المستقلات العقلیة فی مجال الاحكام العملیة
البیان المذكور یشیر الى وجود مجموعة من الاحكام والحقوق بصورة مجملة فی عالم الثبوت ونفس الامر، ولكن لاثبات مصادیق هذه الاحكام والحقوق یمكن القول فی الموارد التی یتعرف فیها الانسان بعقله وادراكه یقینا وبنحو واضح على مصادیق تنفعه فی مسیرة تكامله ولا تشكّل مانعا وضرراً فی نیله للكمال، یكون قادراً على كشف حقه وتكلیفه بادراكه العقلی. ومن البدیهی ان جمیع الموارد والمصادیق لا تكون متساویة وفی الكثیر من الموارد لیس بوسع الانسان تحدید حقوقه وتكالیفه بادراكاته العادیة والعقلانیة ویعجز عن فهم ان الوصول الى الكمال هل یتوقف واقعا على مثل هذه الحقوق والتكالیف أم لا؟ ویعجز تارة عن ادراك حقوقه وواجباته بسبب وجود حالات التزاحم وعجزه عن ادراك الأهم والمهم والحكم على اساسه.
فی الموارد التی یفقد الانسان القدرة على تحدید حقه وتكلیفه یكون الوحی هو المحدد، ولكن وفق حكم عام یقول لنا العقل بنحو بدیهی انّ الهدف من التشریع والامر والنهی فی الدین ومضمون الوحی هو كمال الانسان، وعلى الشریعة اعانة الانسان فی طریق الكمال.
هناك طبعا مجموعة من الحقوق التی تثبت للانسان ازاء الطبیعة وفی نطاقها بوسع الانسان ان یتعرف على ما یحق له الانتفاع به من الموجودات الطبیعیة الاّ انّ هذه الحقوق تتفاوت مع الضوابط الاجتماعیة والمصطلح علیها فی علم الحقوق. من هنا تثبت فی المقابل للموجودات الاُخرى حقوق كهذه الحقوق على الانسان كحق الارض والاشجار والحیوانات. انه المفهوم الاوسع للحق والذی یطرح فی الدین، ولكن فی علم الحقوق لا یبحث عن هذا النوع من الحقوق، بل عن العلاقات الاجتماعیة والحقوق المتبادلة بین بنی الانسان فحسب.
* * *
لقد تعرفنا اجمالاً على منشأ حقوق بنی الانسان المتبادلة فی المذاهب الحقوقیة المختلفة، واتضّح ان لكل منها رؤیة من جملة الرؤى الأساسیة الثلاث هذه:
1 ـ منشأ الحقوق هو ارادة الحكومة.
2 ـ منشأ الحقوق هو ارادة الامة.
3 ـ منشأ الحقوق هو فطرة الانسان وطبیعته.
هنا نرید القول ان أیاً من هذه الرؤى الثلاث لا تحظى بتأیید فلسفة الأخلاق وفلسفة الحقوق الاسلامیة، فمثلاً لا یكون مجرد وجود الجهاز الهضمی والفم والاسنان فی خلقة الانسان دلیلا دامغاً لاستحقاق الانسان تناول الاطعمة، أی ان هذا (الوجوب) لا ینشأ من ذلك (الوجود).
ما یقال من ان الانسان لامتلاكه جهازاً هضمیا وفما واسنانا فیحق له طبیعیا ان یأكل من الطبیعة ما یؤكل كما هو الأصل فی الحقوق الطبیعیة الاُخرى، فانه یكون من الآراء المحمودة وهی مقبولة فی محلها ولكنها لیست بدیهیة وبرهانیة. ان جمیع بنی الانسان یقرّون بضرورة تناول الانسان للطعام ولكن قد یكون حكمهم هذا هو لطلب المنفعة ولیس على اساس الدلیل والبرهان والحكم العقلی.
على أی حال فانّ الدلیل الذی یستند الى الآراء المحمودة فی مقدماته لا یكون برهانا بل جدلا.
ان رؤیة القائلین بان ارادة الحكومة هی المنشأ للحقوق خاویة تماما ولا اساس لها، لان الحكومة تتركب من بنی الانسان هؤلاء ولا تكون تركیباً منفصلا عنهم. واذا كان بنو الانسان معتدین فی طبیعتهم فانّ الجهاز الحاكم لا یكون منفصلا عن الآخرین أیضاً، بل یكون جزءاً من بنی الانسان الاشرار وسیئی السریرة هؤلاء.
