ar_akhlag2-ch3_5.htm

حبُّ الزینة والجمال

حبُّ الزینة والجمال

ما تمّت ملاحظته ـ لحدّ الآن ـ من میول ومتطلَّبات انسانیة كانت میولاً ومتطلَّبات یعجز الإنسان بدون تلبیتها واشباعها عن مواصلة حیاته كالحاجة إلى الأكل والشرب، أو یتوقف علیه بقاء النوع الإنسانی فی الأرض كالغریزة والحاجة الجنسیة، أو انّ سلامة الإنسان وبقاءه یتوقف على توفیرها كالحاجة إلى الملبس والمسكن، أو تزیده قدرة على تنمیة أعماله والإسراع بها كالحاجة إلى المركب.

وعلى أىّ حال، فإنّ المتطلَّبات المذكورة متطلَّبات مادیة وبدون الاهتمام بها تتعرض حیاة الإنسان المادیة للخطر، أو تصاب بالخلل بنحو مّا.

وما نرید قوله هنا هو أنّ فی الإنسان ـ فی مقابل المتطلَّبات والمیول المذكورة آنفا ـ مجموعةً اُخرى من المیول واللذّات التی لا تتعرض حیاته للخطر بعدم تلبیتها واشباعها، وإنّما یشعر الإنسان باللذة من توفیرها واشباعها. یطلق على هذا النوع اسم (الزینة) و(التجمل).

إلى جانب ما فی الإنسان من میول هناك میل إلى الجمال أیضاً، وهو مستقل عن متطلَّبات الإنسان الاُخرى وإنْ كان متقارنا معها فی الغالب، فمثلاً ما یتناوله الإنسان من طعام ویسد حاجة جسمه المادیة إلى الغذاء إذا كان فی الوقت ذاته طیباً فی لونه ورائحته وقُدّم له فی إناء أنظف وأجمل وأفضل فانّه یشعر بلذة أكبر طبعاً، الاّ انّ حیثیة الحاجة إلى الطعام هی غیر حیثیة الالتذاذ باللون والرائحة والجهات الأخرى، فالمكفوف الذی یتناول الطعام ذاته ترفع حاجته إلیه ولكنّه محروم من هذا النوع من اللذة لانّ عینه لا تبصر اللون الجمیل للطعام، والذین یفقدون حاسة الشم ینتفعون بفائدة الطعام المادیة ذاتها، ویلتذون بحاسة البصر باللون الجمیل للطعام وإنْ لم یدركوا رائحه الطعام الطیبة ویحرمون من هذه اللذة.

انّ الإستمتاع بالرائحة الطیبة أو رؤیة اللون البهیج أو الشكل الجمیل والمناظر النضرة أو إدراك الجمال المعنوی والروائع الادبیة فی الشعر والنثر و... لیست من المتطلَّبات الطبیعیة للانسان بمعنى انّ عدمها لا یهدّد الحیاة الإنسانیة، ولكنّها ـ على أىّ حال، ـ تبعث على التذاذ الإنسان بما یفوق أحیاناً اللذّات المادیة والتی یحتاجها فی حیاته. انّ متعلّق هذه اللذّات یدخل تحت عنوان الزینة والتجمّل، ولفظ الزینة والجمال یشملها بأجمعها.

الزینة تتفاوت عن الجمال تفاوتاً ظریفاً، فالزینة تطلق فقط على الجمال العارض الذی یحصل بضمّ شیء آخر من الخارج، بینما الجمال یطلق على الجمال الأصیل فی الشیء والموجود فی ذاته وبنحو طبیعی.

فمثلاً یطلق على الإنسان الجمیل فی ذاته انّه (جمیل) وعندما یتزیّن بعملیة تجمیل أو لبس الحلىّ والأسورة والقلادة الذهبیة والمرصّعة باللؤلؤ ولبس الأقراط یقال انّه تزیّن.

وعلیه فإنّ الزینة أمر عارض بینما الجمال صفة ذاتیة للشیء نفسه، الاّ انّ الملاك فیهما واحد، بمعنى أنّ الزینة والجمال العرضی یرجع إلى الجمال الذاتی للحلىّ ذاتها، فالحلىّ فی الخارج یجب أن تكون جمیلة لكی تضفی جمالاً على الأعضاء والجوارح التی تلبسها. إذنْ انّه الجمال الذاتی للاشیاء وله تجلّیان: تجل فی الشیء الجمیل، وتجلٍّ فی الشیء الآخر الذی یتزیّن به، ویطلق على التجلّی الثانی الزینة فی مقابل التجلّی الأول وهو الجمال.

