ar_akhlag2-ch3_4.htm

الملبس والمسكن والمركب

الملبس والمسكن والمركب

إلى جانب المیل الجنسی والمیل إلى الأكل والشرب توجد متطلَّبات جسمیة اُخرى لدى الإنسان فی هذا العالم، وبتوفیرها یشعر بلذة خاصّة.

فالإنسان فی المناخ البارد یحتاج إلى المكان والمناخ الدافىء، وفی المناخ الحار یحتاج إلى المكان البارد والمناخ الملائم للطبع، وبصورة عامّة هو بحاجة إلى مسكن ومأوى یقیه ویحفظه من البرد والحر والآفات والأخطار الأخرى، ومن الطبیعی أن تتحقّق له أنواع خاصّة من اللذة بتوفیر هذه المتطلَّبات، الاّ انّ هذا النوع من المتطلَّبات ـ بالقیاس إلى شعوره بالحاجة إلى الأكل والشرب والجنس المقابل ـ یحظى بأهمّیة أدنى وتأتی فی الدرجة الثانیة من الأهمیة بالقیاس إلیها.

الملبس والمسكن فی القرآن

فیما یخص هذا النوع من المتطلَّبات الإنسانیة قامت آیات قرآنیة بملاحظتها، وذكّرت بنِعم الله عزّوجلّ بهذا الشأن. وإنْ كانت سعة الآیات ذات الصلة بالملبس والمسكن ـ بما یتناسب مع درجة أهمّیة هذه المتطلَّبات بالقیاس إلى المتطلَّبات الغذائیة والجنسیة ـ لیست كسعة الآیات المرتبطة بالمتطلَّبات الجنسیة والغذائیة.

فی آیتین من سورة النحل یذكر الله تعالى نعمه فی مجال الملبس والمسكن، فیقول فی موضع:

وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُیُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الاَْنْعَامِ بُیُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا یَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَیَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِین1.

فی هذه الآیة أشار سُبحانه وتعالى أولاً إلى المسكن، وذلك بأنّ الله قد یسّر لكم بیوتا لتسدّ حاجتكم إلى المسكن ومحل السكنى والسكینة.

الأسلوب القرآنی هذا معروف، وهو ارجاع نِعم العالم كافة إلى الله تعالى وإسنادها إلیه بتعابیر مختلفة، نظیر الخلق والجعل الوارد فی هذه الآیة لكی یجذبنا وأفكارنا ـ عبر هذا الطریق ـ نحو التوحید الأفعالی.

فما یمتلكه الإنسان من دار للسكنى وإنْ كان قد بناه بجهوده فإنّ الله عزّوجلّ هو الخالق لها لانّ جمیع المقدمات والمعدّات ووسائل البناء، بل والقدرات والطاقات والإدراك والمعرفة والتخصص المعمول به وإنْ أُنجز من قِبله أو الآخرین فی عملیة البناء لكنّها تنتهی فی واقعها إلى الله عزّوجلّ، سواء أكانت بیوتا وأبنیة تمّ تشییدها فی المدن، أو خیاماً یستعملها البدو والقبائل وغیرهم حال ترحالهم.

أجل، انّهم یصنعون من الجلود خیاماً ومأوى یستفاد منها بیُسر عند السفر أو الحضر. وبما انّها خفیفة الوزن وسهلة النقل فهم ینصبونها ویجمعونها بسهولة ویستفیدون منها جیّداً.

ثمّ یذكر أنّ الله تعالى یجعل لكم من صوف الحیوانات ووبرها وشعرها الملابس ولوازم الحیاة، ثمّ یتبع الآیة بقوله:

وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلاَلا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِیلَ تَقِیكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِیلَ تَقِیكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ یُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَیْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ2.

فی هذه الآیة یشیر الله سُبحانه إلى كهوف الجبال التی یمكن اتخاذها سكنا ومأوى. هذه الأمور لا تهمّنا نحن الذین نعیش فی المدینة وفی بیوت جمیلة وعمارات عصریة مؤثثة بفضل ما حصل من تقدم فی بناء المدن، ولكنْ بالنسبة للبدو المتنقلین فی الصحارى، أو الذین لم یمتلكوا بعدُ مثل هذه الأبنیة والعمارات وهذا النوع من المدن وبنائها والسكن فیها فإنّ هذه الكهوف والمساكن الطبیعیة والملاجىء تحظى بأهمّیة بالغة.

