علاقة الأبناء مع الوالدین
ان أهم علاقة یمكن اقامتها بین انسانین هی علاقة الولد مع والدیه، فهی تعكس تبعیة وجود الولد لوجود والدیه. ولا یمكن هنا اعتبار العلاقة المتبادلة ملاكا لتقییم السلوك والأفعال المتبادلة بینهم لان الولد عاجز عن التأثیر على والدیه كتأثیرهما فی نشوئه. فوجود الولد تابع لوجود والدیه فی حین لا یتبع وجود الوالدین وجود ولدهما أبداً.
وعلیه لا یمكن تقییم علاقة الولد مع والدیه استناداً الى مبدأ العدل والقسط لان أساس العدل والقسط قائم على وجود علاقات متبادلة بین فردین أو أكثر، وبالتالی ثبوت حقوق ومسؤولیات متبادلة بینهما. أینما وجد حق ومسؤولیة متبادلة كان هناك نوع من التأثیر والتأثّر المتبادل. أما تأثیر الوالدین فی وجود ولدهما فلن یتأتّى للولد جبرانه بالنسبة الیهما. من هنا یدعو الله سبحانه فی القرآن الكریم الى الاحسان بالوالدین بنحو متواصل، ویعتبره ملاكا للقیمة فی علاقة الولد مع والدیه. اننا لا نجد آیة توجب على الولد التعامل بالعدالة مع والدیه، لان العدالة لا یمكن تحقیقها فی علاقة الولد مع والدیه.
یُدعى الأبناء فی آیات كثیرة الى الاحسان بوالدیهم، مما یشیر الى ان حق الوالدین على الولد عظیم جداً لا نظیر له فی سائر أفراد المجتمع.
من الممكن طبعاً أن یكون للوالدین حقوق اُخرى على الولد غیر حق الاُبوة والاُمومة، ولهذه الحقوق نظیر فی سائر أفراد المجتمع، الاّ انّ أصل حق الاُبوة والاُمومة لا یمكن ملاحظته فی موضع آخر. ومن هنا نلاحظ وجود واجبات وتكالیف على الولد بالنسبة لوالدیه ولا یوجد مثلها فى مجال آخر.
یتضمن القرآن الكریم تعابیر جذابة بشأن حقوق الوالدین على الأبناء وواجبات الأبناء تجاه الوالدین توضح أهمیتها جیداً، یقول تعالى فی آیة مباركة:
(وَ اعْبُدُوا اللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَیْئاً وَ بِالْوالِدَیْنِ إِحْساناً)([1]).
فی هذه الآیة یدعو الله سبحانه الى الاحسان بالوالدین عقیب الأمر بعبادة الله والنهی عن الشرك مما یشیر الى الاهمیة البالغة لِحقوق الوالدین على الأبناء.
ویقول فی آیة اُخرى:
(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَیْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَیْئاً وَ بِالْوالِدَیْنِ إِحْساناً)([2]).
كما یقول سبحانه:
(وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِیّاهُ وَ بِالْوالِدَیْنِ إِحْساناً)([3]).
(القضاء) هنا یعنی التكلیف القطعی المنجز والمؤكد. ان أعلى تكلیف یوجّه الى الانسان هو عبادة الله سبحانه، والتعبیر بـ (قضى) الذی لا یضاهیه تعبیر (أمر) ولا أیّ تعبیر آخر یفصح عن هذه الأهمیة. ثم یتابع بقوله (وبالوالدین احسانا) أی یامر بالاحسان بالوالدین بتعبیر (قضى) ذاته الذی أمر به فی عبادة الله بنحو مؤكد ومحكم، مما یشیر الى ان الاحسان بالوالدین بعد عبادة الله عزّ وجلّ قد وقع موضوعاً للأمر والحكم الإلهی المؤكد.
ما ذكرناه یمثل المنهج القرآنی العام، ولذا اعتبر الاحسان بالوالدین ـ فی الآیات القرآنیة الاُخرى ـ عقیب الأمر بعبادة الله تعالى والنهی عن الشرك ـ من أهم الواجبات الاسلامیة، الاّ انّ الآیة موضوع البحث تمتاز بخصوصیات وتنطوی على مزید تأكید بهذا الشأن.
ونتیجةً للتأكید البالغ على الاحسان بالوالدین فی القرآن ینشأ هذا الوهم وهو وجوب تسلیم الولد لوالدیه تسلیما مطلقاً، لذا یأمر الله دفعاً لهذا الوهم:
(وَ وَصَّیْنَا الإِْنْسانَ بِوالِدَیْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِی ما لَیْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما)([4]).
بناء على ذلك فانّ عبارة (وإنْ جاهداك...) تفید أن طاعة الوالدین واجبة ما لم یدعواك الى الكفر.
والمقارنة بین الأمرین یوضح درجة خضوع الانسان لوالدیه.
[1]. النساء 36.
[2]. الانعام 151.
[3]. الإسراء 23.
[4]. العنكبوت 8.