ar_assale-ch01.htm

 

«الجزء الأول»

 

«ولایةُ الفقیه، خبراء القیادة (1)»

 

 

 

المقدمة

التعقّل هو المیزة الأساسیة للإنسان؛ والانتفاع من إشراقات العقل، یمثل الضمانة لشق طریق الحیاة المحفوف بالظلمات والمخاطر. والإسلام بدوره إنما یشید البنیة الأصلیة لنظافة الفكر على أساس التعقل الذی یزین البشر. وكلا الأمرین یحفّز الباحثین الدینیین على تلقّی النتاجات الفكریة بصدر رحب بغیة تنظیم البحوث الاستدلالیة.

إن ولایة الفقیه بما تمثِّله من دعامة أساسیة للنظام السیاسی فی الإسلام، ومركز الثقل فی الحكومة الدینیة بوسعها أن تتحول الى موضوع مناسب، یدخل بوتقة النقد والتداول، وتغدو مثاراً للتساؤلات بل والشبهات أحیاناً.

وفی مثل هذه الأجواء من الطبیعی أن تتحول الأسئلة والاستفسارات الى قناعات خاطئة، ومن ثم تؤول الى وقوع انحراف، یطال العقائد الدینیة إن هی لم تعثر على الإجابة الناجعة. من هنا یتحتم على مفكری الإسلام ولغرض ترصین المرتكزات الفكریة لنظریة ولایة الفقیه؛ الانكباب على دراستها ورفد البحوث الجاریة بشأنها.

وفی هذا الصدد، فقد كانت للاستاذ العلاّمة سماحة آیة الله مصباح الیزدی «دام ظله» جلسات مع طلبة الحوزة والجامعیین، أجاب خلالها عن الأسئلة التی طرحوها. وللمزید من الفائدة فقد تم جمعها وتقدیمها للراغبین.

اصدارات مؤسسة الإمام الخمینی(رحمه الله) للتعلیم والبحث

 

 

 

الفصل الأول

 

شرعیة الحكومة والقبول بها

 

 

 

سؤال: ماذا تعنی شرعیة الحكومة؟

جوابه: قبل الإجابة عن السؤال من الضروری ابتداءاً توضیح وبیان المفاهیم الأساسیة فیه وهی:

 

الحكومة

بالرغم من كثرة التعاریف الواردة لهذه المفردة فی مصادر العلوم السیاسیة، فإن من الممكن تعریفها بتعبیر بسیط كما یلی:

الحكومة مؤسسة رسمیة تتولى الإشراف على السلوكیات الاجتماعیة لأبناء المجتمع والعمل على توجیهها؛ فان قبل الناس عملیة التوجیه باسلوب سلمی حصلت الغایة المرجوة، وإلاّ وجدت الحكومة نفسها مضطرةً لاستخدام اسلوب القوة لتحقیق أهدافها، أی لو أن أُناساً تمردوا على القوانین الضروریة لتحقیق الأهداف التی تصبو الیها الحكومة؛ فإنهم یُرغمون على الانصیاع لهذه القوانین عبر الاستعانة بالأجهزة الأمنیة. وهذا التعریف یشمل الحكومات الشرعیة وغیر الشرعیة.

 

ضرورة الحكومة

أقرَّت مختلف النظریات المطروحة بشأن الحكومة بضرورة قیامها، وشذَّ مذهب الفوضویة وحده حیث أنكر ضرورتها؛ إذ یعتقد أتباعه بإمكانیة إدارة الإنسان لحیاته الاجتماعیة من خلال الالتزامات الأخلاقیة، ولا داعی لوجود الحكومة، ویرون وجوب العمل بنحو یوصل الى هذه النتیجة؛ أی یتعین على الناس التوفر على قدر من التعلیم والتربیة، بحیث یتسنى لهم إدارة المجتمع دون الحاجة الى

الحكومة. فیما ترى المذاهب الاخرى تناقض هذه النظریة مع الواقع، وبتعبیر آخر أنها نظریة غیر واقعیة، إذ أثبتت التجربة على مدى مئات بل آلاف السنین أن فی كل مجتمع ثمة أفراداً لا یلتزمون بالقواعد الأخلاقیة، وإذا لم تتولَّ قوةٌ ما السیطرة علیهم؛ فإنهم سیجرفون الحیاة الاجتماعیة نحو الفوضى.

 

مفهوم الشرعیة

إن للشرعیة الواردة فی إطار الفلسفة السیاسیة مفهوماً اصطلاحیاً، ینبغی عدم الخلط بینه وبین المعنى اللغوی لهذه المفردة والكلمات التی تشترك معها فی جذر الاشتقاق، وبتعبیر آخر ینبغی عدم النظر الى «الشرعیة» على أنها بنفس معنى لـ «المشروع» و«المتشرعة» و«المتشرعین» المأخوذة من «الشرع»، الذی یعنی الدین، وعلیه فإن المعنى المراد من هذه المفردة فی الأبحاث السیاسیة یرادف القانونی.

وحینما نقرّ بضرورة وجود الحكومة التی یتمثل قوامها بصدور أمر من جهة ما، وتنفیذه من قبل الآخرین؛ أی أن قوام الحكومة یتمثل بوجود شخص أو مجموعة حاكمة من جهة، وشعب یُفترض به الامتثال لأوامر هذا الشخص أو المجموعة والعمل بها من جهة اخرى. فهل یعنی هذا أن الشعب مُلزمٌ بطاعة كلِّ أمر یصدر الیه؟ وهل یحق لكل شخص أو مجموعة اصدار الأوامر للشعب؟

شهد التاریخ على امتداده أشخاصاً حكموا الناس وتسلطوا علیهم بالقوة من غیر أن یكونوا أهلا للحكم، وبالعكس فربما كان هنالك شخص أو مجموعة لها الأهلیة لذلك، وكان یفترض بالناس إطاعتهم.

فی ضوء ما تقدم بوسعنا القول: إن المراد من الشرعیة هو أن یتمتع الفرد بحق الحاكمیة، والإمساك بالسلطة والحكومة، فی حین یُفترض بسائر الناس السمع والطاعة له.

التلازم بین الحق والتكلیف

یتضح فی ضوء ما تقدم وحسب الاصطلاح المنطقی ان بینهما «تضایفا» من معنى الشرعیة أن ثمة تلازماً قائماً بین «حق الحاكمیة» و«تكلیف الشعب بالطاعة» أی عندما یحوز شخصٌ ما هذا «الحق»؛ فإن «تكلیف» الآخرین هو رعایة هذا الحق؛ ولغرض تقریب المعنى للأذهان نسوق المثال التالی:

ماذا یعنی قولنا: إن للوالد حق اصدار الامر لولده؟ إنه یعنی وجوب الطاعة على الولد، وهذا «الحق» وذلك «التكلیف بالطاعة» لا ینفصلان بالمرّة، ولایتقدم أحدهما أو یتأخر عن صاحبه، واذا ما تصورنا أن هناك تقدماً أو تأخراً؛ فهو مما لا تأثیر له على الصعید العملی. على أیة حال؛ عندما نقول إن للحاكم حق اصدار الأمر فذلك یعنی أن على الشعب الامتثال لأمره وطاعته؛ ومن هنا بوسعنا القول: إن الشرعیة تعنی ان له الحق.

وینبغی الانتباه الى أننا هنا بصدد توضیح مفهوم الشرعیة، وفی التعریف ربما یقتصر الأمر على توضیح المفهوم تارةً، وقد یجری التطرق الى المصادیق الخارجیة للمفهوم وكیفیة تحققها والمعطیات المترتّبة على وجودها وما شابه ذلك تارة أخرى. وإذا أردنا التطرق الى المقصد الثانی؛ یتعین علینا الدخول فی قضایا اخرى، مثل معیار الشرعیة والرؤى المتباینة بشأنها وسائر الأبحات المتعلقة به، بید أننا هنا بصدد بیان هذا المفهوم وحسب.

 

توضیح بشأن الحق

لقد أسلفنا القول بأن شرعیة الحكومة تعنی ان لها الحق فی حكم الناس، ویسود بین الناس عقیدة بانه فی كل مجتمع من المجتمعات البشریة توجد فئة تتمتع بحق الحكم على الناس بینما الآخرون لیس لهم مثل هذا الحق، اذن إذا قیل: إن الحكومة الفلانیة شرعیة ـ أی لها الحق فی الحكم ـ فذلك لا یعنی أن القوانین التی تصدرها

تلك الحكومة حقة، وتتطابق مع الواقع.

إن الحق الذی نتحدث عنه هنا ما هو إلاّ مفهوم اعتباری، یُطرح على صعید العلاقات الاجتماعیة، ونحن لا نتحدث هنا حول معیار الأحقیة أو كیفیة نیلها أو المصدر الذی یهب الحق... الخ، بل أن ما نقصده هو بحث حول المفهوم فقط.

إن كل من یتحدث عن شرعیة حكومة ما فهو یتصور أن ثمة اُناساً یتمتعون بالحق فی الحكم، وهنالك مَنْ لا یتمتعون بمثل هذا الحق؛ فعلى سبیل المثال: لا یحق للصبیان أو المجانین أو المتخلفین عقلیاً أو الجهلة والأمیین وأمثالهم تولی الحكم على الآخرین وإصدار الأوامر لهم.

 

لماذا حق الحاكمیة؟ وما هو الدلیل على وجوب الطاعة؟

تقدّم القول بتلازم «حق الحاكمیة» و«التكلیف بالطاعة»، إذن لیس ثمة تفاوت إذا ما سألنا: لماذا یمتلك الحاكم الحق فی ان یأمر؟ أو لماذا یتعین على الناس اتباع الحاكم وتطبیق أوامره؟

فإذا ما أقررنا بضرورة قیام الحكومة فی كل مجتمع أولا، وأن الحكم یعنی تدبیر الشؤون الاجتماعیة للمجتمع ثانیاً، حینها یتعین علینا الإقرار بأن ثمة اُناساً یمتلكون الحق فی الحكم واصدار الاوامر، وبالمقابل فإن الناس مكلّفون بإطاعة القوانین التی یصدرها الحاكم، أو الفئة الحاكمة، وإذا لم تكن اوامر؛ فلا یكون هنالك أی وجود للحكومة، أما إذا ما توفرت الاوامر والأحكام، ولم یكن هناك مَنْ یطیعها؛ فإن وجود الحكومة سیكون عبثاً ولا طائل من اعتبار الحاكم والمحكوم.

إن الادلة العقلیة التی تثبت العلاقة بین الحاكم ومحكومیه أو الرئیس ومرؤوسیه، أو الإمام والأمة مثل قولنا من دون التمتع بمثل هذه العلاقة فان مصالح المجتمع لا تؤمّن، هی نفسها تثبت حق الحاكم فی الحكم، ووجوب طاعة الناس له.

ونكرر تأكیدنا بأن أصل ضرورة الحكومة، وحق الحاكم فی اصدار الاوامر

وتكلیف الناس بالطاعة؛ كل ذلك یعتبر مسألة منفصلة عن هذه القضیة وهی ما الدلیل على ان للحاكم حق الحكومة؟ ولماذا من واجب الناس الطاعة له؟ وبحثنا ینصبُّ الآن على القضیة الاولى دون الثانیة، وسوف نتطرق فی موضع آخر لبحث ما إذا كانت الشرعیة تُكتسب من خلال إرادة الامة والقبول العام، أم أنها تنشأ من مصدر آخر؟ وبالتالی سوف نبحث فی ما یراه الإسلام بشأن الشرعیة.

* * * * *

 

سؤال: ما هو معیار شرعیة الحكومة؟

جوابه: ثمة آراء متعددة بشأن المعیار الذی یحدّد شرعیة الحكم، وفیما یلی نشیر إشارة عابرة الى عدد من النظریات المعروفة:

1ـ نظریة العقد الاجتماعی: ترى هذه النظریة أن شرعیة الحكم تنبثق عن العقد الاجتماعی، أی أن عقداً یُبرم بین المواطنین والحكومة، یُعتبر المواطنون بموجبه ملزمین باتباع قوانین الحكومة، وفی المقابل تتعهد الحكومة بتوفیر الأمن والنظام والرفاهیة للمواطنین، وقد وردت آراء متباینة فیما یتعلق بطرفی العقد، فمنها ما یقول: بأن المواطنین یمثّلون طرفاً، فیما یمثل الحاكم أو الحكومة الطرف الثانی، وهناك ضمن سیاق هذه النظریة رأی یقول: إن هذا العقد إنما یُبرم بین المواطنین أنفسهم.

2ـ نظریة الرضى والقبول: وتذهب الى أن رضى المواطنین یمثّل معیار الشرعیة، فإذا ما ارتضى أبناء المجتمع الحكومة؛ فانه یجب علیهم عندئذ إطاعة قوانینها، ورضاهم هذا یدخلهم فی التزام سیاسی یوجب للحكومة حق اصدار الاوامر علیهم.

3ـ نظریة الإرادة العامة: ومعناها أن إرادة الامة بأجمعها أو الأغلبیة منها اذا تعلّقت بحكم فئة ما؛ فان تلك الحكومة تكتسب آنذاك صفة شرعیة، وتصبح رغبة عموم الامة معیاراً للشرعیة.

4ـ نظریة العدالة: إذا ما سعت الحكومة من أجل تطبیق العدالة؛ تصبح مشروعة والعدالة هنا هی التی یتمخض عنها الالتزام السیاسی.

5ـ نظریة السعادة أو القیم الأخلاقیة: إن شرعیة الحكومة تكمن فی عملها؛ من أجل توفیر السعادة لأبناء المجتمع، وتحكیم القیم الأخلاقیة، والسبب الذی یدفع الامة للانقیاد للحكومة هو سعیها لتوفیر السعادة لهم.

6ـ نظریة الحكم الإلهی: وفیها یكون الحق الإلهی والأمر الذی یمنحه هو المعیار فی شرعیة الحكومة، وفی الحقیقة فإن الحكومة الدینیة تقوم على أساس هذه النظریة.

وقد تمّ شرح كل واحدة من هذه النظریات فی كتب الفلسفة السیاسیة، ونحن نقوم هنا بنقد ودراسة هذه النظریات بصورة مختصرة. وبوسعنا حصر هذه النظریات الست فی محاور رئیسیة ثلاثة هی: إرادة الأمة، العدالة أو القیم الأخلاقیة؛ الحكومة الدینیة «الإلهیة»، وسنتطرق فیما یلی بالعرض والتقویم الى هذه المحاور باختصار:

 

اولا: إرادة الامة

بموجب النظریات الثلاث الاولى فان ملاك الشرعیّة فیها تمثّله إرادة الأُمة، وفی مثل هذه الحالة تفقد الحكومة شرعیتها إذا ما رفضتها الامة حتى وان كانت حریصة على تحقیق مصالح الناس، وتكتسب الشرعیة إذا ما حظیت بتأییدها؛ حتى وإن سارت خلافاً لمصالح الامة، ولم تلتزم بالقیم الأخلاقیة. وهنا لابد من التنقیب عن اسس ومقومات القیم الأخلاقیة. فخلال القرون المتأخرة ظهر الى الوجود مذهب فی فلسفة الأخلاق، یرى أن أساس ومصدر القیم الأخلاقیة یكمن فی إرادة الأُمة (مذهب الوضعیة الاخلاقیة)، وفی ضوء هذا المذهب فإن إرادة الامة والقیم الأخلاقیة متلازمتان وتسیران باتجاه واحد على الدوام، ولا یطرأ تضارب بینهما أبداً، فعندما تكون الحكومة موضع قبول لدى الأُمة؛ فهی ستكون ملتزمة بالقیم الأخلاقیة بالضرورة.

ولكن علینا أن نعلم أن هنالك مذاهب اخرى على صعید فلسفة الأخلاق أیضاً، منها فلسفة الاخلاق الإسلامیة التی ترى عدم دوام الاتفاق بین إرادة الامة والقیم الأخلاقیة، وفی ضوء هذا المذهب یرد الاشكال السابق الذكر.

والإشكال الآخر هو: إذا ما اختارت الأكثریة الحكومة؛ فما هو مصیر الأقلیة

التی ترفض مثل هذه الحكومة؟ ولماذا تُلزم الأقلیة بامتثال أوامر هذه الحكومة؟ وهذا الإشكال غایة فی الجدیة، ویبرز فی غایة المنطقیة قبالة الدیمقراطیة التی تعنی حكم الأكثریة، وكذا الحال فیما إذا كان قبول الناس بالحكومة مشروطاً؛ ولكن الحكومة لم تفِ بذلك الشرط، فهل ستحظى تلك الحكومة بالشرعیة، ویصبح الناس ملزمین إزاءها؟ وهنالك مؤاخذات خاصة وثانویة بشأن النظریات الثلاث، لكنّا نترك الحدیث عنها تلافیاً للإطالة.

 

ثانیاً: العدالة أو مطلق القیم الأخلاقیة

إذا ما اعتبرنا العدالة أو القیم الأخلاقیة معیاراً لشرعیة الحكم؛ كما نصّت علیه النظریتان الرابعة والخامسة، فقد تم بذلك تبریر شرعیة القوانین والأوامر الصادرة عن الحكومة، بید أن الحدیث لم یجرِ بشأن اعتبار الحاكم أو الفئة الحاكمة والدلیل علیه، أی لو كان القانون عادلا وضامناً لتحقیق القیم الأخلاقیة؛ فإنه والحالة هذه یُحرز اعتباره وشرعیته، كما هو مطروح فی النظریتین الرابعة والخامسة، وفی ضوء هذا الكلام جرى تثبیت اعتبار القانون، إلاّ أنه لم یجر التطرق الى اعتبار الحاكم وشرعیته، بمعنى أن الحدیث حول شرعیة الحكومة ینصبّ فی ما هو المعیار الذی یعطی للحاكم أو الفئة الحاكمة حق اصدار الأوامر والقوانین؛ وبتعبیر آخر: إذا كان القانون عادلا؛ فهو إذن واجب التنفیذ، ولكن لماذا یتعین تطبیق هذا القانون على ید الحاكم نفسه؟ إن عدالة القانون لا تبرّر وجوب تمركز الحكم بید شخص أو فئة حاكمة محددة، وقد جرى السكوت عن هذا الإشكال الوارد على النظریتین الرابعة والخامسة.

 

ثالثاً: الحكومة الدینیة أو الإلهیة

إذا ما قبلنا النظریة السادسة؛ فسنلاحظ خلوّها من الإشكالات الواردة على

سابقاتها من النظریات، لأن كافة المؤمنین بوجود الخالق یرون أن الله تعالى هو المالك وصاحب السلطان ـ أی ذو سلطة تكوینیة على الخلق ـ فإذا كان الباری تعالى هو الخالق؛ فلِمَ لا یكون له الحقّ بإصدار القوانین وممارسة الحكم؟ ومن جهة اخرى فإن المؤمنین بوجود الله سبحانه یعتقدون بأن الأحكام الإلهیة لا تصبّ فی مصلحته تعالى، بل فی صالح خلقه، كما أنها تتمیز بالعدالة ومطابقتها للقیم الأخلاقیة، فإذا ما أمر الله؛ وجبت طاعته بلا تردد.

واذا ما نصب الباری تعالى شخصاً لتنفیذ الحكم الإلهی؛ حاز على حقّ الحاكمیة، ولن تواجه حكومته أی معضل. وقد تمّت حكومة النبی(صلى الله علیه وآله) والائمة المعصومین(علیهم السلام)بتنصیب إلهی، فیما جاءت حكومة الولی الفقیه فی عصر غیبة الإمام المعصوم(علیه السلام)بتنصیب عام من قبل الإمام المعصوم، المنصوب من قبل الله سبحانه.

* * * * *

 

سؤال: ما هو ملاك شرعیة الحكومة فی نظر الإسلام؟

جوابه: فی مستهل الحدیث حریٌ بنا القول: حینما نرید بحث قضیة ما فی ضوء الرؤیة الإسلامیة، فنظراً الى أن الإسلام یتشعب الى مذاهب متعددة، وأشهرها المذهبان: الشیعی والسنی، فلابد والحالة هذه من استعراض آراء هذین المذهبین على أقل تقدیر، فربما یتفق المذهبان حول مسألة ما، وربما یفترقان، وقد لا یحصل الاتفاق حتى بین علماء الشیعة انفسهم حول مسألة واحدة.