وهكذا تشیر إلى الألبسة التی سخّرها الله لكم كی تقیكم الحر، وقال المفسرون أنّ البرد مقصود هنا أیضاً، فالمراد الواقعی هو وجعل لكم سرابیل تقیكم الحر والبرد، و(البرد) وهو عِدل (الحر) محذوف هنا الاّ انّ معناه مقصود.

ثمّ یشیر الله تعالى إلى الألبسة التی جعلها لكم لتصونكم من الأخطار، وإلى انّ الألبسة التی تلبسونها فی الحرب نظیر (الدروع) لكی تقی رؤوسكم وأجسامكم من الأخطار والإصابات ـ إلى حدّ ـ أمام ضربات الآلیات والأجهزة الحربیة لدى العدوّ وهجماته. هكذا أسبغ الله سُبحانه نعمه لكی تقبلوا الإسلام وتسلّموا لأوامره.

وقد تحدّث الله عزّوجلّ عن الملبس فی آیتین من القرآن، جاء فی إحداهما:

یَا بَنِی آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَیْكُمْ لِبَاساً یُوَارِی سَوْآتِكُمْ وَرِیشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَیْرٌ3.

لیس المقصود فی الآیة طبعاً أنّ الله ینزّل علیكم ملابس مخیطة وجاهزة وقمصاناً وثیاباً كاملة، بل كما قلنا آنفا فی الرؤیة القرآنیة أنّ جمیع ما یحدث فی العالم بفعل القوى الموجودة فی الطبیعة أو تصنعه ید الإنسان هو نازل من الخزائن الإلهیة، وقد أوضح الله عزّوجلّ هذه الحقیقة فی إحدى الآیات القرآنیة بایجاز وبیان بلیغ وصریح بقوله:

وإنْ مِنْ شَیْء إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَر مَعْلُوم4.

أجل، إنّ كلّ ما یوجد فی هذا العالم یتنزّل من عالم علوی لیتحقّق فی هذا العالم المادی والجسمانی، وعلیه انّ المقصود من عبارة وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَر مَعْلُوم لیس النزول الجسمی أو المكانی، بل التحقّق والتجسید والخلق فی هذا العالم. إذنْ كلّ ما تلبسونه قد خلقه الله تعالى ونَزل من قِبله.

وقال فی الآیة الثانیة:

وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوس لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ5.

الملبس والمسكن فی العالم الآخر

الأصل فی المسكن والملبس فی الدنیا هو تلبیة المتطلَّبات الأوّلیة للانسان، وإذا لم یظفر بهما فانّه یعجز عن المحافظة على سلامته تجاه البرد والحر والأخطار والآفات الجویة وأمثالها، وفی بعض الموارد یقترن بها أهداف اُخرى كالتزیّن والتجمّل من ارتداء الملابس.

ولكنّ الالتذاذ والانتفاع بالملابس لا یختص بالدنیا، بل یوفّر الله عزّوجلّ للمؤمن فی عالم الآخرة الثیاب الجمیلة والفاخرة، وهكذا المسكن والمأوى الجید والمحبّب، والآیات القرآنیة تشهد لهذه الحقیقة فی بعض الموارد.

ففی آیتین من الآیات القرآنیة وعد الله سُبحانه المؤمنین بأن یجعل لهم مساكن ومواطن طیبة فی الجنة، واستعمل فیهما لفظ (مسكن) ویختلف ذلك بشكل واضح عن الآیات الكثیرة التی استعمل فیها لفظ (الجنة) فیقول فی الآیتین:

وَمَسَاكِنَ طَیِّبَةً فِی جَنَّاتِ عَدْن6.

فی هاتین الآیتین استعمل لفظ (مساكن) وهكذا لفظ (عدن) ویعنی موطن الاقامة ومحل الحیاة إلى جانب التعبیر بـ (جنات) المستعمل فی آیات عدیدة.

وجاء فی عدة آیات أنّ أهل الجنة یلبسون ثیاباً جمیلة، وعبّر عن هذه الحقیقة بتعابیر مختلفة، فقد قال فی موضع:

وَیَلْبَسُونَ ثِیَاباً خُضْراً مِنْ سُندُس وَإِسْتَبْرَق7.