یستعمل الجمال عادة فی المرئیات الأعمّ من الأشیاء وبنی الإنسان، وهناك نوع من الجمال فی المسموعات أیضاً. وفی اللغة الفارسیة نعبّر عن الصوت الحسن والممتع بالصوت الجمیل، ولعلّ لفظ الجمال فی مختلف اللغات قد وضع أوّلاً للمرئیات ثمّ أُطلق على تجلّیاته الأخرى. وعلى أیّ حال، فإنّ المقصود من الزینة هنا هو الأشیاء التی یلتذ الإنسان بادراكها فی الوقت الذی لا یشعر بالحاجة المادیة إلیها ولا یشكّل عدمها خطراً علیه.

حبّ الجمال فی القرآن

أ ـ زینة الدنیا

لقد ركّز القرآن الكریم على هذا الموضوع باستمرار، والتفت إلى هذا المیل والمراد الفطری للانسان. وفی بعض الآیات عرّف الله عزّوجلّ كلّ ما خلقه فی الأرض كـ (زینة) لها بقوله: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاَْرْضِ زِینَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَیُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَل1.

وفی بعض آخر من الآیات یذكّر بالنباتات خصوصا بأنه قد جعلها زینة كی تبعث البهجة والحیویة فیمن یراها حیث قال فی آیة:

أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَة2.

وهی ما یُسرّ الإنسان ویفرح برؤیتها. وفی آیات اُخرى أشار إلى الأحجار الكریمة والمعادن الثمینة وما یستخرج من البحر كزینة، فقال فی مورد:

وَهُوَ الَّذِی سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِیّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْیَةً تَلْبَسُونَهَ3.

وجاء مثل هذا التعبیر وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْیَةً تَلْبَسُونَهَ4 فی آیة أخرى. وقد عرّف النجوم فی بعض آخر من الآیات كزینة للسماء وقال:

وَلَقَدْ زَیَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْیَا بِمَصَابِیحَ5.

انّ النجوم مصابیح قد زیّنا بنورها وبریقها السماء، وقال فی آیة اُخرى عن هذا الأمر:

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِی السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَیَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِینَ6.

وفی بعض الآیات جمع كلاً من زینة السماء والأرض فی موضع واحد والتفت إلیها بقوله:

أَفَلَمْ یَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَیْفَ بَنَیْنَاهَا وَزَیَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوج * وَالاَْرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَیْنَا فِیهَا رَوَاسِىَ وَأَنْبَتْنَا فِیهَا مِنْ كُلِّ زَوْج بَهِیج7.

وجاء ذیل الآیة فی آیة اُخرى بهذا النحو: فَأَنْبَتْنَا فِیهَا مِنْ كُلِّ زَوْج كَرِیم8، والمراد من (كریم) فی الآیة هو (جمیل) وجاء فی آیة ثالثة: وَأَنْبَتْنَا فِیهَا مِنْ كُلِّ شَیْء مَوْزُون9.

وربّما یجد الذین یدرسون ویبحثون عن حقیقة وماهیة الجمال فی (فلسفة الجمال) شاهداً من هذه الآیة على هذه النظریة وهی أنّ ملاك الجمال أو أحد ملاكاته هو انتظام أجزاء الشیء الجمیل وتناسقها وتوازنها، وذلك لمكان كلمة «موزون» بدلاً من «البهیج» و«الكریم» و«الجمیل».

ب ـ الزینة فی العالم الآخر

یتمتع المؤمنون فی الجنة بزینة خاصّة ویشعرون أیضاً بهذه اللذة (التمتع بالزینة) إلى جانب التذاذهم بالأطعمة والمشروبات وثیاب الجنة واللذائذ الأخرى.

لقد أكد سُبحانه وتعالى على هذه الحقیقة بتعابیر مختلفة فی آیات القرآن الكریم كقوله فی موضع:

جَنَّاتُ عَدْن یَدْخُلُونَهَا یُحَلَّوْنَ فِیهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَب وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِیهَا حَرِیرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِِ الَّذِی أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ10.

