أهمیة التحیة
من المؤكّد علیه فی الإسلام أن یسلّم المؤمنون بعضهم على بعض، وقد كان النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) یسلّم على النساء والاطفال أیضاً. ومن المعلوم أنّ السلام والسلامة من جذر واحد، ولذلك یفید هذا المعنى، وهو ان لا خطر ولا تهدید یتّجه من المسلم الى مخاطبه. هذا هو الشعار الاسلامی الذی یؤدى من قبل كل شخص باسم التحیة والمجاملة عند المواجهة واللقاء، وقد اكد القرآن الكریم على ممارسته.
كل انسان یشعر فی حیاته بألوان القلق والخوف والاضطراب، وعند تعامله مع أی شخص یحتمل التضرر منه فیشعر بنوع من القلق والاضطراب. بناء على ذلك فان اول ما یكون محبذا وطیبا عند اللقاء بین بنی الانسان وتعاملهم هو رفع هذا القلق والاضطراب لكی یشعر الانسان بالسكینة ویطمئن بعدم اضرار ذلك الشخص به ولا یهدّده خطر، لانه لا یوجد ما هو أهمُّ من دفع الضرر بالنسبة للانسان، إذ انّه یمكن ان یشعر بالاستقرار بعده ویتعامل ویقرر ما یرید بنحو صحیح، ولعل من حِكم السلام هو تحقیق ما ذكر.
بناء على ذلك فان اول ما ینبغی رعایته بین المسلمین عند بدایة اللقاء هو منح الامان والسكینة للطرف الآخر والمخاطب كی یطمئن بان لا ضرر یتّجه الیه من قبل طرفه المقابل. ومن واجب المسلمین انّهم بالسلام على بعضهم عند اللقاء یوجدون هذا الشعور فی نفوسهم، وهذه قضیة مهمة جدا، ولیس بوسعنا ان نقیّم بنحو دقیق مدى أهمیة ذلك لحیاة الانسان، ولكنّه یمكن القول: انه الأساس لأبعاد الحیاة الاجتماعیة الاُخرى.
ان أهمیة السلام وقیمته تبلغ درجة اطلق فیها على الجنة ـ وهی رمز النعمة والراحة والحیاة الطیبة للانسان ـ «دار السلام» مما یدل على أهمیة السلام والامان.
ان الامان والسلامة ذات أهمیة بالغة لدى جمیع مفكری المذاهب السیاسیة أیضاً، واول وأهم وأعم هدف لدى أی نظام سیاسی هو توفیر الامان والسلامة والاستقرار لافراد المجتمع، وبعد تحقّقه یمكن العمل من أجل تحقیق الأهداف الاُخرى. من هنا تؤكد المدارس النفسیة غیر الاسلامیة على هذه الحقیقة وتقدم نظریات على هذا الأساس وتوصی باُمور لدفع القلق والاضطراب وتحصیل السكینة والأمن النفسی، وبعضها ینتهج نهجا افراطیا فی هذا المجال، منها ان اتباع مذهب (الوجودیّة) یعتقدون بانّ الحیاة مقرونة بالقلق والاضطراب ولا تحقق للحیاة خارجاً بدونهما بل یعتبرونهما من لوازم الحیاة الانسانیة وكفصل ممیّز للانسان!
على أی حال فانها حقیقة واضحة بان اول ما یلتفت الیه الموجود الحساس سیّما الانسان ویحظى لدیه بقیمة حیویة هو الشعور بالامان والاستقرار فی الحیاة، وهو الشعور بان نفسه وماله وكل شیء یحبه لا یُهدّد من أی جهة ولا یطاله أی ضرر.
بناء على ذلك فان اول ما یجب توفیره فی العلاقات الاجتماعیة هو شعور الانسان بالامان والاستقرار. انه الأساس لحیاة الانسان ولا قیمة للحیاة الاجتماعیة لدیه ما لم یتوفر هذا الأمر.
والسلام ـ وهو التحیة والمجاملة الرسمیة فی الاسلام ـ یعنی فی الواقع الدعاء وطلب الامان والسلامة للمخاطب. من هنا تقارن لفظ السلام مع كلمات تتضمن الامان فی بعض مواضع القرآن الكریم، وهذا التقارن اللفظی قرینة على التقارن المفهومی بین السلام والامان كقوله تعالى:
(هُوَ اللّهُ الَّذِی لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَیْمِنُ الْعَزِیزُ الْجَبّارُ)([1]).
