المقدمة
هنا وبعد الحدیث عن حقوق الانسان، ومنها احترام شخصیة أعضاء المجتمع وحفظ كرامتهم وحیثیتهم، وهی من أهم الحقوق الاجتماعیة للانسان فی الاسلام، من المناسب ان نذكر ملاحظات عن الآداب التی ینبغی الالتزام بها من قبل أعضاء المجتمع فی المعاشرة فیما بینهم، ولها طبعا علاقة وثیقة مع احترام الافراد وصیانة حیثیتهم ومكانتهم، وقد أكّد القرآن الكریم على الاهتمام بها.
فی هذا المجال نلاحظ بصورة عامة مجموعتین من الآیات فی القرآن الكریم:
المجموعة الاُولى: الآیات التی ترتبط بعموم الافراد وتشیر الى آداب وتعالیم عامة یجب على الجمیع رعایتها.
المجموعة الثانیة: الآیات التی لیست عامة فی أصلها وتطرح آدابا ترتبط بالنبی(صلى الله علیه وآله وسلم)، ولكن كما سنوضح لاحقاً ان هذه المجموعة من الایات قابلة لأن توسّع بحیث تشمل الآخرین أیضاً.
1 ـ تتحدث المجموعة الاُولى عن الآداب العامة وترتبط بعموم الافراد وأعضاء المجتمع، وهی تتحدث عن آداب مختلفة بشأن كیفیة الدخول فی بیوت الآخرین أو تناول الطعام منهم أو كیفیة التعامل واللقاء بهم وامثالها، وتتضمن وصایا وتعالیم یجب على المسلم والمؤمن رعایتها، أو انها محبذة ومستحسنة على الاقل. نشیر هنا الى بعض هذه الآداب وآیاتها على التوالی:
أ ـ التحیة والاستئناس
حینما یرید المسلم دخول بیوت الآخرین فانه یوجد فی الاسلام آداب ینبغی رعایتها. الادب الاول فی الدخول الى بیوت الآخرین والتعامل معهم واللقاء بهم هو السلام والاستئناس معهم.
انّ السلام على صاحب الدار والانس معه والذی یصحبه طبعا السؤال عن الاحوال والمجاملات هو من الآداب الاسلامیة الاُولى ومن اهمّ ما ینبغی رعایته عند الدخول الى بیوت الآخرین، فلا ینبغی الدخول فیها فجأة وبدون صوت، بل یلزم فی الخطوة الاُولى إلفات صاحب الدار بدخوله بلین وهدوء واقامة علاقة صداقة وانس معه كی لا یستوحش ولا یضطرب ولا یظن به سوءاً ولا یبدی رد فعل غیر مناسب، ثمّ إشعاره ـ بالقاء السلام علیه والتحیة والشكر ـ بحبه ومودته وطمأنة جانبه تماما.
القرآن والتحیة
یدعو القرآن الكریم الى السلام فی عدد من الآیات او یذكر السلام ذكراً ممزوجاً بالثناء علیه بنحو ما، فیقول فی آیة كریمة:
(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُیُوتاً غَیْرَ بُیُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَیْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)([1]).
ویقول سبحانه فی آیة اُخرى:
(فَإِذا دَخَلْتُمْ بُیُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِیَّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُبارَكَةً طَیِّبَةً كَذلِكَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآْیاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)([2]).
الملاحظة الجمیلة التی تجلب الأنظار الیها هی ان الله سبحانه لماذا یأمر المؤمنین فی هذه الآیة بالسلام على انفسهم لدى الدخول؟
و هناك إجابتان مختلفتان عن هذا السؤال لا یخلوان من ظرافة، ویمكن تأیید كل اجابة منهما بالقرائن والشواهد، قال البعض: انّ المراد الأساسی للآیة هو: سلّموا على أهل الدار ولكن بما انّ المؤمنین بعضهم من بعض فانّ السلام على الآخرین بمثابة السلام على النفس. وفی القرآن موارد مشابهة لهذا الاطلاق، فقد اطلق الله سبحانه (انفسكم) على آخرین هم بمنزلة الانسان ذاته من جهة خاصة، كقوله تعالى:
(لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِیارِكُمْ)([3]).
وكقوله تعالى:
(فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ)([4]).
ففی الآیتین المذكورتین لیس المراد من (أنفس) الاشخاص المخاطبین اذ لا معنى لقتل انفسهم واخراج أنفسهم من دیارهم وطردها، أو دعوة أنفسهم.
واستنبط بعض آخر من المفسرین من عبارة (فسلّموا على انفسكم) بانّ السلام واجب عند الدخول وان لم یكن شخص فی الدار، ولكن نظراً لعدم وجود صاحب الدار أو شخص آخر فی الدار فالداخل ینبغی ان یسلّم على نفسه كتسلیمنا على انفسنا فی الصلاة حیث نقول:
(السلام علینا وعلى عباد الله الصالحین).
