لقد ناءت المجتمعات البشریة عبر ماضیها وحاضرها بما اثقلت به الحكومات المتغطرسة كاهل بنی الانسان من قهر وصراع وسفك للدماء وظلم مریع؛ وخلال مقاطع تاریخیة وجیزة فقط استطاع الصالحون الرحماء من زمرة الانبیاء والاولیاء ادارة شؤون المجتمع وغمره بالصلاح والخیر.
ان ولایة الفقیه هدیة إلهیة كبرى للبشر تضع الفقه والعدالة بدیلا عن الطغیان والشر، وتعمل على تطبیق حاكمیة الله فی الارض، ففی ظلالها تحل العدالة والسداد محل الظلم والفساد، وتتبدل هواجس الانسان على اختلافها الى استقرار هنیء.
الكراس الذی بین ایدیكم هو الجزء الثانی من مجموعة الأسئلة والردود، ویتضمن طائفة اخرى من الاسئلة التی طرحها طلبة الحوزة والجامعة على الاستاذ الفاضل سماحة آیة الله مصباح الیزدی «مُدّ ظله» فیما یتعلق بولایة الفقیه، وأجوبته علیها، وقد تم جمعها بید عدّة من المحققین بغیة المزید من الالمام بهذه الهبة النفیسة.
إصدارات مؤسسة الامام الخمینی(رحمه الله) للتعلیم والبحث
سؤال: ما هو ابسط واوضح دلیل عقلی على ولایة الفقیه؟
جوابه: اصل التنزل التدریجی
بالامكان اثبات ولایة الفقیه بالاستناد الى اصل عقلائی وهو: لو كان هنالك أمرٌ ینشده العقلاء ولكن اصبح من الصعب أو المتعذر تحققه لاسباب معینة، فانهم لا یتخلون عنه كلیاً، بل یبادرون الى ما هو ادنى منه مرتبة، وبعبارة اخرى انهم یتخلون عن الاهم ویبادرون الى المهم ویراعون الترتیب حتى فی القضایا الهامّة. بل ان ترتیب الامور على اهمیتها انما جاء لغرض استبدال الأمر الذی هو فی المرتبة الثانیة واحلاله محل الذی یأتی فی المرتبة الاولى إن تعذَّر أو استعصى لظروف معینة، ونحن نطلق على هذا المبدأ العقلائی «التنزل التدریجی» وهو ما قبِلَه الاسلام أیضاً، ولدینا موارد كثیرة فی الفقه طُبق فیها هذا الاصل، ونكتفی هنا بمثالین لإیضاح الامر:
1ـ افترضوا ان شخصاً نوى الصلاة، والمطلوب ان تؤدى الصلاة فی حالة الوقوف ولكن اذا لم یكن الشخص قادراً على اداء الصلاة من وقوف بسبب المرض، فهل یتركها یا تُرى؟ یقول الفقهاء باجمعهم: یصلی ما استطاع من الصلاة واقفاً وما لم یقدر علیه یصلیه جالساً، وفی المرتبة اللاحقة إن لم یقدر على أداء الصلاة واقفاً فان الحكم الفقهی یتمثل فی ان یؤدیها جالساً، وان لم یستطع من جلوس فلیؤدها مستلقیاً.
2ـ لو أوقفَ امرؤ شیئاً لغایة معینة كأن یوقف عوائد البستان لاضاءة شموع مرقد الامام المعصوم(علیه السلام)، وحیث لا وجود للشمع فی الوقت الحاضر فماذا یفعلون بتلك العوائد؟ هل یصحّ القول بترك هذا المال الموقوف لانتفاء مورد الانفاق الأولی؟ من المؤكد لیس كذلك، فلابد من انفاقه فی اقرب الموارد للانارة من قبیل
ان ننفق موارد ذلك البستان لمیزانیة الكهرباء، لان الكهرباء هی اقرب الموارد للشمع، وهذا ما نسمیه «التنزل التدریجی» وهو ما یُصطلح علیه مراعاة «الاهم فالمهمّ» أیضاً.
فی ضوء النظام العقائدی فی الاسلام تكون الحاكمیة لله. وهو تعالى لا یتدخل بشكل مباشر فی ادارة الشؤون الاجتماعیة للبشر وانما خوّل أمر الحكم للانبیاء والائمة المعصومین، فما العمل یا تُرى فی حالة عدم حاكمیة المعصوم المنصوب من قبل الله على شؤون المجتمع؟ أَیُمكن القول بان نتخلى عن الحكومة فی مثل هذه الحالة؟! مثل هذا الكلام لیس مقبولا فلقد ثبت فی محلّه ضرورة اصل الحكومة فی كل مجتمع، ومن هنا نرى ضرورة ولایة الفقیه استناداً لاصل «التنزل التدریجی» لان الفقیه الحائز على الشروط هو الذی یحلّ محل الامام المعصوم(علیه السلام)ویلیه فی المرتبة، وبطبیعة الحال شتّان ما بین المعصوم والفقیه العادل لكنه اقرب الناس وأشبههم به على صعید الحكومة الظاهریة على الناس.
والنتیجة هی ان الله تعالى هو الحاكم بالدرجة الاولى ویلیه رسول الله(صلى الله علیه وآله) ومن ثم الائمة المعصومون(علیهم السلام) حكاماً شرعیین، فهل هنالك مرتبة رابعة فی الحكم؟
ینبغی القول: فی ضوء ما یؤمن به الشیعة، یكون الولی الفقیه هو الذی یتبوء المرتبة الرابعة من الحكم فی زمان غیبة الامام المعصوم وذلك لأن الفقیه الجامع للشروط هو الاقرب للامام المعصوم. ذلك لان الحاكم الاسلامی یتعین علیه احراز مواصفات من قبیل الاحاطة بالقوانین والاحكام الاسلامیة، والالمام بالمصالح الاجتماعیة، والمؤهّلات الاخلاقیة التی تكفل الامانة ومراعاة المصلحة العامة، وهذه الشروط باكملها متوفرة لدى المعصوم، لانه لا یرتكب أیّ مخالفة للقانون وذلك لعصمته، وهو العارف تماماً بالقوانین الشرعیة ومصالح المجتمع لما یتمتع به
من علم غیبی، وعلى الفقیه الجامع للشرائط التوفر على هذه المواصفات بدرجة أدنى كی تكتسب حكومته الشرعیة، أی یجب ان یتمتع بملكة الفقاهة والاجتهاد لیتمیز على الاخرین بمعرفة احكام الاسلام لاسیما فی مجال القضایا السیاسیة والاجتماعیة، ویجب ان یتحلى كذلك بملكة التقوى والعدالة لئلا یضحی بمصالح المجتمع من اجل المصلحة الشخصیة والفئویة، وكذلك یجب ان یكون محیطاً بالاوضاع السیاسیة والاجتماعیة والدولیة لئلا یُفلح الشیاطین فی خداعه وحرفه عن جادة العدل والقسط.
* * * * *
سؤال: كیف یُمكن تفسیر نظریة ولایة الفقیه لغیر المسلمین؟
جوابه: كما هو واضح من السؤال فان من السهل توضیح ولایة الفقیه للمسلمین المؤمنین بعقائد الاسلام وقیمه، ولكن اذا ما اردنا تفسیر هذه النظریة لغیر المسلمین، فان ذلك یختلف عن الحالة السابقة.
بعد انتصار الثورة اصبحت قضایا الثورة الاسلامیة موضع اهتمام واسع فی وسائل الإعلام العالمیة، ومما اختص به النظام الاسلامی هی ولایة الفقیه، وحیث ان الاعداء قد ادركوا اهمیة هذه القضیة فقد بذلوا جهوداً كبیرة لتضلیل الافكار ازاءها، وكل مَنْ یتأمل قلیلا فی كتاباتهم واقوالهم فی هذا المجال یجدها تعج بضروب التُهم والاساءات.
وفی ضوء محاولات الاعداء لتشویه هذه القضیة المهمّة من ناحیة، ونظراً للرغبة الجادة لدى الباحثین عن الحقیقة فی البلدان غیر الاسلامیة للكشف عن هذا الامر المهم وفهمه من ناحیة اخرى، یتعین على المبلغین المسلمین تقدیم تفسیر مقنع لنظریة ولایة الفقیه، وذلك بغیة التصدی للدعایات المسمومة التی یبثها الاعداء، إرواء عطش التوّاقین للحقیقة أیضاً. وغایتنا هنا بیان تفسیر مبسط لهذه النظریة.
بوسعنا القول لكل انسان ـ مسلماً كان أم غیر مسلم ـ اننا أناسٌ نؤمن بدین مُعین، وهذا الدین یطرح امامنا مجموعة من العقائد والقیم، ونحن نعتقد ان الاسلام لا یطرح طائفة من العبادات فقط وانما هو دین شامل، له احكامه وقوانینه فیما یرتبط بالقضاء بین الناس، وكیفیة التعامل مع المجرمین والمنحرفین، وانجاز المعاملات، وطبیعة التعامل مع غیر المسلمین، وآداب التعلیم والتعلّم. وبناءً على هذا من
الضروری لنا امتثال القوانین الدینیة فی كافة المجالات. والقوانین المعتبرة والمفروضة التطبیق هی التی تتصل بالمصادر الدینیة سواء مباشرة أو بصورة غیر مباشرة، فعلى سبیل المثال لو اراد المسلم اضافة طعام جدید الى برنامجه الغذائی فلابد أولا ان یتأكّد من حلّیته أو حرمته. فالمسلم الحقیقی مَنْ یلتزم بحكم الشرع وقانونه فی كل عمل، وكلما تضاءل هذا الالتزام یكون قد ابتعد عن دائرة الاسلام الحقیقی بنفس ذلك المقدار.
1ـ بما انه یتعین على مَنْ یتزعم الحكومة ان یتمیز عن الآخرین فی محافظته على قوانینها ویسعى وراء تطبیقها تطبیقاً تاماً، فلابد ان یتوفر على معرفة تامة بالقوانین. وفی ظل النظام الاسلامی حیث إن اغلبیة الامة تتبع القوانین الاسلامیة، یجب على من یقف على رأس النظام ان یكون فقیهاً جامعاً للشروط، ای ان تصل معرفته بمصادر القانون الاسلامی الى مستوىً یمكّنه من الاجتهاد بالقوانین والاحكام لا أن یكون عارفاً بالقوانین الاسلامیة فقط، فلرُبما یكون غیر المجتهد عارفاً بالقوانین، ولكن بما ان معرفته هذه جاءت عن طریق التقلید فلا یسعه ان یصبح حاكماً شرعیاً.
2ـ من ناحیة اخرى یجب ان یتحلى الحاكم والزعیم الاسلامی بما یكفی من التقوى لیثق المواطنون بافعاله وقراراته ویعلموا بان ایة خیانة سوف لن تحصل اطلاقاً.
3ـ یجب ان یتوفر الحاكم الاسلامی على قابلیة اداریة عالیة ـ وهذا الشرط ضروری بالطبع لكل حاكم اسلامی كان أم غیر اسلامی ـ لیتسنى له قیادة المجتمع باتجاه اهدافه المقدسة السامیة.
* * * * *
ویبدو ان نظریة ولایة الفقیه تغدو نظریة مقبولة وسهلة فی حالة القبول بالمقدمات الآنفة الذكر، بیدَ ان هنالك اناساً یتناولون بحث ولایة الفقیه دون بیان هذه المقدمات. فتكون النتیجة بقاء هذه النظریة یلفّها الغموض، أو انها تُصوَّر بصور خاطئة.
سؤال: اذا كان الولی الفقیه لیس معصوماً فما المبرر فی طاعته المطلقة؟
جوابه: من الواضح انه لیس هنالك فی اوساط المؤمنین بولایة الفقیه من یقول بعصمة الولی الفقیه أو الادعاء بذلك؛ فالاعتقاد السائد بیننا هو عصمة الانبیاء وفاطمة الزهراء والائمة المعصومین(علیهم السلام).
والسؤال هنا: نظراً لفقدان الولی الفقیه للعصمة واحتمال وقوعه فی الخطأ والسهو أیكون هذا الاحتمال مانعاً من طاعته؟
یبدو انه لیس هنالك مثل هذا التلازم، بحیث ینتج أن من لم یكن معصوما فلا تجب طاعته! واذا ما استقرأنا السیرة العملیة للشیعة نجد انهم یقلّدون المراجع دون نقاش ویعملون وفق فتاواهم فی الوقت الذی لا یقول أحدٌ منهم بعصمة المراجع؛ بل انهم یتوصلون من خلال التغیر فی فتاوى المرجع الى انه لا یفتقد العصمة فحسب بل یقع فی الخطأ أیضاً، لانه اما ان تكون فتواه السابقة خاطئة أو الجدیدة، كما یتضح من خلال اختلاف المراجع فی الفتاوى وقوع بعضهم فی الخطأ، وبالرغم من ذلك فلیس هنالك مَنْ ینتابه الشك بوجوب تقلید المراجع. وهنا نطرح هذا السؤال: هل ان احتمال وقوع الولی الفقیه فی الخطأ یستلزم عدم الطاعة له؟
لا شك فی حاجة كل مجتمع للحكومة، وقوام الحكومة بأمرین: احدهما حق الحاكمیة، أی وجود من یمتلكون الحق باصدار الاوامر؛ والآخر ضرورة الطاعة وتنفیذ الاوامر، ولن تبرز الحكومة الى عالم الوجود ان لم یتحقق كلاهما، فاذا كان احتمال وقوع الحاكم فی الخطأ یسوّغ التمرد على اوامره، وهو احتمال لیس منتفیاً أبداً؛ فانه لن تتحقق طاعة الحاكم بأی حال من الاحوال؛ وذلك یعنی عدم تحقق
احد ركنی الحكم؛ اذن ستزول الحكومة.
لو امعنا النظر فی سیرة العقلاء نجد انهم یوجبون الطاعة فی بعض الحالات وإن كان مَنْ بیده الأمر لیس معصوماً، فلو ان قائداً عسكریاً أصدر أمراً لجنوده فی ساحة الحرب ـ على سبیل المثال ـ فهل یستقیم أمر الحرب یا ترى إن هم ارادوا عدم طاعته بناءً على احتمال ارتكابه الخطأ؟ وهل ستُنجز أیة مبادرة أو خطوة مؤثرة؟ أو لیسَ حتمیاً انهزام هذه الفئة؟ اذن؛ العصیان له من الاضرار ما لا یمكن مقارنتها مع الاضرار الناجمة عن طاعة الایعاز الخاطئ، وبعبارة اخرى ان لطاعة القائد من المنافع ما لا یمكن قیاسها الى الضرر الطفیف الناجم عن امتثال أمر خاطئ. كما هو الحال اذا ما راجعت طبیباً اخصائیاً، ألا یُحتمل ارتكابه للخطأ فی التشخیص؟ لكنك لا تنصرف عن مراجعة الطبیب بالرغم من قیام هذا الاحتمال.
ان عدم طاعة الحاكم تفضی الى الفوضى واختلال النظام فی المجتمع، والضرر الناجم عن هذه الفوضى یفوق كثیراً الضرر الذی یلحق بالمجتمع نتیجة الائتمار باوامر یُحتمل خطؤها.
والسیرة التی دأب علیها العقلاء فی جمیع هذه الحالات تتركز على اهمال الاحتمالات الضعیفة حین العمل، واذا ما تفحصنا المزایا المتوفرة فی الولی الفقیه وعرفنا ان الحاكم الاسلامی یلجأ على الدوام الى ذوی الخبرة والاختصاص لاستشارتهم فی كل عمل یقوم به ومن ثم یتخذ القرار وان الامة مكلفة بعدم التوانی عن ابداء الرأی السدید للحاكم الشرعی فان احتمال وقوعه فی الخطأ یتضاءل كثیراً ولا یعود معقولا عصیاننا لأوامره.
حریٌ القول فی الختام ان الاشكال بعدم العصمة انما یرد بشأن كل حاكم وزعیم فی أیة حكومة، ولكن اذا ما أثیر هذا الاشكال فیما یخص نظام ولایة الفقیه دون سائر
الانظمة فان ذلك یدلنا على استشفاف ان غایة المثیرین لمثل هذه الشبهات هی انتهاك قدسیة قائد النظام الاسلامی، لان قدسیة القائد تمثل فی الكثیر من الحالات سداً منیعاً بوجه الاعداء، وعاملَ اجهاض لمخططاتهم، فاذا ما تم فك الحصار عن مدینة آبادان بأمر من الامام الراحل(قدس سره) فلأنه لم یكن لیخطر ببال أیٍّ من المقاتلین ما اذا كان یجوز مخالفة أمره(رحمه الله) أم لا؟
فنظراً لحالة الفشل التی واجهت الاعداء بسبب هذه القدسیة ووجوب الطاعة تثار هذه الشبهات، اذن علینا الانتباه الى ان هذه الشبهات لا تُطرح باجمعها من اجل الحصول على الاجابة، بل هنالك مآرب اخرى تمثل الدافع وراء افتعال الشبهات.
