رعایة الآداب الخاصة بالنبی(صلى الله علیه وآله وسلم)
تطرّقت مجموعة اُخرى من آیات القرآن الى الآداب الخاصة التی ینبغى رعایتها فی حقّ النبی(صلى الله علیه وآله وسلم).
أ ـ عدم التقدم علیه(صلى الله علیه وآله وسلم)
قال تعالى فی سورة الحجرات:
(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِیعٌ عَلِیمٌ)([5]).
ان عبارة (تُقدّموا) فی الآیة المذكورة تكون بضم (التاء) حسب القراءة المشهورة، وهی من باب التفعیل ومتعدیة لمفعول، وتتفاوت مع عبارة (لا تَقدموا) بفتح (التاء) وهو فعل لازم.
قال البعض: ان هذا الفعل وان كان من باب التفعیل ومتعدیا، ولكن نظراً لعدم الالتفات الى مفعوله، مثل مفعول افعال اُخرى نظیر (یعلمون) و(تعلمون)، ینبغی القول ان هذه العبارة تعنی (لا تقدّموا انفسكم) أی لا تقدّموا انفسكم على الله ورسوله، وعلیه فانّ الفعل (لا تقدّموا) ذو مفعول مقدَّر وهو (انفسكم)، وبناء على ذلك له معنى (تقدموا) بفتح (التاء) وهو فعل لازم ولذا فسّروه بذلك.
وان كان الافضل أن نقول ان (انفسكم) من المصادیق البارزة لمفعول هذا الفعل، ویمكن ان یكون لهذا المفعول مصادیق اُخرى، ویكون مفهوم العبارة: لا تقدموا انفسكم ولا غیركم على الله ورسوله، وعلیه فان تشبیه هذه العبارة بعبارات امثال (یعلمون) و(تعلمون) أمر جیّد، ولكن كما قال بعض العلماء بان مفعول هذه الافعال قد حُذف لیكون فی ذهن السامع شاملاً لكل مصداق مناسب ولا ینحصر فی مصداق خاص. على أی حال، فان أوضح وأجلى مصادیق مفعوله هو (انفسكم) وفیه دلالة ـ قبل كل شیء ـ على انكم لا تقدّموا انفسكم على الله ورسوله.
وقد جاء فی تفسیر المیزان: ان ما أوصی به المؤمنون فی هذه الآیة هو فی الواقع من جملة افعال وصفات الملائكة حیث قال تعالى فی إحدى الآیات القرآنیة:
(وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا یَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ)([6]).
هنا یطرح هذا السؤال: ماذا یعنی التقدم على الله ورسوله؟ وعلى أی عمل من أعمال الانسان یطلق؟ یجب القول فی الاجابة: انّ التقدم على الله ورسول الله(صلى الله علیه وآله وسلم)ذو صور مختلفة بعضها حرام وبعضها مذموم أی من الافضل ان لا یرتكب. وعلیه فانّ المسلم ملزم ـ قبل أن یصدر حكما فی أی موضوع ـ ان یعرف ما یقوله الله ورسوله بهذا الشأن ویكون مطیعاً لأمرهما.
وعدا ماذكرناه فانّ التقدم على الله ورسوله ذو دائرة واسعة ویصدق على موارد متنوعة اُخرى حتى قال بعض المفسرین بان على المؤمنین ان لا یتقدموا على رسول الله حتى فی المشی فانه عمل مذموم، وان لا یجلسوا قبل ان یجلس، وان لا یقفوا امامه فی الصلاة وان لا یقفوا متقدمین على قبره(صلى الله علیه وآله وسلم) فیها. وعلى أی حال فانهم اعتبروا رعایة هذه الآداب مع رسول الاسلام استنادا الى هذه العبارة من الآیة امراً لازماً، ومن الطبیعی ان یكون احترام النبی أمراً لازماً وان یكون العمل بما یقتضیه الاحترام امراً مستحسناً.
السؤال الآخر هنا یتعلّق بإتیان لفظ الجلالة (الله)، فما معنى التقدم على الله تعالى؟ قال بعض المفسرین: ان مراد الآیة اصلا هو المنع من التقدم على النبی، واضافة لفظ الجلالة هو للدلالة على هذه الحقیقة وهی ان احترام النبی هو احترام لله عز وجل.
وقال بعضهم: ان الاحكام الشرعیة بما انها من الله اصلا، فاذا أبدى شخص رأیه فی موضوع وأصدر حكماً قبل صدور الحكم من الله، كان هذا الفعل فی ذاته تقدما على الله، ولا ینبغی للأفراد ـ بحكم الآیة الكریمة ـ إبداء آرائهم حول احكام الموضوعات، بل یجب علیهم الفحص عن حكم الله ورسوله فیها.
