السرقات الخفیّة
1 ـ اكل مال الیتیم
كان التعدی على اموال الآخرین وغصب حقوق الناس ـ غیر السرقة ـ یتم بصور مختلفة اخرى ولم یكن لها صورة السرقة الرسمیة. من هنا نذكرها تحت عنوان السرقة الخفیة، ونظراً الى ان بعض انواع هذه الاعتداءات غیر العلنیة كان شائعا بین الناس، بشكل أو بآخر، ولم یُلتفت الى قبحه وسوئه، فانّ القرآن الكریم یؤكد علیه بنحو اكبر ویندّد به بنحو أشد.
من هذه الموارد اموال الیتامى التی كانت تتعرض عادة للاعتداء من قبل الكبار وارحامهم واولیائهم. فقد كان فی المجتمع العربی عدد كبیر من الیتامى، إثر الحروب الكثیرة التی حدثت قبل وبعد الاسلام، ووفق الأعراف القبَلیة آنئذ اذا تیتّم الطفل فی اُسرة فان كبیرها یصبح ولیَّه تلقائیا. ولم یكن هناك مرجع قانونی أو سلطة قضائیة رسمیة لتعیِّن قیّما رسمیا علیه.
وكان ولىُّ الیتیم ـ الذی یعیش فی كنفه ورعایته ـ یرى الخیار التامَّ لنفسه فیتملك جمیع اموال الطفل الیتیم والضعیف أحیانا، ولا یمنعه مانع من هذا العمل وهو الاعتداء على ماله. وكان الیتیم حینما یكبر لایجد شیئاً مما كان یملك ولا یصله شیء من ارث والده. كان هذا الامر شائعا وبصورة عامة، وكان الاعتداء على اموال الیتامى یحدث كثیراً كأمر اعتیادی. من هنا یؤكد القرآن الكریم مراراً وباصرار على ان لا یتصرف الكبار فی اموال الیتامى أو لا یقتربوا منها الاّ لمصلحة الیتیم وبأفضل الصور، قال تعالى:
(وَ آتُوا الْیَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِیثَ بِالطَّیِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِیراً)([1]).
یبدو من هذه الآیة حدوث كثیر من الاعمال غیر الصحیحة والاعتداءات على اموال الیتامى فی ذلك العصر، من قبیل أخذ ما هو افضل وأجود من مال الیتیم وجعل ما هو اردأ وأدنى قیمةً مكانه، أو عدم رعایة الحدود فكانوا ینفقون اموال الیتیم مختلطة مع اموالهم. لقد منع القرآن الناس من هذه التصرفات وحكم بأنها معاص كبیرة لا تغفر.
وأوصى فی آیة اُخرى بصورة عامة برعایة العدل فی حق الیتامى حیث یقول:
(وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْیَتامى بِالْقِسْطِ)([2]).
و هكذا أوصی بعدم التصرف بأموال الیتیم قبل ان یبلغ الاّ بأفضل صورة:
(وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْیَتِیمِ إِلاّ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ حَتّى یَبْلُغَ أَشُدَّهُ)([3]).
وأمر فی آیة اُخرى بارجاع الأموال الى الیتیم بعد بلوغه. واذا اردتم ان تعرفوا هل إنه یتمتع بالعقل والنضج والمعرفة الكافیة ویتمكّن من ادارة أمواله فعلیكم ان تختبروه قال تعالى:
(وَ ابْتَلُوا الْیَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَیْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ یَكْبَرُوا)([4]).