* * * * *
سؤال: هل ان الولی الفقیه وكیل الأمة فی ظل النظام الاسلامی؟ واذا كان الجواب بالایجاب فلماذا یُعبَّر عن الحكومة الاسلامیة بـ «ولایة الفقیه» ولیس «وكالة الفقیه»؟
جوابه: «الوكیل» انما تُطلق على مَنْ یوكل الیه عمل لینجزه نیابة عن الموكِّل، كما لو ان أحداً ـ مثلاً ـ انیطت به مسؤولیة انجاز عمل ما لكنه لا یستطیع القیام بواجبه لمشغلة أو مشكلة فیكلِّف غیره للقیام بالمهمة وبذلك فهو یوكّله؛ وكذلك مَنْ یتمتع بحق معین من قبیل التوقیع أو استیفاء مبلغ من المال من المصرف أو كان ذا ملكیّة فبامكانه توكیل غیره لاستیفائه.
الوكالة عقد جائز وخاضع للفسخ، أی ان الموكِّل بوسعه عزل الوكیل متى شاء. اذن الوكالة انما تُفترض حینما یكون الشخص ممتلكاً حق التصرف بالاصالة لیقوم عن طریق عقد الوكالة بتفویض الأمر لوكیله وتكون حدود صلاحیات الوكیل بنفس حدود صلاحیات الموكِّل بطبیعة الحال ولیس اوسع من ذلك، هذا أولا؛ وان للموكل عزل وكیله متى شاء ثانیاً.
الذین طرحوا نظریة «وكالة الفقیه» انما فهموا الوكالة بمعناها الحقوقی ومرادهم ان الامة تتمتع بحقوق اجتماعیة خاصة وبتعیین القائد توكل الیه هذه الحقوق، وهذه نظریة طُرحت مؤخراً من قبل البعض على انها نظریة فقهیة، ولا سابقة لها فی تاریخ الفقه الشیعی ولا یُشاهد لها أی اثر فی المصادر الفقهیة المعتبرة.
ان الوكیل من وجهة نظر حقوقیة یمثل عاملَ الموكِّل ونائبه، وارادته تتسق مع ارادة الموكِّل وعلیه تحقیق ارادته، وله الاذن بالتصرف فی حدود الصلاحیات التی یخولها إیاه الموكِّل.
لا ینسجم ما هو مقصود فی النظام السیاسی الاسلامی مع هذه النظریة؛ فبعض الصلاحیات التی یتمتع بها الحاكم الاسلامی لا تخضع لدائرة حقوق الامة أبداً؛ فللحاكم ـ على سبیل المثال ـ صلاحیة قتل انسان أو قطع عضو أو عدة اعضاء من بدنه كحدٍّ أو قصاص أو تعزیر فی ضوء الضوابط الشرعیة، وهذه الصلاحیة التی منحها إیاه الشرع الاسلامی لم تُمنح لعامة الناس، أی لیس لأحد الانتحار أو قطع یده أو رجله؛ ونظراً لعدم امتلاك ای انسان مثل هذا الترخیص فی حق نفسه فلا یجوز له تفویضه أو إیكاله لغیره.
من هنا نستشف ان الحكومة حقٌّ منحه الله للحاكم لا أن الامة منحته إیاه، والمالكیة الحقیقیة للعالم والولایة على المخلوقات انما هی لله وهو وحده الذی بمقدوره ایكال هذا الحق لغیره، والحاكم الاسلامی انما یكتسب ولایته وحكومته باذن من الله سبحانه الذی یأذن لمن ینفذ احكامه كی یتصرف بارواح الآخرین واموالهم.
وبناءً على هذا فان صلاحیات الحاكم لا تتحدّد بإرادة الأمة المفترض انها موكِّلة الفقیه وفق هذه النظریة. ومن ناحیة اخرى فان الحاكم الشرعی علیه العمل طبقاً للاحكام الالهیة بدقة ولیس له التمرد على القانون الشرعی ولا التخلی عن الشریعة لتلبیة ارادة الامة. وعلیه فان دائرة عمل الحاكم یُعینها القانون الشرعی ولیس ارادة الامة، فی حین لو افتُرضَ الحاكم وكیلا للامة فان السیر وفق ارادتها یكون لازماً علیه وتتحدد صلاحیاته بحدود ارادة الموكِّلین، كما ان الامة بامكانها عزل الفقیه متى شاءت فی حین ان تنصیب الحاكم الشرعی وعزله منحصرٌ بید الله سبحانه وحسب.
* * * * *
سؤال: اذا كان الولی الفقیه نائب الامام صاحب الزمان «عج» فی الارض وولی امر المسلمین فی العالم، فلماذا نُظِّم الدستور بنحو یشترط ایرانیة الولی الفقیه واعضاء مجلس الخبراء وغیرهم؟
جوابه: بادئ ذی بدء نقدّم ایضاحاً حول السؤال نفسه: فمراد السائل هو: هل ان ولایة الفقیه منصب على غرار المناصب الحكومیة التی تتحدد صلاحیاتها وواجباتها فی اطار ذلك القطر الذی یحكمونه، أم انها منصب الهی لا تقیده الحدود الجغرافیة؟ لو افترضنا مقبولیة الرأی الأول فلماذا تعتبرون الولی الفقیه ولی أمر المسلمین جمیعاً؟ وإن قبلتم الافتراض الثانی فلماذا یولی الدستور اهتماماً بالحدود الجغرافیة فیما یتعلق بالقوانین ذات الصلة بالقائد واعضاء مجلس الخبراء وغیرهم وكأن القضایا ذاتَ المساس بالقائد منحصرة بایران، فلم تتم الاشارة ـ مثلاً ـ فی الدستور الى عدم اشتراط ایرانیة قائد الجمهوریة الاسلامیة أو ان یكون بعض اعضاء مجلس الخبراء من سائر الدول؟
من الضروری ایراد بعض المقدمات فی معرض الاجابة على هذا التساؤل وهی:
هنالك بعض المذاهب السیاسیة أو الحقوقیة أو الاخلاقیة... الخ تدور نظریاتها بین الكل أو العدم، أی بمعنى اذا ما توفرت كافة الشروط التی ینشدونها فی أمر ما فقد تحققت النتیجة، أما اذا ما توفر ما هو اقل من كافة الشروط فلیس من ثمرة تُجنى، وبعبارة اخرى اننا نشهد حصول النتیجة بتوفر الشروط باجمعها ولن نظفر بالنتیجة مع توفر ما هو اقل من الجمیع.
وللمزید من الایضاح حول هذا الكلام تأملوا هذا المثال من فلسفة الاخلاق لـ
«كانت»: فهو یعتقد بان من لم یكن لدیه أی دافع للعمل سوى الامتثال لأمر العقل والوجدان فان عمله یكون ذا قیمة اخلاقیة، واذا كانت الرغبة فی نتیجة العمل مؤثرة فی نیّته إلى جانب تلبیة أمر العقل ـ على سبیل المثال ـ فلن تترتب على عمله أیة قیمة اخلاقیة، وفی المذاهب السیاسیة أو الحقوقیة هنالك ما یماثل هذه الآراء التی یدور أمر الانسان فیها بین الكل أو العدم.
ولكن حریٌّ القول: ان هذه الآراء لا تمتّ للواقع بصلة، وبما ان الاسلام قد طرح احكاماً ومثلاً واقعیة فی كافة المجالات ولآرائه مراتب ودرجات، فلم یصرّح الاسلام بعدمیة الأمر إن تعذرت النتیجة المثلى تماماً فی واحدة من القضایا، بل یوعز بانجاز ما هو ادنى منها مرتبة، ولغرض ادراك صواب هذا المدّعى بوسعنا الرجوع الى المباحث الفقهیة التی وضعت أمام المكلّف بدلائل متعددة لأمر واحد، والاوضاع المختلفة لاداء الصلاة خلال الظروف المختلفة نموذج على هذا الادعاء، بل هنالك مراتب متعددة لأهم مسألة دینیة وهی الایمان.
یتمثل الانموذج الاسلامی فی نظریة امامة المجتمع وقیادته فی ان یدار المجتمع الاسلامی بقیادة زعیم معصوم كما كان الحال فی عهد النبی الاكرم(صلى الله علیه وآله)، ونحن نعتقد بامكانیة ذلك وسیتحقق عند ظهور الامام الحجة «عجل الله تعالى فرجه الشریف»، بیدَ ان هذا النموذج متعذر عملیاً فی الوقت الراهن لاننا نعیش عصر غیبة الامام المعصوم.
لو اراد الاسلام التعاطی مع قضیة الامامة بعیداً عن الواقعیة لكان علیه رفض شرعیة أیة حكومة فی عصر الغیبة لعدم وجود معصوم یقف على رأس الحكومة الدینیة، لكنه تنبأ لهذه الحقبة وضعاً ادنى وجعل الفقهاء الذین یتوفرون على مواصفات متمیزة حكاماً.
یجمعُ الفقهاء على ان للفقیه الولایة فی الامور الحسبیة حتى مع وجود الحكومات غیر الشرعیة ایضاً، أی حتى لو لم تتوفر لدیه القدرة على ممارسة الحكم على الامة، فعلیه الاضطلاع بهذه الامور والتدخل فیها. ففی عهد النظام الطاغوتی الذی كان وفقاً لرؤیتنا الدینیة نظاماً ظالماً متغطرساً غیر شرعی، كان الفقهاء یعتقدون بوجوب رجوع الامة للمجتهد الجامع للشرائط (حاكم الشرع) فی المسائل التی تتوقف على حكم الحاكم الشرعی، فلو وقع اختلاف ـ مثلاً ـ بین الرجل وزوجته اثناء حیاتهما الزوجیة وارتضوا الطلاق للخلاص من هذا الوضع فعلیهما وفقاً للقانون آنذاك مراجعة أحد المكاتب الرسمیة الخاصة بالطلاق فیوقعان فی دفتر مخصص وبذلك یعتبر الطلاق رسمیاً، بینما یرى الفقه الشیعی وجوب حضور شاهدین عدلین لایقاع صیغة الطلاق، ولذلك كانت العوائل المتدینة تُجری الطلاق عند امام الجماعة أو المجتهد بحضور شاهدین عدلین ومن ثم مراجعة المكاتب الرسمیة لاضفاء صفة الرسمیة علیه.
هذا النمط من تدخل الفقیه لا یحقق الانموذج الاسلامی، لكنه بالنتیجة افضل من عدم تدخله. اذن الاسلام لا یرید للامة ان تختار ما بین الكل أو اللاشیء بل هو وضع مراتب وسطیة أمام المسلمین.
الوضع الأفضل فی ضوء النظریة الاسلامیة هو ان تكون لنا حكومة عالمیة موحدة لا اثر للحدود الجغرافیة فیها، ولكن نظراً لعدم توفر المقومات لتحقق هذا الانموذج فی عالمنا المعاصر هل نصل الى طریق مسدود؟ بالتأكید كلا.
فحیث یتعذر الآن قیادة العالم باسره من قبل حكومة دینیة ما علینا إلا اقامة حكومة دینیة فی هذه البقعة ـ ایران ـ وفی مثل هذه الحالة لیس مقبولا أن یمتد الدستور وغیره من المقررات بنحو یشمل خارج ایران ایضاً، لذا فاذا ما اردنا إقامة
حكومة دینیة فی ظل مثل هذا الوضع علینا ان نحترم الحدود الجغرافیة وتنظیم علاقاتنا مع سائر الدول بما ینسجم مع الاعراف الدولیة، أی ان نتبادل السفراء مع الدول ونحترم المواثیق الدولیة... الخ.
اذن لا یسعنا القول ونحن نعیش هذا العالم: بما ان زعیم حكومتنا هو قائد المسلمین جمیعاً فیجب ان یخضع المسلمون فی سائر الاقطار الاسلامیة لقیادته ایضاً، فذلك مما لا ترتضیه الاعراف الدولیة. واذا ما جاء الدستور بنحو یقیّد الحكومة الاسلامیة فی ایران وقائدها وسائر مؤسساتها بحدود بلد معین فانما للسبب الآنف الذكر، وإلا فالحدود الجغرافیة لا تمثل فی ضوء النظریة الاسلامیة حداً فاصلا بین الدول والشعوب، بل العقیدة هی بمثابة الحد الفاصل واقعیاً بین الناس بعضهم عن بعض.
* * * * *
سؤال: لماذا نطلق على قائد الجمهوریة الاسلامیة اسم ولی أمر المسلمین؟
جوابه: ان النموذج الامثل للحكم فی الاسلام هی الحكومة العالمیة الموحدة بزعامة الامام المعصوم، وفیه تَحل الحدود العقائدیة محل الحدود الجغرافیة وتصبح الدولة الاسلامیة شاملة لكافة المناطق التی یقطنها المسلمون.
و من ناحیة اخرى، فالحكومة الاسلامیة انما تعنی تدبیر شؤون المسلمین على اساس القوانین الدینیة ورعایة مصالح المواطنین، والحاكم باعتباره منفّذ الاحكام الاسلامیة، هو مَنْ تتوفر فیه شروط خاصة بفقدانها أو زوالها تُسلب عنه الاهلیة للحكم.
هذه الشروط عبارة عن: الاحاطة الشاملة والمعمقة بالقوانین الاسلامیّة، والتحلی بالتقوى كضامن لتطبیق احكام الدین ورعایة مصالح المسلمین، والالمام الكافی بالاوضاع الاجتماعیة والسیاسیة، فهذه مقومات من شأنها الاخذ بید المجتمع الاسلامی نحو السعادة مادیاً ومعنویاً.
ان نظرة ـ وان كانت عابرة ـ على ماضی المسلمین وحاضرهم ومعاینة المشاكل وحالات التشرذم والتناحر والتخلف المادی والمعنوی تُنبئ بجلاء عن هذه الحقیقة وهی ان السبب الحقیقی وراء بروز مثل هذا الوضع هو فقدان القاعدة الرصینة التی تمثل محوراً للمجتمع الاسلامی فی قیادة الناس وفضّ النزاعات والحیلولة دون نشوب الفتن وإحباط مخططات الاعداء.
من هنا یأتی تشریع الاسلام لحكومة الولی العادل كعامل یهب السعادة ویصنع الوحدة. وهی التی ینشدها للمسلمین قاطبة، وفی ضوء الحقائق القائمة لا تُشاهد
أیة حكومة اسلامیة فی أیة بقعة من العالم تقوم على اسس دینیة، ونظام الجمهوریة الاسلامیة فی ایران هو النظام الوحید المتبلور طبقاً للنظریة الدینیة فی الحكم، فهذا النظام یتمتع بقاعدة جماهیریة صلبة ورصید عظیم یتمثل ببیعة الامة لقائدها.
الملاحظة الاخرى التی من الضروری التذكیر بها هی: طبقاً للسیرة العقلائیة والمتبنى العرفی لشعوب العالم؛ اذا قامت حكومة فی بلد ما وأعلن اهل الخبرة وابناء العاصمة فیه طاعتهم لتلك الحكومة اذ ذاك تعلنُ سائر المدن والمناطق الراغبة فی صیانة تلك الحكومة عن دعمها لها.
وعلى هذا الاساس یوجد فی الرسائل التی تبادلها امیرالمؤمنین(علیه السلام) مع معاویة سؤال طرحه معاویة یقول فیه: لماذا اطیعك وانا لم ابایعك؟ فاجابه(علیه السلام) قائلا: «إنه بایعنی القوم الذین بایعوا أبابكر وعمر وعثمان على ما بایعوهم علیه، فلم یكن للشاهد أن یختار ولا للغائب ان یرد» أی انكَ كنتَ ترى من سبقونی خلفاء رسول الله ووجوب طاعتهم على المسلمین كافة فی حین لم یبایعهم الاّ اهل المدینة غیر ان هذه البیعة اصبحت سبباً فی وجوب طاعة سائر الناس؛ اذن تجب علیك طاعتی. وهذا الكلام ـ بطبیعة الحال ـ لا یعنی تأییداً یضفی الشرعیة على حكم الخلفاء الثلاثة السابقین؛ وانما هو جدال یستند الى قناعات الطرف المقابل لا غیر.
بناءً على هذا بما ان الاسلام یرید الحكومة لكافة المسلمین وان قوام هذه الحكومة بوجود عالم عادل خبیر بزمانه لغرض تطبیق احكام الدین من ناحیة، وفی ضوء الرؤیة الاسلامیة لیس ثمة حكومة حقٍّ فی العالم یشهدها العصر الراهن سوى الجمهوریة الاسلامیة فی ایران من ناحیة ثانیة، وانها الحكومة الحقّة الوحیدة التی تتمتع داخل عاصمتها بتأیید وبیعة الصالحین من علماء الاسلام وابناء الشعب؛ اذن یتعین على المسلمین جمیعاً الالتفاف حول محور ولایة الفقیه ومؤازرة النظام القائم
على اساسها ودعم عملیة احیاء الحضارة الاسلامیة وتحقیق العزة للمسلمین، وهذا هو ما نشهده الیوم من اعلان الكثیر من الجماعات والشخصیات الاسلامیة فی أرجاء العالم مساندتها وتبعیتها لولی الأمر فی ایران باعتباره ولی أمر المسلمین فی العالم؛ من هنا یأتی اطلاقنا لقب «ولی امر المسلمین» على ولی أمرنا.