وقال فی موضع آخر:

یَلْبَسُونَ مِنْ سُندُس وَإِسْتَبْرَق مُتَقَابِلِینَ8.

وقال فی موضع آخر:

عَالِیَهُمْ ثِیَابُ سُندُس خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ9.

من مجموع الآیات المذكورة یمكن استنتاج أنّ استعمال الملابس والمسكن فی هذا العالم وهكذا عالم الآخرة قد تمّ تقدیره مسبقاً، والالتذاذ بذلك كسائر الالتذاذات الاُخرى ذو حیثیة فطریة. وقد خلق الله عزّوجلّ الإنسان بنحو یشعر بها وباللذة لدى تلبیتها، وعلى العكس إذا لم یحقّق رغباته هذه ولم یجد ما یحتاجه فانّه یحزن ویتألم، ولذة الإنسان وألمه فی الواقع أثران طبیعیان لوجود هذه النِعم والأشیاء التی یحتاجها وعدمِها.

القیمة الأخلاقیة للملبس والمسكن

نظراً لكون الحاجة إلى الملبس والمسكن ـ كما قلنا سابقاً ـ أمراً فطریا وطبیعیا فی الإنسان فانّها فی ذاتها لیست ذات قیمة إیجابیّة أو سلبیّة، بل ترجع قیمتها إلى ما یرتبط بها من كمیة وكیفیة وجهة استعمالها.

فی نطاق الأخلاق والقیم یدور الحدیث حول كمیة الانتفاع، والسؤال: إلى أی درجة ینبغی الاهتمام بالملبس والمسكن؟ فی الإجابة ینبغی القول: انّ الكمیة التی ترفع حاجة الإنسان للملبس والمسكن لا قیمة سلبیّة لها قطعاً.

وقد أوضحنا فی الماضی: بصورة عامّة انّ أصل اللذة فی كلّ لذة من لذّات الإنسان لیس لها قیمة سلبیّة أو إیجابیّة یقیناً. وهی (مباحة) فقهیاً، ولكنْ إذا كان حبّ الملبس والمسكن مانعاً للانسان من تحصیل سائر الكمالات فإنّ الأعمال التی تصدر منه استناداً إلى هذا الحبّ المفرط تصبح ذات قیمة سلبیّة.

من هنا تلاحظون أنّ القرآن بیّن بعض موارد التعارض وقیمتها السلبیّة فی بعض الآیات:

قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِیرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَیْكُمْ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَاد فِی سَبِیلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى یَأْتِىَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ یَهْدِی الْقَوْمَ الْفَاسِقِینَ10.

ففی حالة وقوف الإنسان فی مفترق طریقین: إمّا أن یحتفظ بمسكنه المحبّب لدیه أو یؤدی تكلیفه الإلهی، فإذا كان حبّ المسكن مانعاً من اهتمام الإنسان بالجهاد أو القیام بسائر تكالیفه أصبح هذا الحبّ مُفرطاً وذا قیمة سلبیّة، لأنّه سیعارض كمالاً أفضل من كمالات الإنسان، ولكنْ إذا لم یتعارض مع شأن من شؤونه الفردیة ومصالحه الاجتماعیة كان الالتذاذ به مشروعاً ومنزّها من القیمة السلبیّة.

وعلیه یمكن القول أنّ لذة الملبس والمسكن تتضیق بلحاظ إحدى جهتین عرضیتین: إمّا من جهة طریق تحصیل المسكن، فالواجب أن یكون طریق اكتسابه مشروعاً وبمال حلال لا من طریق محرّم، أو من جهة تعارضها مع شؤون الإنسان وكمالاته الاُخرى حیث لا ینبغی أن یتحوّل حبّه للمسكن إلى حائل یمنعه من تحصیل سائر الكمالات، وفی مثل هاتین الحالتین یكون هذا الحبّ وآثاره وظواهره السلوكیة ذا قیمة سلبیّة.