فی هذه الآیة استعمل (السلام) و(المؤمن) ویعنی معطی الامان من بین الاسماء الالهیة بنحو متقارن مما یدل على التقارب بین الاسمین الالهیین. ان الله عز وجل هو الذی یوفر سلامة الافراد ویدفع الخطر عنهم ویوفر لهم الامان.
ونقرأ فی آیة اُخرى بانّ المؤمنین یخاطبون یوم القیامة:
(ادْخُلُوها بِسَلام آمِنِینَ)([2]).
ورد لفظ (سلام) هنا أیضاً الى جانب أحد اشتقاقات لفظ (الأمن) بمعنى الامان.
فالانسان بقوله (سلام علیكم) یمكن ان یكون له احد مرادین: تفهیم مخاطبه بان سلامتك مؤمّنة من جانبی، أو لا خطر یهدّدك من جهتی ولا یصلك ضرر منّی; أو اننی ارید الامان لك وادعو الله لك بالسلامة ودفع الاضرار والاخطار، أی یقول قاصدا الدعاء: (سلام علیكم)، وبعبارة اُخرى یمكن ان یكون مراده هو (سلام منی علیكم) أو (سلام من الله علیكم). المراد بین الافراد المتعارفین طبعا فی الغالب هو: لا خطر من المسلّم على مخاطبه. الاّ انّ الذی له رؤیة توحیدیة ویتّجه الى الله فی كل حال فانه حینما یسلّم فهو فی الواقع یدعو لمخاطبه، ویطلب له السلامة من الله عز وجل ولا یرى نفسه مؤثر فی جنب الله. یطلب من الله ان یمنّ بالسلامة على مخاطبه ویصونه من الاخطار، فالسلام فی نفس الوقت ابداء للاحترام، ودعاء أیضا.
ب ـ رد التحیة
من آداب المعاشرة فی الاسلام هو رد السلام حیث یمكن القول: انه یتمیز بأهمّیة أكبر من إلقاء السلام، وقد أكّد علیه القرآن الكریم. قال تعالى فی آیة كریمة:
(وَ إِذا حُیِّیتُمْ بِتَحِیَّة فَحَیُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَیْء حَسِیباً)([3]).
ان لفظ (تحیة) فی الآیة مشتقة من الحیاة، وهی فی الحقیقة نوع من الدعاء وطلب دوام الحیاة للمخاطب. كأنه كان متعارفاً ان یقول بعضهم لبعض عند اللقاء بقصد الاحترام (حیّاك الله). ان لفظ (تحیة) فی الحقیقة والأصل یعنی هذه العبارة (حیاك الله) ثم توسعت وأخذت تطلق على كل قول عند اللقاء بهدف الاحترام، بل على كل عمل بهدف الاحترام.
طبعاً فی كل ثقافة أو مجتمع یتعارف تقدیم كلام خاصّ عند اللقاء أو أداء عمل خاص بهدف ابداء المودة، ویطلق علیها لفظ (التحیة) الاّ انّ التحیة فی الثقافة والادب الاسلامی عند اللقاء لیست سوى السلام. ولذا ورد لفظ التحیة مع لفظ السلام فی آیات عدیدة من القرآن الكریم، أو ذكر السلام كمصداق اسلامی رسمی ومعروف. نقرأ فی آیة كریمة:
(وَ یُلَقَّوْنَ فِیها تَحِیَّةً وَ سَلاماً)([4]).
وجاء فی آیة اُخرى:
(وَ تَحِیَّتُهُمْ فِیها سَلامٌ)([5]).
وفی آیة اُخرى:
(تَحِیَّتُهُمْ یَوْمَ یَلْقَوْنَهُ سَلامٌ)([6]).
و على أی حال فانّ التحیة التی عُیّنت كشعار اسلامی هو (السلام)، والقاؤه مستحب وردّه واجب.