ولا یخفى ان هذه التسمیة انما تقوم على اساس نظریتنا الدینیة وتتطابق مع الصیغة الاساسیة للحكومة الاسلامیة ولا تتنافى مع الصیغة الثانویة للحكومة التی تستدعی سنّ دستور فی اطار بلد واحد كایران واحترام القوانین الدولیة فی اقامة العلاقات مع سائر البلدان، لان الصیغتین فی طول بعضهما ولیستا فی عرض بعضهما كی تحصل المنافاة بینهما.
* * * * *
سؤال: لو كانت قد اقیمت، أو تقام فی المستقبل حكومة أو عدة حكومات حقة الى جانب حكومة الحق فی ایران؛ فما هی الصیغة التی ترتأونها یا تُرى؟
جوابه: حریٌ القول فی الاجابة: بالرغم من ان هذا الافتراض لا یتكلم عن حقائق خارجیة فی الظروف الراهنة وهو انما یطرح مجرد افتراض ذهنی، ولكن هنالك على أیة حال صور من الحكم بالوسع افتراضها فی مثل هذه الحالة. وان افضل صیغة حسب اعتقادنا لتحقق حاكمیة الاسلام فی الافتراض الآنف الذكر ـ حیث یتعذر قیام الصیغة الحقیقیة لحكومة الاسلام العالمیة ـ هی صیغة «الاتحاد الاسلامی».
لكی تزداد الصیغة المتقدمة وضوحاً نقدم فی البدایة ایضاحاً حول مفردات «الاتحاد» و«الحكومة الفیدرالیة». فمفردة «الفیدرالیة» انما منشؤها كلمة Foedus التی تعنی «العقد» أو «المعاهدة». والاتحاد انما یتبلور حینما تتفق دولتان مستقلتان أو عدة دول مستقلة على تأسیس دولة جدیدة واناطة الحكم بها، والحكومة الفیدرالیة ولیدة مثل هذا الاتحاد وهی تجمع نمطین من الحكومات هما: الحكومة المركزیة والحكومات المحلیة.
فی الحكومة الفیدرالیة تتولى الحكومة المركزیة اتخاذ القرار والمبادرة فیما یتعلق بالقضایا الرئیسة ذات الصلة بالمصالح العامة أو المشتركة من قبیل الامن، والاقتصاد، والسیاسة الخارجیة وسائر القضایا المهمة، فیما تتولى الدوائر المحلیة أو التشكیلات الاتحادیة القضایا ذات الاهمیة على الصعید المحلی.(1)
1. راجع كتاب «قواعد علم السیاسة»: 338ـ342 لعبد الرحمن عالم.
فی ضوء هذه المقدمة؛ فان الاتحاد الاسلامی صیغة من الحكومة التی تتبلور من خلال مشاركة بلدان ذات حكومات شرعیة وحقّة تتمخض عنها صیغة اتحادیة ذات حكومة مركزیة مقتدرة وحكومات محلیة مستقلة؛ فتتولى الحكومة المركزیة عملیة اتخاذ القرار وتدبیر شؤون المسلمین وفقاً للقواعد الدینیة فی اطار المجتمع الاسلامی ككل، وعبر تنظیمها للقوانین العامة تقوم بتوجیه الاتحاد باجمعه صوب التطلعات المادیة والمعنویة.
ومن جانب آخر یقوم كلٌّ من البلدان المشتركة فی الاتحاد بسنّ القوانین الخاصة به وتدبیر شؤونه مراعیاً بذلك مصالح شعبه مع أخذ الظروف الزمانیة والمكانیة بعین الاعتبار، بالاضافة الى مساهمته فی تطور المجتمع الاسلامی الاكبر وتحقیق اهدافه عبر التزامه بالقوانین العامة للاتحاد وتطبیقها.
وهكذا تتحقق حاكمیة الاسلام سواء على المستوى الاشمل ـ أی المجتمع والاتحاد الاسلامی ككل ـ وعلى مستوى كلٍّ من البلدان المنضویة تحته، وتتحقق الاهداف الفردیة منها والاجتماعیة.
وربما یؤول استمرار هذا النهج ـ قیام حكومة فیدرالیة ـ الى قیام حكومة عالمیة موحدة على أساس النموذج الاسلامی الحقیقی التی من شأنها توفیر المزید من السعادة.
* * * * *
سؤال: ألا یخلق فصل قیادة النظام عن مرجعیة التقلید ـ كما هو مدرج فی الدستور ـ المشاكل أمام الجماهیر؟
جوابه: یرى الاسلام ان فی خلق الانسان هدفاً وحكمةً ویعتقد ان الانسان انما خُلقَ لیبلغَ هدفاً معیناً؛ وهذا الهدف الأساسی یتمثل فی بلوغ الكمال النهائی، أی القرب من الله والتنعّم بالرحمة الابدیة؛ وبما ان نیل مثل هذه الغایة یتعذر دون وجود برنامج معین فلابد من مسلك یتخذه الانسان وسیلة لبلوغ غایته، وهذا المسلك لیس سوى عبودیة الله والتسلیم المطلق لاوامره ونواهیه.
ومن جانب آخر فان الاسلام دینٌ جامعٌ له احكامه ومقرراته سواء على الصعید الفردی أو الاجتماعی من الحیاة، وان توفیر السعادة للانسان منوط بالعمل بالقوانین الفردیة والاجتماعیة.
وحریٌ بنا ان نضیف أن العمل بالاحكام والقوانین الالهیة یستدعی معرفة صحیحة ودقیقة بها، وما لم تُعرف هذه الاحكام بصورة صحیحة فلن نستطیع العمل بها على احسن وجه، كما ان معرفة هذه الاحكام فی غیر ضروریات الدین تحتاج الى عملیة تحقیق تخصُّصیة موسعة ومعمقة ومنهج تحقیقی متمیز ـ وذلك ما یصطلح علیه بـ «الفقاهة» وعلى المحقق والعالم بالاسلام اسم «الفقیه» وعلى العلم الذى یحتضنه اسم «الفقه».
بما ان بلوغ الفقاهة والاجتهاد وبالتالی استنباط احكام الدین استنباطاً صحیحاً یستدعی إفناء سنین طوال فی دراسة شتى العلوم الاسلامیة وجهداً دؤوباً لنیل القدرة على استنباط الاحكام الشرعیة من مصادرها؛ فقد اصبح من الواجب على
طائفة من ابناء المجتمع فی كل عصر القیام بهذه المهمة ووضع ثمار دراساتهم فی متناول الآخرین لیتعرفوا من خلالها على القوانین الاسلامیة ویعملوا بها.
وهذه المنهجیة هی المتبعة فی كافة الاختصاصات الانسانیة، وبناءً على هذا فان الناس وبمقتضى ذوقهم العقلائی یرجعون فیما لا یمتلكون اختصاصاً كافیاً به الى ذوی الاختصاص لیعرفوا ما جهلوا وینظّموا حیاتهم، من قبیل رجوع الناس للمعمار، والمیكانیكی والطبیب... الخ.
وهكذا فانهم یرجعون الى الفقهاء لمعرفة الاحكام الدینیة لیعملوا بها فی حیاتهم بعد معرفتها، من هنا فقد دُرج دینیاً على تسمیة المجتهدین بـ «مراجع التقلید» أی مَنْ یُرجع الیهم فی امور الدین.
وعلیه فان العمل المتمیز لمرجع التقلید هو بیان الاحكام الاسلامیة بصیغة قواعد كلیة فی البعدین الفردی والاجتماعی، غیر انه لا یتحمل مهمة تحدید مصادیق الاحكام، فعلى صعید الاحكام الفردیة تقع هذه المهمة على عاتق الناس انفسهم أی یتعین على الانسان نفسه تشخیص مصداق الحكم ـ من قبیل نجاسة دم الحیوان ذی النفس السائلة، فلیس من واجب الفقیه تشخیص ما اذا كان الحیوان الفلانی ذا نفس سائلة أم لا ـ لكننا على صعید الاحكام الاجتماعیة نحتاج الى منصب رسمی فی المجتمع له شأنه بالنسبة للناس.
وهنا یتبادر هذا السؤال وهو: هل یُمكن الرجوع لأیِّ فقیه لمعرفة الاحكام وتقلیده؟ وهل یُعقد الاَمل بتحقیق حاكمیة الاسلام فی المجتمع عبر بیان الاحكام من قبل الفقهاء فقط؟ واخیراً هل تنحصر مهمة الفقیه فی البیان أم انه یتحمل مسؤولیة اخرى من قبیل التصدی لتنفیذ الاحكام الالهیة ایضاً؟
للاجابة على التساؤلات اعلاه من الضروری الالتفات الى الامور التالیة:
1 ـ الرجوع الى الاعلم
نظراً للاختلاف الحاصل فی وجهات النظر حول بعض المسائل الفقهیة، فان الناس
وبمقتضى حسهم الفطری یتوجهون نحو مَنْ كان یفوق الآخرین حذاقة وشهرة وعلماً أو ما یُصطلح علیه بـ «الفقیه الأَعلم». اذن الاعلمیة شرطٌ واجبٌ للرجوع الى أی فقیه فی الامور الخلافیة.
2 ـ تعدد المراجع ووحدة الولی الفقیه
ربما یتوصل الناس ـ وبعد التحقیق حول الفقیه الاعلم والرجوع الى ذوی الخبرة ـ الى نتائج مختلفة وبالتالی یقلِّد كلٌّ منهم مرجعاً معیناً، وهذه التعددیة فی المراجع لن تخلق مشكلة على صعید الاحكام الفردیة، غیر ان التعددیة فی الآراء فی القضایا الاجتماعیة حیث المدار فیها علاقات الناس فیما بینهم، ستكون مثاراً للمشاكل لاسیما فی القضایا المهمّة والمصیریة ولعلها تتسبب فی حدوث الفوضى بل وحتى زعزعة نظام الحیاة الاجتماعیة، وعلیه من الضرورة بمكان ان تحكم البلاد رؤیة واحدة صادرة من فقیه عارف بالقضایا السیاسیة والاجتماعیة أولا، وله صفة رسمیة ثانیاً، وعلى ان یكون صاحب هذه الرؤیة مشهوداً له من قبل طائفة یُعتد بها من المجتهدین ذوی الخبرة على انه الاعلم فی الامور الاجتماعیة، وهكذا تُتخذ هذه الرؤیة الرسمیة قاعدة لاتخاذ القرار فیما یخص شؤون البلاد ومعالجة المشاكل وتنفیذ الاحكام الاسلامیة.
3 ـ منزلة الولی الفقیه فی الاسلام
انَّ الولی الفقیه معیَّنٌ من قبل الشارع المقدس حارساً للشریعة ومنفذاً للاحكام والقوانین الالهیة وصاحب القرار الاخیر فی المجتمع الاسلامی، وهذا المنصب الشامخ شأنٌ خصَّه الائمة المعصومون(علیهم السلام) بالفقهاء الجامعین للشرائط فی عصر الغیبة، ورغم ان القائد یخوّل بعض صلاحیاته ـ من قبیل القضاء الى رئیس السلطة القضائیة، والتقنین الى مجلس الشورى الاسلامی ومجلس صیانة الدستور ـ
باعتباره المتكفل بضمان اسلامیة القوانین ـ بید ان دوره المهم فی التصدی للانحرافات، والمحافظة على الوحدة وتطبیق الاحكام الدینیة وكذلك اتخاذ القرار بشأن الامور الاستراتیجیة والمصیریة مما لا یمكن انكاره، وهذا أمر یختص به القائد ولیس للآخرین حق التدخل فیه.
4 ـ الاعلمیة فی الامور السیاسیة
الاعلمیة فی الامور السیاسیة والاجتهادیة مفهوم انتزاعی له مقومان مهمان هما:
أ. امتلاك معرفة متمیزة بالاحكام الاسلامیة.
ب. امتلاك معرفة عمیقة بمصالح المسلمین الاجتماعیة والمام تام بالاوضاع السیاسیة والدولیة.
وحیثما حاز فقیه هاتین المیزتین بالاضافة الى العدالة والتقوى والقدرة على الادارة فهو یُقدَّم للولایة والحكم.
5 ـ الالمام بالمصالح الاجتماعیة والسیاسیة
نظراً الى ان اختصاص عمل الولی الفقیه بادارة المجتمع على اساس احكام الاسلام الاجتماعیة والسیاسیة، فهو وإن لم یكن اعلم الفقهاء على صعید الاحكام الفردیة الفقهیة، ولكن بما انه یفوق سائر الفقهاء معرفة بالاحكام والمصالح الاجتماعیة والسیاسیة ستكون له الاولویة للتصدی لقیادة المجتمع الاسلامی.
6 ـ ضرورة امتثال القوانین الحكومیة
استناداً لفتاوى الفقهاء كلما اصدر الحاكم الاسلامی حكماً فانه یجب على كافة المسلمین ومن بینهم سائر مراجع التقلید والفقهاء طاعته، ولیس لأی فقیه ان ینقض حكمه.
وفی ضوء ما تقدم نصل الى نتیجة ان مراجع التقلید هم مرجع الامة فی مجال معرفة الاحكام الفقهیة، والولی الفقیه هو مَنْ یتولى الأمر والنهی واتخاذ القرار فیما یخص الامور الاجتماعیة فی البلاد ومن الواجب تنفیذ أوامره؛ ونتیجة لانفصال دائرة عمل مراجع التقلید عن الولی الفقیه فلن یحصل أی تزاحم، لان الاول یباشر عملیة طرح الرؤى الاسلامیة العامة، فیما یصدر الثانی أوامره لتطبیق الاحكام الالهیة واحیاناً یعمل من خلال سنّ القوانین المتغیرة على تمهید السبیل امام التطبیق العملی للاحكام الثابتة وبلوغ غایات معینة من قبیل تحقیق العزة للمسلمین والعدالة الاجتماعیة، ویرسم السیاسات الضروریة عبر اشرافه الدقیق على حُسن تطبیق الاحكام الاسلامیة.
ومن جانب آخر رؤیة ولی الأمر هی الحكم الرسمی الوحید الذی یحظى بالقبول فی الامور الاجتماعیة، ویحب على الجمیع امتثال الاحكام الصادرة عنه فی الامور السیاسیة والاجتماعیة، واستناداً لما یراه الفقهاء لا یحق لأی فقیه ـ بعد صدور الحكم من قبل الولی الفقیه ـ اصدار حكم آخر فی ذلك الشأن أو نقض حكم ولی الامر.
بناءً على هذا، ان الفصل بین المرجعیة والقیادة لا یثیر أیة مشكلة أو تزاحم فی الفتاوى وذلك لانفصال دائرتی عمل هذین المنصبین، وإن كان للجمع بین المرجعیة والقیادة فی شخص واحد ـ فی حالة تیسُّره ـ فوائده وهو الافضل لاسباب معروفة.
* * * * *
سؤال: این یقف مراجع التقلید فی النظام الولائی وما هو موقعهم بالنسبة للولی الفقیه؟
جوابه: فی البدایة من الضروری تقدیم ایضاح بشأن «مرجع التقلید»، «الافتاء» و«الحكم». ان مرجع التقلید فی قاموسنا هو الفقیه الذى یتمیز بمواصفات معینة، والناس العادیون یرجعون الیه لمعرفة الاحكام الشرعیة، وهو بدوره یبدی وجهة نظره، شأنه فی ذلك كأی متخصص آخر.
ان منزلة وشأن مرجع التقلید واضحة بالنسبة لعامة الناس ومهمته الافتاء، فاذا ما افتى الفقیه الحائز على الشرائط فمثله فی ذلك كالطبیب الذی نراجعه طالبین منه الإدلاء بوجهة نظره حول مرض جسمی فیستجیب. والطبیب فی واقع الامر انما یقوم بعملیة ارشاد وحسب لیعمل المریض بارشاداته ان اراد الشفاء، ولا ولایة أو سلطة له على المریض، وأمره ذو صبغة ارشادیة فقط لا مولویة. ولمرجع التقلید نفس الدور مع مقلدیه.
كما ان الفقیه یدلی بحكم كلّی لدى اصداره الفتوى، فهو یصرّح ـ مثلاً ـ : ما هی شروط صحة الصلاة، وما هی مبطلات الصوم، وأیّ الحیوانات دمه نجس، وحتى على صعید القضایا الاجتماعیة فهو یصرّح ـ مثلاً ـ أیّ الحالات التی تكتسب فیها الحرب الشرعیة، أو ما هی الحالات التی تجوز فیها مشاركة النساء فی الحرب، فهو یطرح احكاماً كلیّة؛ ولكن لیس من مهمة الفقیه بیان ما اذا كان یجب على النساء فی الظرف الراهن المشاركة فی الحرب أم لا، وهذا فی الحقیقة تطبیق لاحكام كلیة على حالات خاصة، اذن مَنِ الذی یُفترض به تحدید الواجب خلال الظروف الخاصة؟ ستأتی الاجابة عن هذا التساؤل.