بملاحظة ما ذكر یتضح ضعف وخواء أقوال اشخاص امثال میكیافیلی وهابس:(ان بنی الانسان ذئاب والعدوانیة من ذاتیاتهم، وعلیه یجب وجود حكومة تحكمهم). انّ المفهوم الواقعی لهذه المقولة هی انّ الناس لما فیهم من صفات الذئب فلابدّ أن یكونوا فی قبضة ذئب اكبر أی الحكومة لانها مركبة من هؤلاء الناس حملة صفات الذئب، ولكن یحق لنا ان نسال اذا تسلط ذئب أقوى على الناس باسم الحكومة فلماذا یجب طاعتها من قبل الآخرین منطقیاً؟
اذا كان السبب هو قوة الحكومة واقتدارها فینبغی بنا اطاعتها ولا مفر من ذلك، فیجب القول: ان هذا القول لا مفهوم له سوى الاضطرار، أی لا سبیل امام الآخرین الا طاعتهم للحكومة.
الاّ انّ هذا الاضطرار لا یعنی أبداً لزوم طاعة الانسان للحكومة بنحو دائم، بل مادام هذا الاضطرار قائما فلا مفر للانسان من الطاعة، وعند ارتفاع الحاجة الى الطاعة وزوال الاضطرار بامكانه التهرب من اوامر الحكومة.
ما تحصل هو عدم امكان استنتاج وجوب طاعتنا لاوامر الحكومة من ادلة میكیافیلی وهابس. النتیجة الوحیدة التی یمكن استنتاجها منها هی وجوب طاعة الحكومة مادمنا مضطرین، ومادامت اعمالنا مشهودة للحكومة وبامكانها ملاحظتها والاطلاع علیها، وفی غیر هذه الحالة أی ان لم نكن مضطرین وكانت اعمالنا محجوبة عن انظار الحكومة فلا تجب الطاعة، وعلى هذا الأساس لا یمكن استنباط ایة قیمة اخلاقیة وحقوقیة من طاعة الحكومة.
وتكون مقولة القائلین بان منشأ الحقوق هو الناس ویعتقدون بانّ الحقوق تنشأ على اساس المعاهدات وجیهة الى حد ما، أی انّ الناس حینما تعاهدوا على انجاز اعمال بنحو متبادل والتزموا بهذا التعاهد عملیا فان هذا التعاهد خاصة اذا كان عادلاً یستدعی الحیاة المنظمة والهادئة والمریحة للناس، من هنا یقال: ان وجوب احترام العهود والعقود والامانات من الاحكام العقلیة المستقلة.
ولو امعنا النظر فان هذه المقولة لیست أمراً بدیهیا عقلیا بل هی من الآراء المحمودة أیضاً حیث یقال عادة: یقتضی العقل السلیم هكذا، وینشأ فی الحقیقة من حاجات الانسان ومتطلباته. بوسعنا طبعا ان نجعل هذه القضایا برهانیة بنحو آخر، وبالالتفات الى ما ذكرنا من الملاحظة ذاتها وهی حكمة الخلق والهدف الالهی.
وظن بعض اخر بان الله سبحانه یوجد القیم بالامر والنهی ویكون الامر الالهی منشأ لنشوء القیم والحقوق، أی انّ القیم والحقوق لیس لها واقع ثابت فی نفس الأمر مع غض النظر عن الامر الالهی، الاّ انّ هذه المقولة لا نقبلها أیضاً.
الرؤیة المقبولة عندنا
نحن نعتقد انّ القیم والحقوق ذات واقع ثابت فی نفس الأمر، أی ان واقعها الثابت فی نفس الأمر هو علاقة العلة والمعلول بین الاعمال القیمیة والنتائج التی تترتب علیها والكمالات التی تتحقق معها، وهی النتائج والكمالات المطلوبة ذاتیا وتلقائیا ویجب تحققها.
وأما قولنا:
انّ الكمالات یجب تحققها فان هذا (الوجوب) لیس (وجوبا) اخلاقیاً بل هو (وجوب) فلسفی، ومقصودنا من هذا الوجوب الفلسفی هو انّ الصفات الالهیة تقتضی تحقق تلك الكمالات لا اننا نرید توجیه امر اخلاقی الى الله عز وجل.
كما قلنا طبعا فانّ الصفات الالهیة تقتضی ذاتیا تحقق الكمال، ولكن بما ان الانسان موجود مختار، وكماله النهائی یتحقق عن طریق ارادته واختیاره فان الله لا یفیض كمالاته للانسان قهراً بل على اساس حكمته، ولهذا قام بهدایته وشرع له احكاما وأبلغها عن طریق الانبیاء(علیهم السلام) لكی ینال كمالاته الاختیاریة باختیاره والتزامه بتلك الاحكام.
