ar_akhlag2-ch3_3.htm

الغریزة الجنسیة والزواج

الغریزة الجنسیة والزواج

انّ حبّ الزواج وإشباع المیل الجنسی هو أحد طرق التذاذ الإنسان، ویكون هذا المیل فی أصل وجوده كغیره من المیول والجواذب الباطنیة من لوازم الروح الإنسانیة الفطریة التی قلنا انّها فی ذاتها لیس لها قیمة أخلاقیة لا إیجابیّة ولا سلبیّة، وبعبارة اُخرى انّ وجود هذه المیول والجواذب فی الإنسان لیست حسنة ولا سیئة ولا قیمة لها من الناحیة الأخلاقیة.

وحسب الرؤیة الفلسفیة فإنّ كلّ ما له حظ من الوجود ـ سواء أكان اختیاریا أم غیر اختیاری ـ یكون حسناً وخیراً، الاّ انّ الخیر هنا یمثّل اصطلاحاً آخر ولا علاقة له بالقیم والخیر فی الأخلاق.

انّ ما یقع فی نطاق الأخلاق ویكون ذا قیمة هو كمیة وكیفیة إشباع هذا المیل وجهة العمل به. قضیتنا هنا هی: كیف یُشبع الإنسان هذا المیل؟ وما هی درجة الإشباع؟ وبأیّ نیة یتمّ الإشباع لكی یكون عمله ذا قیمة إیجابیّة أخلاقیاً؟

الرؤیة القرآنیة عن الغریزة الجنسیة

فی القرآن الكریم آیات تدل على انّ حبّ الزواج والعلاقة الجنسیة ملحوظان فی أصل الخلق، وهذا الأمر غنی عن التعبد، فكلّ من یمعن النظر فی كیفیة خلق الإنسان یلاحظ انّ التناسل وبقاء هذا النوع یتحقّق عن طریق الزاوج وعملیة الولادة، فلابدّ أن یكون ذلك ملحوظاً فی أصل خلق الإنسان، أی انّ الإنسان مخلوق بنحو یحفظ ذریته عبر المقاربة الجنسیة مع زوجه، والتعبیر القرآنی طبعاً مختلف فی هذا المجال، نشیر هنا إلى مجموعات من الآیات:

أ ـ تدل الآیات على أنّ زوج الإنسان قد جُعل من جنسه، وهذا تدبیر إلهی تكوینی لحفظ نوع الإنسان، ولعل أوضح آیة هی القائلة:

یَاأَیُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِی خَلَقَكُم مِّن نَّفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِیراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِی تَسَآءَ لُونَ بِهِ وَالاَْرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَیْكُمْ رَقِیب1.

فعبارة وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِیراً وَنِسَآءً تدل بوضوح على أنّ تكاثر بنی الإنسان یتمّ بالرابطة الزوجیة، وهی ملحوظة فی أصل خلق الإنسان بهدف التناسل.

وجاء فی آیة أخرى:

هُوَ الَّذِی خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْس وَاحِدَة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِیَسْكُنَ إِلَیْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِیفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَیْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِینَ2.

ولعل فی عبارة وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِیَسْكُنَ إِلَیْهَا إشارة إلى حكمة وعلة اُخرى للزواج مستقلة عن التكاثر وبقاء نسل الإنسان وهی سكون الزوجین أحدهما إلى الآخر والشعور بالمودة والصفاء بینهما، وبالتالی التعاون بهدف النهوض بأعباء الحیاة.

من هنا نلاحظ آیات قرآنیة تؤكّد على هذه الحكمة فقط ولا تتحدّث عن التناسل كالآیة القائلة:

وَمِنْ آیَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَیْهَا وَجَعَلَ بَیْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِی ذَلِكَ لاَیَات لِقَوْم یَتَفَكَّرُونَ3.

والآیات الاُخرى التی تشیر إلى هذه الحقیقة بنحو مّا فی هذا المجال.

الآیات المذكورة ونظائرها تردّ أفكار الذین یعتقدون أنّ الزواج عمل خبیث وشیطانی وذو قیمة سلبیّة، فمثل هذه الأفكار مرفوضة وباطلة لا موقع لها فی القرآن، والدین السماوی الفطری.

انّ الرغبة فی الزواج بمقتضى الحكمة الإلهیة ملحوظة فی خلق الإنسان، وقد اقتضى التدبیر الإلهی تحقیق تكاثر النسل وبقاء الإنسان عن هذا الطریق.

ومثل هذا الأمر فی ذاته وفی عالم التشریع لا یمكن أن یكون ذا قیمه سلبیّة، إذ إنّ ذلك سیؤدی إلى نوع من التناقض بین التكوین والتشریع، وعدم الانسجام بین نظام الوجود والنظام الأخلاقی. فی حین أنّ النظام الأخلاقی ـ فی الرؤیة القرآنیة ـ لا یتنافى مع النظام التكوینی، لیس هذا فحسبُ بل یكمّله.