وهنا تسترعی انتباهنا مسألة اخرى، وهی: ربما یكون لدینا عدة مراجع تقلید فی آن واحد. وبطبیعة الحال فان الادلة الشرعیة وكذلك القریحة العقلائیة تقتضیان بحث كل امرء عن الاعلم بین اولئك المراجع، فمن كان قادراً على تشخیص الاعلم لم تعترضه مشكلة، أما عامة الناس ممن لا قدرة لهم على تشخیص الاعلم فهم یسألون اهل الخبرة ویعد كلام ذوی الاختصاص حجة علیهم.
ان تعدد المراجع واختلاف الفتاوى لا یثیر الصعاب فی الامور الفردیة. افترضوا ان شخصین سافرا معاً واحدهما یتعین علیه اداء الصلاة قصراً استناداً لفتوى المرجع الذی یقلّده، وعلى الثانی اداؤها تماماً طبقاً لفتوى مرجع تقلیده، فلا تحدث مشكلة هنا. أمّا اذا تعددت الفتاوى فی الامور الاجتماعیة فسوف تؤدّی الى الفوضى والاضطراب فی المجتمع. افترضوا ان امرأة ورجلا أزمعا الزواج من بعضهما وأحدهما یقلد من یقول بان الأمر الفلانی شرطٌ فی صحة الزواج فیما یقلّد الآخر مرجعاً لا یرى فی ذلك شرطاً ضروریاً، فما العمل اذا ما وقع الزواج بنحو یكون صحیحاً استناداً لفتوى أحد هذین المرجعین وباطلا فی ضوء فتوى الثانی؟
من خلال هذا المثال البسیط یَتسنى ادراك المشاكل التی تبرز فی حال تعدد المراجع واختلاف فتاواهم على صعید الامور الاجتماعیة المهمة من قبیل الحرب والصلح. اذن ما الذی یتعین القیام به فی الامور الاجتماعیة؟ سرعان ما سنجیب على هذا التساؤل.
الولی الفقیه فقیهٌ یجمع بالاضافة الى الاجتهاد بالاحكام الشرعیة، التقوى والعدالة وادارة شؤون المجتمع والالمام الكافی بشؤون البلاد والعالم واوضاعهما والشجاعة
وبعض الامور الاخرى، لان الولایة وامامة المجتمع شأنها شأن أیّ منصب ومسؤولیة اخرى لها ضوابطها التی ما لم تجتمع لدى شخص فانه لا قدرة له على تبوُّء ذلك المنصب والمسؤولیة. والافتراض المثالی هو ان یكون الولی الفقیه اعلم فقهاء زمانه ویفوق بتقواه من سواه، ویكون أكثر احاطة بمصالح المجتمع، غیر ان هذا الانموذج عادة ما یتعذر تحققه لكن لیس معنى ذلك امكانیة عدم توفر الولی الفقیه على بعض من هذه الشروط، بل علیه احراز حد النصاب منها.
اذا ما تولى فقیهٌ منصب الولایة وامامة الامة اذا ذاك یجوز له تشخیص مصادیق الاحكام الكلیة ومواردها فی كافة الظروف والاحوال اذ یستعین بآراء المستشارین والاخصائیین لاحراز التشخیص الصحیح كأن یعلن عن قطع العلاقات مع بلد معین، أو یُعلن الحرب أو الصلح وما شابه ذلك. اذن اتضحت الاجابة عن السؤال الاول وهو «مَنْ الذی یتولى تحدید مصادیق الاحكام؟»
وفی الامور الاجتماعیة فان رأی الولی الفقیه وفتواه فقط هی التی تمثل الرأی الرسمی فی البلاد، وفی حالات الاختلاف فی الفتاوى یجب الالتزام برأیه فقط والعمل به، أی ان فتوى الولی الفقیه هی القرار الحاسم على صعید القضایا الاجتماعیة حیث من شأنها استئصال النزاع وازالة الفوضى، وبهذا الكلام یكون قد اجیب عن السؤال الثانی ایضاً أی امتثال رأی المراجع المتعددین فی الامور الفردیة ووجوب طاعة الولی الفقیه فی القضایا الاجتماعیة.
یكمن الفرق بین الحكم والفتوى فی ان الفقیه فی مقام الافتاء انما یبین حكماً كلیاً ویُرشد المقلّد إلى رأیه الكلّی فی المسألة من غیر أن یتصدَّى لتعیین المصداق والإلزام بعمل خاصّ، بخلاف الولیّ الفقیه فی مقام إعمال الولایة وإصدار «الحكم» فإنه یركّز على مصداق خاصّ ویدفع الناس للعمل، تأملوا عهد الامام الراحل، ففی
بدایة الحرب اصدر(رحمه الله)أمراً بوجوب فك الحصار عن آبادان، ولم یكن ذلك فتوى منه بل حكماً لا یجوز لسائر الفقهاء نقضه، فقد ورد فی الكتب الفقهیة: اذا اصدر القاضی حكماً فلیس لأی فقیه نقض حكم ذلك القاضی الفقیه، فمن الأَولى یتعین ملاحظة هذه المسألة فیما یتعلق بالولی الفقیه؛ أی اذا ما رأى الولی الفقیه أن من اللازم اصدار حكم ـ بما تقتضیه مصالح الاسلام والمسلمین ـ یخص شأناً اجتماعیاً، فلیس للآخرین مخالفته حتى على افتراض انهم الاعلم منه.
وحریٌ الانتباه الى ان أمر المجتمع لا یستتب ما لم یكن هنالك «حكم» حكومی من الفقیه، فلو قدِّر للامور الاجتماعیة ان تدار فی ضوء فتاوى مختلفة اذ ذاك ستعم الفوضى والاضطراب. من هنا یتعین خضوع ادارة الشؤون الاجتماعیة لمقام واحد.
خلاصة ما تقدم هی:
اولا: فی حالة وجود الولی الفقیه على رأس الحكومة الاسلامیة، فان لمراجع التقلید موقعهم الخاص بهم وبامكان ایِّ فرد من الناس تقلیدهم.
ثانیاً: یجب ان تدار الامور الاجتماعیة تحت اشراف شخص واحد لئلا تسود الفوضى.
ثالثاً: اذا ما اصدر الولی الفقیه حكماً بشأنِ أمر ما فلا یجوز لأی فقیه نقض ذلك الحكم وإن كان اعلمَ من الولی الفقیه من الناحیة الفقهیة.
* * * * *
سؤال: هل كان الامام الخمینی(قدس سره) یؤمن بولایة الفقیه المطلقة، وهل مارس هذه الفكرة النظریة فی مقام العمل؟
جوابه: لابد فی البدایة من بیان جدال الافكار وتضاربها واتفاقها حول ولایة الفقیه المطلقة لیتسنى من خلال ذلك تحری رؤیة الامام(قدس سره) بهذا الخصوص والقاء نظرة صحیحة على سیرته.
الولی الفقیه باعتباره حاكماً وولیاً منصوباً من قبل الله تعالى لقیادة المجتمع والأخذ بیده نحو الاهداف الاسلامیة عن طریق تطبیق القوانین الالهیة لابدّ له من التطرق بالبحث لاقسام القوانین وفق الرؤیة الاسلامیة، ومن ثم علاقة ولایة الفقیه وحدودها فی اطار كل قسم منها.
القوانین فی نظر الاسلام على قسمین: ثابتة ومتغیرة.
القوانین الثابتة: وتشتمل على الاحكام الاولیة والثانویة، وهی تُطلق على القوانین التی لا یحدّها زمان أو مكان وهی ثابتة فی إطار موضوعاتها لا تقبل التغییر الى الأبد، ولیس لأحد حق التصرف فیها، وهذا النمط من القوانین ینقسم الى قسمین: الاول هو المشرَّع من قبل الله تعالى مباشرة، والثانی القوانین التی لم تُشرَّع وتحدّد من قبله تعالى بشكل مباشر، بل انّ الله سبحانه خوَّل نبی الاسلام الاكرم(صلى الله علیه وآله)وسائر المعصومین(علیهم السلام) صلاحیة سنّها وتشریعها، وهو تعالى قد ألهمهم كیفیة تشریعها فی واقع الامر.
القوانین المتغیرة: وتُطلق على الاحكام والقوانین التابعة لظروف الزمان والمكان. ویتم سنّ هذه القوانین من قبل ولی الأمر فی اطار القوانین الثابتة وفی ظل الالتزام
بالاصول والقواعد والقیم الاسلامیة وفی ضوء ضرورات المجتمع الاسلامی ومتطلباته، ویُصطلح على هذه القوانین بـ «الاحكام الحكومیة» أو «الاحكام الولائیة» أو «الاحكام السلطانیة».
طبقاً للرؤیة التوحیدیة وما تقتضیه الربوبیة التشریعیة للحق «جلّ شأنه» فان حق الحاكمیة والتشریع یختص بالاصالة وبالذات بالله سبحانه وتعالى وله أن یأذن لمن شاء وبالقدر الذی شاء بالتصدی لعملیة التشریع والتقنین. وقد مُنح هذا الاذن بشكل تام للنبی الاكرم(صلى الله علیه وآله) والائمة الاطهار(علیهم السلام)، ولكن هنالك اختلافات الى حدٍّ ما بین فقهاء الشیعة فیما یخص «الولی الفقیه»(1)، وهذا الاختلاف فی وجهات النظر هو نفسه الاختلاف المعروف فی مجال «دائرة وحدود ولایة الفقیه» الذی هو موضع بحثنا.
حصر بعض الفقهاء دائرة ممارسة ولایة الولی الفقیه وأمره ونهیه الواجب طاعته على المسلمین فی الحالات الخاصة والمتطلبات الملحة للمجتمع، ولكن فی المقابل ثمة طائفة اخرى ترى هذه الدائرة أوسع مدىً وتعتقد بأن دائرة ولایة الفقیه غایة فی السعة وهی تشمل كافة الشؤون الاجتماعیة ماخلا الامور التی یختص التدخل فیها بالامام المعصوم(علیه السلام).
ولغرض المزید من الایضاح لهاتین الرؤیتین نسوق المثال التالی: ربما یصبح من الضروری توسیع الطرق والشوارع بحیث تتعرض ارواح الكثیرین للخطر ویقع الكثیر من حوادث الاصطدام وبالتالی تلحق خسائر مادیة وبشریة فادحة فی حالة عدم انجازها، ولأجل الحد من حصول مثل هذا الوضع ترى كلتا الفئتین صلاح تدخّل الولی الفقیه وجواز اصداره الحكم بهدم البیوت أو غیرها من البنایات لانجاز
1. لكن اصل ولایة الفقیه من مسلّمات الفقه الشیعی ولم ینكره فقیه قط على امتداد تاریخ التشیع.
عملیة توسیع الممرات والشوارع. أما اذا كانت الغایة من الهدم توفیر المزید من الراحة للناس أو تزیین البلد فان الفئة الاولى تعتقد بعدم مأذونیة الولی الفقیه فی اصدار حكم الهدم؛ بیدَ ان الفئة الثانیة تقول: حیثما كان الأمر یصب فی مصلحة المجتمع ـ وان لم یبلغ مستوى الضرورة ـ فبامكان الولی الفقیه اصدار الحكم ایضاً لضمان مصالح الشعب مطلقاً، كما فی المثال المتقدم فیكون الآخرون مكلفین بانجاز العمل.
ولا یخفى ان ولایة الفقیه المطلقة لا تعنی أبداً التمرد على الاحكام الالهیة وتعطیل حكم الله احیاناً حیثما شاء ولی الأمر كما یروج له بعض الاعداء والمغرضین، وذلك لأن ولی الأمر إنما ینتقل عن الحكم الاولی الى الحكم الثانوی لفترة معینة فی بعض الحالات بسبب احاطته بالفقه الاسلامی والمامه بالمصالح الاجتماعیة، وهو فی الواقع انما یرجع من حكم الى حكم آخر ثانوی وهو من الاحكام الالهیة أیضاً، ولهذا الرجوع ضابطته، ویحتاج إلى إذن وتجویز من الله سبحانه وتعالى ولیس ناجماً عن هوى الولی الفقیه ورغبته، فالحكمة فی جعل ولایة الفقیه هی تنفیذ الاحكام الالهیة وتمهید الارضیة لتطبیق الاحكام الاسلامیة السامیة الرفیعة ولیس ممارسة رغبته الشخصیة واتباع اهوائه النفسیة.
كما تقدم القول ان حق التقنین والتشریع مختصٌ بالاصالة بالله وهو الذی بوسعه ان یمنح أناساً الاذن بالتقنین والحكم على العباد، من هنا فان أی نمط من التقنین وممارسة الامر والنهی على الناس دون اذن من الله یُعد غیر جائز ومرفوضاً استناداً للرؤیة الاسلامیة. بناءً على هذا ووفقاً للرؤیة الدینیة فان قوانین أیة حكومة أو دولة ـ سواءً الدستور أو سائر المقررات ـ انما تكتسب الشرعیة والرسمیة متى ما صادق علیها الولی الفقیه ـ الحائز على الاذن بالحكم والتقنین فی عصر الغیبة نتیجةَ التنصیب الالهی العام ـ بنحو من الانحاء، وهذا أمر مسلَّم به دینیاً وموضع اجماع المؤمنین بولایة الفقیه سواء المطلقة أو غیر المطلقة.
یقول الامام الخمینی(قدس سره):
واذا نهض بأمر تشكیل الحكومة فقیه عالم عادل فانه یلی من امور المجتمع ما كان یلیه النبی(صلى الله علیه وآله) منها، ووجب على الناس ان یسمعوا له ویطیعوا. ویملك هذا الحاكم من أمر الادارة والرعایة والسیاسة للناس ما كان یملكه الرسول(صلى الله علیه وآله)وامیر المؤمنین(علیه السلام)على ما یمتاز به الرسول والامام من فضائل ومناقب خاصة(1)
ویقول ایضاً فی «شؤون وصلاحیات الولی الفقیه» من كتاب البیع:
«... فیكون لهم فی الجهات المربوطة بالحكومة كل ما كان لرسول الله والائمة من بعده صلوات الله علیهم اجمعین ولا یلزم من ذلك ان تكون رتبتهم كرتبة الانبیاء أو الائمة(علیهم السلام) فان الفضائل المعنویة أمر لا یشاركهم(علیه السلام) فیه غیرهم.(2)
وفی نفس الكتاب یقول الامام:
فللفقیه العادل جمیع ما للرسول والائمة(علیهم السلام) مما یرجع الى الحكومة والسیاسة ولا یعقل الفرق، لان الوالی ـ ای شخص كان ـ هو مجری احكام الشریعة والمقیم للحدود الالهیة والآخذ للخراج وسائر المالیات والمتصرف فیها بما هو صلاح المسلمین.(3)
ویقول(رحمه الله) فی موضع آخر:
وعلى ذلك یكون الفقیه فی عصر الغیبة ولیاً للامر ولجمیع ما كان الامام(علیه السلام) ولیاً له.(4)
ویقول(رحمه الله) كذلك فی موضع آخر:
ثم ان المستحصل من جمیع ما ذكرناه ان للفقیه جمیع ما للامام(علیه السلام) الاّ اذا قام الدلیل على ان الثابت له(علیه السلام) لیس من جهة ولایته وسلطنته بل لجهات شخصیة
1. راجع كتاب الحكومة الاسلامیة للامام الخمینی: ص 49.
2. راجع «ما یعتبر فی الولی الفقیه»، كتاب البیع للامام الخمینی: ج 2/466.
3. نفس المصدر: ص 467.
4. نفس المصدر: ص 496.
تشریفاً له، أو دلّ الدلیل على ان الشیء الفلانی وإن كان من شؤون الحكومة والسلطنة لكن یختص بالامام(علیه السلام) ولا یتعدى منه.(1)
كلام الامام(رحمه الله) هذا الذی ینبئ عن رؤیته الشامخة فیما یخص ولایة الفقیه، جاء خلال درس خارج الفقه فی النجف الاشرف لسنوات سبقت انتصار الثورة الاسلامیة، وهو الذی اغضب اعداء الاسلام بشدة ودفعهم لمحاولة اطفاء هذا النور الالهی.
هل مارس معمار الثورة الاسلامیة(رحمه الله) هذه الولایة العظمى عملیاً اثناء فترة حكمه التی استمرت عدة سنوات أم لا؟
الجواب بالإیجاب ونشیر هنا إلى موارد:
1ـ تنصیب المهندس مهدی بازرگان رئیساً للوزراء والحكومة الانتقالیة من قبل الامام الخمینی(رحمه الله).
یقول الامام(رحمه الله) بهذا الشأن: «وحریٌ بی التذكیر مرة اخرى باننی اذ نصّبته فتنصیبی له انما جاء بفضل الولایة التی اتمتع بها من لدن الشارع المقدَّس، واننی إذ نصَّبته فان طاعته واجبة وعلى الشعب اتباعه، فهذه الحكومة لیست حكومة عادیة بل هی حكومة شرعیة یجب اتباعها، ومخالفتها مخالفة للشرع وتمرُّد علیه».(2)
كلام الامام(رحمه الله) هذا بالاضافة الى دلالته على ممارسته(رحمه الله) للولایة المطلقة، فهو یدلل بوضوح على ان ولایته تكتسب شرعیتها من الله سبحانه ومن لدن الشارع المقدس، ومثل هذه الشرعیة لا تُنال من الأُمة واصواتها بل هی حكم الهی كسائر الاحكام الشرعیة من قبیل وجوب الصلاة والصوم والحج... الخ ولیس منوطاً بتصویت الأمة ورأیها.
