التعارض الظاهری بین آیتین
قال تعالى فی آیة اُخرى فی القرآن الكریم:
(وَ لَنْ تَسْتَطِیعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَیْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِیلُوا كُلَّ الْمَیْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِیماً)([1]).
لقد أفرط البعض لدى الجمع بین هذه الآیة والآیة آنفة الذكر، وقالوا: ان الآیتین معا تدلان على عدم جواز الزواج بأكثر من زوجة واحدة، لان الآیة الاُولى تجعل جواز تعدد الزوجات متوقفاً على رعایة العدالة بینهن، والآیة الثانیة تدل على ان رعایة العدالة بین الأزواج أمر غیر ممكن، والتعامل بنحو عادل مع الزوجات غیر مقدور للزوج، فتكون نتیجة الجمع بین الآیتین هی عدم جواز الزواج بأكثر من زوجة واحدة.
من البدیهی انّ الجمع بین الآیتین بهذا النحو لا یعنی سوى الحط من شأن الآیات، اذ كیف یمكن أن یسمح الله سبحانه بزواج الانسان من اربع ازواج مشروطاً بالعدالة من جهة ثم یقول انكم لا تستطیعون رعایة هذا الشرط من جهة اُخرى، فتكون النتیجة عدم جواز الزواج بأكثر من امرأة؟! حتى كلام الانسان الاعتیادی لا یمكن تفسیره بهذا النحو فكیف بالكلام الإلهی الذی بلغ الذروة فی الفصاحة والبلاغة؟ الادراك الصحیح لمفهوم الآیتین والجمع بینهما یقتضی ملاحظة ذیل (الآیة 129) الدال على انّ العدالة التی لا یستطیع الانسان رعایتها لیست رعایة حقوق الأزواج القانونیة، لان رعایة هذه العدالة لیست أمراً غیر ممكن، بل رعایة التساوی المطلق بین الأزواج وهی العدالة التی اعتبرتها عبارة (ولن تستطیعوا ان تعدلوا بین النساء ولو حرصتم).
المقصود هو انكم لو أردتم المساواة التامة بین ازواجكم دون تفرقة كان ذلك أمراً غیر میسور لكم، سیّما وان درجة المحبة القلبیة والتعاطف مع الأزواج لیس بید الانسان حتى یراعی العدالة فیه، ومن الطبیعی أن یكون اختلاف الحب فی القلب منشأ للاختلاف فی السلوك الظاهری للانسان أیضاً. وعلیه لو أراد صاحب الزوجات المتعددة التعامل معهن تعاملا موحداً دون تفرقة فی المحبة القلبیة والسلوك الظاهری كان ذلك أمراً غیر عملی، لان إحداهن تكون أجمل والاُخرى أقلّ جمالا، أو تكون احداهن أكثر شبابا والاُخرى أكبر سنّاً، أو تكون إحداهن افضل خلقا والاُخرى سیئة الخلق، وأخیراً فانّ فی النساء جهات مختلفة ویكون التفاوت فیها ـ شئنا أم أبینا ـ منشأ للتفاوت فی محبة المرء القلبیة تجاه زوجاته، الأمر الذی یؤثر الى حدٍّ ما على سلوكه بنحو لا شعوری أیضاً.
یقول سبحانه بانّ رعایة هذه الدرجة من العدالة أمر غیر ممكن، ولا نطلبه منكم، بل علیكم ان لا تصرفوا وجوهكم عن إحداهن وكأنها لیست زوجة، ولا یبلغ الأمر حد الاهمال حتى لحقوقها القانونیة. وهذا ما یستفاد من العبارة:
(ولن تستطیعوا ان تعدلوا بین النساء ولو حرصتم فلا تمیلوا كل المیل فتذروها كالمعلّقة).
[1]. النساء 129.