یعلّمنا القرآن أنّ الدین أمر فطری والقوانین التشریعیة الدینیة متناسقة تماماً مع الفطرة، وهذا التناسق هو السرّ فی انتصار الدین الحقّ وشمولیته وعالمیته وخلوده.

وبملاحظة هذه الآیات لا یكون الزواج ولا التقارب الجنسی بین الرجل والمرأة فی ذاته عملاً قبیحا وخبیثاً، فینبغی البحث عن منشأ القبح والقیمة السلبیّة بالنسبة للغریزة الجنسیة، وعلاقة الرجل بالمرأة فی موضع آخر كأعراض الكمیة والكیفیة وجهتها، فإنّ الكم والكیف والجهة هی المنشأ للحُسن أو القبح فی ذلك.

الأخلاق الجنسیة

یستفاد من الآیات القرآنیة أنّ هذین الجنسین المتقابلین ـ أی الرجل والمرأة ـ مخلوقان لیكمّل أحدهما الآخر، واقتضت الفطرة الإنسانیة أن یمیل أحدهما إلى الجنس المقابل ویجعله منشأ لسكونه وارتیاحه ویشبع شهوته، وبذلك یكون سبباً للتناسل وبقاء نوع الإنسان وعدم ترتّب الفساد علیه.

القیود الفطریة للغریزة الجنسیة

فی الرؤیة القرآنیة یتعارض المیل إلى الجنس المماثل مع الفطرة ونظام الخلق، ویُعتبر انحرافاً بشعاً فی الغریزة الجنسیة.

وعلیه فإنّ المنحرفین عن النهج الطبیعی التكوینی لاشباع الغریزة الجنسیة ویسلكون طریقا آخر غیر مقرّر فی أساس الخلق لاشباع هذه الغریزة یكتسب عملهم قیمة سلبیّة، وبذلك یحیدون عن الصراط المستقیم للفطرة الإلهیة.

وقد أكّد القرآن الكریم ـ من خلال بیان قصة قوم لوط (المشهورین بهذا العمل المنحرف) فی عدة مواضع (ثلاثة مواضع على الأقل) ـ على قبح هذا العمل وانحرافه عن النهج الفطری.

یتحدّث القرآن عن انحراف هؤلاء القوم فی إشباع هذه الغریزة عن مسیرتهم الطبیعیة والفطریة ولذا تعرضوا للذمّ وابتُلوا بالعذاب الإلهی، وتقول الآیة التی هی الأوضح من الآیات الاُخرى بهذا الشأن:

وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ4.

أی انّكم تسلكون طریقا یتعارض مع فطرتكم ویتنافى مع طبیعتكم، انّه انحراف عن الصراط المستقیم.

وهذه الملاحظة تفیدنا من هذه الجهة وهی أنّ الله تعالى بتعبیره خلق لكم ربكم یفهمنا أنّ ما یقتضیه الخلق الإلهی هو رغبة كلّ واحد من هذین الجنسین فی الجنس المقابل، وعلیه یجب اشباعه عن هذا الطریق.

إنّ الله تعالى لم یجعل انجذاب الرجل إلى الرجل، أو المرأة إلى المرأة فی فطرة الإنسان وخلقه، ولا یدخل فی نطاق ما خلق لكم وعلیه لو ظهر مثل هذا المیل فی الإنسان فإنّ ذلك دلیل على أنّه قد انحرف بسبب مؤثّرات خارجیة قد دفعته إلى ارتكاب أعمال قبیحة وخبیثة ومنحرفة.

قال تعالى فی آیات أخرى:

وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَد مِنْ الْعَالَمِینَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ5.

هاتان الآیتان ـ إلى جانب التندید بعملهم بتعبیر (مسرفون) والإخبار عن هلاكهم ونزول العذاب علیهم تنبیهاً على درجة فساد وشناعة هذا العمل ـ تشیران إلى ملاحظة ظریفة جدّاً بتعبیر مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَد مِنْ الْعَالَمِینَ حیث یدل على انّ هذا العمل غیر فطری كما هو مدّعانا تماماً، أی انّ هؤلاء القوم بانحرافهم عن النهج الفطری یمثّلون حالة استثناء بین الاقوام البشریة وشعوب العالم آنئذ، حیث إنّهم قد انحرفوا عن النهج الفطری العامّ وطریق جمیع شعوب العالم فی التأریخ، والمبتلون بهذا المرض هم المنحرفون عن قانون الفطرة، والیوم یُعدّ الذین یستغلّون الحریة المنفلتة ویمارسون هذا العمل علانیة حتّى أنهم یرفعونه شعاراً هم ثلّة قلیلة قطعاً قد أصبحوا مصدراً للأمراض والفساد والإباحیة وإنْ كانوا صَلِفین وعلا ضجیجهم.

الحقیقة هی انّ بعض الحكومات والانظمة السیاسیة الغربیة ترید التفاخر بالحریة من خلال الاعلان عالمیاً عن (مفعولیة) رجالها وتحرّرهم، فی حین انّ هذه الحریة لیست حریة یفتخر بها أو یفاخر بها، بل هی حریة حیوانیة مخجلة یندى لها جبین سلیمی الفطرة من الرجال والنساء حتّى عند سماع ذلك.