ففیما یتعلق بشرعیة الحكومة یتفق الشیعة والسنة: على أن الله سبحانه إذا نصَّبَ شخصاً للحكم تكتسب حكومته صفة شرعیة وله حق الحاكمیة؛ لأن الكون بأسره ـ وفقاً للرؤیة الإسلامیة ـ یعتبر ملكاً طِلقاً لله سبحانه، وكل شیء فیه فهو ملك له جلّت قدرته؛ ولا یحق لأحد التصرف فی أی شیء إلاّ بإذن منه تعالى، فهو المالك الحقیقى لكل شیء. وبالأساس فإن ممارسة الحكم على الخلق إنما هو حق لله عز وجل، ومن شؤون ربوبیته ولا حق لأحد ان یمارس الحكم على الغیر؛ إلا أن یكون مأذوناً من قبل الله تعالى، بمعنى أن حكومة مَنْ نُصِّب من قبله تعالى هی حكومة شرعیة.

 

حكومة النبی(صلى الله علیه وآله) أفضل نموذج للحكومة الدینیة

تعدّ الحكومة التی أقامها رسول الله(صلى الله علیه وآله) مصداقاً للحكومة التی تحظى بقبول الشیعة والسّنة. إذ یُجمع المسلمون قاطبة على شرعیة حكومة رسول الله(صلى الله علیه وآله)، لما یتمتع به(صلى الله علیه وآله) من تنصیب إلهی. ویذهب أهل السنة الى أنه لیس هنالك مَنْ نُصِّب للحكم من قبل الله تعالى غیر رسول الله(صلى الله علیه وآله)، بید أن الشیعة یعتقدون بتنصیب الأئمة المعصومین(علیهم السلام) للحكم بعد رسول الله(صلى الله علیه وآله) من قبل الله تعالى أیضاً؛ ولابد من

الالتفات الى أن ولایة المعصومین وحكومتهم بعد رسول الله(صلى الله علیه وآله) لم تأتِ عبر تنصیب من لدن رسول الله(صلى الله علیه وآله) بل أنه(صلى الله علیه وآله) لمّا صرّح بخلافة علی(علیه السلام) من بعده فإنما كان ذلك تبلیغاً بالتنصیب الإلهی، وعلی(علیه السلام) إنما نُصِّب من قبل الله سبحانه للخلافة والولایة، وهكذا الحال بالنسبة لسائر الائمة(علیهم السلام)؛ ولكن ثمة قضیة اخرى تثار وهی: هل هنالك مَنْ نصِّب للحكم من قبل الله فی عصر غیبة المعصوم(علیه السلام)؟ یُستفاد من الروایات الواردة فی المصادر الروائیة الشیعیة أن الفقیه الجامع للشرائط المذكورة فی الروایات هو الذی یمتلك حق الحاكمیة فی زمن غیبة المعصوم(علیه السلام)، وبتعبیر بعض الروایات أنه: «المنصوب من قبل المعصومین»، فشرعیة حكم الفقهاء ولیدة النص العام علیهم من قبل المعصومین، المنصوص علیهم على نحو الخصوص من قبل الله تعالى. ففی نظر الشیعة یعتبر المعیار الذی یمنح الشرعیة لحكومة رسول الله(صلى الله علیه وآله) هو نفسه الذی یضفی الشرعیة على حكومة المعصومین(علیهم السلام)، وكذا الحال بالنسبة لولایة الفقیه فی زمن الغیبة، أی أن شرعیة الحكم لا تناط برأی البشر على الإطلاق، وإنما هی أمر إلهی، وتأتی من خلال تنصیبه، والفارق بین تنصیب الائمة(علیهم السلام) وتنصیب الفقهاء یكمن فی ان تنصیب المعصومین عن طریق النص الخاص المشخص لهم، فیما جاء تنصیب الفقهاء عاماً، وفی كل زمان تحظى طائفة منهم بحق الحاكمیة.

 

شرعیة الحكم فی نظر أهل السنة

یرى أهل السّنة أن الله لم ینصِّب إلاّ رسول الله(صلى الله علیه وآله) حاكماً؛ فكیف تستطیع الحكومة فی هذه الحالة إحراز شرعیتها؟ نقول فی الاجابة: هنالك ثلاثة سبل لإحراز الحكم شرعیته: أولها: إجماع المسلمین على حكومة فرد معین، وثانیها: التعیین من قبل الخلیفة السابق، والثالث: تعیین أهل الحل والعقد.

والطریق الثالث هو أشهرها وأشملها لإحراز الشرعیّة فی نظر أهل السنة؛

والمراد منه: إذا أجمع وجهاء المسلمین ـ وهم أهل الرأی والحجى ـ واختاروا حاكماً حینها ستحظى حكومته بالشرعیة، وقد رأى البعض تطابق نظریة أهل السّنة فیما یتعلق بشرعیة الحكم مع دیمقراطیة الغرب، بل حاولوا وصف الإسلام بأنّه السبّاق فی مجال الدیمقراطیة، وسوف نتطرق فی موضع آخر الى بحث نظریة أهل السنة بشأن شرعیة الحكم، ونبین تضاربها مع الدیمقراطیة.

* * * * *

 

سؤال: ما هو دور الامة فی الحكومة الإسلامیة؟

جوابه: بالامكان بحث دور الامة على بعدین: أولهما فی إضفاء الشرعیة على الحكومة الإسلامیة، والآخر فی إقامتها.

وبإجماع المسلمین فإن شرعیة حكومة رسول الله(صلى الله علیه وآله) منبثقة عن الله تعالى، أی أنه تعالى هو الذی منحه(صلى الله علیه وآله) حق الحاكمیة، ولم یكن لرأی الأُمة أی دور فی إضفاء الشرعیة على حكومته(صلى الله علیه وآله)؛ بید أن دوراً حیویاً كان للامة فی إقامة حكومة النبی(صلى الله علیه وآله)؛ الذی لم یفرض حكمه بالقوة على الامة، بل المسلمون هم الذین بایعوه قلباً ولساناً، وقبلوا حكومته طائعین؛ وقد ساهم دعم الامة السخی فی ترسیخ دعائم حكومة النبی(صلى الله علیه وآله).

هنالك اختلاف فی الرأی بین السنّة والشیعة حول شرعیة حكم الأئمة المعصومین(علیهم السلام)؛ حیث یعتقد أهل السنّة أن شرعیة أیة حكومة ـ عدا حكومة رسول الله(صلى الله علیه وآله) ـ إنما تأتی من خلال رأی الامة وبیعتها، فهم یعتقدون بأن الامة لو لم تكن قد بایعت علیاً(علیه السلام)؛ لما حظیت حكومته بالشرعیة، فیما یعتقد الشیعة أن شرعیة حكومة الأئمة المعصومین(علیهم السلام) مستمدة فی التنصیب الإلهی؛ أی أن الله سبحانه هو الذی منحهم حق الحكم، وقد أدى النبی(صلى الله علیه وآله) دور المبلّغ فی هذا المجال، أما بیعة الأمة وتبعیتها فقد كان لها الدور الأساس فی اقامة حكومة المعصومین(علیهم السلام).

من هنا فإن علیاً(علیه السلام) بالرغم من التنصیب الإلهی له لقیادة الأمة وزعامتها، ومع ما كان لحكومته من سمة شرعیة؛ لكنه أحجم عن التدخل فی الشؤون الاجتماعیة لمدة خمسة وعشرین عاماً لعدم مبایعة الأمة إیاه. فلم یفرض حكومته بالقوة على الناس، والكلام نفسه یصح بشأن سائر الأئمة(علیهم السلام).

الحكومة الإسلامیة فی عصر الغیبة

ینبغی القول بشأن الحكومة فی عصر الغیبة: نظراً لانتفاء الفارق بین وجود الإمام المعصوم(علیه السلام) وعدم وجوده فی نظر أهل السنّة؛ وذلك لعدم اعتقادهم بالإمامة بعد النبی(صلى الله علیه وآله) بالنحو الذی علیه الشیعة؛ فإن شرعیة الحكم منوطة برأی الامة، أی أنّ السُّنّة یرون إحراز الحكومة، أو الحاكم للشرعیة عبر التصویت المباشر للامة، أو تنصیب الخلیفة السابق، أو عن طریق انتخاب أهل الحل والعقد؛ أما فقهاء الشیعة ـ عدا القلیل من المعاصرین ـ فإنهم یذهبون الى أن للفقیه حق الحاكمیة فی زمان الغیبة، والحكومة أمرٌ أوكله الله سبحانه للفقهاء عن طریق الأئمة المعصومین(علیهم السلام). إذن شرعیة الحكومة فی عصر الغیبة إنما تأتی من قبل الله سبحانه لا رأی للامّة فی ذلك والتی یتمثل دورها بإضفاء العینیة على الحكومة فی عصر الغیبة وحسبُ، لا الشرعیة.

لقد حاول البعض تضخیم دور الامة فی الحكومة الإسلامیة ـ فی عصر الغیبة ـ فقالوا: إن ما منحه الله سبحانه للفقهاء عن طریق الأئمة المعصومین(علیهم السلام) هو الولایة العامة، أی لیس تنصیب الفقهاء على غرار تنصیب المعصومین(علیهم السلام)للحكومة والولایة؛ لأن تنصیب الأئمة جاء خاصّاً ومحدّداً، أما الفقهاء فقد جرى تنصیبهم للولایة تنصیباً عاماً، ومن أجل تحدید فقیه، توكل الیه الحكومة والولایة یتعین الرجوع إلى آراء الأُمة. إذن الشرعیة بالأساس من الله، أما تعیین الفقیه للحكم فهو منوط بالأُمة وهذا دورٌ یضاف الى دور الأُمة فی إضفاء العینیة على حكومة الفقیه.

ینبغی لنا ان نقول فی نقد هذه النظریة: إما أن یكون مراد المتحدث أن لحكومة الفقیه فی عصر الغیبة شرعیةً تلفیقیة، بمعنى أن شرعیة ولایة الفقیه تتحقق بالتنصیب الإلهی وبرأی الامة معاً، وبعبارة اخرى: إن رأی الأُمة یمثل الى جانب التنصیب الالهی جزءاً دخیلا فی إضفاء الشرعیة على حكومة الفقیه؛ أو مراده إن التنصیب الإلهی هو العنصر الأساسی فی شرعیة حكومة الفقیه فی عصر الغیبة، غیر

أن الله سبحانه اشترط عدم إحراز الفقیه لحق الحكم؛ اذا لم تتوفر آراء الأمة؛ أی أنّ رأی الامة شرطٌ فی شرعیة حكومة الفقیه ولیس جزءاً دخیلا فیها.

واذا أردنا إقحام رأی الأُمة فی تعیین الشرعیة بأی نحو كان؛ فإننا نواجه الإشكال التالی: هل ان الحاكمیة هی حق للناس حتى یمنحوه لأحد؟

قلنا آنفاً: إن الحاكمیة حقٌ لله فقط، والأئمة المعصومون(علیهم السلام) أحرزوا حق الحاكمیة على الناس من لدن الباری تعالى فإذا ما كان لرأی الامة دَخَلٌ فی إضفاء الشرعیة على الحكومة یتعین حینئذ فقدان الفقیه الحاكم للشرعیة؛ متى ما رفضت الأمة حكومته، لكننا قلنا: إن للفقیه حق الولایة فی عصر الغیبة، وهذا الحق إنما یكتسب صفة التحقق العینی من خلال قبول الامة، فیلزم حینئذ من ذلك أن عدم موافقة الامة یقتضی خلوّ المجتمع الإسلامی من الحكومة الشرعیة.

* * * * *

 

سؤال: إذا كانت شرعیة الحاكم الإسلامی غیر منوطة بآراء الأُمة؛ فلماذا الانتخابات؟

جوابه: تجدر الإشارة أولا الى بعض النظریات التی تؤمن بضرورة أن یكون لآراء الأمة دورٌ فی الحكومة الدینیة:

1ـ یقول البعض: إما أن تكون الحكومة لیبرالیة وتحرز شرعیتها من خلال آراء الجماهیر، أو فاشستیة لا دور للجماهیر فیها، وفی النظام الإسلامی لابد من أخذ آراء الامة فی نظر الاعتبار كی لا تطغى صبغة الفاشستیة على النظام.

2ـ هنالك نفرٌ من فقهاء الشیعة المعاصرین احتملوا أن تكون شرعیة الحكومة منوطة بآراء الأمة أثناء عصر الغیبة.

3ـ ویقول البعض: نظراً لعدم صدور نصٍّ من قبل الله تعالى بشأن الحكم فی زمن الغیبة ولم یصلنا أمرٌ أو نهیٌ بشأنه، أی جرى السكوت عن قضیة الحكم فی عصر الغیبة، فالأمر موكول للناس وهم الذین یتعین علیهم إبداء ما یرونه بخصوص حاكمیة شخص ما أو فئة ما، أی أن رأی الأمة له دورٌ مصیری فی شرعیة النظام.

4ـ وطائفة تقول: بما أن الله سبحانه لم یأذن لأحد بالحاكمیة؛ فلابد للأمة أن تتخذ القرار بنفسها، لأن «الناس مسلّطون على أموالهم وأنفسهم» وهم الذین یفوضون أمر الحكم ـ وهو حقهم ـ أو یوكلونه لشخص معین. والفرق بین التوكیل والتفویض هو إمكانیة إعادة النظر فی الأول أما فی الثانی فلا. إذن شرعیة الحكم فی كلتا الحالتین منوطة بآراء الأمة.

وفی معرض نقدنا للنظریة الاولى ینبغی القول: ما الدلیل على اقتصار الحكم على ذینك النمطین؟

فنحن نرى أن هنالك نمطاً ثالثاً من الحكم لا تكتسب الشرعیة فیه من خلال آراء الناس، وإنما من خلال الحكم الإلهی، مع خلوّه من كل صور الإجبار على

الناس، لأننا نرفض اللجوء الى القوة لنیل الحكم.

أما بشأن النظریة الثانیة فیلزم الانتباه الى أن الغالبیة من فقهاء الشیعة یرون انبثاق شرعیة الحكم فی عصر الغیبة عن الله سبحانه، بالرغم من أن قبول الامة ومبایعتها تُخرج الحكومة الدینیة الى حیّز الوجود، وإذا انیطت الشرعیة بآراء الأمة ستثار ذات الإشكالات التی تثار حول سائر النظریات.

وعلى صعید النظریة الثالثة فینبغی القول: إن الباری سبحانه لم یسكت عن قضیة الحكم فی عصر الغیبة، فالنصوص الإسلامیة تصرِّح بأنّ على الناس فی عصر الغیبة التحری بغیة العثور على الفقیه الجامع للشرائط، وإیكال أمر الحكم الیه.

ونردّ على النظریة الرابعة: إن حق الحاكمیة ـ بموجب الرؤیة الإسلامیة ـ ینحصر فی الحق تعالى إذ انَّ كل شیء ملكٌ له ولا یحق لأحد التصرف بأی شیء إلا بإذنه، والحاكمیة على الناس إنما تحظى بالشرعیة حینما تكون بإذن منه تعالى. إذن الحاكمیة لیست حقاً للأُمة كی توكلها أو تفوّضها لأیٍّ كان.

إن نفس الإشكالات التی وردت فی محلّها بشأن الدیمقراطیة ترد أیضاً على النظریة الرابعة، ومن بینها: أنه إذا ما اوكلت الأغلبیة الحكمَ أو فوّضته الى شخص ما؛ فما هو مصیر الاقلیة یا تُرى؟ وهل یتعین علیها الطاعة ولماذا؟ كما یمكن إثارة الإشكال التالی: لماذا توكل الأمة الحكم للفقیه فقط؟ فإن كان ذلك من حقّها؛ كان بإمكانها إیكاله الى مَنْ تشاء. إذن بموجب النظریة الرابعة، لا تبقى ضرورة لولایة الفقیه.

 

الموقع الحقیقی للامة فی الحكومة الدینیة

بعد البحث حول النظریات السابقة نتحدث الآن عن النظریة التی تحظى بقبولنا. فقد تقدم القول إن الأُمة لا تضفی أیّة شرعیة على حكومة الفقیه، بل إن رأیها وقبولها یؤدی الى تحققها فی الخارج، فقد خاطب الله تعالى نبیه(صلى الله علیه وآله) «هُوَ الَّذِی أَیَّدَكَ بِنَصْرِهِ

وَبِالْمُؤْمِنِینَ»(1)، فنصر الله وتفاعل المؤمنین مع هذا النصر له تأثیر فی إضفاء الوجود على الحكومة، حتى وإن كانت حكومة النبی(صلى الله علیه وآله). یقول أمیرالمؤمنین(علیه السلام): «لولا حضور الحاضر وقیام الحجّة بوجود الناصر ... لألقیتُ حبلها على غاربها»(2)، وروی عنه(علیه السلام) أنه قال: «لا رأی لمن لا یُطاع»(3).

هذه النصوص بأجمعها تمثّل دلیلا على دور الأمة فی اِقامة الحكومة الإلهیة وترسیخها، سواء كانت حكومة رسول الله(صلى الله علیه وآله) والأئمة المعصومین(علیهم السلام) أو حكومة الفقیه فی عصر الغیبة.

وفیما یلى نتطرق الى الموضوع التالی وهو: إن كان الأمر كذلك؛ فما الحكمة من المشاركة الجماهیریة فی انتخابات مجلس الخبراء الذی یتولى اختیار القائد؟

والجواب على ذلك أن الامة بتصویتها لصالح الخبراء إنما تكون قد رجعت الى الحجّة على تعیّن المصداق للولیّ الذی اكتسب الشرعیة بعنوان عام. أی تكون قد اختارت علماء الدین لان لكلامهم أهمیته، باعتباره حجةً شرعیة، وهذا الأمر لیس جدیداً إذ أن الناس دأبوا على الرجوع الى البیّنة فی شؤونهم الشرعیة، فهم یرجعون ـ على سبیل المثال ـ الى العدول من ذوی الخبره لغرض معرفة مرجع التقلید لإحراز الحجّة الشرعیة؛ وفی ضوء ذلك فإن الانتخابات تمثّل تمهیداً لعملیة الكشف عن القائد، لا لتمنحه الشرعیة، ومن الواضح أن أفضل السبل لمعرفة الفقیه الجامع شروط القیادة هو الرجوع للخبراء.

* * * * *


1. الأنفال: 62.

2. نهج البلاغة: الخطبة 3.

3. نهج البلاغة: الخطبة 27.

 

سؤال: ما هو المعیار فی أرجحیة الشرعیة الدینیة على رأی الامة وقبولها؟

جوابه: إننا نعتقد أن الكون بأسره ملك لله تعالى، والبشر شأنهم كسائر المخلوقات فی عالم الوجود مملوكون له جلَّ وعلا، والعبد الذی كل ما فی كیانه ملكٌ لله سبحانه، لا إذن له بالتصرف بهذا الكیان دون ترخیص من المالك الحقیقی، فلا حقّ للإنسان فی التصرف حتى بنفسه ناهیك عن الآخرین، فعلى سبیل المثال لا یجوز لنا إلحاق الضرر بأیدینا أو عیوننا؛ لان كل شیء لله، وإذا ما فقدنا حق التصرف بأنفسنا فأنّى لنا حق التصرف بالآخرین؟ لو أن شخصاً ارتكب جریمة السرقة لأی سبب من الأسباب؛ فمن ذا الذی له الإذن فی مساءلته أو معاقبته أو إیداعه السجن أو قطع یده؟ انّ من اذن له المالك الحقیقی فحسب هو الذی یمكن ان یكون بیده اختیار الآخرین.

إننا نعتقد بوجوب قیام هذا النظام على أساس الإرادة التشریعیة للباری تعالى، وإن إذن الخالق ورضاه ضروری فی شتى الامور؛ فی أفعالنا وفی القوانین التی نطبّقها بحق الآخرین، والقرارات التی نتخذها بشأنهم، وما نتصرف به من الأراضی والغابات والجبال والصحاری، وما نستخرج من نفط وغاز وذهب ونحاس وغیرها من المعادن، فلا بد أن نقوم بهذه الأعمال بموجب تخویل، یعبّر عنه بالإذن الإلهی، بمقتضى ما تذهب الیه الرؤیة الإسلامیة، إذن فصلاحیتنا بالتصرف مقیدة بإذنه تعالى.