ان رد أیة تحیة فی الآداب والثقافة الاسلامیة یجب ان یكون اكمل أو مطابقاً لها على الاقل، فمثلاً اذا قال شخص (سلام علكیم)، فینبغی الرد بالقول: (سلام علیكم ورحمة الله)، واذا قال: (سلام علیكم ورحمة الله)، یقال له: (سلام علیكم ورحمة الله وبركاته).
و كل من یواجهنا بأی نوع من التحیة فالافضل هو الرد علیه، ولكن كل من حیّانا بعبارة (سلام علیكم) كان الردّ علیه واجبا شرعا، واذا حیّانا بكلام آخر غیر (السلام) فان الردّ علیه مستحب.
تتمة البحث
من التحیات والمجاملات المؤكدة فی الروایات هو عبارة خاصة تقال لمن یعطس، یطلق علیها فی الروایات وعرف المتشرعین: (تسمیت العاطس) ویؤدى بعبارة (یرحمك الله) ویعنی الدعاء بالرحمة للعاطس، وهو یقول فی الرد: (یغفر الله لك) ویتضمن الدعاء بالعفو لمن ألقى التحیة.
وهكذا حینما یشرب الانسان الماء، أو یفقد عزیزا، أو حینما یرد على الافراد غم أو فرح فان هناك تحیات ومجاملات وردوداً خاصة شائعة ومألوفة بین المتشرعین. ویمكن القول بصورة عامة بان أی انسان اذا أبدى مودته واحترم شخصا بأی نحو، سواء أكان هدیة أو أبدى مواساته وتهانیه، فانّ المستحب هو رد مودته واحترامه بنحو لائق. ومن الموارد التی تؤكدها الروایات هو الرد على الرسالة، وقد ورد: «ردُّ جواب الكتاب واجب كوجوب رد السلام»([7]).
ج ـ الاستئذان
المورد الثانی فی الآداب الشرعیة للدخول الى بیوت الآخرین هو الاستئذان من صاحب الدار. فلا یحق للانسان المتشرع ان یدخل داراً بدون الاستئذان من صاحبها، بل لابدّ من كسب رضاه اولاً والاستئذان منه. قال تعالى فی القرآن الكریم:
(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُیُوتاً غَیْرَ بُیُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَیْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِیها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتّى یُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِیلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِیمٌ)([8]).
هذه الآیة توصی المؤمنین بان لا یدخلوا دور الآخرین بلا إذن، ولو لم یأذن صاحب الدار بالدخول وطلب منهم الرجوع فعلیهم الرجوع.
انّ الدخول فی دور الآخرین له حالات عدیدة:
الاُولى ان یعلم الانسان برضا صاحب الدار بدخوله فیها.
الثانیة أن یعلم بان صاحب الدار لا یرضى ویكره دخوله فیها.
الثالثة أن یشك ولا یعلم هل ان صاحب الدار یرضى بدخوله أم لا؟
بدیهی أنه اذا علم بعدم رضا صاحب الدار أو سمع بعدم الرضا بعد طلبه منه، فلا یجوز له الدخول فیها بأمر قرآنی صریح:
(وَ إِنْ قِیلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ)([9]).
كما أنه اذا كان یعلم ـ بأی طریق كان ـ بان صاحب الدار راض بدخوله فانّه یحقّ له الدخول، ولكن علیه ان یعلم ان للدخول آداباً لابدّ من رعایتها، ومنها عدم الدخول المفاجىء. فإذا كانت بین اشخاص علاقات حمیمة، أو احتاج اشخاص إلى مراجعة دار فلا یجوز لهم الدخول فجأة وبدون استئذان من صاحب الدار إذ لعلّه غیر مستعد لاستقبالهم، أو انه فی حالة لا یرغب أن یراه أحد فیها. من هنا أكّد القرآن على انّه قبل الدخول فی دور الآخرین لا بدّ من إلفات اصحابها. واستعمل القرآن فی هذا المجال عبارة (حتى تستأنسوا) ویعنى لفظ (الاستئناس) أداء فعل یلفت نظر صاحب الدار بحیث یعرف حضوره بنحو ما. تقول بعض الروایات فی توضیح الاستئناس: المراد هو نداء صاحب الدار، أو القیام بالسعال أو نحو آخر كالقول (یا الله) لالفات نظره كی یستعد لاستقبالكم، لانّ دخولكم المفاجىء یبعث على الاستیحاش والقلق.