الآیة 55 من سورة النمل6]وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ النمل 54 و 55.) هی المورد الثالث الذی استقبح القرآن فیه عمل قوم لوط، ولا تتضمّن أكثر مما ذكرناه. والحاصل أنّ أول ما یجب رعایته لدى إشباع هذه الغریزة هو الالتفات إلى مقتضى الفطرة والخلق الإلهی ویعتبر الانحراف عنه ـ أی الشذوذ الجنسی ـ كقیمة سلبیّة قطعیة وعمل انحرافی شنیع.

القیود الاجتماعیة للغریزة الجنسیة

إلى جانب ما ذُكر آنفا من القیود الفطریة هناك تقیید آخر لإرضاء الغریزة الجنسیة وباهماله تنشأ قیمة سلبیّة أیضاً، وهی انّ عملیة الإشباع الجنسی یجب أن لا تتمّ بنحو یصدّ الإنسان عن نیل مصالح أهمَّ وكمالات أسمى. وفی الحقیقة تنشأ هذه القیود من التعارض بین مصالح الإنسان.

وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ ما یكون منشأ للقیمة السلبیّة لاشباع المیول والرغبات هو تعارضها مع رغبات أفضل وأهمّ، وبدراسة هذه الرغبات وتقییمها وقیاس بعضها ببعض تظهر وتتّضح حدود كلّ واحدة من هذه الرغبات والمیول.

وبإمكاننا أن نكتشف میزان المقایسة فی بعض الموارد وذلك بإدراكاتنا العادیة والعقلائیة ونعرف الحدود الدقیقة لكلّ منها، ولكنْ فی أغلب الموارد لیس بوسعنا تحدیدها بدقة نظراً لعدم إحاطتنا بموارد التعارض والتأثیرات السیئة أو المرفوضة التی قد تترتّب علیها، من هنا فإنّ الوحی یقوم بدوره الفاعل، ولكنْ على أیّ حال، فإنّ المنشأ الأساسی هو ذلك التعارض.

انّ المصالح الاجتماعیة للانسان تقتضی أن تنتظم حیاته وتسیر فی إطار الاُسرة، وتنضبط علاقات الرجل بالمرأة وتقوم وفق ضوابط ومعاییر خاصّة، ولابدّ من اختصاص زوج الإنسان به لما تترتّب على تشكیل الاُسرة واختصاص الزوج من مصالح عدیدة تعود على الفرد والمجتمع، وبدون ذلك تحدث أضرار وخسائر كبیرة.

ومن تلك المصالح الاجتماعیة حفظ نسل الإنسان عن طریق الاُسرة، وترتُّب الكثیر من الشؤون الاجتماعیة والحقوق كمسألة الإرث والنفقة والتربیة والمسؤولیات الاُخرى التی یتحمّلها الوالدان تجاه الأبناء، أو الصداق والنفقة والإستمتاع والالتذاذ والطاعة والمسؤولیات المتبادلة الاُخرى بین الزوجین، وتتوفّر فیها الظروف لتنامی العواطف والفضائل الإنسانیة والحبّ والایثار والتضحیة والقدسیة والطهارة، وتنتفی ظروف الفساد والتسافل والبوار والأمراض الجسمیة والنفسیة واضمحلال العواطف الإنسانیة والانحطاط إلى مستوى الحیاة الحیوانیة.

الاُسرة والزواج الشرعی

لو جاز لكلّ انسان اقامة علاقات جنسیة مع أی فرد من الجنس المقابل لتضعضع بناء الاُسرة وفات ما یترتّب علیها من مصالح كثیرة، ولذا یلزم ـ حرصا على هذه المصالح ودفعاً للمفاسد الناجمة عن الإباحیة الجنسیة ـ تسلیم جمیع أفراد المجتمع لهذه القیود المعقولة والمنطقیة.

والإطار العامّ للقیود الاجتماعیة للغریزة الجنسیة عبارة عن الزواج القانونی والشرعی، فیجب تأطیر الغریزة والعلاقة الجنسیة بهذا الإطار كی لا تتعارض مع مصالح الإنسان الأخرى. أمّا شروط الزواج الشرعی اللازم رعایتها فی الزواج فإنّ القانون الالهی هو الذی یحدّدها لانّنا لا نعرف جمیعها بالضبط. ولكنْ بنحو مجمل نقول: حینما یتعارض إشباع هذا المیل الطبیعی مع المصالح الاجتماعیة للانسان فلابدّ أن یُقیَّد بعدم التعارض مع تلك المصالح وأن یكون منسجماً معها. هذا الإطار هو الزواج القانونی، فإذا تجاوز السلوك الجنسی للانسان هذا الحدّ فانّه سیكون ذا قیمة سلبیّة، وقد عبّر القرآن الكریم عنه بـ (العدوان)، قال تعالى:

وَالَّذِینَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَیْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَیْرُ مَلُومِینَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ7.

ثمّ إنّه قد لا یكون هناك إشكال فی أصل الزواج، ولكنّ بعض الحالات والأعراض تكون منشأ للقیمة السلبیّة، وللاطلاع التفصیلی على هذه الموارد ینبغی مراجعة كتب الفقه.