فی هذه الآیة تصریح بتزیین أهل الجنة وتجمیلهم بالثیاب وأدوات الزینة والذهب والمجوهرات. ویستفاد من هذه الآیة جواز لبس الذهب والحریر فی الجنة، ویمكن القول: انّ منع انتفاع الرجال بهذه الأشیاء فی الدنیا یرجع إلى تعارضها مع المصالح المادیة والاجتماعیة للانسان.

وقال فی آیة أخرى:

مُتَّكِئِینَ عَلَى فُرُش بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَق وَجَنَى الْجَنَّتَیْنِ دَان11.

یخبر الله فی هذه الآیة الكریمة عن ألوان من زینة الجنة وهی تتعلّق بمأوى و مسكن وأسرّة أهل الجنة. وفی هذا المجال ورد فی آیة أخرى:

مُتَّكِئِینَ عَلَى رَفْرَف خُضْر وَعَبْقَرِىّ حِسَان12.

لقد ركّز القرآن على اللون الأخضر بین الألوان المتنوّعة والجمیلة، ولدى الحدیث عن اللون فی الجنة فقد ذكّر ـ كما هو الحال فی الآیة الأخیرة ـ باللون الاخضر.

كما جاء فی هذا المجال: عَلَى سُرُر مَوْضُونَة * مُتَّكِئِینَ عَلَیْهَا مُتَقَابِلِینَ13.

كما قال فی مجال أدوات الزینة والمناظر الجمیلة فی الجنة:

فِیهَا عَیْنٌ جَارِیَةٌ * فِیهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِىُّ مَبْثُوثَةٌ14.

لقد تحدّث فی هذه الآیة عن الكؤوس والآنیة التی توضع على المنضدة وعن الأسرّة والأخشاب العالیة والجمیلة والفرش والوسائد المنتظمة وأدوات الزینة الاُخرى والمناظر الجمیلة الموجودة فی الجنة والتی یتمتع بها أهلها.

وعلیه فإنّ أصل الالتذاذ بالمنظر الجمیل وأدوات الزینة من الغرائز الفطریة فی الإنسان، ولیس لها فی ذاتها قیمة حسنة ولا سیئة، وتتوقف القیمة والحُسن والقبح الأخلاقیة على أمور عرضیة وخارجیة.

وإذا كان لاستعمال أدوات الزینة والمناظر الجمیلة ـ فی بعض الموارد ـ قیمة سلبیّة فی هذا العالم فانّه إمّا بلحاظ تعارضه مع المصالح الشخصیة الاُخرى للانسان، أو بسبب انّه یؤدّی بالإنسان إلى التعلّق بالأمور الدنیویة أكثر من الحدّ المتعارف بحیث یجعله غافلا عن الآخرة، أو انّه مرفوض لتعارضه مع حقوق الآخرین ومصالحهم الاجتماعیة. فانْ لم یوجد أمثال هذا التعارض فإنّ استعمال الزینة والجمال فی ذاته محبّذ لدى الإنسان فطریا، كما انّه لا بأس به أخلاقیا، وإنّما یكتسب القیمة الإیجابیة والسلبیّة من العناوین الطارئة، كسائر موارد الالتذاذ.

الجمال الإنسانی فی الجنة

إلى جانب ما قلنا عن نِعم الجنة التی یعددها القرآن الكریم أشار إلى الجمال الإنسانی الذی یتمتع به أهل الجنة، واعتبره من اللذّات التی یحظَون بها.

لقد قلنا ونذكّر هنا أیضاً بأنّ الغرائز الإنسانیة متشابكة فی الغالب، وتدفع الإنسان للعمل المشترك بنحو قد تؤثّر عدة غرائز متقارنة فی ممارسة عمل مّا.

النموذج الواضح لما ندعیه هو الغریزة الجنسیة التی تختلف عن حبّ الجمال، ومع ذلك فإنّ الغریزتین تؤثّران معا فی الغالب.

وقد أشیر فی القرآن الكریم إلى جمال النساء كدافع بعبارة وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ15.

فالجمال عنصر مهم وفاعل فی انتخاب الزوج، وإنْ كان حبّ الجمال میلاً مستقلاً ویختلف عن الشهوة والغریزة الجنسیة تماماً.

القرآن الكریم فی نطاق ذكره لنِعم الجنة ـ إضافةً إلى تعبیره الجذاب والظریف عن الأزواج الجمیلات كالتعبیر كَأَنَّهُنَّ بَیْضٌ مَكْنُونٌ16 وحُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِی الْخِیَامِ17 ونظائره ـ فانّه یتحدّث عن غلمان الجنة ذوی الجمال حیث یلتذ أهل الجنة بالنظر إلیهم. قال فی موضع:

وَیَطُوفُ عَلَیْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ18.