ولو رام الدخول فی دار شخص لا أحد فیها لیسأذنه وهو لا یعلم برضا صاحبها فینبغی ان لا یدخل أیضا لان الآیة تقول (فان لم تجدوا فیها أحداً فلا تدخلوها حتى یؤذن لكم).
السؤال هنا: هل على اهل تلك الدار الذین یكثرون الدخول والخروج فیها الاستئذان فی كل مرة؟ فإنّ هناك مواردَ یكون فیها دخول الافراد وخروجهم ولقاؤهم فیما بینهم كثیراً جداً، فمثلاً ان اهل الدار الواحدة وان كانوا یعیشون فی غرف مستقلة الاّ انّ بینهم دخولا وخروجاً ولقاءات كثیرة، حیث یدخل الابناء فی غرفة الوالدین أو العكس. فهل على هؤلاء الاستئذان عند الدخول فی غرفة الآخر فی كل مرة؟ ما هو ارشاد الاسلام بشأن هؤلاء الافراد؟
یقول تعالى عن هؤلاء الافراد فی القرآن الكریم:
(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لِیَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِینَ مَلَكَتْ أَیْمانُكُمْ وَ الَّذِینَ لَمْ یَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرّات مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَ حِینَ تَضَعُونَ ثِیابَكُمْ مِنَ الظَّهِیرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْرات لَكُمْ لَیْسَ عَلَیْكُمْ وَ لا عَلَیْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُونَ عَلَیْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْض كَذلِكَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآْیاتِ وَ اللّهُ عَلِیمٌ حَكِیمٌ)([10]).
ان ما أوصت به الآیة یرتبط بالخدَمة والاطفال غیر البالغین، فاذا بلغ الابناء حد التكلیف فان علیهم الاستئذان كالآخرین، أی فی غیر الاوقات الثلاثة المذكورة فی الآیة لابدّ لهم من الاستئذان أیضاً فی أی وقت آخر.
د ـ تناول الطعام فی بیوت الآخرین
الأصل العام فی تناول الطعام فی بیوت الآخرین هو المنع، ولكن فی بعض الموارد وان لم یوجد إذن صریح من صاحب الدار الاّ انّ الانسان یعلم عادة برضاه، فالاصل هو رضاه عن هذا الفعل، فمن لم یكن راضیا فعلیه ابداء ذلك. لقد عدّ القرآن الكریم هذه الموارد قائلا:
(وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُیُوتِكُمْ أَوْ بُیُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُیُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُیُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُیُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُیُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُیُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُیُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُیُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِیقِكُمْ لَیْسَ عَلَیْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِیعاً أَوْ أَشْتاتاً)([11]).
قال المفسرون انّ المراد من (بیوتكم) هو بیوت الابناء أی ان بیوت ابنائكم كبیوتكم.
یستفاد من هذه الآیة بأن الاقرباء لیسوا بحاجة الى الاستئذان لتناول الطعام فی دور بعضهم، وهكذا دار الصدیق أو الدار التی بید الانسان مفاتیحها فلا حاجة الى إذن مستقل لتناول الطعام. فی الواقع یجب القول: انّه یوجد إذن الفحوى فی هذه الموارد، ویتضمن الاذن بهذه التصرفات.
هـ ـ فسح المجال للداخل فی المجلس
من آداب المعاشرة التی اوصى بها القرآن هو الجلوس فی المجالس والحفلات بنحو یبقی المجال لجلوس الداخل الجدید فی المجلس، أو فسح المجال له لیتمكن من الجلوس.
انّ المجالس والمحافل تكون عادة ذات سعة محدودة، فاذا أراد الجمیع أن یجلسوا كیفما شاؤوا فانّ المجال یضیق على الآخرین، وبهذا الشأن یوصی القرآن الكریم بأنكم ان كنتم جالسین فی مجلس وقیل «تفسّحوا» فاجلسوا متراصّین وافسحوا المجال للآخرین، فان الله سبحانه سیوسّع علیكم، واذا قیل انهضوا حتى یجلس شخص محترم فانهضوا:
(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا قِیلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِی الَْمجالِسِ فَافْسَحُوا یَفْسَحِ اللّهُ لَكُمْ وَ إِذا قِیلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا یَرْفَعِ اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجات وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِیرٌ)([12]).