خلاصة وفذلكة

النتیجه: انّ إشباع هذه الغریزة لا یكون ذا قیمة سلبیّة إذا تمت رعایة ثلاثة أنواع من القیود:

أولاً: القیود التی تشیر إلیها الفطرة وهی أنّ هذه العلاقة یجب أن تنحصر بالجنس المقابل.

ثانیاً: القیود التی تقتضیها المصالح الاجتماعیة العامّة لجمیع الأفراد فی جمیع الظروف ویلزم رعایتها من قبل الجمیع فی قوانین الزواج، وقامت الشریعة المقدسة بتبیانها.

ثالثاً: القیود التی تتّجه إلى الزوجین فی موارد استثنائیة وحالات خاصّة، فتضیق علاقاتهما الزوجیة بنحو مّا.

إذا التفت الإنسان إلى هذه القیود ورعاها وطبّقها فی ممارسة الغریزة الجنسیة فلا یكون التذاذه ذا قیمة سلبیّة ولا یُلام علیه، وقد أمضاه الله عزّوجلّ فی موردین بعبارة:

وَالَّذِینَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَیْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَیْرُ مَلُومِینَ8.

كما یستفاد من آیات قرآنیة اُخرى فی الجملة انّ الزواج غیر ممنوع ولا یتصف بقیمة أخلاقیة سلبیّة، كالآیة:

فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً9.

وهناك حدیث عن أحكام الزواج والطلاق فی آیات وموارد اُخرى من القرآن الكریم بمناسبات مختلفة، ومن الطبیعی أن تدل هذه الآیات بنحو ضمنی على إباحة أصل الزواج أیضاً.

القیم الأخلاقیة فی الزواج

حسب الأصول العامّة التی استنتجناها من القرآن الكریم تكون القیم الإیجابیة فی الفعل الأخلاقی تابعة للدوافع التی تبعث الإنسان لممارسته. انّ أعمالنا كلّما قوی ارتباطها ـ من خلال دوافعها ـ مع الله تعالى وكانت أكثر ارتضاءً عنده، كانت محبّذة بنحو أكبر وذات قیمة أسمى، وعلى العكس كلّما أُنجزت ارضاء للنفس وبتأثیر من الدوافع النفسیة كانت قیمتها أقلّ.

إذا فكّر الإنسان بأنّ الحكمة الإلهیة تقتضی استمرار النوع الإنسانی فی الأرض عن طریق الزواج، وكان هذا الفكر هو الدافع لزواجه وانتخابه الزوج كان زواجه ذا قیمة إیجابیّة قطعاً، لأنّه قد جعل إرادته تابعة لارادة الله عزّوجلّ، وأقدم على هذا العمل لأجل أنّ الله تعالى أراده.

انّ قصد الطاعة لله واتّباع الإرادة الإلهیة ذو مراتب طبعاً، ویتفرّع على مدى الاخلاص فی الداعی الرئیسی والنیة الشخصیة: هل كان دافعه فی أداء العمل هو الاخلاص ومحض رضا الله عزّوجلّ، أو كان للأجر والثواب الاُخروی دور فی عزمه على العمل، أو انّ دافعه كان محض الأجر والثواب الاُخروی ولیس شیئاً آخر، أو الخوف من العقاب وخشیة التلوث بالمعصیة هو الذی دفعه للزواج؟

فی أغلب الأشخاص لا ینحصر الدافع فی أداء أعمالهم طبعاً فی اتّباع الإرادة الإلهیة بحیث لا یلاحظون أبداً لذتهم، ولكنّ نفس رعایتهم للحدود القانونیة وتحدید أنفسهم فی هذا الإطار المحدود وعدم تجاوزه یحتاج ـ فی ذاته ـ إلى دافع إلهی، ولكنْ ینبغی الالتفات إلى هذه الحقیقة وهی أن أساس القیمة الإیجابیة لكلّ عمل، وهكذا الزواج وهو ما نبحث عنه، یتوقف إلى درجة كبیرة على درجة الاخلاص فی نیة الإنسان.

لو استطاع شخص أن یخلص فی نیته بحیث یكون الدافع المهیمن علیه هو نیل رضا الله عزّوجلّ، وتكون اللذائذ الدنیویة تحت هیمنته وفی طریق ذلك الدافع الإلهی تماماً فإنّ عمله سوف یحظى بدرجة سامیة من القیمة الأخلاقیة طبعاً، وتختص هذه المرتبة بأولیاء الله والذین بلغوا مراتب عالیة فی المعرفة والتوحید. أجل، انّهم وحدهم یمكن أن یكون لهم مثل هذا الدافع فی أعمالهم، والمؤمنون من الدرجة الوسطى لا ینالون هذه الدرجة من الاخلاص عادة.