اسالیب القرآن لحفظ اموال الیتیم
یعتبر القرآن مشكلة الیتامى مشكلة اجتماعیة كبیرة قد تطال افراداً آخرین، ویستخدم اسلوباً نفسیا اجتماعیا لیجتنب الناس التصرّف الغاصب فی اموال الیتامى، فیخیفهم من عقوبات التصرفات الظالمة، ومن سوء معاملة الآخرین مع أیتامهم فیخاطبهم: افترضوا ان هؤلاء یتاماكم ویرید الآخرون الاستیلاء على اموالهم ألا تقلقون فی هذه الحالة؟ قال تعالى:
(وَ لْیَخْشَ الَّذِینَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّیَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَیْهِمْ فَلْیَتَّقُوا اللّهَ وَ لْیَقُولُوا قَوْلاً سَدِیداً * إِنَّ الَّذِینَ یَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْیَتامى ظُلْماً إِنَّما یَأْكُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَیَصْلَوْنَ سَعِیراً)([5]).
كأن القرآن یرید القول بانكم ان لم تراعوا حرمة الیتیم وتطاولتم على امواله فان ذلك سیشیع على شكل ظاهرة وسنّة عامة وسیرتكبه افراد المجتمع كافة ویعتدون على جمیع الیتامى ویظلمونهم ویزول قبح هذا العمل القبیح.
ویقول فی ذیل الآیة بانّ الذین یأكلون اموال الیتامى ظلما كأنما یأكلون ناراً، وقد عدّوا هذه الآیة من الآیات الدالة على تجسم الاعمال، أی ان الاعمال الصالحة تتجسم فی صور جمیلة، والاعمال القبیحة والظالمة فی صور قبیحة ومقززة ومؤلمة.
على أی حال فان الله عز وجل یرید صد الناس عن التعدی على اموال الیتامى بطریقین: الاول عن طریق الالفات الى العقوبة الدنیویة، اذ من الممكن ان یصنع الآخرون مع یتامى الانسان الظالم ما صنعه هو بیتامى الآخرین.
الثانی عن طریق التذكیر بالعذاب الاخروی حیث یقول: ان هذه الأموال هی فی الواقع نار یأكلونها، وتظهر حقیقتها فی القیامة.
2ـ التطفیف فی المیزان
یعتبر التطفیف فی المیزان من أقبح انواع الظلم فی التبادل التجاری، وقد شدد القرآن على تركه. وآیات القرآن الكریم تحكی على لسان النبی شعیب(علیه السلام) عن انّ التطفیف فی المكیال كان إحدى المفاسد الشائعة فی قومه.
وقد كان كل نبی عند بعثته یكافح المفاسد الشائعة فی عصره، وقد كان التطفیف فی المیزان من المفاسد الشائعة فی عصر النبی شعیب(علیه السلام)، كما كان اللواط شائعا فی قوم النبی لوط(علیه السلام)، وكان هذا النبی یكافح هذا العمل الشنیع.
كان النبی شعیب(علیه السلام) یؤكد بشدة على التدقیق فی الوزن فی المعاملات، ویظهر من تأكیداته انّ التطفیف فی المیزان كان شائعا آنئذ ومفسدة اجتماعیة كبیرة. والقرآن یؤكد بشدة على ترك هذا الذنب القبیح. من هنا یتحدث بتعابیر مختلفة عنه فی آیات عدیدة وعلى لسان شعیب، كقوله تعالى:
(وَ أَوْفُوا الْكَیْلَ وَ الْمِیزانَ بِالْقِسْطِ)([6]).
(فَأَوْفُوا الْكَیْلَ وَ الْمِیزانَ وَ لا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْیاءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فِی الأَْرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَیْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ)([7]).
(وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْیالَ وَ الْمِیزانَ إِنِّی أَراكُمْ بِخَیْر وَ إِنِّی أَخافُ عَلَیْكُمْ عَذابَ یَوْم مُحِیط * وَ یا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْیالَ وَ الْمِیزانَ بِالْقِسْطِ وَ لا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْیاءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِی الأَْرْضِ مُفْسِدِینَ)([8]).
أو فی آیات اُخرى بتعبیر:
(وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِیمِ)([9]).
أو بتعبیر:
(وَ أَقِیمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ)([10]).
أو بتعبیر:
(أَلاّ تَطْغَوْا فِی الْمِیزانِ)([11]).