2ـ التصریح بـ «التنصیب» فی نص الاحكام الصادرة عن الامام(رحمه الله) فی تنفیذ
1. نفس المصدر: ص 496.
2. صحیفة النور: 6/31.
احكام رئاسة الجمهوریة لبنی صدر، والشهید رجائی(رحمه الله) وقائد الثورة الاسلامیة «مُدَّ ظلّه» بالرغم من ان انتخاب رئیس الجمهوریة یتم عبر التصویت العام طبقاً للمادة السادسة من الدستور، واستناداً لما تنص علیه الفقرة التاسعة من المادة العاشرة بعد المائة من الدستور ـ التی تحدد واجبات وصلاحیات القائد ـ فان للقائد الحق فی ان یُمضِی وینفّذ حكم رئاسة الجمهوریة فقط بعد انتخاب الشعب له، بید ان الامام(رحمه الله)وبمقتضى الولایة المطلقة الممنوحة له من لدن الباری تعالى یصرِّح بالاضافة الى تنفیذه احكام رؤساء الجمهوریة هؤلاء: «اننی انصّب هؤلاء» وهذا أبعدُ مدىً من الصلاحیات التی ینص علیها الدستور ویأتی بموجب حقِّه فی ممارسة «ولایة الفقیه المطلقة».
أ ـ حكم تنفیذ رئاسة الجمهوریة لبنی صدر (1358/11/15 هـ .ش)
«بسم الله الرحمن الرحیم: بناءً على انتخاب الشعب الایرانی الشریف وبأغلبیة ساحقة للدكتور السید ابی الحسن بنی صدر لرئاسة الجمهوریة الاسلامیة فی ایران، وبما ان شرعیته منوطة بتنصیب الفقیه الجامع للشروط، فاننی وبموجب هذا الحكم أنفّذ رأی الشعب وانصّبهُ بهذا المنصب، بید ان مصادقتی وتنصیبی هذا وانتخاب الشعب الایرانی المسلم منوط بعدم تخلفه عن الاحكام الاسلامیة المقدسة وإتباعه لدستور الجمهوریة الاسلامیة فی ایران».(1)
ب ـ حكم تنفیذ رئاسة الجمهوریة للشهید محمدعلی رجائی؛ (1360/05/11 هـ .ش)
«بسم الله الرحمن الرحیم: الحمد لله حمداً لا حصر له على سابغات نعمائه ولما وفَّق الیه شعب ایران المؤمن الشریف... وبالرغم من دعایات الاعداء فی الخارج
1. صحیفة النور: 11/260.
والداخل فقد اختار باغلبیة ساحقة تفوق ما قبلها السید محمدعلی رجائی «أیّده الله تعالى» لرئاسة الجمهوریة الاسلامیة فی ایران منیطاً به هذه المسؤولیة الجسیمة والعبء الثقیل، ونظراً الى ان شرعیته منوطة بتنصیب الولی الفقیه فاننی أُنفّذ رأی الشعب وأُنصبه رئیساً للجمهوریة الاسلامیة فی ایران».(1)
ج ـ حكم تنفیذ رئاسة الجمهوریة لآیة الله الخامنئی «مُدّ ظله العالی» (1360/07/17 هـ .ش)
«تبعاً لارادة الشعب العظیم وبعد معرفتی بمكانة ومنزلة المفكر والعالم المحترم سماحة حجة الاسلام السید علی الخامنئی «أیّده الله تعالى» فاننی انفّذ رأی الشعب وانصّبه رئیساً للجمهوریة الاسلامیة فی ایران».(2)
وقال(رحمه الله) فی الدورة الثانیة لتولی سماحة آیة الله الخامنئی لرئاسة الجمهوریة (1364/06/13 هـ .ش):
«تبعاً لآراء الشعب العظیم... أنفذ رأی الشعب حتى نهایة الدورة الحالیة وانصبّه رئیساً للجمهوریة الاسلامیة فی ایران»(3).
3ـ مرسوم الامام الراحل(رحمه الله) بتشكیل مجمع تشخیص مصلحة النظام بتاریخ 1366/11/17 هـ .ش
فی الوقت الذی لم یكن قد ورد نصٌ فی الدستور وفی صلاحیات القائد بشأن وجود مثل هذا المجمع أو صلاحیة تشكیله قبل اعادة النظر بالدستور عام 1368، بید ان الامام(رحمه الله) أصدر مثل هذا المرسوم، وهذا الامر بدوره صورة اخرى من ممارسة الولایة المطلقة.
الملاحظة الجدیرة بالاهتمام التی تبدو للعیان فی هذا الحكم ونظائره ـ كالمورد السابق ـ هی:
1. نفس المصدر: 15/76.
2. نفس المصدر: 15/179.
3. نفس المصدر: 19/221.
ان الفقرات المدرجة فی المادة 110 من الدستور التی تفصّل وظائف القائد وصلاحیاته لیست «من باب الحصر» فی الحقیقة، وانما هی «من باب التمثیل»، وبتعبیر آخر: أن یتم العمل بما جرى بیانه فی الدستور وبهذا الاطار مادام البلد یعیش اوضاعاً عادیة ـ ومن شأن القانون فی الواقع بیان الحالات المتعلقة بالاوضاع العادیة فی كافة المواطن ـ أما اذا طرأت حالة استثنائیة لم تكن متوقعة فی اوضاع البلاد أو إدارته فان القائد وبموجب الولایة المطلقة الممنوحة له من الشارع المقدس بامكانه المبادرة والتدخل لعلاج الازمات وضمان مصالح المجتمع.
على امل ان نبتعد ـ بعد المعرفة الصحیحة والدقیقة لرؤى امامنا العظیم(رحمه الله)المنبثقة عن القرآن والسُّنة ـ عن التفسیرات الذوقیة والمغلوطة لآرائه والسیر باتجاه تحقیق فكره النیِّر بعونه تعالى.
* * * * *
سؤال: ما المراد من قدرة الولی الفقیه على تغییر احكام الاسلام الفرعیة أو تعطیلها؟
جوابه: نحن نعلم ان الله تعالى هو المقنن وفقاً لرؤیتنا العقائدیة، ولیس هنالك مَنْ یقف فی عرضه بالنسبة لامتلاك حق التقنین. اذن كیف یتسنى تفسیر تغییر الاحكام الفرعیة أو تعطیلها على یدی الولی الفقیه؟
حریٌ القول لیس المراد من تغییر أو تعطیل الاحكام الفرعیة على یدی الولی الفقیه ان الحاكم الاسلامی یسنُّ قانوناً جدیداً فی مقابل القانون الالهی أو انه یهمل قانوناً ثابتاً ویعطّله، بل المراد ان للولی الفقیه الاذن باستبدال حكم شرعی بآخر فی ضوء الاوضاع والظروف الاجتماعیة ومراعاة لمصالح الاسلام.
والتوضیح هو ان الولی الفقیه:
أولا: فقیه كامل، أی ذو المام تام بكافة الاحكام والقیم الدینیة ومحیطٌ احاطة تامة بالقواعد والمعاییر الشرعیة.
ثانیاً: یُجید تشخیص مصالح المجتمع الاسلامی اثناء الاوضاع والظروف الزمانیة المتغیرة ویعرف ما هی مصلحة الاسلام والمسلمین فی كل عصر.
فی ضوء هذه الامور یشخّص الولی الفقیه واستناداً لمعرفته بالمبانی الاسلامیة ان الشارع المقدس لا یرتضی تطبیق الحكم الأولی فی ظل هذه الظروف، بل یحبّذ حكماً آخر وهو فی الواقع انما یقدّم الحكم الأهم على المهم. فالكشف عن الحكم الجدید انما هو شأن الولی الفقیه ولیس غیره، اذن بتركه للحكم الشرعی السابق وتطبیق حكم جدید لم یتخلَّف عن حكم الشارع المقدس بل قدَّم حكماً شرعیاً على حكم شرعی آخر مراعاة منه للمصلحة وهذا لیس بالامر الجدید، فهنالك
حالات صرّح بها الفقهاء بوجوب تقدیم حكم على حكم آخر. وكمثال على ذلك: من احكام الاسلام حرمة النظر الى جسد الاجنبیة ولكن اذا ما اضطرت لمراجعة طبیب فبامكان الطبیب معاینة موضع الداء بل لا اشكال فی اللمس ان توقفت المعاینة علیه، فهنا یحصل تزاحم بین حرمة النظر لجسد الاجنبیة وبین وجوب المحافظة على روح المسلمة، وفی مثل هذه الظروف یقدِّم الفقهاء حكم وجوب الحفاظ على نفس المسلمة على حرمة النظر الى بدنها، وملاك التقدیم هو تیقن الفقیه من تعلّق الارادة التشریعیة لله سبحانه فی مثل هذه الحالة بانقاذ نفس المسلم، أی فی حالة حصول تزاحم بین تكلیفین یتعذر اداؤهما فی آن واحد، فان الفقیه هو الذی یحدد ان التكلیف هو انقاذ نفس المسلمة ولیس تجنب النظرة المحرّمة.
وهكذا الحال فی المسألة موضع بحثنا، فاذا ما ترك الفقیه الحاكم حكماً واستبدل به حكماً آخر فتفسیر هذا الفعل ان الولی الفقیه واستناداً للادلة العقلیة أو النقلیة الخاصة یكشف عن الارادة التشریعیة لله تعالى ویعرف بماذا تعلقت تلك الارادة.
* * * * *
سؤال: ما هی القاعدة الفقهیة لعمل مجلس الخبراء فی الفقه الشیعی؟
جوابه: لِنرَ فی البدایة این تكمن شرعیة القائد؟ هل ان شرعیته نازلة من الاعلى ونوع من التنصیب؟ بمعنى ان الله سبحانه وتعالى مثلما نصَّب النبی الاكرم(صلى الله علیه وآله) بادر هو(صلى الله علیه وآله)ومن قبله تعالى الى تنصیب الائمة الاثنی عشر(علیهم السلام) وهم بدورهم كانوا ینصّبون الولاة على المدن حینما كانت لدیهم القدرة على ذلك، وفی عصر الغیبة جرى تنصیب الفقهاء تنصیباً عاماً، أم ان الشرعیة صادرة من الاسفل وفیها نوع من الانتخاب؟
ههنا نظریّة طرحها بعض الفقهاء المعاصرین وهی نظریة «الانتخاب» واستناداً الى هذه النظریة یتم انتخاب الولی الفقیه من قِبل الأمة فی عصر الغیبة، وبهذا التصویت والانتخاب تكتسب حكومته الشرعیة بمعنى ان شرعیة الولی الفقیه تحددها الامة، فهی التی تخوِّل القائد حق التسلط ـ الذی تتمتع به على نفسها ـ عبر انتخابها له. هنالك استنباطات متعددة لنظریة الانتخاب بید ان هذه الاستنباطات باجمعها تتفق على ان الامة هی التی تنتخب الولی الفقیه ولها تأثیر بنحو ما على شرعیته بحیث تفقد ولایة الفقیه شرعیتها لولا الامة، أی لیس فقط تفقد شعبیتها وانما تفقد شرعیتها ایضاً.
ان لكلٍّ من نظریتی الانتخاب والتنصیب تأثیرهما على عمل الخبراء، فمن كان یعتقد بان الامة هی التی تضفی الاعتبار والشرعیة على القائد بانتخابها إیاه، فالامة فی مثل هذه الحالة هی التی تنتخب الخبراء وهم بدورهم ینتخبون القائد نیابة عن الامة، بمعنى انهم یضفون علیه الشرعیة، وكأن الامة فی هذا الافتراض قد
استودعت الخبراء أمانة وهم كأمناء للامة یستودعون هذه الامانة لدى القائد، إذن دور الخبراء یتمثل فی التوسط وایصال الشرعیة التی تضفیها الامة على الولی الفقیه.
ینبغی الالتفات الى هذه النقاط:
اولا: ان هذه النظریة تفتقد الاساس الفقهی أی ان أیّاً من الفقهاء الماضین لم یطرح أو یقبل بمثل هذه النظریة.
ثانیاً: ان شرعیة الحكومة استناداً لهذه النظریة انما تُمنح من قبل الامة للفقیه فی حین ان الامة لا تمتلك حق الحاكمیة من الاساس حتى تعطیه لأحد، فقد جرى البحث بالتفصیل فی محلّه بان شرعیة الحكومة وفقاً للنظریة العقائدیة فی الاسلام یحب ان تُمنح من قِبل الله، وهذا التخویل جاء بشكل تنصیب خاص فیما یتعلق بالانبیاء والائمة المعصومین، وتنصیب عام بشأن الفقیه الحائز للشروط.
ثالثاً: لو اقتنعنا بان الامة هی التی تمنح الحاكم الشرعی شرعیته، فثمة سؤال یثار هنا وهو: بما ان الامة باجمعها لا تقوم بانتخاب الحاكم الشرعی وانما الاغلبیة هی التی تنتخبه، فما هو تكلیف الاقلیة یا تُرى؟ وأیة شرعیة تتمتع بها حكومة الحاكم الاسلامی علیها؟ باختصار، المؤاخذات التی تثار بشأن النظام الدیمقراطی هی ذاتها تثار بشأن هذه النظریة.
وهی المشهورة بین فقهاء الشیعة ونحن بدورنا نؤیدها ایضاً، وان بعض كلمات الامام(قدس سره) تصرِّح بـ «التنصیب» ایضاً من قبیل قوله «... فتنصیبی له رئیساً للوزراء انما جاء بفضل الولایة التی اتمتع بها من لدن الشارع المقدس، واننی اذ نصّبته فان طاعته واجبة»(1) وقد اشار(رحمه الله) الى نظریة التنصیب ایضاً فی كتابه «الحكومة الاسلامیة» وسائر البحوث والكتب.
1. صحیفة النور: 5/ 31 و34.
ان دور الخبراء فی ضوء نظریة التنصیب یتمثل فی الحقیقة بالادلاء بالشهادة وتشخیص القائد. أی ان الافتراض یتمثل بتنصیب الفقیه الاصلح من قِبل إمام الزمان(علیه السلام) فی كل عصر لادارة المجتمع الاسلامی بصورة عامة، ولا مناص ـ وفقاً للادلة الشرعیة وما یقتضیه الذوق العقلائی ـ من الاستعانة بالخبراء لتشخیص المصداق لهذا العنوان العامّ (الفقیه الأصلح).
ان الذوق العقلائی هو قاعدة الحیاة الاجتماعیة على صعید كافة شؤون الناس، فلیس هنالك من یمتلك الخبرة فی كافة شؤون الحیاة، ولابد من تقلید الآخرین فی جانب منها، فعلى سبیل المثال یتعین على الجمیع مراجعة الطبیب حین المرض والالتزام بما یراه، بل حتى الاطباء ربما یراجعون غیرهم من الاطباء ذوی الاختصاص فی بعض الحالات.
اذن قاعدة الحیاة الاجتماعیة والعقلائیة للناس انما تقوم على هذا المبدء ولولاه لاختل النظام الاجتماعی.
وفیما یتعلق بتشخیص القائد فان الفقیه الاصلح جرى تنصیبه من قبل الشارع المقدس، ولكن بما ان الامة لا تعرف شیئاً عن الفقاهة ولا قدرة لها على احراز الشروط الواجب توفرها فی الولی الفقیه، فهی ترجع وبمقتضى ذوقها العقلائی الى ذوی الخبرة.
بالرغم من ان قضیة الحاكم الاسلامی لم تكن محطَّ اهتمام أثناء حكم النظام الطاغوتی، بید ان الناس كانوا یتبعون هذا الاسلوب لتشخیص مرجع التقلید، أی حینما یتوفى مرجع التقلید وقد بلغ شخص سن التكلیف واراد العمل وفقاً لاحكام الدین وازمع السؤال عن مرجع التقلید الاعلم، كان من الطبیعی ان یتوجه الى عالم المحلّة، واذا كان فی قریة تخلو من عالم مشهور فهو یتوجه الى المدینة أو مركز
المحافظة مستقصیاً حتى یطمئن بانه قد عثر على الاصلح، ولم تكن ثمة حاجة لتعلیم الناس بان علیهم السؤال من اهل الخبرة لمعرفة الاصلح، بل انهم كانوا یفعلون ذلك بدافع ذوقهم العقلائی.
وكذلك فی الوقت الحاضر فان حكم الولی الفقیه هو السبیل الوحید لحل المشكلات التی یواجهها النظام مع فارق ان الامة یومذاك لم تكن تواجه مشكلة فی امورها الشرعیة فی حال عدم رجوعها لمرجع واحد. افترضوا ان شخصین سافرا معاً ویرى احدهما ان تكلیفه القصر فی الصلاة أما الآخر فتكلیفه اتمام الصلاة فلن تبرز مشكلة حتى وإن كانا أخوین، ولا تطرأ أیة مشكلة ایضاً حتى وان كان هنالك اختلاف فیما یخص النجاسة والطهارة أو غیرهما من المسائل.