وهكذا إذا كانت رعایة الحدود الإلهیة بهدف كسب الثواب، فإنّ الأعمال المنجزة بهذا الدافع تكون ذات قیمة أخلاقیة عالیة نسبیاً، وهكذا إذا أنجزت الأعمال ذات العلاقة بالمیول الجنسیة بدافع الخوف من الوقوع فی المعصیة التی تستتبع العقاب الإلهی، سواء أكان ذلك فی أصل الزواج أو بعد الزواج وفی العلاقة الزوجیة واللذائذ المختلفة المترتّبة على الزواج. على أیّ حال، إذا كان دافع الإنسان هو الاحتراز من المعصیة كان ذا قیمة إیجابیّة أیضاً، ویكتسب عمل الإنسان فی جمیع الموارد المذكورة مهما كان ـ حتّى الزواج ـ مسحة عبادیة.

ولكنْ إذا كان دافع الإنسان للزواج هو الالتذاذ فحسبُ فإنّ عمله یفقد القیمة الإیجابیة وإنْ لم یكن له فی ذاته قیمة سلبیّة، الاّ بالنسبة لذوی الدرجات العالیة من المعرفة والتوحید، إذ إنّ الالتفات إلى اللذائذ الشخصیة یقلل من شأنهم ومقامهم ومرتبتهم، ولكنْ من الناحیة القانونیة والشرعیة وما یعرض على عامّة الناس هو أنّ رعایه ظاهر الأحكام الإلهیة إذا كانت بأی دافع فانّها لا تتّصف بالقیمة السلبیّة.

الآیات المتعارضة والجمع بینها

قلنا آنفاً إن المستفاد من الآیات القرآنیة هو أنّ الغریزة واللذة الجنسیة غیر مذمومة فی ذاتها، ولیس لها قیمة سلبیّة، ولكنّ فی بعض الآیات نلاحظ عبارات قد توحی بانّ إشباع هذه الغریزة عمل مذموم.

فقد جاء فی إحدى الآیات:

زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِینَ وَالْقَنَاطِیرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَیْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالاَْنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ10.

فالتعبیر زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ لیس تعبیر ثناء، ویمكن القول أنّه ذمّ خفیف لهؤلاء الأفراد، ولكنْ بقلیل من الدقة یتّضح أنّ ما جاء فی هذه الآیة لا یتعارض أبداً مع ما ذكرناه سابقاً، لانّ هذه الآیة بصدد المقارنة بین شؤون الحیاة الدنیویة ونعمها ولذّاتها وجواذبها وبین النِعم الاُخرویة التی لا نهایة لها، فهی تؤكّد عظمتها وسموّها ولذا تقول الآیة التالیة:

قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَیْر مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِینَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِینَ فِیهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنْ اللهِ وَاللهُ بَصِیرٌ بِالْعِبَادِ11.

وعلیه فإنّ الآیة المذكورة لا ترید القول أنّ إشباع الشهوة والتمتع بالأزواج قبیح ومرفوض مطلقاً، بل نظراً لوجود هذا المیل فی الإنسان بنحو مطلق لا یعرف الحدود قد یكون مكیدة شیطانیة كبیرة وخطیرة على الإنسان، فتجرّه لارتكاب المعصیة ونسیان الآخرة.

قال تعالى فی آیة أخرى:

قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِیرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَیْكُمْ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَاد فِی سَبِیلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى یَأْتِىَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ یَهْدِی الْقَوْمَ الْفَاسِقِینَ12.

تشیر هذه الآیة إلى الذین تكون علاقتهم العاطفیة مع الأزواج والأبناء والآباء واعضاء الاُسرة والاقرباء وحبّ لوازم الحیاة الدنیویة قویة إلى درجة اعتبار المصالح المهمة الاُخرى أمراً ثانویا ومنسیّاً، حتّى انّ هذا الحبّ القلبی یتغلّب على حبّ الله عزّوجلّ، ویصدّهم عن أداء الواجبات، وهذا هو التعارض الذی قلنا أنّه یمثّل ملاكا للقیمة السلبیّة.

صحیح أنّ العواطف بین المرأة وزوجها أمر طبیعی ونعمة أشار إلیها الله سُبحانه بالتعبیر الجمیل وَجَعَلَ بَیْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً وهو ما سنبحث عنه فی فصل العواطف الاّ انّ هذه النعمة ذات حدود لا یجوز تعدّیها إلى درجة إهمال المصالح الرئیسیة والمهمة الأخرى.

انّ العلاقة العاطفیة الأوثق فی الإنسان یجب أن تكون مع الله تعالى، وینبغی أن یهیمن حبّ الله فی قلب الإنسان على أىّ حبّ وتعلّق آخر.

انّ الذین بلغوا مقام التوحید یتعمق حبّ الله فی قلوبهم، ویشتدّ إلى درجة جعل كلّ حبّ آخر فرعیا بالقیاس إلیه، بل إشعاعاً من حبّ الله.

هناك أفراد خواصُّ قد جعل الله عزّوجلّ قلوبهم خالصة له، ولكنّ ذوی الدرجة الوسطى والمؤمنین المتعارفین یجب أن لا یغلب ویهیمن ما فی قلوبهم من حبّ آخر على حبّهم لله تعالى على الأقل.

وأخیراً قال فی آیة ثالثة:

إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ13.