ب ـ كیفیة التحدث مع النبی(صلى الله علیه وآله وسلم)
قال تعالى فی القرآن الكریم:
(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِیِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِینَ یَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ أُولئِكَ الَّذِینَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِیمٌ * إِنَّ الَّذِینَ یُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا یَعْقِلُونَ * وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتّى تَخْرُجَ إِلَیْهِمْ لَكانَ خَیْراً لَهُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ)([7]).
اولاً: لا ینبغی فی محضر النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) ان یرتفع صوت المؤمنین على صوته، ولا تكون نبرته أشدّ من نبرة صوته(صلى الله علیه وآله وسلم)، فانه موقف غیر مؤدب.
ثانیاً: ینبغی نداء النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) بلین وأدب ولیس بصوت عال وبلا أدب، كما كان بعض العرب ینادونه بصوت عال: یا محمد! والاسلام یؤكد فی بیانه على آداب المعاشرة الاسلامیة بان هذا العمل عمل خاطىء، ومن یتعامل مع النبی هكذا تحبط اعماله الصالحة. وقد وعد القرآن المؤمنین والذین یخاطبون النبی بلین ویخفضون اصواتهم عنده بالعفو والاجر العظیم، وفی المقابل اعتبر الذین لا یراعون الآداب وینادونه بصوت عال اُناساً غیر عقلاء واعمالهم محبطة([8]).
ج ـ عدم المزاحمة
من الأمور الاُخرى التی ینبغی رعایتها تجاه النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) بأمر القرآن الكریم هو الاحتراز من إشغال وقته ومزاحمته. حیث كان البعض یمرون على دار النبی(صلى الله علیه وآله وسلم)فی مختلف الاوقات ویشغلون وقته، أو اذا دُعوا الى الطعام فی داره(صلى الله علیه وآله وسلم) مثلاً فبدلاً من أن یذهبوا ظهراً وان لایمكثوا طویلا بعد تناول الطعام، لكی یتفرغ(صلى الله علیه وآله وسلم)الى اعماله المهمة، كانوا یذهبون بدون تحفظ ویجلسون ویتحدثون، وكان النبی یستحیی من صرفهم لیتفرغ الى اعماله وشؤون المجتمع الاسلامی.
القرآن الكریم یوصی هؤلاء بانكم إن دُعیتم الى دار النبی فعلیكم احترام وقته وان لا تشغلوه بلا فائدة قبل وبعد تناول الطعام.
(یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُیُوتَ النَّبِیِّ إِلاّ أَنْ یُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعام غَیْرَ ناظِرِینَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِیتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِینَ لِحَدِیث إِنَّ ذلِكُمْ كانَ یُؤْذِی النَّبِیَّ فَیَسْتَحْیِی مِنْكُمْ وَ اللّهُ لا یَسْتَحْیِی مِنَ الْحَقِّ)([9]).
ان عبارة (غیر ناظرین إناه) فی الآیة الكریمة تعنی لا تنتظروا تقدیم آنیة الطعام، اشارة الى الذین كانوا یذهبون مبكرین ویجلسون هناك وینتظرون توزیع الطعام ومتى توضع المائدة. فیوصیهم الله فی الآیة أن یجتنبوا هذا الفعل.
یبدو ان الآیة تذكر للمسلمین عدداً من الآداب الاسلامیة الواجب رعایتها تجاه رسول الله(صلى الله علیه وآله وسلم).
الاول ان لا یشغلوا وقت النبی بلا هدف، وان لا یشغلوه بسماع احادیث غیر مهمة.
الثانی ان لا یذهبوا الى داره دون استئذان.
الثالث فی حالة الدعوة الى تناول الطعام ینبغی لهم ان یكتفوا بوقته ثم یتركوا النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) قبل وبعد الطعام حتى یتفرغ الى أعماله المهمة، وان لا یعجلوا بالذهاب لینتظروا الطعام ولا یزاحموه بعد الطعام.
ینقل عن المرحوم الشیخ محمد كاظم الشیرازی قوله: خرجت من الدار ذات یوم عند صلاة المغرب فوجدت المرحوم المیرزا محمد تقی الشیرازی ـ أعلى الله مقامه ـ یتخطّى امام الدار منتظراً، فتعجبت من ذلك وتقدمت وسلمت علیه وعلمت انه جاء لیسلّمنی مبلغا من المال.
قلت: لماذا تجشمتم عناء ذلك؟ لو أمرتم لكنت فی خدمتكم. فأجاب: كان لی شغل معك فلزم ان آتی بنفسی. قلت لماذا لم تطرقوا الباب ولم تخبرونی؟ فأجاب: علمت أنك تخرج من الدار قریباً من وقت الصلاة فما أحببت ان ازاحمك فانتظرت حتى تخرج.