بید ان تعدد الفتاوى بشأن القضایا الاجتماعیة من شأنه افراز المشاكل وثمة حاجة لحكم رسمی معتبر یَرتضیه المجتمع، وكمثال بسیط على ذلك الزواج، فاذا ما افتى فقیه فی ظل ظروف خاصة بصحة الزواج فیما افتى فقیه آخر بخلافه، فلا یسع المرأة فی هذه الحالة القول لزوجها: انا اعمل وفقاً لفتوى المجتهد الذی أُقلده واعمل انت وفقاً لفتوى المجتهد الذی تقلده! فلابد من وجود شخص یرتضیه الاثنان ویعملان وفقاً لفتواه.
وكذا فی المسائل السیاسیة فلابد من أن ترتضی غالبیة الامة مَنْ یبدی وجهة نظره فی القضایا العامة للمجتمع، فلو تفرق الناس فی مثل هذه الحالة وكلٌ عمل بفتوى المرجع الذی یقلّده اذ ذاك سیختل النظام الاجتماعی. بناءً على هذا من الضروری ان نبذل قصارى جهودنا للوصول الى شخص واحد لضمان مصالح المجتمع الاسلامی وإلا ستعمّ الفرقة، اذ ان الواجب الاساس للحاكم الاسلامی والولی الفقیه المحافظة على وحدة الامة الاسلامیة وضمان مصلحتها.
بناءً على هذا اتضحت ضرورة الرجوع المنظّم للخبراء، وقد صیغ نظام ذلك فی بلادنا بهذا النحو حیث یؤید مجلس صیانة الدستور اهلیة المرشحین الحائزین للشروط، ویقوم الشعب بانتخابهم. فیُقبل الذین یحرزون اكثریة الاصوات اعضاءً فی مجلس الخبراء، وهؤلاء بدورهم ومن خلال نقاشاتهم المسؤولة یقومون بتشخیص من كان یفوق الآخرین جدارة باحرازه للشروط الضروریة لقیادة الامة الاسلامیة وتقدیمه للامة، وحینما شهدت الاغلبیة الساحقة من الخبراء على اصلحیة شخص ما یكون قد تحقق اعلى مستوىً من الظن المفید للاطمئنان بالنسبة للناس ولم یعد هنالك مجال للشبهة، فالعقلاء یرون مثل هذا الظن معتبراً ویحترمونه.
نظراً الى ان المثال السابق بمثابة افضل نموذج یستطیع الانسان من خلاله ان یفهم تأثیر شهادة الخبراء فاننا نستعین به مرة اخرى. افترضوا ان شخصاً اصیب بمرض عضال واخذ یبحث عن طبیب اكثر مهارة ممّن سواه، فاذا ما شهد ثمانون أو تسعون بالمائة من الاطباء الذین هم ذوو اختصاص بان الطبیب الفلانی اكثر منا علماً ومهارة لم یعد أمام ذلك المریض من شك بان علیه مراجعة ذلك الطبیب.
وهكذا الحال فیما یخص القائد، فاذا ما شهد الخبراء المختصون بمعرفة المجتهد بان هذا الشخص یفوق من سواه صلاحاً وعلماً فان شهادتهم تفید الیقین، وذاك ما حصل بشأن قائد الثورة الاسلامیة بعد رحیل الامام(قدس سره).
والخلاصة ان القاعدة الفقهیة لتشخیص القائد هی سیرة العقلاء حیث درج الناس على السؤال من الخبراء وذوی الاختصاص لغرض الرجوع للمتخصص الاصلح والاعلم، وهنالك مؤیدات جمة من الادلة الشرعیة وسیرة المتشرعة تؤید هذه السیرة.
* * * * *
سؤال: ما هو موقع مجلس الخبراء وما هی وظائفه؟
جوابه: بعد القبول بأصل «ولایة الفقیه» ینبغی تشخیص كیفیة تعیین القائد والولی الفقیه. وهنا یصبح من الضروری وجود الخبراء العارفین بالقائد تحت عنوان مجلس الخبراء.
من الواضح ان منصب القائد یتمیز باهمیة خاصّة فی النظام الحكومی فی الاسلام، بنحو لو لم یقف الولی الفقیه على رأس الحكومة الاسلامیة فانه ستزول الصبغة الاسلامیة عنها. اذن فالخبراء بما یتخذون من قرار وبتشخیصهم للقائد انما یحولون دون بروز فراغ فی القیادة، ولهذا فهم یحتلون منزلة مرموقة؛ وان الاوضاع والظروف التی مرّ بها الوطن الاسلامی بعد رحیل الامام(قدس سره)وانتخاب سماحة آیة الله الخامنئی للقیادة فی غضون اقلّ من اربع وعشرین ساعة شاهد صدق على اهمیة مجلس الخبراء وموقعه المتمیز فی النظام الاسلامی.
المهمة الاساس للخبراء انتخاب القائد أو عزله، أی اذا ما عجز القائد عن اداء مسؤولیاته بشكل جید بسبب شیخوخته أو غیر ذلك من الحوادث، أو ابتلائه بالنسیان، أو فقدانه المؤهلات الأخلاقیة، ففی مثل هذه الحالة یتعین على الخبراء المبادرة لعزله، ولو ان القائد افتقد العدالة والتقوى أو سائر الشروط فانه یُعزل تلقائیاً، بید ان تشخیص هذه الحالة والاعلان عنها یتم عن طریق مجلس الخبراء لانه یمثل جهة رسمیة.
المهمة الاخرى لمجلس الخبراء الاشراف على عمل القائد لئلا ینتهی الامر الى عزله، ومجلس الخبراء ینجز مهمة الضبط والاشراف عبر تشكیله «لجنة التحقیق»،
اذ ربما یطرأ حدث بنحو تدریجی احیاناً، من هنا یتسنى المباشرة من النقطة التی یُحتمل وقوع الخطأ فیها فتتوفر امكانیة سدّ منافذ الخطأ.
بناءً على هذا فان لجنة التحقیق تحول دون ان یطرأ الخطأ فی اعمال القائد مستندة فی ذلك الى قاعدة «ما یجب رفعه بعد وقوعه یجب دفعه قبل وقوعه».
والمهمة الثالثة لمجلس الخبراء هی تشكیل لجنة تتولى القیام بدراسة دقیقة وجادة لمن لدیهم القدرة على النهوض بولایة أمر المسلمین لیُعرف من یتمتعون بشروط التصدی للولایة فیتم التعجیل بانتخاب الاصلح للقیادة من بین مَنْ جرى تشخیصهم فی حالة وفاة القائد أو عزله من منصبه بسبب فقدانه الشروط.
* * * * *
سؤال: فی نظریة الانتخاب، یكون الخبراء فی الحقیقة وكلاء الامة لانتخاب القائد، فهل هم وكلاء الامة ایضاً للشهادة على الاصلح فی نظریة التنصیب؟
جوابه: لیست هنالك وكالة فی نظریة التنصیب، والخبراء انما یتم انتخابهم لتحاشی وقوع الاختلاف، كالذین یزمعون اجراء معاملة حول ملك، اذ یتعین علیهم التوافق حول المتخصصین فلربما هنالك العشرات من المتخصصین ولكن لابد للطرفین من الاتفاق على اثنین منهم، وهذا الاتفاق على المتخصصین هو عینه فی الحقیقة انتخاب الخبراء، أی نحن ننتخبهم لیدلوا بشهادتهم حول المرشح الاصلح، اذن الامة انما تنتخب مَن یتمتعون باهلیة الشهادة لئلا یقع الاختلاف فی الشهود.
* * * * *
سؤال: مع ایٍّ من نظریتی التنصیب والانتخاب یكون تشكیل مجلس الخبراء اكثر انسجاماً؟
جوابه: لم یرد تصریح فی الدستور عمّا اذا كان تشكیل مجلس الخبراء قائماً على اساس نظریة الانتخاب أم نظریة التنصیب، ولكن هنالك قرائن تفید ان تشكیل مجلس الخبراء یقوم على اساس نظریة التنصیب.
فی ظل الانظمة الدیمقراطیة یعترضنا الدور والتسلسل، وللایضاح فان الشعب وقبل توجهه للتصویت فی انتخابات رئاسة الجمهوریة أو البرلمان أو للاستفتاء على الدستور أو غیر ذلك، هنالك قوانین تدوَّن مسبقاً لهم دون استطلاع رأی الشعب بشأن هذه المهمة، فعلى سبیل المثال ان سنّ المنتخِبین وجنسهم وسائر الشروط التی توضع قبل الانتخابات باجمعها افتراضات مسبقة من خلالها تشارك الجماهیر فی الانتخابات، وهذا الدور والتسلسل مشكلة قائمة فی الانظمة الدیمقراطیة بالعالم. إن أیّة شبهة یثیرها الغربیون حول قبولنا للشروط المسبقة انما ترد بصورة أشد على النظام الدیمقراطی.
اننا نعالج هذه المشكلة عبر نظریة «التنصیب»، فاذا ما آمنا بهذه النظریة فان مشكلتنا تُعالج بسلسلة الشرعیة، لاننا نصل فی النهایة الى مقام یرقى على الأُمة، وفی هذه الحالة لن نقول: بناءً على أی قانون فعل الشعب هكذا؟ ولا نعترض اذا ما عیَّن القائد شخصاً ما. أما اذا رفضناها فان ذات الشبهة التی ترد على سائر الانظمة الدیمقراطیة سترد على نظریة الانتخاب.
ان القائد ینتخب شخصیاً بعض المناصب المهمّة؛ فهل یتلاشى دور القائد وولی الأمر فی التنصیب ویناط بذوی الاختصاص فی كل مسلك فی حالة قبولنا بنظریة الانتخاب بصیغتها الآنفة الذكر؟
فی طریقة الانتخاب غیر المباشر والمتعدد المراحل ـ وهی باعتقادنا طریقة صحیحة ـ تتخذ كافة هذه ]المناصب [شكلا هرمیاً یتدرج الى اعلى منصب تنفیذی هو رئیس الجمهوریة الذی یكتسب شأنه بتنصیب القائد له. فعندما یمضی القائد هذا النظام ویشرف علیه من الاعلى فان الشأن المعنوی والشرعی لكافة المناصب سیأتی من الاعلى.
ان القائد ونظراً لعدم معرفته بكافة مدراء البلدیات والقضاة والمسؤولین وتعذر تشخیصهم كلا على حدة بالنسبة الیه فلابد اذن من ان یستعین بوجهات نظر الآخرین. وعلیه فان الشعب هو الذی یُصمم ویُعِدّ نظامه غیر ان هذا النظام یبقى فاقداً للروح، والقائد بامضائه لهذا النظام یمنحه الروح ویجعله جاهزاً للتطبیق.
بهذا النظام لا یمس نظریة التنصیب بأی ضرر ویبقى دور الجماهیر فی كافة الشؤون السیاسیة والاجتماعیة مصاناً، وهذا نظام له مبناه العقلی والشرعی لان كل فرد یكون قد ادلى برأیه بقدر ما یتمتع به من فهم واهلیة ولیس بما یفوق فهمه وأهلیته. اذن فهو مقبول من قبل الشرع وله اعتباره من الناحیة العقلیة ایضاً، وایما نظام فی العالم كان الاقرب بایّ قدر كان الى هذا النمط من العمل كانت له القدرة على حلّ مشاكل المجتمع على احسن وجه.
* * * * *
سؤال: هل یُمكن إحالة مسؤولیات الخبراء الى الأُمة؟
جوابه: بالرغم من عدم تصریح الدستور بان ولایة الفقیه تقوم على اساس نظریة التنصیب بید ان ثمة قرائن تدلل على القبول بهذه النظریة، ولقد كان مفاد المادة السابعة بعد المائة «اذا ما عُرف أحد الفقهاء الحائزین على الشروط المذكورة فی المادة الخامسة من هذا القانون وبویع للمرجعیة والقیادة من قبل الاغلبیة الساحقة من الشعب...» فقد حُدد هنا أن اذا ما بایع الشعب باغلبیته المرجع والقائد اضحت قیادته شرعیة ومقبولة ولم تعد هنالك من حاجة الى ذوی الخبرة والاختصاص وذاك ما حصل بالنسبة للامام(قدس سره).
هذا الافتراض نادر الحصول على صعید القضایا الاجتماعیة، فلابد من قیام ثورة لها من الجهود والتاریخ والمقدمات ما یمتد ثلاثین عاماً كی یتسنى للامة اختیار القائد الاصلح، فمن الیسیر افتراض هذا الامر فی مثل هذه الحالات، لكنه لیس سهلا على الدوام. ومن الطبیعی ان عدد المرشحین الذین یتم انتخابهم لمنصب القیادة سیزید على الواحد فی الظروف والاوضاع الطبیعیة ولا مناص من القیام بعملیة مفاضلة بینهم وتتولى جهة رسمیة الاعلان عن هذه المفاضلة.
فاذا ما خولنا الامة القیام بهذه المفاضلة فان عملها لا یفرز الیقین إن هی بادرت الى اختیار شخص ما نظراً للاختلاف بینها أی فقدانها الیقین، ولربما ـ بالطبع ـ تشخص الامة احیاناً بنفسها وبصورة مباشرة أو غیر رسمیة شخصاً ما وتتفق كلمة الامة باجمعها أو غالبیتها بشأنه، غیر ان قیمة الرجوع الى رأی الامة فی غیر هذه الحالات اقل شأناً بكثیر عن رأی الخبراء لأن محل هذا العمل كالسؤال من عابری السبیل والمتجولین فی الاسواق لمعرفة الطبیب الماهر والاصلح، ومن ثم نبادر للعمل بما تقوله الاغلبیة من الناس، فهل هذا هو الطریق الافضل الذی یوصلنا الى
الحقیقة أم اذا ما رجعنا الى الاسرة الطبیة (نقابة الأطباء) وسألناهم أن یشخصوا لنا أَمهر الاطباء؟ من المسلَّم به ان الرجوع الى المتخصصین والاطباء هو السبیل الانجع. فاذا ما اعتبرنا انتخاب القائد وولی الأمر شأناً دینیاً فلابد ان نمتلك أقوى الادلة امام الله سبحانه وتعالى.
لو أردنا تحدید دور الامة وفقاً لنظریة التنصیب وقلنا بحلول الامة بدلا عن الخبراء فی التصدی لهذا الدور، فهل هذا العمل هو الاصح یا تُرى؟
یبدو ان هذا العمل بعید عن الواقع؛ اذ یرى العقلاء أن اذا ما شخّصنا المهرة والامناء من الاطباء فی البدایة ومن ثم بادر هؤلاء لانتخاب الاصلح من بینهم فذلك مما یبعث على الثقة وهو الاكثر تعقلا، فنحن نعلم ان فی البلد من الاطباء مَنْ عرفنا صدقهم وصلاحهم خلال معاشرتنا لهم، ومن السهل على الشعب القیام بمهمة انتخاب مثل هؤلاء الاطباء لیقوموا بدورهم بانتخاب الافضل والاكثر مهارة من بینهم، واذا ما حصل مثل هذا الانتخاب یكون مبعث اطمئنان بالنسبة للناس.
مثل هذا الانتخاب من قبل الشعب ـ انتخاب المتخصصین الملتزمین ـ لیس بالامر الصعب، بید ان انتخاب الاصلح والاعلم من بین حشود ذوی الخبرة والاختصاص وبغالبیة الاصوات لهو أمر دقیق وتخصصی.
لو طبِّق مثل هذا النمط فی انتخابات رئاسة الجمهوریة وسائر الانتخابات ایضاً فهو الاسلم بنظرنا، ومن المناسب كثیراً اذا ما استطعنا اتباع نظام انتخابی یتم بموجبه تشخیص ذوی الاختصاص تدریجیاً وانتخاب الاصلح من بینهم، فبمقدورنا القیام بذلك فی كافة المجالات وهو یسیرٌ حتى على صعید انتخاب رئیس الجمهوریة والوزراء والقضاة وكافة مسؤولی البلاد، غیر انه من الصعوبة بمكان تغییر نمط الانتخابات فی ظل الظروف والاوضاع التی نعیشها ـ لاسیما وقد تفشّت الثقافة
الغربیة فی مجتمعنا ـ.
ان فی بلادنا عیناً باصرةً ثاقبةً یقظة تعلو رئاسة الجمهوریة وسائر المؤسسات وهی التی نعوِّل علیها كثیراً بعلاج الاشكالات الناجمة عن الانتخابات بنمطها الغربی الى حدٍّ كبیر؛ أی اذا ما حصلت أخطاء فی المناصب الدنیا فهی مما لا یعتد بها بسبب اشراف تلك الجهة العلیا.