وعلیه فانّ السند للقیم الأخلاقیة والحقوقیة هو علاقة العلة والمعلول الثابتة فی نفس الأمر والواقعیة بین الافعال القیمیة والكمال الانسانی، والضرورات القیمیة تعابیر عن ضرورات بالقیاس موجودة بین العلل أی الاعمال الاختیاریة ومعلولاتها أی الكمال الانسانی.
وظن بعض آخر انّ الكمال مفهوم قیمی ویستمد معناه من میل الانسان ورغبته، فمثلاً حینما نقول: ان لفاكهة الكمثرى كمالاً، فلاننا نحبها ونلتذ بأكلها، واذا تغیر طعمها وساءت نقول: لقد فقدت كمالها لانها فی هذه الحالة لیست مرغوبة ولا لذیذة. الكمال إذنْ أمر اعتباری ونسبی وتابع لمیل الانسان ورغبته ولا واقعیة له وراء میلنا واذواقنا وكونه مطلوبا ولذیذاً لدینا.
هذه المقولة لیست صحیحة أیضاً لان المراد من الكمال هنا هو الكمال الفلسفی بمعنى شدة الوجود، أی انّ الموجود قد یكون ذا رتبة وجودیة اعلى من موجود آخر، فمثلاً حینما نقیس النباتات الى الجمادات ـ دون ملاحظة الأنفع منها والألذ لدینا ـ ندرك بوضوح ان فی النبات اموراً اُخرى لا توجد فی الجماد. فی النبات نمو وتغذیة وتكاثر ولا توجد هذه فی الجماد، مما یدل على انّ النبات هو الارقى والاكمل بالقیاس الى الجماد، ولكن هذا الكمال لا یرتبط بمیلنا ورغبتنا.
تأییداً لهذه المقولة یحسن بنا ان نلتفت الى هذه الحقیقة وهی ان احتیاجنا الى الماء والهواء هو اشد من أی شیء آخر، ولكن لا یقول أحد بان كمال الماء والهواء اكبر من كمال شجرة الكمثرى. إذنْ الكمال مفهوم عقلی واقعی ولیس تابعا لرغبتنا ومیولنا واذواقنا. حینما یقال لابدّ من نیل الانسان لكماله فالمراد هو الكمال الواقعی هذا، وبالنسبة للانسان یمثِّل القرب الالهی ذروة الكمال له وهو أمر واقعی.
المیل الى الكمال
لقد جعل الله فی كل موجود ذی شعور میلا یسوقه نحو كماله اللائق به ویعتبر ذلك من الحِكم الالهیة العظمى، لان كل موجود لابدّ ان یسیر نحو كماله، وقد غرس الله سبحانه المیل الى الكمال فی فطرته. من هنا فان هذا الموجود یحب كماله وكل ما یكون نافعا له فی مسیرة الكمال ویلتذ به، ولكن الكمال فی ذاته ذو حقیقة ولا یكون تابعا لمیول الانسان.
وعلیه حینما نقول: لابدّ من نیل الانسان لكماله فان هذه المقولة لیست ذات مفهوم اخلاقی، بل تشیر الى مفهوم تكوینی وفلسفی وتبین هذه الحقیقة وهی انّ الذات الالهیة المقدسة تقتضی اتصاف العالم بكمال وجودی بحیث تكون جهة تحركه نحو ذلك الكمال. ومع وجود التزاحم فان ملاكنا فی رفعه هو نیل الانسان كمالاً اكبر. هذه قضیة فلسفیة وواقعیة، ولكن حینما ندرك انّ الفعل الاختیاری للانسان یكون سببا لتحقق الكمال ونشعر بان نیل الكمال یستدعی قیامنا باعمال خاصة وترك اعمال خاصة فانّ المجال یُفسح لطرح الأخلاق والقیمة الأخلاقیة.
بناء على ذلك فانّ القیمة تعرض على الفعل الاختیاری لانه وسیلة لتحقق الكمال، ولكن بما انّ الكمال فی ذاته لیس فعلا اختیاریا بل هو صفة لوجود عینی أو مرحلة وجودیة فانه لا یتصف بالقیمة الأخلاقیة، لانها تعرض فقط على الافعال الاختیاریة للانسان، ولا یمكن طرحها خارج نطاق الافعال الاختیاریة.
إذنْ حینما نقول: لابدّ أن یتكامل الانسان، اذا كان المراد هو تحقق ذلك الكمال النهائی فان هذه (اللابدّیة) لیست لابدّیة اخلاقیة لان متعلقها هو الكمال ذاته، وهو لیس فعلا اختیاریا، واذا كان المراد هو وجوب القیام بعمل یوصله الى الكمال فان هذه (اللابدّیة) لابدّیة اخلاقیة، لانها تعلقت بالفعل الاختیاری ویمكن ان تكشف عن قیمة اخلاقیة او حقوقیة.