وقال فی موضع آخر:

یَطُوفُ عَلَیْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَاب وَأَبَارِیقَ وَكَأْس مِنْ مَعِین19.

الغلمان الذین یطوفون حولهم ویخدمونهم هم شباب فى نشاط دائم دون أن یعتریهم الشیب.

وجاء فی آیة ثالثة:

وَیَطُوفُ عَلَیْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَیْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنثُور20.

وعلیه فإنّ رؤیة ذوی الجمال من اللذّات الاُخرویة، والذین لا یلتفتون إلى هذا المیل المستقل فی الإنسان یحسبون انّه مرتبط بالغریزة الجنسیة، وانّ فی الجنة ـ العیاذ بالله ـ میلاً إلى الجنس المماثل، وهذا الحسبان باطل لا أساس له.

ولتوضیح ذلك نقول: إنّ التذاذ أهل الجنّة بنعمها هو نفس الالتذاذ الذی تقتضیه الفطرة الإنسانیة فی ذاتها. لكنّ المیول التی یبدیها الإنسان فی هذا العالم المادی فی بعض الموارد میول بدیلة تنشأ فیه نتیجةً للانحراف عن طریق الفطرة المستقیم. أی حینما لا تُشبع رغباته الفطریة بنحو طبیعی فإنّ میله ینجذب إلى الطرق البدیلة.

انّ مقتضى الغریزة الجنسیة فی هذا العالم هو المیل إلى الجنس المقابل، ولكنّ عامل الحرمان أو بعض العوامل الاُخرى یسبّب انحرافه، فیتعلّق میله عندئذ بالجنس المماثل أیضاً. وهذا یعارض الفطرة الإنسانیة الأصیلة وسیكون انحرافا عن مسیرته الفطریة.

یخاطب القرآن قوم لوط بشأن هذا المیل المنحرف بقوله: وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ21. حیث تتّبعون ما هو شیطانی ومنحرف.

انّ المیول التی تنشأ فی هذا العالم إثر انحراف الإنسان لا وجود لها فی عالم الآخرة، فالانجذاب للمخدّرات فی هذا العالم مثلاً وهكذا المیل إلى التدخین أو الإدمان على الحشیشة والهیروئین وأمثاله لیست میولاً فطریة، وعلیه لا وجود فی الجنة لمثل هذه المیول فی الإنسان.

فحینما نقول: ینال الإنسان كلّ ما یریده فی الجنة وتلبّى جمیع رغباته هناك فانّه لا یستلزم وجود السجائر والنارجیلة والهیروئین والحشیشة و.. كما هو حال العالم المادی.

یقدّم للانسان فی الجنة ما تمیل إلیه فطرته الأصیلة، وسوف تلبّى جمیع میوله الأصیلة والفطریة وغیر المنحرفة وَفِیهَا مَا تَشْتَهِیهِ الاَْنفُسُ وَتَلَذُّ الاَْعْیُنُ22.

ولا وجود فى ذلك العالم للمیول الإنسانیة الناشئة من الانحراف عن الفطرة والضلال.

انّ حبّ الجمال وحبّ رؤیة الأشیاء الجمیلة وأصحاب الجمال من المیول الأصیلة والفطریة والدائمة فی الإنسان، ولذا فإنّ القرآن یعتبر ذلك من أفضل النِعم فی الجنة ومن اللذّات الرفیعة لدى أهل الجنة، ولكنْ ینبغی الالتفات إلى انّ هذا میل مستقل ولا یرتبط بالمیل الجنسی.

انّ المیل الجنسی فی الإنسان یتمّ اشباعه عن طریق الجنس المقابل، ولكنّ رؤیة ذوی الجمال كالنبی الأكرم(صلى الله علیه وآله وسلم) والائمة الاطهار(علیهم السلام) میل فطری آخر، وله وجود فی الآخرة أیضاً، ونظراً لكونه میلاً فطریا وأصیلاً فسوف یُفسح المجال لاشباعه أیضاً.