الآیة الكریمة تتضمن ارشادین واضحین وارشاداً ضمنیّاً. الارشاد الاول هو أن على المسلمین الجلوس فی المجالس والمحافل بشكل متراصّ قدر الامكان كی یتمكن اكبر عدد من الافراد من المشاركة فی ذلك المجلس لیستفیدوا من الحضور. وهذا الارشاد یكون عملیا مادام التراص فی الجلوس ممكنا، ومع اكتمال المجلس لا یكون عملیا.
الارشاد الثانی أنّه فی حالة امتلاء المجلس، وعدم وجود مجال لمن یدخل من جدید، ینبغی للمسلمین أن یؤثروا الذین لهم امتیاز فی العلم أو التقوى أو الایمان على انفسهم ویقدّموا مكانهم لهم احتراماً لمكانتهم.
و الارشاد الضمنی الذی یمكن استنباطه من الآیة هو رعایة مقام ومكانة واحترام العلماء والمؤمنین والمتقین، باعطائهم المكان اللائق بهم فی المجلس، لاننا نعلم من جهة ان علة الحكم الصریح فی الآیة واعطاء المكان لبعض الافراد هو وجوب احترامهم، ومن جهة اُخرى نظراً لوجود اماكن مختلفة عادة فی كل مجلس فاذا كان مقتضى احترام من وجب احترامهم جلوسهم فی مكان خاص، فمن اللازم اعطاؤهم ذلك المكان الخاص، وان كان ذلك یتّم بقیام الانسان من مكانه وجلوسه فی مكان أخفض منه.
و ینبغی الالتفات طبعا الى ان شأن نزول هذه الآیة هو انّ المسلمین كانوا یجلسون فی دائرة ضیقة حول النبی(صلى الله علیه وآله وسلم)فلا یُوفّق الذین یأتون لاحقا للقاء النبىّ(صلى الله علیه وآله وسلم)مع حاجتهم الیه. هذا الارشاد الالهی كان فی الأساس من أجل ان یكون بوسع الجمیع لقاء النبىّ(صلى الله علیه وآله وسلم).
و ـ الاستماع الى كلام الآخرین وتحمُّله
من الآداب التی تستفاد من سیرة النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) وقد اُشیر الیها فی القرآن الكریم أیضاً ولها أهمیة بالغة لمن یتصدَّون للقیادة والادارة، هو الاستماع الى كلام الآخرین وانتقاداتهم وتحمُّلها، وطبیعی ان الآخرین بحاجة الى هؤلاء الاشخاص المبرزین بنحو ما، یرجعون الیهم ویطرحون النقد والاقتراحات ویتحدثون عن المصالح والمفاسد فی المجتمع، والكثیر منها غیر منطقی وغیر مقبول عادة.
هؤلاء القادة والمدراء كیف یجب ان یكون ردّ فعلهم ازاء هذه الاحادیث وما هو واجبهم تجاه هؤلاء؟ للإجابة عن هذا السؤال نشیر الى آیة فی القرآن الكریم، ومن خلالها تتضح سیرة النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) بهذا الشأن، وهو الاسوة والقدوة للمؤمنین. كان النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) یستمع الى اقوال الآخرین واذا كانت غیر صحیحة فانه لا یبدی ذلك. كان(صلى الله علیه وآله وسلم)كثیرا ما یتبع هذا النهج حتى اعتبر المنافقون ذلك عیبا وقالوا: انّ النبی «اُذن» ویستمع لكل انسان، وقد بین الله عز وجل هذه الحقیقة بهذه الصورة:
(وَ مِنْهُمُ الَّذِینَ یُؤْذُونَ النَّبِیَّ وَ یَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَیْر لَكُمْ یُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ یُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِینَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِینَ یُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ)([13]).