القیمة الأخلاقیة لانتخاب المسكن

انّ أساس القیمة الإیجابیة فی كلّ التذاذ وجهد مبذول لتوفیر الملبس والمسكن هو كسائر المیول أیضاً حیث یتوقف على نیة الإنسان ودافعه. فإذا كان الهدف من توفیر المسكن والملبس ذا ارتباط ـ بنحو من الانحاء ـ بالله والكمالات المعنویة للانسان كان الجهد المبذول لأجل ذلك ذا قیمة إیجابیّة واكتسب لونا عبادیا.

كأن یكون الهدف من توفیر المسكن هو تحقیق المزید من السكینة للأسرة والأهل والعیال لیتمكّنوا من إدامة سیرهم التكاملیّ من طریق عبادة الله وإطاعته، أو یكون الهدف الاحسان للآخرین، فإنّ مثل هذه الدوافع تستدعی أن یكون توفیر المسكن وكلّ جهد من أجله ذا قیمة أخلاقیة إیجابیّة.

إلى جانب ما قلنا آنفا یمكن أن یكتسب الجهد لتوفیر الملبس والمسكن فی بعض الموارد وتحت عناوین ثانویة قیمةً إیجابیّة، فمثلاً فی بعض الظروف الاجتماعیة الخاصّة یكون ارتداء الثیاب الفاخرة حاكیا عن الشخصیة والكرامة، أو یكون امتلاك المسكن الجید والوسیع منشأ للانطباع الاجتماعی الإیجابی عن صاحبه، وبالتالی یكون باعثاً على انتشار الإسلام وعزة المسلمین واهتمام الناس بالدین وبالله سُبحانه، فی مثل هذه الظروف یمكن أن یكتسب الجهد وتوفیر الملبس والمسكن الجید ـ تحت عنوان ثانوی وعلى أساس هذا الدافع الإلهی والمعنوی ـ قیمة أخلاقیة إیجابیّة بشرط أن تكون الظروف الاجتماعیة كما وصفنا أولاً، وأن یكون دافع الإنسان فی توفیر المسكن والملبس الجید دافعاً إلهیاً ثانیاً.

من هنا نرى من اللازم التذكیر بهذه الملاحظة وهی أنّه فی موارد كثیرة یخدع الكثیر أنفسهم والناس، وهم غالباً یضمرون دوافعهم المشوبة بأهوائهم النفسیة تحت مثل هذا الغطاء لتبریر أعمالهم وسلوكهم أمام أنظار الأمة الملتزمة والمؤمنة بالله تعالى. من هنا تكون لهم أوضاع وأحوال معقدة. على أىّ حال، إذا كان لهم ـ كما قلنا ـ مثل هذه الدوافع حقّاً فإنّ عملهم یكتسب قیمة أخلاقیة إیجابیّة.

یقول القرآن إنّ النبی سلیمان(علیه السلام) كان له قصر زجاجی وحینما دخلته بلقیس حسبت وجود ماء هناك، قال تعالى:

قِیلَ لَهَا ادْخُلِی الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَیْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِیرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّی ظَلَمْتُ نَفْسِی وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَیْمَانَ للهِِ رَبِّ الْعَالَمِینَ11.

فقال لها المرافقون الذین عرفوا أنها على خطأ: لا وجود للماء هنا بل انّه قصر ممرَّد من قواریر.

ولما شاهدت هذه العظمة الظاهریة خضعت لمقام سلیمان(علیه السلام) وعظمته المعنویة وأسلمت. إنّ ما صنعه سلیمان(علیه السلام) كان من أجل جلالة الإسلام وعظمته أمام الكفر، إذ كان مستوى الرؤیة الاجتماعیة آنئذ هو الاعتقاد بأنّ المؤمنین الفاقدین للنِعم الدنیویة هم أناس منحطّون ومتخلفون، وإذا كان جهاز الحكومة الإسلامیة بسیطاً ومن دون زخرفة فإنّ ذلك یجعل ذوی المستوى الثقافی الدانی لا ینجذبون نحو الإسلام والدین الحقّ. أجل، انّ أكثر الناس فی تأریخ الحیاة البشریة ابتُلوا ویُبتلون بمثل هذه النظرة السطحیة، وحسب الاصطلاح المعروف: إنّ عقولهم فی أعینهم، حتّى الكثیر من المؤمنین یتأثّرون بشدة بهذه العظمة الظاهریة والمرئیات والمسموعات، ویعجزون عن تقییم الأمور بدقة وعقل ودرایة كافیة.