القرینة التی تؤید هذه الرؤیة هی ان الآیة كلها ظاهرة فی دخول الانسان الى دار لیس فیها صاحبها أو دار لا یحضر فیها صاحبها، ففی هذه الموارد التی لا یحضر فیها صاحب الدار قد یشك الانسان فی رضا صاحب الدار عن تناوله الطعام أم لا؟ والآیة الكریمة تحكم فی هذه الحالة بجواز تناول الطعام فی هذه الدور. وذیل الآیة ظاهر فی أنّها متعلّقة بمثل هذه الدور، فیكون مفاد الآیة أنّ صاحب الدار وان لم یكن حاضراً فسلّموا على انفسكم.
على أی حال فانّ السلام سلام وتحیة مباركة وطاهرة من قبل الله سبحانه. مباركة حیث انّ لها آثاراً طیبة ونافعة فی الحیاة الاجتماعیة للانسان. طاهرة لانها تتلاءم مع طبیعة الانسان وتستسیغها النفس الانسانیة. فالناس یحبون السلام وبواسطته یشعرون بالطمأنینة.
وسوى الآیات المذكورة هناك آیات عدیدة تذكر كل آیة منها السلام بنحو خاص ونشیر الى عدة نماذج منها:
هناك مجموعة اخرى من الآیات تتحدث عن السلام على الانبیاء(علیهم السلام)، ونبی الاسلام(صلى الله علیه وآله وسلم) أو سائر الانبیاء(علیهم السلام)، وفی إحدى الآیات یخاطب الله سبحانه النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) ویأمره بالتسلیم على المؤمنین:
(وَ إِذا جاءَكَ الَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِآیاتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَیْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَة ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ)([5]).
قد تقصد الآیة المؤمنین المهاجرین من مكة ویلتحقون بالنبی(صلى الله علیه وآله وسلم) فی المدینة، ولكن كما نعلم انّ المورد لا یخصص والآیة تشمل غیرهم أیضا، الاّ انّ هذه الملاحظة جدیرة بالتأمل وهی ان فی السلام على أی حال ظهوراً أقوى فی بعث الأمن والطمأنینة، لانها تتحدث عن المهاجرین الذین یتوجهون من دیارهم أی مكة الى دیار الغربة أی المدینة ولیس لهم فیها أقارب وأرحام، فمن الطبیعی ان یشعروا باللاأمن ویكونوا قلقین.
وحتى اذا كانت الآیة تتحدث عن جمیع المؤمنین فالامر كذلك، اذ ان هؤلاء الافراد حدیثوا الایمان ولم یعملوا سابقاً بالآداب والتعالیم الاسلامیة، فمن الطبیعی أن یقلقوا بشأن ماضیهم والمعاصی التی ارتكبوها قبل الاسلام. لذا یشعرهم الله عز وجل بالأمن والطمأنینة على لسان نبیه وبالخطاب (فقل سلام علیكم) كی لا یكونوا قلقین على ماضیهم. العبارات الاخیرة فی الآیة والتی تتحدث عن الرحمة والمغفرة الالهیة والتوبة شاهدة ومؤیدة لهذه الحقیقة.
عند نقل قصص الانبیاء(علیهم السلام) فی القرآن الكریم ورد انّ الملائكة قد سلّموا علیهم، فمثلاً فی قصة النبی ابراهیم(علیه السلام)قد تكرر هذا المضمون عدة مرات، وهو انّ الملائكة حینما هبطوا لتدمیر مدینة لوط(علیه السلام)اقبلوا أولاً الى ابراهیم وعند اللقاء معه سلّموا علیه كقوله تعالى:
(وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِیمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْل حَنِیذ * فَلَمّا رَأى أَیْدِیَهُمْ لا تَصِلُ إِلَیْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِیفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوط)([6]).
وكقوله تعالى:
(وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَیْفِ إِبْراهِیمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَیْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قالُوا لا تَوْجَلْ إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلام عَلِیم)([7]).
وجاء فی آیة اُخرى انّ النبی ابراهیم(علیه السلام) حینما أراد الانفصال عن آزر قال له:
(سَلامٌ عَلَیْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّی إِنَّهُ كانَ بِی حَفِیًّا)([8]).
وهذه الأخیرة من موارد سلام الوداع، أی كما ان الانسان حینما یلقى مخاطبه یسلم علیه فی البدایة فمن الافضل ان یسلم علیه عند الانفصال عنه أیضاً. وهذا الامر مألوف بین العرب المسلمین حالیاً حیث یسلّم أحدهم على الآخر عند الانفصال.
