مصادیق للاحسان بالوالدین
ومن جانب آخر تحدثت الآیات المذكورة عن مطلق الاحسان ولم تُشر الى احسان خاص فهی تشمل إذنْ كلَّ احسان، ولكن فی آیات اُخرى توصی باحسان خاص ومنها قوله تعالى:
(كُتِبَ عَلَیْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَیْراً الْوَصِیَّةُ لِلْوالِدَیْنِ وَ الأَْقْرَبِینَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِینَ)([1]).
قال الفقهاء والمفسرون ان هذه الآیة نزلت قبل آیات الارث، ولعدم تحدید حق للوالدین فی الارث بعدُ فانّ الله سبحانه یأمر الولد بأن یخصص حین موته شیئا من أمواله لوالدیه فی وصیته، ولكن یمكن القول ان استحباب الوصیة للوالدین ساری المفعول حتى بعد نزول آیات الارث، ولم تنسخ الآیة المذكورة، بل انّ المراد هو الوصیة بما یفوق حق الارث سیّما اذا كان الوالدان معوزَین، فاضافة الى سهم الارث تستحب الوصیة لهما بشیء، وهذا نوع من الاحسان المالی بالوالدین.
وعلیه یحسن بالمرء أن یخصص شیئا من ثلث أمواله لوالدیه اضافة الى حقهما فی الارث، وهذا شاهد اخر على أهمیة حق الوالدین، قال تعالى فی آیة اُخرى:
(یَسْئَلُونَكَ ما ذا یُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَیْر فَلِلْوالِدَیْنِ وَ الأَْقْرَبِینَ)([2]).
فقد ذكر الوالدین فی هذه الآیة قبل الجمیع وذلك بترجیحهما حال كونهما معوزین.
الآیات المشار الیها تؤكد على الاحسان المالی، ولكن هناك مجموعة اُخرى من الآیات تهتم بنوع من الاحسان القولی والسلوكی، كالآیة القائلة:
(وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِیّاهُ وَ بِالْوالِدَیْنِ إِحْساناً إِمّا یَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِیماً * وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّیانِی صَغِیراً)([3]).
مرحلة الشیخوخة فترة یكون الوالدان فیها ضعیفین وعاجزین عن العمل، وبحاجة الى ولدیهما احتیاجاً حیویاً، من هنا فانّ على الولد اخلاقیاً وشرعاً رعایة حقوقهما خاصة فی هذه الحالة. فما دام الوالدان شابّین فانّهما لیسا بحاجة الى الولد فی الشؤون المالیة وغیرها غالبا، بل قد یفوقانه فی العمل وبذل الجهود بل قد یساعدانه، ولكنهما غیر قادرین أیام الشیخوخة على بذل جهود من أجل الحیاة كالشباب، سیّما وان مرحلة الشیخوخه تصحبها عادة الأمراض ومشكلات اُخرى. فی هذه الحالة هما بحاجة الى إعانة ابنائهم ورعایتهم، فیجب بذل ذلك بصبر وأناة تامة.
قد یجزع الولد لدى التعامل مع هؤلاء العاجزین والضعفاء فی موارد كثیرة، ویبدو علیه التعب والتذمر والجزع، فیولی القرآن الكریم أهمیة خاصة لهذه الموارد ویوصی الانسان بان لا یبدو متعبا ومتألماً وأن یجتنب الحالة التی تشعر الوالدان بانّه متعب جرّاء رعایتهما، قال تعالى:
(فَلا تَقُلْ لَهُما أُفّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِیماً)
ثم یقول تعالى:
(وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)
یقول المفسرون فی شرح هذه العبارة انّ الطیور تخفض اجنحتها الى الارض لدى تواضعها لطیر آخر أو لمن یخدمها. یقول سبحانه فی هذه الآیة، ینبغی أن تكون حالتكم تجاه والدیكم كحالة هذا الطیر، كونوا متواضعین ومتذلّلین واجتنبوا التكبر وتصعیر الخد والفظاظة والحدّة فی التعامل.
[1]. البقرة 180.
[2]. البقرة 215.
[3]. الإسراء 23 ـ 24.