رغم رقیّ المستوى الثقافی نسبیا لدى عموم الناس فی هذا العصر فانّهم یتبجّحون بما فی البلدان المتقدمة من صناعة وتكنولوجیا وتقدم ظاهر ومحسوس عند تقییم عقیدة الشعوب وأفكارها وأدیانها ویقولون: لو كان دینها خاطئاً فكیف تقدمت صناعیا واقتصادیا إلى هذه الدرجة؟!

مثل هذه النظرة السطحیة والظاهریة كانت سائدة بشكل أوضح فی عصر النبی سلیمان(علیه السلام) وكانت العظمة والجلالة الظاهریة سبباً لركون عموم الناس إلى مسلك خاصّ ونظام اجتماعی ومجتمع ما. من هنا دعا النبی سلیمان(علیه السلام) ربه بأن یمنّ علیه بقصر ملكی فخم لا نظیر له عند شخص آخر12]قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِی وَهَبْ لِی مُلْكاً لاَ یَنْبَغِی لاَِحَد مِنْ بَعْدِی إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّیحَ تَجْرِی بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَیْثُ أَصَابَ * وَالشَّیَاطِینَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاص * وَآخَرِینَ مُقَرَّنِینَ فِی الاَْصْفَادِ*هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْأَمْسِكْ بِغَیْرِحِسَاب * وإنّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبص35ـ40.).

مما ذُكر آنفا نستنتج بصورة عامّة: فی أی مجتمع آخر إذا كان المظهر المتواضع للمسلمین وأهل الحقّ یبعث على أن یراهم الآخرون منحطّین أذلاء فإنّ من واجبهم الاحتفاظ بالجلالة الظاهریة.

فی إحدى الروایات یدعو الإمام(علیه السلام) الشیعة إلى الإلتزام بالجمال الظاهری أمام المناوئین كی لا یبدوا فی منظارهم أناساً متخلفین وعاجزین.

من الواضح انّ الكرامه الواقعیة والكمال الحقیقی للانسان لیسا بهذا الظاهر طبعاً، ولكنْ مع اعتبار مثل هذه القیم الظاهریة لدى مجتمع وشعب یصبح التجمّل والجلالة الظاهریة بالنسبة للمؤمنین بالعنوان الثانوی أمرین محبّذین وذوَی قیمة أخلاقیة ومعنویة.

على المؤمن أن یحافظ على كرامته، وهذا حكم أشیر إلیه فی الروایات، وعلیه أن لا یعیش بنحو یُنظر إلیه بعین الذل ـ خاصّةً فی مجتمع تسوده القیم المادیة وإنْ كان مجتمعا اسلامیا ـ بل بنحو یحفظ له عزته واحترامه فی منظار الآخرین.

فی مثل هذه المجتمعات یغدو ارتداء الثیاب الفاخرة والإلتزام بالجمال الظاهری ـ فی إطار العناوین الثانویة من النوع الذی أشرنا إلیه آنفا، وعلى أساس من الدوافع الإلهیة والمعنویة التی أوضحناها فی هذا المجال ـ أمراً محبّذاً وقیّماً فی المنظار الأخلاقی.

أمّا فی مجتمع تسوده القیم المعنویة بنحو كامل وتُرفض القیم المادیة فانّه لا مجال للحدیث عن مثل هذه الأمور ورعایة تلك الظواهر طبعاً، ولا یكون لمثل هذه الجلالة الظاهرة ـ باسم تلك العناوین الثانویة وعلى أساس تلك الدوافع التی أشرنا إلیها ـ قیمة إیجابیّة وحُسن أخلاقی.

من هنا یمكن القول: انّ القیم المتعلّقة بهذه المیول ستتغیّر وتتبدل إلى حدّ ما، أی فی بعض الظروف الاجتماعیة كلّما كانت العمارة الإسلامیة ذات جلالة وعظمة أكبر كانت محبّبة بنحو أفضل وذات قیمة أكبر، وفی ظروف اجتماعیة اُخرى لا تكون الجلالة والعظمة الظاهریة محبّذة أبداً.