إن لرأی الامة مكانته، غیر أنه لیس حجة شرعیة علینا، إذ لا تترتب علیه الشرعیة، من هنا فإذا ما نهى الإسلام عن شیء؛ فلیس لنا تجویزه برأینا وانتخابنا، وقول الخالق تعالى مطاعٌ فی جمیع الأحوال، ورأی الأمة مُصانٌ ما لم یتعارض مع الدین. وتأسیساً على ذلك فإن الشرعیة الدینیة هی المحور، ولها الغلبة على رأی الامة وقبولها.

* * * * *

 

سؤال: ما هو تكلیف الحاكم الإسلامی فی حالة فقدان القبول العام لحكم الولی الفقیه؟

جوابه: فی ضوء ما نعتقده لیس ثمة تلازم بین «المقبولیة» و«الشرعیة»، أی أن شرعیة ولایة الفقیه التی هی استمرار لولایة المعصومین(علیهم السلام) لیست مقیّدة بالمقبولیة، فالأخیرة تضفی الوجود فقط على الحكومة الدینیة لعدم امتلاك الحاكم الدینی لحق استخدام القوة لغرض فرض حكومته؛ وعلیه نقول بإیجاز: إذا ما فقدت حاكمیة الولی الفقیه مقبولیتها؛ فإنها لا تفقد شرعیتها، بل المشكلة تعترض تحققها وتطبیقها.

وقبل التطرق للإجابة على نحو التفصیل نقول: إن الفرضیة الواردة فی السؤال لم تقع فی زماننا، والمزاعم التی تحملها كتابات وأقاویل الأجانب فی الخارج، ومن یدور فی فلكهم بعدم قبول الامة للنظام الإسلامی إنما تأتی لإشاعة جوٍّ من التزییف والأكاذیب.

فی عهد الإمام الراحل(قدس سره) أُشیع مراراً من قبل المناوئین للجمهوریة الإسلامیة أن أبناء الشعب الإیرانی قد سئموا الجمهوریة الإسلامیة بسبب المشاكل الاقتصادیة الناجمة عن الحرب والحصار الاقتصادی، غیر أننا كنا شهوداً على الحضور الجماهیری الواسع فی الساحة أثناء تلك الظروف، وعدم توانی الجماهیر عن تقدیم التضحیات بشتى صورها، وبعد رحیل الإمام حافظت المسیرة الاجتماعیة على رونقها وتوجهها، وبذلك استمر الدعم الشعبی للنظام وقیادته. إذن فبحث هذه الفرضیة لا یأتی بمعنى فقدان النظام الإسلامی وقیادته للقبول الشعبی، فاحتمال عدم مقبولیة النظام الإسلامی لدى الامة إنما یمكن تصوره على نحوین:

الأول: إن الامة ترفض الحكومة الدینیة بالمرة، وفی هذه الحالة یبقى اعتقادنا بأنه هو الحاكم أو الوالی المعیَّن من قبل الله تعالى، إلاّ أن حكومته لم تظهر الى خیر الوجود؛ لان قبول الامة شرطٌ فی تحقق الحكومة الدینیة، واجلى مثال على ذلك

السنوات الخمس والعشرون التی قضاها الإمام علی(علیه السلام) جلیس الدار، فقد كان(علیه السلام)منصوباً من قبل الله تعالى، إلاّ أنه لم یكن حاكماً بالفعل لعدم مبایعة الأُمة له.

الثانى: وهو أن حكومة من له حق الحكم الشرعی قد تحققت بالفعل، ولكن بعد مدة انبرت فئة لمعارضته، وهذا الفرض له بُعدان:

أحدهما: إن المعارضین یمثلون فئة قلیلة، وهم بصدد إسقاط الحكم الشرعی الذی یحظى بدعم الأكثریة، فلا شك هنا بأن الحاكم الشرعی مكلفٌ بالتصدی للمعارضین وحملهم على الطاعة، والمثال فی هذا الصدد التصدی الرامی الذی واجه به أمیرالمؤمنین(علیه السلام) أصحاب الجمل وصفّین والنهروان، وما شابه ذلك. وفی عصرنا الراهن تصدى الجمهوریة الاسلامیة للمنافقین والفئات الإلحادیة المحاربة، إذ لیس خلیقاً بالحاكم الإسلامی التزام جانب المسامحة والتساهل وفسح المجال أمام ثلة قلیلة؛ لتمریر مآربها الشیطانیة فی إطاحة الحكومة القائمة على الحق، والتی تحظى بتأیید الأغلبیة.

وثانیهما: بعد إقامة الحكومة الشرعیة التی تحظى بدعم الأغلبیة تنبری الأكثریة القاطعة لمناوئتها، ویعلنون رفضهم للحكومة الدینیة، وفی ضوء ما تقدم من جواب إجمالی نقول: فی مثل هذه الحالة لا یزال الحاكم الشرعی یحتفظ بشرعیته، ولكن نظراً لافتقاده للمقبولیة؛ فإنه یفتقد القدرة على ممارسة حكومته الشرعیة.

إن شرعیة الحكومة الدینیة تزول فی حالة واحدة فقط؛ وهی فقدانها لواحد من الشروط الضروریة للحاكمیة الشرعیة، وإلاّ فإن الشرعیة باقیة لا تزول.

وبمقدورنا اعتبار عهد الإمام الحسن(علیه السلام) وصراعه مع معاویة وفرار بعض قادة جیشه الى معسكر معاویة مثالا للفرضیة الأخیرة، فقد نقل التاریخ أنه(علیه السلام) ـ ونتیجةً لعدم انقیاد الأُمة له ـ لم یمارس الحكم عملیاً، بل اضطُر لقبول الصلح، بید أن الامة نالت جزاء غدرها ونكثها للعهد؛ فتسلط علیها مَنْ تلاعبوا بدینها ودنیاها.

* * * * *

 

سؤال: بعد فصل الشرعیة عن المقبولیة فی النظام السیاسی الإسلامی وبیان دور الامة فی الحكومة الإسلامیة؛ كیف نفسّر قید «الجمهوریة» فی النظام؟

جوابه: إن مصطلح «الجمهوریة» لیس له مفهوم معیّن وثابت لا یقبل التغییر على صعید الفلسفة السیاسیة، فهو یستخدم تارة مقابل النظام الملكی، واخرى فی قبال النظام الاستبدادی السلطوی، فالأنظمة القائمة فی أمریكا وفرنسا والكثیر من البلدان هی أنظمة جمهوریة، بل وحتى الاتحاد السوفیاتی السابق ذو النظام الاشتراكی كان یدّعی الجمهوریة، ویُطلق على المناطق التابعة له اسم جمهوریات الاتحاد السوفیتی، والآن حیث احرز معظمها وحصل على استقلاله مازال یُعدّ جمهوریات أیضاً؛ بالرغم من الفوارق فیما بین هذه الدول من عدة جوانب، وإذا ما تأملنا؛ فسنجد أن الكثیر من الدول التی تعتبر شعبیةً من حیث نمط الإدارة والسیاسة الحكومیة ما زالت تخضع لأنظمة ملكیة؛ من قبیل انجلترا وبلجیكا وتایلاند والدانمارك والسوید وهولندا.

فلا ینبغی التوهم أن «الجمهوریة» تمثل بالتحدید شكلا خاصاً من الحكم، كی یقلّده نظامنا الجمهوری القائم حالیاً؛ فعندما انطلق الشعب الإیرانی المسلم یقوده الإمام الخمینى(قدس سره) بجهاده ضد النظام الملكی ومن ثمّ اطاح به، واقام النظام الجمهوری بدلا عنه؛ فإنهم فی واقع الأمر أزالوا نظاماً كانت الوراثة معیاراً لشرعیته فی الحكم، واستبدلوا بالنظام السابق نظاماً، له مواصفات وطبیعة تنسجم مع الموازین الإسلامیة والنظریات الدینیة التی تحدّد الحكم؛ وفقاً للمصالح التی ینبغی أخذها بنظر الاعتبار مع تغیر الأزمنة.

من هنا یتعین أن تمثل القیم والأحكام الإسلامیة اساساً لعمل مسؤولی النظام، لا أن تعتبر جمهوریة النظام أمراً نافیاً لدینیته.

* * * * *

 

سؤال: لو اُجریت انتخابات جدیدة؛ ألا یُحتمل أَن لا یصوت الشعب الصالح الجمهوریة الإسلامیة؟

جوابه: قبل الإجابة عن السؤال، من الضروری تقدیم إیضاح بشأن هذا الاحتمال. والاحتمال بمعناه العام: الأمر الوارد وقوعه فی جمیع الأحوال، فمثلاً ثمة احتمال بأن ینهار سقف الغرفة التی تخلد للراحة فیها؛ أو انك تذهب للحلاّق كی یحلق شعر رأسك وذقنك فیُحتمل أن یصاب الحلاّق بالجنون فیقطع وریدك بدلا من أن یحلق الشعر الذی تحت ذقنك! فلا یمكن نفی هذه الاحتمالات، إلاّ أنها ضعیفة للغایة؛ فلا شك فی أن أیَّ عاقل لا یرتّب أثراً على مثل هذه الاحتمالات ویرى سفاهتها وابتعادها عن التعقل.

وربما یتوفر الاحتمال على قرائن وشواهد تثبت صحته؛ فنطلق على مثل هذا الاحتمال انه «احتمال عقلائی» أو هو «احتمال بالمعنى الخاص» والعقلاء یرتّبون أثراً على مثل هذه الاحتمالات ولا یستبعدونها على صعید الحیاة؛ فعلى سبیل المثال لو شوهدت انشقاقات فی سقف الغرفة فإنه یُحتمل عقلائیاً انهیار سقفها، وعلیه تتم مراجعة البنّاء لإصلاحه.

فی ضوء هذا التوضیح بوسعنا الإجابة على ما یلی:

إن الاحتمال المفترض فی السؤال لیس عقلائیاً بل هو احتمال بالمعنى العام. إذن لا ضرورة فی الإجابة عنه.

وربَّ مَنْ یصرّ ویقول: بالرغم من ضآلة الاحتمال فی قضایا من قبیل تعیین طبیعة الحكم، ولكن للأهمیة القصوى التی یحظى بها المحتَمَل فلابد من ترتیب أثر علیه.

نقول: إن هذا الاحتمال واردٌ بحق أی نظام وحكومة، وعلى افتراض أن قائلا یقول: إذا ما اقیمت انتخابات فی أمریكا، ورفض الناس نظام الحزبین اللذین

یتبادلان الحكم حالیاً؛ فلابد إذن من إعادة الانتخابات، فهل تعاد الانتخابات لمجرّد بروز هذا الاحتمال فقط؟ وهل اجریت انتخابات لحد الآن فی أی بلد مهما كان نوع الحكم فیه؛ بناءً على احتمال أو ادّعاء محض لكی یبادر نظام الجمهوریة الإسلامیة لمثل ذلك؟

إذا ما بحثنا هذا الادّعاء سنجده یورث مفسدة عظیمة، وللتوضیح نقول: لو اختار الشعب ممثلاً عنه من خلال انتخابات حرّة، وبعد مرور برهة وجیزة من الزمن احتُمل تراجع المنتخبین عن رأیهم؛ فهل یُدعى الى انتخابات جدیدة؟!

وهذا الاحتمال یمكن إثارته بشأن انتخابات رئاسة الجمهوریة والمجلس البلدی ورؤساء البلدیات وسائر المسؤولین فی مختلف الانظمة، الذین یتم تعیینهم عن طریق الانتخابات؛ فإذا ما جرى إعادة الانتخابات بمجرد حصول الاحتمال بتبدل رأی الشعب ـ وهذا ما لا یُنفى فی كل عصر ـ حینها سیقتصر عمل الحكومات والدول على إجراء الانتخابات وحسب! فهل هذا أمر مقبول فی عالم الیوم؟

 

شرعیة النظام ورأی الامة

ینبغی الانتباه الى أن الانتخابات والرجوع الى آراء الأمة فی ضوء ما نعتقده؛ لا تضفی الشرعیة على الإطلاق، كی تزول شرعیة النظام بسبب الآراء السلبیة للأمة؛ بل أن الآراء الإیجابیة للامة ورضاها یمثلاًن عاملا فی تحقق الحاكمیة الدینیة فلو لم توافق الامة لم یقم للدین حكمٌ؛ لأن مثل هذا الحكم لایتحقق بالقوة والقهر. وللانتخابات ـ فی نظرنا ـ فائدتان:

الاولى: من خلال تحققها، والاهتمام بآراء الامة؛ فستجد هذه الامة نفسها شریكة فی إقامة الحكومة الدینیة وبالتالی سیتضاعف دعمها وإسنادها للنظام الذی تحقق على یدیها. وبذلك تتحقق أهم آمال الحكومة الدینیة.

الثانیة: إن الإمام الراحل(قدس سره) مؤسس هذا النظام الإلهی، ومن خلال تأكیده على

دور الامة وآرائها؛ یكون قد جرّد أعداء النظام من السلاح؛ لأن هؤلاء ـ وعبر إعلامهم المسموم ـ كانوا یحاولون الإیحاء بأن النظام الإسلامی نظام استبدادی، واذا ما حظیت آراء الأُمة باهتمام النظام واحترامه إذ ذاك ستسقط حراب المناوئین له.

إن الانظمة التی ترى شرعیتها رهینة بآراء الشعوب، ویزعم أقطابها بوجوب الفوز بآراء الجماهیر للمحافظة على شرعیتهم، لم تبادر أبداً لإعادة الانتخابات لمجرّد الاحتمال بتبدل آراء الشعب، ولم یُثر أحدٌ إشكالا علیهم، بالرغم من أن هذا الإشكال على ما یبدو یمسُّهم بجدیة. ومن البدیهی أنه حینما تُناط شرعیة النظام الإسلامی بالنص الإلهی لا برأی الأُمة فلا ضرورة لاجراء انتخابات جدیدة لمجرد ورود احتمال ضعیف.

* * * * *

 

 

 

الفصل الثانی

 

الإسلام والدیمقراطیة

 

 

 

سؤال: هل بالإمكان تطبیق الدیمقراطیة الغربیة فی المجتمع الإسلامی؟

جوابه: بدءاً لنرَ ماذا تعنی الدیمقراطیة وكیف ظهرت الى الوجود فی الغرب؟

الدیمقراطیة تعنی حاكمیة الشعب أو سیادة الشعب، وقد تبلورت الدیمقراطیة الحدیثة فی الغرب حینما وجد المتدینون هناك أن ما فی حوزتهم من دین ـ وهو المسیحیة ـ عاجزٌ عن القیام بدوره على صعید الحیاة الإنسانیة بجمیع أبعادها لاسیما الاجتماعیة، أو مباشرة أمر التقنین، من هنا فقد قاموا بمعالجة المشكلة بنحو، تنحصر فیه مهمة الدین والتعالیم الإلهیة بحدود الحیاة الشخصیة للإنسان.

لقد رفضوا احكام الدین فی القضایا الاجتماعیة والسیاسیة، وبتعبیر أدق: إن الدین وفقاً لرؤیتهم یختص بالدعوة للصلاة والدعاء والتنسك، أما تشخیص نوع الحكم والسیاسة والقضاء أو تحدید الاسس التی یقوم علیها النظام القیمیُّ فی المجتمع؛ فهذا مما لا شأن للدین به، ومن شأن الله تعالى عدم التدخل فی هذه الشؤون البشریة المهمة!!

وبهذا فقد أعلن العالم الغربی موقفه من المسیحیة «المحرّفة» بوضوح وـ حسم ـ أمره مع الله فی القضایا السیاسیة والاجتماعیة والاقتصادیة، ولمّا جرّدوا الحكم عن الله سبحانه؛ برزت أمامهم هذه القضیة وهی: الى مَنْ یسلِّمون هذا الأمر؟ وقد توصَّل مفكرو الغرب الى سبیلین للحل:

أولهما: تسلیم الحكم بید شخص ما، وهو بدوره یتعامل مع الشعب كیفما شاء؛ وقد أطلقوا على هذا النهج: الدكتاتوریة.

والثانی: إیكال أمر الحكم لأبناء الشعب، فهم راشدون، وبوسعهم تشخیص المصلحة من المفسدة وممارسة عملیة التقنین فی ضوء آرائهم، أو اقرار ما یروق لهم أو تغییره.

واستناداً الى هذه النظریة فإن معیار الحسن والقبح هی إرادة الشعب، والحسن والقبح وما یضاهیهما ما هی الاّ مفاهیم اعتباریة تابعة لأذواق الناس، وإننا فی واقع الأمر نعیش فی عالم، لا وجود للحسن والقبح فیه؛ فإذا ما أعلن الناس یوماً حُسن شیء؛ فإنه یكون كذلك، ولكن لیس للأبد، بل متى ما یشاؤون، فإن رأوا انه قبیح بعد یوم فإنه یتحول الى قبیح، ولكن لیس للأبد أیضاً. وعلیه لیس لدینا حسن وقبح حقیقیان وعینیان، وما هذه الاّ مفاهیم اعتباریة من صنع وابداع الناس أنفسهم، وقد أطلق الغربیون على هذا النهج المستند الى رأی الشعب اسم «الدیمقراطیة».

وحینما وجدوا أن معالجة قضیة الحكم تنحصر فی هاتین السبیلین توصلوا الى هذه الحصیلة، وهی ترجیح الحكم الدیمقراطی الحر على الدكتاتوری الفاشی، فتوحدت قلوبهم وتظافرت هتافاتهم وتعالت صیحاتهم بالحیاة للحریة والدیمقراطیة؛ وهكذا شاعت الدیمقراطیة فی بلاد الغرب، وأخذت تتنامى یوماً بعد یوم حتى غدت حالیاً تحفة الغرب التی تُصدَّر الى سائر البلدان، وقد اتُّخذت شعاراً لبعض المثقفین العصریین فی بلادنا أیضاً غافلین عن أن دیمقراطیة الغرب ولیدة فصل الدین عن السیاسة، ومن غیر الممكن بأی حال أن تنسجم مع الإسلام، لأن الغربیین ـ وكما تقدم ـ افترضوا عدم تدخل الدین فی قضایا الحكم والسیاسة، وهكذا اضطروا لتسلیم الحكم بید الشعب لئلا یبتلوا بالدكتاتوریة.

 

الدلیل على تناقض دیمقراطیة الغرب مع الإسلام

ولكن هل أن المسلمین مضطرون للجوء الى مثل ذلك؟ وهل حُرِّف الإسلام كالمسیحیة بحیث یعجز عن ابداء وجهة نظره بشأن القضایا الاجتماعیة والحكومیة والدولیة، أو ممارسة عملیة الحكم؟ لو كان الإسلام كالمسیحیة فإننا نضع الدیمقراطیة فی عیوننا، ونوافق الغربیین ونماشیهم قلباً وقالباً؛ لكن ذلك مستحیل، فالإسلام لیس كالمسیحیة، فلا شك فی أن الإسلام یولی اهتمامه لنواحی الحیاة

البشریة كافة وأن النصوص القرآنیة وسیرة النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله)والائمة الاطهار(علیهم السلام)زاخرة بالتعالیم التی تخص المجتمع والحكم؛ أَوَ یسمح لنا مثل هذا الدین أن نكون عبیداً لله فی الشؤون الشخصیة، فیما نكون عبیداً للناس فی القضایا الاجتماعیة؟! هل یسمح لنا الإسلام أن نتوجه الى الله فی قضایا الصلاة والصوم والزكاة وما شابه ذلك، فیما نتخذ من رأی الناس معیاراً لشرعیة القوانین فی مجال الحكم والسیاسة؟!

من الأفضل لمثقفی مجتمعنا أن یعرفوا الإسلام معرفة صحیحة، ومن ثم یتأملون ما إذا كان بالإمكان الجمع بین الاسلام ودیمقراطیة الغرب، وحینها لیطلقوا شعاراتهم ویهتفوا باننا مسلمون، وفی الوقت نفسه نطالب بدیمقراطیة الغرب!!!