المجموعة الثالثة: الآیات التی سلّم الله عز وجل فیها على عباده. ففی آیة أمر الله سبحانه موسى(علیه السلام)واخاه بأن یذهبا الى فرعون ویقولا له انا رسولا ربك فأرسل معنا بنی اسرائیل ولا تعذبهم، وفی ذیل الآیة مع ملاحظة المعجزات التی اعطاها لهما كی تكون دلیلا على رسالتهما وصدق اقوالهما خاطبهما بان یقولا لفرعون:
(قَدْ جِئْناكَ بِآیَة مِنْ رَبِّكَ وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى)([9]).
وقد ابلغ الله سبحانه سلامه على جمیع الانبیاء فی آیتین، قال فی احداهما:
(وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِینَ)([10]).
وقال فی الاُخرى:
(قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِینَ اصْطَفى)([11]).
وفی آیات عدیدة أبلغ الله سلامه الى افراد بخصوصهم فقال فی آیة عن النبی یحیى(علیه السلام):
(وَ سَلامٌ عَلَیْهِ یَوْمَ وُلِدَ وَ یَوْمَ یَمُوتُ وَ یَوْمَ یُبْعَثُ حَیًّا)([12]).
وجاء فی آیة اُخرى على لسان النبی عیسى(علیه السلام) وهو یتحدّث عن نفسه:
(وَ السَّلامُ عَلَیَّ یَوْمَ وُلِدْتُ وَ یَوْمَ أَمُوتُ وَ یَوْمَ أُبْعَثُ حَیًّا)([13]).
وفی عدة آیات وبعد الحدیث عن تأریخ بعض الأنبیاء(علیهم السلام) یسلم الله تعالى علیهم:
(سَلامٌ عَلى نُوح فِی الْعالَمِینَ * إِنّا كَذلِكَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ * إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِینَ)([14]).
(سَلامٌ عَلى إِبْراهِیمَ * كَذلِكَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ * إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِینَ)([15]).
(سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ * إِنّا كَذلِكَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ * إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِینَ)([16]).
(سَلامٌ عَلى إِلْ یاسِینَ * إِنّا كَذلِكَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ * إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِینَ)([17]).
وهكذا قال عن النبی نوح(علیه السلام) بعد انتهاء الطوفان:
(قِیلَ یا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلام مِنّا وَ بَرَكات عَلَیْكَ وَ عَلى أُمَم مِمَّنْ مَعَكَ)([18]).
المجموعة الرابعة من الآیات تتضمن سلام الملائكة على المؤمنین والمحسنین. تتحدث آیات فی القرآن الكریم عن انّ المؤمن حینما تقبض روحه أو یدخل الجنة فانّ الملائكة تسلم علیه كقوله تعالى:
(الَّذِینَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَیِّبِینَ یَقُولُونَ سَلامٌ عَلَیْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)([19]).
(وَ الْمَلائِكَةُ یَدْخُلُونَ عَلَیْهِمْ مِنْ كُلِّ باب * سَلامٌ عَلَیْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ)([20]).
(أُوْلئِكَ یُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ یُلَقَّوْنَ فِیها تَحِیَّةً وَ سَلاماً * خالِدِینَ فِیها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً)([21]).
المجموعة الخامسة هناك آیات تقول بان تحیة المؤمنین فی الجنة هی السلام كقوله تعالى:
(وَ تَحِیَّتُهُمْ فِیها سَلامٌ)([22]).
(تَحِیَّتُهُمْ یَوْمَ یَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِیماً)([23]).
هذه الآیات وامثالها تدل جمیعاً على أهمیة السلام وانه من الآداب الاسلامیة المهمة. وهذه الاهمیة تبلغ فی بعض الآیات حداً یعتبر الاسلام فیه (سلاما) ویطلق على مناهج الاسلام (سبل السلام) كقوله تعالى:
(قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا یُبَیِّنُ لَكُمْ كَثِیراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ یَعْفُوا عَنْ كَثِیر قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِینٌ * یَهْدِی بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)([24]).
فی مثل هذه الآیات یرید القرآن بیان أهمیة السلام. وبهذا الهدف یقول القرآن الكریم: ان الله یهدی الناس الى طرق السلام والأمن بالقرآن ویعتبر ذلك من أهم خصائص وامتیازات القرآن.
[1]. النور 27.
[2]. النور 61.
[3]. البقرة 84.
[4]. آل عمران 61.
[5]. الانعام 54.
[6]. هود 69 و 70.
[7]. الحجر 51 ـ 53.
[8]. مریم 47.
[9]. طه 47.
[10]. الصافات 181.
[11]. النمل 59.
[12]. مریم 15.
[13]. مریم 33.
[14]. الصافات 79 ـ 81.
[15]. الصافات 109 ـ 111.
[16]. الصافات 120 ـ 122.
[17]. الصافات 130 ـ 132.
[18]. هود 48.
[19]. النحل 32.
[20]. الرعد 23 و 24.
[21]. الفرقان 75 و 76.
[22]. یونس 10 و ابراهیم 23.
[23]. الاحزاب 44.
[24]. المائدة 15 و 16.