هذه الآیات تتحدّث بشكل مؤكّد عن التطفیف فی المیزان، والكثیر منها یرتبط بقصة النبی شعیب، ونظراً لشیوعه آنئذ بشدة وتبدّله الى مرض اجتماعی فان الآیات تأتی بتعبیرات مثل قوله (لا تفسدوا فی الارض) أو (لا تعثوا فی الارض مفسدین).
وغیر الآیات المذكورة ونظائرها التی جاءت فی مواضع مشتتة من القرآن فان سورة المطففین قد سمیت بهذا العنوان وافتتحت بهذا التعبیر:
(وَیْلٌ لِلْمُطَفِّفِینَ * الَّذِینَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النّاسِ یَسْتَوْفُونَ * وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ یُخْسِرُونَ)([12]).
3ـ التدلیس والغش
ان آیات التطفیف فی المیزان ناظرة الى المقدار والقضایا الكمیة. فاذا لم یكن الغش فی الكم وكان المشتری مغبوناً ومخدوعاً فی كیفیة المبیع لا كمیته فما هو الحكم؟
الجواب: ان هذه الآیات وان كانت بأجمعها ناظرة الى الغش فی الكم، وقد حكمت بحرمة التطفیف، ولكن ینبغی الالتفات الى ان ملاك هذا الحكم نافذ فی سائر معاملات الغش عند التبادل أیضا، أی یمكن اعتبار التطفیف فی الكیفیة مصداقا لـ (الافساد) الذی استعمل فی الغالب بعد النهی عن التطفیف.
انّ الملاك فی حرمة التطفیف هو عدم رعایة العدل فی المعاملة. الملاك هو أن یُظلم أحد الطرفین، وعلیه ینبغی وجود توازن بین الثمن والمثمن، ولا یكون هناك أكل بالباطل واخلال بالنظام الاقتصادی واستغلال، وكما ان هذه الملاكات قد بینّت حكم التطفیف فهی تبیّن أیضاً حكم انواع الغش الاُخرى والابعاد الكیفیة، وعلى اساس هذه الملاكات یمكن الحكم بقبح وبطلان معاملة یؤخذ فیها ثمن حنطة جیدة ثم تسلّم حنطة ردیئة، أو تخلط الجیدة بالردیئة ویدلس على المشتری بأنها جیدة ولا یلتفت الى اختلاطها بالردیئة.
4ـ المعاملات غیر العقلائیة
المجموعة الاُخرى من المعاملات الممنوعة فی القرآن الكریم هی المعاملات غیر العقلائیة التی ذكرت بتعبیر (اكل المال بالباطل). ان اساس المعاوضة هو وجود توازن بین العوض والمعوض، وان تكون متوازنة فی القیمة. فاذا تمت المعاملة بصورة لم تراعَ فیها هذه الحكمة ـ مهما كان شكلها ـ فانها لا تكون لصالح المجتمع وینبغی التصدی لمنعها.
نعم، انّ المراد من العقد أحیاناً هو التسامح كالصلح فالحالة تختلف عندئذ، ولكن اذا كان المراد هو المعاوضة الحقیقیة والمقایضة فینبغی عدم الاجحاف بأی طرف فی المعاوضة، والاّ وجب التصدی لمنعه.
وأحد نماذج المعاملات غیر العقلائیة القائمة على اساس غایة غیر صحیحة وتعتبر المنشأ للفساد والنزاع ودمار الافراد هو القمار الذی نهى عنه القرآن فی موردین، أحدهما قوله تعالى:
(یَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَیْسِرِ قُلْ فِیهِما إِثْمٌ كَبِیرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما)([13]).
والثانی:
(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَیْسِرُ وَ الأَْنْصابُ وَ الأَْزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّیْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّما یُرِیدُ الشَّیْطانُ أَنْ یُوقِعَ بَیْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِی الْخَمْرِ وَ الْمَیْسِرِ وَ یَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)([14]).