انّ منع الإنسان من رؤیة بعض أصحاب الجمال فی هذا العالم یعود إلى التعارض ذاته الذی أوضحناه سابقاً. أی انّ لذة رؤیتهم تتعارض مع الكمالات الاُخرى للانسان، ویتعرض الإنسان إلى الانحراف والضلال باتّباعه لهذا المیل، والسبب هو انّ إشباع الجنس یرتبط غالباً بالجمال بصورة مباشرة، ویكون الجمال فی الغالب جزءً من الدوافع المثیرة للشهوة الجنسیة.

من هنا فإنّ المرأة فی هذا العالم مكلّفة بالحجاب أمام الرجل الاجنبی من جهة، كما انّ الرجل مكلّف بأن لا ینظر إلى المرأة الاجنبیة من جهة أخرى، ولكنْ فی عالم الآخرة سیقدّم للانسان فی الجنة ما یشاء من الحور العین، ولو أثار جمال امرأة ـ هی زوجة شخص آخر ـ رغبته فإنّ الله یخلق له حوریة هی مثل تلك المرأة، ولا یواجه مشكلة التعارض والتزاحم فی ذلك العالم.

الخلاصة انّ حبّ الجمال من المیول الأصیلة والفطریة فی الإنسان، ویتمّ اشباعه برؤیة المناظر الجمیلة، وسیكون الالتذاذ برؤیة المناظر الجمیلة ومشاهدة ذوی الجمال من نِعم أهل الجنة الكبرى، ویعود وجوب غضّ النظر عن الاجنبی والمنع من الالتذاذ برؤیة الجمال الإنسانی فی بعض الموارد فی هذا العالم إلى تعارضه مع كمالات الإنسان الأخرى.

الزینة والقیم الأخلاقیة

انّ الملاك فی حُسن استخدام الزینة ـ كما قلنا سابقاً ـ هو جهة ارتباطه بالله عزّوجلّ ومبدأ الإنسان ومعاده.

انّ التمتّع بالزینة یكون على صورتین مختلفتین: تكون الاُولى بمعنى الالتذاذ برؤیتها ومشاهدة المناظر الطبیعیة الجمیلة.

وتكون الثانیة بمعنى التزیّن والاهتمام بمظهر الشعر والوجه والملبس وتناسق ما ذُكر ونظافته.

ومن الطبیعی انّ ارتباط هذین النوعین بالله تعالى یكون على صورتین مختلفتین أیضاً، نطلق على أحدهما: (الإرتباط فی النتیجة) وعلى ثانیهما: (الإرتباط فی دافع العمل).

والمراد من (الإرتباط بالله فی نتیجة العمل) هو حصول نحو من التغییر الإیجابی فی حالات الإنسان ومعنویاته وعلاقته مع الله عزّوجلّ بفعل هذه النعم.

فمثلاً إذا كان استخدام هذه النِعم داعیاً لالتفات الإنسان إلى الله تعالى والقیمة السامیة لنعمه وباعثاً فیه روح التقدیر والشكر، أو زاده معرفة وعلما ومعرفة بالله سُبحانه وتجلّى له العلم والقدرة والحكمة الإلهیة بنحو أفضل فإنّ التمتع بالزینة فی هذه الحالة یكون ذا قیمة إیجابیّة.

انّ أولیاء الله الذین یذكرون الله فی جوف اللیل ـ حینما یرقد الجمیع ویسلب الكرىّ أبصارهم وأسماعهم ویضرب على عقولهم واذهانهم ـ وینهضون لعبادة الله ینظرون إلى السماء والقمر والكواكب المنیرة والمجرّات النیرة وجمال الأجرام السماویة فیذكرون الله وقدرته وعظمته وجلاله ویستغرقون فی ذكره، وتتركّز حواسهم وإدراكهم فی الهیبة والعظمة الإلهیة حتّى انّهم لا یرون شیئاً سواه، أو یرون مستقبل العالم من خلال الرؤیة والتأمل والتفكّر فی هذا العالم، مثل هذه الرؤیة والمشاهدة ومثل هذا التمتّع بالزینة سوف یحظى بأسمى القیم الأخلاقیة.