أجل، ان هذا هو من أجمل الآداب الاسلامیة التی یرى اولیاء الله أنفسهم ملزمین بها بحیث یأتی شخصیة كهذه من مراجع التقلید الى دار تلمیذه لتسلیم راتبه الشهری ولا یرضى بمزاحتمه، ان فی ذلك لدرساً كبیراً لنا نحن الذین نقتدی بهؤلاء الرجال العظام.
ما قیل فی هذا الفصل كان آدابا أوصى بها القرآن المؤمنین لیلتزموا بها تجاه النبی(صلى الله علیه وآله وسلم)، وینبغی الالتفات الى ان رعایتها وان كان واجبا بالنسبة للنبی فان الالتزام بها بالنسبة للآخرین أمر محبّذ وقیّم حتماً سیّما بالنسبة لذوی الخصائص الدینیة فان الالتزام بها ذو قیمة اكبر، وكما أشیر سابقاً فان مثل هذه الآیات المتعلقة بالنبی اصلا قابلة للتعمیم والاتساع لتشمل الآخرین أیضا، ویا حبّذا لو التزم الانسان بهذه الآداب مع الشخصیات الدینیة كافة أو الذین یجب احترامهم بنحو ما. حتى ان بعض هذه الآداب یحبّذ الالتزام به مع قطع النظر عن الأشخاص الذین نتعامل معهم، وهی الدلیل على تخلّق الفرد بالاخلاق الاسلامیة والانسانیة. فالتحدث بهدوء ولین وعدم إشغال وقت الآخرین وما شاكل ذلك من الآداب التی یشهد الوجدان على حسنها الذاتی، فهی مطلوبة بذاتها، وبعض عبارات هذه الآیات شاهد على هذا الأمر، حینما یقول تعالى:
(إِنَّ أَنْكَرَ الأَْصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِیرِ)([10]).
فانه لیذكّر بانّ عدم رعایة هذا الأدب الاسلامی قبیح ولا فرق فی الاشخاص، وعلیه فان آیة سورة الحجرات وان كانت ترتبط بالنبی(صلى الله علیه وآله وسلم)وتوصی بان لا تخاطبوه بصوت عال ولا تنادوه من وراء الدار، ولكن هذا التعبیر یشیر الى قبح هذا العمل، ویكون الالتزام بهذا الأمر محبَّذ فی ذاته، وعدم الالتزام به قبیح ومرفوض، ویشعر الجمیع بقبحه فی أعماق قلوبهم وضمائرهم.
[1]. المجادلة 10.
[2]. المجادلة 13.
[3]. النساء 114.
[4]. المجادلة 9.
[5]. الحجرات 1.
[6]. الانبیاء 26 و 27.
[7]. الحجرات 2 ـ 5.
[8]. لقد بیّن القرآن فی الآیة المذكورة بعبارة (ان تحبط اعمالكم) هذه الحقیقة، وهنا یطرح هذا السؤال: ما المراد من حبط العمل هنا؟ قال البعض فی الاجابة على هذا السؤال: المراد هو التقلیل من الثواب على اعمال من لا یراعی الآداب مع النبی.
الجواب الثانی هو أن هذا العمل اذا اعتبر اهانة للنبی وموجبا لایذائه(صلى الله علیه وآله وسلم) كان ذلك سببا لارتداده، والمرتد تحبط اعماله الصالحة كما قال تعالى:(وَ مَنْ یَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِینِهِ فَیَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِی الدُّنْیا وَ الآْخِرَةِ)البقرة 217.
الجواب الثالث: ان هذا العمل الموهن معصیة كبیرة، وبعض المعاصی الكبیرة تحبط اعمال الانسان الحسنة، كما ان الاجتناب على الكبائر یمحو آثار الذنوب الصغیرة للانسان، مما یسمّیه القرآن بـ«التكفیر عن السیئات» كقوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَیِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِیماً)النساء 31، أو قوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَناتِ یُذْهِبْنَ السَّیِّئاتِ) هود 114.
یعتقد الشیعة ان بعض الذنوب یمحو آثار أعمال الانسان الصالحة كلها، والبعض الآخر یمحو ثواب بعض الاعمال، وینبغی البحث عن مواردها فی الكتاب والسنّة. على أی حال فان أیذاء النبی وایلامه واهانته تعتبر من الذنوب التی تسبب حبط اعمال الانسان وتزیل آثار الاعمال الصالحة الصادرة منه.
[9]. الاحزاب 53.
[10]. لقمان 19.