هذه الآیة تشیر الى مفاسد شرب الخمر ولعب القمار وكونهما عملین غیر عقلائیین، وذلك لانه بواسطة عمل عابث وغیر نافع قد یفقد الانسان امواله فی لحظات ویحصل الطرف الآخر على اموال مجاناً، ولا یمكن ان یكون هذا عملاً عقلائیا واقعا ولا تترتب علیه فائدة معقولة. من هنا كلما تذكر الخاسر ما یملكه الطرف المقابل من امواله ـ التی تحمل الآلام والصعاب فی كسبها ـ بدون تعب وجهد وسعی ثارت فی نفسه روح العداء والحقد، وكثیراً ما تترتب مفاسد اكبر على ذلك أیضاً، ویعزم أحدهما على قتل الآخر.
5 ـ الرشوة
الرشوة هی المال الذی یدفع للقاضی لكی یحكم لصالح الدافع، وباستمالة القاضی الى جانبه یتحقق ظلم للطرف الآخر. قال تعالى فی القرآن الكریم:
(وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَیْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِیقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالإِْثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)([15]).
ان اثم الرشوة عظیم جداً یطال الراشی والمرتشی ویعرّضهما لنار جهنم والعذاب الالهی. وواضح انها معصیة كبیرة حینما یتسلم القاضی الرشوة من احد الطرفین ویظلم الطرف الآخر ویحكم بغیر حق. وهكذا بالنسبة للراشی فانه بعمله هذا یرغّبه ویعینه على ارتكاب هذا الظلم، وقد حذّر القرآن المؤمنین بصراحة من هذه الاعانة.
6 ـ الربا
من المعاملات المالیة التی نهى القرآن المسلمین بشدة عن ممارستها هی الربا. انّ المعاملة الربویة شائعة بشكل أو بآخر فی كل زمان وفی المجتمعات كافة وفی هذا العصر أیضاً. وقد كان هذا العمل شائعا فی عصر رسول الاسلام(صلى الله علیه وآله وسلم)ویعتبر من المفاسد الاقتصادیة فی المجتمع الجاهلی.
ان تعامل القرآن مع ظاهرة الربا تعامل شدید ومفعم بالتهدید، ونحن نشیر هنا الى نماذج منه قال تعالى:
(الَّذِینَ یَأْكُلُونَ الرِّبا لا یَقُومُونَ إِلاّ كَما یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَیْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ)([16]).
وقال فی موضع آخر:
(یَمْحَقُ اللّهُ الرِّبا وَ یُرْبِی الصَّدَقاتِ وَ اللّهُ لا یُحِبُّ كُلَّ كَفّار أَثِیم)([17]).
وجاء فی آیة اُخرى:
(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِیَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْب مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ)([18]).
فی إحدى الآیات القرآنیة یقارن الله عز وجل بین الربا والانفاق، ویذكّر الناس بهذه الحقیقة وهی انكم تمارسون الربا لانكم تریدون تنمیة اموالكم وتبغون مزیداً من الربح، ولكن اعلموا انّ الربا عند الله تعالى لیس ربحاً بل هو ضرر، وفی المقابل، ان الانفاق ودفع الزكاة والصدقات هو ضرر فی ظنكم ولكنه ربح لدى الله عز وجل.
ان ما تدفعونه للناس على صورة ربا لكی تنمو اموالكم لا ینمو عند الله ولیس من حقكم ان تستردّوا اكثر من أصل رأس المال، وما تقدّمونه من زكاة وتطلبون به رضا الله فانه یتضاعف عند الله، قال تعالى:
(وَ ما آتَیْتُمْ مِنْ رِباً لِیَرْبُوَا فِی أَمْوالِ النّاسِ فَلا یَرْبُوا عِنْدَ اللّهِ وَ ما آتَیْتُمْ مِنْ زَكاة تُرِیدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)([19]).
