ar_akhlag3-ch10_9.htm

شروط الانفاق

شروط الانفاق

لیس كل انفاق محبّذاً فی الرؤیة القرآنیة، بل لابدّ من رعایة شروط خاصة نذكرها هنا:

الشرط الاول هو أن لا یمنّ المنفق بما انفقه على من انفق علیه ویكون سببا لاذى الفقیر وشعوره بالالم، لان المنّ یفقد الانفاق قیمته، وعلیه لا ینتفع المنفق بانفاقه، لیس هذا فحسب، بل لعله یكون مذنبا بسبب أذى المؤمن واهانته.

قال تعالى فی القرآن:

(الَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ ثُمَّ لا یُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَ لا هُمْ یَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَیْرٌ مِنْ صَدَقَة یَتْبَعُها أَذىً وَ اللّهُ غَنِیٌّ حَلِیمٌ * یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الأَْذى كَالَّذِی یُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَ لا یُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الآْخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوان عَلَیْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا یَقْدِرُونَ عَلى شَیْء مِمّا كَسَبُوا وَ اللّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْكافِرِینَ)([1]).

بناء على ذلك فان احد شروط الانفاق هو أن یكون مصحوبا بالاحترام وعدم المس بكرامة الطرف الآخر، والاّ فلا قیمة لهذا الانفاق عند الله. وهذا أحد موارد الحبط، أی ان بعض الاعمال القبیحة یمحو آثار الاعمال الصالحة.

الشرط الثانی للانفاق هو أن لا یؤدّى ریاء والفاتاً لانظار الآخرین، وترك الریاء طبعا معتبر فی كل الافعال العبادیة والأخلاقیة، ولكن بما انّ الریاء وتلوُّث النیة كثیراً ما یقع فی موارد الانفاق فانّ القرآن الكریم یحذّر منه بشدة ویدعو الى مراقبة الاخلاص فی النیة، خاصةً فی الانفاق المستحب، اذ انّ الریاء آفة كبیرة لاعمال الخیر وخاصة الانفاق. وما أعظمها خسارة ان یبذل الانسان مالاً صرف جهوداً وأتعابا لكسبه طوال عمره فی طریق الخیر، ثم یبطله بدافع الریاء. اعتبر القرآن فی بعض الآیات الانفاق المحبّذ ما كان لله عز وجل، فقد أثنى مثلاً على الذین ینفقون اموالهم فی سبیل الله فقط حیث قال تعالى:

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِیدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً)([2]).

تشیر روایات الشیعة والسنّة الى ان هذه الآیات الكریمة مرتبطة بأهل البیت(علیهم السلام)الذین كانوا یطعمون الیتیم والفقیر والمسكین ولكن ماكانوا یتوقّعون أیَّ أجر وتقدیر من أحد وكان دافعهم الوحید هو رضا الله تعالى.

جاء فی آیة اُخرى:

(وَ ما آتَیْتُمْ مِنْ رِباً لِیَرْبُوَا فِی أَمْوالِ النّاسِ فَلا یَرْبُوا عِنْدَ اللّهِ وَ ما آتَیْتُمْ مِنْ زَكاة تُرِیدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)([3]).

إذنْ اذا رغبتم فی مضاعفة اموالكم عند الله والربح الذی تبغونه من هذا المال فعلیكم بإنفاقه فی سبیل الله وبنّیة خالصة. هذه الآیة تشیر الى انّ الشرط لمطلوبیّة الزكاة ومضاعفتها هو الاخلاص.

یقول القرآن حینما یبیّن قیمة عمل المؤمنین الذین ینفقون من أجل الله:

(مَثَلُ الَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِی كُلِّ سُنْبُلَة مِائَةُ حَبَّة وَ اللّهُ یُضاعِفُ لِمَنْ یَشاءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِیمٌ)([4]).

على العكس من ذلك فاقدوا الاخلاص الذین ینفقون ریاء ولا یؤمنون بالله ویوم الجزاء، فان انفاقهم لا قیمة له ولا یعود علیهم بشیء. ان عملهم كمن یزرع على الصخر الذی علیه شیء من الغبار والتراب، فان قلیلا من المطر لا یبقی منه شیئا.

اذا آمن الانسان بالله ویوم الجزاء فانه لا یجعل الله عز وجل فی عرض الناس، فضلا عن تفضیلهم علیه والانفاق لكسب رضاهم. من هنا یشیر القرآن الى هذه الحقیقة ویذكر الریاء مع الالحاد بالله ویوم الجزاء.

من یؤمن بالآخرة ویتمتع بمعرفة اللّه تعالى یعمل بنحو یكون عائداً علیه بالثواب الاخروی والابدی ولا یلتفت الى استحسان الآخرین ورضاهم. والمال الذی ینفق ریاء كبذرة تزرع على صخرة ذات قلیل من التراب، ویرغب الانسان فی ان تبقى وتنمو وتثمر، فی حین انّ المطر یغسل هذا التراب والبذرة على الصخر، والذی یبقى هو الصخر الاملس الذی لا أثر للتراب والبذرة علیه، ولا یحصل على ثمرة ذلك، لیس هذا فحسب بل سوف یفنى من أصله. ویقول فی آیة اُخرى عن قیمة الاخلاص والانفاق باخلاص:

(وَ مَثَلُ الَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ تَثْبِیتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّة بِرَبْوَة أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَیْنِ فَإِنْ لَمْ یُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ)([5]).