لكنّ الاسلم فی ضوء المبادئ الاسلامیة ان تكون انتخابات سائر المناصب متعددة المراحل أیضاً على ان یدلی كل شخص بشهادته فی المجال الذی له الاهلیة على التشخیص فیه ویكف عن الادلاء بشهادته ورأیه فی الموضوع الذی لا اهلیة ولا تخصص له فیه، ومن المسلّم به ان مصالح المجتمع ستُضمن على افضل وجه فی مثل هذه الحالة وهو أمر عقلائی بكافة ابعاده واكثر انسجاماً مع الموازین الشرعیة، غیر انه صعبٌ نوعاً ما ولیس لدى مجتمعنا الاستعداد لتطبیقه فی الوقت الحاضر.
* * * * *
سؤال: ألا یُمثل انتخاب الخبراء لتعیین القائد نوعاً من العقد الاجتماعی؟
جوابه: ان التعبیر بـ «العقد الاجتماعی» تعبیر شائع فی العالم الغربی وله مبانیه الخاصة به والآثار المترتبة علیه، فاذا ما اراد اثنان القیام بمعاملة فان اتفاقهما على صاحب الاختصاص بمثابة الاعلان عن قبولهما له، ولا ضیر اذا ما اطلق امرؤٌ على هذا الاتفاق اسم «عقد» ولكن لیس بمعنى ان الامة باتفاقها انما تضفی الشرعیة والاعتبار على رأی الخبراء، بل بمعنى انها ترتضی رأیهم.
* * * * *
سؤال: ألا تشابه الانتخابات على مرحلتین نظریة «أهل الحل والعقد» فی النظام السیاسی لاهل السُّنة؟
جوابه: ما یقوله اهل السُّنة فیما یخص «اهل الحل والعقد» انما هو لتعیین الخلیفة فقط، أما الانتخابات غیر المباشرة والمتعددة المراحل التی نعنیها فهی نظریة اكثر شمولیة یمكن تطبیقها على صعید كافة المناصب ابتداءً من رئیس الجمهوریة ومروراً بالوزراء والقضاة وانتهاءً برؤساء البلدیات وكل من یرید تصدّی أی منصب من المناصب، أی یتعین على المتخصصین فی كل صنف انتخاب الاصلح طبقاً لهذا النمط.
والطریقة المقترحة لتشخیص وانتخاب الافضل لكل عمل هی كالتالی: فی البدایة ینتخب الناس ثقاة المحلّة وذلك لمعاشرة الناس إیاهم على مدى سنین طوال ومعرفتهم بمواصفاتهم، ثم یقوم هؤلاء الثقاة بتشخیص ذوی الاختصاص لانهم موضع ثقة الناس ولا ینطقون شططاً، ومن ثم یبادر المتخصصون انفسهم الى تصنیف الاشخاص من حیث التخصص والمهارة والالتزام واهمیة العمل والاعلان عمّن تتوفر فیهم الافضلیة. إذن یُنَصَّب من حازوا اعلى المراتب فی الاعمال التی تحتل المرتبة الاولى من الاهمیة من قبیل ان یحرز وزیر الاسكان المرتبة العلیا فی اعمال الاعمار وبناء المدن ویلیه المدیر العام للاسكان فی المحافظة وهكذا المناصب الدنیا.
* * * * *
سؤال: فی ضوء صلاحیات الولی الفقیه؛ ماذا یُصنع اذا ما تزامن حلُّه لمجلس الخبراء وعزل مجلس الخبراء له؟
جوابه: لا یثار هذا السؤال بشأن الولی الفقیه ـ فی ضوء صلاحیاته ـ ومجلس الخبراء فقط، بل انه یثار حول أیة حالة تقوم فیها قوتان لكلٍّ منهما القدرة على حلّ الاخرى، ففی البلدان التی یحق لرئیس الجمهوریة حلّ البرلمان ـ مثلاً ـ یتبادر السؤال بان لو حلَّ رئیس الجمهوریة البرلمان وفی تلك الاثناء عزل البرلمان رئیس الجمهوریة، فما الحیلة وقرار أیهما هو النافذ؟
لكن هذا الاشكال لا یرد بحق الولی الفقیه ومجلس الخبراء لان مجلس الخبراء انما یعلن عن عزله للقائد وعدم اهلیته للقیادة متى ما اطمأن مسبقاً بان القائد قد فقد اهلیته، فعلى سبیل المثال اذا ما شخَّص الخبراء ان القائد فقدَ عدالته أو رؤیته الفقهیة أو القدرة على ادارة القضایا الاجتماعیة اذ ذاك یعلنون عن عزله، من الواضح عدم حصول عزله عن الولایة والاعلان عن عدم اهلیته من قِبل الخبراء قبل حصول الاطمئنان بفقدانه الاهلیة. اذن عزل القائد انما هو امرٌ محرزٌ مسبقاً لدى الخبراء یُعلن عنه لاحقاً.
بناءً على هذا اذا ما اقترن اعلان مجلس الخبراء عن فقدان القائد اهلیته مع حلِّ القائد لمجلس الخبراء فلا تأثیر لحلّ القائد مجلس الخبراء، وذلك لان القائد اصبح معزولا تلقائیاً قبل اعلان مجلس الخبراء بسبب فقدانه الشروط.
هذا الأمر احدى مفاخر نظام الحكومة الولائیة حیث یكون عزل وتنصیب الحاكم الشرعی من قبل الله وارتكاز حاكمیته على التقوى، وعلیه فاننا قلیلا ما نواجه
المشكلات التی ربما تعترض الحكومات فی هذا المجال، اذ ان شرعیة الحكومة الاسلامیة مستمدة من الله جلّ وعلا وشعبیتها من الجماهیر.
ربما یوجد هنالك من یدَّعی عدم وجود فارق بین الشرعیة الالهیة والقبول الشعبی، ولكن ینبغی الالتفات إلى هذه الحقیقة، وهی أننا اذا ما قلنا بان شرعیة الحاكم من الله فان هذه الشرعیة تبقى ببقاء كافة الشروط لدى الحاكم وفی حالة فقدانه لایٍّ منها فهو یسقط من منصبه تلقائیاً شرعاً، سواء اطّلع احدٌ على فقدان الشروط أم لا، بینما اذا ما اطلع الناس على فقدان حاكمهم لتلك الشروط وقرروا عزله فان ذلك یقع فی حالة فقدان انصار الحاكم للاكثریة وعدم ترجیحهم مصالحهم الفئویة على مصلحة المجتمع، وهذا ما لا یحصل عادة.
* * * * *
سؤال: حدثونا عن تاریخ العلمانیة وخصائصها ودوافع ترویجها
جوابه: العلمانیة اتجاه فكریٌّ له معالمه منها فصل الدین عن الدولة، وتبلور الدولة على اساس وطنی، والتقنین وفقاً لارادة البشر؛ والتركیز على الشؤون المادیة، وسیادة العلوم التجربیة بدلا عن العلوم الالهیة.
بناءً على هذا فان العلمانیة تركز على انفصال دائرة الدین عن السیاسة، ویُعتبر الدین فی هذا النظام أمراً فردیاً رسالته بلورة العلاقة بین الانسان وربه فقط ولا دخل له فی السیاسة وإدارة امور المجتمع أبداً.
الغرب هو مهد هذه الفكرة ویمكننا القول ان العلمانیة افرازٌ طبیعی للاحداث التی سبقت عصر «النهضة» ففی القرون الوسطى ظهرت الكنیسة الكاثولیكیة عملیاً على انها قوة امبراطوریة، وكان المذهب الكاثولیكی یمثل انموذجاً تاماً للدین الكامل داخل المجتمع الاوربی، لذلك كانوا یلقون بتبعات نواقص المذهب على الدین، ونتیجة لحكم الكنیسة فان الامور التی تؤید نظریات الانجیل وتعالیمه كانت هی التی تحصل على الاذن بنشرها، وقد جرى فی تلك الحقبة التصدی لكل انواع الابداع، اذ أُعتُبر العلم هو الشجرة المحظورة فنشأ تعارضٌ بین العلم والدین.
لقد ادى الحكم على النظریات العلمیة استناداً الى الانجیل المحرَّف الى انحطاط المجتمعات المسیحیة، ومن جانب آخر جرى القبول وفقاً للنص المحرَّف فی الانجیل بنوع من تقاسم الاعمال بین الكنیسة والقیصر فاستناداً لتصریح الانجیل: ما لقیصر یجب ان یُترك لقیصر وما لله یجب ان یُترك للكنیسة. من هنا قال بعض الكتّاب: فی المسیحیة تتبلور الارضیة المساعدة لنمو العلمانیة، أی إن عجز تعالیم
الانجیل والمسیحیة كان أحد الاسباب المؤثرة فی نشوء العلمانیة.
من العناصر الاخرى المؤثرة فی نشوء العلمانیة فی الغرب هی نهضة الاصلاح الدینی أی الحركة التی جرى خلالها تقلیص نفوذ الدین فی شؤون الحیاة تدریجیاً، وكان مارتن لوثر (1483 ـ 1546 م) من طلائع هذه الحركة، فلقد طرح آراءً جدیدة بشأن المسیحیة بغیة اصلاح الدین واقرار الانضباط فی الكنیسة، فكان فصل الدین عن السیاسة أحد الاصول التی اعتمدها، فقال: ان الملوك یستمدون سلطتهم من الله مباشرة وواجب الكنیسة العنایة بالامور المعنویة والروحیة فقط.
لقد ادت نهضة الاصلاح الدینی الى زعزعة حكم الكنیسة وبروز فلسفة سیاسیة جدیدة، فكان من افرازات هذه الحركة صراع الطوائف الدینیة الذی افضى الى اضمحلال وزوال قدسیة الدین والتمهید لقیام العلمانیة.
على العموم یُمكن تقسیم دوافع رواج العلمانیة فی الغرب الى طائفتین هما:
وهی التی كان یقف وراءها بعض المتدینین ممن كانوا یریدون الحفاظ على قدسیة الدین، وانهم ـ من جانب آخر ـ كانوا یرون تناقض الدین مع بعض القیم السائدة فی المجتمع الغربی ولحل المشكلة قالوا: ان دائرة الدین بمعزل عن دائرة العلوم والفلسفة.
ان التعارض انما یُفترض اذا ما التقى شیئان عند نقطة معینة، أما اذا سارا فی خطین متوازیین ولا یلتقیان عند أیة نقطة فانه لا یحصل التعارض حینذاك. من هنا ولغرض المواءمة بین الدین من ناحیة، والعلم والفلسفة والعقل من ناحیة اخرى؛ قالوا: ان دائرة الدین تمثل مجموعة من الامور الشخصیة التی تخص علاقة الانسان بالله، وقالوا ایضاً بشأن القیم والواجبات والمحظورات: أیّ واجب ومحظور یُطرح فی اطار علاقة الانسان بالله فهو یخص الدین ولا تعارض للعلم معه، أما اذا تعلقت الواجبات والمحظورات بالحیاة الاجتماعیة للانسان فلیس للدین ان یتدخل فیها،
فعلى سبیل المثال: العقوبات التی ینص علیها الدین بحق المجرمین مرفوضة لتناقض العقوبة مع كرامة الانسان، فكل مجرم مریض، والمریض یجب ان یُعالج لا أن یعاقب!
كانت هنالك دوافع مغرضة تثار من قبل مَنْ كانوا یرون الدین عقبة فی طریق مطامعهم ومصالحهم، ومن بینهم ارباب الحكم الذین كانوا یرددون نغمة فصل الدین عن السیاسة بغیة نیل المزید من المصالح الشخصیة، وعلى الطرف الآخر فقد اتفق معهم العلماء الذین كانوا یتصورون تعارض الدین مع اكتشافاتهم العلمیة فكانت المحصّلة أن اشتد عود العلمانیة.
الملاحظة الجدیرة بالاهتمام هی ان العلمانیة وخلال مسیرتها التاریخیة فی عالم الغرب قُسِّمت الى مرتبتین حسب الضعف والشدّة، وبتعبیر آخر انها مرّت بمقطعین تاریخیین انتقلت خلالهما من حالة الضعف الى حالة من القوة والافراط:
یعود المقطع الاول الى مرحلة نهضة الاصلاح الدینی وفیها نشأت البروتستانتیة بدافع اصلاح الدین، والعلمانیة بصیغتها هذه لا تنفی الدین وانما تحصره بالامور الفردیة وتبعده عن القضایا الاجتماعیة.
أما فی المقطع التالی فقد آل هذا التیار الى عصر «النهضة» وهی مرحلة الانفصال عن الدین وطُرحت العلمانیة بصیغتها الافراطیة، وقد تفشى خلال هذه المرحلة الاعتقاد بوجوب التنكّر لماوراء الطبیعة والتركیز على الحیاة الدنیویة واستبدال الانسان بالله، فاساس النهضة انما یرتكز على محوریة الانسان الذی یعدّ محوراً لكل شیء بدءاً من العلم والمعرفة وانتهاءً بالقیم والاخلاق والسیاسة والحقوق والحكم.
* * * * *
سؤال: هل یتفق الاسلام مع العلمانیة ـ فصل الدین عن السیاسة ـ؟
جوابه: ان العلمانیة تخوّل غیر الله حق التشریع والحاكمیة، فیما تصرِّح الرؤیة التوحیدیة: ان المالكیة والحاكمیة الحقیقیة والاصلیة لله ولا حقّ للانسان أبداً فی الحكم على غیره دون إذن منه تعالى.
والفكر العلمانی یقوم على اساس انحصار الدین فی علاقة الانسان بالله، ولكن اذا ما ثبتت ضرورة الدین باعتباره اطاراً یتضمن القوانین الاجتماعیة الكفیلة بتحقیق سعادة الانسان مادیاً ومعنویاً اذ ذاك تبطل النزعة العلمانیة، وهنا نتطرق لبحث هذه القضیة من منظار اسلامی.
استناداً للرؤیة التوحیدیة والاسلامیة یجب ان یكون المشرِّعون والمسؤولون القضائیون والمنفّذون للقانون مأذونین من قبل الله، وإلا فلا حقَّ لهم لتولّی المناصب المذكورة.
ان للاسلام قوانینه واحكامه لكافة شؤون الانسان الفردیة منها والاجتماعیة، وهو یشتمل على الاحكام الحقوقیة ایضاً، وهنالك آیات وروایات جمّة تؤكد على هذا الأمر، نذكر هنا طائفة من الآیات:
1ـ تصرّح بعض الآیات: یجب حل الاختلافات بین الناس بالرجوع الى الكتاب والاحكام الالهیة:
كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِیِّینَ مُبَشِّرِینَ وَمُنْذِرِینَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِیَحْكُمَ بَیْنَ النّاسِ فِیمَا اخْتَلَفُوا فِیهِ.(1)
1. البقرة: 213.
2ـ ان الله یذمّ الذین وضعوا الاحكام سواء الشخصیة أو الاجتماعیة من عند انفسهم ودون اذن إلهی، ففی آیة ـ مثلاً ـ یخاطب المشركین قائلا:
قُلْ أَرَأَیْتُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْق فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وحَلالاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ.(1)
وبالرغم من ان هذه الآیة تخص الاحكام الفردیة ـ الطعام والشراب ـ غیر ان المعیار المذكور فیها عامٌ، أی ان البشر موضع ذم فی كل حالة یضعون خلالها حكماً من عند انفسهم.
3ـ فی طائفة من الآیات صدر أمرٌ مشدَّد للنبی(صلى الله علیه وآله) بان یتَّبع الوحی الالهی ویتجنب اتباع آراء الآخرین:
وَأَنِ احْكُمْ بَیْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ.(2)
4ـ وفی آیات اخرى اعتُبر الذین یحكمون بما لم ینزل الله فی عداد الفاسقین والظالمین والكافرین:
وَمَنْ لَمْ یَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (الظّالِمُونَ) (الفَاسِقُونَ)(3)
5ـ واعتُبر الحكم ـ التقنین والإمرة ـ فی آیات اخرى لله فقط: إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ.(4) وكما تقدم القول فان هذا الحق ـ حق التقنین والإمرة ـ انما یسری الى الآخرین باذن من الله فقط.
6ـ وتكفی الآیات التی تصف الله تعالى بـ «الرب» لبلوغ مرامنا، لان الربوبیة انما تعنی الملكیة، فالرب مَنْ له الحریة التامة بالتصرف بالمربوب كیفما شاء: فتارة یخلق الرب المربوب كما یشاء فهذا تصرف تكوینی، واخرى یسنّ له القوانین ویحدد له الأوامر والنواهی وهذا تصرف تشریعی.
مَنْ انكر الربوبیة التشریعیة لله سبحانه فهو فاقدٌ لأُولى مراتب الاسلام، لان
1. یونس: 59.
2. المائدة: 49.
3. المائدة: 44 و45 و47.
4. الانعام: 57؛ یوسف: 40 و67.
نصاب التوحید الضروری للمسلم هو الایمان بالتوحید فی الخالقیة والربوبیة بشقیها التكوینی والتشریعی، فابلیس وإن كان یرى الله سبحانه خالقاً ورباً تكوینیاً وكان على اعتقاد بالمعاد ایضاً لكنه كافرٌ فی منظار القرآن بسبب انكاره لربوبیة الله التشریعیة وتمرُّده على الأمر الالهی.
