مقدمة
من اكثر القیم الاجتماعیة بداهة هو الوفاء بالعهد، وهو یحظى باقرار عام ویتفق علیه جمیع العقلاء حتى ان بعض المفكرین الغربیین اعتبر الأصل لجمیع القیم الاجتماعیة هو العقود والعهود التی تعم العقود العلنیّة والرسمیة أو العقود الارتكازیة والضمنیة.
انّ الدیمقراطیة واللیبرالیة الغربیة قد شُیدت على اساس نظریة العقد الاجتماعی اذ یعتبر العقد الاجتماعی والعهود أساسا للحقوق. على أساس هذا المبنى یكون الشیء الثابت الوحید والذی یأبى التغییر هو حق المشاركة فی العقد الاجتماعی والعمل فی إطاره والالتزام بالعقود الاجتماعیة. لهذه الأمور قیمة ثابتة ولا تعرف زمانا ومكانا خاصا، ولكن الحقوق المترتبة على هذه العقود فی هذه الرؤیة متغیرة بصورة أو باخرى، وتكون الظروف الاجتماعیة المختلفة حسب الرقعة الجغرافیة والزمان وغیرهما مؤثرة فی تغییرها، وباختصار حتى هذه المذاهب القائلة بنسبیة القیم الأخلاقیة اعتبرت العمل بالعقود والالتزام بالعهود أمراً ثابتا ودائما.
وتشبه قیمة الامانة قیمة العقود والالتزام بالعهود، أی ان وجوب رد الامانة حكم ثابت ودائم لا یتغیر مهما كانت الظروف. ومن الممكن القول ان قیمة حفظ الامانة من مصادیق قیمة الالتزام بالعهود والعقود لان عقد الامانة فی الواقع هو عقد بین مودعِ الامانة وبین المستودع حیث یتعهد الاخیر على اساس هذا العقد بالمحافظة على الامانة وردها الى مودعها.
حكم العقل فی مجال الوفاء بالعهد وحفظ الامانة
ان وجوب رد الامانة والوفاء بالعهد من المستقلات العقلیة، أی من الاحكام التی یدركها العقل دون حاجة الى ارشاد شرعی. انّ الشریعة لا تُعمل ولایتها فی وجوب رد الامانة والوفاء بالعهد، بل انّ الحكم الشرعی فی هذا المجال حكم ارشادی، وحتّى لو لم نملك أی دلیل شرعی على وجوب الوفاء بالعهد ورد الامانة فانّ حكم العقل هذا كاف لإثبات الحكم الشرعی.
ویعتقد عدد من محققی علم الأصول بانّ المراد من هذا النوع من المستقلات العقلیة (ای المستقلات العقلیة فی دائرة الادراكات العملیة كوجوب رد الامانة والوفاء بالعهد، وحسن العدل وقبح الظلم) لیست سوى الآراء المحمودة. ان قولنا: انّ العقل یحكم بهذه الاحكام العملیة بدون اعانة من الشارع لا نقصد به ان هذه الاحكام البدیهیة للعقل العملی كبدیهیات العقل النظری واقعا، بل المقصود هو حكم العقل فی الأمور الاعتباریة التی لا یمكن اقامة البرهان لاثباتها. انّ المسائل التی تترتب على هذا النوع من الاحكام لها حیثیة جدلیة لانه كما تمت الاشارة من قبلُ انها من الآراء المحمودة التی هی من مقدمات القیاس الجدلی.
تحقیق حول الموضوع
كما أشرنا سابقاً یكون هذا النوع من الاحكام العقلیة قابلا للاثبات بالدلیل والبرهان العقلی، وقد أشرنا الى طریق اثبات هذا النوع من الاحكام وقلنا: اننا نعتقد بان افعال الله سبحانه حكیمة وان خلق الكون والانسان له هدف، ثم نصل الى هذه النتیجة وهی ان متعلق الارادة الالهیة والهدف من افعاله هو كمال الموجودات، ولكن نظراً لوجود التزاحم فی عالم الطبیعة وعدم قدرة جمیع الموجودات على الوصول الى كمالها الخاص بها، أو حتى اذا وصلت فانها لاتستطیع البقاء على هذا الكمال، فلابدّ أن تكون مسیرة حل حالات التزاحم هذه بنحو یترتب فیه كمال أكبر فی مجموع الحالات، وبعبارة أوضح ان یكون اتجاه المسیرة العامة للموجودات نحو الكمال بصورة عامة، وقد بیّن هذا الامر فی الفلسفة بهذه الصورة: یجب ان یكون الخیر غالباً على الشر فی عالم الخلق.