* * * * *

 

سؤال: لماذا الادّعاء بتناقض الدیمقراطیة مع الدین؟

جوابه: بغیة الدخول فی أی بحث لابد أولا أن تتضح مفرداته جیداً.

إن لفظ الدیمقراطیة ـ التی یُعبّر عنها بحكم الشعب أیضاً ـ شأنها شأن الفاظ: الحریة، التنمیة، المجتمع المدنی... الخ لیس لها تعریف واضح ویتبادر الى الذهن منها مفهوم عائمٌ ومرتبك.

علینا أن نحدد مرادنا من الدیمقراطیة، لنعثر من خلال ذلك على تعریف مشترك لها، ومن ثم نبادر الى مقارنتها مع الدین؛ كی نصل الى النتیجة المرجوة؛ فإن كان المراد من الدیمقراطیة أن كل قانون یسنّه الشعب یحظى بالاعتبار، ویصبح واجب التنفیذ ولابد من احترامه؛ فمن المسلَّم به أن مثل هذا المعنى لا ینسجم مع الدین، لأن حق الحاكمیة فی نظر الدین ینحصر فی الباری تعالى «إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ»(1).

إن الله وحده عالم بمصالح ومفاسد الإنسان والمجتمع وله الحق فی التشریع، واتخاذ القرار بشأن الإنسان، وما على بنی آدم إلاّ الانصیاع لأوامره ونواهیه، واتباع الأحكام الإلهیة اتباعاً مطلقاً؛ إذ أن عبودیة الله تمثل أرقى مراتب الكمال، وإطاعة الأحكام الإلهیة هی التی تضمن السعادة للإنسان؛ وبناءً على ذلك إذا كانت الدیمقراطیة أو حكم الشعب تعنی رجحان رأی الشعب فی مقابل حكم الله؛ فإنها والحالة هذه تفقد اعتبارها، لأن ما یتوجب علینا إطاعته والانصیاع له هو حكم الله، ولیس رأی الشعب.

وعلیه فإذا ما أجمع شعب فی بلد ما، وفی ظل ظرف خاص، وأقرّوا أمراً غیر مشروع ـ كما هو الحال فی البلدان الغربیة ـ فإن حكم الدین مقدَّم فی مثل هذه الحالة لأرجحیة حكم الله على تشخیص الناس، واذا ما فضّلنا رأی الشعب على


1. یوسف: 67.

حكم الله نكون قد تخلینا عن عبادة الله عملیاً، وتجاوزنا ربوبیته التشریعیة! وهذا ما یتنافى مع التوحید.

ان دیمقراطیة الغرب تعنی الاستغناء عن تعالیم الدین، والاكتفاء بالرأى العام للناس؛ وهذا بعینه یعدُّ تمرّداً على الباری عز وجل، وترجیح رأی الشعب فی قبال الحكم الإلهی یمثل صدوداً عن التوحید، وقبولا للشرك الجدید الشائع فی عالمنا المعاصر، وبهذا یتعین مقارعة هذه الوثنیة الجدیدة.

 

المعنى المقبول للدیمقراطیة

إذا كان المراد من الدیمقراطیة أن یكون للناس تأثیر فی مصائرهم فی ظل الأحكام الإلهیة والقوانین الشرعیة؛ فإن مثل هذا المعنى لا یتنافى مع الإسلام، ولا شك فی أن مراد إمام الامة الراحل(قدس سره) من قوله «المعیار هو رأی الشعب» هو ذلك، ولیس أن كل ما یرید الشعب وإن كان معارضاً للحكم الإلهی یحظى بالاعتبار والقیمة.

إن رأی الشعب هو المعیار ما لم یتخطَّ التعالیم الإلهیة، ولم یخالف قواعد الشرع؛ وإلاّ فلا قیمة لرأی الشعب، ولیس معنى الآیة الكریمة «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَیْنَهُمْ»(1)قدرة الناس على ابداء وجهات نظرهم فی كل شیء، وتغییر حلال الله وحرامه من خلال المشورة، بل واستناداً للآیة الكریمة «وَما كانَ لِمُؤْمِن وَلا مُؤْمِنَة إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ یَكُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»(2) لا خیار للمؤمنین ولیس لهم حقُّ دخل أو تصرف فی الأحكام الصادرة عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله(صلى الله علیه وآله).

* * * * *


1. الشورى: 38.

2. الاحزاب: 36.

 

 

 

الفصل الثالث

 

ولایـــة الـفـقـیـه

 

 

 

سؤال: ما المقصود من الحكومة الدینیة؟

جوابه: ربما یراد من الحكومة الدینیة ثلاثة معان على أقل تقدیر هی:

1ـ الحكومة التی تقوم كافة أركانها على أساس دینی.

2ـ الحكومة التی یُلتزم فیها بالتعالیم الدینیة.

3ـ حكومة المجتمع المتدین الملتزم.

وبوسعنا توضیح هذه المعانی الثلاثة والفوارق بینها بما یلی:

فالحكومة بموجب المعنى الأول تعنی تلك التی تُستمد قوانینها من تعالیم الدین فحسب، والقائمون علیها منصوبون من قبل الله تعالى أیضاً، سواءً بالنص أو بالتنصیب العام من قبل المعصومین، ومثل هذه الحكومة تعدّ مثالیة وهی غایة المطلوب؛ لأنها بهذه المزایا تحظى بإسناد الحكم الإلهی، وتقوم على أساس الإرادة التشریعیة للخالق جلّ وعلا.

وعلیه فإن حكومة رسول الله(صلى الله علیه وآله) والإمام المعصوم(علیه السلام) وكذا حاكمیة أمثال مالك الاشتر فی عصر المعصوم، أو الولی الفقیه الجامع للشرائط فی عصر الغیبة؛ إنما هی من هذا القبیل.

وبمقتضى المعنى الثانی فلا ضرورة لأن یكون الحاكم منصوباً من قبل الله سبحانه، سواءً بصورة مباشرة أو غیر مباشرة، وفی مثل هذه الحالة لا یتمتع القائم على هذه الحكومة بالإسناد الإلهی، ودینیة الحكومة إنما تتجسد بمراعاة التعالیم الدینیة فی ظلّها، كما لا یلزم بموجب هذا المعنى أن تكون جمیع قوانین الحكومة مستمدة من التعالیم والأحكام الشرعیة، بل یكفی أن تُراعى فیها الأحكام والقیم الدینیة الى حدٍّ ما. ویأتی هذا النوع من الحكم فی المرتبة الثانیة بعد الحكومة الدینیة بالمعنى الاول.

أما على أساس المعنى الثالث فلا یلزم قطعاً تحكیم القوانین الإسلامیة أو مراعاتها، بل یكفی تعلّق الحكومة بمجتمع یتصف أفراده بالتدین، فإنها تعتبر دینیة مجازاً بناءً على تدین المواطنین. وهذا التعبیر یشابه ما یُطلق على «الفلسفة الإسلامیة» التی یفسّرها البعض على أنها «فلسفة المسلمین» أی الفلسفة السائدة فی أوساط المسلمین، وإن لم تنسجم مع الفكر الإسلامی.

من هنا لیس ثمة ضرورة ـ بناءً على التفسیر الثالث ـ بأن یلتزم الحاكم بتطبیق أحكام وتعالیم الشرع، وفی ضوء ذلك فإن كافة الحكومات والدول التی قامت منذ صدر الإسلام الأول وحتى یومنا هذا فی مختلف بقاع العالم الإسلامی یطلق علیها حكومات دینیة.

لا شك فی أن المعنى الثالث للحكومة الدینیة لا یعدّ تفسیراً صائباً، طبقاً للمعاییر والموازین العقائدیة، ولا مجال للقبول به. فالحكومة الدینیة التی یدعو لها الإسلام إنما هی التی تصطبغ جمیع أركانها بالدین، أی أنها تكون دینیة وفقاً للمعنى الأول، أما المعنى الثانی فهو فی واقع الأمر یمثّل «بدیلا اضطراریاً» للحكومة الدینیة المنشودة، لا أنه یمثّل الحكومة الدینیة الواقعیة، أی لو تعذّر إقامة الحكومة بمعناها الأول؛ فلیس لنا مناصٌ إلاّ السعی لإقامة الحكومة بمعناها الثانی.

وللإیضاح نقول: عندما تكون الظروف بحیث یتعذر تشكیل الحكومة بمعناها الأول؛ حینها یُلجأ ـ على نحو الاضطرار ـ الى النوع الثانی، ولغرض توضیح معنى الاضطرار نورد المثال التالی:

إن أكل لحم المیتة حرام فی الفقه الإسلامی، ولكن إذا ما تعرّض المسلم الى ظروف یشرف معها على الموت نتیجة الجوع، وكانت لدیه كمیة من لحم المیتة، هنا یُفتی الفقهاء ـ استناداً للادلة الشرعیة ـ بجواز أكل لحم المیتة، بالمقدار الذی یؤدی الى إنقاذه من الموت. وفی مثل هذه الحالة یقال بأن مثل هذا الشخص مضطرّ لأكل لحم المیتة.

وفیما یتصل بهذا البحث، ففی الظروف التی یتعذر معها إقامة الحكومة الدینیة بشكلها الحقیقی؛ یضطر المسلمون لتشكیل حكومة، وفقاً للتصنیف الثانی. إذن من غیر الممكن اللجوء الى حكومة من النوع الثانی فی جمیع الاحوال، مثلما لا یجوز أكل لحم المیتة فی جمیع الأحوال، فإذا ما اضطر الناس كان بإمكانهم الاكتفاء بالحكومة بنوعها الثانی لغرض تطبیق الأحكام الإلهیة لحدٍّ ما فی ظلّها، وبهذا القدر تعتبر أفضل حالا من تلك التی تهمل التعالیم الإلهیة بشكل مطلق.

* * * * *

 

سؤال: ما المراد من الحكومة الولائیة؟

جوابه: من الواضح بین أوساطنا ما تعنیه تعابیر مثل «الحكومة الإسلامیة» أو «الحكومة الولائیة» لأننا مسلمون، ونعتقد أن الحكم من حیث المبدأ إنما هو للّه سبحانه، وما علینا إلاّ البحث عمّن نصبه الباری تعالى حاكماً علینا.

من البدیهی أن حكمة الله ومنذ بدء الخلیقة اقتضت أن یصطفی فی كل عصر أفضل البشریة ویتخذه نبیاً، ویوحی الیه بالتشریعات التی من بینها الحكومة التی تتفق مع حاجات البشریة، والأنبیاء بدورهم قد بذلوا جهودهم فی هذا السبیل، وعملوا من أجل هدایة البشر عن طریق التعالیم الإلهیة، وتوعیتهم بمسؤولیاتهم على الصعیدین الفردی والاجتماعی، وبكافة الأبعاد العبادیة والأخلاقیة والسیاسیة؛ كی ینالوا السعادة والكمال من خلال العمل بتكالیفهم، والانصیاع لعبودیة الله، وهذا ما لا یتیسر إلا فی ظلّ المجتمع التوحیدی.

لا شك فی أن الغایة من بعثة الأنبیاء لیست سوى تطبیق الإرادة التشریعیة الالهیة فیما یتعلق بسلوكیات البشر، فی ظل النظام الدینی؛ وتعتبر مرحلة الصدر الأول فی الإسلام وسیرة النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله) شاهداً على أن الحكم منحصر فی الله سبحانه، وأن اختیار الحاكم والولی على المسلمین إنما یتم من قبله تعالى، وهو الذی یعیّن النبی والإمام وسائر القادة الربانیین، وما على الناس إلاّ الامتثال لقیادتهم بعد مرحلة التشخیص.

 

الحكومة حق إلهی

إن الولایة والحكم وفقاً للتصور الآنف الذكر إنما هی لله سبحانه، والإیمان بذلك ینشأ من الرؤیة التوحیدیة للكون، حیث إن الكون بأجمعه وعالم الوجود بأسره ـ

بموجب الرؤیة الإسلامیة للكون ـ إنما هو ملك لله سبحانه، ولا یجوز التصرف به إلاّ بإذن منه تعالى، والإنسان لا یمتلك حق التصرف حتى فی نفسه دون إذن من الله سبحانه، ناهیك عن التصرف بالآخرین، وعلیه فإن المنصوبین من قبل الله تعالى وحدهم الذین یمتلكون الحق فی الحكم، وهم الأنبیاء والأئمة وذلك لتمتعهم بإذن مباشر منه تعالى فی الولایة على الخلق.

وفی عصر الغیبة؛ یتم اختیار نوّاب الإمام صاحب الزمان (عج) للولایة، وفق شروط معینة، وبصورة غیر مباشرة من قبل الله تعالى وما على الناس إلاّ التعرف علیهم أو اكتشافهم، واتباعهم لتحكیم الإسلام.

وبناءً على ذلك فإن الحكومة فی النظام الإسلامی إنما هی للّه، وللمنصوبین من قبله بصورة مباشرة أو غیر مباشرة، وتلك ما یعبّر عنها بالحكومة الولائیة.

* * * * *

 

سؤال: لماذا یُنظر الى نظریة ولایة الفقیه على أنها الصورة الوحیدة للحكومة الدینیة؟

جوابه: یلزمنا فی البدایة ان نرى ما هی الرسالة التی تحملها نظریة ولایة الفقیه؟ وفی هذا المجال نقول بإیجاز: عندما یخلو عصرٌ ما من حكم الإمام المعصوم یتولى ـ حینئذ ـ الفقهاء المنصوبون، وفق شروط معینة من قبل المعصومین(علیهم السلام)، لإدارة المجتمع على أساس التعالیم الإسلامیة.

 

میزتان للحكومة

الكل یعلم أن أیة منظومة حكومیة تصبو لتحقیق عدة أهداف من قبیل: تأمین متطلبات المواطنین، إرساء الأمن الداخلی وإقامة العلاقات مع سائر الدول بنحو یضمن مصالح المجتمع والبلاد، والى غیر ذلك؛ إذن لابد للحكومة من أن تتوفر على میزتین:

الاولى: معرفة السبل لبلوغ هذه الأهداف، وإدارة المجتمع بنحو تتحقق من خلاله تلك الأهداف.

الثانیة: أن تحظى بثقة الأُمة، أی أن الاطمئنان یسود المواطنین فیشعرون بأن كرامتهم وأرواحهم وأموالهم مصونة فی ظل هذه الحكومة؛ فكل إنسان ـ أیاً كان مذهبه ومشربه ـ یرى حتمیة توفر تلكما المیزتین فی الحكومة، ویحدوه الأمل أن یضعهما أرباب الحكم موضع التطبیق.

أما إذا كانت الحكومة دینیة فعلیها الالتزام بهدف آخر الى جانب ذینك الهدفین، وهو تمهید الأرضیة لتكامل المواطنین وتسامیهم معنویاً؛ وهذا الهدف من الأهمیة بمكان، بحیث یُلقی بظلاله على سائر الأهداف؛ وبعبارة اخرى: إنه یحتل الأولویة فی النظام الإسلامی.

ونظراً للفارق بین الحكومة الدینیة وغیرها من الحكومات فَمَن هو الذی یقود هذه الحكومة التی تتولى تحقیق الأهداف الآنفة الذكر؟

 

شروط الحاكم الدینی

نظراً الى أن إدارة المجتمع فی ظل الحكومة الدینیة تقوم على أساس القوانین الإسلامیة؛ فلابد أن یتمتع المتربع على رأس السلطة بمعرفة كافیة بتلك القوانین، لئلا یقع الانحراف عنها أثناء عملیة إدارة المجتمع؛ ولابد أن تصل هذه المعرفة الى مستوى الاجتهاد، وعلیه فإن أول شروط الحاكم الدینی هو الاجتهاد فی الفقه؛ وواضحٌ جداً ضرورة هذا الشرط؛ لأن مَنْ یتولى تطبیق القانون لابد له من التوفر على معرفة كاملة به؛ والفقهاء یتمتعون بأعلى درجات المعرفة والاطلاع بالأحكام الشرعیة والدینیة.

والشرط الثانی هو التقوى والصلاح الأخلاقی، فإذا ما افتقد الحاكم التقوى أغوته السلطة، وربما قدَّم مصالحه الشخصیة أو الفئویة على مصالح المجتمع والبلاد؛ فالاستقامة والأمانة فی العمل یمثلاًن شرطاً، یتعین توفره فی الحاكم ـ فی أیّ نظام ـ ؛ كی یأتمنه الناس على شؤونهم بكل ثقة واطمئنان؛ بیدَ أن التقوى والاستقامة فی العمل یعتبران ضروریین فی ارفع مستویاتهما بالنسبة للحاكم الإسلامی.

أما الشرط الثالث فهو الوعی والإحاطة والاطلاع بالقضایا الاجتماعیة، أی یتعین على من یحكم الناس معرفة الظروف التی یدیر فی ظلّها المجتمع، فعلیه معرفة العلاقات الدولیة وتشخیص العدو من الصدیق، داخلیاً وخارجیاً، وهذا یعدّ من الكفاءات التی من الضروری توفرها فی الحاكم، وإلاّ فإنه سیواجه صعوبات جمة فی إدارته للمجتمع.

وربما تتوفر سائر الشروط فی غیر الفقیه، بیدَ أن شرط الفقاهة أمر لا یمكن

التنازل عنه فلابد أن یكون الحاكم الإسلامی فقیهاً جامعاً للشرائط. وحریٌ بنا القول: بأن الشروط المذكورة فی الحاكم الدینی موضع تأكید من قبل أئمة الهدى(علیهم السلام). قال الإمام علی(علیه السلام): «أیها الناس، إنَّ أحقَّ الناس بهذا الأمر أقواهم علیه، وأعلمهم بأمر الله فیه»(1)

وبموجب الشرائط التی تقدم ذكرها؛ فإننا نؤكد على أن الحكومة المشروعة فی نظرنا هی ولایة وحكومة الفقیه.

* * * * *


1. نهج البلاغة: الخطبة 173.

 

سؤال: هل یعود تاریخ نظریة ولایة الفقیه الى ما بعد غیبة الإمام المهدی(علیه السلام) أم أن جذورها تمتد الى عصر الأئمة المعصومین(علیهم السلام)أیضاً؟

جوابه: ربما یدور فی أذهان الكثیرین أن ولایة الفقیه إنما ظهرت الى الوجود فی الفترة التی أعقبت الغیبة الكبرى للإمام المهدى(علیه السلام)، أی قبل ما یقل عن 1200 عام. ولكن فی ضوء ما تفیده نظریة ولایة الفقیه ـ ومن خلال إلقاء نظرة سریعة على عصر الأئمة المعصومین(علیهم السلام) ـ نجد بیسر أن هذه النظریة كانت قائمة فی عصر حضور المعصومین ایضا.

 

حكومة الله والمنصوبین من قبله

إن الحاكمیة فی ضوء معتقدات الشیعة إنما هی فی الأصل لله سبحانه، وبعبارة اخرى، أنها من شؤون ربوبیته تعالى، ولا حق لأحد فی الحكم على أیّ إنسان آخر، سوى مَنْ خوّله الله صلاحیة ذلك، وأن الأنبیاء ولاسیما خاتمهم(صلى الله علیه وآله) وأوصیاءهم المعصومین هم ممّن حظی بإذن الحكم على الناس من قبل الله سبحانه. ولسنا هنا بصدد بیان الدلیل على شرعیة حكومة النبی(صلى الله علیه وآله) والأئمة المعصومین(علیهم السلام)، فمن المسلَّم به من الناحیة التاریخیة أن علیاً(علیه السلام) والإمام الحسن(علیه السلام) وحدهما اللذان وصلا الى سدة الحكم الظاهری لمدة وجیزة، من بین الائمة، أما سائر الائمة(علیهم السلام) فقد جرى إقصاؤهم عن إدارة المجتمع، ولم تسنح لهم الفرصة للحكم بسبب التسلط غیر الشرعی للحكام.

وكان الإمام علی(علیه السلام) أیام حكمه ینصِّب تنصیباً خاصاً أُناساً للحكم فی مختلف الأمصار الإسلامیة؛ حینها تجب طاعتهم كما هو شأن طاعته؛ لأن مثل هؤلاء منصوبون فی واقع الأمر من قبل الله بالواسطة، وهذا یعنی انه لا یلزم أن یكون الحاكم منصوباً من قبل الله مباشرة لتجب طاعته، وولایة الفقیه تعتبر فی الحقیقة

تنصیباً بالواسطة، وأن الفقیه مخوّل من قبل الله للحكم.