ورد فی بعض الروایات انّه إذا أصبحت العمارة فی عصر ظهور الإمام الحجة(علیه السلام)أعلى من حدّ معین أو مزّینة بالذهب فانّه(علیه السلام) یأمر بهدمها حتّى وإنْ كانت مسجدا.

هذه الروایة تبیّن أجواء اجتماعیة خاصّةً لمجتمع تسوده القیم المعنویة إلى درجة عدم فسح المجال لهذه العناوین الثانویة. أمّا فی المجتمعات المعاصرة التی لم تمتلك بعدُ الرؤیة المعنویة الخالصة، والثقافة الإسلامیة للمجتمعات الدینیة والإسلامیة مشوبة بالثقافة المادیة إلى حدّ ما، فإنّ وجود بعض حالات التزیّن أمر محبّذ وقیّم للمسلمین فی المجتمع الإسلامی حتّى لا یكونوا أذلاء لا قیمة لهم فی منظار الآخرین، ویحظى النظام الإسلامی بالعزة والقوة والجلال والعظمة.

انتخاب المركب

هناك نعمة اُخرى من النِعم التی یركّز علیها القرآن الكریم هی (المركب)، فالإنسان یحتاج إلى مركب كی یتنقل أو یسافر من مكان إلى آخر لیصل إلى مقصده بنحو أسرع دون تعب وتخلف فی أداء أعماله، وهناك موارد یعجز فیها عن الوصول إلى المحل المقصود بدون مركب، كمن یعزم على السفر إلى جزیرة فی البحر أو إلى الجانب الثانی من البحر للعمل أو ضرورة حیاتیة.

فیحتاج الإنسان فی كلّ الأحوال ـ براً وبحراً ـ إلى مركب كی تتحسن أوضاع معیشته وتدور بنحو أفضل وترفع حوائجه بصورة أسرع.

القرآن والمركب

یذكّر الله عزّوجلّ بنعمة المركب لدى بیانه النِعم التی تفضّل بها على الإنسان فی عدد من الآیات.

وقد كانت المراكب الاُولى التی یستخدمها الإنسان هی الحیوانات من قبیل البقر والجمل والحمار والفرس والبغل، كان یستخدمها فی أسفاره وتنقلاته على الأرض الیابسة. ولكنْ للسفر عبر البحار لم توجد مراكب طبیعیة فاضطرته الحاجة إلى صناعة المراكب البحریة والسفن لكی یسد حاجته بیده.

ورغم هذا الفارق الواضح بین المراكب الطبیعیة كالفرس والبغل وبین المراكب المصنوعة بید البشر كالفلك والسفینة فإنّ الله سُبحانه یسند خلقها إلیه، ولو كان من المقرر نزول القرآن الكریم فی هذا العصر لأسند إلیه صناعة الوسائل المتطورة فی هذا العصر كالطائرات والسفن وغیرها من وسائل النقل الضخمة والمتطورة وعملیات النقل الشائعة فی هذا العصر أیضاً، ولقال: انّا خلقنا لكم الطائرات وهكذا مركبات الفضاء، لانّ الملاك فی جمیعها واحد. المقصود هو ملاحظة إسناد جمیع الموجودات إلى الله تعالى وأن یكون التفات البشر وتوجُّهه إلیه دائما وفی كلّ مكان، إذْ انّه المنشأ والمبدأ لكلّ النِعم مآلاً.

یقول تعالى فی إحدى الآیات:

وَمِنْ الاَْنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْش13.

لقد جعل لكم بعض الحیوانات مراكب لنقل الأثقال لتحمل لكم وسائل الحیاة، كما جعل البعض الآخر مراكب لتنقلكم إلى مختلف الأمكنة.

وجاء فی آیة اُخرى:

اللهُ الَّذِی جَعَلَ لَكُمْ الاَْنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِیهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَیْهَا حَاجَةً فِی صُدُورِكُمْ وَعَلَیْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ14.

وقد تكرّرت عبارة ذیل الآیة وَعَلَیْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ فی آیة أخرى15.

وقال فی مورد: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالاَْنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ16.

وجاء فی مورد آخر: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَد لَمْ تَكُونُوا بَالِغِیهِ إِلاَّ بِشِقِّ الاَْنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِیمٌ * وَالْخَیْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِیرَ لِتَرْكَبُوهَ17.

