القرآن والانزواء الاجتماعی
انّ الحیاة الاجتماعیة رغم أهمیتها وما لدینا من ارشادات اسلامیة بشأنها لا یمكن اعتبارها قیمة مطلقة، ولذا یكون الانزواء الاجتماعی أو الهجرة من المجتمع ـ فی بعض الموارد ـ أفضل من المیل الى المجتمع.
فی القرآن آیات تثنی على الهجرة والانزواء الاجتماعی وهذه لا تبیّن طبعاً انّ الانزواء الاجتماعی ذو قیمة مطلقة. نشیر هنا الى نماذج من هذه الآیات:
1ـ جاء فی قصة اصحاب الكهف أنّ شبابا صالحین قد هجروا مجتمعا فاسداً ولجأوا الى غار، قال تعالى: (وَ إِذِ اعْتَزَلُْتمُوهُمْ وَ ما یَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ یَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ یُهَیِّىْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً)([1]).
والقرآن یثنی على هذه الهجرة لانّ هؤلاء هجروا ذلك المجتمع وابتعدوا عن بؤرة الفساد صوناً لدینهم.
انّ قصة أصحاب الكهف تشیر الى انّ قیمة المیل الى المجتمع والحیاة الجماعیة لیست مطلقة، ولم یكن بوسع اولئك اختیار الحیاة الجماعیة فی ظروف ذلك المجتمع، إذ انّ ضرر الحیاة فیه أكبر من نفعها.
2ـ اعتزال النبی ابراهیم(علیه السلام) المجتمع النمرودی المشرك. فانّ هذا المجتمع لم یذعن لدعوى هذا النبی، وبلغ به الأمر الى إلقائه فی النار فلم یكن من المبرّر لابراهیم(علیه السلام) أن یبقى ویعیش فی هذا المجتمع، فتحتم علیه هجرانه، ولذا قال لهم:
(وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّی عَسى أَلاّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّی شَقِیًّا)([2])
وقد شمله الله سبحانه برعایته لاعتزاله وهجرته، حیث یقول:
(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما یَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ یَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنا نَبِیًّا * وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْق عَلِیًّا)([3]).
3ـ رهبانیة اصحاب السید المسیح(علیه السلام) اُنموذج آخر حیث یقول القرآن بهذا الشأن:
(وَ رَهْبانِیَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَیْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللّهِ)([4]).
إذنْ لم یوجب علیهم الحیاة الانفرادیة واختیار الرهبانیة، الاّ انّ الظروف كانت بنحو لم یجدوا طریقة لحفظ دینهم غیر ذلك، وكان علیهم اعتزال ذلك المجتمع الفاسد وغیر المتدین لكی یباشروا ـ فی فرصة مؤاتیة ـ هدایة الناس واصلاحهم، ویمهّدوا لحركة دینیة واصلاحیة. لقد یئسوا من أداء واجباتهم جیداً فی ذلك المجتمع الفاسد، ولذا كانوا یعبدون الله خفیة فی الأدیرة والصوامع، ثم غدا ذلك سنّة بین أتباع السید المسیح(علیه السلام)تدریجیاً.
ولذا یمكن القول انّ الرهبانیة كانت ـ فی تلك الظروف ـ الطریقة الوحیدة لعبادة الله ونیل رضاه، وفی هذه الحالة لا یمكن أن تكون غیر محبذة.
[1]. الكهف 16.
[2]. مریم 47.
[3]. مریم 49 و 50.
[4]. الحدید 27.