وخلال الفترة التی لم یصل فیها الأئمة للحكم كانت شؤون المجتمع تخضع لهیمنة حكّام الجور؛ الذین یُعتبرون فی قاموس الشیعة طواغیت، ولا إذن للأمّة ـ بموجب النص القرآنی ـ بالرجوع الیهم، ولا لمن یُنصّبونه لإدارة الامور: «یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ یَكْفُرُوا بِهِ»(1)، فما هو تكلیف الأُمّة حینما تقتضی الحاجة مراجعة شخص ما كالحاكم أو القاضی؟

 

ولایة الفقیه فی حدیث المعصوم(علیه السلام)

وردت عن الأئمة المعصومین: تعلیمات تأمر الناس بمراجعة مَنْ تتوفر فیهم شروط خاصة، فی كل عصر ومصر یتعذر فیه الوصول للمعصوم؛ كی لا تتعطل أعمالهم؛ فقد ورد عن الإمام الصادق(علیه السلام) «مَنْ كان منكم قد روى حدیثنا، ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرفَ أحكامنا؛ فلیرضوا به حكماً...» والمراد من العارف بالحلال والحرام والأحكام هو الفقیه الذی نقصده، وهنالك روایات مشابهة تؤكد حاكمیة الفقیه على الناس عند غیاب المعصوم، وهذه الحاكمیة إنما تتأتى له عن طریق المعصوم.

وقد ورد فی الروایة المتقدمة أیضاً «.. فإنّی قد جعلتُه علیكم حاكماً» ومن الواضح هنا أن الإمام(علیه السلام) لم یحدّد شخصاً معیّنا للحكم، بل كان تنصیبه عاماً؛ وجاء فی الروایة نفسها: «فإذا حكم بحكمنا فلم یُقبل منه؛ فإنما بحكمنا استخف وعلینا ردّ، والراد علینا كالراد على الله، وهو على حدّ الشرك باللّه»(2).

وبموجب التنصیب العام الذی حازه الفقهاء؛ فإن ولایة الفقیه لا تختص بزمن معیّن، بل هی ضروریة التطبیق حتى فی زمن المعصوم(علیه السلام) أیضاً فی حالة تعذُّر الوصول الیه، لأن فحواها لیس سوى تحری الحلول لمن یتعذر علیهم الوصول للمعصوم. إذن فمن الممكن العثور على جذور هذه النظریة فی زمان حضور المعصوم كذلك.

* * * * *


1. النساء: 60.

2. اصول الكافی: 1/67.

 

سؤال: هل من دلیل بسیط یتیسر فهمه للجمیع تقدمونه لإثبات ولایة الفقیه؟

جوابه: إن إیراد دلیل واضح یتیسر فهمه من قبل الجمیع لإثبات ولایة الفقیه یحتاج الى مقدمة نشیر الیها فیما یلی:

 

مستلزمات القانون (التفسیر ـ الانطباق المصداقی ـ التنفیذ)

لقد أنزل الباری تعالى أحكاماً، الغایة منها إدارة المجتمع، وهی فی الكثیر من الحالات تحتاج الى مَنْ یقوم بتفسیرها وبیانها، كما هو شأن جمیع القوانین السائدة فی العالم.

وبالرغم من محاولات المقنّنین لبیانها بشكل واضح فإنها بقیت بحاجة الى التفسیر، بسبب التعقیدات التی تنطوی علیها، أو صعوبة بعض التعابیر الواردة فیها؛ بالإضافة الى الغموض الذی ربما یعتری عملیة تطبیق هذه الأحكام على مصادیقها ومواردها التی تناسبها؛ أی النظر فیما إذا كانت واقعة ما تعدُّ مصداقاً لهذا القانون أو لقانون آخر، حیث یعتبر ذلك معضلة اخرى تعترض تطبیق جمیع القوانین فی العالم.

وبعد تفسیر القانون وتحدید المصادیق التی ینطبق علیها؛ یأتی دور التنفیذ، إذ أن كل قانون بحاجة الى مَنْ ینفّذه لغرض إدارة شؤون المجتمع، فی ضوء التعالیم والقوانین الخاصة به، ولابد من وجود شخص أو عدة أشخاص یتولون هذه المهام الثلاث.

 

الأصلح لتنفیذ الأحكام الشرعیة

من الواضح أن الأصلح لتطبیق الأحكام والتعالیم الإسلامیة هو الأفضل فی تلك المجالات الثلاثة، أی الأفضل فی معرفة القانون وتفسیره وتطبیقه، والمترفع عن النوازع التی تدفعه الى مخالفة القانون، ولا تنتابه الهفوات فی فهمه وتفسیره وتنفیذه. وهذه المزایا نطلق علیها فی معتقداتنا اسم «العصمة» وإذا ما توفر المعصوم فهو

المرجَّح ـ بحكم العقل ـ على مَنْ سواه لتطبیق القانون.

وفی المجتمعات الكبرى حیث یتعذر على فرد واحد إدارة كافة الامور یتعین ـ والحالة هذه ـ أن یقف مثل هذا الفرد على رأس هرم السلطه، ویتولى سائر المسؤولین زمام الامور تحت إشرافه وولایته، وأفضل مصداق للمعصوم هو الرسول الاكرم(صلى الله علیه وآله) الذی اجتمعت فیه أسمى مراتب الكمال، وقد أجمعت كافة الفرق الإسلامیة على عصمته؛ أما وفق معتقداتنا نحن الشیعة فان الأئمة المعصومین(علیهم السلام)یأتون بالمرتبة الثانیة بعد النبی(صلى الله علیه وآله) فی حیازتهم للعصمة.

إذن؛ یعدّ هذا النموذج متحققاً بوجود الأئمة(علیهم السلام)، ولا یصل الدور لغیرهم، ولكن ما الحیلة فی عصر الغیبة، حیث نفتقد مثل هذا النموذج، إذ لا یسعنا الاتصال به مباشرة والتنعّم بحكومته؟

ثمة آیات وروایات عدیدة فی هذا المجال توضّح لنا التكلیف، وحیث إننا بصدد بیان دلیل بسیط حول قضیة عصر الغیبة فاننا نستعین بعقل القارئ الكریم.

مما لا شك فیه أننا لو اعتبرنا المعصومین هم النموذج الأعلى؛ فإن العقل سیقول لنا: لابد من أن یقف الأكثر شَبَهاً بالمعصوم(علیه السلام) من جمیع الجهات على رأس هرم السلطة فی عصر الغیبة، أی الأفضل فی معرفة الدین وفی التقوى وفی الانسب لتطبیق قوانین الإسلام وأحكامه؛ فلئلا یخلو المجتمع من الحكومة عندما یتعذر الوصول الى الإمام المعصوم(علیه السلام)؛ یتعین البحث عمّن تتوفر فیه أدنى الفوارق عن المعصوم(علیه السلام)، ویفوق الآخرین معرفةً فی الدین، ویمتاز على مَنْ سواه فی التقوى والعدالة، واكثر الناس كفاءة لتطبیق التعالیم الإسلامیة. وهذه المواصفات إنما تتجسد فی الولی الفقیه.

لقد دأب عامة الناس على انتهاج هذا الطریق فی سائر شؤونهم؛ حیث یتوجهون فی بادئ الأمر الى أفضل المتخصّصین، أما إذا تعذر علیهم ذلك؛ فإنهم یرجعون الى الأقرب من النموذج الارفع فی التخصص والمزایا. إذن ولایة الفقیه لیست سوى الرجوع الى العالِم العادل الأقرب من غیره الى الإمام المعصوم(علیه السلام).

* * * * *

 

سؤال: هل صلاحیات الولی الفقیه واختیاراته تقتصر على ما ذُكر فی الدستور الإسلامی أم أن هذه الموارد تعدّ نماذج من صلاحیاته؟

جوابه: الفائدة من التقنین:

تتمثل الفائدة من التقنین بالاحتكام الى القانون لفضّ النزاعات إن هی حصلت أحیاناً؛ أی أن القانون یمثل مرجعاً تُحلُّ فی ضوئه النزاعات؛ وبناءً على ذلك فإن كل ما هو مدوّن فی القانون لابد أن یكون مبیّناً احصائیاً؛ كی تتحقق الفائدة المرجوة من عملیة التقنین؛ ولكن ینبغی الانتباه الى أن الحالات الكثیرة الوقوع هی التی توضع فی الحسبان أثناء عملیّة التقنین، ولا تشمل هذه العملیة الحالات النادرة فی وقوعها.

وعلى هذا المنوال وردت صلاحیات ومسؤولیات الولی الفقیه فی القانون، أی ثمة أصل فی الدستور الاسلامی حُدّدت بموجبه صلاحیات الولی الفقیه ومسؤولیاته، غیر أن الحالات التی وردت فی هذا الأصل عادةً ما تكون موضع حاجته، لا أن صلاحیاته منحصرة فی الحالات المذكورة، وذلك للتصریح الوارد فی أصل آخر من الدستور الإسلامی بالولایة المطلقة للفقیه.

ولیس ثمة تعارض بین هذین الأصلین، بل أحدهما یوضّح الآخر، أی أن أحدهما یبین صلاحیات واختیارات الولی الفقیه فی أغلب الحالات، أما الآخر القائل بالولایة المطلقة للفقیه؛ فیكشف عن صلاحیات الولی الفقیه فی الحالات الطارئة، التی تستدعی قراراً منه خارج إطار الصلاحیات المذكورة فی الاصل الأول، ولم یرد التصریح بشأنها.

وإذا ما تمعنّا فی سیرة الإمام الراحل(قدس سره) سندرك أن صلاحیات الولی الفقیه هی أبعد مدىً مما صرِّح به فی الدستور الإسلامی؛ فقد ورد فی الدستور ـ قبل إعادة

النظر فیه ـ أن الشعب هو الذی ینتخب رئیس الجمهوریة، والقائد هو الذی یُمضی هذا الانتخاب، بید أن الإمام(قدس سره) صرّح فی مراسیم إمضاء حكم رئاسة الجمهوریة: إننی أنصبك رئیساً للجمهوریة.

فلم یرد فی الدستور تصریح بـ «تنصیب» رئیس الجمهوریة؛ إلاّ أن الإمام(رضی الله عنه)ونظراً لما یراه من صلاحیات واسعة للولی الفقیه، وأنه یتمتع بولایة إلهیة استخدم عبارة «تنصیب» حینما أمضى حكم رؤساء الجمهوریة، فعلى سبیل المثال: ورد فی مرسوم إمضاء حكم رئاسة الجمهوریة للشهید محمدعلی رجائی ما یلی: «... ونظراً الى أن شرعیته لابد أن تُستمد من تنصیب الولی الفقیه له؛ فإننی اُمضی رأی الشعب، وانصّبه رئیساً للجمهوریة الاسلامیة فی إیران، وسیبقى هذا التنصیب نافذ المفعول مادام سائراً على خطى الإسلام، متبعاً للتعالیم الإسلامیة المقدسة، وللدستور الإیرانی، عاملا من أجل مصالح البلاد، وهذا الشعب العظیم فی حدود صلاحیاته القانونیة، ولا یتجاوز الأحكام الإلهیة ومبادئ الدستور؛ وإلاّ فإننی سأسلب الشرعیة منه إذا ما عمل خلافاً لذلك ـ لا سمح الله ـ.(1)

* * * * *


1. صحیفة النور: 15/76.

 

سؤال: هل للفقیه ولایة مطلقة بسعة ولایة الأنبیاء والأئمة(علیهم السلام)؟

جوابه: معانی الولایة (التكوینیة والتشریعیة والمطلقة)

تُقسم الولایة الى تكوینیة وتشریعیة، وتعنی التكوینیة: التصرف بالموجودات والشؤون التكوینیة، ومن الواضح أن مثل هذه الولایة مختصة بالله سبحانه، فهو المهیمن بإرادته وقدرته على جمیع المخلوقات، وبیده أصل الخلق والتغیرات الحاصلة فیه وبقاء المخلوقات؛ فله إذن الولایة التكوینیة على كل شیء، وقد أفاض بمرتبة من مراتب هذه الولایة على بعض عباده؛ وما معجزات الأنبیاء وكرامات الأولیاء إلاّ تجلیات لهذه الولایة التكوینیة؛ ومورد البحث فی ولایة الفقیه لیس الولایة التكوینیة.

وتعنی الولایة التشریعیة امتلاك شخص لحق التشریع والأمر والنهی؛ فإذا ما قلنا إن لله الربوبیة التشریعیة؛ فذلك یعنی أن بیده الأمر بالفعل والنهی عنه، وأمثال ذلك؛ وللنبی والإمام حق الأمر والنهی بإذن الله سبحانه؛ وهكذا الأمر بالنسبة للولی الفقیه؛ فإذا ما قلنا بالولایة للفقیه؛ فمرادنا من ذلك الولایة التشریعیة، أی قدرته الشرعیة على إصدار الأمر والنهی للناس.

ولا نجد على مدى التاریخ الشیعی فقیهاً ینفی أیة ولایة للفقیه، وأن ما یدور حوله الاختلاف الى حدٍّ ما هو مراتب ودرجات هذه الولایة، ولقد كان الإمام الخمینی(رحمه الله) یرى امتلاك الولی الفقیه لكافة الصلاحیات التی كان یتمتع بها المعصوم(علیه السلام)إلاّ ما استُثنی منها.

یقول(قدس سره): وإذا نهض بأمر تشكیل الحكومة فقیه عالمٌ عادلٌ؛ فإنه یلی من امور المجتمع ما كان یلیه النبی(صلى الله علیه وآله) منهم، ووجب على الناس أن یسمعوا له ویطیعوا؛ ویملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعایة والسیاسة للناس ما كان یملكه الرسول(صلى الله علیه وآله)وأمیرالمؤمنین(علیه السلام)، على ما یمتاز به الرسول(صلى الله علیه وآله) والإمام(علیه السلام) من فضائل

ومناقب خاصة»(1)؛ ومن بین المستثنیات الجهاد الابتدائی حیث اشتهر بین الفقهاء اختصاصه بالولی المعصوم(علیه السلام).

ویُطلق على مثل هذه الولایة فی مجال صلاحیات الولی الفقیه «الولایة المطلقة» وهی لا تعنی إطلاق ید الولی الفقیه؛ بحیث یفعل ما یشاء، لینبری البعض محاولا تشویه هذه النظریة؛ فیزعم إمكانیة الفقیه نفی أو تعطیل التوحید، أو أیاً من أصول الدین، أو إحدى ضروریاته، مستنداً فی ذلك الى الولایة المطلقة التی یتمتع بها!!

إن تشریع ولایة الفقیه إنما جاء لصیانة الدین؛ وإذا كان مسموحاً للفقیه نفی أصول الدین؛ فما الذی سیبقى من الدین كی یكون مكلّفاً بالمحافظة علیه وصیانته؟

إن التعبیر بـ «المطلقة» یقابل ما یراه القائلون باقتصار صلاحیة الفقیه على التدخل والتصرف فی الموارد الضروریة وحسب، فإذا ما احتیج الى هدم أحد البیوت لغرض تزیین البلد فقط؛ فلا قدرة للفقیه على الإیعاز بهدمه لعدم ضرورته، وهؤلاء الفقهاء القائلون بالولایة المقیدة (غیر المطلقة) یخالفون القائلین بالولایة المطلقة، التی تتسع فیها صلاحیات الولی الفقیه لتشمل جمیع متطلبات المجتمع الإسلامی ضروریة كانت أم غیر ضروریة.

 

دلیل على ولایة الفقیه

كیف یتم اثبات حق الولایة والحكم للولی الفقیه فی عصر الغیبة؟

كلنا یعلم أن الأئمة المعصومین(علیهم السلام) ـ ماخلا علیاً(علیه السلام) ـ لم یتحقق لهم الحكم ظاهریاً، أی أن حكمهم الإلهی المشروع لم یتحقق عینیاً.

ومن ناحیة اخرى فی الفترات التی لم یصل الأئمة(علیهم السلام) الى سدّة الحكم الظاهری؛ كان الشیعة یضطرّون لمراجعة أجهزة الدولة، فإذا ما تنازع مؤمنان ـ على سبیل المثال ـ حول ملك، ولم یكن أمامهم بدٌ إلاّ مراجعة القاضی، ونحن نعلم ـ من ناحیة


1. الحكومة الاسلامیة: 49.

ثالثة ـ أن أیَّ حاكم لا تنبثق حاكمیته عن التنصیب الإلهی بنحو من الأنحاء فهو غیر شرعی، وطاغوت فی نظر تعالیم المذهب الشیعی، فالخلفاء الذین تربعوا على مسند السلطة بعد تنحیتهم للإمام المعصوم إن هم إلاّ طواغیت، یحرم الرجوع الیهم، وذلك ما صرّح به القرآن الكریم: «یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ یَكْفُرُوا بِهِ»(1). فما هو یا تُرى تكلیف المؤمنین فی مثل هذه الحالة؟

لقد وضع المعصومون(علیهم السلام) الحل لشیعتهم ویتلخص فی موارد اضطرارهم لمراجعة حاكم، وكان الحاكم الرسمی غیر شرعی أن یرجعوا الى من عرف الحلال والحرام، وهذا ما تضمنته مقبولة عمر بن حنظلة عن الامام المعصوم(علیه السلام): «مَنْ كان منكم قد روى حدیثنا ونظر فی حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا فلیرضوا به حكماً، فإنى قد جعلته علیكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم یقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلینا ردّ، والراد علینا كالراد على الله، وهو على حدّ الشرك بالله»(2).

إن ما یُصطلح علیه الیوم بـ «الفقیه» هو ما عبّرت عنه الروایات بـ «العارف بالحلال والحرام» وما شابه ذلك.

وفی ضوء ما تقدم یمكن الاستدلال على ولایة الفقیه فی عصر الغیبة بالشكل التالی:

لو لم یتسنَّ الوصول الى المعصوم(علیه السلام) فی زمن حضوره أو عدم إمساكه بزمام الامور؛ فإن تكلیف الأمة یتمثل بالرجوع الى الفقهاء الحائزین على الشرائط؛ وكذا علیها الرجوع الى الفقهاء بطریق أولى فی حالة عدم حضور المعصوم(علیه السلام) بالمرة، استناداً للروایات الواردة بشأن عصر الغیبة، ومنها التوقیع الشهیر الصادر عن صاحب الزمان(علیه السلام) حیث یقول: «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فیها الى رواة حدیثنا فإنهم حجتی علیكم وأنا حجة الله علیهم.»(3)


1. النساء: 60.

2. اصول كافی: 1/67.

3. كمال الدین: 2/483.

وحیث أثبتنا حق الولایة والحكم للولی الفقیه فی عصر الغیبة، أی إنه الآمر والناهی، وهو الذی یلی شؤون المجتمع رتقاً وفتقاً، وعلى الأمة بذل الطاعة لمثل هذا الفقیه، كما هو الحال فی عصر المعصوم الذی إن نصَّبَ أحداً إذ ذاك یتعین على الأمة الانصیاع لأوامره؛ كما فی تعیین الإمام علی(علیه السلام) لمالك الأشتر والیاً على مصر، فإن ذلك یعنی وجوب طاعته وإن مخالفته بمثابة مخالفة علی(علیه السلام)، فمخالفة المندوب والرد علیه تمثّل فی الواقع مخالفة وردّاً على مَنْ انتدبه. وفی عصر الغیبة فإن طاعة الولی الفقیه أو مخالفته كطاعة المعصوم(علیه السلام) أو مخالفته والرد علیه، لأنه منصوب للحكم على الناس من قبل المعصوم(علیه السلام).

وعلى نحو الإیجاز حریٌّ بنا القول:

أولا: لا ولایة تكوینیة للفقیه.

ثانیاً: إن ولایة الفقیه المطلقة هی عینها صلاحیات المعصوم(علیه السلام)، ولا یلازمها أی تلاعب فی الدین.