إذنْ ان كنتم طلاباً للربح حقا فانفقوا اموالكم كی تتضاعف سبعمائة مرة واكثر، أو اقرضوا القرض الحسن ونالوا الثواب من الله، ولكن اذا اعطیتم اموالكم للربا بأمل مضاعفتها عند الناس واضافة اموالهم الى اموالكم فان الله لا یرضى بهذا النمو وسوف لن یسعدكم هذا العمل فی هذه الدنیا أیضا.
قال تعالى فی إحدى الآیات المذكورة فی تشبیه أو مثال: ان آكل الربا لا یقوم الا كما یقوم الذی مسه الشیطان وجنّنه.
قال بعض المفسرین فی تفسیر هذه الآیة وتحلیل هذا التشبیه: المراد هو انّ المرابی لا یخرج من قبره الا كالمجنون، ویحشر مبهوتا ومتحیراً ومجنونا، ولكن قال بعض آخر: ان حالة البهت والجنون تحصل للمرابی فی هذه الدنیا، أی الذین اعتادوا على اكل الربا تنتابهم حالة الجنون واقعا وهم مشغولوا البال دائما بالصكوك والكمبیالات، انهم حتى فی حالة المشی فی الشوارع كأنهم یمشون فی عالم آخر ولا یلتفتون الى ما حولهم، بل حصروا اذهانهم ومشاعرهم وافكارهم فی المال وارباحه، ویمكن ان تكون حالتهم فی القیامة تحققاً عینیا لهذه الحالة الروحیة فی هذا العالم. انّ القرآن بهذا التشبیه یلفت انتباه المسلمین حتى لا یتورطوا بهذه الحالة وحتى لا یفقدوا عقولهم.
ان اكل الربا قبیح ومبغوض عند الله عز وجل الى درجة اعتباره كفراً وحرباً مع الله فی بعض الآیات، قال تعالى:
(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَ اتَّقُوا النّارَ الَّتِی أُعِدَّتْ لِلْكافِرِینَ)([20]).
هذه الآیة تشیر الى قضیتین: الاُولى انّ الربا یؤدی الى تكدس الثروات وتمركزها بدون عمل وجهد وبنحو غیر مشروع، الثانیة انّ المرابی بمثابة الكافر.
فی بعض آخر من الآیات یلوم الله عز وجل الیهود بشدة على اكلهم الربا ویذمهم، إذ انهم على الرغم من منعهم من أخذ الربا واكل اموال الناس بالباطل كانوا یتعاملون بالربا، انهم یهود فی الظاهر وكفار فی الواقع ولم یدینوا حتى بالدیانة الیهودیة.
انّ التعابیر التی نقلناها من الآیات كانت شدیدة جداً وذات تهدید فی تعاملها مع المرابین، ولكن اشد التعابیر واكبرها تهدیدا هو التعبیر القائل:
(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْب مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ)([21]).
ولعله یرجع الى انّ الربا یكون منشأ للخلل والفساد الاقتصادی فی المجتمع عدا تبعاته الأخلاقیة القبیحة، حیث یدفع مجموعة من الأفراد نحو الكسل وطلب الراحة بدلا من العمل والسعی النافع واستثمار رأسمالهم الذی یمثل ثمرة أتعاب وجهود الضعفاء المضنیة ومضاعفته یوما بعد یوم، وإثارة الأزمة والخلل فی النظام الاقتصادی والاجتماعی.
[1]. النساء 2.
[2]. النساء 127.
[3]. الانعام 152.
[4]. النساء 6.
[5]. النساء 9 و 10.
[6]. الانعام 152.
[7]. الاعراف 85.
[8]. هود 84 و 85.
[9]. الاسراء 35 و الشعراء 182.
[10]. الرحمن 9.
[11]. الرحمن 8.
[12]. المطففین 1 ـ 3.
[13]. البقرة 219.
[14]. المائدة 90 و 91.
[15]. البقرة 188.
[16]. البقرة 275.
[17]. البقرة 276.
[18]. البقرة 278 و 279.
[19]. الروم 39.
[20]. آل عمران 130 و 131.
[21]. البقرة 279.