والمقصود من (الإرتباط فی الدافع) هو أن یكون دافع الإنسان فی استخدام الزینة هو اتّباع الأوامر الإلهیة والآداب الأخلاقیة. فی هذا المجال ترتكز رؤیتنا بنحو أساسی على أنّ الإسلام فی بعض الموارد قد دعا وأكد على استخدام الزینة بنحو خاصّ من قِبل المؤمنین، فإذا كان استخدام الإنسان الزینة بهذا الدافع وقام بتزیین نفسه واعتنى بمظهره فإنّ عمله یحظى بقیمة إیجابیّة ویكون عملا عبادیا، ویحسن أن نشیر هنا إلى نموذج بارز:

یولی الإسلام أهمّیة كبیرة لاجتماع المؤمنین، وله إرشادات جمة للتآلف بین المؤمنین، وبما انّ المظهر اللائق والتزیّن والنظافة الظاهریة من الأمور التی تستوجب الأُنس بین الناس فقد اهتم بنحو خاصّ بتزیّن المؤمنین بعضهم لبعض لكی تشتد رغبتهم فی المعاشرة فیما بینهم.

فذو المظهر غیر المتناسق لا یودّ الناس معاشرته والأُنس معه. وإذا لم یعتنِ المؤمنون بمظهرهم فإنّ هذه الحالة اللامنتظمة ستسبّب تفرُّقهم تدریجیّاً. وعلیه فإنّ ذلك لا ینسجم مع هدف الإسلام فی التآلف والتعاطف بین المؤمنین.

من هنا یكون من المستحب تزیّن المؤمنین لدى اشتراكهم فی الاجتماعات وذا قیمة أخلاقیة إیجابیّة. لنلاحظ هذه الآیة القرآنیة الكریمة حیث تقول:

یَا بَنِی آدَمَ خُذُوا زِینَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد23.

ینبغی للمؤمنین لدى اشتراكهم فی الاجتماعات الإسلامیة التی تعقد عادة فی المساجد أن یكون مظهرهم متناسقا لیرغب الآخرون ویمیلوا للاجتماع بهم والتحدّث معهم.

(الزینة) المبحوث عنها هنا تشمل الملبس والشعر والوجه أیضاً. انّ الملبس النظیف والوجه المزیّن یكونان مشمولَین للزینة، ولهذا الملاك ینبغی للمؤمنین رعایة هذا الإرشاد الإسلامی فی مجالسهم الاُخرى حتّى لدى اللقاء بین فردین مؤمنَین.

لقد ورد فی روایات كثیرة أن النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله وسلم) كان یزیّن مظهره لدى حضوره فی اجتماعات المسلمین وحتّى عند اللقاء مع شخص واحد، وفی حالة عدم وجود المرآة ینظر إلى صفحة الماء الصافی كی یلاحظ مظهره لئلا یكون غیر متناسق.

وورد فی روایات اُخرى شدة اهتمامه (صلى الله علیه وآله وسلم) بالطِیْب، حتّى یستفاد من بعض الروایات انّ ثلث مؤونته السنویة كان یخصّص لشراء الطیب، مما یفید انّ الإسلام یولی اهتماماً بالتزیّن الظاهری لكی تزداد أجواء الأُنس والتآلف و المخالطة بین المؤمنین، وتتحقّق الأهداف الإسلامیة من خلال اجتماعاتهم وعلاقاتهم.

ویمكن استظهار استحباب التزیّن من بعض آخر من الآیات القرآنیة التی استعمل فیها لفظ الطهارة كالآیة:

وَثِیَابَكَ فَطَهِّرْ24.

والآیة: إِنَّ اللهَ یُحِبُّ التَّوَّابِینَ وَیُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِینَ25، وفی هذا السیاق بما انّ الإسلام یولی أهمّیة بالغة باجتماعات المؤمنین فقد تضمّن آدابا وأحكاما تهتم بشدة وبنحو خاصّ بتزیینهم لبعضهم، والتزیّن فی الملبس والمظهر والنظافة، وذلك بهدف الأُنس فیما بینهم واقامة مثل هذه الاجتماعات.



1 الكهف 7.

2 النمل 60.

3 النحل 14.

4 فاطر 12.

5 الملك 5.

6 الحجر 16.

7 ق 6 و 7.

8 لقمان 10.

9 الحجر 19.

10 فاطر 33 و 34.

11 الرحمن 54.

12 الرحمن 76.

13 الواقعة 15 و 16.

14 الغاشیة 12 ـ 16.

15 الأحزاب 52.

16 الصافات 49.

17 الرحمن 72.

18 الطور 24.

19 الواقعة 17 و 18.

20 الدهر 19.

21 الشعراء 166.

22 الزخرف 71.

23 الأعراف 31.

24 المدثّر 4.

25 البقرة 222.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...