ثالثاً: لیس هنالك فقیه لدى الشیعة یُنكر أصل ولایة الفقیه.

رابعاً: إن الاختلاف الدائر بین الفقهاء حول ولایة الفقیه إنما یدور حول سعة صلاحیاته، لا أصل الولایة.

* * * * *

 

سؤال: بناءً على أن للفقیه ولایة مطلقة؛ فهل بوسعه تغییر أصول الدین أو أحكامه؟

جوابه: إن الغایة من الولایة المخوّلة للفقیه هی المحافظة على الإسلام؛ وأول مسؤولیة یتحملها الولی الفقیه هی صیانة الإسلام؛ ولو قام الفقیه بإحداث تغییر فی أصول الدین إذ ذاك سیُمحى الإسلام، وما الذی سیبقى من الدین كی یحافظ علیه إن سُمحَ له بتغییر الاصول أو إنكارها؟

ولكن فی الحالات التی یدور الأمر فیها بین الأهم والمهم فبإمكان الفقیه التضحیة بالمهم من أجل الأهم؛ فلو كان ـ على سبیل المثال ـ التوجه لأداء مناسك الحج مدعاة لإلحاق الضرر بالمجتمع الإسلامی، وفاق فی ضرره تعطیل الحج فللفقیه الإذن فی تعطیل الحج مؤقتاً، للمحافظة على المجتمع الإسلامی وصیانة الدین، وتأمین ما هو أهم لمصلحة الإسلام.

 

التزاحم بین الاحكام الشرعیة

ورد فی الكتب الفقهیة: أن لو تزاحم حكمان شرعیان، أی أنّ أداء أحدهما یقتضی ضیاع الآخر؛ فلابد والحالة هذه من أداء الأهم من بینهما، فلو توقف ـ مثلاً ـ إنقاذ غریق على اجتیاز مُلك یعود لآخرین دون إذن منهم، فهنا یتزاحم حكم وجوب إنقاذ الغریق مع حرمة اغتصاب ممتلكات الآخرین، فلوا أردنا أداء الواجب نكون قد ارتكبنا محرَّماً؛ وإذا ما اردنا تجنب الغصب سیتعرض إنسانٌ الى الهلاك. من هنا فإن واجبنا المقارنة بین الحكمین والمبادرة الى الأهم من بینهما؛حیث إن المحافظة على روح الغریق أهم من التصرف الغصبی بأموال الآخرین، هنا تزول حرمة غصب ممتلكات الآخرین وتترجح عملیة إنقاذ الغریق.

وهكذا الحال فی الشؤون الاجتماعیة، فنظراً لما یتمتع به الولی الفقیه من إحاطة

بالأحكام الإسلامیة ورجحانه على غیره فی معرفة مصالح المجتمع، بوسعه إیقاف تنفیذ بعض الأحكام، حفاظاً على الأهم من المصالح، وفی مثل هذه الحالات یكون الفقیه قد أجرى حكماً إسلامیاً آخر ولم یتغیر الأحكام الإسلامیة بل قدّم الحكم الأهم على المهم. وهذا الحكم هو من الأحكام القطعیة فی الاسلام.

فیما یتعلق بأصول الدین التی یقوم علیها الإسلام فلا یجوز أبداً تغییر أصول الدین، للحفاظ على أیة مصلحة اخرى، وذلك لتقدّم أصول الدین فی حالة تزاحمها مع غیرها من الأمور.

من هنا لو انبرى الولی الفقیه الى إنكار أو تغییر أصول الدین فإنما عمد لمخالفة الإسلام، وهذه المخالفة تُسقط عنه العدالة، مما یؤدی الى سلب الولایة منه، ولم یعد لحكمه أی اعتبار. ولو قیل: إن الولی الفقیه ذو ولایة مطلقة، فله أن یستعین بسلطته المطلقة لیمتد إلى هذا الأمر، فالجواب على ذلك أن المراد من الولایة المطلقة هو: ما كان ثابتاً للنبی الاكرم(صلى الله علیه وآله) والأئمة المعصومین(علیهم السلام) من تلك الولایة یعدُّ من صلاحیات الولی الفقیه ماخلا الحالات الاستثنائیة؛ ولیس مسموحاً للنبی الأكرم والأئمة الاطهار إنكار أو تغییر أصول الدین فضلا عن الولی الفقیه.

* * * * *

 

سؤال: الصلاحیات التی أوردها الدستور الإسلامی للولی الفقیه تستدعی تعدد الاختصاصات، ومن الطبیعی تعذّر اجتماع هذه الاختصاصات لدى رجل واحد. إذن كیف یبسط الولی الفقیه سلطته على كافة شؤون البلاد؟

جوابه: لئن ذكر المقنّنون اموراً عدیدة فی الدستور على أنها صلاحیات الولی الفقیه؛ فلیس مرادهم أن یكون الولی الفقیه مختصاً أو ذا رأی شخصی فیها جمیعاً؛ فلا شك إذن فی عدم قدرة أی أحد على الإدّعاء بتضلعه فی كافة العلوم، إلاّ من كانوا على اتصال بعلم الغیب.

 

التشاور مع ذوی الاختصاص

فی كل مجتمع یتعدد أصحاب الاختصاصات، وكل طائفة منهم لها باعٌ فی حقل من الحقول، والولی الفقیه بدوره یتعین أن یحاط بالمستشارین من مختلف الاختصاصات لیدلوا بوجهات نظرهم فی شتى القضایا ویرفدوه بها؛ وفی ضوء ما یجری من مشاورات یتخذ قراراته، ویدلی بالكلمة الحاسمة فی خاتمة المطاف.

یقول الله تعالى: «وَشاوِرْهُمْ فِی الأَْمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ»(1)، والخطاب فی هذه الآیة موجهٌ لرسول اللّه(صلى الله علیه وآله)الذی نعتقد بانه كان معصوماً ومسدّداً بالعلم الإلهی اللدنّی، لكنه كان مكلَّفاً بالتشاور مع الأُمة وأهل العلم؛ ولعل الحكمة من هذا الأمر كانت فی اشراك الناس فی الأعمال لیستشعروا من خلال هذا التواصل المزید من الطمأنینة ویتعاونوا الرسول(صلى الله علیه وآله) بصورة أفضل، وفی ذات الوقت فإن الآیة تصرّح بأن القرار النهائی الحاسم هو بید النبی(صلى الله علیه وآله).

وإذا كان النبی(صلى الله علیه وآله) مكلّفاً بالتشاور؛ فالاجدر بالحاكم غیر المعصوم ـ مَنْ لا سبیل


1. آل عمران: 159.

له الى علم الغیب ـ الاستعانة بالمشورة، غیر أن القرار النهائی موكول الیه؛ وربما یلتئم وجود المستشارین للقائد فی هیكلیة رسمیة من قبیل مجمع تشخیص مصلحة النظام، وربما تتخذ هیكلیتهم صفة غیر رسمیة.

وللزعماء والرؤساء فی جمیع بلدان العالم ـ بالرغم من الاختلاف فی طبیعة الحكم ـ مستشار أو مستشارون فی الحقول العسكریة والثقافیة والاجتماعیة والسیاسیة... الخ یستعینون بوجهات نظرهم فی مختلف القضایا، والحاكم الإسلامی أیضاً شأنه شأن سائر الزعماء والحكّام فی هذا المجال.

* * * * *

 

سؤال: ما العمل إذا ما وقع تعارض فی الفتیا بین الولی الفقیه وسائر الفقهاء؟

جوابه: إن عقل الإنسان یحكم بأن على المرء مراجعة ذوی الخبرة والاختصاص فی الحالات التی ینقصه العلم والخبرة فیها؛ فالمریض ـ على سبیل المثال ـ الذی یجهل السبیل الى العلاج، إنما یرجع الى الطبیب، ومن لا مهارة له فی بناء داره یستعین بالمعمار المتخصص، وهكذا فلیس الناس بأجمعهم مفسوحاً أمامهم المجال، أو لدیهم القدرة على استنباط الأحكام من مظانّها الأصلیة الشرعیة؛ لذلك یتعین علیهم الرجوع الى ذوی الاختصاص والخبرة الذین یتمتعون بمثل هذه القابلیة بمستواها المطلوب، وامتثال أوامرهم، وقد وردت الإشارة لهذه القضیة فی الآیة الكریمة «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ»(1).

من البدیهی أن لا یتفق أصحاب الاختصاص فی أیّ علم فیما بینهم على صعید التفاصیل فی المسائل، فربما یُشاهد ـ مثلاً ـ أن لا یصل عددٌ من الاطباء الحاذقین الى نتیجة موحدة فی تشخیصهم لمرض معیّن فیكتبون وصْفات متباینة، والعقل یصرّح بوجوب مراجعة «الاعلم» فی الحالات التی لا تتفق كلمة المتخصصین، أی أن یُقدَّم المتفوق فی الاختصاص على مَنْ سواه.

وعلى صعید الأحكام الشرعیة الفردیة یصبح بمقدور كل شخص مراجعة المجتهد الأعلم ـ الأكثر قابلیة من غیره فی استخراج واستنباط الأحكام ـ لتحدید مسیره حسب تشخیصه، أمّا فی المسائل الاجتماعیة والسیاسیة فیجب تعیین المجتهد الأَعلم فی هذا الجانب من قبل الخبراء بشكل أصولی منظّم. فان الرجوع الى مراجع متعددین یؤدی الى الفوضى والاضطراب فی النظام، من هنا یتحتم أن یوكل الإعلان عن الحكم النهائی الى مجتهد معیّن، ویتم تطبیقه فی المجتمع؛ ولهذا


1. النحل: 43.

السبب یُخوّل المجتهد الذی یقف على رأس الأمور فی المجتمع والأَعلم بمصالحه ومفاسده أمر البتّ فی شؤون المجتمع الإسلامی.

 

تقدّم فتوى الولی الفقیه فی الامور الاجتماعیة

بناءً على هذا، لو حصل تعارض فی الفتوى بین الولی الفقیه وغیره من الفقهاء فی المسائل الفردیّة إذ ذاك یمكن الرجوع الى مرجع التقلید الذی سبق لنا وأن شخّصناه بأنه الأعلم فقهیاً، أما فی المسائل الاجتماعیة فإن رأی الولی الفقیه هو المقدَّم على الدوام، كما ورد فی تصریح الفقهاء وورد فی الرسائل العملیة أیضاً فیما یتعلق بالقضاء: إذا أصدر قاضی الشرع حكمه بشأن واحدة من القضایا فإن حكمه هذا یعد حجة بالنسبة للآخرین، ویحرم نقضه حتى من قبل قاض غیره وإن كان أعلم منه.

* * * * *

 

سؤال: هل یمكن انتقاد الولی الفقیه؟

جوابه: فی ضوء معتقداتنا الدینیة فإن الأنبیاء وفاطمة الزهراء والائمة الاطهار وحدهم المعصومون، من هنا فلیس ثمة من یدّعی انتفاء احتمال أن یطرأ الخطأ على سلوك ورؤى الولی الفقیه، بل إن احتمال الخطأ والسهو واردُّ بشأن الولی الفقیه، وقد یُدرك الآخرون خطأه، وعلیه من الممكن توجیه النقد للولی الفقیه ونحن لا نرى جواز انتقاد الولی الفقیه فحسب، بل نعتقد وفقاً لتعالیم دیننا أن أحد حقوق الإمام المترتبة على الأمة بذل النصیحة والتسدید له، وهذا ماجرى بیانه تحت عنوان «النصیحة لأئمة المسلمین» ولا تعنی النصیحة فی هذه العبارة الوعظ والنصح؛ وإنما تفید سُدّة حب الخیر لأئمة المسلمین. وعلى ضوء ذلك فانتقاد الولی الفقیه لیس أمراً جائزاً فحسب، بل هو واجبٌ شرعی یتحمله المسلمون احتفاظاً على القیم والمصالح، ودفعاً للغفلة والخطأ عن المسؤولین.

 

ملاحظات حول طریقة الانتقاد

ولكن من الضروری مراعاة الملاحظات التالیة عند توجیه النقد للولی الفقیه:

1ـ مراعاة الأخلاق الإسلامیة حین الانتقاد وفی ذلك یتساوى الإمام مع غیره من المؤمنین، وشروط الانتقاد تتضمن القواعد التالیة:

أـ یجب أن یسبق الانتقاد إحراز أصل الموضوع، وأن یكون الخلل واللبس ثابتاً، لا أنْ یُلصق ما كان باطلا استناداً للإشاعات والأخبار غیر الموثوق بها، أو فی ظلّ الحدس والظن بعیداً عن التحقیق، فیصبح ذلك مدعاةً للاعتراض والانتقاد.

ب ـ توجیه النقد لغرض الإصلاح والبناء، ولیس تنقیباً عن العیوب وفضح الأشخاص.

ج ـ یجب أن یكون الانتقاد نابعاً من حبّ الخیر والإخلاص، ولیس بدافع حب الظهور.

د ـ أن یجری النقد بعیداً عن الإهانة والتجاسر، ومراعاة ما یقتضیه شأنه، وفی واقع الأمر یتعین توجیه الانتقاد على غرار تقدیم الهدیة، یقول الإمام الصادق(علیه السلام): «أحبُّ إخوانی الیَّ مَنْ أهدى الیَّ عیوبی»(1).

2ـ بالإضافة الى الحالات الآنفة الذكر، ثمة امور اخرى لابد من أخذها بنظر الاعتبار للمحافظة على شخصیة القائد وحرمته فی النظام الإسلامی.

من المسلَّم به وجود فارق واضح بین الانتقاد الذی یوجّهه المرء لصدیقه، أو المرأة لزوجها، أو الولد لوالده، أو التلمیذ لاستاذه، فثمة احترام خاص یكنّه الولد للوالد والتلمیذ للاستاذ، لكن ما یفوقه القداسة الخاصة بالإمام ونائبه. والقداسة ـ كما سیتم بیانها بالتفصیل خلال البحث ـ هی المحبة المقترنة بالاحترام والتواضع، وحیث إن الولی الفقیه یتبوأ موقع نیابة المعصوم، فهو یحظى بقدسیة عالیة، ومن الضروری مراعاة الاحترام والأدب بتمامهما حیاله، ویجب على الجمیع صیانة حرمته وشأنه، وعلیه یتحتم أن یتم الانتقاد بطریقة تخلو من إخلال بقدسیة الموقع الذی یتبوؤه الولی الفقیه.

3ـ الملاحظة الثالثة التی یتعیّن التنبّه الیها حین توجیه النقد للولی الفقیه؛ هی مراقبة العدوّ، فلابد أن یُنتقد القائد بطریقة ذكیة كی لا یساء استغلاله من قبل الأعداء، ومن هنا تأتی ضرورة مراعاة هذه الملاحظات عند توجیه النقد للولی الفقیه.

هنالك لجنة فی مجلس الخبراء مهمتها الإشراف على نشاطات القائد، حیث تتولى التحقیق فی أعماله وإحاطته بالنتائج إن اقتضى الأمر، وقد جرى تشكیل هذه اللجنة فی مجلس الخبراء باقتراح من قائد الثورة شخصیاً.


1. بحارالانوار: 78/249، الروایة 108، الباب 23.

الطریقة المثلى للانتقاد

لغرض مراعاة كافة البنود المتقدمة؛ یبدو أن أفضل طریقة للانتقاد تتمثل فی تحریر رسالة الى الأمانة العامة فی مجلس الخبراء، تتضمن بیاناً للامور الضروریة؛ أما توجیه الانتقاد لسائر مسؤولی النظام ـ السلطة التشریعیة، التنفیذیة والقضائیة ـ فقد أشارت الیه المادة 90 من الدستور الإسلامی «من كانت لدیه شكوى تتعلّق بطبیعة عمل مجلس الشورى، أو السلطة التنفیذیة أو القضائیة، فبإمكانه تقدیم شكواه خطیّاً الى مجلس الشورى الإسلامی، المكلّف بدوره بالتحقیق حول هذه الشكاوى والرد علیها...»، ویُلاحظ أن الرجوع الى المجلس اعتُبر اسلوباً مناسباً للبثّ فی الشكوى التی هی بمثابة نمط من الانتقاد الموجّه للمراكز العلیا، والعمل بهذا القانون ذی الضمانة التنفیذیة من شأنه صیانة حرمة المؤسسات المذكورة. واستناداً للمادة 113 من الدستور یعتبر القائد أعلى مسؤول رسمی فی البلاد، لذلك من الأَولى مراعاة هذه الامور حیاله.

جدیر ذكره أنه ینبغی أن لا نطمع بالرد إیجازاً أو تفصیلا على كافة الإیرادات والانتقادات التی نوجهها، وذلك لدوام تعذّر بیان الدوافع التی تقف وراء النشاطات والاجراءات السیاسیة للملأ العام، بسبب التعقید الذی یكتنف القضایا السیاسیة والقرارات المهمّة على الصعید الاجتماعی، وكذلك إمكانیة استغلال العدوّ لما سیجری افشاؤه، ولكن من المسلَّم به أن الآراء والانتقادات والمقترحات البنّاءة ستكون موضع اهتمام، وسیحیط الولی الفقیه علماً بالضروری منها.

* * * * *

 

سؤال: لِم لا تكون ولایة الفقیه دوریة على غرار رئاسة الجمهوریة كی نحول دون الأضرار الناجمة عن تمركز القدرة بید شخص واحد؟

جوابه: هنالك عدة ملاحظات من الضروری تناولها بالبحث وكما یلی:

 

نقطة الثبات فی النظام السیاسی

1ـ من الضروری وجود نقطة ثبات فی النظام السیاسی.

یُجمع فلاسفة السیاسة على أنه إذا أمكن لأیّ بلد التخلص من سلبیات نقطة الثبات، فسوف یكون ذلك راجحاً ومتعیّنا له. واستناداً الى ذلك فإن الكثیر من البلدان یسودها نمطٌ من الحكم الملكی، أو الرئاسی المؤبد، أو الامبراطوری، بالإضافة الى السلطات الثلاث. والملفت للنظر أن بعض هذه الدول من قبیل انجلترا یعد مهداً للدیمقراطیة الحدیثة والتطور الصناعی، ویستدل أنصار هذه النظریة على ذلك بحاجة بریطانیا العظمى ـ التی كانت تحكم الكثیر من بلدان العالم، وما تزال تحتفظ بمنافع مشتركة مع الكثیر منها ـ الى نقطة الثبات، التی تمثل فی الواقع مظهراً للاقتدار والأمن الوطنی.

 

الحدّ من سلبیات نقطة الثبات

2ـ هل یمكن الحدّ من سلبیات نقطة الثبات؟

إن أهم فوائد الدوریة هو التخلص من الفساد الذی ینجم عن استفحال الارتباك فی السلطة؛ إن هی تمركزت بید شخص واحد مدة طویلة من الزمان.

وتتأتى الإجابة على هذا اللبس عبر قلیل من التحری فی أصل النظریة، وللإیضاح نقول: إن من الشروط الواجب توفرها فی القائد هی: العدالة والتقوى،

وقد أناط الدستور بمجلس الخبراء مهمة إحراز هذه المواصفات لدى القائد فی مرحلتی الكشف والتشخیص، «ابتداءً: القیادة» و«بقاءً: استمرار القیادة» ومَنْ فقد العدالة والتقوى لن یُنتخب كولی فقیه أبداً، ولو كان القائد عادلا تقیاً ابتداءً، لكنه فقد عدالته أو تقواه خلال مسیرته، فإنه ینعزل عن هذا المنصب بشكل تلقائی وتقع على عاتق مجلس الخبراء مهمة الإعلان عن عزله؛ لأنه بذلك یكون قد فقد الولایة الالهیة، یقول الإمام الراحل(قدس سره): لو نطق الولی الفقیه بكلمة واحدة كذباً او انحرف بخطوة واحدة لم تعد له أیة ولایة»(1).

3ـ الملاحظة الثالثة التی ینبغی التطرق الیها هی دور الكاشفیة الذی یؤدیه الخبراء فی الإفصاح عمَّن لدیه الصلاحیة لإدارة دفة المجتمع الإسلامی.