تقصد الآیة الأزواج والأبناء الذین لا یملكون إیماناً كافیا، وتقول بأنهم یعارضونكم حینما تریدون القیام بواجباتكم، وتشاركون فی الجهاد وتضحّون أو تنفقون أموالكم فی سبیل الله، انّ هؤلاء الأزواج والأبناء بمثابة الأعداء لكم فی مثل هذه الأحوال والظروف، إذ انّهم یصدّونكم عن طریق الخیر فعلیكم الحذر منهم حتّى لا یصدّكم حبّهم عن أداء واجباتكم.

ومن أفضل مظاهر التعارض بین موارد الحبّ هو الجهاد، حیث یُعلم أیّ حبّ هو الأقوى فی الإنسان، ففی مورد الجهاد الواجب هل یكون حبّ الزوج والأبناء مانعاً من المشاركة فیه أم لا؟ فانْ كان مانعاً یُعلم أنّ عواطفه بالنسبة إلى زوجه وأبنائه وحبَّه لهم أقوى ویتغلّب على حبّ الله، وستكون هذه حالة خطیرة، ویطلعنا الله عزّوجلّ على هذا الخطر المحدق بنا بعبارة فتربَّصوا حتّى یأتی الله بأمره فی الآیة السابقة.

و على هذا فإنّ الآیات المذكورة التی ظاهرها یعارض ما ذكرنا سابقاً لا تدلّ على أنّ أصل الزواج أو إشباع الغریزة الجنسیة أمر مرفوض وذو قیمة سلبیّة، لانّ الذمّ فی هذه الآیات یرتبط بحالة عرضیة، وهی الحالة التی تتغلّب فیها هذه العواطف على حبّ الله ورسوله، وتصدّ الإنسان عن أداء واجباته، ولولا هذه الحالات العرضیة لم تحدث قیمة سلبیّة فی قضیة الزواج وإشباع الغریزة الجنسیة.

إرشادات قرآنیة فی مجال الغریزة الجنسیة

یدعو عدد من الآیات الناس بصراحة لممارسة الزواج والنكاح كالآیة القائلة:

فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ14.

أو ما جاء فی آیة أخرى:

وأَنكِحُوا الاَْیَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِینَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ یَكُونُوا فُقَرَاءَ یُغْنِهِمْ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِیمٌ * وَلْیَسْتَعْفِفْ الَّذِینَ لاَ یَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى یُغْنِیَهُمْ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ15.

مثل هذه الآیات والروایات الكثیرة تدل على استحباب الزواج وحسنه. وینبغی الالتفات طبعاً إلى أنّ هذا حكم عامّ قد شُرّع على أساس من الحاجة الشاملة والعامّة مع قطع النظر عن الأعراض الخاصّة التی قد تستدعی الإستثناء فی بعض الموارد، ولا یتنافى مع اعتبار هذا العمل (الزواج) واجباً فی بعض الموارد ـ فی ظروف خاصّة بالنسبة لبعض الأفراد ـ أو حراما وممنوعا فی موارد أخرى.

وعدد آخر من الآیات القرآنیة یمنع من الزواج مع بعض النساء لأسباب مختلفة ولحكمة خاصّة فی كلّ مورد، كالآیة:

وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ16.

ثمّ یحكم:

إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِیل17.

وجاء بعد هذه الآیة:

حُرِّمَتْ عَلَیْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الاَْخِ وَبَنَاتُ الاُْخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِی أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِی فِی حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِی دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَیْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِینَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وأَنْ تَجْمَعُوا بَیْنَ الاُْخْتَیْنِ18.

وعقیب هذه الآیة وبعد تحریم الزواج بالمحصنات یقول:

وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ19.

وفی آیة اُخرى نهى عن تزویج المشركات بعبارة وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى یُؤْمِنَّ20 فتخصص الآیة السابقة.

وبعد ذكر النساء اللائی یجوز الزواج بهن فی الآیة السابقة یدعو سُبحانه إلى مراعاة قضایا جدیرة بالاهتمام فیقول:

وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِینَ غَیْرَ مُسَافِحِینَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِیضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَیْكُمْ فِیمَا تَرَاضَیْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِیضَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِیماً حَكِیم21.

هذه الآیة تأذن فی الإستمتاع بالنساء ولكنْ بدون هرج ومرج وإطلاق لعنان الغریزة الجنسیة المنفلتة فی المجتمع، فیترتّب علیها فساد كبیر وجرائم وانحطاط وبوار، بل من خلال الطریق الصحیح للزواج والتعاهد المتبادل فی إطار عقد مقدس دائم أو مؤقت.

نقرأ فی آیة أخرى:

الْیَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّیِّبَاتُ....... وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِینَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَیْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِینَ غَیْرَ مُسَافِحِینَ وَلاَ مُتَّخِذِی أَخْدَان22.

ویعنى اصطلاح اتّخاذ الخِدن العلاقةَ غیرَ الشرعیة بالجنس المخالف، ویشیر إلى التقالید التی كانت سائدة فی الجاهلیة وتسود العالمَ الغربی الیوم أیضاً.