مثلاً لاستمرار وجود الانسان ووصوله الى الكمال لابدّ أن یستمد رزقه من امور اُخرى، والنتیجة هی التضحیة بالنبات والحیوان واشیاء اُخرى لكی یبقى الانسان ویصل الى كماله، فی حین لو كان المقرر بقاء النباتات والحیوانات كلها كان من الطبیعی ان یعجز الانسان من البقاء والنضج ومواصلة الحیاة وبلوغه الكمال اللائق به، ولذا نقول: المطلوب هو أن تكون المسیرة العامة لحركة الموجودات نحو الكمال، والنتیجة العامة لها هی الكمال، لان الذات الالهیة تقتضی الكمال، ونثبت ببرهان (اللّم) انّ العالم ذو نظام أحسن وتكون مسیرته العامة نحو الكمال.
ان ما یوجد من الافعال والانفعالات والتأثیر والتأثرات بین الموجودات الطبیعیة لا تكون متعلقا للارادة الالهیة التشریعیة مادامت تحدث بصورة طبیعیة وتكوینیة، لان الارادة التشریعیة تتعلق بفعل الفاعل المختار، أی تتعلق بفعل ینجز بارادة الفاعل واختیاره. ومن بین موجودات العالم یوجد على الاقل نوع واحد منها فاعل مختار، أی بوسعه التحرك نحو الخیر والكمال وهكذا نحو الشر والنقص، ولكن بملاحظة الأصل الذی بیناه یجب ان یكون خلق طینة بنی الانسان وتنظیم میولهم بنحو تتسلط فیه بالتالی اعمالهم الصالحة على اعمالهم الشریرة، وان یكون الصالحون من بنی الانسان اكبر عدداً من الاشرار، وان لم یكونوا اكبر عدداً، فعلى الاقل ینبغی أن تتصف الاعمال الصالحة وبنو الانسان المحسنون بجودة عالیة ودرجات سامیة بحیث لا تجبر الكم القلیل للاعمال الصالحة والمحسنین ازاء الاعمال القبیحة والافراد الاشرار فحسب بل تكون بالتالی سببا لهیمنة وغلبة جودة الاعمال الصالحة والافراد المحسنین.
باختصار لقد تعلقت الارادة التكوینیة الالهیة بتحقق الكمالات الانسانیة وغلبتها على الشرور والنقائص، وهذه الحقیقة تستدعی غلبة الخیر كما أو كیفا على الشر. وهكذا تتحقق الاراده التشریعیة فی ظل هذه الارادة التكوینیة، لان الارادة الالهیة التكوینیة قد تعلقت بأن یصل الانسان من خلال اعماله الصالحة الى كماله اللائق به اختیاراً، وبما ان وصول الانسان الى كماله اللائق به غیر ممكن بدون هدایة وارشاد إلهی فان الله یهدیه ویأمره بسلوك طریق ینتهی الى كماله. وعلیه فان الارداة الالهیة التكوینیة التی تعلقت بالتكامل الاختیاری للانسان تكون ممهدة لایجاد نظام تشریعی للانسان یهدیه الى كماله وسعادته.
من جهة اُخرى نظراً لتعلق الارادة الالهیة التكوینیة بتكامل الانسان واستناد تكامل الانسان الى توفُّر بعض الظروف فان الارادة الالهیة التكوینیة اذن تقتضی توفر تلك الظروف. وكمثال فان تكامل الانسان یتوقف على قدرته على الانتفاع بالموجودات الطبیعیة الاُخرى كالنباتات والحیوانات والتغذی منها. نستنتج ان الارادة الالهیة التكوینیة تستدعی ثبوت حقوق للانسان فی الارادة الالهیة التشریعیة وفی الشریعه المقدسة للتصرف والانتفاع بهذه الموجودات الطبیعیة والتمتع بكل ما ینفعه فی مسیرة التكامل وان یكون له حق بصورة عامة لتوفیر شروط تكامله من خلال التصرف فی الموجودات.