فتارة تتجلى الدوریة عبر الانتخاب المباشر، الذی یقوم به الشعب، واخرى عبر مجلس الخبراء؛ وبما أن التساؤل حول الانتخاب المباشر من قبل الشعب یعد بحد ذاته سؤالا مستقلا، وله بالغ الأهمیة، فقد جرى، ولكن بعد تنویهنا لمسألة نقطة الثبات وفوائدها من وجهة نظر فلاسفة السیاسة، وما لاحظنا من مقدمات ضروریة فی وظائف الخبراء وإشرافهم على القائد، حریٌ القول بعدم ضرورة إجراء انتخابات دوریة لاختیار القائد؛ لأن مهمة الخبراء هی الكشف عن مصداق القیادة.

 

الخبراء وتشخیص القائد

إن القضیة لا تقتصر بأن یرشح نفرٌ أنفسهم فیضطر أعضاء مجلس الخبراء لانتقاء الأصلح من بینهم؛ وإنما المرشحون لتبوئ منصب القیادة فی المرحلة الاولى هم علماء الإسلام كافة، ممن تتوفر لدیهم الصلاحیة؛ ومهمة الخبراء الانتقاء ـهی مهمة تمتد لتشمل المجتمع الإسلامی بأسره، ولا تقتصر على فئة قلیلة معیّنة ـ وهذا مصدر الأهمیة فی كشفهم ـ ای تشخیصهم ـ وحیثما توصّل الخبراء، واستناداً الى


1. صحیفة النور: ج 11، ص 122 المقابلة التی أجراها البروفسور حامد الغار مع الإمام الخمینی(قدس سره).

أی دلیل منطقی بأن القائد فقد الشروط الضروریة للقیادة، أو برز فی زمانه مَنْ هو أقوى وأصلح منه؛ فإن القائد ینعزل تلقائیا عن منصبه، وعلى الخبراء التصریح بعزله، والاستبدال به فقیهاً آخر، وفی مثل هذه الحالة لا یستلزم إجراء انتخابات بین فترة واخرى؛ فكلنا یعلم حجم المستلزمات التی یتطلبها إجراء الانتخابات وما یعقبها من إفرازات على الصعید الاجتماعی؛ أضف الى ذلك عدم انسجامها مع اقتدار القیادة وكونها نقطة ثبات فی المجتمع.

وتتجلى أهمیة هذه المسألة حینما یتربع على مسند الولایة فقیه كفوء وجدیر؛ كآیة الله الخامنئی، ویتصدى لإدارة الامور ویعمل بنحو یقرّ معه الصدیق والعدو بكفاءته وجدارته، والتصریح بذلك علناً فی بعض الأحیان؛ فی مثل هذه الظروف حیث تغدو محوریة هكذا فقیه نقطة قوة للنظام؛ یتعین على الجمیع عرفان قدره والاجتهاد فی اتباعه.

وفی الختام فلا بأس من الانتباه الى أن نظریة دوریة القیادة أو الرئاسة؛ إنما طُرحت بسبب ما یعانیه الكثیر من المرشحین من آفات أخلاقیة وحقوقیة، ففی كل یوم نشهد استدعاء رؤساء جمهوریة أو رؤساء وزارات وغیرهم من ذوی المناصب العلیا فی دول العالم الى المحاكم، وبطبیعة الحال كلما تقلصت فترة تصدی أمثال هؤلاء للحكم تضاءل احتمال استغلالهم له، ولكن فی النظام الذی یتمتع القائد فیه بأعلى مراتب التقوى والعدالة، ویحلّ بعد المعصوم فی المرتبة فلا مجال لمثل هذا الوهم.

الآن وبعد مضی عقدین من الزمن على ممارسة أمثال هؤلاء للحكم فی ایران؛ لم تُلمس أدنى نقطة ضعف فی حیاة الإمام الراحل، أو سماحة قائد الثورة الإسلامیة، ولو وُجد من قبیل ذلك لبادَر أعداء الإسلام والثورة الى تضخیم حجمه، وشهّروا به فی وسائل الإعلام آلاف المرات.

* * * * *

 

سؤال: إذا كان نظام ولایة الفقیه هو الأفضل، فلماذا لم تعالج بعض المشاكل فی مجتمعنا ولم نحقق المجتمع المتقدم؟

جوابه: هذا التساؤل یثار أیضاً بحق حكومة أمیرالمؤمنین(علیه السلام) المعصوم والمصرّح به ـ استناداً لما نعتقد به ـ بولایته على الأمة(1) وصنویته للنبی الاكرم(صلى الله علیه وآله)(2).

تأسیساً على هذا لیس ثمة شك أو شبهة بین أوساط الفرق الإسلامیة على اختلافها بشأن حقانیة حكومة الإمام علی(علیه السلام) وشرعیتها؛ وقد عدَّ القرآن الكریم إبلاغ ولایته(علیه السلام) من قبل النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله) إكمالا للدین وإتماماً للنعمة ورضىً من الله بالدین الإسلامی(3)، وبالرغم من كل ما تقدّم فإن نظرة إجمالیة لتاریخ السنوات الخمس من حكم مولى المتقین، والظروف الاجتماعیة التی كانت سائدة یومذاك، تُنبئنا عن مستوى النجاح الذی حقّقه(علیه السلام) لإقامة المجتمع النموذجی.

لقد أسهمت الحروب الداخلیة من قبیل صفّین والجمل والنهروان، وتهدیدات الأعداء من الخارج، والشحّة فی القوى الإنسانیة المقتدرة المخلصة، وكثرة المشاكل وسرایة البدع والسنن الفاسدة والأمراض الاجتماعیة المزمنة، والتغییر الذی طال تركیبة النظام القِیَمی، كلها ساهمت فی التمهید لهذا الوضع.

فی تلك الأثناء كان علی(علیه السلام) أصلح الناس للحكم، والإمساك بزمام الأمة الإسلامیة فی تلك الظروف التی كانت سائدة یومذاك، وهذه الصعوبات لیس من شأنها إثارة أىّ شك فی أصل شرعیة ولایته(علیه السلام).


1. «إِنَّما وَلِیُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَیُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» المائدة: 55.

2. جرى بیان هذه القضیة فی آیة المباهلة (آل عمران: 61).

3. وهو مفاد الآیة الثالثة فی سورة المائدة.

إشارة لبعض المشاكل التی یعانی منها النظام

والیوم یبرز الكثیر من المشاكل التی یعانی منها نظام الجمهوریة الإسلامیة. منها ـ مثلاً ـ المشاكل الاقتصادیة الناجمة عن عوامل شتى، وإصدار الحكم على مدى نجاح النظام الإسلامی یتوقف على دراسة تلك العوامل. وللإیضاح نقول: إن تضاعف النمو السكانی فی إیران الى مستوى الضعفین منذ انتصار الثورة حتى یومنا هذا؛ وارتفاع الأسعار عالمیاً بما یتناسب مع التضخم العالمی، فی حین هبطت أسعار النفط، الذی یعتبر أهم مصادر الدخل الى أقل من الثلث، منذ عام 1357 هـ ش وحتى الآن؛ بالإضافة الى التغیر الكبیر الذی طرأ على ثقافة الاستهلاك فی المجتمع، واضطراد مستوى الطموحات بنحو ملفت للنظر؛ المقاطعة الاقتصادیة والحرب والدمار الواسع الذی فُرض على بلادنا بسبب تمسكنا بالقیم الإسلامیة؛ والحوادث الطبیعیة الجمّة... الخ، كل ذلك كان له الدور فی ظهور هذه المشاكل.

وكذا الحال بالنسبة للأزمات الثقافیة، فلقد كان الكثیر من علماء الإسلام والمربّین الدینیین، إما یخوضون معترك الجهاد، أو یقبعون فی معتقلات النظام الطاغوتی قبل انتصار الثورة، وانشغالهم بالأعمال التنفیذیة بعد انتصار الثورة لشدة حاجة النظام الیهم، وكذلك استشهاد طائفة من أفضل مَنْ ترعرعوا فی كنف الشریعة الإسلامیة أثناء الأحداث التی طرأت فی بدایة انتصار الثورة على ایدی الخونة من أعداء الإسلام، منهم على سبیل المثال الشهداء بهشتی ومطهری وباهنر ورجائی وشهداء المحراب... الخ الذین كان كل واحد منهم یعدّ ثروة لا تضاهى بالنسبة للنظام والإسلام.

أضف الى ذلك التأثیر العمیق الذی خلّفه تدخّل الأعداء فی إشاعة جوٍّ ثقافی مسموم، أمام جیل الشباب وفی افتعال المشاكل الثقافیة.

وبالرغم من ذلك كلّه فقد كان النظام الإسلامی مدعاة رفعة وعزة لإیران على المستوى العالمی، وشموخ للأمة الإسلامیة بوجه الطواغیت والمستكبرین فی

العالم؛ فهو الذی حفَّز المسلمین للاتحاد والتحرك، والحركات الإسلامیة التی انبثقت فی البوسنة والهرسك والشیشان والجزائر ولبنان ومصر وتونس والسودان بل وحتى فی بلدان أوربا الغربیة وامریكا؛ مستلهمةً من النهضة الدینیة والإلهیة التی قام بها الشعب الإیرانی؛ إنما تعدّ من بركات التوجه نحو دین الله وولایته.

لیس هنالك من یدّعی تطبیق القوانین الإسلامیة برمّتها فی البلاد بعد انتصار الثورة، بل ـ وكما صرّح بذلك قائد الثورة ـ أمامنا طریق طویل لتطبیق ما رسمه الدین للمجتمع؛ وهذه المشكلات والمصاعب لیس من شأنها التشكیك بشرعیة النظام.

* * * * *

 

سؤال: لماذا تعتقدون بقدسیة الولی الفقیه بالرغم من عدم عصمته؟

جوابه: القداسة هی المحبّة المقترنة بالاحترام الشدید، فالمرء ونظراً لما یلمسه من كمال لدى شخص معیّن فإنه یكنُّ له المحبة ویولیه احتراماً خاصاً، ونظراً لعدم تساوی الناس بالكمالات، لذلك فإن من كان متمیزاً واستثنائیاً فی حیازته للكمالات هو الذی یحظى بالمزید من المحبة والاحترام.

والقداسة شأنها كالمحبة تسری بشكل طبیعی، من الشخص المحبوب الى سائر الامور المنسوبة له، بنحو لو أننا أحببنا شخصاً فإننا سنحبّ ذویه واقاربه أیضاً، فلو أننا ـ على سبیل المثال ـ أحببنا الاستاذ فإننا نحب أبناءه بل وحتى لوازمه الشخصیة أیضاً؛ لذا فإن شعبنا یكنّ المحبة لاُسرة الإمام(قدس سره) وداره ولحسینیته ومرقده، ویُبدی عشقه لها.

 

القداسة روح الدین

إن القداسة هی التی تؤلف روح الدین الى الحد الذی تؤكد الأدیان السماویة بأجمعها على تجلیل الله سبحانه وما یُنسب الیه، وحتى الأدیان الضالة تقدّس الأصنام والأرباب، وما بحوزتنا من روایات یؤكد على هذا الأمر «هل الإیمان الاّ الحب»(1) بناءً على هذا فإن أعلى مرتبة من القداسة فی الإسلام إنما هی لله تبارك وتعالى، ویلیها فی المراتب اللاحقة من كان أكثر قرباً منه وارتباطاً به. ونظراً لأن الله سبحانه له الوجود المطلق والكمال المطلق... الخ فإن له الكبریاء الذی لا یضاهیه فیه أحد، ومن الطبیعی أن یكون الأكثر محبوبیة من غیره الى الحد الذی یجب السجود أمامه، وتمریغ الجباه بالتراب من أجله، وهذا السجود إنما یأتی بسبب تلك القداسة.


1. الكافی: 2/125، الروایة 5.

ویأتی النبی الأكرم(صلى الله علیه وآله) بالمرتبة اللاحقة حیث یتمتع بالمزید من القداسة والاحترام لشدة ارتباطه بالله سبحانه الى المستوى الذی یصلّی الله بنفسه علیه ویدعو المؤمنین للصلاة علیه ایضاً،(1) فیما یحرّم الشرع المقدس مسَّ اسمه(صلى الله علیه وآله)دون وضوء.

وهذه القداسة تسری من الله سبحانه الى النبی(صلى الله علیه وآله) وخلفائه وهم الائمة المعصومون المنصوبون من قبل الله تعالى، فتقبیل أضرحة الأئمة(علیهم السلام) وزیارة مراقدهم إنما مصدرها تلك القداسة.

وفی المراتب التالیة لمراتب الأئمة(علیهم السلام) تسری هذه القداسة لمن انتسب الیهم بأی نحو كان، من قبیل السادة والمراجع وعلماء الدین؛ وبالرغم من ذم الإسلام لتقبیل الید والخضوع المفرط لغیر الله، لكن ذلك قد استثنی فی حالات خاصة منها: «أنه مَنْ اُرید به رسول الله»(2)؛ أی أن هذا الشخص له من العظمة بحیث تُقبَّل یده بدلا عن رسول الله(صلى الله علیه وآله)، والولی الفقیه بالرغم من عدم عصمته إلاّ أنه یتمتع بدرجات من هذه القداسة، بسبب انتسابه للإمام المعصوم(علیه السلام)ونیابته له، وهل لأحد أن یحب الله ولا یحب رسوله؟ أوَ یصح أن یحب المرء رسول الله ولا یحب خلفاءه ـ الأئمة ـ؟ وهل بالوسع إبداء الحب للإمام المعصوم(علیه السلام) دون محبة نائبه؟

* * * * *


1. مفاد الآیة 56 من سورة الأحزاب.

2. بحارالانوار: 26: الباب 26، الروایة 25.

 

سؤال: ما الأثر الذی تتركه قداسة الولی الفقیه أو المرجع الدینی فی المجتمع؟

جوابه: من خلال هذه القداسة حُفظ كیان الشیعة ووجودهم فی عصر الغیبة، فالناس ـ وعلى مر التاریخ ـ كانوا یكنّون احتراماً خاصاً لمراجعهم، وطالما ارعبت هذه القداسة الأعداء لذلك، فقد كانوا یرهبون ما یصدّره المرجع الدینی من فتاوى تخص الجهاد؛ فلابد والحالة هذه من تحری التأثیر الذی یتركه حكم الجهاد الصادر عن مرجع طاعن فی السن!

ونظراً لما یتمتع به الولی الفقیه من قدسیة خاصة وأن الناس یعتبرونه نائباً لإمام الزمان، وهم على استعداد للتضحیة بأرواحهم وأموالهم وكیانهم، فإن الفتوى التاریخیة التی أصدرها المیرزا الشیرازی الكبیر فی تحریم التنباك هی التی هزمت الاستعمار البریطانی العجوز وأنقذت إیران من أزمتها.

وفی وقتنا الراهن أیضاً كنا جمیعاً مشهوداً على طبیعة قیادة الإمام الخمینی(قدس سره)لثورة اقتلعت جذور حكومة دامت 2500 سنة، وأقامت محلّها نظام الجمهوریة الإسلامیة؛ فمن ذا الذی یكون على استعداد لتلقّی رصاص جلاوزة الشاه لولا القدسیة التی تتمتع بها المرجعیة؟ ولولا اعتبار الأمة حُكم الإمام هو حكم الله وإمام العصر (عج)؛ فَمَنِ الذی سیكون مستعداً لینفض یدیه من لذائذ الدنیا، ویُمضی أیامه ولیالیه فی الجبهات، أو یضحی بخیرة أعزائه فی سبیل الله؟! هاهنا یمكن إدراك مغزى محاولات أعداء الإسلام فی تجرید الولی الفقیه والمرجعیة عن القداسة!

 

القداسة ضمان لبقاء النظام

لقد أثبتت التجربة أن المرجعیة والولایة كانت على الدوام مصدر أمل للمسلمین الشیعة فی زمان الغیبة، فلطالما أنقذت المرجعیة المجتمع فی كل مرة من الأخطار الحتمیة التی تحدق به.

الآن وبعد دراسات نفسیة؛ أدرك أعداء الإسلام جیداً السر فی وحدة الأمة وصمود النظام الإسلامی، لقد أدرك هؤلاء أن ما تحتفظ به الأمة من قدسیة للقیادة والولایة هی التی حفظت النظام والثورة، فكرّسوا جهودهم وشحذوا هممهم مستهدفین تحطیم هذه القداسة، لیوحوا بذلك أن القائد أو المرجع على مستوى غیره من المسؤولین، أو حتى العادیین من الناس، فهم یوحون بإمكانیة انتقاد الولی الفقیه، كما هو الحال فی توجیه النقد للوزیر أو النائب أو أىِّ شخصیة فی الجهاز القضائی!

إننا ـ بطبیعة الحال ـ نعتقد بجواز انتقاد الولی الفقیه، ولكن بالاسلوب الصائب، الذی یعبر عن الدعوة للخیر والحرص.

على أیة حال؛ فإذا ما تضعضعت قدسیة الإمام؛ لم یعد هنالك من یرى أمره مطاعاً، والعمل بأوامره واجباً شرعیاً، والقتل فی هذا السبیل شهادة، وهنا یكون العدو قد بلغ اهدافه؛ لأنه لم یبقَ أمامه من یُحبط المؤامرات، وینقذ البلاد بفتواه خلال الأزمات.

لنتأمل قلیلا، ولنرَ لصالح مَنْ یَكون انتهاك هذه القدسیة؟ وما الذی یصبو الیه مثیرو هذه الشبهات؟!

* * * * *

 

 

 

الفصل الرابع

 

مجلس خبراء القیادة

 

 

 

سؤال: هل ان انتخابات رئاسة الجمهوریة ومجلس الشورى الإسلامی ـ باعتبار اجرائها وفق تصویت الشعب المباشر ـ أكثر أهمیة واعتباراً؟

جوابه: للإجابة عن هذا التساؤل ینبغی التطرق لمناط الأهمیة والاعتبار، الذی تتمیز به المؤسسات والأشخاص فی ظل النظام السیاسی فی الإسلام.

إن معیار الاعتبار والشرعیة فی النظام السیاسی فی الإسلام هو الانتساب الى الله سبحانه؛ وهذا الانتساب إنما یتحقق فی عصر الغیبة بتأیید وإمضاء الولی الفقیه؛ من هنا فإن تساوى میزان من یتم انتخابهم فی الانتساب الى الله تساوَوا فی الاعتبار والشأن.

إذا كان المراد من السؤال أفضلیة الانتخاب المباشر لانتخاب الأصلح، وإحراز المزید من الاطمئنان فی سلامة تشخیصه؛ فلا صحة لهذا التصور؛ لأن الانتخاب غیر المباشر أكثر أماناً، فیما یتعلق بانتخاب القائد على أقل تقدیر، حیث تصوّت الأمة لصالحه وتنتخبه عن طریق طائفة من الفقهاء ـ الخبراء ـ المتمیزین بفقاهتهم ومعرفتهم بالصالحین من الناس، وهذا الانتخاب یفوق الانتخاب المباشر دقّة واطمئناناً.

 

المنهج العقلائی فی معرفة ذی الاختصاص

حینما یقدم الناس على اتخاذ قرار بشأن أمر مهم على صعید حیاتهم الیومیة أو المبادرة لانتخاب ما؛ فإنهم ـ وللمزید من الاطمئنان حول صلاحیة مَنْ یقع علیه الاختیار ـ یتخذون وسطاء یستشیرونهم بشأن هذا الانتخاب، لاسیما إذا ما أرادوا انتخاب المتخصص الأفضل.

وفی نظام الجمهوریة الإسلامیة حیث الهدف فیه إدارة المجتمع فی ضوء القوانین

الإسلامیة؛ فإن إسلامیة النظام إنما یتم ضمانها من خلال الولی الفقیه وحسب، والطریق المعقول الموثوق به لانتخاب أفضل فقیه یتحلى بمواصفات القیادة هو الانتخاب عبر الفقهاء العارفین بالفقهاء.