الذین ینفقون من أجل الله كأنهم یملكون بستانا مثمراً فی ارض رابیة وتصیبها الأمطار المفیدة وتعطی ثماراً كثیرة یانعة ومتنوعة.

جاء فی آیة اُخرى:

(وَ الَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النّاسِ وَ لا یُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْیَوْمِ الآْخِرِ وَ مَنْ یَكُنِ الشَّیْطانُ لَهُ قَرِیناً فَساءَ قَرِیناً)([6]).

یستفاد من هذه الآیة ملاحظات رائعة:

الاُولى ان الآیة تشعر بانّ المرائی لا یؤمن بالله ویوم الجزاء، وان كان ذا ایمان فهو ضعیف، ولو كان قویا لم یؤدِ عمله لكسب رضا غیر الله عز وجل، ولهذه العلاقة بین الریاء والالحاد أو ضعف الایمان یذكر القرآن الریاء فی عدة موارد مقرونا مع الالحاد، ولیس هذا صدفة، بل یحكی عن العلاقة بین هاتین الظاهرتین.

الثانیة ولعلها مستمدة من الملاحظة الاُولى هی انّ المرائین قرناء الشیطان الذی یجر الانسان نحو التیه، ولا یملك المرائی ایمانا صلباً كی یحمیه ویمكنه من الدفاع عن نفسه تجاه الشیطان.

الشرط الثالث للانفاق فی رؤیة القرآن هو اخفاؤه، فعلى المسلمین السعی لدفع الصدقة خفیة، ولا تكون اعانتهم للفقراء فی محضر الناس لان العمل خفیة ذو حسنین:

الاول هو أن الانسان یبقى مصوناً من الریاء، اذ ان الانفاق لا یكون فی محضر الآخرین لیبتلى بالریاء وحبط العمل بالتالی.

الثانی ان شخصیة الفقیر الذی یتقبل الانفاق ستحفظ بنحو افضل ولا تهدر كرامته أمام الآخرین.

وعلیه فان للصدقة فی السّر فائدة شخصیة للمنفق، وهی انه لا یبتلى بالریاء ویكون اقرب للاخلاص، وفیها فائدة اجتماعیة حیث تحفظ كرامة الفقراء المؤمنین فی المجتمع، قال تعالى بهذا الشأن:

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِیَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَیْرٌ لَكُمْ وَ یُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَیِّئاتِكُمْ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِیرٌ)([7]).

ودفع الصدقة علناً قد یكون حسنا من هذه الجهة طبعا وهی انه سیرغّب الآخرین فی هذا العمل، أی فیه فائدة اجتماعیة. على أی حال فان الاحوال تختلف ویرتبط الأمر بدافع الانسان الذی یتصدق علناً.

الشرط القرآنی الرابع للانفاق هو أن یكون المال المنفق مرغوبا فیه، أی لا ینبغی الانفاق من الاشیاء الدنیئة القیمة وعدیمة الفائدة ولا یرغب فیها المنفق نفسه. ولا یعنی هذا طبعا ان لا یعطی ما لا یحتاجه الى الفقیر، بل یعنی ان لا یفكر دائما بتقدیم امواله الردیئة وعدیمة الفائدة، بل علیه أن یسعى لإنفاق ما یحبه ومن الأموال المفضّلة والمحبّبة لدیه.

قال تعالى بهذا الشأن:

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَیْء فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِیمٌ)([8]).

تؤكد هذه الآیة على هذا الشرط وهو ان اولیاء الله كانوا حینما یعجبهم مال فانهم ینفقونه فی سبیل الله.

جاء فی آیة اُخرى:

(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَیِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ وَ لا تَیَمَّمُوا الْخَبِیثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِیهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِیهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِیٌّ حَمِیدٌ)([9]).

یستفاد من هذه الآیات اننا لا ینبغی ان نهدی اموالاً لا رغبة لنا فیها أو نقدم للفقراء شیئا عدیم الفائدة. إذنْ ما نهدیه یجب ان لا یكون معیبا وناقصا الاّ انّ یكون العیب والنقص جزئیا ویمكن التغاضی عنه. الانفاق البنّاء والموجب لكمال الانسان هو أن یكون من اموال مفضّلة ومحبّبة.

و جدیر بالذكر ان الله سبحانه فی مثل هذه الموارد یلفت المنفق الى غناه كقوله تعالى فی الآیة الاخیرة (وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِیٌّ)، ولعله یرجع الى انّ المؤمن حینما ینفق شیئا لله على الفقراء فكأنه یسلّمه الى الله عز وجل. ولعله لهذا السبب یعبّر عن ذلك بـ (اقرضوا الله)، وهذا تحذیر للمنفق بان لا یظن ان طرف الانفاق انسان ضعیف وفقیر ویقدم له كل ما تناله یده فلا یراعی حیثیته وكرامته، بل علیه ان یعلم بان طرفه الآخر هو الله الغنی الذی لا یُهدى الیه أی شیء، بل لابدّ من انفاق المحبَّب، كما علیه ان لا یظن انّ التأكید الالهی على الانفاق هو لاحتیاجه الى انفاق الناس وعجزه عن رفع حاجات عباده المحتاجین!



[1]. البقرة 262 ـ 264.

[2]. الانسان 9.

[3]. الروم 39.

[4]. البقرة 261.

[5]. البقرة 265.

[6]. النساء 38.

[7]. البقرة 271.

[8]. آل عمران 92.

[9]. البقرة 267.

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...