وقال فی آیة أخرى:

وَآیَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّیَّتَهُمْ فِی الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا یَرْكَبُونَ18.

وجاء فی آیة أخرى: أَوَلَمْ یَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَیْدِینَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا یَأْكُلُونَ19.

لقد أشیر فی الآیات المذكورة ـ بالتعبیرین العامّین (أنعام) و(فلك) ـ بصورة عامّة إلى نوعین من الوسائط الطبیعیة والصناعیة للسفر والنقل، وفی الآیة 8 من سورة النحل وبعبارة والخیل والبغال والحمیر ذكر مصادیق للأنعام التی یمكن استخدامها للركوب والنقل من قبیل الفرس والبغل والحمار حیث انّها تعین الإنسان فی الحمل والنقل والسفر. وقد أشار إلى جمیع المراكب بصورة عامّة فی قوله تعالى:

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِی آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِی الْبَرِّ وَالْبَحْرِ20.

والمقصود انّه سخّر للانسان وسائط الحمل والنقل والركوب فی الیابسة والبحر، وهی المراكب الطبیعیة كالخیل والبغال والحمیر والمراكب الصناعیة كالسفن التی كانت منذ القدم، وهكذا الیوم حیث سخر للانسان وسائط متطورة بریة وجویة وسریعة فی الوقت ذاته، لانّ الملاك فی هذه الوسائط هو ذاته فی السفن، فكما أسند الله تعالى السفینة ـ هذه الواسطة الصناعیة ـ إلیه رغم انّها مصنوعة بید الإنسان لزم بنفس ذلك الملاك إسناد جمیع الأدوات والمعدّات الصناعیة المتطورة المعاصرة إلیه أیضاً.

القیمة الأخلاقیة لاستخدام المركب

انّ استخدام المراكب الطبیعیة وغیر الطبیعیة من جهة تقییمها الأخلاقی هو كاستخدام النِعم الأخرى، أی انّ الإنسان حرٌّ فی استخدام هذه النِعم ـ مالم یتعارض ذلك مع كمالاته الأخرى، ولا یهضم الحقوق الاجتماعیة للآخرین ـ ولا بأس ولا قیمة سلبیّة فی ذلك، وكما قلنا سابقاً فإنّ اللذّات الفطریة ومنها لذة الركوب لیس لها قیمة إیجابیّة ولا سلبیّة، ولكنْ بفعل الدوافع الخاصّة التی تتعلّق بها یمكن أن تكون لها قیمة أخلاقیة إیجابیّة أو سلبیّة .

فمثلاً یكون استخدام شخص المركب بهدف أداء مسؤولیته تجاه أفراد المجتمع بنحو أفضل وأسرع وبنشاط أكبر، أو بهدف إلهی آخر وینتهی دافعه فی ذلك بالله ونیل رضاه، كالجهاد فی سبیل الله، فانّه استخدام قیّم ومحبّذ فی ضوء هدفه السامی، وتتوقف قیمة عمله على قوة هذا الدافع أو ضعفه ودرجة تأثیره على عمله طبعاً.

وبالعكس من ذلك لو أراد شخص أن یستخدم هذه النِعم بدافع التفاخر والتكاثر دون الالتفات إلى حالة الآخرین البائسة والفقر والمجاعة والمشكلات الاجتماعیة الأخرى، ویقوم بتغییر طراز سیارته كلّ فترة لیزهو بها أمام الآخرین باننی أستخدم هذا الطراز المتطور من السیارة أو الطائرة الفلانیة، أجل مثل هذه الدوافع یكون منشأ للقیمة السلبیّة لاستخدام المركب.





1 النحل 80.

2 النحل 81.

3 الأعراف 26.

4 الحجر 21.

5 الانبیاء 80.

6 التوبة 72 والصف 12.

7 الكهف 31.

8 الدخان 53.

9 الدهر 21.

10 التوبة 24.

11 النمل 44.

12

13 الأنعام 142.

14 غافر 79 و 80.

15 المؤمنون 22.

16 الزخرف 12.

17 النحل 7 و 8.

18 یس 41 و 42.

19 یس 71 و 72.

20 الإسراء 70.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...