدرون على القیام بالأعمال الصالحة والحسنة بتناول هذه الأطعمة الطیبة والنافعة، فإذا كان دافعكم من هذا العمل والانتفاع بالنِعم والأطعمة هو اكتساب القدرة والقوة للقیام بالأعمال الصالحة فإنّ عملكم یكون ذا قیّمة إیجابیّة قطعاً. وهذا طبعاً إشارة واستشعار كما قلنا ولا نرید الإستناد إلیه كاستدلال.

ثانیهما هو ما تؤكّده الآیات القرآنیة بوضوح أكبر وهو الشكر، ولذا نلاحظ قوله وَاشْكُرُوا للهِِ40]یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَیِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِِ البقرة 172.) أو لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ41]وَأَیَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّیِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الانفال 26.) بعد الأمر بأكل الطیبات أحیاناً.

من هذه الآیات یمكن أن نستنتج بوضوح انّ الغایة الإلهیة من خلق هذه النِعم التی یتغذى الإنسان بها ـ إضافةً إلى رفع الحاجة المادیة وتغذیة الإنسان والموجودات المحتاجة ـ هو أن یشكر الناس ولىّ نعمتهم، فالشكر فی ذاته أحد أنواع العبادة ووسیلة لتكامل الإنسان.

لقد سخّر الله تعالى جمیع النِعم للانسان لكی ینتفع بها وبالتالی لیبلغ كماله المعنوی والأبدی، وشكر المنعم أحد طرق وصول الإنسان إلى الكمالات المعنویة، والدافع للشكر ینبعث فی الإنسان حینما ینتفع بالنِعم الإلهیة وتقوم برفع حاجة من حاجاته. فحینما یشرب جرعة من الماء العذب البارد فی حرّ الصیف ویحس فی أعماق روحه ونفسه عذوبته وصفاء لذّته یذكر الله ویشكره، وهذا الشكر فی ذاته یرفع الإنسان ویمنحه كمالاً معنویا.

وعلى هذا یمكن أن نستنبط من هذه الآیات انّ الانتفاع بالأطعمة والمشروبات ـ كالانتفاع بسائر النِعم الإلهیة ـ إذا كان بدافع الشكر فانّه إضافةً إلى قیمته المادیة فی رفع حاجة جسم الإنسان ذو قیّمة أخلاقیة ومعنویة إیجابیّة، ویستتبع كمالاً معنویاً للانسان.

روایات فی ضرر الأكل الكثیر

فی روایات المعصومین(علیهم السلام) مضامین كثیرة فی هذا المجال ذكرتها كتب الحدیث وكتب الأخلاق، وبما انّ بحثنا هنا یدور حول الآیات القرآنیة ویمثّل قسماً من المعارف القرآنیة فلسنا بصدد تفصیلها وتبیانها، ومع ذلك لا یتنافى ذلك مع الإشارة إلى بعض هذه الروایات المباركة.

جاء فی روایة معروفة:

(ما من شیء أبغض إلى الله من بطن مملوء)42.

انّ كثرة الأكل والاهتمام به یستتبع الكثیر من المفاسد والتبعات السیئة التی تلحق جسم الإنسان وروحه، حیث یجعله غافلاً عن الله ویقلل من توجّهه المعنوی والقلبی، ویضعّف فیه قدرة التفكیر والتأمل وسائر أبعاده الروحیة الأخرى، وفی المقابل یزید من شهواته النفسیة ویقوّی أبعاده الحیوانیة، ویوقعه فی الكثیر من الأمراض، وخاصّةً حینما یتقدم به العمر حیث یسبّب إصابته بأمراض تصعب معالجتها، وقد تهدّد حیاته أو سلامته ونشاطه جدّیاً. انّ تأكیدنا فی بعض الموارد على الجوانب المادیة والصحّة البدنیة مع انّ بحثنا یكون حول القیم الأخلاقیة إنّما هو بلحاظ توقف التكامل المعنوی للانسان فی أحیان كثیرة على صحّته وسلامته قطعاً ویقینا، فمن لا یحظى بسلامة جسمیة سوف یتخلّف عن الركب، لیس فی الحیاة المادیة فحسبُ، بل وفی الحیاة المعنویة غالباً، لانّ حیاة الإنسان المادیة مقدمة أساسیة وشرط لازم لتكامله الروحی والمعنوی.