یركّز القرآن الكریم على هذا الموضوع بخصوصه ویستقبح هذه العلاقة كما جاء فی الآیات، كما أنّ هناك آیات عدیدة تنهى الإنسان عن الزنا والفحشاء كقوله تعالى:

وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ23. أو تصدّ عن إشاعة الفحشاء، أو ترغّب الذین ارتكبوا الفحشاء وتلوّثوا بها فی التوبة أو تدعو إلى الصلاة بوصفها مانعاً من الفحشاء، وهی تشكل مجموعة كبیرة من الآیات24.

كما انّ هناك آیات وروایات تدعو إلى الإلتزام بالحجاب واجتناب التعرّی وهذه كلّها ترتبط نوعاً مّا بالغریزة الجنسیة وتبیّن فی الحقیقة الحدود الأخلاقیة لها.

خلاصة وفذلكة

من خلال التدقیق فی الآیات الكریمة یتّضح أنّ جمیع القیم السلبیّة ذات الصلة بهذه الغریزة تعود فی الواقع إلى إحدى الجهات الثلاث التی أوضحناها سابقاً.

إمّا انّ منشأ قبحها وقیمتها السلبیّة هو العلاقة مع الجنس المماثل، وهی تعارض الفطرة، أو انّ منشأ قبحها وقیمتها السلبیّة هو الفساد الاجتماعی وتردّه المصلحة الاجتماعیة، وعلیه من الضروری توضیح حدودها وضمان تنفیذها فی ضوء القوانین والعقود الاجتماعیة، أو انّ منشأ قیمتها السلبیّة هو تعارضها مع الكمالات الروحیة والمعنویة.

انّ ما تذمّه الآیات القرآنیة فیما یرتبط بهذه الغریزة یعود كلّه إلى أحد الانواع الثلاثة للتقیید والحدود التی ذكرناها سابقاً ویكون رعایتها لازما وضروریا، وبرعایتها لا یتّجه ذمّ إلى إشباع الغریزة الجنسیة بل یرغّب فیه، لانّها حاجة فطریة، ویلزم تلبیتها بنحو یتطابق مع المصالح الفردیة والاجتماعیة لكی تتحقّق الغایات الإلهیة التكوینیة، ویحفظ ویستمر النسل البشری فی الأرض.

اللذة الجنسیة فی العالم الآخر

بما أنّ التوالد وتكاثر النسل غیر موجود فی عالم الآخرة فقد یتصور انّ الالتذاذ الجنسی من خصائص هذا العالم، ویهدف إلى بقاء نوع الإنسان فی الأرض فقط، ولا وجود لهذه الغریزة فی عالم الآخرة، ولكنّ هناك آیات قرآنیة كثیرة ظاهرة على الأقل ـ إن لم نقل صریحة ـ فی وجود هذه الغریزة هناك أیضاً.

هناك اختلاف جوهری بین نظام الحیاة الإنسانیة فی العالمین طبعاً، ولا یمكن القول انّ ما هو موجود فی الدنیا موجود بعینه فی الآخرة، بل هناك تشابه بین هذین العالمین، وهناك مفاهیم عامّة قابلة للانطباق على شؤون العالَمین، ولكنْ لا عینیة بینهما فی الجزئیات والخصوصیات.

وبعبارة اُخرى انّ التعابیر المستعملة ومفاهیمها العامّة یمكن أن تشمل المصادیق الدنیویة والاُخرویة، كما یمكن أن یشمل التعبیران العامّان:(الأكل) و(الشرب) المصداقین: الدنیوی والاُخروی.

انّ عملیة الأكل والشرب موجودة فی الدنیا وهكذا فی الآخرة حیث توجد فی الجنة والنار، ولكنْ قد لا یكون الأكل والشرب فی الآخرة عین الأكل والشرب هنا، ولیس فیهما مراحل الهضم والإمتصاص والدفع، ولكنْ على أىّ حال، فإنّ مفهومی الأكل والشرب یصدقان علیهما كلیهما.

كما توجد فی مورد الزواج والغریزة الجنسیة تعبیرات فی القرآن الكریم تبشّر المؤمنین بـ (أزواج مطهرة)، ومنه یُعلم وجود الالتذاذ بالزوج فی ذلك العالم أیضاً، بنحو تنطبق فیه التعابیر والمفاهیم العامّة ذات العلاقة بهذه الغریزة على مصادیق ذلك العالم أیضاً.

یمكن تقسیم التعبیر القرآنی المتلائم مع هذا المجال إلى ثلاث مجموعات تقریبا:

تتضمّن مجموعة من الآیات تعابیر تتحدّث عن وجود أزواج مطهرة للمؤمنین فی الجنة، ولكنْ لا یُعلم هل انّ أزواج الجنة هنّ أزواجهم فی الدنیا أو غیرهن؟ وهل هنّ من قبیل البشر ویصبحن أزواجا للمؤمنین أو انّهن من نوع آخر، كهذه الآیات:

وَلَهُمْ فِیهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِیهَا خَالِدُونَ25.

لِلَّذِینَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِینَ فِیهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنْ اللهِ وَاللهُ بَصِیرٌ بِالْعِبَادِ26.