یقول تعالى فی القرآن فی مقام توبیخه للیهود والنصارى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ.(1) أی انهم اتخذوا من علمائهم ورهبانهم أرباباً فی مقابل الله، ولیس من شك فی ان الیهود والنصارى لم یكونوا یرون فی اقطاب الكنیسة الهاً أو خالقاً للكون وانما كانوا یعتبرونهم ذوی حق فی التشریع والتقنین، وهم فی الواقع كانوا یعدّون الاحبار والرهبان رباً تشریعیاً، أی كانوا یرون أمر التصرف بالحلال والحرام بید الكنیسة واقطابها.
وفی موضع یخاطب تعالى نبیه الاكرم(صلى الله علیه وآله) بان یدعو اهل الكتاب الى بعض الامور من بینها: لا یَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ.(2) وقد فسِّرت هذه الآیة فی بعض الروایات بما یلی: انهم ـ اهل الكتاب ـ كانوا یؤمنون بطاعة شخصیاتهم ویُعدونهم ذوی حقٍّ فی التصرف بأمر الدین لا انهم یعتبرونهم مبلغین للدین.
وعلى العكس من هذه الفكرة یؤمن المسلمون: كما ان الخلقة والتكوین شأن الهی فان التشریع والتقنین شأنه ایضاً، ولا یرون لأحد غیره حق التقنین الى جانبه تعالى. وبناءً على هذا فان الربوبیة التكوینیة والتشریعیة معاً ـ فی نظر المسلمین ـ لله وحده، واستناداً للربوبیة التشریعیة فان شؤون التدبیر وادارة المجتمع باسرها یجب ان تنتسب الى الله عز وجل.
فی ضوء ما تقدم قوله یتضح ان للاسلام قانونه فی مجال الشؤون الاجتماعیة بدءاً
1. التوبة: 31.
2. آل عمران: 64.
من صغیرها وانتهاءً بالقضایا الاجتماعیة الدولیة، بناءً على هذا كیف یتفق الاسلام مع العلمانیة القائمة على فصل الدین عن القضایا المهمة فی الحیاة ـ سواء السیاسیة أو الحقوقیة، أو الاجتماعیة أو الأُسریة ـ؟!
لقد كان من اسباب اشاعة العلمانیة فی الغرب انهم كانوا یریدون الحیلولة دون ان یطرأ تضارب بین ارادة الله وارادة الناس، من هنا فقد تصوروا الكنیسة وحدها مكاناً للدین ولا حقَّ للدین بالتدخل فی الامور الاجتماعیة والحقوقیة، بید ان اسمى قیمة فی الرؤیة الاسلامیة تتمثل فی ان یكون الانسان تابعاً لارادة الله وعبداً خالصاً له ویُسلمَ كل شیء لتصرفه. اذن فی ضوء هذه الرؤیة لا یسع المسلم ان یعتقد بالحریة المطلقة على صعید القضایا المهمّة فی ا لحیاة.
* * * * *
سؤال: ألیسَ إقامة حكومة دینیة وتدخُّل علماء الدین فی السیاسة تكراراً لتجربة المسیحیة فی القرون الوسطى؟
جوابه: جرى مؤخراً ومن خلال بعض المقالات والخُطب تشبیه الاوضاع الراهنة فی ایران الاسلام بحكم المسیحیة فی القرون الوسطى، والایحاء ـ عبر اختلاق عدة وجوه لهذا التشابه بما یلی: مثلما افرزت الحكومة التی حكمت باسم الدین فی الغرب عواقب وخیمة وغدت سبباً فی الضیاع والتخلف، فان مثل هذه الحالة حاصلة الآن فی ایران، ولا مفر للخلاص منها إلاّ فی سلوك ذات الطریق الذی اختُط هناك واستقرت الاوضاع به.
قبل كل شیء ینبغی الانتباه الى أنه ومنذ الیوم الذی بُعث فیه الانبیاء(علیهم السلام) لهدایة البشر، نشط حزب الشیطان لمواجهتهم واخماد نور رسالتهم وتعقیم نشاطاتهم، فقام بما یتناسب من ممارسات مع ظروف كل عصر ومجتمع، وكذا سیفعل فی المستقبل أیضاً.
تتمثل الوصفة التی لفَّقها لنا الاستكبار العالمی وباشر بالتخطیط لها وتطبیقها منذ السنوات الاولى التی اعقبت انتصار الثورة، فی تشویه صورة نظامنا الاسلامی وتشبیهه بنظام القرون الوسطى الذی كان یدار على ید الكنیسة ـ وعلى وجه الخصوص الكنیسة الكاثولیكیة ـ.
یتم بموجب هذه الخطة تصویر الاسلام على انه عقبة بوجه تطور العلم والمعرفة والصناعة والتكنولوجیا، وكذلك عرضه كرؤیة عاجزة ناقصة لا قدرة للنظام الذی یستند الیها على معالجة مشاكل المجتمع وادارته، ومن خلال سردهم لبعض
التلفیقات یعتبرونها دلیلا على تماثل هذین النظامین ـ ای النظام الاسلامی ونظام الحكم المسیحی ـ ، للایحاء بان تجارب الصراع التی شهدتها القرون الوسطى ضد مثل هذا النظام هی السبیل الامثل من ناحیة، والادّعاء ـ من ناحیة اخرى ـ ان ما حصل لذلك النظام سیحصل لهذا النظام ایضاً.
ویتم توضیح أول أوجه الشبه بما یلی: ثمة أناس كانوا یحكمون الناس وقتذاك باسم الدین، وان الوضع یسیر حالیاً على هذا المنوال ایضاً لمحاولة البعض التسلط على الناس باسم الله والدین. اذن برز هنا قاسم مشترك. ثم یضیفون: وهذه الفئة تمارس الآن ذات التشدد الذی كانت تنتهجه الفئة التی سبقتها فیما یخص افكارها وعقائدها حیث كانت ترفض حریة الفكر والرأی وتزج المعارضین لافكار الكنیسة فی السجن أو تسوقهم الى المحاكم أو الاعدام، وهؤلاء ایضاً یمارسون ذات الافعال.
كانت الخطوة الاولى من ردة فعل العالم الغربی فی مواجهته لذلك النظام، نهضة الاصلاح الدینی أو «البروتستانتیة» أی برز من اوساط القساوسة ورجال الدین أُناس استقبحوا فعل الكنیسة الكاثولیكیة قائلین: ان هذه الطریقة لیست المسیحیة الحقیقیة وعلینا العودة الى المسیحیة الاصیلة. واقترحوا ان یقدَّم الدین بصیغة تخلو من الحكم ویكف عن التدخل بشؤون السیاسة وتقتصر مهمته على تنظیم العلاقة بین الله والانسان، وهكذا انبروا لمقارعة العلماء الرسمیین للمسیحیة، وهذا فی واقع الأمر بمثابة انطلاقة الفكر البروتستانتی الذی تبناه مارتن لوثر فی بدایة الأمر وواصله الآخرون بصیغ مختلفة ونشأت على اثره الطوائف البروتستانتیة.
على أیة حال؛ مثل هذا الایحاء یرد بشأن نظامنا الاسلامی ایضاً من ان المزج بین الدین والسیاسة واتخاذ الدین اساساً للحكم لن یكون احسن مصیراً مما حصل
للكنیسة الكاثولیكیة وستنجم عنه هزیمة كبرى للاسلام، اذن من الافضل فصل الدین عن السیاسة سعیاً لانقاذه.
اضف الى ذلك ان التدخل فی السیاسة یحط من قدسیة العلماء والمتدینین وذلك:
اولا: ان للسیاسة ألاعیبها الخاصة بها.
ثانیاً: فی حال تدخُّل هذه الفئة ربما تبرز مشكلات ونواقص فتلحق اثارها السلبیة بهم مما یؤدی الى زوال حرمة علماء الدین فی المجتمع، إذن خیرٌ لهم الاهتمام بعلاقتهم مع الله ووعظ الناس وترك النشاطات السیاسیة لاهلها.
حریٌّ القول: ان هذه الوصفة لیست نمطاً مستجداً بل لها تاریخ طویل فی هذا البلد، فقبل انتصار الثورة أثار البعض ـ ومنهم من كان ذا میول دینیة ـ هذه الافكار، وبالوسع الاشارة ـ على سبیل المثال ـ الى كراس «الحدود بین الدین والسیاسة» تألیف المهندس مهدی بازرگان، وسبقه فتح علی آخوند زاده فی اقتراحه بانشاء بروتستانتیة اسلامیة كسبیل لتلافی التخلف الذی تعانیه ایران ثم اخذ الآخرون بتردیده فیما بعد.
على أیة حال، ان الدراسة المفصلة لهذه المقارنة بین الاسلام والمسیحیة، وكذلك تحرّی جذور الاسباب التی آلت الى نهضة الاصلاح الدینی فی أوربا، وبیان حقیقة عدم وجود مثل هذه التلفیقات فی الاسلام والحكومة الاسلامیة من الاساس، وان الاسلام یختلف كثیراً عن المسیحیة المحرّفة، یستدعی المزید من الوقت، ولكن ما یسع قوله على نحو الاجمال هو:
ان الاسلام هنا لم یأتِ برسالة ضیقة من شأنها تنظیم العلاقة بین الله والانسان فقط، بل هو دین شامل وواسع ذو قانون ورسالة لكافة شؤون حیاة الانسان سواء الفردیة من قبیل علاقة الانسان بالله وعلاقة الانسان بنفسه؛ أو الشؤون الاجتماعیة
ومن بینها الحقوق والسیاسة والاقتصاد والأُسرة والتجارة... الخ. وتصب كافة هذه القوانین والاحكام باتجاه تحقیق الكمال النهائی للانسان أی القرب الى الله والسعادة الاخرویة وكذلك ضمان المصالح الفردیة والاجتماعیة وسعادة الانسان فی حیاته الدنیویة هذه.
كما ان التدخل فی السیاسة بمفهومها الاسلامی لیس من شأنه المساس بقدسیة العلماء والمتدینین وانما یُلقی على عواتقهم مسؤولیة جسیمة وحتمیة باعتبارهم مطبّقین للاحكام الاسلامیة وخادمین للمسلمین، وان تطبیق أىٍّ من الاحكام الالهیة فی هذا المضمار ومعالجة مشاكل الناس بمثابة خطوة كبرى باتجاه السمو الروحی والقرب من الله وتوفیر السعادة للبشر وتأمین مصالحهم الحقیقیة وسط المجتمع.
وخلاصة القول ان العدوّ یسعى وبعون من مرتزقته فی الداخل الى بث فكرة «البروتستانتیة الاسلامیة» فی اوساط المثقفین والشباب وجرفهم نحو ما یسمى بـ «القراءة الجدیدة» للدین التی لا یُطیقها القرآن والسنّة(1) ولا شعبنا المسلم المؤمن. یقول الامام الخمینی(رحمه الله): «من المصائب ان ینبری من لا معرفة له بالاسلام أهوَ یُكتب بـ «السین» ام بـ «الصاد»، وهو جاهل بالاسلام ولا علم له بنصوصه، فینقل كلاماً ویردده بین الشباب صارفاً هاتفاً فیدفع الشباب لارتكاب عمل ما... یتوهم امثال هؤلاء بما ان ثورة قد قامت الآن ـ مثلاً ـ فلابد من قیام ثورة داخل الاسلام ایضاً، ألا یفهم هؤلاء؟ ان اغلبهم ممن هم على معرفة لكنهم یحاولون القضاء على القاعدة»(2)
تتمثل الخطوة الثانیة للعدو بمقترح النهضة الاسلامیة، بمعنى ان یولد مجتمعنا من
1. قال نبی الاسلام(صلى الله علیه وآله): انی تاركٌ فیكم الثقلین ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتی اهل بیتی وانهما لن یفترقا حتى یردا علیَّ الحوض.
2. صحیفة النور: 13/175ـ182.
جدید بثقافة جدیدة لا أثر فیها للمعتقدات والمتبنیات الدینیة ومن شأنها عزلة الدین. وبالرغم من ان هذه المهمة على قدر من الصعوبة فی مجتمع دینی من قبیل مجتمعنا ولكن ربما یتسنى العثور على مقومات یتم من خلالها بلوغ الهدف المنشود. ومن غیر الممكن ـ بطبیعة الحال ـ بناء الآمال على تلك الفئة التی ذاقت شدائد النظام البائد وظلمه وفساده وقامت بالثورة، ومن غیر الممكن ایضاً تعلیق الأمل بمن توجهوا الى الجبهة من الشباب والذین تجرعوا الشدائد فی سبیل الاسلام والثورة. اذن لابد من التوجه نحو الجیل الذی وُلد بعد انتصار الثورة ولم یشهد الصعوبات التی سبقت انتصار الثورة ولم یتجرع مشاق الایام الاولى للثورة وفترة الحرب المفروضة، الجیل الذی وُلد فی ظل اجواء اسلامیة ویحمل تطلعات من قبیل الرفاهیة والاستقرار والمستقبل الزاهر والمنصب والجاه وما شابه ذلك.
ولكن كیف التغلغل وتغییر الافكار وتوفیر الظروف المناسبة لاحداث التغییر؟ لقد قاموا ویقومون بعدة امور منها:
1ـ اهمال القیم الاسلامیة والثوریة من قبیل الجهاد والشهادة والتضحیة والزهد والورع والحدیث عن مفاهیم جدیدة من قبیل الدیمقراطیة والتنمیة والحریة... الخ الجذابة بالنسبة للجمیع لاسیما شریحة الشباب من ناحیة، واتخاذها مقدمة وممهدات للقضاء على المُثُل الاسلامیة ومحوها من ناحیة اخرى.
2ـ وصف العلماء بانهم السبب فی المشاكل الاقتصادیة التی تعانیها الجماهیر، والغلاء والتضخم والشحة فی مستلزمات الرفاهیة ونشوب الحرب وتبعاتها والایحاء بان المسؤول عن هذه المصاعب هم مسؤولو النظام، ولیسوا سوى العلماء. اذن طبقة العلماء ولیس غیرهم السبب فی المشاكل والمعضلات. یقول الامام(رحمه الله)ایضاً: «ان هؤلاء یریدون مصادرة القاعدة ویریدون لكل شیء ان یصبح غربیاً، وهذا ما یریده
هؤلاء ولیس انهم یعادون عالِم الدین، بل لانهم یعادون الاسلام وانهم لیشاهدون ما ینهض به عالم الدین من اجل الاسلام، لیكن بضعة من علماء الدین سیّئین فإلى جهنم، لكنهم لا یقولون ان هذه الحفنة سیئة وانما یقولون [كافة] علماء الدین، اذ یتعین علیهم التقدم خطوة خطوة حیث یتخندقون بعد كل خطوة یتقدمونها»(1)
3ـ القضاء على المشاعر والحمیّة الدینیة: ان السیرة العملیة للنبی الاكرم(صلى الله علیه وآله)والائمة الاطهار(علیهم السلام) وحمیتهم لاسیما ثورة ابی عبدالله الحسین(علیه السلام) بوجه حالات التمرد على الدین والتحریف والبدع لهی خیر انموذج یتأسى به شعبنا المسلم، فمتى ما احسوا بالخطر یُداهم الاسلام هبّوا لدرئه بكل كیانهم باذلین الارواح والاموال. والعدو بمعرفته لهذا العنصر الحیوی والمصیری فهو یسعى جاهداً للقضاء علیه واخماده.
4ـ وصف الدین والتدین بأنه سبب الاختلاف: یسعى البشر فی العصر الحدیث للانتفاع من حصیلة التعاطی والتعاون المتبادل ونیل التطور على الصعید العالمی، وبما ان الناس لیسوا جمیعاً على دین واحد فان الدین سیصبح سبباً للاختلاف والعداوة، بینما لا سبیل أمامنا للانضمام الى المجتمع الدولی وقبولنا من قبل الآخرین سوى مجاملتهم والتسامح والتساهل فی الدین والاحكام المتعلقة به، بناءً على هذا یتعین تنحیة الدین جانباً أو تبنیه كأمر ذوقی وكما نتحمل تعدد الاذواق لدى الآخرین فی امور من قبیل لون الملبس وفصاله، نتحمل أذواقهم فی اصل الدین وطبیعته، وان نتحلى بهذا التساهل ازاء التوجهات الجدیدة أو ما یسمى بالقراءات الجدیدة للدین داخل البلاد ایضاً.
بید ان المهم هی المسؤولیة الخطیرة التی ینهض بها الغیارى على الاسلام والثورة
1. صحیفة النور: 13/175ـ182.
من علماء الحوزات العلمیة والجامعات بان یشخّصوا جیداً مؤامرات الاعداء فی البدایة ومن ثم وضع الخطط المتجانسة المدروسة لمواجهتها والعمل من خلال جهادهم الفكری والثقافی على سدّ الطریق بوجه المناهضین للدین، والایفاء بما علیهم من دَین لیتسنى للشباب لاسیما الطلبة ـ الذین تستهدفهم مثل هذه الحملات ـ تشخیص صالح الطریق من طالحه، ولیزداد شعبنا العزیز مرة اخرى رسوخاً فی ارادته على سیادة الاسلام والقرآن وشموخ الدین فی وطننا.
* * * * *