مما لا شك فیه أن اختیار أفضل القضاة إنما یتیسّر من قبل القضاة؛ وكذا بالنسبة لأساتذة الجامعة؛ إذ بمقدورهم تشخیص أفضل الأساتذه، كما أننا لا نستفسر من عامة الناس لاختیار أفضل متخصص فی جراحة القلب، بل أننا نعتبر السؤال من المتخصصین أفضل سبل الانتخاب؛ فتشخیص المتخصصین أكثر واقعیة وهو الأجدر بالثقة. بناءً على هذا ـ وللمزید من الاطمئنان لإحراز صلاحیة القائد ـ فإن انتخابه من قبل الخبراء یتمیز باعتبار مضاعف؛ بالإضافة الى أن الفقهاء الأعضاء فی مجلس الخبراء قلیلا مایتأثرون بالدعایات والاشاعات، وبالتالی فإنهم یكشفون عن الولی الفقیه فی ظل جوٍّ من الهدوء، ومن ثم یعلنون عنه أمام الملأ.

* * * * *

 

سؤال: ورد فی الدستور: القائد هو الذی یعیِّن أعضاء مجلس صیانة الدستور، الذین یبتّون بصلاحیة المرشحین لمجلس الخبراء، وعلیه فإن تعیین القائد إنما یجری من قبل القائد، ولكن بالواسطة وهذا نوع من الدور!

جوابه: هذا الإشكال یرد بشكل وبآخر بشأن الأنظمة السائدة فی العالم جمیعاً، وقد أثاره فلاسفة السیاسة فی الأنظمة الدیمقراطیة؛ فهم یقولون: إن أردتم إقامة نظام دیمقراطی؛ فإن ذلك یستلزم إجراء انتخابات، تقوم على أساس بعض المقررات، أی لا سبیل سوى الانتخابات! وإذا ما أردتم للانتخابات أن تجری وفقاً للأصول الدیمقراطیة؛ فلابد من مجموعة تقیم هذه الانتخابات، استناداً لمقررات معینة، فی وقت لم تحرز أیة مؤسسة أو حكومة الاعتبار بعد! وأی جهة تتولى هذا العمل لا اعتبار لها؛ وتكون هذه الانتخابات فاقدة للاعتبار على أیة مقررات أُقیمت؛ لأن شرعیة الدولة والحكومة إنما تُكتسب ـ فی ضوء القواعد الدیمقراطیة ـ من تصویت الشعب.

ومن الطریف أن تعرفوا أن سویسرا ـ التی تعدّ مهداً للدیمقراطیة، وتدار وفق نظام اتحادی، وهی مقسّمة الى 24 ولایة ـ لم یكن وحتى عهد قریب یُسمح للنساء فی بعض ولایاتها بالتصویت، وقد تقرر مؤخراً إستفتاء الرجال حول مشاركة النساء فی الانتخابات، وهل یُسمح لهنَّ بالتصویت أم لا؟ والسؤال هو: من أین اكتسب الرجال هذا الحق فی إبداء الرأی بشأن السماع للنساء بالتصویت؟

إن واضعی النظام الدیمقراطی یرون أن هذه الإشكالات واردة منطقیاً، لكنهم یصرّحون بأن لا مناص أمامهم، ولا یعرفون سبیلا أفضل من ذلك. وتأسیساً على ذلك لیس ثمة سبیل لعلاج إشكالیة «الدور» فی الأنظمة الدیمقراطیة، إذ لیس لأی جهة إقامة الانتخابات ما لم یصوِّت الشعب، ولا شرعیة لأی مسؤول ما لم تُجرَ الانتخابات! وهذه هی إشكالیة الأنظمة الدیمقراطیة.

إشكالیة الدور فی خبراء القیادة

ها هم اولاء الآن یثیرون هذا الإشكال حول انتخابات مجلس الخبراء ویقولون: إن مجلس صیانة الدستور هو الذی یؤید صلاحیة المرشحین لمجلس الخبراء؛ والقائد هو الذی یعیّن أعضاء مجلس صیانة الدستور، وإذا ما جرى انتخاب القائد من قبل الخبراء؛ فذلك مما یستلزم الدَور بالواسطة.

بید أن هذا الإشكال لا یطال النظام الإسلامی إذ أن الإمام الراحل(قدس سره) ـ ونظراً لما یتمتع بها من صلاحیات شرعیة ـ كان قد عیَّن حكومة مؤقتة تتولى إجراء الانتخابات.

إن حجیة كلمة القائد فی النظام الإسلامی لیست مرتهنة بالتصویت الشعبی، ولیس اعتبار وشرعیة النظام والقائد منبثقة وناشئة عن رأی الخبراء؛ لأنهم لا یضفون على القائد منصب الولایة وإنما مهمتهم تنحصر فی تشخیص مَنْ هو مصداق للولایة الإلهیة، وسبق للأئمة الأطهار(علیهم السلام) بیان مواصفاته؛ فالخبراء مكلّفون بتعریف الأُمة بمن یراه الإمام المعصوم(علیه السلام)جدیراً للولایة والقیادة، على غرار تشخیص مرجع التقلید، حیث یشهد اثنان من ذوی الخبرة على أعلمیة مرجع التقلید، فواضحٌ هنا أن الشهود لا یمنحون المرجع الأعلمیة، بل الأعلمیة حقیقة تستمد حجیتها من الله سبحانه، والشهود إنما یشخصونها ویكشفون عنها.

وعلى صعید الكشف عن صلاحیة الخبراء؛ فإن مجلس صیانة الدستور لا یضفی الخبرویة على المرشحین كما فی الخبراء؛ حیث لا یمنحون الولایة للولی الفقیه. وإنما یكشفون عن أهلیة الفرد، وتأسیساً على هذا فإن اعتبار القائد إنما یتأتى عبر كفاءته ومن التنصیب الإلهی، ونضیف أیضاً: إن سائر الشؤون والمناصب تكتسب اعتبارها من خلال حجیة القائد. إذن هذا الإشكال لا یطال النظام الإسلامی؛ لأن اعتبار منصب الولایة مصدره هو الله سبحانه وتعالى.

* * * * *

 

سؤال: ما الضرورة فی أن یكون أعضاء مجلس الخبراء من الفقهاء؟

جوابه: بما أن نظامنا جمهوریٌّ إسلامیٌّ، وقد ارتضیناه انطلاقاً من القیم الاسلامیة، وبالرغم من أن شكل الحكومة جمهوریٌ بید أن مضمونه یُفترض أن یكون إسلامیاً؛ ولغرض بلوغ هذا الهدف یجب أن یقف على رأس هذا النظام مَنْ یفوق غیره معرفةً بأُسس الإسلام وطریقة تنفیذها، وتلك هی ولایة الفقیه التی تضمن إسلامیة النظام.

 

أفضل الطرق للكشف عن المتخصص

نظراً الى أن المهمة الأساسیة لمجلس الخبراء هی تشخیص مَنْ هو جدیر للتصدی لمنصب الولایة؛ یتضح أن أكثر السبل عقلانیة وإنصافاً هو أن یكون أعضاء مجلس الخبراء ممن لهم باع فی الفقاهة؛ فلو سُئلنا ـ مثلاً ـ عن أفضل القضاة فی إیران، فمنَ المسلَّم به أن نقصد القضاة للحصول على الجواب الشافی، أی أن الإجابة على هذا التساؤل لا تتیسر لأیٍّ كان،إنما لمن كانوا متضلّعین فی هذا الفرع فقط، فهم وحدهم القادرون على تحدید أفضل القضاة. وكذا لو سُئلنا عن أفضل أستاذ جامعی فی ایّ فرع من الفروع؛ فلابد والحالة هذه من استحصال الإجابة من أساتذة الجامعات؛ فالقادرون على تشخیص الأصلح للتصدی لمنصب ولایة الفقیه هم من نالوا نصیباً من شروط ذلك المنصب، ویتحلون بمزایاه ولو بدرجات أدنى، لأن الفقاهة أهم مواصفات الولی الفقیه ـ لان ما ورد فی الدستور الإسلامی هی ولایة «الفقیه» ـ فلابد من أن یكون أعضاء مجلس الخبراء فقهاء، لهم الأهلیة للنهوض بهذه المهمة؛ وإذا التزمنا الإنصاف فی الحكم؛ سندرك أن هذا الطریق هو الأفضل والأكثر عقلائیة لتعیین الولی الفقیه. ولقد كان انتخاب قائد الثورة الإسلامیة بعد رحیل الإمام نموذجاً رائعاً لصواب عمل مجلس الخبراء المنبثق عن التضلع بالفقاهة، ومعرفة مَنْ

كان جدیراً بالقیادة، فلو حاول عموم الشعب فی خضم تلك الظروف اختیار من هو صالحٌ للقیادة؛ لما تیسر له ذلك؛ غیر أن الخبراء أدركوا النتیجة الحاسمة خلال سویعات، وبالإضافة لإحراز أعضاء مجلس الخبراء لمسند الفقاهة فهم یتحلون أیضاً بمراتب علیا من التقوى ویتخذون قراراتهم من خلال معرفة مسبقة بالأشخاص، من هنا یتضاءل كثیراً احتمال تأثرهم بالدعایات والإشاعات.

* * * * *

 

سؤال: لماذا ینتخب أعضاء مجلس الخبراء من الفقهاء فقط، ولا مجال أمام سائر المتخصصین والمفكرین لدخول هذا المجلس؟

جوابه: للإیضاح نقول: ثمة تساؤل أو شبهة أخذت تثار مؤخراً بصورة جادّة ومفادها: أن الدستور الاسلامی حدَّد للولی الفقیه شروطاً یمكن تلخیصها فی ثلاث نقاط هی: الفقاهة، العدالة، الإدارة والتدبیر، أی تشخیص مصالح المجتمع والقدرة على إدارتها. وحریٌ التنبّه الى أن الفقهاء المنتخبین كخبراء لانتخاب القائد وتبعاً لمكانتهم العلمیة هم القادرون على تشخیص بعض المواصفات؛ فبوسعهم تشخیص الأفقه، ومَنْ یتحلى بأعلى درجات الصلاحیة على الصعید الفقهی وحسب.

وعلیه فمن الضروری انضمام آخرین الى عدد الخبراء؛ لیمكنهم إحراز سائر الشروط من قبیل العدالة، والإدارة والتدبیر والحنكة السیاسیة؛ وذلك بما یتمیزون به من تخصص ومكانة علمیة، ومن هنا فإن الضرورة تستدعی اختیار الخبراء من المتخصصین فی شتى الحقول، وكلُّ فئة منهم تتولى تشخیص جانب من مواصفات وشروط القائد. وللرد على هذه الشبهة ینبغی القول:

بالرغم من تحدید ثلاثة شروط بالنسبة للقائد إلاّ أنها: فی الاعتبار لیست فی عرض واحد بل أن أحدها یتمیز بأهمیته. ثانیاً: یتعین على القائد إحراز حدّ النصاب فی كلّ من هذه الشروط الثلاثة. وما علینا الآن سوى أن نرى الأفضل فی الفقاهة والتقوى وفی إدارة شؤون المجتمع من بین الحائزین على هذه الشروط، وفی أىٍّ منهم تتجسد هذه العناصر الثلاثة بشكل بارز؟

لو أننا ارتأینا وجوب تواجد المتخصصین فی شتى الحقول فی مجلس الخبراء، وبادر هؤلاء ـ على افتراض فقدانهم صلاحیة تشخیص كفاءة الولی الفقیه سیاسیاً ـ واختاروا فقیهاً یفتقر الى الأهلیة من الناحیة السیاسیة قائلین: إن السید «أ» هو

الأفقه، ونراه الأكثر جدارة ممن سواه، فیما یقول تكتل السیاسیین: إننا ننتخب السید «ب» لرجحان كفّته سیاسیاً على غیره؛ ویقول المقدّسون: خیارنا هو السید «ج» لتفوقه بالتقوى، فأیة نتیجة ستتمخض عن ذلك یا ترى؟

أما أن یبرز لدینا ثلاثة من القادة، أحدهم فقیه والآخر تقی والثالث مدیرٌ، ولا شك فی ان هؤلاء الثلاثة لا یحققون الغرض، وعلیه فهذا افتراض باطلٌ، أو أن نرجّح أحد الثلاثة كأن نرجح فقیهاً ضعیفاً سیاسیاً وفاقداً للتقوى ـ والعیاذ بالله ـ أو بالعكس، وفی هذه الحالة یتم إهمال مصالح الإسلام والأمة الإسلامیة. وهكذا نستنتج عدم إمكانیة تقسیم مجلس الخبراء الى ثلاث فئات من المتخصصین والخبراء، وكل فئة تنتخب شخصاً بما یتناسب واختصاصَها، بل لابد من أن یتحلى خبراء القیادة بمرتبة من هذه الشروط الثلاثة، أی الحد المطلوب من الفقاهة والإحاطة بالمصالح الاجتماعیة، وكذلك التقوى؛ وذلك لما یتعین علیهم من انتخاب أحدهم للقیادة؛ فمن النادر أن یبادر الخبراء لانتخاب شخص من خارج مجموعتهم.

إذن فتلك الشروط الثلاثة المتوفرة بأعلى مستویاتها وكامل درجاتها فی القائد؛ یجب أن تتوفر لدى أعضاء مجلس الخبراء بمرتبة أدنى، فلابد لهم أن یكونوا فقهاءَ عدولا، ومحیطین بالسیاسة وإدارة المجتمع، وتأسیساً على هذا فالسیاسیون بلا فقاهة كالفقهاء الذین لا معرفة لهم بالسیاسة، أو تعوزهم التقوى من الأساس، ولا قدرة لهم على الإیفاء بأی دور فی تشخیص القائد.

 

الخبراء یتمتعون بنسبة من شروط القیادة

إذن الذین تقع علیهم مهمة تعیین القائد لابد أن یتوفروا على نصیب من مواصفات القیادة، ولابد من افتراض المستوى المطلوب الذی یتیسر التقید به عملیاً، لا أن یكون افتراضاً مثالیاً یتعذر تحققه، بل ربما لا یتفوق القائد على الآخرین بفقاهته

فی بعض الحالات؛ لكنه یتفوق على من سواه بمجموع مزایاه من الفقاهة والعدالة والإدارة، ففی عهد الإمام الخمینی(قدس سره) كان ثمة اُناسٌ یقلّدون غیره من المراجع، ولا یرونه الأعلم؛ لكنهم فی نفس الوقت كانوا یرونه قائداً مفترض الطاعة، أی أنهم أحرزوا شرط الفقاهة لدى الأول على أقل تقدیر، فیما أحرزوا شروط القیادة بمجموعها من فقاهة وعدالة وإدارة واحاطة بمصالح المجتمع بمرتبة أعلى لدى الإمام، فإذا كان القائد هو الأفقه والأتقى والأفضل فی الإدارة؛ فهو المرجّح على غیره، لكننا إذا افتقدنا مثل هذا الشخص، ولم یكن هنالك من یتوفر على الحد الأعلى فی واحد من هذه الشروط؛ لكنه یتمیز على من سواه فی مجموع المواصفات الثلاث، فلابد أن یتصدى هو للقیادة، ویجب أن یُحرز فی الذین ینتخبونه الحد المطلوب من الفقاهة، العدالة والادارة والاحاطة بالقضایا السیاسیة والاجتماعیة، ووفق هذه الشروط یكون الحد الأدنى هو احرازهم رتبة الاجتهاد.

 

الإسلامیة، أسمى مقومات النظام

والملاحظة الاخرى التی تقدمت الإشارة الیها فی مستهل الإجابة على هذه الشبهة، ونتناولها الآن بالتفصیل هی: أن الشروط الثلاثة المذكورة ـ وكما نعتقد ـ لیست سواء فی الأهمیة، إذ أننا نؤمن بأن الإسلام هو العنصر الأساس الذی یقوِّم النظام، فالإدارة متوفرة فی كافة البلدان، لا أن الرجل الأول فی أیّ من البلدان الاخرى التی لا تخضع لنظام إسلامی یفتقر لمیزة الإدارة.

إذن لسنا نمتاز على غیرنا فی هذا المجال، بل ما یمتاز ویصطبغ به بلدنا ونظامنا خاصةً هو إسلامیته، أی أن إسلامیة النظام هی التی تستحوذ على تأكیدنا أكثر من غیرها، والأكثر ضرورة مما سواه بالنسبة للقائد هو الفقاهة، ومن هنا یأتی قولنا: الولی الفقیه ولا نقول: الولىّ العادل، وإن كان على القائد أن یكون عادلا أیضاً، ولا نقول: الولی السیاسی بالرغم من وجوب تضلّعه بالسیاسة. إذن فتأكیدنا على مفردة

الفقیه إنما منشؤه كون الإسلام هو العنصر الجوهری فی النظام، والفقیه هو العالم بالإسلام.

وثمة شبهة تثار مفادها: إن الإسلام یضم علوماً متعددة وإنكم تقصدون بالفقیه «العالم بالإسلام» فی حین إن المعنى الاصطلاحی للفقاهة یفید العلم بالأحكام الفرعیة وبما أن الإسلام یتضمن علوم العقائد والكلام والفلسفة والتفسیر والحدیث والرجال؛ إذن لابد من تواجد مجموعة من الفلاسفة والمفسرین والمتكلمین فی صفوف الخبراء أیضاً وكذا سائر المتخصصین فی سائر فروع العلوم الإسلامیة، وللإجابة على ذلك نقول:

إن ما له التأثیر فی تطبیق الأحكام الإسلامیة هی الفقاهة؛ ففی الإسلام جوانب متعددة، منها ما یتعلق بالقضایا الباطنیة والقلبیة، وهی عبارة عن العقائد، ومنها ما یختص بالقضایا العائلیة، وآخر له شأن بالمسائل العبادیة والفردیة، كالنجاسات والطهارات، أو كیفیة أداء الصلاة؛ فلا ضرورة فی أن یكون الولی الفقیه هو الأعلم فی جمیع هذه الحقول؛ بل الشرط هو اعلمیة القائد على غیره فی مجال الأحكام الاجتماعیة والسیاسیة فی الإسلام، ورسم السبیل لقیادة الأمة وإدارة المجتمع، وسائر المرافق فی الإسلام لها أهمیتها. والفقاهة بمعناها العام تشملها أیضاً، بید أن ما یناسب الحكم والموضوع وله دخل فیه هو الأحكام الفقهیة فی الإسلام لاسیما ما یتعلق بالقضایا السیاسیة والاجتماعیة.

* * * * *

بعض الأسئلة

كیف یمكن الحصول على ملكة التقوى و ما هی السبل العملیة للحصول علیها؟
اقرأ أكثر...
لا زال بعض المؤمنین یرى فی الأخباریة منهجاً فكریاً أصیلاً ومغایراً عن المنهجیة الأُصولیة، ویقول: «إنه لا یمتلك القناعة والحجة التامة بینه وبین الله عزّوجلّ فی سلامة وحجیة الاستنباط الأُصولی». ویفند رأی أحد الفقهاء العظام: «الأُصولیة المعاصرة أُصولیة نظریة فقط، ولكنها عملیاً...
اقرأ أكثر...
بعد سیاحة ممتعة فی رحاب رسائل بعض علمائنا الأعلام المتعلقة بتاثیر الزمان والمكان على الأحكام الشرعیة... اتسائل هل یسمى هذا التاثیر المطروح تاثیرا حقیقیا على الاحكام ام انه كنائی؟ واذا كان كنائیانخلص بذلك الى نتیجة واضحة هی أن ما كان كنائیا وعلى سبیل المجاز فهو لیس بحقیقی.. فما أطلق علیه تأثیر هو فی...
اقرأ أكثر...
السلام علیكم ورحمة الله وبركاته ما رأی سماحتكم بوجوب تقلید الأعلم ؟ وماالدلیل ؟ الرجاء التوضیح بشیء من التفصیل ﻋلاء حسن الجامعة العالمیة للعلوم الإسلامیة
اقرأ أكثر...
سماحة آیة الله مصباح الیزدی دام ظله الوارف السلام علیكم ورحمة الله وبركاته . السؤال: البعض یدعو إلی ترك ممارسة التطبیر بصورة علنیة أمام مرأی العالم لا لأنهم یعارضون حكم الفقیه ولكن من باب أن التطبیر لا یصلح أن یكون وسیلة دعویة إلی الإمام الحسین وإلی مذهب الحق . لذلك ینبغی علی من یمارس التطبیر...
اقرأ أكثر...
هل یقول سماحتكم دام ظلكم بإجتهاد السید علی الخامنئی دام ظله ؟
اقرأ أكثر...