كما تؤكّد روایات على انّ خلوّ الجوف والجوع شرط فی الوصول إلى الحكمة وتحصیل الكمالات الروحیة والأخلاقیة والقیم، فلابدّ أن یمسّه شیء من الجوع، ولولا معارضة الشبع والتخمة لهذه الكمالات، وكان من الممكن بلوغ هذه المقامات الإنسانیة والإلهیة بدون تحمّل الجوع لم یُدعَ إلى التقلیل من الطعام أبداً، لانّ الله عزّوجلّ لیس بخیلا ولا ینقص خزائنه اللامحدودة شیء حتّى یمنع الإنسان من التنعم والانتفاع والالتذاذ.

لقد خلق الله عزّوجلّ هذه النِعم كی ینتفع بها بنو الإنسان، ولكنْ حینما یسرفون ویبذّرون ویتجاوزون الحدّ، فیأكلون فوق حاجة الجسم فإنّ عملهم هذا یستتبع ضررین ومشكلتین، ولذا یكون عملا مذموما بشدة.

لانّ هؤلاء بكثرة الأكل والإسراف والتبذیر یحرمون أنفسهم من الانتفاع الكامل بنعمة العقل والقلب والحكمة والمعرفة والمعنویات من جهة، ویساهمون فی حرمان الآخرین من هذه النِعم المادیة فی التغذیة، ورفع الحدّ الأدنى من حاجة الجسم لمواصلة الحیاة واكتساب السلامة والقوة من جهة أخرى.

یجدر هنا أن نشیر إلى مشكلتنا الاجتماعیة القائمة أعنی الغلاء والتضخم، فإنّ أهمَّ وأفضل طریقة لمعالجة ذلك یكمن فی رعایة هذه الآداب الإسلامیة، ففی هذا العصر وفی كلّ عصر لو تَركت الأُسَر المرفهة الإسرافَ والبذخ واقتصرت على الحدّ الادنى فی مؤونتها ـ حسب الإمكان والقدرة ـ على المواد الغذائیة والمستلزمات الضروریة فی الحیاة فإنّ ذلك سیساهم فی حل مشكلة الغلاء والتضخم إلى حدّ كبیر، وفی مكافحة الفقر والمجاعة فی الطبقة الاجتماعیة الفقیرة والمحرومة. لكنّها لو لم تتحسس آلام هذه الطبقة وعناءها ـ وأعدادها لیست بالقلیلة ـ وتركت نفسها فی غفلة دون الشعور بالعار فإنّ خطراً أكبر ـ كما یبدو ـ سوف یهدّدها عاجلا أو آجلا.

تعالوا إذنْ لنجعل الإسلام وآدابه التی تنبض بالحیاة نصب أعیننا ولا ننسى الله تعالى، ولا نكون غافلین وغیر مكترثین بمصیر الضعفاء وأحوالهم، ولا نسرف ونبذّر ونتجاوز الحدود ونتّبع شهوة الأكل، ولا ننسى الأبعاد الروحیة والفكریة والمعنویة، ولا نكتفی بالإعلام والضجیج والتظاهر بالإسلام، بل نكون مسلمین ومؤمنین حقّاً، فإنّ مستقبلنا وسعادتنا فی الدنیا والآخرة رهینتان بذلك.

انّ دفع الصدقة والزكاة وإعانة الآخرین فی معیشتهم بدلاً عن الزهو والإسراف والأنانیة ـ كما ورد فی الروایات ـ لا تدفع أصناف البلاء الوخیمة فحسبُ، بل ستعمل على رفع هذا النوع من البلاء الاجتماعی، وتضمن صحّة الإنسان وسلامته.

من أعظم النِعم الإلهیة هو القدرة التی أعطاها للانسان لتوجیه التفاته إلى الساحة الإلهیة المقدسة. یقول الإمام السجاد(علیه السلام) فی مناجاة الذاكرین:

« ومِن أعظَم النّعمِ عَلیْنا جَریانُ ذكْرِك على ألسنتِنا وإذنُك لَنا بدُعائكَ وتنْزیهِك وتَسبیحِك»

وجاء فی روایة أخرى:

«قلب المؤمن عرش الرحمن»43.

المؤمن یلهج بذكر الله عزّوجلّ، والقلب الذاكر لله بمثابة عرش الله، أی المكان الرفیع والخاصّ الذی یحضره الله تعالى دائما.