لَهُمْ فِیهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلّاً ظَلِیل27.

ومجموعة اُخرى من الآیات تتحدّث تعابیرها عن أنّ المؤمنین فی الجنة یصبحون أزواجاً لأزواجهم فی الدنیا أیضاً، كالآیة:

جَنَّاتُ عَدْن یَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّیَّاتِهِمْ وَالْمَلاَئِكَةُ یَدْخُلُونَ عَلَیْهِمْ مِنْ كُلِّ بَاب28]رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْن الَّتِی وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّیَّاتِهِمْ.).

وعلیه فإنّ أزواج المؤمنین إنْ كنّ صالحات فانّهن یدخلن الجنة معهم ویتمتعن بنِعم الجنه ومصاحبة أزواجهن.

وكالآیة:هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِی ظِلاَل عَلَى الاَْرَائِكِ مُتَّكِئُونَ29.

وكالآیة:ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ30.

وعلیه فإنّ من وعود القرآن للمؤمنین والنساء المؤمنات فی هذه الآیات هو الاقتران بازواجهم فی الجنة أیضاً.

وتضمّنت المجموعة الثالثة من الآیات القرآنیة تعابیر تتحدّث عن أنّ أزواج أهل الجنة لا تنحصر فی أزواج الدنیا، بل هناك نوع آخر من المخلوقات الإلهیة یعرفن بـ (الحور العین).

فی هذا المجال نلاحظ عدداً أكبر من الآیات القرآنیة نظیر:

1 ـ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِینٌ * كَأَنَّهُنَّ بَیْضٌ مَكْنُونٌ31.

2 ـ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ32.

3 ـ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُور عِین33.

4 ـ فِیهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ یَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ....... كَأَنَّهُنَّ الْیَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ34.

5 ـ فِیهِنَّ خَیْرَاتٌ حِسَانٌ .......حُوْرٌ مَقْصُورَاتٌ فِی الْخِیَامِ......لَمْ یَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ35.

6 ـ وَحُورٌ عِینٌ * كَأمْثَالِ اللُؤْلُؤِالْمَكْنُونِ36.

7 ـ وَفُرُش مَرْفُوعَة * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لاَِصْحَابِ الْیَمِینِ37.

وَكَوَاعِبَ أَتْرَاب38.

یستفاد من مجموع الآیات ذات الصلة والتی قسمناها إلى ثلاث مجموعات أولاً: انّ اللذة الجنسیة موجودة فی الجنة أیضاً، وثانیاً: إنّ لذة المؤمنین هذه تكون مع أزواجهم المؤمنات فی الدنیا، وهكذا الحور العین والموجودات والمخلوقات التی یخلقها الله عزّوجلّ لهم فی غایة الحُسن والجمال.

فیستنتج أنّ المیل الجنسی لا یختص بعالم الدنیا والنشأة المادیة، و أنّ هذا المیل أمر انسانی ثابت ومن الأبعاد الوجودیة للانسان، ویستثمر فی الدنیا بهدف تحقیق مصالح هذا العالم وبقاء النسل البشری فی الأرض، كما یستثمر المیل إلى الأكل والشرب فی الدنیا لحفظ وجود الإنسان وبقائه وسلامته. والمَیلان المذكوران یوجدان فی عالم الآخرة أیضاً ویكونان منشأ لالتذاذ الإنسان واستمتاعه فی الجنة، ولكنْ لیس بهدف النمو الجسمی أو تكاثر النسل قطعاً، بل المراد والمقصود هو أصل الالتذاذ من الأزواج والتجلّی الإلهی فیهن.


1 النساء 1.

2 الأعراف 189.

3 الروم 21.

4 الشعراء 166.

5 الأعراف 80 و 81.

6

7 المؤمنون 5 ـ 7.

8 المؤمنون 5 و 6.

9 النساء 3.

10 آل عمران 14.

11 آل عمران 15.

12 التوبة 24.

13 التغابن 14.

14 النساء 3.

15 النور 32 و 33.

16 النساء 22.

17 النساء 22.

18 النساء 23.

19 النساء 24.

20 البقرة 221.

21 النساء 24.

22 المائدة 5.

23 الأنعام 151.

24 كالآیات: النور 19 / آل عمران 135 / العنكبوت 45 / البقرة 169 و268 / الأعراف 28 و 80 / یوسف 24 / النحل 90 / النور 21 / النساء 15 و 22 و 25 / النمل 54 / العنكبوت 28 / الأحزاب 30 / الطلاق 1 / الأعراف 33 / الشورى 37 / النور 4 و 23.

25 البقرة 25.

26 آل عمران 15.

27 النساء 57.

28 الرعد 23 وهكذا نظیرها الآیة 8 من سورة غافر

29 یس 56.

30 الزخرف 70.

31 الصافات 48 و 49.

32 ص 52.

33 الدخان 54 والطور 20.

34 الرحمن 56 ـ 58.

35 الرحمن 70 ـ 74.

36 الواقعة 22و23.

37 الواقعة 34 ـ 38.

38 النبأ 33.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...