ورد فی هذه الآیة تعبیران متفاوتان (یؤمن بالله ویؤمن للمؤمنین)، حیث ورد (یؤمن بالله) حیث جاء الفعل متعدیا بالباء، و(یؤمن للمؤمنین) حیث جاء متعدّیاً بـ (اللام). هذا الاختلاف اثار تساؤلات لدى المفسرین: لماذا وردت (الباء) فی أحدهما و(اللام) فی الآخر؟
یبدو انّ الفرق بین التعبیرین هو ان أحدهما یشیر الى تصدیق الخبر، والآخر الى تصدیق المخبر. توضیح ذلك: ان لفظ (یؤمن) الذی یتضمن معنى التصدیق اذا تعدى بحرف (الباء) فانه یدل على تصدیق واقعیة الخبر ومحتواه، فمثلاً ان (الایمان بالله) یعنی التصدیق بوجود الله تعالى، والایمان بالأنبیاء والكتب السماویة یعنی التصدیق بدعوى الأنبیاء(علیهم السلام)وصحة محتوى الكتب السماویة.
ولكن حینما یتعدى (یؤمن)بـ (اللام) فانه یدل على تصدیق القائل سواء اعتبر كلامه مطابقاً للواقع أم لا. معناه إذنْ هو انه لا یسند الكذب العمدی الى القائلین، ولكن لیس معناه تصدیق مضمون كلامهم أیضاً. وعلیه فان هذا التعامل النبوی لیس تصدیقا عاجلا ولا سذاجة، بل انه لطف وعظمة وسماحة. حینما كان احد المؤمنین یخبر النبی(صلى الله علیه وآله وسلم)بشیء فحتى لو علم بان ما ذكره غیر صحیح فانّه لا یقول له انك كاذب، بل كان یتجاوز عن ذلك بلطف وسماحة، او یقوم بالفحص ان اقتضى الامر ذلك.
إذنْ كان هذا السلوك من الصفات الحمیدة للنبی(صلى الله علیه وآله وسلم) وتعبیر الآیة عنه تعبیر ثناء.
من هذه الآیة ـ وان كانت بشأن النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) مباشرة ـ یمكن استنباط انّ القادة ومراجع الناس یجب ان یكونوا فی تعاملهم مع الآخرین صابرین وحلماء ومستمعین جیّدین للمتحدث معهم وان یظهروا له انهم یحترمون كلامه ویصدّقونه. وحتى اذا علموا بعدم صحة كلامه فانهم یتجاوزون عن ذلك بسماحتهم، ویمكن القول: ان ذلك ـ فی الواقع ـ شكر لنعمة القیادة والرئاسة والادارة التی منحها الله عز وجل لهم ومحبتهم لدى الناس.
ز ـ النجوى
من الآداب الاسلامیة فی المعاشرة هو اجتناب النجوى فی المجالس العامة التی یحضرها الآخرون وهم یروننا. ففی اجتماع یحضره مختلف الافراد اذا تناجى اثنان فانه یؤلم الآخرین ویثیر تساؤلهم: لماذا یریدان اخفاء بعض الأمور عنهم؟ ولماذا یعتبران الموجودین غرباء عنهما؟
فی بعض الموارد یمكن ان یكون هذا الفعل ضروریا كأن تمسّ الحاجة لنقل قضیة خاصة لشخص ولا یرید اطلاع الغیر علیها، ففی هذه الحالة ینبغی ان ینقلها له فی موضع خال من الآخرین، ولكن حینما یكون الوقت ضیقا ویجب نقل الامر الیه سریعا وان كان بین جماعة فلا اشكال فی النجوى فی هذه الحالة، كما لوكانت القضیة مرتبطة بالشؤون الحكومیة او الأسرار العسكریة ولا ینبغی اطلاع الآخرین علیها.
[1]. الحشر 23.
[2]. الحجر 46.
[3]. النساء 86.
[4]. الفرقان 75.
[5]. یونس 10 و ابراهیم 23.
[6]. الاحزاب 44.
[7]. الكافی ج 2 ص 670 الروایة 2.
[8]. النور 27 و 28.
[9]. النور 28.
[10]. النور 58.
[11]. النور 61.
[12]. المجادلة 11.
[13]. التوبة 61.