أجل، ان الله برعایته للانسان قد أعطاه هذه القابلیات التی بها یستطیع الإرتقاء إلى هذا المستوى من الرشد والسمو، ولكنّ الإنسان یجهل قدره ویحرم نفسه هكذا من هذه الكرامة بتناول لُقیمات من الطعام الحرام وغیر المناسب أو الكثیر المتجاوز للحدّ. مثل هذا التعارض یكون منشأ لانّ یكتسب الأكل والشرب فی صورة وكیفیة خاصّة أو فوق الحدّ المناسب قیمةً سلبیّة. وهنا یلزم طبعاً أن نذكر: كما انّ الإفراط فی الأكل والشرب مضرٌّ وذو قیمة سلبیّة فإنّ التفریط وقلة الأكل عن الحدّ المناسب مضرٌّ أیضاً، ویخلّ بسلامة الإنسان ویهدّد نشاطه وحیویته.

من المؤسف أن یمارس بعض الشباب المهذّبین والمخلصین ویودّون انتهاج السیر المعنوی واكتساب الفضائل الأخلاقیة ـ دون استشارة مع العلماء والمربّین ذوی التجربة ـ أعمالاً تحرمهم من السلامة سنین طوالاً. ویُبتلون بضعف یعجزهم عن القیام ببعض الواجبات فضلا عن المستحبات. من هنا فإنّ هذا العمل غیر المدروس سیكون سبباً لخسرانهم فی الدنیا والآخرة.

انّ قیمة الأكل القلیل تستند إلى تمكینه الإنسان لإحراز مزید توفیق للارتقاء الروحی والمعنوی، فینبغی إذنْ أن یكون فی حدّ لا یحرمه من التوفیقات الأخرى، فإذا تجاوز الحدّ أصبح مرفوضا ولا قیمة له قطعاً، بل سیكون ذا قیمة سلبیّة.

انّ هذا أحد الموارد الواضحة لقیمة الاعتدال والمنهج المتوازن الواجب علینا رعایته. لیس للطعام طبعاً ضابط عامٌّ، بل یترواح حسب الأمزجة والأعمار والعوامل الاُخرى التی قد یكون لها دور، فعلى كلّ انسان أن یلاحظ الظروف الخاصّة لحیاته ویلتزم الاعتدال المتناسب معها، ویتجنب الإفراط والتفریط فی الحدود والمقادیر التی یحتاجها.

على انّه یلزم الالتفات إلى هذه الملاحظة وهی انّ ضرر الأكل القلیل قد لا یبدو على الشابّ القوی عاجلاً، ولكنْ بعد مضی سنین ـ خاصّةً لدى استثمار سنوات الدراسة ـ ستُسلب منه القدرة تدریجیّاً، فیعجز عن تقدیم الخدمة المناسبة للاسلام والمسلمین.


1 السجدة 27، والآیة:

2 النحل 14.

3 غافر 79 ونظیر هذه الآیة تقول الآیة 72 من سورة یس:

4 الجاثیة 16.

5 الأنعام 141 و 142.

6 الأعراف 160، البقرة 172، طه 81.

7 المؤمنون 51.

8 الانفال 69.

9 النحل 114 والمائدة 88.

10 البقرة 168.

11 سبأ 15.

12 طه 54.

13 الأعراف 32.

14 الأنعام 140.

15 الرعد 35.

16 ص 51.

17 الزخرف 71.

18 محمد(صلى الله علیه وآله وسلم) 15.

19 الآیات: الزخرف 73، الطور: 17 ـ 19 و 22 و 23، الرحمن 52 و 68، الواقعة: 20 و 21 و 32 و 33 ،الحاقة: 24، الدهر: 5 و 6 و 15 ـ 18، المرسلات 42 و 43، المطففین 25 ـ 28.

20 الواقعة 51 ـ 56.

21 كالآیات: الحاقة 36 و 37، المزمل 13، الغاشیة 5 ـ 7.

22 الأعراف 31.

23 البقرة 183.

24 البقرة 196.

25 كالآیات: النساء 92 و المائدة 89 و 95.

26 البقرة 184.

27 الأحزاب 35.

28 وهو قوله تعالى:

29 البقرة 173.

30 الأعراف 157.

31 النحل 67.

32 المائدة 90.

33 البقرة 219.

34 الأنعام 121.

35 البقرة 188.

36 النساء 29.

37 آل عمران 130.

38 النساء 10.

39 المؤمنون 51.

40

41

42 بحار الانوار ج 66 ص 331 الروایة 5.

43 بحار الانوار 58/39 الروایة 61.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...